الأخبار
سرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباسماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيل
2024/3/28
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

على ناصية الحرف (4) : حوار جاد مع الشاعرالقدير جميل داري

على ناصية الحرف (4) : حوار جاد مع الشاعرالقدير جميل داري
تاريخ النشر : 2017-04-19
"الشاعر الذي حمل بين خفقات قلبه عشقا أزليا"
.. تحاوره : سفانة بنت ابن الشاطئ

اليوم وفي هذا الحوار الذي لا يشبه أي حوار آخر ، أدعوكم لسفر ماتع عبر الكلمة إلى جزيرة أخاذة بجمالها، غنية بعطائها، ساحرة بصورها ، أرضها خصبة تهب القارئ ثمارا نضرة تثري ذائقته، بل تُسحرها وتُغنيها عن البحث بعيدا .فكره ينبوع متدفق الحروف تروينا إبداعا فريدا ،هي رحلة محفور على تذاكرهاالدهشة و البهاء ، لنعيش لحظات بين أسوار الذكريات العتيقة مع الطفولة والكلمات الطرية البريئة، ووقفات مع الشباب اليافع واندفاعاته، فننصهر مع الحروف التي تبحث عن الهوية، لتتشكل منها شخصية شاعر باسل، قلمه ثري متنوع العطاء، متعدد الألوان ، هنا سنقف طويلا طويلا.. ،

قلم ضيفنا اعتاد على حمل المسؤولية ، كان وما يزال قنديلا ينير دروب الأجيال ، وشمعة تخطف برشاقة انتباه الجميع ، لــيبث الدفء في قلوبنا، يحترق ليضيء دربنا، يدربنا على تذوق الجمال بعيدا عن وحشية الزمن وآلة الحرب ، وبين التشاؤم و التفاؤل بنى له قلعة عنوانها : "التشاؤل ". لنتأمل هذه الكلمات المموسقة على ايقاع طلق بقلمه الحر :

وأحتمي بجدار متصدع
وأمكث غير بعيد كهدهد
وأعود إلى غرفتي المطلة على الكون
أتذكر حلمي العجوز
أتظاهر بالنسيان
وأضع على قلبي المحدودب قطعة ثلج
أو رشة ملح
لأحميه من العفن والزمن


قلم منتصب القامة، حر في زمن مضى خُطفت منه الحرية ، يملك قلب استوطنته امرأة لازوردية من ألف ليلة وليلة، هي الأنثى وهي الوطن ،هما معا يشكلان العصب الحقيقي لإبداعه ، رحلتنا ستنطلق مع الخيال الجامح المهرول خلف عشق خاص ، خط بدايته غربة بلا نهاية ووجهته وطن يقطن في دمه ، شاعر تسكنه القصيدة ، وتمثل متنفسه اليومي، اختصر كل بطاقات التعريف بكلماته التي رسمت معالم هويته الخاصة ، حين نثر حروفه ليقول:

ليسَ يشبهُني أحدُ
فأنا أكرهُ الأربعاءَ
ويعجبُني الأحدُ
وأحبُّ التبعثرَ
حينَ القصيدةُ تتَّحدُ

وأحبُّ المنافي
إذا خانني البلدُ

وأحبُّ الجنونَ
ففيهِ الرجاحةُ والسَّندُ

وأحبُّ الفقيرَ الذي سينامُ
على ظلِّهِ
معَ مَن شردُوا

وأحبُّ الديوك التي توقظ الناسَ
مَن كفرُوا
ثمَّ مَن عبدُوا

ليسَ يشبهُني أحدُ
لا القصيدةُ
لا المالُ
لا الولدُ
سأفرُّ إلى بلدٍ
ليسَ يسكنُهُ أحدُ

شاعرنا لهذا الحوار هو الشاعر السوري القدير جميل داري ابن عامودا ، شاعر خبر فنون المغامرة في جبّ القصيدة ، متيقّن من قدراته ، يفتننا دوما بقلمه ، يجعل مراكب الذائقة في حيرة باستمرار على أي شاطئ سترسو، أعند شاطئ صاخبٍ ضاجٍّ بالحياة مشاكس أحيانا حددت رماله قلمه الباذخ ، أو ستحطّ مرساته في مرفأ هادئ وديع، يستقرّ في عمقه نداء الحبيب ( الوطن /الأنثى ) وبين الشاطئ و المرساة سنحاول أن نمتهن التجسّس شاهرين سلاح الفضول، لنصل معاً إلى معالمَ لم يصل إليها أيّ
حوار سابق ، نبحث عن مواطن الجمال، و نرسم خرائطَ بعناوينَ عريضة للخيال ، نبتهج حين نتأمّل فلتات الكتابة بقلم رصاص، ونتلذذ حين نتذوق القصيدة الطازجة التي لم تُقرأ بعد ، و ننتظر معاً ولادة قصيدة أخرى مازالت تقطن ثنايا الأنا، ولم تولد بعد.
دعونا نبدأ رحلة الكرِّ والفرِّ، نؤسّس معاً لبنة خصبة بالإبداع ، معزولة عمّا يدور حولنا من ترّهات أو صراعات على كل الأصعدة ، تعالوا اشحنوا ذائقتكم من الآن بالدّهشة و الإعجاب ، و انذروا ما تبقّى لكم من وقت لهذا اللقاء العاري من التكلّف و المجاملات المقيتة.


س1- و لتكن بدايتنا من البدايات ، و انطلاقتنا من أول حروف نثره قلمك الجميل حين قرّر أن يكون قلما شعريّا ثائراً لقلب محارب ..؟

ج1= العودة إلى الطفولة محفوفة بالشعر والذكريات والكثير من الجروح المندملة التي ما زالت آثارها محفورة في الروح ، ففي بداية المرحلة الإعدادية تعرفت إلى شعر محمود درويش وهو في سجنه، قرأته بنهم، فقد كان يروي غليلي إلى ما لا أعلم، ولم أكن أتصوّر أني سأكتب شعرا يوما ما ، حتى عثرت على قصيدة مالك بن الرّيب في رثاء نفسه ، فأثّرت بي ، وكنت قد تعلّمت العروض في الصفّ التاسع، فكتبت أبياتا على غرارها، لا أذكر منها الآن إلا بيتين هما:

كأنّ دياري أصبحَتْ بعدَ حبّيا سوادَ لياٍ أو خطوبَ العواديا
دعوتُكَ يا ربّي نهارا لياليا لترحمَ أشجاني ومأساةَ حاليا

ولم تنضج أدواتي الشعرية كاملة إلا في المرحلة الثانوية ، حيث أعجبت بقصيدة سميح القاسم:

ربما أفقدُ ما شئتَ معاشي
ربما أعرضُ للبيعِ ثيابي وفراشي
يا عدوَ الشمسِ.. لكنْ لن أساومْ
وإلى آخرِ نبضٍ في عروقي سأقاومْ

وهكذا تتلمذت على أيدي درويش والقاسم ومالك بن الريب دون نسيان الجواهري والسياب ونزار وآخرين .. كنت دائما أحمل معي قلما وورقة ، وأكتب ما يخطر على بالي، وأنا سائر في الطريق أو جالس في مقهى يكتظ بالدخان والصخب والناس، فأنخرط في عالمِ ما كنت أظنه شعرا لم يكن يرضي توقي إلى القصيدة الحلم التي لم أكتبها حتى الآن.لم أزل أخوض اللج باحثا عن الدر المكنون وما من طريق آخر سوى الصمت والسكون ، وهذان هما الموت بعينه ، فحياتي أن أثب من بحر إلى آخر، حتى أغرق أو أغرق البحر معي.

س2- متى شعر شاعرنا جميل داري أن لحظات الكتابة باتت تنهش دواخله ، وأنه أصبح على أتم الاستعداد للسفر على متن رحلة خاصة لأرض جديدة ومناخ مختلف ، ولقاء يكون فيه الامتزاج صورته الأولى ..؟


ج2= بدأتْ هذه اللحظات في المرحلة الجامعية وما بعدها، حيث طبعت أول ديوان لي عام 1984 بعنوان "السفر إلى عينيك بعد المنفى" وضم نصوصا كلاسيكية وتفعيلية ونثرية ، ويومها لم أكن معترفا بالشعر المنثور شعرا كما يجب، بل كنت أعدّه نثرا فنيا راقيا لا يقل عن المنظوم جمالا وبهاء..في تلك المرحلة من الشباب المبكر كنت ممتلئا حماسة وتفاؤلا بغد جميل للإنسانية كلها ، فقد نشأت هذه الفكرة مع ناظم حكمت وحنا مينة وكتابه " ناظم حكمت والسجن والمرأة" وأعجبت بسيرة ناظم ومعاني شعره النضالية والإنسانية ، لكن لم يرق لي الشكل الشعري بترجمته العادية البعيدة عن صعقة الفن ودهشته الجارحة كرمح في القلب.. في الغلاف الأخير من ديواني ذاك مكتوب:

أيها المنتشونَ برائحةِ المرتقى
لن تنتموا لدمي المتجانسِ والمتناقضِ
إنّي أخالفُ صحوَ المسالكِ
ردّاً على فواجعِنا المثمرةِ

فلم يكن تفاؤلي صافيا ، بل كان ممزوجا بيأس من إصلاح الواقع الذي كان يزداد سوءا يوما بعد يوم، وقد سهرنا ليلة كامة مع أصدقاء حول جملة ناظم حكمت:

أجملُ الأيامِ تلكَ التي لم تأتِ بعدُ
وجملة الشاعر محمد عمران :
أجملُ الأيامِ تلك التي مضَتْ

إنها هواجس وخواطر الشعراء، فقد كانت نفوسنا تتشوق إلى عالم خال من الفقر والبؤس والظلم متوقعين أنّ سيرورة الحياة وصيرورتها هما إلى الأمام ،حيث المجتمع القادم الخالي من الآفات والآهات، وهذا ما لم يحدث ، بحيث تحققت نبوءة محمد عمران ، ولا أدري ماذا يقول الآن المرحوم المسرحي سعدالله ونوس صاحب: " نحنُ محكومون بالأمل "ربّما هو أملُ إبليسَ بالجنةِ..؟

س3 - يقال: إنّ القصيدة قصر أبواب ، لكنه كثير النوافذ، تطل كل منها على مشهد مختلف، في رحلة وجهتها الصعود نحو السماء، حيث يكون فيها القلم في صراع مستمر مع " العزلة و اليأس و الوحدة " ،فهل لا بد من وجود هذا الصراع لولادة القصيدة بشكل عام ، وهل فعلا هم من يمنحون الخيال أجنحة للوصول إلى مواطن الفرح والمتعة ؟


ج3= القصيدة لغز محير وسر عميق لا يُسبر غوره، ولكن كما قلتِ فله آلاف النوافذ والأجنحة التي يمارس بها الشاعر تحليقه أو جنونه ، فكلما تعمق اليأس والألم ازداد الشاعر حرصا على امتطاء الحروف والكلمات التي قد تنصاع أو لا تنصاع، لذلك لا يصل الشاعر إلى تحقيق حلمه المنشود في كتابة نصه الأخير، حتى يتقاعد عن الشعر بمرض الهرم ويسقط كحصان في واد سحيق، أو يموت فتنتهي قصته ويبقى شعره في متناول يد الآخرين الذين يقومونه من خلال أذواقهم، ويعيدون الشاعر إلى الحياة محاكمينه مع وضد في حفل مدح أو قدح وهكذا دواليك.. أحيانا أتعرق وأنا أكتب قصيدة على سطح الثلج وأشعر بالزمهرير تحت شمس الظهيرة في صيف قائظ ، حينها أتأكد أني أهذي، وفي الهذيان روح الشعر، لأن العقل ببرودته لا يناسيب القصيدة المترعة بالعواطف من شوق وحزن وانكسارات رحلة الشاعر مزدوجة في الذات وفي العالم ولا يهدأ لحظة واحدة.

س4- متى يتلاشى الحاجز بين القلب والقلم والعقل ، وتذوب الحروف عند حافة الشفاه ، وتستعد الورقة لاستقبال القصيدة و يتماها الشاعر معها في حالة من اللاشعور ؟


ج4= لا أظن أن هنالك حواجز بين ما ذكرته فهذه الثلاثة تنصهروتتلاحم في سمفونية الجنون، لأني أرى الشاعر في قمة وعيه بالأشياء في ذاته ومن حوله ، لكنه يحولها إلى القلب مركز العواطف، فنظن أن القصيدة هي نتاج العواطف فقط كالمرأة تماما، فهي تحب وليدها عقلا وقلبا، وعندما يتعرض إلى خطرما تفقد عقلها وتسيطر عليها حالة من الهذيان والجنون وتفقد السيطرة على عقلها ، وهذا لا يعني أنها مجنونة سيكولوجيا، بل هي جنون مؤقت لحالة مؤقتة وقد تقصر أو تطول، لذلك نرى الشاعر يصمت عندما لا يحركه فرح كبير أو حزن كبير لأن المشاعر السطحية لا تنتج إلا شبه قصيدة، أما القصيدة المثالية فهي التي تعبر عن ألم عظيم، من هنا قال الفريد دوموسييه:" ما من شيء يجعلنا عظماءَ مثلُ ألمٍ عظيمٍ " وتبقى لكل شاعر طريقته في التعامل مع هذا الألم ، فمنهم من يتوقع زواله سريعا أو بطيئا ، ومنهم من يحدس بأن وراء الألم ألم آخر، وآخر، وآخر..


س5- عندما تكون الذات بمرمى الألم ، و الذاكرة تتعرض لعوامل التعرية ، و الواقع وجهه مشوه ، والقلوب أصبح يعتليها القبح والقيح ، والضمير في خبر كان ،فهل يكون القلم المحب للجمال و الرقة مذنبا إذا ارتكب الفحش واعتنق الهجاء ، وسلم القيادة لمحبرة الغضب ،أم أن الشاعر بمقدوره أن يتحكم بمقوده، وهل يسمى هذا إبداعا إذا تدخل فيه العقل ؟


ج5= لا شعر خارج نطاق الغضب، ولا سيما إذا كان الواقع فاسدا، ومنذ أيام كتبت نصا عن الضمير الميت وهجوت الواقع بسخرية مريرة:

المروءاتُ ميْتةٌ والضّمائرْ فإلى أينَ موكبُ الموتِ سائرْ

إن معاداة القبح وتصويره والتنفير منه ما هو إلا دفاع عن الجمال وبهجة الحياة، فهجاء الواقع السيئ ما هو إلا مدح لواقع آخر في رحم الغيب يصبو إليه الشاعر الذي يبحث دائما عن الأجمل في الطبيعة وفي الإنسان..الشاعر بأسره في معركة الحياة، سلاحه الكلمات التي يهابها الطغاة والجبابرة، لذلك نرى الشاعر الحر يسجن وينفى ويقتل، فكم يشكل الشاعر من خطر على أعداء الحياة الذين يشوهون الحقائق مع حفنة من الموالين والأذناب ورجال الدين، وكلما كان الشاعر أصدق وأجرأ تغلغلت أفكاره إلى أعماق الناس الذين يحتاجون إلى مصابيح منيرة في ليلهم النابغي الطويل..

س6- منذ القدم وقدرات الشعر تخطت حدوده الإبداعية، لتكون حروفه منبرا للتغيير و التأثير و بعض التحولات ، هل في زمننا مازال الشعر قادرا على خلق المعجزات، ونحن نعيش زمن الحرب و القتل و الدماء ؟


ج6= لا أظن الشعر قادرا على صنع المعجزات، لكنه قادرا أن يضع يده على الجرح، وأن يحدد الداء المستشري في جسد المجتمع، وربما خفت صوت الشعر قليلا هنا وهناك، لكنه يبقى منافحا عن الحقيقة، مدافعا عن حصة الإنسان من الحرية التي لا قيمة للحياة دونها..لقد كان النازيون يحرقون الكتب، وكان شعار وزيرهم غوبلز هو: " عندما أسمع كلة ثقافة أتحسس مسدسي " وما زالت ظاهرة محاربة الثقافة مستفحلة، وكأن التاريخ يعيد نفسه على شكل مهزلة ، من هنا نرى أن الأنطمة الرجعية تواجه الشعر بالترغيب والترهيب، أي ترغب بعضهم بالمال والأحضان الدافئة والقصور الفخمة والسيارات الفارهة كماتستخدم الترهيب مع من لا ينفع معه الترغيب، من هنا فقوة الشاعر تكون في صموده أمام المغريات وعدم انجراره إلى مستنقع الفساد.


أجملُ القولِ ما لايقالُ
وأَحبُّ السؤالِ الذي
يتمخَّضُ عنهُ السّؤالُ
وألذُّ المياهِ الأجاجُ
إذا كانَ يؤذي سماكَ الزَّلالُ
أجملُ الوردِ ما ذرفَ العطرَ
والحزنُ فيهِ عضالُ
أجملُ الأرضِ ما حملتْكَ على ظهرِها
لا التي أنتَ تحملُها..
لا التي يتشوَّهُ فيها الجمالُ
أشرفُ الشرفاءِ الذينَ يجوعونَ
لا الجاهُ يُركعُهمْ..
لا الغلالُ..
أجملُ الشعراءِ الذينَ
يموتونَ... ينبعثونَ
ولا شيءَ منهمْ يُنالُ


س7- حب الوطن من المسلمات ، يذوب فينا حد التماهي ، هو بوصلة مشاعرنا ، يؤلمنا أنينه ، يفقدنا ألمه الشعور بالحياة ، فمابال القلم حين يركب صهوة قلب شاعر خطفته الغربة من حضنه سنوات ، دفن منذ زمن شوقه بين أحضان القصيدة ، نظراته حيرى ، نظرة على أشلاء متناثرة ، وأخرى مازالت تعيش الصدمة منذ تحولت أنهاره العذبة الرقراقة إلى (دماء )، كيف سيكون العبور ميسرا للقصيدة أمام هذه المشاهد المهولة ؟ وهل يمكن بناء قصيدة مميزة على أرضية واقع متصدع ؟

ج7= لم أكن أتخيل نفسي يوما قادرا على فراق الوطن إلا لمدة يسيرة لا تزيد على سنة، فقد كان الشوق إليه ينغص حياتي، ويجعلني أقفز إليه في الخيال أضمه وأشمه ..أجل ها قد مرت سنوات ست، وهذه الحرب المجنونة تقف حائلا بيني وبينه، وفي هذه الفترة العصيبة تفجرت قريحتي عن شعر غزير هو متنفسي الوحيد في عالم مخنوق بالغربة والنفي والموت..أرى الوطن أمام عيني ينتهك وينهب ويفر منه من يفر ويموت فيه من يموت، حتى كأنه الجحيم أو دونه الجحيم، ومع ذلك لا يفارقني الشعرولا الأمل، و سلاحي الصبر والمصابرة ..كتبت مئات القصائد في الوطن، وكلها مبللة بدموع الألم والشوق والانتظار ، وأحيانا أفقد الأمل في رؤيته سالما منعما، وكل قوى الشر في العالم تكالبت عليه. وتبقى التساؤلات تسطو على القلم ليعكس صورة الألم والأمل :

متى ترى تنتهي يا نارُ مأساتي
والرِّيحُ عاصفةٌ مثلُ الخرافاتِ
...
متى ترى الأملُ المصلوبُ ينقذنا
ونحنُ لسنا بأحياءٍ وأمواتِ
...
ما ذنبُ أوّلِنا ما ذنبُ آخرِنا
وكلّنا دونما ماضٍ ولا آت
...
فكيفَ أولدُ في الصّحراءِ ثانيةً
والماءُ غيضَ وجفَّت كلُّ واحاتي
...
ستٌّ ولم تزلِ الآلامُ دائرةً
كما تدورُ جراحٌ في جراحاتي

س8- كانت القصيدة قلعة يحتمي بها الشاعر، يخفي بين سطورها ما يضمره من حب أو كره من نقد ومن ظلم ، لكنها باتت الآن نافذة مفتوحة تطل من خلالها أفكاره ، مشاعره ، صراخه ، عويله بوضوح، ماذا يحدثنا شاعرنا الراقي عن هاتين المرحلتين في شعره ؟

ج8= منذ طفولتي البعيدة وعلاقتي بالشعر وثيقة كعلاقة الروح بالجسد، ولم أبتعد عنه إلا لأزيد قربا وعشقا، ومن الطبيعي أنني كنت أكتب في كل الموضوعات الإنسانية، وأولها التعبيرعن خلجات الإنسان وصبواته إلى عالم خال من الفقر والظلم والموت، وكنت أظن أنني بالشعر قادر على صناعة فردوس أرضي ، لما للكلمة من أثر وتأثير في حياة الإنسان، ولا سيما أني كنت مشبعا بالشعر الثوري والإنساني، فهذه الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، وفي النكسات كان شعاري وما زال قول بطل همنغواي في الشيخ والبحر : " قد يتحطم الإنسان، ولكنه لا ينهزم "صحيح أني أعبر عن يأسي على المدى القريب، لكن أملي واسع على المدى البعيد، فنحن لسنا في نهاية التاريخ، ومن هذه الهزائم ستولد انتصارات الإنسان القادمة مهما كانت التضحيات جسيمة ، فلا يمكن للإنسان إلا أن يكون حرا، وإلا فإن الحياة سجن لا يطاق، طبعا المرحلة التي نعيشها منذ ثورات الربيع العربي المنكوبة استثنائية مقارنة بكل الزمن العربي النائم في كهفه منذ سنين طوال، ولهذا كانت ردة الفعل عليها عنيفة، إذ كيف للرعاع أن يتمردوا على أسيادهم..؟ أنا في شعري فرزت القمح من الزؤان، وأعرف ما هي الثورة وكيف تُمتطى أمواجها وتنحرف عن مسارها الحقيقي ، لذلك لم أكن سهلا في قبول الخلبي، فهمي هو الحقيقي، وأظن الشاعر يفقه الحقائق أكثر من غيره ،ومن هنا لم أتخبط في مستنقع السياسة التي لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية بقدرما هي تجارة بها، والوقائع تشهد على ما أقول.أجل في المرحلة التالية كانت المعاناة أقوى، لذلك كانت القصيدة أكثر توهجا وحدة وصرامة ، فقد كتبت خلال ست سنوات مئات القصائد المعبرة عن المرحلة الأليمة، وأستطيع القول: إنني كل يوم تقريبا أكتب قصيدة أوخاطرة أو نقدا ..إلخ.

س9 - يقول الفرزدق واصفا الشعر " الشعر أعسر من قلع الضرس " ومع كل قصيدة يجتاز بها الشاعر لعالم الإبداع يمر بمتعسرات كثيرة ، و نهاية كل قصيدة حتى لو وصلت إلى أشد مرحلة الإبداع ينتابه شعور بعدم الراحة و القلق يلاحقه حتى الانتهاء من قصيدة أخرى فأخرى ، كيف يعالج شاعرنا هذا الإحساس و التخلص من أرق الجديد ؟

ج9 = هذا الكلام يذكرني بتوفيق الحكيم القائل: " الفن صعب للفنان وسهل للناس "طبعا أنا نفسي لا أعرف لم أكتب أحيانا نصا أو أكثر كل يوم، وحيانا أعجز عن التعامل مع الحالة الإبداعية ،لا بد ان هناك عوامل نفسية كثيرة تتشابك من أجل تلك اللحظة الشعرية، وقد أكون في حالة لا أستطيع كتابة كلمة واحدة أنا عندما أكتب القصيدة لا أعرف أتكون طويلة أم قصيرة..؟ كلاسيكية أم تفعيلية أم نثرية..؟أحيانا كل ما هنالك تأخذني الكلمات إلى عالمها لأملأ بياض الورقة النهم الذي لا يرتوي ولا يشبع، وعندما أصل إلى النهاية أعجزعن كتابة المزيد، كمن يرتوي ولا يكون قادرا على الشرب بعدها .طبعا أشعر بفرحة كبيرة بعد كل قصيدة أرضى عنها، ثم سرعان ما يزول الفرح ويدب فيّ قلق كبير حول القصيدة القادمة لشعوري أني أكتب قصيدة واحدة طويلة جدا ، وكل جزء هو تتمة لما لم يكتب بعد، ومن هنا قال درويش:" ليتني وصلت إلى قصيدتي الأخيرة لأرتاح من هم الشعر" لذلك ينتهي الشاعر ولا تنتهي القصيدة، ومن تجربتي لاحظت أن أي زيادة على النص المكتوب هو تشويه له ، من هنا لي قصيدة البيت الواحد والبيتان وثلاثة أبيات، ومن أمثلة البيت الواحد:

أمرُّ بي لا أراني مرورَ أعمىً بثانِ


*حيث أضفت أبياتا، فرأيت أنها تلف وتدور حول فكرة هذا البيت دون أي إضافة بلاغية أو فكرية أو خيالية، لذلك أعده وحده قصيدةً كاملة، وهكذا ..


س10- يقتات قلم الشاعر من معين متنوع السمات، ليستطيع أن يصل إلى الإبداع بجدارة ، ماهو معين شاعرنا الجميل جميل داري الذي أوصله إلى قمم الإبداع..؟

ج10 = يخيل لي أني لم أزل في أول سلم الحطيئة الأول القائل:

الشعرُ صعبٌ وطويلٌ سلّمهْ لا يرتقي فيهِ الذي لا يعلمهْ

فالوصول إلى الإبداع كالوصول إلى المحال، ومع ذلك دعيني أتفق معك أني مبدع لكي لا نختلف، أما معيني فهو الحياة بكل ما فيها من قبح وجمال، وهو الوطن، وهو المرأة ، وهو الحرية، فمعيني متعدد المشارب والموارد، غير أني في الفترة الأخيرة رأيتني منقادا إلى قضية الوطن والحرية بالدرجة الأولى، فدونهما كل شيء باطل وقبض الريح، ودونهما يفقد كل شيء آخر معناه الحقيقي.

س11- بتنا في عالم مزدحم بمواقع النشر والتواصل بين القلم و القارئ ، ولم يعد هنالك أهمية للمكان أو الزمان ، ولهذا سلاح ذوحدين ، كيف يقيم لنا شاعرنا الدورالذي يلعبه هذا الزخم ، إيجابياته وسلبياته من خلال تجربته الخاصة ؟

ج11= الحياة في تطور تكنولوجي مذهل، لا يواكبه تطور الوعي الإنساني الذي يظل مقيدا بحدود الزمان والمكان، فترين مواقع النشر تعج بالأميين ثقافيا وضيقي الأفق الثقافي والسياسي، وهي أماكن للحروب الصغيرة والنمائم والشتائم والأسماء المستعارة والمواهب الضحلة ، أستطيع أن أقول عنها: عصفورية، ولكن لأكن أكثر إنصافا فثمة إيجابيات لمن يكون جادا في البحث عما يفيد العقل وينعش القلب، لكنه نادرا، حتى كأن هذه المواقع صورة لحياتنا التي تغلب فيه القوة الحق، هذا الحق الذي نادرا ما نراه يشع هنا وهناك كنجمة عنيدة تأبى الانطفاء.

س12- التفرد الشخصي والإبداع الذاتي لا يمنع من اعتراف الشاعر بوجود شعراء منافسين، أولنقل متميزين على الساحة الأدبية إن وجد بنظره طبعا ، فهل يخبرنا شاعرنا الراقي جميل داري عن نظرته للساحة الأدبية بشكل عام،ومتى يكون الشاعر قارئا نهما ، ومتى يكون شاعرنا قارئا مستمتعا ؟

ج12= الساحة الأدبية تعج بالجواهر والقشورمعا، وهذه ظاهرة طبيعية، ولكنّ قارئا مزمنا ومدمنا مثلي يستطيع بسهولة تمييز الغث من السمين، ومن هنا فأنا أقرأ بين الحين والحين لشعرائي المفضلين من الجاهلية حتى اليوم، كما إني لا أكترث بأمر المنافسات، ولا أعد نفسي شاعرا كبيرا، فهناك من هو أعلى مني ومن هو أدنى مني، وليس كل ما يكتب الشاعر الفحل يرتقي الى مستوى الشعر، فهناك قصائد مختارة وربما أبيات قليلة تضاهي دواوين كاملة، فالمسألة ليس بالكمية بل بالكيفية الشعرية .لا يمكن للشاعر إلا أن يقرأ لغيره من الكبار أولا ، لأنه يرى أن الحياة دون شعر ليست جديرة أن تُعاش.وبشأن المنافسة أيضا فالساحة واسعة ومتاحة للجميع، وعلى الفارس الحقيقي أن يثبت موهبته الأصيلة وهو يمتشق الأبجدية ويجعل للحرف رنينا كرنين القيامة والشهداء.

س13- في أتون المواقع الأدبية تدور رحى المنافسة أحيانا ، و لكن ما يجعلنا نقف مذهولين قلم يواكب الكلمة و يرتجل الصور ويساجل بقدرات تفوق أحيانا صاحب القصيدة الأم ، و قد عُرف عن شاعرنا امتلاكه لهذه الموهبة بجدارة ، متى يُستفز قلمك ، وهل من الممكن أن تستفزك جملة فقط من نص أو بيت واحد من قصيدة لتولد منها قصيدة ؟ وهل حدث أن ترددت في نشر مواكبة لنص أو قصيدة ما لأنك شعرت أنها ستغطي على النص الأصلي؟

ج13 = سؤال خطير ومهم أجل فالقراءة تولد الكتابة ، فعندما أقرا نصا أظل معه فيما بعد ساعات وأياما ، وأشعر بأن لدي ما أقوله وإلا انفجرت ، ثم أجدني بعد فترة قصيرة أو طويلة أكتب وكأني أزلت كابوسا عن صدري، وهناك نصوص أقرؤها المرة تلو الأخرى ، وأشعر أن النص قد صار لي ، فإذا بي أكتب معارضة له على نفس الوزن والقافية كما كان يفعل أحمد شوقي ومن أمثلة ذلك قصيدة الكوخ لصديقي الشاعر محمد سمحان، فقد رأيت هذه القصيدة القصيرة من عيون الشعر العربي، فكتبت على غرارها وإليك القصيدتين :

الكوخُ / شعر:محمد سمحان

كوخٌ من الأبنوسِ في غابَهْ *** من أضلُعي حطَّبْتُ أخشَــابَهْ
وبنيــــتُهُ نَغَمــاً على نَغَـــمٍ *** لَقَّطْتُـــها من بَـــوْحِ شَبّـــابَهْ
وفَرَشْـــتُهُ بحُـــــروفِ أغْنِيَـةٍ***كالجَــدْولِ الرّقراقِ مُنسـابَهْ
سيّجْــت بالأهْـدابِ شُــرْفَتَهُ *** وصَنَعْتُ من نار الجوى بابَهْ
ألبَسْـــتُهُ ثَوْبَ المَجــــازِ رؤىً*** فتّـــــانَةَ الألــــوانِ خـــلابَهْ
حَـــــــجَّ الفراشُ لهُ وبـــــاركه*** وأقــامَ فوْقَ الوَرْردِ أسْرَابَهْ
طوَّبْــــــتُهُ لحبيـبتـــي وطَنَـــــاً*** وكَسَوْتُ بالأشعارِ أعْتـابَهْ

*********

معارضَتي لقصيدةِ "الكوخ" للشاعرِ الكبيرِ محمّد سمْحان :

يا ليتَني قد كنتُ بوَّابَهْ *** وجمعْتُ أحبابي وأحبابَهْ
كوخٌ من الأحلام..تحسدُهُ*** كلُّ القصورِ ترودُ محرابَهْ
قد طفْتُ في أرجائِهِ ثمِلاً*** ونهلْتُ كالمسحورِ أنخابَهْ
كم أشتهي لو أنَّ لي وطناً*** ما أجملَ الأوطانَ في الغابَهْ
بيني وبين الكوخِ كم سببٍ*** وصَّلْتُ أسبابي وأسبابَهْ
كنزٌ من الأبنوسِ ليسَ لهُ *** ثمنٌ.. يدُ الأشعارِ وهَّابَهْ
كوخٌ سماويٌّ أصــــــدِّقُهُ ***والأرضُ كلُّ الأرضِ كذَّابَهْ

س14 - معظم الأنشطة التي تنضوي ضمن البرامج المخصصة للأنشطة الثقافية يتردد كثيرا أن قوائمها محددة من أجندة مسبقة لأسماء تتكرر، هل فعلا هنالك في الساحة الأدبية رؤوس فساد ومحتكرو الثقافة، وهل عتقد أن الإقصاءالمباشر والتهميش الممنهج هما عنوان الساحة..؟



ج14= هذه الظاهرة للأسف موجودة، لكنها لا ترفع وضيعا على المدى البعيد، فالزمن يقوم بالغربلة ..هنالك من يحتكر النشر والأنشطة له ولأزلامه في بلادنا بمعنى: وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب، ومن هنا تظهر شخصيات أراجوزية كاريكاتورية لا تمت إلى الإبداع بصلة، لكنها ترتزق من وراء ما تنشر من غث وركيك، وهذه الظاهرة منتشرة في الصحافة بالدرجة الأولى من جرائد ومجلات ولا أنكر أن هناك صحفا جادة لكنها تنقرض يوما بعد يوم.




س15- يدعي كلود ليفي شتراوس أن الدورالذي يقوم به المبدع في عملية الإبداع هو كونه فضاء تمر عبره الكتابة ، حيث لا يمتلك الشعور بأنه يكتب، بل يمتلك شعوراً بأن الكتب تكتب من خلاله .. تحديات لا تلغي دور المبدع الذي يدرك أبعاد نصه وجمالياته ، أيضا تحديد هوية النص الأدبي النثري ، ومعترك الحداثة في ساحة أسلحتها عديدة و متنوعة ، و طرفا النزاع كل على حق من وجهة نظره ، فماهي وجهة نظر ضيفنا القدير؟



ج 15 = المبدع هو ابن الحياة ، يعبرعنها بوسائله الكتابية شاعرا وناثرا، وقد يكون التعبير مباشرا أوموحيا، وفي كل الأحوال هو صوت واقعه، ولا يمكن لنا أن نتعرف على وقائع التاريخ إلا من خلال كتابات المبدعين، لأن كتبة التاريخ مزيفون يكتبون حسب منطق القوي، ولهذا في التاريخ أكاذيب وتشوهات كثيرة، وهذا الأمر لا نراه في الإبداع الذي هو التعبير الحقيقي عن الواقع، وإعادة صياغته حلميا، أي السفر مما هو كائن إلى ما يجب أن يكون.ولا بد من مواكبة الحداثة، فمن المضحك أن نكتب بأساليب أكل الدهرعليها وشرب، بحجة الحرص على التراث والأصالة، فكلّ ما لا يتطور مع مستجدات الحياة لا يعوّل عليه.




س16- التناص حسب ليتش " ليس ذاتاً مستقلة أو مادة موحدة ، ولكنه سلسلة من العلاقات مع نصوص أخرى ..فإن النص يشبه في معطاه معطى جيش خلاص ثقافي بمجموعات لا تحصى من الأفكار والمعتقدات و الإرجاعات " فما رأي شاعرنا الجميل جميل داري بالتناص،و بالتداخلات النصية التي تكمن في أعماق النص ؟



ج 16 = سؤالك الجميل ذكرني بالجاحظ الذي قال: "إن الأفكار والمعاني مرمية في الطريق ولكن المهم صياغتها."وعندما اتهم المتنبي بالسرقة في مجلس سيف الدولة قال: قد يقع الحافر على الحافر وأذكر أيضا قصة طريفة مع بشار بن برد القائل:


من راقبَ الناسَ لم يظفرْ بحاجتِهِ وفازَ بالطيّباتِ الفاتكُ اللهجُ

فجاء من يقول:

من راقبَ الناسَ ماتَ همّاً وفازَ باللذّةِ الجسورُ

وهكذا أرى كل الإبداع تناصا، أي دورانا حول أفكار إنسانية معروفة للقاصي والداني، ولكن المهم هو الأسلوب أو طريقة الصياغة، فهناك طريقة جذابة مبتكرة معها لا تحس أن الكاتب أخذ فكرة غيره، وهناك أسلوب جامد أقرب إلى فزاعة الحقل، بحيث يشعرنا الكاتب أنه في حالة تلاص لا تناص، فما معنى أن نصوغ أفكارا شائعة بأساليب عقيمة خالية من صعقة الإبداع وجمرته المتقدة.هذا أخدذني إلى موضوع قريب ألا وهو الاتباع والإبداع، فالاتباع هو السيروراء خطى الآخرين بعمى، دون انحراف قليل يمينا أو يسارا ، بينما الإبداع هو الطيران بأجنحة الخيال التي تشعرنا أن المبدع هو نفسه من أبدع هذه الفكرة من العدم.وللتوضيح أكثر مثلا في عالم الغناء هناك التعبير الشائع : يا حبيب أو يا ليل يا عين نرى أن الفرق ليس في المعنى بل في طريقة الأداء التي تختلف من مطرب إلى آخر وهكذا ..




س17- شاركت في العديد من لجان التحكيم في مسابقات مختلفة ، هل تحدثنا قليلا عن هذه التجربة ، و الدور الذي تلعبه في رفع مستوى الأدب ؟



ج 17= أجل شاركت في بعضها شعرا ورواية في بعض المواقع، وفي دار رابطة الشعراء العرب للشاعر محمد البياسي، ولقد كنت أصاب بإرهاق نفسي شديد وأنا أقرأ هذا التفاوت الكبير بين عمل وآخر، أما أخطاء اللغة والنحو والركاكة فحدث ولا حرج، وفي الأخير كنت أصاب بشبه عجز في تقويم الأعمال الفائزة الثلاث، ولكن لحسن الحظ كنت أتشاورمع باقي أعضاء اللجنة وأحيانا من خارجها مع من لديه خبرة في هذا المجال.أما رفع مستوى الأدب فلا أظن لهذه علاقة بتلك، لأن المسابقات تظهر لنا بالأصل المبدع الحقيقي الذي ربما بعد الفوز يتحمس لكتابة المزيد من الأفضل، لكن المسابقات ليس لها أي دور في تقدم مستوى الأدب والإبداع، كما أن لجان التحكيم تعود إلى ذوقها وتذوقها في الحكم على النصوص، لذلك كنت أفاجأ أن من نال عندي أعلى الدرجات قد نال أدناها عند غيري من أعضاء اللجنة، لذلك لا يعول عليها غالبا .




س 18- لا بد دوما في أي حوار أدبي العروج على النقد لما له من أهمية في مسار الأدب.. فكيف يقيم شاعرنا القدير النقد ؟ وما مدى تأثيره على الساحة الأدبية التي اكتظت بأسماء وأقلام ما أنزل الله بها من سلطان واختلط فيها الحابل بالنابل؟أم أن هذه النظرة سوداوية وأن الوضع بخير ؟



ج 18 = أظن أن المبدع الحقيقي لا يحتاج إلى النقد، وإن كان يفيده نادرا، لكنه يفيد أشباه الأدباء مؤقتا وآنيا، حيث يشتهرون لأسباب لاعلاقة لها بالإبداع، في زماننا كثر النقد الشللي، أي أن كل واحد يكتب عن أصحابه ومن يدور في فلكه السياسي أوغير ذلك..أنا عندما أقرأ قصيدة جميلة لأول مرة فلست محتاجا لمن ينقد القصيدة سلبا أو إيجابا، فلي أيضا نظرتي النقدية التي تكونت عبرعقود، وأعرف التمييز بين الغث والسمين، فمهما كتب مثلا عن درويش أو نزار أو الشنفرى فلن أغيرمن نظرتي النقدية نحوهم. أنا أستمتع بالنقد الجاد الموضوعي النابع من روح المحبة، أما النقد السلبي الهدام فلا يعنيني بشيء ، لأن الهدف من النقد هو تقويم العمل الأدبي، ما له وماعليه ، وبيان ما فيه من جمال واكتمال أو قبح وقصور. مرة كتب محمود درويش في بداياته للنقاد: " أنقذونا من هذا الحب القاسي، بمعنى أن النقاد العرب رحبوا بتجربة شعر المقاومة الفلسطينية لا لأسباب فنية فقط ، وإنما لأسباب تتعلق بالقضية الفلسطينية ، ىولا سيما شعر درويش والقاسم وتوفيق زياد، وقد أثبتت الأيام تواضع شعر القاسم وزياد مقارنة بذلك التمجيدالمبالغ فيه لهما.




س 19- هنالك قصيدة ولدت لتجعل صاحبها شاعرا ، و قصيدة ولدت لتحدد مسار صاحبها الأدبي، و قصيدة ولدت لتجعل القلم الذي نظمها يتخطى حدود الإبداع ، و قصيدة في عمق الذات لم تولد بعد فماهي تلك القصائد؟


ج 19 = الشعراء مستويات ككل مناحي الحياة ، فهناك الشاعر اللاشاعرأصلا، أي المتطفل على مائدته، وهناك المتوسط الذي تقرأ له مرة ثم لا تعود إليه ثانية ، وهناك الجيد الذي لا تتشوق لقراءته إلا بالمصادفة عندما تجد له قصيدة في مجلة أوجريدة ، وهناك الشاعر المبدع المحلق الذي دائما تنتظره على الجمر. طبعا يبقى الشاعر الأصيل دوما ينتظر القصيدة الحلم التي لم يكتبها بعد، كما قال ناظم حكمت..أجمل القصائد تلك التي لم نكتبها بعد، وقد ذكردرويش أنه يريد الوصول إلى آخر قصيدة، ليرتاح بعدها من همّ الشعر، ولكن يموت الشاعر وتبقى القصيدة تناديه وتناجيه، ويبقى مشروعه ناقصا، ثم يأتي من بعده لإكماله ..طبعا لا داعي لذكر نماذج من هؤلاء الأصناف من الشعر، فلا داعي لكسب عدوات مجانية..




س 20 - يقال: إن تَماهي المرأَةِ في القصيدة ، وتَماهي الشَّاعر في القصيدة ، المرأَة فيه إِثراء جماليّ باهظ للشّعر، يَمنح كلاهما طاقةَ جمالٍ استثنائي، دور المرأة بصورة الأنثى أو الوطن في جذب القلم و القارئ ؟ ولتكون ختام رحلتنا قصيدة لكل منهما ؟


ج 20 = في ظني أن الوطن والمرأة من أهم موضوعات الشعر قديما وحديثا، حتى أن الشاعر الجاهلي كان يبدأ نصه مهما كان موضوعه بوصف الأطلال والحنين إلى المرأة الغائبة الحاضرة، كما ترين ديوان الشعر العربي زاخرا بهما حتى أن السياب مزج مزجا رائعا بين الوطن والمرأة في قصيدة أنشودة المطر:

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحرْ

لقد ظهر شعراء تخصصوا في شعر المرأة والغزل من شعراء الغزل العربي في عهوده القديمة إلى عصرنا مع الأخطل الصغير ونزار قباني وأحمد رامي وأسماء أخرى كثيرة ..حتى على المستوى العالمي هناك ناظم حكمت وأراغون ونيرودا.. إلخ قيل:" كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه" وربما هذا يصح في الشعر، فلا يمكن تصور شاعر لا يعبر عن حبه للمرأة في مرحلة من مراحل حياته وشعره، وأنا كتبت الكثير من الشعر في هذا الموضوع، وربطت بينه وبين الوطن ولا سيما أن المرأة هي الوطن الآخرالذي تلوذ به كلما استبد بك المنفى، وجثم على صدرك بأنفاسه الثقيلة الكريهة..




ولايزال شاعرنا يغرق في عالم من التساؤلات يمتطي صهوتها بكل براعة ليوصل لنا ومن خلالها رسائله التي احتشدت الواحدة تلوى الأخرى لــتمطرنا معان و صور بليغة نقف أمامها في حالة ذهول حتى نقطة الختام لتتكون أبيات اكتحلت أهداب حروفها من سواد الواقع و تدثرت وجنتي صورها من القرمز ذات وجع .. لتكون كفة الوطن هي الرابحة .. لتغدو المشاعر قاحلة إلا من عشقه الذي لا تنضب روافده لذا كان البحث مستمرا عن طريق للوصول إليه ومن خلال العودة للبدايات كوسيلة لتطفَئ بعضا من لهيب المنافي .. و أجمل النهايات حين يكون الشعر النقطة الفاصلة بين كل دفقة إبداع وأخرى ويكون القلم النازف بالجمال هو قلم ضيفنا القدير الشاعر جميل داري :::


متى أتعلَّمُ نظمَ القوافي
لأطفئَ فيَّ لهيبَ المنافي
...
متى أتخلّصُ من ظمئي
بماءٍ بعيدِ المنالِ.. خرافي
...
أنا لستُ أطمعُ في وجبةٍ
فمنْ وطني أرتضي بالكفافِ
...
هل الفجرُ وقفٌ على الآخرينَ
وحظّي من الفجرِ عارٍ وحافِ
...
لماذا إذنْ لا أنالُ سوى
صدايَ يعودُ بصمتٍ زعافِ

...
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف