الأخبار
علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيلإسرائيل ترفض طلباً لتركيا وقطر لتنفيذ إنزالات جوية للمساعدات بغزةشاهد: المقاومة اللبنانية تقصف مستوطنتي (شتولا) و(كريات شمونة)الصحة: حصيلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 32 ألفا و490 شهيداًبن غافير يهاجم بايدن ويتهمه بـ"الاصطفاف مع أعداء إسرائيل"الصحة: خمسة شهداء بمدن الضفة الغربيةخالد مشعل: ندير معركة شرسة في الميدان وفي المفاوضاتمفوض عام (أونروا): أموالنا تكفي لشهرين فقطأبو ردينة: الدعم العسكري والسياسي الأمريكي لإسرائيل لا يقودان لوقف الحرب على غزة
2024/3/28
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الحلقة السادسة عشرة -أبواب الحرية تفتح من جديد بقلم: د.حنان عواد

تاريخ النشر : 2017-03-25
الحلقة السادسة عشرة -أبواب الحرية تفتح من جديد بقلم: د.حنان عواد
أبواب الحرية تفتح من جديد.            

ونتيجة لمنعي من السفر،توقفت دراستي في جامعة الأزهر، وانتابني الحزن الشديد،فكيف سأفارق القاهرة والجامعة،وكيف سيغيب عني القلم في جولاته الصوفية النصوص،وكيف تعبر لحظات الرحلة الى الجمود؟؟.

أكملت درجة الماجستير في الجامعة العبرية، وحزت على درجة امتياز.تم احتفال التخرج،وصعدت المنصة بكل كبرياء،لأنني كنت الطالبة الفلسطينية الوحيدة التي حصلت على هذه الدرجة.

ثم بدأت بتقديم الطلبات  لاستكمال الدراسة للحصول على درجة الدكتوراه.

قدمت لجامعتين فقط،جامعة اكسفورد في بريطانيا،وجامعة ماكجيل في كندا،وهما من أهم الجامعات في العالم. وقد حصلت على القبول في الجامعتين.

احترت كثيرا من أي جامعة أبدأ الدراسة ،ثم قررت أن أجمع بين الاثنتين.

لقد كان في قلبي معركة علمية وتدفق كبير يفوق حجم قدراتي،اضافة الى تحدي المحتل بالمعرفة،وتمنيت أن أخترق كل جامعات الدنيا،لأكون صوت فلسطين وصوت المنظمة النقي.

جامعة أكسفورد وماكجيل جامعات عريقة،مصنفة من أقوى الجامعات في العالم.

أعلمت أصدقائي بالموضوع،ابراهيم قراعين ألح علي  بعدم السفر،واستكمال الدراسة في جامعات الوطن والالتفات الى المستقبل ،وكذلك الصديق نواف شلبي الذي كان أخاعزيزا جدا ومقربا من العائلة،وعقدت العزم،وأظنني أغفلت مشاعر الآخرين.

حان موعد السفر،جهز لي والدي التذاكر والمخصصات،واستعد لأخذي الى المطار..

وفي تلك اللحظات ،وعند بدء نبض خطوات التحرك،بدت القدس في نظري جميلة جدا،عظيمة ،أسوارها تحمل عبق التاريخ،كل شبر منها يعادل الكون.التفت صوب البيت،صوب اخوتي،ونظرت الى أشجار الحديقة الغناء،وطالعت المسجد الأقصى،ومحيط المدينة.

خرجت والعديد من اخوتي نائمين،اقتربت منهم،قبلتهم،انسابت دموع قلبي..وصلت الباب الخارجي،عدت ثانية وثالثة،ثم أخذت مقعدي في سيارة والدي،وأخذت العجلات تدور،تطوي كف الظلام، توارت بيوت الحارة والشوارع التي ألفتها،

وبدت أمامي الشوارع العريضة الممتدة والموصلة الى المطار.اقتربت ساعة الصفر..وفي الطريق،التفتت أمي الي والدموع تترقرق من عينيها قائلة:" حنان،رسالتي اليك واحدة،حافظي على احترام ذاتك وكبريائك لآخر لحظة في حياتك"..عاشت هذه العبارة معي في نقش القلب والروح،ولم تغادر أبدا.

وصلنا المطار،وقدمت الأوراق اللازمة،وعند النداء الأخير، عانقت والدي،وقال لي والدي حينها،وفي عينيه تلتمع ملامح الأمانة التي حملني اياها،"حينما تلوحين بالوداع عندالمدرج لعبور الطائرة،تابعي المسير، ولا تلتفتي الى الوراء،تعلمي كيف تحققين الهدف الأسمى."

أدركت معنى أن يستدير المرء بوجهه في اللحظات الأخيرة،ليرى أعز الناس وهم يودعونه،قد تقع روحه في تأثير كثافة الوجدان،فتهبط الخطوات ثانية اليهم.

ما أصعب اللحظات وأنت تودع أغلى الناس على قلبك،لحظات قاسية جدا ،لا يستطيع قلمي تصويرها.حين عبرت غرفة نوم أخي الحبيب زياد،كان غارقا في نوم عميق،نظرت طويلا اليه،قبلته وغادرت الغرفة،وكأنما قلبي غادرني،ثم عرجت الى غرفة أخي رياض،فوجدته ينتظرني والدموع تنهمر من عينيه،قفزت اليه في عناق لا زلت أعيش وجدانية تلك اللحظات،يجلس قربه حائرا أخي الأصغر فؤاد،عانقني بحنان جياش،ثم اقتربت مني أختي الصغرى عالية،والتي كان عمرها ثلاث سنوات،تعلقت بي ،وأخذت تبكي وتقول:"ستحضرين لي هدايا كثيرة"،أما ناريمان فأصرت أن تأتي مع والدي الى المطار،وهي تعيش في أعماقي كزيتونة رومانية.وقبل ذلك كنت قد ودعت شقيقتي الغالية سوزان ،التي كانت متزوجة آنذاك.

الوداع شيء مخيف جدا،نعيش في خوف الفراق،وفي وشائج الذكرى التي تعتصر قلوبنا، وتطوف في أرواحنا.

ولشدة تعلقي بأهلي،حين وصلت كندا، كنت أتصل بهم كل يوم صباحا ومساء،وأتحدث الى والدي، أستأنس برأيه في المواقف الصعبة،وكانت رسائله لي تصل باستمرار،تمنحني الثقة والقدرة على المواجهة.وكذلك أخي الحبيب رياض أيقونة العائلة ورجلها بروحه الرائعة،روح الفنان والانسان،كان قلبي يحمله معي حيث أكون.

أقلعت الطائرة،وأقلع قلبي معها،وظلت دموعي أنهارا،بدأ الدوار الشديد،وتعبت كثيرا.

كانت الرحلة طويلة وشاقة،وصلت مطار مونتريال ،فاستقبلني أصدقاء من بيت لحم،الأخ سليم الزعبي  الذي كان بضيافة أخيه عيسى ،والذي هاجر الى كندا قبل عدة سنوات ..وكان استاذا محاضرا في جامعة بيت لحم.وبعد أن تماثلت للشفاء،ذهبت الى الجامعة،عرفت بنفسي، وحجزت في سكن الطالبات المحاذي للجامعة في القسم الخاص بمميزاته المكلفة،وابتدأ المشوار.

ذهبت الى كلية الآداب ومعهد الدراسات الاسلامية،حاولت أن أربط الاسماء التي وردت في رسائل القبول بالواقع،بدأت أتعرف على الأساتذة واحدا واحدا،الأستاذ أحمد أبو حاكمة،استاذ التاريخ الوهابي،رحب بي وافتخر بي قائلا:"لقد حظيت ماكجيل بطالبة ستكون فخرا للعرب".وقف معي،أخبرته عن طموحي ومخططي الدراسي في جامعة أكسفورد وجامعة ماكجيل،ولم يعارض،بل شجعني،ثم تعرفت على أستاذي المشرف الدكتور عيسى بلاطة،استقبلني بترحاب،وكان يعرفني من خلال كتاباتي المنشورة.ثم بدأت أبحث عن كل ما هو عربي،اتصلت باتحاد الطلاب العرب في جامعة ماكجيل،واتصلت بمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في أوتاوة،وفي جميع الشخصيات التي تحمل بعد فلسطين الكوني والسياسي..عبرت بحر السياسة جنبا الى جنب مع بحر العلم،.وقد انتخبت رئيسا لاتحاد الطلبة العرب في جامعة ماكجيل بالاجماع،مع عدد مميز من طلاب الماجستير والدكتوراه أعضاء الأمانة العامة.وكان الاتحاد فرعا رسمية للاتحاد العام للطلاب العرب،والذي كنا نشارك في اجتماعاته السنوية.

في المساء الأول على أرض مونتريال،سقطت دموعي بشدة،أحسست بالوحشة،وماجت أطياف ذاكرتي،لأراني في القدس،أستمع الى صوت الآذان،وأعانق أحبتي الذين فارقتهم.،ثم أصحو على ضربات الثلج على نافذتي.

وفي الصباح،اشتد الجليد،وابتدأت رحلة الروح في التدرج الواعي في خطى المعرفة.

عيوني تغرق اشعاعاتها في حروف مكتملة التقطيع،وحركتي غير العادية تتصاعد ما بين حروف قصيدة،حروف مقالة،كلمات جادة،وما بين رحلة الوطن في بحر التنظيم والسياسة..

في ذاك الأفق الرحب ،تجد حضوري الفلسطيني غالباعلى أي حضور آخر،فالمعايير والمفاهيم الجديدة صغتها في المحور الأساس.كان الزمن طويلا، استضاف على لوحاته الأولى رحلة المعرفة في دوائرها المعمقة،رحلة ثلج ومطر،

عذاب وتحد،دفء وحنان ووطن أحمل شموخه بكل خطواتي.

كان زمني المقدسي هو سر مفتاح التجديد في أبواب رحلتي الثانية،دخلت وجوه عديدة منزلي الكوني،فوارس أشداء،قامات عالية،صادقون عظماء،حاقدون،مفسدون،علماء.

اشتد عبير فلسطين في روحي،لتبقى في الوجدان،في الحلم والكلمة الملتزمة..كتبت على صفحات الجرائد،غردت على أجنحة السحب،وتألقت خطبي عبر منابر المناسبات الوطنية،وامتطيت فرس كبرياء يقتحم الصعب، ويقهر المستحيل.

عبرت من كندا الى مناطق عديدة في العالم،بنيت خيم الحنين الفكري في تلك الأقطار،ترك الزمان ملامحها في القلم وفي القلب،وفي كل موقع كتبت فيه وصية فلسطين.

ومن عمق الحنين،و أثناء دراستي في جامعة ماكجيل،كنت ارسل أشواقي يوميا عبر صفحات جريدة الشعب المقدسية تحت عنوان"رسالة كندا"، ارسم أشواقي وأخبار الموقع والاقليم الذي أعيش به،ثم امتد قلمي الى عمان،حيث كنت ارسل تقريرا اخباريا لصجيفة"الأخبار"الأردنية وفي صحيفة "الرأي"،كما كنت أكتب بانتظام بجريدة "العالم العربي"التي  كانت تصدر في كندا.

كما أنني حزت على تقدير مدراء الاذاعات العربية في كندا،والذين لم يتوقفوا عن استضافتي بحوارات حول الواقع السياسي العربي،والقضية الفلسطينية.

وخلال الفصل الدراسي،كنت أقضي معظم الوقت في المكتبة والمحاضرات المقررة،وخلال الاجازة، أحلق في عالم آخر.

في الاجازة الأولى من السنة الأولى،تلقيت دعوة الى زيارة الامارات العربية،حيث كانت شقيقتي الكبرى وزوجها تعيش هناك.

أعددت العدة،وسافرت الى هناك على متن الخطوط الجوية الهولندية،بجانبي جلس  شاب مصري ،عرفني بنفسه،وتحدثنا طويلا، وكلما أصابنا الملل نردد أغنية وطنية.

اتسم الشاب بالأخلاق وخفة الروح،وهو دكتور بالهندسة،تبادلنا الأرقام ثم افترقنا في أمستردام..ولما أقلعت الطائرة الى أبو ظبي،كنت بها بمفردي،غفوت قليلا ثم استيقظت ثانية.بدأت الطائرة بالهبوط الى أرض لم أعرفها من قبل،ولكن حرارة الدفء العربي تجذبني.

بدأت دقات قلبي ترتفع،لحظات،واستقرت الطائرة على أرض المطار.نزلت من الطائرة، وعبير الشوق يحملني الى أختي وزوجها،ورأيت حركات تلويح أيديهم عبر أمتار.تمت الاجراءات،وصلت اليهم بدفق عاطفي كبير،حتى أني نسيت موضوع الحقائب الذي تنبهت اليه وأنا خارج المطار لنعود ثانية.

بدأت أعيش تجربة جديدة على أرض عربية شامخة طالما حلمت بها، وشعب عربي أصيل.

عشت لحظات ارتقاء في دولة الامارات ،وهي في مراحل البناء.ما أروعها وما أرقى ناسها!،والتي تتشكل بها التعددية الثقافية،فهي مركز للثقافة ومرصد للاعلام وحاضنة للشعب الفلسطيني بروح الحب والأمان.وعدت اليها ثانية بعد مدة طويلة لأرى تقدما ملحوظا وحركة ثقافية مميزة.

أقامت شقيقتي حفل استقبال على شرفي،دعت اليه الكتاب والصحفيين والأصدقاء،وكان لقاء حافلا، تداولنا به حديث الوطن وروح الصداقة.بعدها ابتدأت اللقاءات الاعلامية على صفحات الجرائد،وفي الاذاعات والتيليفزيون،وغير ذلك.

وامتدت وشائج الصداقة والكلمة الملتزمة لتربطني بالكثير من الناس الذين ظللت أعتزبهم.قدمت برناج اذاعي هام"في دائرة الضوء"،وكنت ضيف الشرف في برنامج مسابقات دعيت اليه الفنانة الأردنية سلوى،كما تم عقد لقاء صحفي مطول في جريدة الوحدة ،وغيرها من الصحف،بالاضافة الى العديد من البرامج التيليفزيونية.

استمع الجمهور العربي بكل اعجاب ،وأخذت مقالاتي تنتشر أيضا في تلك الصحف.

وكما البدء يكون الانتهاء.اقتربت الاجازة من الانتهاء،ولا بد من العودة الى كندا لمتابعة الدراسة.جمعت ما استطعته من الكتب والذكريات القيمة والأفكار الحالمة والرؤى المستقبلية.أصابني حزن كبير لفراق ثلة من الأصدقاء،أعتزبأنني تعرفت عليهم،وحزن أكبر لوداع شقيقتي،أختي الحبيبة رسمية،كانت تكبرني بسنتين،وتحمل من العاطفة الشيء الكثير،اعتبرها أمي الصغرى.عيناها الخضراوان تعكسان عذوبة خصب فلسطين،تضيئان ذكاء وحبا.،وزوجها أحمد البياري،كان انسانا حضاريا،متقدما،ربطته بوالدي علاقة المحبة والاحترام،كنت أخاطبه "عمو"أو "اونكل"، رغم أنه كان شابا،وكان دائما يشجعني ويساندني،وكان الزمن آنذاك حافلا بعبق المحبة وتجليات الروح في ابتسامات وضحكات ودلال، تضفي على ساعات اللقاء بريقا لا ينطفيء..

بدأت الساعات تدق عقاربها،وصوت الطائرة وهي تقترب، يجذبني.تمتد يداي في التلويح لمجموعة الأصدقاء المقربين الذين جاءوا مع شقيقتي وزوجها لوداعي.

أبدا الرحلة ثانية،أجلس في المقعد،أتوارى،وتتوارى مع حركة الطائرة عشرات الصور وأيام اللقاء الحارة.

مرت ثماني ساعات ما بين الحلم والواقع،وصلنا مطار أمستردام، وكان لا بد من قضاء ليلة هناك(ترانزيت).

جهزنا معاملات الفندق،وجاءت حافلة الفندق لتنقلنا من المطار.كنا ثلاثة،أنا واثنين من افريقيا.وصلنا الفندق في عتمة الليل،فاستأذنت للذهاب الى غرفتي.وبعد عشر دقائق،دق جرس الهاتف:"حنان أنا أريد أن أراك"،قلت:"بالطبع سآتي بعد قليل الى الكافتيريا".خمس دقائق أخرى،دق الهاتف ثانية،انه الزميل الآخر، يدعوني الى فنجان قهوة.خرجت بعد دقائق الى العشاء وناديت الزميلين.

في صباح اليوم التالي غادر كل الى طريقه...عدت الى مونتريال وباشرت الدراسة،وبعد شهر،دق الهاتف ،وصوت الأخ المهندس المصري الذي التقيته في الطائرة في طريقي الى أبو ظبي ،يحييني.التقينا في المساء،وتحدثنا واستعدنا ذكريات،وتم بيننا التواصل الجاد..وبعد أيام رن الهاتف ثانية،فاذا بصوت ألأخ الافريقي يأتي من بعيد محملا بالتحيات،ووعد أن يزورني في مونتريال،وبالفعل حضر في عطلة الميلاد. استوقفتني كثيرا هذه الروح المحملة بالوفاء والارادة الذانية في رسم الحلم والعمل على تحقيقه..وأدركت أن الانسان بمشاعره الراقية يعلو دائما،فمن أي موقع،ومن أي جنس وأي لون،تلتقي القيم العليا، وتشكل علامات فارقة في روح الصداقة،ووحي الروح..

هذه التواصلات الانسانية وعهود الكلمة الباقية في عبير النفس تتجلى،رغم المسافات.

وفي اجازة نهاية العام،تلقيت دعوة من ابن عمي حمزة لزيارته وعائلته في مالطا،سعدت كثيرا بهذه الدعوة,,

سافرت الى مالطا عبر لندن الى أن وصلت هناك.كانت مالطا في ذلك الوقت بسيطة جدا،بها تضاريس شبيهة بفلسطين،ولم أدر بأنني سأزورها  بعد سنوات،لأجدها قد تقدمت كثيرا،وبشكل مغاير تماما.

عرفني ابن عمي على الجالية الفلسطينية،وزرت السفارة،وأقام على شرفي حفلا كبيرا دعى اليه أعضاء السفارة والجالية الفلسطينية وعدد من الليبيين.

بعد اسبوع،عدت الى كندا لمتابعة الدراسة.

عدت ثانية الى المدينة التي أحببتها،وتابعت دراستي.

مونتريال،مدينة متعددة الثقافات واللغات،اللغة الفرنسية والانجليزية،بالاضافة الى لغات الجاليات المتعددة،وبها ديمومة حركة غير عادية.تابعت نشاطي الجامعي وكثفت نشاطي السياسي،وقمت بعقد ندوات سياسية متعددة..

وفجأة،يضج التلفاز بحدث لا يمكن تصديقه ،وكأننا نعيش أساطير الأولين ،انه قرار الرئيس السادات بالذهاب الى القدس ،في محاولات بناء علاقات سلام مع المحتل .كان يوما مفعما بالسواد،وبالردة والارتداد.،وكانت المفاجأة قاتلة.،والصدمة صادمة لكل أفق نضالي مرسوم.

كان في المعهد تليفزيونا خاصا في قاعة الجلوس،المكان الذي يلتقي به الطلاب بأساتذتهم.صدمتنا المشاهد والتقارير،كان معنا عدد من الطلاب المصريين الملتزمين،أخنا بالبكاء أحيانا،وأحيانا أخرى نحاول تفسير الموقف ،ولا ندري أين نقف!ونتابع البكاء بوجوه باهته لنتساءل:"ما هي نتائج الزيارة وآفاقها المعلنة وغير المعلنة،وأين القضية الفلسطينية مما يجري؟؟،تكبر الأسئلة وتمتد فيضيع الجواب..

نعود الى الذات في تآكل بطيء ،يرسم ملامح اليأس على الوجوه.

وبعد الصمت المغطى بالدموع،بدأنا بتنظيم مظاهرات احتجاجية ونحن في الأصقاع النائية،نطالع وجه العروبة فنراه مغبرا..الانتكاسات تتلاحق في أجواء منزوعة الطمأنينة،مبهمة الأمل.

تبع زيارة السادات مفارقات كثيرة واحتجاجات،وتشكيل جبهات رافضة لكل ما يجري..وظل صوت منظمة التحرير الفلسطينية ينطلق من خلف الرماد، عله يضيء شيئا من الأمل للمنتظرين.

وفي أحد الأيام،اتصل بي الأخ عبد الله عبد الله،ممثل منظمة التحرير في كندا،يعلمني بأن ضيفا قادما من لبنان،من الحزب الديمقراطي المسيحي،هو ميشيل غريب،وعلينا ترتيب ندوة له .أعلمت الشباب،وطلبت منهم حجز غرفة تتسع لمائة شخص،وقد تم ذلك.وقبل الندوة بساعتين،حضر الأخ عبد الله عبد الله برفقة الضيف الى السكن ،والذي كان على بعد أمتار من القاعة،رحبت بهما،وجلسنا ننتظر الموعد.وبينما نحن جالسون،اتصل الأخ سعيد هيفا ،والذي كان عضوأمانة عامة بالمجلس،يعلمني بأن القاعة تعج بالحضور،ولم تعد القاعة تتسع،استغربت،وطلبت منه أن يستأذن أمن الجامعة لفتح الكافتيريا التي كانت تتسع لأعداد كبرى،وافق الأمن،وامتلأت القاعة أيضا.

خرجنا ثلاثتنا متوجهين الى جامعة ماكجيل ،والى القاعة،وبينما نحن نصعد الدرج المؤدي الى المكان،جاءت مجموعة من الشباب اللبنانيين،وطلبوا أن ينفردوا بالضيف، فرفضت. احتسابا واحترازا.ولما وصلنا القاعة،فوجئنا بأعداد هائلة تنتظر.

أعلن عريف الحفل بدء الندوة،وقدمني لأقي كلمة المجلس.وقفت أحيي الجماهير المحتشدة ،فلم يسمع صوتي،ووقف مجموعة من الشباب اللبنانيين ينشدون النشيد الوطني اللبناني دون استئذان،وشوهدت نساء يحملن سكاكين .طلبت من الأخ قصي سمك،نائبي في المجلس، أن يدير الندوة،قدم الضيف،ثم وقف الضيف مرتجفا يتصبب عرقه،خاطب الجماهير بلغة سياسية هادئة،ثم تحدث عن الوضع في لبنان،وعن الوجود الفلسطيني،ثم عرج على السوريين،وبينما هو يتحدث،نفاجأ بمجموعة من الرجال يتقدمون صارخين:"لقد قتلوا أمي،وقتلوا بيي،وتقول ان لهم حق مشروع للبقاء في لبنان"؟،كان أحدهم يحمل سكينا حادا متوجها الى الضيف.وبلحظة كالحلم،وجدنا الطاولات والمقاعد تتطاير،واشتد الخوف على الضيف ،وشعر بالخطر،وقال وهو يرتجف:"دخيلك يا حنان"،قلت له:"لا تخف وراءك رجال".انتابتني في تلك اللحظات شجاعة غير عادية،وشعرت أن علي لزاما حماية الضيف.كنت أرتدي آنذاك معطفا طويلا شبيه بزي "دراكولا"،سارعت وخبأت الضيف تحت المعطف،وسرت بسرعة باحثة عن مكان آمن للتواري..كان الضرب والقتال مستمرا بين الأطراف المتعددة،نتج عنه اصابات خطيرة،وكان يساندنا في ذلك الوقت الشباب الايراني.

كان معي الأخ فرج رزق منسق المنظمة وممثل حركة فتح في مونتريال، وهو طبيب ملتزم،كلما التقينا كان الرئيس أبو عمار محور حديثنا،اسرعنا الى باب قريب،دخلنا به،فاذا هو مطبخ كافتيريا،ومن شدة خوف الضيف ،اختبأ في غرفة الحمام التي كانت في آخر المطبخ.

بدأ الطرق على الأبواب،وقفت خلف الباب بكل قوتي الى أن استقر الهدوء. جلسنا طويلا، ونحن لا ندري ماذا نفعل .خشينا ان خرجنا أن يكون أحد يترصدنا ..امتدت الحيرة والقلق ،فاذا بالأخ فرج يقفز فرحا، وهو ينظر الى الأعلى ، فقد لاحظ هاتفا معلقا في السقف ،والسؤال ،كيف يمكن أن نصل اليه؟؟

كان هنالك كرسي صغير ولا يكاد يكفي ليمكننا من الوصول الى الهاتف..بحثنا عن أدوات أخرى مساعدة  كأدوات الطبخ الضخمة.صعد الأخ فرج على الكرسي والأدوات التي يحملها،فأخذت تتحرك ،وخشينا السقوط، فأسندته على كتفي التي كادت أن تتكسر الى أن وصل الهاتف.

اتصل بالشرطة الفرنسية التي استجابت ووعدت بالحضور الفوري..والسئوال كيف سيهبط فرج من ذاك العلو؟؟ سؤال قد تكون اجابته صعبة..نظر الي، فاذا به يقفز ويسقط أرضا،والحمد لله نهض بخير..وصل خمسة من رجال الشرطة،فتحوا الباب وأخرجواالضيف من الحمام، وهو يرتعد.وقد أعجبت الشرطة بأسلوب الحماية الذي انتهجناه.و قالوا:"هذه أمور داخلية بينكم كعرب ،لا يمكننا التدخل بها".ثم أوصلونا الى الفندق باحترام.

وحينما أقلتنا السيارة،وجلس الضيف في المقعد الأمامي،وشعر بالأمان،جلست أنا والأخ فرج في المقعد الخلفي،تابعت الابتسام والتعليق -وكأن شيئا لم يكن-فالتفت الي الضيف قائلا:"محظوظ من سيرتبط بك،ستغطي حياته بالياسمين،تبتسمين في أحلك الظروف،ما أجملك".توجهنا الى الفندق،وكان الأخ عبد الله عبد الله بغاية القلق،وكذلك الأخ فادي مدرس،ممثل حزب البعث،يدور في باحة الفندق في حالة قلق لا تصور،وحينما رآني انفرجت أساريره،كان يرتدي قميصا أحمر اللون،مميزا يلفت النظر،حدثتهم بالتفاصيل وانتابنا الضحك الجنوني،ونظل نضحك كلما نلتقي، ونتذكر تعليقات الضيف المكرم.وفي اليوم التالي،تابعنا البرامج الاذاعية والتيليفزيونية المقررة للضيف..ثم ودعناه سالما.كان الأخ سعيد هيفا وعدد من أعضاء المجلس قد اصيبوا في المواجهات.

انتهى الحدث،وتابعت دراستي،وتعلق فادي بي، وازداد اهتمامه بي،وظل يزورني، وكان يعلن على الملأ مدى اعجابه بي ،وهو شخصية مميزة بحضورها الروحي والسياسي،كان يبذل جهدا كبيرا للعمل الوطني،ولم يتوقف عنه يوما.وهو مثقف الى أبعد الحدود،ويمتاز بخفة الروح  التي تضفي عذوبة على الجلسات الشخصية والعامة.أكبرت فيه موقفه الجاد في بناء الصداقة الحميمية التي ربطتنا.وظل عازما على الارتباط الرسمي ،بتشجيع الأخ عبد الله ،والذي كان يحترمه كثيرا.

الأخ عبد الله عبد الله،ممثل منظمة التحرير في كندا،شخصية محبوبة عالية الالتزام،هاديء الطبع،مثقف،يدرك بعمق دوره السياسي ومهامه،حريص على فلسطين ورسالته التي يحملها،ربطتني به علاقة وطيدة،وكذلك بزوجته ياسمين.

ظل يوجهني،ويقف معي في أي نشاط أقوم به.وظل نشاطي في كندا منطلقا من روح انتمائي،ومن روح المسئولية السياسية والدراسية بدعم وتشجيع ومساندة الأخ عبد الله،الذي ظل مرجعيتي التنظيمية والسياسية وحتى العائلية حتى الآن.

 

امتدت الأيام في العمل السياسي والمسئولية الدراسية،وانشغلت كثيرا،وغاب فادي عن ذاكرتي في فوضى الانشغال في وطن ومستقبل.

وفي ديسمبر من ذاك العام،قدمت لي دعوة من السفارة العراقية للمشاركة في مهرجان الشباب الذي سيعقد في بغداد،وقد استشرت الأخ عبد الله، فشجعني كثيرا على المشاركة ،فقبلت الدعوة.

سافرت الى بغداد ةلأول مرة برفقة محموعة من الشباب العرب،واستقبلنا رسميا وشعبيا،وهناك التقيت الرئيس صدام حسين طيب الله ثراه،لأول مرة..حيث خاطبنا بالمؤتمر، ورعانا رعاية الأب الحاني،بعدها تم تنظيم زيارات  ميدانية هامة،رافقنا بها شاب سوري دمث واسمه دريد.كان لطيفا جدا،وشحني بالرعاية والاهتمام.

وفي أحد الأيام،استأذنت لأذهب الى الكوافير،وكان المكان قريبا من الفندق،غسلت لي السيدة شعري،واذا بها تصب على رأسي ماء باردا قارب من الصقيع،أحسست بأن هذا سيوقعني في مرض في هذا الطقس الشتوي.

عدت الى الفندق لمتابعة البرنامج في اليوم التالي،ولما سرت في بهو الفندق،واذا بفادي يجلس مع مجموعة من الرجال،ولما رأيته،سعدت برؤياه،وبدت على وجهه علامات الفرح غير العادي،ثم قال لي:"استعدي لأعرفك على بغداد."أخذني بالسيارة،وكان وجهه مضيئا،زرنا أماكن عديدة،وتناولنا طعام العشاء على شاطيء دجلة،ثم شعرت بالارهاق فجأة،أعادني الى الفندق،وفي منتصف الليل،شعرت بدوار وألم شديد بالرأس،وارتفعت حرارتي الى درجة عالية،فاتصل المنظمون بالطبيب لمعالجتي،ولما علم فادي بالأمر،صعق،وطلب من ادارة الفندق السماح له في الجلوس في الغرفة لرعايتي.ونظرا لثقتهم العالية به،وافقوا على ذلك.

استبد الظلام وطاف الألم،وكنت ما بين الوعي واللاوعي.أخذت أهذي،ثم التفت الى فادي قائلة:"هيا نلعب التنس"،فاغرورقت عيناه بالدموع،أحس بالخطر الصحي الذي يحيط بي،وكأنها علامات الفراق النهائي.

ظل قرب السرير لم يغمض له جفن،وأنا أغفو ثم أصحو،وأتمتم،وهو جالس أمامي بقلق شديد،الى أن أشرق وجه الصباح.أخذت الوفود تستعد للتجمع ومتابعة الرحلة،وكان وضعي الصحي سيئا جدا،ازداد ارتفاع الحرارة وأصبت بالغثيان.

أصر المنظون أن أظل تحت رعايتهم، وأن لا يتركوني في الفندق لوحدي.ـتم استدعاء سيارة اسعاف،سارت بي وأنا في وضع أكثر من صعب،والغريب أنني رغم الألم والدوار،أبتسم،فقال لي الطبيب المشرف:"ما أجمل الابتسامة في ظل الألم"!،ثم تابع:"هلا أسمعتنا شعرا"،ابتسمت واعتذرت.

سارت سيارة الاسعاف تطوي المدينة في طريقها الى البصرة،حسب البرنامج،وطول الطريق كان السائق يردد صفارة الانذار:"معانا مريض،توجه صوب اليمين،معانا مريض،الى اليسار".

سارت سيارة الاسعاف ساعات طويلة، حسبتها أياما،بل قل سنوات،وحينما وصلنا حاولت النهوض فكان صعبا،وصرت أعد الساعات للعودة.

عدنا الى الفندق بعد رحلة طويلة مضنية،وهناك وجدت فادي بانتظاري،وبعد يومين،تحسنت صحتي وتابعت البرنامج.وبعد انتهاء البرنامج الرسمي،كان فادي يأتي ،ويأخذني يوميا الى أحسن المطاعم وأرقى المقاهي  والمتاحف،  وأماكن عديدة أخرى،ما كنت لأعرفها بمفردي .ومن  كثافة البرنامج ،كثرة المطاعم والمقاهي التي زرناها،أطلق علي لقب "فاتنة المقاهي "،وضحكنا كثيرا، وظلت الكلمات والضحكات كلما التقينا،تصيغ جوا من الفكاهة والمرح ،الذي لم يغادر،رغم عبور السنين.

امتدت اللقاءات الرسمية والشعبية،وتشابكت العلاقات الانسانية في ظل فرح شباب وحركة فكر.أدهشني الكرم والحفاوة التي استقبلنا بها،وأحزنتني عدد الخراف التي تم ذبحها لأجلنا،حدثت نفسي:"أليس الشعب العراقي هو الأحق."؟

وتجلت بغداد في أفق الصباح والمساء عروسا مزهرة الربيع،توزع الهوى العذري في قلوب العاشقين،وتجمع أرواح الثائرين في فضاءات الالتزام الواعي،في محاولة لاستقطاب فوارس للهوى السياسي بمواقف الرجولة.

وفي نهاية البرنامج،تم تنظيم حفل ختام،اجتمعنا خلال الحفل بكبار القادة والسادة،وتم توزيع ظروفا مختومة لكل عضو من أعضاء المؤتمر،وكأنني أدركت ما بداخلها،ولما اقتربت مندوبة حزب البعث،اعتذرت عن امكاني قبول الظرف،وشكرتها على جمالية البرنامج،وحسن الضيافة والرعاية.

وكأنما موقفي هذا كان مستفزا ومدعاة للتساؤل،خرجت السيدة بأثواب عدم الرضى،وكأنها اتصلت  بالمسئولين،وعادت الي ثانية تحمل الهبة،رفضت للمرة الثانية،سألتني:"لماذا؟ وكل أعضاء الوفد تقبلوا الهدية،فلماذا ترفضين؟؟،أجبتها بكل دبلوماسية:"ان تقديري لجهودكم أسمى وأكبر من أن أحمل شيئا ماديا،والروح المعنوية التي حملتها من الزيارة تفوق كل الاعتبارات".

ودعتها،وفي صباح اليوم التالي،جاءت لحظة السفر،لوحت لبغداد بروح الحب والافتخار،وبروح الالتزام بثورتي الفلسطينية،بحركة فتح وبمنظمة التحرير،وصورة القائد الرمز ياسر عرفات التي لم تفارقني.

ومرت السنون،وتسارعت عجلات الزمن لألتقي بغداد فيما بعد كشاعرة معروفة،تشارك في المهرجان الشعري المميز"ألمربد"،ومن خلاله تشابكت حبال المعرفة لبغداد الثقافة،لبغداد الانسان التي تخط حروف المجد على ساحات دجلة وعلى تنهيدات الفرات،وكلما عبرت بي الذاكرة الى هناك،الى الحركة الدائمة بتجميع الأدباء والمثقفين من جميع أنحاء العالم،وانطلاق قصائدهم،والجلوس في أرض القداسة والكرامة والكرم العربي الأصيل،أشعر بالحزن،ويظل السؤال:"كيف تتجرأ أمريكا،والصمت يدور من حولها"؟.

تكريم المبدعين رسالة أكدها الرئيس صدام حسين،والذي كان يشكل آنذاك -اضافة الى كونه زعيما متفردا ورجل موقف -كان يكرم الأدباء والشعراء، ويلتقيهم لقاء الأب،وكانت العراق مركز العروبة،وتجمع لأطياف الفكر والسياسة،ومنشأ الفكر القومي الذي اختطه الزعيم جمال عبد الناصر،وكانت أيضا الأم الحاضنة للثورة الفلسطينية.على أرضها،وتحت سمائها، وكانت دائما أحلامي ترتقي بارتقاء ترابها. كنت أشعر بأنني في رعاية الأهل،والرعاية كانت على أقصى الدرجات.كان كل شاعر يشعر أيضا، أنه الأوحد في المعادلة الثقافية،وهذا اللفيف المميز من الشعراء والأكاديميين العراقيين،وهو يلتقي بكبار شعراء العالم في لحمة تواصلية تفوق التصور-كان علامة متميزة من علامات بغداد.

الى أن رسمت المؤامرة،وامتدت الى عمق العراق،وغيبت عنها سلامتها،وتشنجت وداعتها، وحوصرت،وحوصر الانسان العراقي ليعبر زمن القهر...يشتد الحصار على رجال الأمة،ولكن الصبر كان يشع من عيون الشعب الصامد،مسارات كثيرة ومواقف متعددة،ويظل الحلم والدعاء،" بأن يحفظ الله العراق."

 واستمرت المؤامرات والتطاول على العراق،الى أن تجلت المؤامرة بأقصى وأقسى صورها.ولا أدري الكيفية التي صمم من خلالها الرئيس صدام دخول الكويت،واستنهاض العالم،لتتكاثف الوفود تباعا في تضامن مع العراق،ومحاولات طرح الحلول،وانقسم العالم العربي ما بين مشارك في الحرب ضد صدام ،ومابين داعم بقوة لموقف العراق .ولكنني فزعت حينما علق والدي على الأحداث قائلا:"نحن مقبلون على كارثة"،وهي كذلك .كان الرئيس الأمريكي بوش الأب دائم التهديد والوعيد،ثم جاء خافيير دي كوايارفي محاولة أخيرة للتدخل، مطالبا الرئيس صدام حسين بالانسجاب الفوري من الكويت،والذي رفضه صدام.

وقد وقف الرئيس ياسر عرفات مع روح شعبه وساند صدام،فدفع الشعب الفلسطيني في الكويت ثمنا باهظا.وابتدأ التدهور السياسي يأخذ مداه،واستمر المخطط الأمريكي بتقسيم العراق، واستغلال النفط،،واشتدت الجرائم.

ولما وقف الرئيس صدام مصمما على ضرب اسرائيل،بترديد جملته"ما أحلى النصر بعون الله"،قفزت روح الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة، بتشابك نوعي مع العراق،وحينما كان يطلق صاروخ عراقي باتجاه تل أبيب،كنت ترى الشعب المقهور على أسطحة المنازل في منتصف الليل، وعند شروق الفجر، بتهاليل وتكبير.

أذكر أننا كنا لا ننام بانتظار الصواريخ،وكان أخي رياض يترصد مع جار له واسمه فطين،يتابعون الأحداث،والأمل ينبعث في الروح.وسيطر الموقف على الناس ،حتى أخذوا يحلمون و يصيغون الأساطير ،وحتى الخرافات،بأن صدام بيننا ونراه في القمر،والغريب أن المتعلمين حملوا هذه الفكرة!كنا نشعر أن المجد العربي فتح أبوابه ثانية،وأن النصر قريب.

وكانت الهزيمة،والتي تضاف الى هزائمنا القاتلة السابقة،وما أصعب النطق بهذه الكلمة،وما أصعب ما مرت به العراق!وما أقسى الزمن ،وأنت ترى الدول الشقيقة تلقي بأطنان القنابل على دولة عربية،وليست كأي دولة!وما أصعب المشاهد اليومية في القتل والدمار!والحصار الجائر الذي فرض على العراق.

ورغم كل المصائب،فان وجود صدام حسين كان حماية لشعبه في ذلك الوقت،وحتى الآن.

اشتد عشقي للعراق وللأيام الماضية التي عشنا بها،وكثيرا ما تحاورت مع الرئيس عرفات عن العراق،وماذا علينا أن نفعل.

كلفني الرئيس عرفات بالتوجه الى العراق، لتمثيله في مهرجان التضامن مع شعب العراق وفلسطين،سعدت جدا بهذا التكليف،أعددت العدة وتوجهت الى هناك بأول طائرة تحلق في سماء العراق خلال الحصار الجائر.شعرت بالحصار وصعوباته في المطار،وأصابني حزن كبير على ما وصل اليه الحال.كان مندوب المؤتمر ومندوب السفارة بانتظاري،ثم.توجهنا الى فندق الرشيد.

افتتح المؤتمر،وقدمت كلمة فلسطين،وتم ترتيب زيارات خاصة لي لمقابلة طارق عزيز والصحاف ،وعدد من الوزراء،وغطى الاعلام تفاصيل الزيارة..ثم غادرت العراق،وعدت الى فلسطين وقدمت التقرير الى الرئيس عرفات،وبينما كان يقرأ،كانت ملامح وجهه تتغير،لتقفز الدموع من عينيه قسرا.وبعد أشهرتلقيث دعوة للمشاركة في مهرجان المربد مع وفد من الشعراء الفلسطينيين،أذكر منهم شهاب محمد،المتوكل طه،محمود أبو الهيجا وسليم النفار.ذهبت الى هناك،وعشت في العراق عدة أيام ما بين الذكرى والواقع،وعلى شواطيء الحنين في دجلة،.كانت الأيام شاحبة،صامتة،وروح الشعب العراقي منسوجة بالأحزان.حاولنا أن نعيش التجربة القاسية في بغداد،والتقينا بناسها،وبحثنا عن كتابها الذين نعتز بهم،فوجدنا الكثيرين قد غادروا.

وفي شهر نيسان من نفس العام،سافرت الى العراق ثانية لأمثل الرئيس عرفات في احتفالات عيد ميلاد الرئيس صدام حسين،وكأنني بهذه الرحلة،أودع الرئيس صدام وأودع العراق.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف