الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الحلقة الثامنة عشرة-ثانية الى كندا.. بقلم: د.حنان عواد

تاريخ النشر : 2017-05-10
الحلقة الثامنة عشرة-ثانية الى كندا.. بقلم: د.حنان عواد
ثانية الى كندا..

في اقتراب لحظات التخرج...

وانطلاقة الروح العائدة.

عدت ثانية الى كندا بفيض مشاعر كبرى، المدينة التي أحببتها،ورسمت من خلالها صورالمستقبل ،وعشت فيها بوميض الروح،وعمق المسؤولية،وطموح الشباب ،والشقاوة المتجددة في حب الاستكشاف،والطواف في الأفق  الجميل في عذوبة المكان والانسان ..الحياة في مونتريال حياة مميزة متعددة الثقافات ،تشكلت بعلامات فارقة تميزها عن مدن أخرى ،تعدد ثقافي ،وعادات جمعية ترسم ملامحها في أنحاء المدينة،نعيش بها في كل الآفاق،الأفق العلمي،الأفق التعبوي والسياسي ،والأفق الانساني والترفيهي .نستغرب بعضها ونتفهم بعضها،ونمضي في طريقنا.

هي مدينة الحركة وأريج الصباح.ففي يومي الخميس والسبت،تدب الحياة فيها،وتنشط الحركة،وتتحرك أبعادنا معها في رحلة الطواف والاستكشاف.المحلات التجارية تفتح أبوابها لساعات متأخرة،يلتقي الأصدقاء في المساء،تكتظ المطاعم والمقاهي وتستمر حتى الصباح.

ما أجملها في أعياد الميلاد،حيث تولد الروح من جيد،تزدان المدينة بزينة تختص بها،وتشاهد الأنوار تكسوها عباءة الجمال المضيء..يعبر المارة،يتزاحمون في الشراء..وفي أحد الأيام،سرت الى مركز المدينة أتجول في محالها لشراء بعض المستلزمات وبعض الهدايا للأصدقاء..دخلت مجمعا يدعى "ايتون"،كان معروفا باحتوائه كل ما يحتاجه المرء،وبمستوى راق جدا..لفت نظري قميصا حريريا،فدخلت الى الغرفة للقياس،ثم خرجت لأدفع ثمن القميص،فتحت الحقيبة لاخراج النقود فلم أجد شيئا،المحفظة وكل ما بداخلها اختفى،فكأنني وانا أتجول،وبطريقةهادئة،فتحت الحقيقبة واخت المحفطة.صعقت،وطلبت الشرطة،حضرت الشرطة وسجلت المحضر وذهبت..ازداد قلقي لأن المحفظة تحتوي جواز السفر وبطاقات الائتمان،ناهيك عن النقود التي كانت بها..عدت باضطراب الى السكن،اتصلت بالبنك وأوقفت البطاقات،ولكن!كيف أستعيد جواز السفر،وكيف سأدخل بلدي ثانية..تابعت البحث دون جدوى..وفي أحد الأيام،بينما كنت في الجامعة،اتصلت الشرطة برئيس الجامعة تعلمه أنها قد وجدت المحفظة..أخبرني الرئيس وطرت فرحا،وبعد ساعة سلمني المحفظة،بها جواز السفر فقط وبطاقة الجامعة.

كنت أعشق اطلالة الفجر،وخاصة مساء السبت،حيث تليه عطلة الأسبوع،لترى الشوارع فرغت من الناس،والمقاهي أغلقت أبوابها.

طوال الأسبوع،كنت أكثف الدراسة،وفي نهاية الأسبوع،أتواصل مع الأصدقاء..كنا نجتمع مساء لنتناقش في برنامج السهرة.

كان الأخ وليد عبدة متخصصا في اكتشاف الأماكن الجديدة،وكنا نعتمد عليه في اختيار المكان المناسب،لنرى أنفسنا متوجهين في الطريق الى مطعم مبهر،أو قهوة رومانسية الاطلالة،أو مكان بموسيقى هادئة..كان الوقت يمر علينا،والساعات تسير بسرعة،وعقاربها تتحرك للتذكير..وكان الأخ مصطفى التونسي يضفي على الجلسات روح الدعابة والفكاهة.

بعد تناول طعام العشاء،كنا نعرج على قهوة في شارع "سانت كاترين"في مركز المدينة..هذه القهوة كانت تفتح أبوابها طوال الليل وحتى الصباح..كنا نجلس على منضدة قرب النافذة،لنشاهد المارة من مختلف الفئات..كانوا يسيرون بكثافة،يتراقصون أحيانا،ويتنكرون في أزيائهم أحيانا أخرى..المساء يسير في أفق ارجواني،وحينما تبدأ خيوط الفجر بالاقتراب،كنا نعرج على مطعم آخر لتناول طعام الافطار..اسم المطعم"الفلاح"،يقدم افطارا مميزا بسعر لا يذكر..بعدها يعود كل منا الى سكنه وسكونه،تتكرر البرامج وتتنوع كل أسبوع.

وفي احدى الأمسيات،خرجت مع عدد من الأصدقاء الى قهوة"هارولد جونسون" المذكورة،تبادلنا أطراف الحديث،ثم غادر الأصدقاء،وبقيت لأعد التقارير الاعلامية لجريدة الشعب في القدس.غصت في الكتابة وحلقت بالتفكير،واذا بمجموعة من الشباب العرب يفدون المكان،سعدت لسماع اللغة العربية،وتابعت الكتابة،لفت نظري خفة الروح التي يتمتعون بها.أخذوا ينظرون الي ويطيلون النظر،واذا بأحدهم يقول:"هل رأيت مثل هذا الوجه"؟،فأجاب أحدهم:"نعم في حدائق القبة،وأخذو يضحكون بجنون،وبدون أن أدري انتابني الضحك الشديد فلا أكاد أتوقف،صدم الشباب،ولم يتوقعوا ان أفهم العبارة،فقد ظنوا بأنني أجنبية،تمالكت نفسي لأتوقف عن الضحك قسرا،وهم كذلك،ثم اقتربوا مني وقدموا اعتذاراتهم،وأخنا بالتعارف والحديث الهادف.

وفي وسط شارع سانت كاترين،كان هنالك مطعم لبناني معروف"مطعم الباشا"،يفد اليه العرب.كنا نجتمع به كثيرا ونتناول الطعام اللبناني الذي نتوق اليه،وهناك تعرفت على العديد من الشخصيات العربية وامتدت أواصر الصداقة بيننا..

وكان في مونتريال عدد من الجمعيات الثقافية والسياسية،كنت أشارك في الكثير من فعالياتهم،وأهمها جمعية"كيبك-فلسطين"،اتحاد الجاليات المتعددة،اتحاد المرأة.كما كان هنالك عدد كبير من أبناء العروبة،أخالني أحيانا أنني في الوطن العربي..فحينما كنت أسير في شوارع مونتريال،كنت أسمع العربية،احس بسعادة أن أعيش في نبض العروبة في البلد البعيد.

في أحد الأيام كنت عائدة من الجامعة،في" شارع شيربروك"،واذا بشاب يناديني:"وينك يا جميل"،فأجبته:"أنا هنا"،نظر الي مصعوقا وقد أخذته المفاجأة،توقفت وتحدثت اليه،ونمت بيننا صداقة رائعة.

كنت قد تعلقت بأفلام الرعب،وكانت السينما في مونتريال تعرض هذه الأفلام في منتصف الليل،اعتدت على مشاهدة عدد منها..لفت نظري عدد المنتظرين بانتظام لحجز التذاكر،بينما درجة الحرارة كانت تقارب العشرين تحت الصفر.كانت لي صديقة من البحرين"مريم عجمان"،كانت تعشق هذه الأفلام مثلي..كنا نذهب سويا وكان آخر فيلم شاهدته"زومبي"،وكان مرعبا لأقصى درجة،لأنه يناقش الموت والحياة..شاهدت الأجزاء الثلاثة بكل تشوق،وحينما كنت أعود الى عرفتي ويلفني الليل،تعاودني الصور ثانية،ويصيبني الخوف،وتأخذ أشباح وكوابيس الفيلم تطاردني في الأحلام وتقضقض مضاجعي،فتوقفت نهائيا عن مشاهدة هذه الأفلام،وتوجهت الى القصص التاريخية والوجدانية في محاولة للنسيان، وتنظيف الذهن من الصور الموحشة.

كنت في كل اسبوع أجتمع مع رئيس تحرير مجلة العالم العربي السيد كنيدر،وهو رجل سوري مقيم في كندا،أسس هذه الجريدة لتطل على شؤون العالم العربي.كنت أكتب مقالي الأسبوعي وحوارات سياسية هامة..وكان مقر الجريدة بعيدا،كنت أستقل المترو،وأشاهد المواقع الأخرى،استريح في قهوة دائرية في محطة المترو ثم أتابع..كان يحلو لي أن أجلس على المقاعد العالية في القهوة،اكتشافات جميلة وممتعة..وفي الاجازات الطويلة،كنت أنتقل من مدينة الى أخرى للتعرف عليها،أزور المكتبات وحدائق الغزلان البديعة والشلالات وغيرها..وكانت تحصل معي في كل رحلة مفاجأة تأخذني الى أفق آخر، ومدلول حياة.

في أحد الأيام كان علي التوجه الى مدينة أوتوا ،حيث مقر منظمة التحرير الفلسطينية، للمشاركة في مؤتمر صحفي وزيارة عائلة الأخ عبد الله عبد الله..طلبت من زميلي مصطفى التونسي أن يوصلني الى هناك،لانه كان في اجتماع آخر بنفس الوقت،فوافق.الطريق تحتاج الى ساعتين للوصول.سرنا بفرح وتجاذبنا أطراف الحديث،شاهدنا السهول الخضراء الممتدة وجمالية الورود.

وفجأة،وبدون سابق انذار،أخذت السيارة بدوران دائري في وسط الشارع،وظلت تدور،عبرت على جانب الشارع اليمين،وكانت الأرض سهلا في وسطها يوجد عمود كهرباء،ظلت السيارة تدور الى أن خبطت عمود الكهرباء،وقبل الضربة بثوان،شدني الأخ مصطفى الى الأمام قليلا،وبهذه الحركة أنقذ  حياتي.

تحطمت السيارة جميعها،وتكسر الزجاج،لكنه ظل في مكانه..المشهد كان مريعا،نظرت الى مصطفى، فوجدته بخير،نظرت الى نفسي غير مصدقة بأنني لا زلت أمتلك الحياة..حضرت الشرطة بسرعة،تليها سيارة الاسعاف،نظر الشرطي الي،فابتسمت في وجهه،وقف مذهولا ثم قال لي:"لا بد أنه في حياتك أمور خيرة قمت بها".تابعت الابتسام والحوار،ثم قال لي:"أول مرة أشاهد انسان في خطر ويبتسم."سجل الشرطي المحضر وصور الحطام،ثم أخذنا الى المستشفى للفحص الشمولي،ولما تأكد أننا بخير،أعادنا الى موقعنا وذهب..

وقفنا بحيرة وقلق،ماذا علينا أن نفعل وكيف يمكن أن نعود ثانية الى مونتريال..اتصلنا بالأخ عبد الله لاعلامه بعدم استطاعتنا الحضور،وظل السؤال الحائر،"كيف نصل الى مدينتنا"؟.

رأينا أن نقف على الشارع في محاولة أن يترفق علينا احدى المارة ويأخذنا..وبعد انتظار ساعة،واذا بسيارة مرسيدس بيضاء تتوقف،سألنا صاحب السيارة الى أين؟،ثم قال:"أوصلكم الى مداخل المدينة،وعليكم أن تتدبروا أمركم من هناك".انفرجت أساريرنا،وتحركت السيارة بنا،وأخذ الرجل بالتحدث الينا مستغربا ماذا أوقفنا في هذا المكان؟.شرحنا له الأمر،وكأنه لم يصدق،لانه لا توجد علامات دالة على ما نقوله..صمتنا قليلا،ثم نظرت الى الرجل ثانية،لأرى به ملامح غريبة،ونظرات عجزت عن تفسيرها..تابع الرجل الحديث عن ذاته،فاستنتجت أنه رجل غير عادي،قد يكون رجل مافيا،لا أدري..كان يرتدي بنطلونا أبيض وقميصا أحمر،في عينيه تساؤلات ونحن أيضا..وظلت التساؤلات الى أن وصلنا مشارف المدينة..ودعنا الرجل وأخذنا سيارة أخرى،ووصل كل منا الى مكان اقامته..

وما كدت أصل،حتى غرقت في نوم عميق لم أستيقظ حتى صباح اليوم التالي للذهاب الى الجامعة..استبدلت ملابسي لأرى جسدي ملفعا باللون الأزرق ورضوض،وأثار جروح،حاوت التحرك،فلم أستطع،كان الجسد متصلبا،اتصلت بالأخ مصطفى فوجدته على نفس الحال..أصابني اكتئاب شديد،وظلت صورة الحادث المرعبة تدور في ذهني..وبعد يومين تماثلت للشفاء.

استغرقت في التفكير المضني وأنا أطل على ذاتي في مواجهة حدث كهذا،وكيف كان يمكن أن أكون في الآخرة،لكن حماية الله أنقذتنا..الحمد لله.قلق بعض الأصدقاء علي وكثفوا الاتصالات،ولكنني لم أكن قادرة على الرد حينها،وبعد أن تماثلت للشفاء التقيتهم،وحدثتهم بما جرى فلم يصدقوا لصعوبة المشهد.

أحداث كثيرة لا نخطط لها تعبر في حياتنا ونتجاوزها،ونعود الى دربنا وكأننا لم نعش هذا الظرف القاسي،ننسى،أو نتناسى لمتابعة المسير.

نعود ثانية الى برامجنا الدراسية والى الترحال في آفاقنا التي اعتدنا عليها،تجذبنا المدينة ثانية والامسيات،فنعيد اطلالاتنا عليها بتفاصيل متجددة.تجمعنا لنحتفي بسلامتنا بعدد من الأصدقاء المقربين،وأخذنا نطوف في مركز المدينة،بحثا عن مكان نستقر به..لفت نظري حركة كثيفة واكتظاظ بالمارة،سيارات تشرع أبوابها،أغان يعلو صوتها،ضحكات تتلوها ضحكات..تساءلنا عن الأمر،فأخبرنا طالب قديم بأن هنالك احتفال سنوي بمناسبة دينية،يهرع الناس خلاله الى الشوارع فرحين،ملقين عن أنفسهم أثقال العمل بفضاء حر.يفد الجميع الى شارع سانت كاترين في وسط المدينة زرافات ووحدانا..توقفنا هناك لمشاهدة ما يجري،كان الجو ربيعيا،يرتدي به الجميع حلة الصيف فرحين باشغاع الشمس الذي اخترق الغيوم والثلوج وأتى زائرا.

 

أخذ الناس يحتفلون بعيد"سانت جون بتيست،يسيرون في الشوارع طوال المساء وحتى اشراقة الصباح ،يرقصون ويشربون،وترى الكثيرين منهم مستلقين على ناصية الطريق .

وخلال العام،كانت تنظم نشاطات سياسية عديدة،اضافة الى ما انظمه في اتحاد الطلاب العرب،كنت اشارك بها وأقدم كلمة الأرض المحتلة،وكذلك احتفالات السفارات العربية في المناسبات القومية،ربطتني بهم علاقات فكرية جادة كانت فلسطين دائما عروس الكبرياء.

وفي عيد الميلاد،دعوت أختي الكبرى وزوجها،لبوا النداء.حضروا الى مونتريال ،

من أبو ظبي،ولم يحتملوا برد كندا..

كنا حينما نتنقل من مكان الى مكان،مهما كان قريبا،نأخذ تكسي فيستهجن السائقون.

وكنت خلال السنة، قد تعرفت على شاب لبناني ملتزم اسمه وليد عبده،كان يحضر الماجستير في الجامعة،ويشارك في اجتماعاتنا السياسية،جمعتنا صداقة جادة،اعتدنا أن نخرج بعد اتمام الدراسة لتناول العشاء،وكان خبيرا بالأمكنة،وكلما افتتح مطعما مميزا يعلمني به ،فنذهب اليه .وليد كان شابا خلوقا ومثقفا،وحينما علم بأن أختي ستحضر الى كندا،اعلمني بافتتاح مطعم مميز في فندق حياة ريجنسي في الطابق العشرين،يدور ليشاهد الجالس مونتريال من جميع الجهات.،وأنه سيدعوهم للعشاء هناك. حضرت شقيقتي وزوجها،عرفتهم عليه،ثم دعاهم الى العشاء في فندق حياة ريجنسي،كما اتفقنا،قضينا أوقاتا ممتعة،وفي اليوم التالي غادر الضيوف.

وبعد شهرين،زارتني أختي الجميلة ناريمان،وكانت سريعة الحركة،تحب المغامرة والاكتشاف،عرفتها على أصدقائي،ودعانا فادي الى الغداء،وتعرفنا آنذاك على أخيه فايز، والذي كان في زيارته أيضا.جمعتنا الصداقة والحب،وكانت روح فادي ودمه الخفيف، يحملنا الى أناقات الفرح الموشى،تنقلنا الى عالم مليء بالضحكات..طفنا في أركان المدينة،وعرفتها على المؤسسات الوطنية وأصدقائي الذين أعتز بهم ،زرنا عدة أماكن سياحية وترفيهية،قضينا أوقاتا ساحرة.الى أن غادرتني ،لأعود الى ذاتي ثانية،وظل تواصلي مع أخي الحبيب رياض،الذي لم يتوقف عن مهاتفتي،وكان دائما يرسل لي كاسيتات من الحانه.

أما أخي العزيز زياد،والذي كان مدللا جدا،يعيش حياته البرجوازية،وكان وسيما جدا،وصاحب موقف،كريما،يختار أرقى الثياب،ويعرف كيف يختار أصدقاءه.

كان المدير العام لأعمال والدي،ولكنه رغب في أن يعيش حياة أخرى في أمريكا.

صرت أتواصل معه من كندا، وأزوره بين فترة وأخرى،وأنا في داخلي حزينة جدا لأنه غادر جنة الوجود-القدس-ومكان عزه ورفاهه،ليأتي الى أمريكا برؤيا واهمة بأنها بلد الخير والطمأنينة.قد تكون كذلك لأناس عانوا الظلم والقهر وسوء الحال،أما شخصية كأخي الذي كان يرفل بثياب العز والعزة،سيدا في بيته وبلده،فلا أعتقد أنها تناسبه .ولكن هذا قراره،وتم السفر..وتحقق البعد المكاني.

ان ابتعاد المكان في حركة الزمان المجهولة الرؤيا،تحمل المرء الى آفاق أخرى قد يعتادها.وتشكل في برامجه اليومية حضورها،والتي،ومع طول الوقت،تزحزح أشياء كانت،وتضيف رؤى جديدة وتجارب أخرى متعددة الظلال..وظل أخي الجبيب بصفاته المثلى يطل علينا كل عام،وكلما حضر الى بيتنا أزهر البيت من جديد..وظللنا نحاول اقناعه بأن يعود الينا،  ويستقر في بيته الذي نقشه بعلامات ساحرة ..حاول الاستجابة،ليرى ذاته قد تأقلمت في الحياة الجديدة،ويظل حائرا مترددا، ما بين الرجوع وما بين استكمال الرحلة.وفي تلك السنوات،كانت شقيقتي وزوجها قد غادرا دولة الامارات العربية للاستقرار في أمريكا..وقد أحاطوه بالرعاية،وتم التواصل الانساني بينهم.

وعودة الى عالمي الدراسي،قدمت الرسالة فوافقت عليها الجامعة،وقدمتها للنشر.

واعتزازا بي ،واحتفاء بأطروحتي،نظم الدكتور عيسى بلاطة وادارة المعهد حفلا خاصا قبل التخرج،وحضره لفيف من اساتذتي في معهد الدراسات الاسلامية،البروفيسور شالرز آدم رئيس المعهد،الدكتور ترجاي،استاذ الأدب التركي،الدكتور ليتيل وآخرون.واعتبروا رسالتي انجازا مشرفا للمعهد.

وقبل حفل التخرج،حضر والدي،وتسلمت الشهادة بحضوره وحضور أساتذتي،وفي اليوم التالي،دعا والدي الأستاذ المشرف وجميع أساتذتي وممثل منظمة التحرير الى عشاء فاخر على شرف نجاحي،وكان لقاء غير عادي.

سعد أصدقائي بوجود والدي،وقدموا له عدة دعوات،وفي جلساتهم معه ، أخذوا يبدون تقديرهم واعجابهم بقدراتي ،ويشكون اليه مني،يقولون:ا"ننا نحدث حنان عن الاستقرار والزواج،وهي تحدثنا عن الثورة وعن أبو عمار".وكانت فرصة لفادي ان يتقدم الى والدي بطلب يدي.

قلق والدي علي من شدة الرفض،وقل لي هذه العبارة التي لا أنساها:"لقد علمتك ومنحتك الحرية المقدسة، لا لتصبحي مغرورة جدا،بل لترسمي طريق المستقبل".وأضاف:"أنا غير باق لك،وعليك أن تختاري شريك الحياة،لا تقولي لا فورا،بل تعرفي على الانسان ثم قرري"،وبالطبع، لم يكن القرار سهلا.أنسابت دموعي بحرقة بعد سماع ما قاله والدي،وخاصة جملته الأخيرة التي أرعبتني،لانني لم أتصور،ولم يدر بخلدي انه يمكن أن أفقد والدي ،والذي يمثل لي الكون بأكمله.

وبعد سفر والدي عائدا الى فلسطين،أخذت أجهز نفسي للعودة. أعلمني والدي بأن كلية العلوم والتكنولوجيا ابتدأ تأسيسها في القدس، والتي أصبحت الآن جامعة عريقة"جامعة القدس"،وهي بحاجة الى أساتذة.فقد حضر المفكر الفلسطيني زهير الكرمي من الكويت، ليبدا في تأسيس الكلية.قدمت أوراقي من كندا،وقبلت،وأصبحت عضوا مؤسسا في الجامعة،وترأست الدائرة الثقافية،كما أصبحت أيضا،محاضرة باللغة العربية في جامعة بير زيت.

استمر عمودي اليومي الذي لم يسلم من مقص الرقيب،حتى تلاشى نهائيا،فقررت أن أنشر المادة في كتاب.أصدرت كتابي الأول وكان بعنوان"من دمي أكتب"،والذي تناوله النقاد باهتمام. فقد جاء في صحيفة الدستور،و بقلم الكاتب محمد المشايخ:"لقد واكبت انتاج الأديبة حنان عواد منذ مطلع الثمانينات،عبر صحف الأرض المحتلة..رأيت في هذا الكتاب الكلام المثالي على صعيد الشكل والمضمون،ورأيت فيه كلمة الحق الملتزمة والجريئة في وقت غاب فيه المبدعون في هذين الاطارين أو قلوا....وها هي تحمل راية الكتابة المقاومة،فهنيئا للكاتبة وتحية لها من الأعماق..ان ما تكتبه يجب أن ينظر اليه من زاوية خاصة،انه فن جديد يستحق الاهتمام."كما نشر النقد مع مقابلة خاصة،في جريدة الاتحاد في أبو ظبي أيضا.

باشرت عملي في كلية العلوم،بأمانة وروح الشباب المعطاء،وارتبطت بالطلبة بعلاقات مميزة مبنية على الأخوة والاحترام،وحتى هذه اللحظات ،ألقاهم في مواقع عديدة مميزة.درست مادة الانسانيات،وهي موضوع ثقافي واسع المدى،أعددت له برنامجا خاصا،يعتمد على التفكير الموضوعي،بدراسة الفكرة،والتعمق بها،ولو كانت تخالف المفاهيم الواردة،ليتم مناقشتها علميا،وابراز مواقف الضعف والقوة.

وخلال المحاضرة،كنت ألاحظ أن الطلبة يجلسون في المدرج، ضمن تجمعات سياسية وفكرية،وقررت اخراجهم من هذه الزوايا الضيقة ،والتوجه لفهم العالم.لذا وضعت الخطة المبنية على أساس فهم الآخر،وطالبت الطلبة،وبعد تقديم المحاضرات،أن يبدءوا بالبحث العلمي،بحيث يقدم كل طالب  دراسة جادة،باختيار موضوع في اطار المنهج .فمثلا الطالب العلماني عليه أن يقدم دراسة في موضوع ديني،والطالب المتدين،وكانوا كثر،يختار موضوعا يناقش النظريات الأخرى،ثم يتم تعيين يوما للنقاش العام،وما أجملها من تجربة!فقد قدم كل بحثه بعلمية،أتبعها في نهاية البحث رؤيته الشخصية،وسرنا بهذا النهج الى نهاية الفصل،أسفرت النتائج عن تفهم الطلبة للنظريات ،تحليلها ومناقشتها،اضافة الى استيعاب المعلومة.نجح الطلاب،وكان أحيانا يصيب بعضهم الشك،خاصة الطلبة الذين ينتمون الى الأحزاب الدينية،كحزب التحرير والاخوان.ففي حديث جرى بينهم قالوا:"الأستاذة حنان لن تنجحنا،نظرا لأننا لا ننتمي الى الثورة الفلسطينية"،ليفاجئوا بحصولهم على أعلى الدرجات،لأن أبحاثهم حققت المطلوب،وبالنسبة لي يستحيل التمييز بين الطلبة بسبب انتماءاتهم،أميزهم فقط،بمدى الجدية وتحقيق المستوى العلمي المطلوب.

وفي عام 1986 سافرت الى كندا لتوقيع كتابي الذي صدر باللغة الانجليزية عن دار نعمان في مدينة" شيربروك"، "قضايا عربية في أدب غادة السمان"،وهو رسالة الماجستير التي رشحتها الجامعة للنشر،وبتقديم استاذي المشرف على الرسالة ،البروفيسورعيسى بلاطة.نال الكتاب عددا من الدراسات ،واعتبر مرجعية لأدب غادة السمان.كان صاحب دار النشر،رجل مصري متقف،اهتم بالكتاب كثيرا،دققنا المادة سويا،شاركنا بذلك استاذ الأدب الانجليزي في جامعة"شيربروك".زرته في منزله عدة مرات،ونشأت بيني وبين عائلته صداقة حميمية.

قدمت الدكتورة مريم كوك دراسة مفصلة عن الكتاب،وكانت زميلتي في جامعة اكسفورد،وكذلك اتصلت بي الأديبة غادة السمان، وأعلمتني بأنها ستقوم بترجمته ونشره،.فصدر عن دار الطليعة عام 1989.

توثقت علاقتي بغادة السمان،وكانت تصلني منها رسائل عديدة،واعتبرتني ابنتها الروحية،تابعت أعمالي وظللنا في تواصل فكري،الى أن ارسلت لي رسالة مؤلمة،تعلمني،بأنها بعد أن أصدرت كتابها"رسائل غسان كنفاني"،هوجمت بشدة،وخاصة من الفلسطينيين،واتهموها باتهامات لا تليق بكاتبة مبدعة كغادة،ثم ارسلت لي جميع الردود من مؤيد ومعارض، قبل أن تنشرها في كتاب.

وبالطبع،كان علي أن أكتب مقالات أفند فيها المقولات،وخاصة، وانني مطلعة على أعمالها ومواقفها،وكذلك على كل ابداعات الأديب المناضل غسان كنفاني .استوقفني الموضوع طويلا،قرأت الرسائل بتمعن،وأدركت أعماق رؤيتها،فوجئت بالردود التي تجاوز الكثير منها حدود الأدب والاحترام ،والتي تبعد عن النقد العلمي.،منطلقة من فكرة التقديس لشخصية الأديب المناضل ،ونفي المشاعر التصورية والتصويرية التي نشرتها غادة.أعتبارا بأن القامات العالية تستثنى من الحديث عن مشاعرها الانسانية،لوجوب التركيز على البعد السياسي الثوري، انطلاقا من فكرة التقديس والمحرمات.قد أجد مبررا في الحفاظ على صورة المناضل،ولكن استثناء المشاعر،وهي الأسمى في بنيوية الشخصية المقاتلة،يحيد بالانسان المناضل عن انسانيته التي يعتز بها.واذا راجعنا قصص الحب،فاننا نجد أن أجمل قصص الحب هي التي صورت مشاعر الشخصيات العظمى..لكن،وقد أخذ الموضوع مداه، ولم يتوقف. آثرت الصمت أمام العاصفة التي تراوحت بين الهجوم الشرس وبين الدفاع المبرر،لأن ما كتب،وحجم العاصفة التي هبت، والتي حاولت أن تأخذ بطريقها كاتبة لها حضورها النوعي،لدرجة أن خطوط الدفاع،رغم قوتها-لم تستطع أن تطفيء النيران.-آثرت الصمت حتى تهدأ العاصفة،وتعاد للأفراد عقولها المغادرة.

هذا الموضوع بحاجة الى دراسة وتمحيص وتحليل،ونقد علمي موضوعي بعيدا عن مثيرات الشك والبغيضة،خاصة ونحن نناقش رسائل تحمل اسمين لهما حضور في الحقل الأدبي والسياسي .صحيح أن الرسائل كتبت بعد استشهاده،ولم تنشر رسائله لها بتبريراتها العديدة،الا أن أدب البوح معروف في تاريخية الحركة الأدبية..ومما نشر،نرى أن اطلاق صفة الملائكة على قادتنا أصبح ظاهرة شائعة،لنعيش في وهم التشبه والتشبيه.

وفي زيارتي الثانية الى مونتريال،المدينة التي حملت طموحي ودراساتي،وذكريات أعتز بها..كانت المدينة مغطاة بالثلج،يكسوها البياض،وتنتشر فيها الحياة.فاجأت أساتذتي بزيارتي،فرحبوا بي كثيرا،ووجدت المعهد الذي تخرجت منه،قد أصبح في مبنى آخر،وصورة أخرى،وعرجت على السكن،والتقيت ادارته بكل الحب.

ثم بحثت عن أصدقائي القدامى،اتصلت بفادي فجاءني بكل المحبة،وكذلك اتصلت بالصديق عامر الربيعي وأصدقاء آخرين،كان لهم حضور عندي.ثم زرت الأخ عبد الله عبد الله،ممثل منظمة التحرير،وكان سعيدا بزيارتي،أخذنا بالضحك الشديد حين استعدنا قصة زيارة ميشيل غريب.اتصل الأخ عبد الله بالأخ أبو جهاد يعلمه عن الزيارة وصدور كتابي،فهنأني وشجعني،وردد كلماته"لا تقلقي"،وكأنه يحس بما يمكن أن أواجه في ظل ظروف استثنائية نعيشها.

في العودة الى المكان بعد الغياب،باطلالة الروح المتجددة ومحاولة استعادة الروح التي كانت،ترى أن هنالك تفاوتات لا يمكن القفز عليها،هي مونتريال،وأنا أطوف بها بالحب الذي كان والفرح المعتق،أراها الآن بعين أخرى غابت عنها الطفولة..زرت الأمكنة العديدة،وتجولت في أرجائها محاولة استعادة اللحظة،لأراها تفلتت وارتدت ثوبا جديدا.

أجلس على مقعد مخملي،وأنا في رحلة الطواف الممكن،الى وجوه عرفتها،ووجوه ما عرفتها..الى صدفة قدرية لماض لم يأفل،أو صدفة قدرية لمستقبل يحفل بنبض أولي في اتباع هبوب امواج الروح،من بحر الأيام المتعاقبة..والتي ترسم ملامحنا،والى اطلالة قمر من الأفق الأعلى،يرسل اشعاعاته لتنفذ الى العقول،وتحملها أمانة الرسالة وقدسية النقل.

ثم عدت ثانية الى فلسطين، وتابعت برنامجي في كلية العلوم في القدس،وجامعة بير زيت.

وقد قمت في كلية العلوم باعداد برنامج ثقافي كبير على مدى ستة أسابيع،دعوت اليه المثقفين الفلسطينيين ،وكتاب الداخل،بالاضافة الى شخصيات سياسية،سار البرنامج بنجاح منقطع النظير،وكنت بالطبع،قد استأذنت رئيس الجامعة، الأستاذ زهير الكرمي،الذي شجعني كثيرا،ولكنه لم يكن يتوقع،أن يثير هذا البرنامج حفيظة وغيرة الهيئة التدريسية،فلم يكفوا عن مراجعته،ولومه على السماح بذلك،خاصة وأني كنت الأستاذة الوحيدة التي تمثل منظمة التحرير،أما باقي الأساتذة، فكانوا اما أردنيي الاتجاه،واما خاضعين، الزاما، لشروط العمل.

بعدها بأيام،فرض الاحتلال على الأساتذة توقيع ورقة الزام والتزام نبذ العنف،وقد استجاب الأساتذة،ولكنني رفضت التوقيع ،وأعلنت ذلك دون خوف.

وبعد عدة أيام،وصلتني رسالة من  رئاسة الجامعة،تنص على تقليص مهامي،وسحب

رئاسة الدائرة الثقافية مني.راجعت الرئيس،وكان محرجا،لم يستطع أن يفسر لي الأمر،حاول التعذر بأسباب اقتصادية،ولكنني أدركت ما جرى ،وفهمت الأمر،وكنت متوقعة ذلك.. قدمت استقالتي باعتزاز،وهي شهادة شرف لمواقفي .

تابعت التدريس في جامعة بير زيت،تجربة أخرى وواقع آخر.

على اثر ذلك،اتصل بي الأخ أبو جهاد،وقال لي:"لا تقلقي،انك فخر لنا"،كل هذا كان قبل أن ألتقيه في بغداد.

خلال السنة الدراسية،تعرضت جامعة بيرزيت للاغلاقات،كنا نحرص على الوصول الى الجامعة ،مهما كانت المعيقات.أذكر مرة انه عقد أسبوع ثقافي،دعيت اليه كأديبة، أنا والأديب اميل حبيبيي،توجهت الى الجامعة،ولكنني وجدت الاحتلال قد أغلق الطريق من رام الله،وصممت على الوصول، مهما كان الظرف،توجهت عن طريق نابلس باتجاه "جفنا"،وأخذت معي عددا من الأساتذة الذين وجدتهم ينتظرون،ولما وصلنا وجدنا حاجزا آخر،ولم بسمح لنا بالدخول.عدنا ثانية الى رام الله،وضعت السيارة في موقف خاص،واقترحت على الأساتذة السير على الأقدام،عبر الجبل.

سرنا بروح التحدي،الى أن وصلنا..

قدمت محاضرتي،وقدمت الأديب الكبير أميل حبيبي،وخاطب  الطلبة،شارحا عن تجربته،وفتح باب النقاش،وكان ممتعا جدا.سعدت جدا،لانني وصلت الجامعة،رغم كل الحواجز.كان منظم البرنامج  حينها،الأخ أحمد الديك،نائب رئيس مجلس الطلبة الذي كان يرأسه الأخ المناضل مروان برغوتي،وبعضوية الهيئة الادارية،الأخ المناضل نايف سويطات.كانت أيام حافلة بالتحدي والاصرار،وكان الحلم يغلف روحنا الجمعية.

وفي بيرزيت،درست العديد من الطلاب الذين أعتز بهم،وظلوا حتى هذه اللحظات أوفياء،وصورة حضارية للفعل الانساني والثوري.

كان يرأس الدائرة الدكتور نافع عبد الله،وفي عضويتها الأستاذ سمير شحادة الذي أصبح دكتورا فيما بعد،والأستاذ عمر مسلم،والأستاذ محمود العطشان، والأستاذ نبيل زيادة.ربطتنا علاقات مميزة،واهتم بي الدكتور سمير شحادة،وارتقى بصداقته،وظلت صداقتنا بارتقاء تصاعدي.

في شهر اكتوبر لعام 1987،توجهت الي دعوة من السويد للمشاركة باللقاء النسوي حول السلام في الشرق الأوسط،أعددت العدة وتوجهت الى هناك،اتصلت بسفارة فلسطين لاعلام السفير عن النشاط.أقلعت الطائرة،ولما وصلت،أنهيت المعاملات وتوجهت الى أخذ الحقائب،تلفت باحثة عن السفير الذي لم أكن أعرفه حينها،أو عن مندوب السفارة،فلم الاحظ أحدا.أخذت الحقيقبة،ولفت نظري رجل وسيم تقف الى جانبه سيدة يابانية،نظرت اليهما وسرت ،وبعد دقائق رأيت رجلا يربت على كتفي ويسألني:"هل أنت حنان"؟،انه هو نفس الرجل الذي لاحظت وجوده.انه الدكتور يوجين مخلوف سفيرنا في السويد،والمرأة اليابانية التي تقف الى جانبه هي زوجته.اعتذرت له قائلة:"سامحني،لم أتوقع أن يكون باستقبالي سيدة من اليابان"،ضحكنا وعانقتهما،وذهبنا مباشرة الى البيت..تحدثنا وتناولنا طعام الغداء،ثم قام بدعوة الفعاليات الثقافية والسياسية للقاء بي،كانت جلسة رائعة وحميمية،تبادلنا أطراف الحديث،ثم انتدب أخا لأخذي الى مدينة حوتنبرج حيث يعقد المؤتمر.الدكتور يوجين شخصية رائعة يتغلب عليه البعدالانساني،اهتم بي كثيرا ووفر لي كل أسباب الراحة،وظل أخا وصديقا مقربا،التقيته عدة مرات وفي أكثر من مؤتمر،وظلت علاقتنا قوية مستندة على الفكر والالتزام السياسي.ولا زال يزورني في فلسطين كلما قدم اليها.وفي صباح اليوم التالي افتتح المؤتمر بشعار"السلام قفي الشرق الأوسط"،وقد استقبلني منظمو المؤتمر بكل حفاوة وترحاب..

افتتح المؤتمر بكلمة السيدة تيرا رئيسة المؤتمر،التي حيتني وحيت فلسطين ،وأكبرت حضوري،وكانت أول مرة تشارك فلسطين في هذا المؤتمر الذي نظمته منظمة المرأة الديمقراطية ومنظمة المرأة العالمية للسلام والحرية،ومنظمات أخرى تهتم بقضايا الشرق الأوسط، وخاصة قضية فلسطين.وتعرفت هناك على فرع السويد لمنظمة المرأة العالمية للسلام والحرية.وقد حضر الاجتماع لفيف من شباب فتح والفصائل،الذين التقوني بكل الود والترحاب.

بعد انتهاء الاجتماعات،فكرت بتأسيس فرع لفلسطين في هذه المنظمة العالمية.وهناك اتصل بي الأخ أبو جهاد،من خلال ممثليه مباركا خطواتي، وقلت له حينها:"اننا كنا دائما نقيم علاقات مع أصدقائنا،ونؤسس الفروع لفلسطين من الدول والمنظمات الصديقة،مثل الاتحاد العالمي الديمقراطي للمرأة،والذي مثلت به فلسطين أكثر من مرة،فلماذا لا نجرب تأسيس فرع في مؤسسات أخرى،سيطر عليها الجانب الآخر،نظرا لعدم وجودنا"،أجابني:"الطريق ليست سهلة، فهل تستطيعين"؟،أجبته:‘علينا أن نجرب"،سر من الجواب،وبارك الخطوة. والحقيقة أنها ليست سهلة،ولكن الاصرار والتحدي،واعلاء صوت فلسطين في المحافل الدولية،يستحق المبادرة والتضحية.

واقترحت عليه حينها أيضا،أن نشارك في مهرجان المربد،فاستحسن الفكرة،وأعطى تعليماته للشباب لتسهيل سفري الى بغداد..

كانت فلسطين في هذا المهرجان، تتمثل في كتاب منظمة التحرير من الخارج،ولم يكن ممكنا للداخل المشاركة سابقا، نظرا لظروف الاحتلال.

وبعد انتهاء المشاورات والترتيبات في السويد،اتصل بي الأخ الدكتور زهير الوزير،وهو شقيق الأخ أبو جهاد،ورتب لي زيارة الى فنلندا،وكان قد طلب من الأخ أبو جهاد ايفاد امرأة من الأرض المحتلة على جانب من الوعي والثقافة،فاقترحني الأخ أبو جهاد.

بعد الرحلة المميزة للسويد ،والتي نظمها لي الأخ ربيع، ممثل الأخ أبو جهاد في فرنسا،والذي بدأ التواصل معي باسمي الحركي"رندة".،

اعددت الترتيبات لزيارة فنلندا،ودعني الأخ السفير يوجين مخلوف ،واستقبلني الدكتور زهير باطلالته النضالية وروحه المرحة،واتصل بي الأخ أبو جهاد، واطمأن على وصولي.

نظم لي الدكتور زهير العديد من اللقاءات الهامة مع الشخصيات السياسية والدبلوماسية. وعلى رأسها اجتماع هام مع السفير العراقي بيتر يوسف حجوني ،التقينا على العشاء في مطعم هاديء ،أذهلني عمق الثقافة التي يتمتع بها. ،وكان رجلا مثقفا ،واسع المعرفة،يعشق الشعر والأدب،كانت جلسة رائعة ومميزة جدا،تركت أثرا ايجابيا،وصداقة حميمية.ثم جمعني بالجالية الفلسطينية،والتي كانت محدودة العدد،الاخ هارون الددو دعانا الى بيته،وشده الحنين الى الوطن،وعاش بوجودي لحظات الشوق الى القدس،وكأنه نسي أنه في فنلندا،علاقات وطيدة بنيت من الانتماء الفكري والصداقات التي بناها الدكتور زهير مع ابناء الجالية ،ومع الرموز الدبلوماسية هناك.ثم تلقينا أيضا دعوة من الأخ محمد عوض،رجل أعمال في فنلندا،وكان سابقا قد عمل مع والدي.

وتم تنظيم لقاءات اعلامية وثقافية،رتبها الأخ هاشم الدجاني الذي كان يعمل مساعدا للدكتور زهير.

أصبح الدكتور زهير هو صلة العلاقة ما بيني وبين الأخ أبو جهاد،وبعدها تطورت ليكون حلقة الوصل مع الرئيس عرفات.

زهير شخصية محببة،يعشق المرح،كان متزوجا لطبيبة رومانية جادة، -تعرف عليها خلال دراسته في رومانيا -ترى في الثورة الفلسطينية ،والعمل الوطني ،قاعدة هامة لا تحتمل المزاح،وكانت له ابنة لطيفة اسمها شمس،تعيش الثقافتين وتجمعهما بارتقاء.

ان التعامل مع الدكتور زهير سفيرا ومناضلا،ثم أصبح صديقا للعائلة،يشعرك بمصداقية الانسان، وتواضعه،فهو لا يحب المظاهر،ولا يتورع عن التعبير عن ذلك،يعيش ببساطة المناضل، وروح الثائر.كان يراني صورة غير عادية للمرأة،وكان دائما يعتز بي،ويقدمني للقيادات السياسية والثقافية بكل فخر،مما ألب عليه العديد من كوادر فتح النسائية.

والدكتور زهير يشعرك حين تزوره ،أنك في بيتك،فلا تشعر بالغربة،يتصرف دون تكلف،اعتاد البساطة ،واتخذها طريقا،وابتعد عن الكثير من العادات التي يتسم بها الرجال،فلا يحب التجاوز،ولا يخرج الا للعمل الجاد،ارتبط بعلاقات انسانية متعددة،فردية، ومع الجالية الفلسطينية،وكلها محملة بأثقال المشاكل،فكان الأب الحنون الدائم لهم.زرته في بيته،كان بيتا جميلا على شاطيء بحيرة تطوف بها الطيور،تدخل البهجة الى الروح،أمام التوترات السياسية.كان يحب اعداد بعض الأطعمة الخاصة،مستخدما أدوات خاصة به.،وكان أيضا عازفا على الناي.

من صفاته أيضا التردد وعدم المواجهه،مما يضعف تأثيره أحيانا على الموقف.

أصاب زوجته مرض عضال،توفيت على أثره،ثم جاء الى غزة،وتزوج سيدة على قدر من التعليم والثقافة والتهذيب،السيدة سامية العبادلة، التي أحبها وأحترمها كثيرا.

كنا دائما في عراك واختلاف وجهات نظر،والغريب أننا مهما اشتد الخلاف،فاننا لا نتغير،  بل نتابع المسير.

زرت فنلنداعدة مرات في الصيف،حينما  كان النهار يمتد طويلا،ليصيرالليل أبيض،فتوقد النار احتفالا.كتبت قصائد كثيرة ،وصفا لهذا الحدث الجميل.

ربطتني به علاقة جادة حميمية،كان ملتزما صادقا،دافيء الروح،يريد الكثير ويتوقف عند الظروف،يتردد في بعض القضايا،ويقدم على بعضها دون توجس.

كان يعشق البيت،ولا يعيش رفاه الحياة، كما يمكن لسفير أن يكون.حمل تاريخا وضيئا ساربه في مختلف مراحله النضالية.

كان يتابع نشاطي الثقافي والسياسي باهتمام كبير،نظم لي الكثير من البرامج الملتزمة،والعلاقات الدولية،وكنت مرجعية فلسطين لديه،حيث كنت اطلعه على

البعد النضالي في داخل الأرض المحتلة..عمق علاقته بوالدي والعائلة،وظل حتى هذه اللحظات..ابتدأ بالتنسيق السياسي معي قبل الدكتور زهير، الأخ الفاضل أحمد عباس،كان مقره في قبرص،وكان يتواصل معي بالتزام،ولما بدأ الدكتور زهير التنسيق،خجلت،واحترت في أمري .التقيت الأخ أحمد في باريس لمناقشة الموضوع،ثم قررت مراجعة السيد الرئيس، ليقرر من يقوم  بالتنسيق،فرشح الدكتور زهير.بالطبع عتب علي الأخ أحمد كثيرا،لم أكن على اطلاع بتداخلات التنسيق وأبعاده،وظللت أكن للأخ أحمد كل التقدير،والاعجاب بالكيفية التي كان

يدير الأمور بها.

اشتدت كثافات النشاط السياسي والثقافي المحلي والدولي،ومثلت فلسطين في العديد من المؤتمرات الهامة، واللقاءات السياسية والتنظيمية،وارتقى الزمن الفلسطيني في كلماتي وابداعاتي،انطلق صوتي الملتزم في الاذاعات العالمية ،والفضائيات والصحف،وسارت الأيام بتوثباتي الفكرية والسياسية مدعومة مباشرة من القائد الأعلى.

وازدادت كتاباتي الموجهة ضد أعداء الثورة،وظلت مقالاتي الصارخة،علامة فارقة للنضال بالكلمة والموقف،ازداد ارتباط القيادة بي،واعتباري أنموذجا حضاريا للثورة والانسان الفلسطيني.وأوكلت الي مهام سياسية للتعبير عن صوت منظمة التحرير، كممثل شرعي ووحيد،خاصة وقد ابتدأت قوى أخرى تتصدر المشهد،في محاولة فرض الوجود، وسحب البساط تدريجيا من منظمة التحرير.فكان لا بد من الاعلام الموجه .جندت قواي الفكرية والسياسية بعزيمة وثبات،للوقوف ضد القوى الأخرى التي تحاول التجاوز،.مما أثار غيرة العديدين نساء ورجالا،وحاولوا مضايقتي واضعاف صوتي،ولكنني تابعت ولم التفت اليهم،-قد أفهم طبيعة العمل الوطني وتنافس رموزه ،ومن يشرفون على الساحات،وكيف يحاولون  القبض على موقعهم من خلالهم،وقد لا يستوعبون قيادة أخرى.،ولكن فلسطين تعيش بألق أبنائها المخلصين -لذا لا يستطيع أحد ايقاف نبض الحب والابداع مهما أشعل الحرب،لانها ستكون سلاما على كل مناضل يعتز بكبريائه الشخصي والوطني.

 
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف