حـســـن زايــــــد .. يكتب :
فـي الـبـيـت الـعــتـيـق
( 5 )
مكثنا في رحاب مكة عشرة أيام ، وكان علينا أن نرحل إلي المدينة . حزمنا الأمتعة ، وغادرنا غرفتنا ، إلي الأسانسير، بعد قليل أسلمنا أنفسنا للكراسي المتراصة في الردهة ، انتظاراً للحافلة التي ستقلنا إلي المدينة . وبينما نحن مسترخين علي الكراسي الوثيرة ، فإذا بآذان الظهر. صلينا الظهر والعصر جمع تقديم وقصر. وبعضنا صلي الظهر أربع ركعات . حملنا الأمتعة في باطن الحافلة ، وركبنا . وبدأت في التحرك ، تشق طرقات مكة ، وشوارعها ، وتودع جبالها ، وتلالها ، ومبانيها . وأعيننا تمسح المكان بنظرات الوداع. وإذا بذكريات هجرة النبي محمد ، تهب نسائمها الرطبة ، علي طيات الذاكرة ، فتنعشها ، وتنتشلنا من واقعنا الحاد ، والخشن ، وتعود بنا إلي زمن النبوة . حيث يأمر النبي محمد ابن عمه علي ، أن يخلفه في فراشه ، بعدما علم بتآمر القوم عليه لقتله ، وكان قد أُذِن له بالهجرة . وصاحبه في رحلته الصديق رضي الله . وكانت هجرته شاقة علي نفسه ، حيث وقف عند مشارف مكة ، وهو يردد مقولته الشهيرة : " والله ، إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي الله ، وأحب بلاد الله إليَّ . ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ". وفي تلك المقولة دلالة علي فساد ما ذهب إليه الإخوان ، من أن الوطن ما هو إلا حفنة من التراب العفن . عيناي تتنقلان ما بين الطريق المرصوف الممتد ، الذي يتلوي يميناً ويساراً ، وارتفاعاً وانخفاضاً . في حافلة مكيفة الهواء ، وسقف وارف الظلال ، وستائر تحجب ضوء الشمس الساطع ، حيث يتاح لك الإسترخاء والنوم . والجانب الأخر ، حيث التلال والجبال الممتدة ، والمنخفضات الوعرة والكهوف الغائرة . أرض قاحلة ، وراحلة تزحف تحت قيظ الشمس الحارقة . واستخفاء من عدو متربص نهاراً ، وسعي بالليل حيث الوحوش الضارية . وربما طرأ علي ذهن أحدنا ، وهو مسترخ ، بين النوم واليقظة ، علي أحد كراسي الحافلة ، تساؤل مؤداه : ولماذا كانت الهجرة ؟ . وهنا نقول أن الهجرة كانت من بلد فيها قوم النبي محمد ، حتي لا يقال أن العصبية لمحمد ، خلقت الإيمان به . وقد هاجر إلي بلد لا عصبية له فيها ، حتي يكون الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد . وقد يتبع هذا التساؤل تساؤلاً آخر، يثيره المتشككون ، مفاده : ولو أن محمداً كان نبياً حقاً ، فلماذا تركه الله هكذا يكابد ما يكابده الإنسان العادي ، دون أن يتدخل لنصرته ؟ . وأنا أعتقد أن الله قد أراد محمداً بشراً ، يسري عليه ما يسري علي البشر، لأنه أسوة لغيره من البشر. وقد نلمس هذا في هجرة عمر رضي الله عنه ، الذي أعلن هجرته علي الملآ ، متحدياً القوم ، بأن من أراد أن تثكله أمه ، أو تترمل زوجته ، أو يتيتم أولاده ، فليتبعه ـ أي عمر ـ خلف هذا الوادي . فهل عمر أشجع من النبي ؟ . بالقطع لا . ولكن عمر ليس أسوة ، والنبي محمد أسوة . من أجل ذلك ، كانت هجرته سراً ، وكان يستخفي بالنهار ، ويسري بالليل ، ويسلك سبلاً غير مسلوكة ، حتي يكون في الأخذ بالأسباب الإسوة المحمدية . طوال الطريق والصورة الذهنية لمحمد وصحبه ، عالقة في الوجدان . وكم وكيف المعاناة التي كابدها النبي وصحبه . وفوجئت بالمشرف علي الرحلة ، يمسك بالمذياع ، ويطلب من الركاب ترديد هذه الكلمات ، التي رددها أهل المدينة ، وهم يستقبلون النبي وصحبه :
طلع الـبدر عليـنا مـن ثنيـات الوداع
وجب الشكـر عليـنا مـا دعــــا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطـاع
جئت شرفت المديـنة مرحباً يـا خير داع
فجعلنا نردد النشيد ، بصورة جماعية . وقد أدركنا أننا وصلنا إلي المدينة المنورة ، مدينة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وها نحن في ضيافة المصطفي المختار . توجهنا إلي الفندق ، حتي نفرش متاعنا ، ونستعد للعيش بضعة أيام في رحاب الرسول المصطفي .
حــســـــن زايـــــــــــد
فـي الـبـيـت الـعــتـيـق
( 5 )
مكثنا في رحاب مكة عشرة أيام ، وكان علينا أن نرحل إلي المدينة . حزمنا الأمتعة ، وغادرنا غرفتنا ، إلي الأسانسير، بعد قليل أسلمنا أنفسنا للكراسي المتراصة في الردهة ، انتظاراً للحافلة التي ستقلنا إلي المدينة . وبينما نحن مسترخين علي الكراسي الوثيرة ، فإذا بآذان الظهر. صلينا الظهر والعصر جمع تقديم وقصر. وبعضنا صلي الظهر أربع ركعات . حملنا الأمتعة في باطن الحافلة ، وركبنا . وبدأت في التحرك ، تشق طرقات مكة ، وشوارعها ، وتودع جبالها ، وتلالها ، ومبانيها . وأعيننا تمسح المكان بنظرات الوداع. وإذا بذكريات هجرة النبي محمد ، تهب نسائمها الرطبة ، علي طيات الذاكرة ، فتنعشها ، وتنتشلنا من واقعنا الحاد ، والخشن ، وتعود بنا إلي زمن النبوة . حيث يأمر النبي محمد ابن عمه علي ، أن يخلفه في فراشه ، بعدما علم بتآمر القوم عليه لقتله ، وكان قد أُذِن له بالهجرة . وصاحبه في رحلته الصديق رضي الله . وكانت هجرته شاقة علي نفسه ، حيث وقف عند مشارف مكة ، وهو يردد مقولته الشهيرة : " والله ، إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي الله ، وأحب بلاد الله إليَّ . ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ". وفي تلك المقولة دلالة علي فساد ما ذهب إليه الإخوان ، من أن الوطن ما هو إلا حفنة من التراب العفن . عيناي تتنقلان ما بين الطريق المرصوف الممتد ، الذي يتلوي يميناً ويساراً ، وارتفاعاً وانخفاضاً . في حافلة مكيفة الهواء ، وسقف وارف الظلال ، وستائر تحجب ضوء الشمس الساطع ، حيث يتاح لك الإسترخاء والنوم . والجانب الأخر ، حيث التلال والجبال الممتدة ، والمنخفضات الوعرة والكهوف الغائرة . أرض قاحلة ، وراحلة تزحف تحت قيظ الشمس الحارقة . واستخفاء من عدو متربص نهاراً ، وسعي بالليل حيث الوحوش الضارية . وربما طرأ علي ذهن أحدنا ، وهو مسترخ ، بين النوم واليقظة ، علي أحد كراسي الحافلة ، تساؤل مؤداه : ولماذا كانت الهجرة ؟ . وهنا نقول أن الهجرة كانت من بلد فيها قوم النبي محمد ، حتي لا يقال أن العصبية لمحمد ، خلقت الإيمان به . وقد هاجر إلي بلد لا عصبية له فيها ، حتي يكون الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد . وقد يتبع هذا التساؤل تساؤلاً آخر، يثيره المتشككون ، مفاده : ولو أن محمداً كان نبياً حقاً ، فلماذا تركه الله هكذا يكابد ما يكابده الإنسان العادي ، دون أن يتدخل لنصرته ؟ . وأنا أعتقد أن الله قد أراد محمداً بشراً ، يسري عليه ما يسري علي البشر، لأنه أسوة لغيره من البشر. وقد نلمس هذا في هجرة عمر رضي الله عنه ، الذي أعلن هجرته علي الملآ ، متحدياً القوم ، بأن من أراد أن تثكله أمه ، أو تترمل زوجته ، أو يتيتم أولاده ، فليتبعه ـ أي عمر ـ خلف هذا الوادي . فهل عمر أشجع من النبي ؟ . بالقطع لا . ولكن عمر ليس أسوة ، والنبي محمد أسوة . من أجل ذلك ، كانت هجرته سراً ، وكان يستخفي بالنهار ، ويسري بالليل ، ويسلك سبلاً غير مسلوكة ، حتي يكون في الأخذ بالأسباب الإسوة المحمدية . طوال الطريق والصورة الذهنية لمحمد وصحبه ، عالقة في الوجدان . وكم وكيف المعاناة التي كابدها النبي وصحبه . وفوجئت بالمشرف علي الرحلة ، يمسك بالمذياع ، ويطلب من الركاب ترديد هذه الكلمات ، التي رددها أهل المدينة ، وهم يستقبلون النبي وصحبه :
طلع الـبدر عليـنا مـن ثنيـات الوداع
وجب الشكـر عليـنا مـا دعــــا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطـاع
جئت شرفت المديـنة مرحباً يـا خير داع
فجعلنا نردد النشيد ، بصورة جماعية . وقد أدركنا أننا وصلنا إلي المدينة المنورة ، مدينة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وها نحن في ضيافة المصطفي المختار . توجهنا إلي الفندق ، حتي نفرش متاعنا ، ونستعد للعيش بضعة أيام في رحاب الرسول المصطفي .
حــســـــن زايـــــــــــد