
الكرامة والأرض
الدكتور : سلطان الخضور
أي قدر هذا الذي جمع الارض والكرامة ,
وجعلهما مناسبتين ملتصقتين في حدود المكان ، متقاربتين في حدود الزمان ,لا تفصل بينهما الا أياما معدودات.
فقد كانت الأرض وما زالت صنو الكرامة , فلا يكاد المرء ينتهي من الغوص في معاني الكرامة ، إلا ويجد نفسه مضطراً للغوص بالأرض وما يتصل بها من معان . يلتصق المعنيان ، معنى الكرامة ومعنى الارض , التصاق الروح بالجسد ، حتى لا يكاد يفصل بين المعنيين فاصل . فحينما تاقت الأرض للكرامة , على أرض الكرامة لبت الكرامة النداء .
والكرامة الارض على مقربة من هنا ، هي جزء من أرض الحشد والرباط ، بقعة من الارض افترشها المجد ، في الحادي والعشرين من آذار عام الف وتسعمئة وثمان وستين ، افترشها المجد , وحط رحاله على أرضها , فابتسم التاريخ مرحبا , ورسم المجد على أرضها ملحمة عنوانها الكرامة ومكانها الكرامة , فجاءت الكرامة المعركة على أرض الكرامة لتجدد للأمة معنى الكرامة .
سجل التاريخ يوم الكرامة , بأحرف من نور, وارتوت الأرض " أرض الكرامة " بدماء شهداء الكرامة ، فغرست شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، أعطت أكلها في ليلة وضحاها ، أعطت ثمراً طيبا ، لا يتذوق طعمه إلا من تاق إلى الحرية وأدرك معاني الانتصار.
والكرامة الزمان على مقربه من التاريخ الحديث، تسعة أشهر مرت على واحدة من الهزائم في التاريخ العربي ، هي فترة الحمل والميلاد ، حملت العروبة الكرامة بعد هزيمة حزيران , حملتها في تموز وانجبتها في آذار , أنجبت المجد الذي أبى إلا أن تكون الكرامة أرضا لمولده ، نجح المجد في اختيار المكان حين اختار أرض الكرامة , وكأني به يأبى إلا أن يكون على مقربة من أضرحة الصحابة الأجلاء . وكأنى به يأبى إلا أن يكون ملاصقا لأرض فلسطين أرض الإسراء والمعراج .
وكما نجح المجد في اختيار المكان , نجح في اختيار الزمان ، فاختار آذار ليقول : حملتني أمي بعد الهزيمة في حزيران ، وها أنا اليوم على أرض الكرامة , أجدد سفر الانتصار.
والكرامة المعنى ، ولدت حين ولد حرف الضاد ، فكانت الكرامة مفردة من مفردات العرب تعني العزة والفخار . قيمة معنوية , وحق طبيعي وهبه الله للإنسان حيث كرمه على العالمين.
وتعمق المعنى حين بزغ فجر الإسلام . فالكرامة المعنى ... جدار صلب يبنى على اساس سليم , يبنى على أساس الفهم لمعاني الحرية والمسؤولية والامانة والصدق وحب التضحية والعزيمة والإباء . مفردات حملتها العربية وعززها الإسلام ، مفردات تجذرت في الذهن العربي وجاءت على عجل حين استدعتها الكرامة الموقعة .
فكان للكرامة الموقعة , السبق في تجسيد وتعميق حالة جديدة على التاريخ الحديث . حالة جسدها الفعل لا القول ، أنجبت الكرامة نصرا صنعه الأشاوس من الرجال , فأنجبت الكرامة من جديد مولودا يعشق حالة الوحدة ويكره حالة التوحد ، فاختلط الدم بالدم, وجددت الكرامة الحياة على ضفتي نهر الأردن . حالة تقوقعت أمامها كل دعوات اليأس والانكسار ، حاله فريدة بعثت في الأمة الحياة .
فالكرامة المعركة , موقعة سطرت كل معاني البطولة والإباء ، نسخة جديدة من إحدى معارك الإسلام ، فئة قليلة مجردة إلا من الإرادة , وما خف من السلاح ، تغلب فئة كثيرة بكامل عدتها وعتادها مدججة بكل انواع الأسلحة ومأللة بأحدث الآليات ,إلا من الحق . وكأني بأبطال الكرامة , يستحضرون مؤتة . فتلبي مؤتةنداء الكرامة على عجل لتجدد التاريخ . وتحلق في سماء الكرامة ارواح الشهداء ، لتكون مظلة يستظل بها من آمنوا بربهم وبأرضهم وبالتاريخ .
واعطت الكرامة المعركة درسا في العلوم العسكرية . درسا كان عنوانه " الإرادة تتحدى العدة والعدد ". و تحدت الكرامة واحدة من أعتى القوى الموجودة على الارض , فحققت النصر على عدو الكرامة الزمان والمكان والموقعة والمعنى .
واستطاعت الكرامة الموقعة ، أن ترسم على أرض الكرامة ، خطين متعاكسين ، كتب على واحد منهما الوعي وما يمثله من أيمان بالأمة ومقدراتها , وعلى الخط الآخر اللاوعي وما يمثله من اليأس والإحباط ، فخاض الوعي واللاوعي منذ ذلك الحين صراعا مريرا , فالوعي يؤمن بأن النصر تصنعه إرادة الرجال ، فبذل كل جهده ليستوطن في أرض زرعتها الإرادة وسقتها سواعد الأشاوس من الرجال . والوعي كما نعلم , يكفر بكل معاني الفرقة والتشرذم والتمزق . وبقي اللاوعي منذ ذلك الحين يتربص بالوعي ، متناسيا أن الكرامة المعنى شهدت ولادة الوطن , فاندحر اللاوعي وتأبط خيباته وارتد على عقبيه , كما ارتد على عقبيه ذاك المعتدي المدجج بالسلاح .
اما الارض فقد اعلنتها الف مرة ومرة ، انها لن تتحدث الا لغة الضاد ، وأنها أحبت من العربية كل الضمائر , المتكلم والمخاطب والغائب , وآمنت الأرض أنها جزء من انا وانت , ونحن وانتم, وآمنت انها جزء من انتما وانتن وهما وهم وهن وتلكم وتلك وتلكما .
والأرض اذ احبت من لغة الأمة ضمائرها , كرهت في الأمة ما مات منها وما اعتل . وكرهت الأرض من علم النفس " الانا " ما علا منها وما دنا ، فالأرض كما نحن , تعلم علم اليقين ان وجودها مرتبط بالعطاء , وقد علمتنا الأرض أن العطاء كما الحب لا يمكن أن يكون إلا من الطرفين .
وتستحضرني كلما تذكرت الأرض وعشقها , صورة فلاح يدرك معنى الانتماء للأرض , فلاح بسيط , جاء الأرض مع بزوغ الفجر فشمر عن ساعديه , وخلع نعليه , وأنخرط يمارس مع الأرض عشق الوجود . فبادلته الأرض عشقا بعشق . فلاح خلع نعليه لأنه يأبى أن تفصل بينه وبين الأرض قطعة من الجلد تسمى حذاء.
وعلمتنا الارض أيضا , ان هناك حالة ارتباط عميقة , ما بين الوانها والوان البشر . فكما أن ألوان تربتها , تمتد بين الاسود والابيض ، وما تشكل بينهما من الوان , هكذا لون بشرة البشر , تتوزع على مساحات بينهما ، لتثبت صحة حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم " كلكم من آدم وآدم من تراب ". وهنا يكمن سر ارتباط الانسان بالأرض , وحملت الارض على ظهرها كل شيء، وكل البشر وكل ما يسقط من السماء . وحملت في باطنها معاني الخير والعطاء . فلم تتمنع , ولم تمنع عمن أحبها , تأخذ جهدا بسيطا , وتعطي كل شيء .
وما الأرض التي تعطي من سطحها ومن جنباتها ومن باطنها , الا جزءا من أرض العروبة والإسلام , وما الكرامة المكان والزمان والمعنى والمعركة إلا جزءا من تاريخ العروبة والإسلام .
وما كلتاهما الأرض والكرامة , الا مفردتين مرتبطتين بأردن الحشد والرباط .
وتستحضرني وتحضرني وأنا أتحدث عن الأرض , رائحة التراب ...حين تتساقط حبات المطر , تبلل حبات المطر ذرات التراب ، فتنبعث رائحة الأرض عبقة زكية .
وتحضرني أيضا وأنا أتحدث عن الأرض رائحة التراب بعد الحرث ... حين يقلب المحراث التراب, تنبعث رائحة ، رائحة لها نكهة خاصة , رائحة مميزة...لا تقترب من أي رائحة , ولا نستطيع أن نقول عنها إلا أنها رائحة الأرض أو رائحة التراب , رائحة يتوق كل الذي قوى علاقته بالأرض والتراب إلى شمها ، رائحة أشعر أنا شخصيا أنها مزيج من كل مكونات النباتات والزهور التي تنطلق من باطنها لتعانق فضاءاتها , وتعزف الحانها , على وقع نسمات عليلة لا يستمتع بها إلا عاشقها .
" لا يستمتع برائحة التراب الا عاشق الأرض وعاشق التراب. "
رائحة التراب , يشتمها كل من اقترب منها ، الا أن وقعها , وتأثيرها على النفس , ودرجة التأثر بها , ومدى استفزازها لأنوف الناس أمر نسبي ، يختلف من شخص لآخر، وما يتحكم بالموضوع هو أمر واحد , وواحد فقط ، فلا يرتبط تأثيرها بالفقر أو الغنى أو اللون أو الجنس أو الموقع أو الجاه أو غير ذلك من مفرقات البشر، بل ما يتحكم بالموضوع هو مقدار ارتباط الشخص بالأرض وبتربتها , ومدى قربه منها وبعده عنها ، فمن يمشي على مقدمة قدمية , لا يشعر بها , بقدر فلاح أصبح ترابها جزءا من مكونات قدمية , ودخل طينها شقوق كعبيه ، فرائحة التراب , تلتصق بمن يحبها , وتتعالى عمن يتعالى عليها , فتعاقبه بحرمانه من عبيرها , ولا تعطيه الا بقدر محبته لها.
" تحب الأرض من يحبها وتكره الارض من يتعالى عليها ."
وحكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت , أن تكون بداية الحياة على التراب ، وأن تكون نهاية الحياة في التراب. وحتى الرزق الذي تجود به السماء يلتقط من فوق التراب , ومن تحت التراب و من بين ثنايا التراب . والنبات الذي نأمل أن يأتي أكله بعد حين ، نغرسه أو نبذره أو نزرعه في التراب فيخرج إلينا ثمرا متعدد المذاق , ومتعدد الروائح والألوان ، وكأن هذا كله يمتزج في باطن الأرض , ليعطينا رائحة لا تحسب على أي منه منفردا , وإن ساهم في تكوينها فنستمتع بها وكأنها خلطة من هذا وذاك .
حين تختلط رائحة التراب برائحة المطر ، يختلط عطاء السماء بعطاء الأرض ويكون النتاج رائحة زكية نقية . ما أجمل رائحة التراب .
الدكتور : سلطان الخضور
أي قدر هذا الذي جمع الارض والكرامة ,
وجعلهما مناسبتين ملتصقتين في حدود المكان ، متقاربتين في حدود الزمان ,لا تفصل بينهما الا أياما معدودات.
فقد كانت الأرض وما زالت صنو الكرامة , فلا يكاد المرء ينتهي من الغوص في معاني الكرامة ، إلا ويجد نفسه مضطراً للغوص بالأرض وما يتصل بها من معان . يلتصق المعنيان ، معنى الكرامة ومعنى الارض , التصاق الروح بالجسد ، حتى لا يكاد يفصل بين المعنيين فاصل . فحينما تاقت الأرض للكرامة , على أرض الكرامة لبت الكرامة النداء .
والكرامة الارض على مقربة من هنا ، هي جزء من أرض الحشد والرباط ، بقعة من الارض افترشها المجد ، في الحادي والعشرين من آذار عام الف وتسعمئة وثمان وستين ، افترشها المجد , وحط رحاله على أرضها , فابتسم التاريخ مرحبا , ورسم المجد على أرضها ملحمة عنوانها الكرامة ومكانها الكرامة , فجاءت الكرامة المعركة على أرض الكرامة لتجدد للأمة معنى الكرامة .
سجل التاريخ يوم الكرامة , بأحرف من نور, وارتوت الأرض " أرض الكرامة " بدماء شهداء الكرامة ، فغرست شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، أعطت أكلها في ليلة وضحاها ، أعطت ثمراً طيبا ، لا يتذوق طعمه إلا من تاق إلى الحرية وأدرك معاني الانتصار.
والكرامة الزمان على مقربه من التاريخ الحديث، تسعة أشهر مرت على واحدة من الهزائم في التاريخ العربي ، هي فترة الحمل والميلاد ، حملت العروبة الكرامة بعد هزيمة حزيران , حملتها في تموز وانجبتها في آذار , أنجبت المجد الذي أبى إلا أن تكون الكرامة أرضا لمولده ، نجح المجد في اختيار المكان حين اختار أرض الكرامة , وكأني به يأبى إلا أن يكون على مقربة من أضرحة الصحابة الأجلاء . وكأنى به يأبى إلا أن يكون ملاصقا لأرض فلسطين أرض الإسراء والمعراج .
وكما نجح المجد في اختيار المكان , نجح في اختيار الزمان ، فاختار آذار ليقول : حملتني أمي بعد الهزيمة في حزيران ، وها أنا اليوم على أرض الكرامة , أجدد سفر الانتصار.
والكرامة المعنى ، ولدت حين ولد حرف الضاد ، فكانت الكرامة مفردة من مفردات العرب تعني العزة والفخار . قيمة معنوية , وحق طبيعي وهبه الله للإنسان حيث كرمه على العالمين.
وتعمق المعنى حين بزغ فجر الإسلام . فالكرامة المعنى ... جدار صلب يبنى على اساس سليم , يبنى على أساس الفهم لمعاني الحرية والمسؤولية والامانة والصدق وحب التضحية والعزيمة والإباء . مفردات حملتها العربية وعززها الإسلام ، مفردات تجذرت في الذهن العربي وجاءت على عجل حين استدعتها الكرامة الموقعة .
فكان للكرامة الموقعة , السبق في تجسيد وتعميق حالة جديدة على التاريخ الحديث . حالة جسدها الفعل لا القول ، أنجبت الكرامة نصرا صنعه الأشاوس من الرجال , فأنجبت الكرامة من جديد مولودا يعشق حالة الوحدة ويكره حالة التوحد ، فاختلط الدم بالدم, وجددت الكرامة الحياة على ضفتي نهر الأردن . حالة تقوقعت أمامها كل دعوات اليأس والانكسار ، حاله فريدة بعثت في الأمة الحياة .
فالكرامة المعركة , موقعة سطرت كل معاني البطولة والإباء ، نسخة جديدة من إحدى معارك الإسلام ، فئة قليلة مجردة إلا من الإرادة , وما خف من السلاح ، تغلب فئة كثيرة بكامل عدتها وعتادها مدججة بكل انواع الأسلحة ومأللة بأحدث الآليات ,إلا من الحق . وكأني بأبطال الكرامة , يستحضرون مؤتة . فتلبي مؤتةنداء الكرامة على عجل لتجدد التاريخ . وتحلق في سماء الكرامة ارواح الشهداء ، لتكون مظلة يستظل بها من آمنوا بربهم وبأرضهم وبالتاريخ .
واعطت الكرامة المعركة درسا في العلوم العسكرية . درسا كان عنوانه " الإرادة تتحدى العدة والعدد ". و تحدت الكرامة واحدة من أعتى القوى الموجودة على الارض , فحققت النصر على عدو الكرامة الزمان والمكان والموقعة والمعنى .
واستطاعت الكرامة الموقعة ، أن ترسم على أرض الكرامة ، خطين متعاكسين ، كتب على واحد منهما الوعي وما يمثله من أيمان بالأمة ومقدراتها , وعلى الخط الآخر اللاوعي وما يمثله من اليأس والإحباط ، فخاض الوعي واللاوعي منذ ذلك الحين صراعا مريرا , فالوعي يؤمن بأن النصر تصنعه إرادة الرجال ، فبذل كل جهده ليستوطن في أرض زرعتها الإرادة وسقتها سواعد الأشاوس من الرجال . والوعي كما نعلم , يكفر بكل معاني الفرقة والتشرذم والتمزق . وبقي اللاوعي منذ ذلك الحين يتربص بالوعي ، متناسيا أن الكرامة المعنى شهدت ولادة الوطن , فاندحر اللاوعي وتأبط خيباته وارتد على عقبيه , كما ارتد على عقبيه ذاك المعتدي المدجج بالسلاح .
اما الارض فقد اعلنتها الف مرة ومرة ، انها لن تتحدث الا لغة الضاد ، وأنها أحبت من العربية كل الضمائر , المتكلم والمخاطب والغائب , وآمنت الأرض أنها جزء من انا وانت , ونحن وانتم, وآمنت انها جزء من انتما وانتن وهما وهم وهن وتلكم وتلك وتلكما .
والأرض اذ احبت من لغة الأمة ضمائرها , كرهت في الأمة ما مات منها وما اعتل . وكرهت الأرض من علم النفس " الانا " ما علا منها وما دنا ، فالأرض كما نحن , تعلم علم اليقين ان وجودها مرتبط بالعطاء , وقد علمتنا الأرض أن العطاء كما الحب لا يمكن أن يكون إلا من الطرفين .
وتستحضرني كلما تذكرت الأرض وعشقها , صورة فلاح يدرك معنى الانتماء للأرض , فلاح بسيط , جاء الأرض مع بزوغ الفجر فشمر عن ساعديه , وخلع نعليه , وأنخرط يمارس مع الأرض عشق الوجود . فبادلته الأرض عشقا بعشق . فلاح خلع نعليه لأنه يأبى أن تفصل بينه وبين الأرض قطعة من الجلد تسمى حذاء.
وعلمتنا الارض أيضا , ان هناك حالة ارتباط عميقة , ما بين الوانها والوان البشر . فكما أن ألوان تربتها , تمتد بين الاسود والابيض ، وما تشكل بينهما من الوان , هكذا لون بشرة البشر , تتوزع على مساحات بينهما ، لتثبت صحة حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم " كلكم من آدم وآدم من تراب ". وهنا يكمن سر ارتباط الانسان بالأرض , وحملت الارض على ظهرها كل شيء، وكل البشر وكل ما يسقط من السماء . وحملت في باطنها معاني الخير والعطاء . فلم تتمنع , ولم تمنع عمن أحبها , تأخذ جهدا بسيطا , وتعطي كل شيء .
وما الأرض التي تعطي من سطحها ومن جنباتها ومن باطنها , الا جزءا من أرض العروبة والإسلام , وما الكرامة المكان والزمان والمعنى والمعركة إلا جزءا من تاريخ العروبة والإسلام .
وما كلتاهما الأرض والكرامة , الا مفردتين مرتبطتين بأردن الحشد والرباط .
وتستحضرني وتحضرني وأنا أتحدث عن الأرض , رائحة التراب ...حين تتساقط حبات المطر , تبلل حبات المطر ذرات التراب ، فتنبعث رائحة الأرض عبقة زكية .
وتحضرني أيضا وأنا أتحدث عن الأرض رائحة التراب بعد الحرث ... حين يقلب المحراث التراب, تنبعث رائحة ، رائحة لها نكهة خاصة , رائحة مميزة...لا تقترب من أي رائحة , ولا نستطيع أن نقول عنها إلا أنها رائحة الأرض أو رائحة التراب , رائحة يتوق كل الذي قوى علاقته بالأرض والتراب إلى شمها ، رائحة أشعر أنا شخصيا أنها مزيج من كل مكونات النباتات والزهور التي تنطلق من باطنها لتعانق فضاءاتها , وتعزف الحانها , على وقع نسمات عليلة لا يستمتع بها إلا عاشقها .
" لا يستمتع برائحة التراب الا عاشق الأرض وعاشق التراب. "
رائحة التراب , يشتمها كل من اقترب منها ، الا أن وقعها , وتأثيرها على النفس , ودرجة التأثر بها , ومدى استفزازها لأنوف الناس أمر نسبي ، يختلف من شخص لآخر، وما يتحكم بالموضوع هو أمر واحد , وواحد فقط ، فلا يرتبط تأثيرها بالفقر أو الغنى أو اللون أو الجنس أو الموقع أو الجاه أو غير ذلك من مفرقات البشر، بل ما يتحكم بالموضوع هو مقدار ارتباط الشخص بالأرض وبتربتها , ومدى قربه منها وبعده عنها ، فمن يمشي على مقدمة قدمية , لا يشعر بها , بقدر فلاح أصبح ترابها جزءا من مكونات قدمية , ودخل طينها شقوق كعبيه ، فرائحة التراب , تلتصق بمن يحبها , وتتعالى عمن يتعالى عليها , فتعاقبه بحرمانه من عبيرها , ولا تعطيه الا بقدر محبته لها.
" تحب الأرض من يحبها وتكره الارض من يتعالى عليها ."
وحكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت , أن تكون بداية الحياة على التراب ، وأن تكون نهاية الحياة في التراب. وحتى الرزق الذي تجود به السماء يلتقط من فوق التراب , ومن تحت التراب و من بين ثنايا التراب . والنبات الذي نأمل أن يأتي أكله بعد حين ، نغرسه أو نبذره أو نزرعه في التراب فيخرج إلينا ثمرا متعدد المذاق , ومتعدد الروائح والألوان ، وكأن هذا كله يمتزج في باطن الأرض , ليعطينا رائحة لا تحسب على أي منه منفردا , وإن ساهم في تكوينها فنستمتع بها وكأنها خلطة من هذا وذاك .
حين تختلط رائحة التراب برائحة المطر ، يختلط عطاء السماء بعطاء الأرض ويكون النتاج رائحة زكية نقية . ما أجمل رائحة التراب .