الأخبار
نتنياهو يُوجّه رئيسي موساد وشاباك باستئناف مفاوضات تبادل الأسرى والتوجه للدوحة والقاهرةسيناتور أمريكي: المشاركون بمنع وصول المساعدات لغزة ينتهكون القانون الدوليالدفاع المدني بغزة: الاحتلال ينسف منازل سكنية بمحيط مستشفى الشفاء38 شهيداً في عدوان إسرائيلي على حلب بسورياالاحتلال الإسرائيلي يغتال نائب قائد الوحدة الصاروخية في حزب الله17 شهيداً في مجزرتين بحق قوات الشرطة شرق مدينة غزةمدير مستشفى كمال عدوان يحذر من مجاعة واسعة بشمال غزة"الإعلامي الحكومي" ينشر تحديثًا لإحصائيات حرب الإبادة الإسرائيلية على غزةغالانت يتلقى عبارات قاسية في واشنطن تجاه إسرائيلإعلام الاحتلال: خلافات حادة بين الجيش والموساد حول صفقة الأسرىالإمارات تواصل دعمها الإنساني للشعب الفلسطيني وتستقبل الدفعة الـ14 من الأطفال الجرحى ومرضى السرطانسرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباس
2024/3/29
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الحلقة الرابعة عشرة-وراء القضبان ذاكرة الألم بقلم: د.حنان عواد

تاريخ النشر : 2017-03-12
الحلقة الرابعة عشرة-وراء القضبان ذاكرة الألم بقلم: د.حنان عواد
وراء القضبان.

ذاكرة الألم..    
                                            
الكلمة عظيمة حين تحمل وزن أفقها المنسوج من عبير الروح والموقف.

وفي يوم ،ودعت رئيس التحرير، عائدة الى وطني،وكان هنالك حوار هام لا زال في مسودته،لم يحرر بعد،ألح علي السيد عرار بانجاز الحوار قبل المغادرة،ووعدته بالعودة بعد يومين،بعد الاطمئنان على أهلي.أرسل السائق معي،وودعني الى الجسر،وهناك بدأت حكاية توقعتها ولم أتوقعها.

وصلت الجسر،وعلى الطريق ما بين عمان والأغوار،كانت الذاكرة تحفل بربيعها

وبأحداث دوراتها المتعددة،احساس بالتوجس أصابني،حاول السائق أن يفتح حديثا،ولكن الروح سافرت الى ما وراء الحدود،وكأن الزمن لا يتسع الا للقلق.

وكانت المزارع الخضراء،وهي تعبر قرب زجاج النافذة، تبتسم،وكأنها تسألني الى أين؟،وكيف؟،والأشجار المختالة المصطفة على الشوارع،كأنها ارتدت ثياب زفافها،وكأنما..وكأنما.

توقفت السيارة عند المدخل،أخذت خطواتي تتباطأ،وقلبي يتسارع نبضه.أجريت المعاملات اللازمة،وقدمت الأوراق المطلوبة،وتحركت للعبور الى الشاطيء الآخر،هناك كان عدد كبير من الناس قد سلموا الهويات قبلي،قدمت هويتي والتصريح،فرد علي الرجل بصراخ،انتظري.كنت قد وصلت الجسر حوالي العاشرة صباحا،ظللت أنتظر، وأنتظر،وابتدأ الضغط النفسي يرتفع،لقد فرغ الجسر من المسافرين.عدت ثانية الى النافذة،فتعامل معي بوحشية،"انتظري".

ذهبت الى غرفة اسعاف صغيرة،أتساءل،فنظر الي الرجل نظرة العارف،أشفق علي،وقال:"انتظري"،أدركت حينها أن شيئا ما سيحدث،.جلست على مقعد خشبي مهتريء،والشمس تنسدل عبر الغيوم،البرد الشديد يقضقض مفاصلي،والذهن شارد،يحمل توقعات وهواجس...

أنتظر..أنتظر وأنتظر..وبعد أن غادر جميع المسافرين،وبدأ الصمت يخيم على المنطقة،وعيوني تتفرس،بحثا عن جواب،نادى الضابط على اسمي"خنان"،ذهبت اليه،أوقفني في الجانب الآخر.

وفجأة،أحاط بي عدد كبير من الجنود،وعلى يميني،وقف جندي مشرعا بندقيته نحوي،والآخرون ينظرون الي باستنفار،ماذا يا ترى؟،ابتسمت وحادثت نفسي:"انهم يلتفون حولي بكل الأسلحة،فهل أنا قائد الثورة الفلسطينية؟!.

أنظر يمينا،ثم أطأطيء رأسي وأرفعه ثانية ،علني أجد جوابا.جاء رجل بوليس بزيه الرسمي،أخذ جواز السفر وقال لي:"تريدين أن تدمري اسرائيل وتقبضين مليون دولارا"،ابتسمت،وكأنني استمع الى نكته،ثم قادني بوحشية الى غرفة اللاسلكي،وأمرني بالجلوس وخرج.

نظرت الأسلاك حولي،وأصوات الاشارات المريبة،القيت رأسي على الحائط،وغرقت في تفكير عميق.عاد الي بعد نصف ساعة،وضعني في سيارة الشرطة السوداء الكبيرة، وبها عدد كبير من المجندات،وسارت السيارة بي الى المخيم العسكري في أريحا،ولم أكن أدري أن هذا المكان، هو ذات المكان الذي سأستقبل به العائدين من كوادر الثورة الفلسطينية.نزلت،أجلسوني في غرفة صغيرة شديدة البرد،يعبر جندي، يتبعه آخر، وينظر الي .كانت معي حقيبة كتبي الجامعية،وعدد من الروايات التي أحضرتها هدية لوالدي الذي كان يعشق الرواية والعلم.تسحبت يدي الى الحقيبة،تناولت كتابا في محاولة للنسيان.رأيت هاتفا أمامي،تنمنيت لو أسنطيع محادثة أمي وأبي..

أردت أن أذهب الى الحمام،طلبت من الجندي، وأحضر مجندة لتقودني الى هناك،وتصور شعور المرء وهو مراقب في خصوصياته،ألهبني الشعور بالاهانة،وصممت على التحدي.

عدت الى الغرفة، وتابعت القراءة-وكأنني غير ملتفتة لما حولي-رغم القلق المرسوم في عيوني..

امتدت الساعات تلو الساعات،وأنا أنتظر المصير..

وحينما حل الظلام،وامتد ليغطي كل الأزقة والشوارع،توقفت سيارة عسكرية،نزل منها جندي ،وقال لي :"هيا"،أخذ حقائبي ،وضع الحديد في يدي،وسار بي في الطريق الصحراوي المتجه الى القدس.الصمت الحاد تلبسني،نظرت الشوارع من حولي،الجبال صامتة،وأصوات الغربة تعلو،والهواء البارد يلسعني،أرتجف،وأخال أنني في حضن أمي تدفئني،ولكن!ماذا أفعل؟،نظرت وجه العسكري،رأيته لا يعرف الا لغة الوحش،وجهه به ملامح الحقد،عيناه تنظران الي بوحشية،قلبي يهوي،أحاول أن أبعد عن نفسي أشباح ما ينتظرني.ظلت السيارة العسكرية تسير بسرعة،ولما أخذت تدنو من القدس،بدأت نبضات قلبي في الصعود والهبوط، تحسست بأعماقي بيتنا.فكم هو مؤلم أن يحرم المرء من الذهاب الى بيته.أنظر ثانية الى القيد الحديدي في يدي،فأتصلب،تسير العربة الى باب العامود،الى شارع يافا،ثم أين؟.

تتوقف العربة،يوضع منديل أسود على عيوني كي لا أرى أين انا،ينادي بصوت عال"افتخ"،أسمع أصوات المفاتيح تدور في أقفال كبيرة الحجم،أرتعد،أبتعد قليلا ثم يدفعني الى الداخل،يزيح الغطاء الأسود عن عيوني،أشعر بدوار لدقائق،أنظر،أمامي شرطي في الخمسين أو الستين من عمره،وامرأة شرطية نحيلة،تنظر الي،الشرطي يفتح جواز السفر،وهو يحدق بي، يطلع على المعلومات ويبتسم باستهزاء، ويعيد الجملة التي قالها الشرطي السابق:"تلقين اسرائيل في البحر، وتقبضين مليون دولار"!

وكأنني لم أفهم شيئا،أدرت بوجهي،ثم أضاف:"ماذا فعلت بالقاهرة"؟.

صمت قليلا،ونظرت اليه باستغراب،ثم أجبته:"نعم،أحضرت معي مليون دينارا،بل أكثر،وأنت تعرف قيمة العلم والمعرفة،ألا يساوي هذا المبلغ؟؟!،وكأنه صدم من الجواب.كنت آنذاك أحضر الماجستير في جامعة الأزهر،وأشعر بخيلاء غير عادية.

نادى الشرطي امرأة أخرى اسمها"حافا"، حسب لفظه،وبعد دقائق جاءت تتهادى،انها من ذوات الحجم الثقيل"شاحنة"،.نظرت الي بامتعاض ،وقالت:"تعالي"،وأعطى الشرطي أوامره لها قائلا:"ضعيها في غرفة منفردة"،كنت لا زلت في تلك الأثناء أعتبر الموضوع قضية عابرة،الى أن تحركت حافا،تمسك بيدي،وتحمل في يدها الأخرى مفتاحا ضخما،فتحت الباب الأول،دخلت قبوا معتما،نظرت،أمامي جسر حديدي لا يستطيع الانسان اقتحامه،حول هذا الجسر عدد من الشباب المعتقلين،تجمعوا ،ليسترقوا النظر الى الضيف الجديد،دخلنا قبوا آخر، وفتحت بابا آخر،أخذتني الى غرفة نائية لآخذ بطانية وفرشة،حينها شعرت بالاذلال القاتل،وبدأت دموعي التي حاولت حبسها بكبريائي،تنهمر.

فتحت باب الزنزانة، أدخلتني به،وذهبت،بدأت أصرخ وأبكي،تصورت كل قاذورات المحتل،وكأن كل الشياطين هناك.كان الطقس شتويا،وكنت أرتدي ثيابا شتوية و"بوت"أسود وجاكيت فرو،ظللت أبكي وأبكي،وتنهمر دموعي أنهارا،وصدى صوتي يدخل الى زنازين المعتقلين قبلي.بعدها،أنبت نفسي كثيرا ،لأنني لم اتمالك نفسي،

واعتصرني الألم، وقلت في داخلي:"هل يبكي المناضل"؟.وتابعت:"انها ساعة الموقف،ساعة الشجاعة".

استلقيت على السرير الحقير، وأنا أرتدي جميع ثيابي،وفي منتصف الليل،سمعت حركة المفاتيح،وما بين النوم واليقظة،رأيت وجها يتفرس بي،صرخت من أعماق قلبي، وغبت في نوم عميق.

وفي الساعة السادسة صباحا ،والبرد الشديد يحوم في الغرفة،سمعت جرسا عاليا ورجل ينادي:"أوخل"،أي موعد الطعام..فجأة،دبت الحركة في المكان،وتعالت الأصوات،وأخذ صوت الزنازين بنغماته المستفزة يعلو.رفعت رأسي قليلا،وحاولت الابتعاد مع ذاتي من ذاتي في هذا الواقع المرير،ثم وضعت رأسي ثانية على الوسادة.

فتح الباب،وجاءت امرأة تقرأ في وجهها علم التحنيط،نظرت الي بشذر،صارخة:"قومي امسحي الأرض"-وكأنما صاعقة ضربت رأسي-أنا؟أهي تتحدث الي أنا؟؟،انها تحاول اذلالي،ألا تعرف من أنا!.رفضت الطعام لأنه محاولة للاذلال،ثم وقفت وقلت لها:"آسفة،لا يمكنك ارغامي على عمل لم أقم به في حياتي"..

خرجت لدقائق ،وكأنها ذهبت لتشاور المسئول قائلة:"يبدو أنها فتاة مدللة"،بعد قليل جاءت بشاب فلسطيني لينظف الغرفة،تعمق الحزن عندي ،لأرى شابا يافعا يجبر على تنفيذ أوامر جائرة.نظرت الى الشاب،فقفز قلبي فرحا،انه ابن جيراننا،بدا وكأنه لا يعرفني،ثم تحدث بشكل لا يلفت النظر،"لا تخافي،أمي ستأتي لزيارتي غدا،وسأطلب منها تبليغ أهلك"،وكأنما أبواب الأمل فتحت لي،لأنني ،ومنذ اعتقالي لم يبلغ أهلي،ولا يعرفون أين أنا.

وبعد دقائق،جاءت مجندتان،فتحتا الزنزانة ونادتني"خنان"،واقتادتني خارج الغرفة.

سرت معهما خارج الباب الحديدي الأول،تلفت حولي،رأيت عيون المنتظرين تبرق بالأمل،صليل آخر،جرس آخر،وهواء بارد يتسرب.ارتفع صوت عال،تفجر آخر،آهات تعلو،ضربات وضربات،وكلما علت نبرة الأصوات،ازداد القلق،وغابت الروح بعيدا، باحثة عن نقطة ضوء،أو طريقا للعبور.

توقفت المجندات قليلا عند حاجز خشبي،يقف عنده شرطي الأمانات،ناول احداهن المفتاح الخارجي،وما أكبر حجمه!،شرد ذهني،"ألم يحدثني جدي عن مفتاح بيتنا الذي ظل يحتفظ به،وعن مرتينة تركية ظل يحفظها تحت التراب الذي تسلقت فوقه شجرة التوت"؟،أدارت المجندة المفتاح في القفل الكبير،وابتدأ القفل يتزحزح من ثقوب تواجده،وتفرقت يد القفل عن :الزرفيل"،وبدأت دقات قلبي بالتصاعد..

بدأ الباب يتحرك،صوته يقلقني ويفرحني،علني أرى النور هذا اليوم.

فتح الباب،حرجت المجندتان وأنا بيتهما،أحدهما على يميني،والأخرى على يساري..

عبرنا عدة قواطع صغيرة،وقفت قرب باب بانتظار المحقق، نادت عليه باسم أبو العبد،جاء الرجل،أدخلني الغرفة،وخرجت المجندات.

"أبو العبد"،رجل يتحدث العربية بطلاقة،أظنه من أصل عراقي.الغرفة باردة جدا،وتخلو من أية نزعة انسانية.نظر الي أبو العبد بشذر،ثم التفت الى الرفوف خلفه،وبدأ يقلب الملفات،ويعيد النظر الي، وكأنه يعنفني ،ويحذرني.بعد دقائق،أخرج ملفا ضخما،فتحه، وأبدى علامات دهشة وتحذير،ثم قال:"هذا ملف"خمور"،ونعني بالعبرية مريع،هادفا الى ادخال الرعب في قلبي،ابتسمت بهدوء متجاهلة هذا التحذير،ثم خاطبته بسؤال:"هل تحمل هذه الملفات حقائق، أم ادعاءات أنتم تصنعونها"؟

ولماذا أنا في هذا المكان الذي لا يليق بي؟؟!

فأجاب مستفزا:"يعني تتأملين أن أضعك في فندق خمسة نجوم،ما شاء الله؟؟!

وتابع وعلامات الحقد والغضب مرسومة على وجهه، دون مواربة:"أخرسي".

                     
-أرجو أن تراعي الأدب..

-من قابلت في بيروت قرب الجامعة العربية؟

-أظنك تنسى أنني طالبة وأديبة ودائمة اللقاء بالناس..

-انك تنتمين الى منظمة معادية..

وبالطبع يقصد منظمة التحرير الفلسطينية،

-أنا لا انتمي الا لكتابي..ويا ليت أستطيع الانتماء،لأنهم يرفضون.

-كيف تتجرئين على هذه الوقاحة؟

وكيف تتجرأ أنت أن تلصق لي اتهامات، بعيدة عني؟

أنني في داخلي أشعر بالفخر لهذا الاتهام،ولكن علي أن أثبت العكس.

-اذن ماذا فعلت في القاهرة وبيروت؟

-ولماذا تدرسين في أكثر من جامعة؟!

-أحب روافد العلم حيث تكون،أنا أعشق الدراسة،وأتوق الى المعرفة الشاملة..

-اسمعي "حنان"،انه اسم جميل،وانت تمتلكين ذكاء حادا ووجها جميلا،ولكن قطعة من دماغك نقصت ،بانتمائك لمنظمة "تخريبية".استفزني كثيرا وصف المنظمة بالتخريب،صمت قليلا وأجبته:"انني أنتمي للكلمة والانسان".

عاد باسلوب آخر محاولا ملاطفتي،"اعترفي،واذا اعترفت ووقعت على هذه الأوراق،فانني سأفرج عنك.".

ولما يئس مني،نادى على الشرطة،وكان قد اقترب موعد المحكمة،وأعاد علي السئوال"ان اعترفت فستخرجين براءة،وان لم تفعلي،فسأمدد لك أياما طويلة،وأنت تدرسين في الجامعة،وأظن أن هذا سيؤثر عليك وعلى مستقبلك".

وابتسمت باستهزاء،وصمت وأنا أحادث نفسي.

ولما لم يجد فائدة،نادى على النيابة، مطالبا التوقيف لمدة خمسة عشر يوما أخرى.

اقتادوني الى المحكمة،ومشيت في بقعة الفضاء الصغيرة،رأيت شابا، وكأنني أعرف وجهه،كان زميلي في الجامعة،كيف يعمل في هذا المكان القذر؟؟،وكأنني بدأت أعرف خيوط المؤامرة.

اقتربت من قاعة المحكمة،وبحراسة مشددة،وما كاد يفتح باب الغرفة،حتى أطل وجه أقدسه،اشتد اسمراره حزنا،تفلت،وركضت اليه،والقيت نفسي في أحضان أبي.

قلت له:"لا تحزن،ولا تخف،انني لا أحتاج الى محامي ولا اثنين"،وبدأت الدموع تنساب على خديه،فقد حضر والدي برفقة محاميين،لما رأيته، أحسست بكل القوة تفيض من أعماقي .صمت الخوف ،وغاب بعيدا،وجاء الشرطي واستلني من ذراعي أبي..

وابتدأت المحاكمة،وقفت أنظر القاضي،واتفرس بالمدعي العام،وأوجه نظري الى عيون أبي،تلك العيون المضيئة بالخوف والحب والقلق من المجهول.

وجه القاضي الي السئوال:"ماذا تعلقين على الاتهامات الموجهة اليك"؟

أجبت بصوت جهوري،بلغة لا أتقنها،وبتحد، مستعرضة تجاوزات الاهانات والتعذيب الذي اتخذها المحققون تجاهي أثناء التحقيق،وقلت بقوة:"لم أفعل".

ثم تابعت:"لا أسمح لأحد مطلقا باهانة كرامتي وكبريائي".

أخذت بوارق الأمل تظهر في عيون والدي،وبدأت ثقته تزداد بقدراتي على تخليص ذاتي من هذا الموقف،وبدأت ملامح وجهه الجميل تسترد آفاقها.

استمع القاضي الى المدعي العام،وهويطلب تمديد فترة الاعتقال،الى أن كان،رفعت المحكمةـووضعت السلاسل في يدي ثانية،واقتادوني بحراسة مشددة،واستدرت لأنظر عيون والدي،وكأنما يدي تتجاوز السلاسل لترتفع اكبارا.غابت صورة والدي،ولا زالت بذلته البنية تستيقظ في داخلي.

شمخت عاليا،وسرت خطوة خطوة،في محاولة لاقتناص لحظات حرية،الى أن وصلت على بعد أمتار من مدخل غرفة الاعتقال.كان الطقس شديد البرودة،ولكن الشمس مشرقة،فاستهوتني الشمس، توقفت قليلا،فصرخ بي العسكري وقال:"كأنك تتمخطرين على شواطيء البحر"،أجبته:"ولم لا".

واقتربت من الباب الحديدي، وسمعت صريره،سأدخل ثانية في قبو العذاب،عبرت بخطوات هادئة مستفزة لكل الحراسة التي حولي،وصلت الزنزانه،وركضت الى السرير،ودخلت في شرود عميق،الى أن رحت في غيبوبة.

وظلت أمامي صورة وجه أبي وهو يودعني والدموع تترقرق على خدوده..واشتد الزمن بضراوته،الوقت يئن ما بين صبح مبكر،يبدأ بنداءات الايقاظ المزعجة،وما بين مساء مؤرق بالصمت والبرد.

كيف يمكن أن أرسم صورة لأيام تمر على شاعرة وأديبة يلفها الصمت،والأبواب الموصدة،والعذابات الجائرة التي فرضت علي، وعلى الشعب الفلسطيني .أين الحق والاستحقاق؟وأين الانسان؟وكيف صار الزمان مجدولا على العذاب الاحتلالي المبرمج؟كيف أستطيع أن أخط كلماتي التي تحمل معاني العودة والتحدي والمقاومة،وأنا لا أمتلك من نفسي في هذه اللحظات سوى أفكارا تنخر في ذاكرتي،واحزانا تعيش بي،وارادة صارخة تحاول أن تتغلب على الصعب،وتتجاوز القهر،وتمضي في ترسيم المقاومة،وأنا لا أمتلك من نفسي في هذه اللحظات سوى أفكارا تنخر في ذاكرتي،واحزانا تعيش بي،وارادة صارخة تحاول أن تتغلب على الصعب،وتتجاوز القهر،وتمضي في ترسيم أفقا جديدا معززا بالكرامة..كيف ؟وانا لا أمتلك هنا حتى قلما سليما يساعدني على القفز بالكلمات؟.

وهل تصورتم كيف تمر أيامي باحثة عن ورق أبيض،أخط عليه لواعج الروح؟

وعن قلم لم يفارقه حبره الأسود؟أو عن زنبقة تفترش أريجها في روح الشعر؟.

لقد اشتقت للقمر،بحثت عته في جيوب الليل،وعند قرون المساء،وفي أركان الوحي الملهم،أتراه توارى عني؟؟!

اشتد التركيز الذهني،واشتد الصراخ في الغرف حولي،وعبرت دائرة الرعب..

غصت في وحي اللحظات،اترقب خيوط الوحي الشعري،وأخذ القلم الكسير يتراقص على وجه ورقة بيضاء صغيرة الحجم،مصبوغة بجنى ثمار الحبس،أصابها اعياء الاصفرار،وانتظار الكلمات البعيدة..

التصق القلم بالورقة،وانحاز لعلامات الكسر،فسقط سنه أرضا،وعندما سقط،كأنما الدنيا سقطت معه،وغابت روحي في بوتقة تعذيب أخرى،هل ضاع الوحي ؟وغاب الالهام ؟وازدادت عذابات الروح؟.

استدرت،نظرت الجهات الأربعة،لدي الحاح في الكتابة،ماذا أفعل؟

هل أسأل "حوا" الحارسة علينا؟هل يمكن أن أجد في قلبها رحمة؟

ولكن!أليس في الطلب المذلة؟.

صبرا،عل الفجر يكون قريبا..

وبعد صمت ساعتين،وحضور الوحي وخروجه في تكوينات الذكرى،خرجت أصوات النداء للعشاء،ذهبت الى غرفة الطعام،للبحث عن وسيلة ممكنة،قدموا لنا برتقالة،فرحت بها،أخذتها معي الى الغرفة،وبعد نصف ساعة حضرت "حوا"،استحلفتها أن تسمح لي بتقشير البرتقالة.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف