عـمـــلاء وخــــونــــة
تاريخياً وفي أعقاب ضرب الأسطول الأمريكي في بيرل هاربور ، شعر الأمريكيون بالخطر المحدق بمصالحهم ، فقاموا بإنشاء مكتب أطلقواعليه : " مكتب الخدمات الإستراتيجية " . تنحصر مهمته في اكتشاف الخطر قبل وقوعه ، والتخلص من مصدره بأي وسيلة ، في إطار برجماتي خالص ، قاعدته أن الغاية تبرر الوسيلة . وبعد انتهاء الحرب قام ترومان بالغاء هذا المكتب ، وتسريح أعضاءه . إلا أن ترومان سرعان ما أدرك أن هزيمة الفاشية ـ والنازية ، لا تعني إنهاء الصراع الدولي ، وإنما تعني تخلص المعسكرين ، الشرقي الشيوعي ، والغربي الرأسمالي ، من نقيض ثالث كان يمثل خطراً عليهما . إذ سرعان ما سعي الجانبان إلي أعادة ترتيب أوراق الصراع ، وتوسيع مناطق النفوذ . حيث شرع الإتحاد السوفيتي في ضم دول شرق أوربا التي حررها إلي جانبه ، وتدعيم الأحزاب الشيوعية حول العالم لمواجهة الإمبريالية ـ هو مصطلح ، يستخدم للإشارة إلى سياسة حكومة الولايات المتحدة ، في ممارسة الهيمنة على دول أخرى ، من خلال القوة العسكرية ، والاقتصادية والسياسية ـ العالمية . بينما شرعت أمريكا في احتواء كل أوربا ، والتخطيط لاستعادة شرق أوربا من دائرة النفوذ السوفيتي . ومن هنا كان مشروع مارشال الذي يهدف إلي مساعدة دول أوربا الغربية ، وخاصة المهددة بأزمات إقتصادية ، حتي لاتقع في أيادي الأحزاب الشيوعية . وهنا غضب الروس ، وأطلقوا علي هذا التوجه : " استعمار الدولار " . ثم خطي الأمريكان خطوة أكبر ، من خلال إعلان ترومان عن برنامج النقطة الرابعة لتأييد السلام العالمي . يدور البرنامج حول أربعة محاور هي : التأييد المطلق للأمم المتحدة . كسب الشعوب بالعمل علي الإصلاح الإقتصادي . تقوية الأمم التي تعادي الكتلة الشيوعية . تقديم المعونات لتحسين أحوال كل دول العالم . وفي المقابل كون الإتحاد السوفيتي حلف وارسو ، ومنظمة الكوميكون ـ سوق اقتصادية اشتراكية ـ ومن هنا بدأت الحرب الباردة بين المعسكرين . وقد أدرك الأمريكان مبكراً ، عدم كفاية مشروع مارشال ، وبرنامج النقطة الرابعة ، لإزالة الشيوعية من طريق الرأسمالية ، فاتجهت إلي تغيير عقول الشعوب ، ودفعها في اتجاه كراهية الشيوعية ، وتقديم النموذج الأمريكي الرأسمالي ، كبديل ثقافي بأبعاده في الحرية الفردية ، عن طريق استزراع ذلك في مختلف المجتمعات ، وإيجاد علاقة سببية بين الخبز والرأسمالية . ولتحقيق ذلك أنشأت أمريكا الـ : CIA ليتولي الجانب الثقافي في الحرب الباردة . وقد تشكل الجهاز من بعض أعضاء مكتب الخدمات الإستراتيجية المنحل ، وكان أبرزهم آلان دالاس . وكان أول أعمال الجهاز تشكيل الواجهة ، أو الغطاء ، الثقافي الذي سيعمل من خلاله علي تحصين العالم من وباء الشيوعية ، والتمهيد للمصالح الأمريكية في الخارج ، فكان الكونسورتيوم . وكان الكونسورتيوم يضم مجموعة من الراديكاليين الذين كفروا بالشيوعية ، ليقوموا هم بأنفسهم بنقدها ، من خلال مختلف الوسائط المتاحة ، من كتابة المقالات ، أو إلقاء المحاضرات العامة ، أو كتابة الروايات الأدبية ، أو الأعمال المسرحية ، علي أن تدور هذه الأعمال حول أسباب اعتناق الشيوعية ، والإيمان بها ، ثم الكفر بها ، والتوبة عنها . وعندما يأتي الخطاب من شيوعيين منشقين يكون أكثر إقناعاً عما إذا جاء من عناصر رأسمالية . وعندما افتتح الروس بيتاً ثقافياً في برلين ؛ لنشر الثقافة الشيوعية ، قامت أمريكا بافتتاح بيوتاً ثقافية في مختلف دول العالم ، لنشر الثقافة الأمريكية من خلال المحاضرات العامة ، والعروض السينمائية والمسرحية ، وحفلات الموسيقي ، والمعارض الفنية ، وإرسال فرق موسيقي الزنوج الأمريكان ، لنفي عنصريتها الدفينة . ومنح جهاز المخابرات صلاحيات هائلة في سبيل المحافظة علي الصورة الأمريكية المرسومة دعائياً وإعلامياً . وكذا استخدام الأنشطة النفسية السرية ، بما في ذلك التخريب ، والتدمير، بالإنقلابات والإغتيالات ، ومساندة حركات المقاومة السرية ، والمعارضة السياسية ، في الدول المعادية لأمريكا ، وذلك علي نحو متقن لا تنكشف معه أي علاقة بالحكومة الأمريكية . وأعطي الجهاز الحق في التمويل اللازم لأنشطته دون تقديم أي بيانات عن أوجه الصرف ، حتي لا يكون هناك مستند يثبت مسئولية الحكومة . وقد عمل جهاز المخابرات علي تجنيد عناصر له في كل مناحي الحياة الأمريكية ، بقصد كشف الشيوعيين الأمريكيين . وقد قام الجهاز بتشكيل اللجنة القومية من أجل أوربا الحرة ، لاستغلال مهارات اليهود الشرقيين في المنفي بقصد تطوير برامج للتصدي للأنشطة الروسية . ثم أسس منظمة الحرية الثقافية ، التي تحولت فيما بعد إلي الإتحاد الدولي للحرية الثقافية ، وأنشأ فروعاً له في 35 دولة ، أصدرت أكثر من 20 مجلة ، وقامت بتنظيم المعارض الفنية ، والحفلات الموسيقية بقصد كسر الوعي بالشيوعية عند المثقفين . وقد تم الإستعانة بمؤسسة فورد ، ومؤسسة روكفلر لتنفيذ مشروعات مشتركة . ولقد سيطر الجهاز علي مجمل الحياة الثقافية علي نحو مخيف ، باعتبار ما فعله في مجال الفن والأدب ، لإعادة بناء البنية الثقافية في العالم ، علي نحو يدفع الشعوب إلي التخلي عن الأنماط القيمية التقليدية القديمة ، واكتساب أنماط جديدة ، كالتركيز علي الحريات المطلقة بلا حدود ، في مقابل القيود الموجودة في الشرق . فحين تتشرب الجماهير ثقافة تداعب غرائز التملك ، والتفرد ، والأنانية ، لن تقاوم الإنقلاب علي القديم . وهذا ما يراهن عليه النظام العالمي الأمريكي الجديد الذي أعلنه بوش ، وأداته في ذلك منظمة التجارة العالمية ، التي لا تقتصر مهمتها علي مبدأ حرية التجارة ، وإنما تمتد إلي مبدأ الحرية الثقافية ، حتي يتحول العالم إلي النموذج الأمريكي . فهل هذا التراث الأمريكي يمكن اعتباره بعيداً عن أحداث ما يطلق عليه الربيع العربي ؟ . وهل أفلت مثقفينا ، وشعرائنا ، وفنانينا ، ونقادنا ، وعلمائنا ، ومؤرخينا ، من قبضة هذه الأجهزة ؟ ! . وهل يدركون ـ سواء وعوا ذلك أم لم يعوه ، راق لهم ذلك أم لم يرق ـ أن الإستسلام لهذا الإخطبوط يعد عمالة وخيانة ؟ ! . أسئلة أظنها في حاجة إلي إجابة .
حـســـــن زايـــــــــد
تاريخياً وفي أعقاب ضرب الأسطول الأمريكي في بيرل هاربور ، شعر الأمريكيون بالخطر المحدق بمصالحهم ، فقاموا بإنشاء مكتب أطلقواعليه : " مكتب الخدمات الإستراتيجية " . تنحصر مهمته في اكتشاف الخطر قبل وقوعه ، والتخلص من مصدره بأي وسيلة ، في إطار برجماتي خالص ، قاعدته أن الغاية تبرر الوسيلة . وبعد انتهاء الحرب قام ترومان بالغاء هذا المكتب ، وتسريح أعضاءه . إلا أن ترومان سرعان ما أدرك أن هزيمة الفاشية ـ والنازية ، لا تعني إنهاء الصراع الدولي ، وإنما تعني تخلص المعسكرين ، الشرقي الشيوعي ، والغربي الرأسمالي ، من نقيض ثالث كان يمثل خطراً عليهما . إذ سرعان ما سعي الجانبان إلي أعادة ترتيب أوراق الصراع ، وتوسيع مناطق النفوذ . حيث شرع الإتحاد السوفيتي في ضم دول شرق أوربا التي حررها إلي جانبه ، وتدعيم الأحزاب الشيوعية حول العالم لمواجهة الإمبريالية ـ هو مصطلح ، يستخدم للإشارة إلى سياسة حكومة الولايات المتحدة ، في ممارسة الهيمنة على دول أخرى ، من خلال القوة العسكرية ، والاقتصادية والسياسية ـ العالمية . بينما شرعت أمريكا في احتواء كل أوربا ، والتخطيط لاستعادة شرق أوربا من دائرة النفوذ السوفيتي . ومن هنا كان مشروع مارشال الذي يهدف إلي مساعدة دول أوربا الغربية ، وخاصة المهددة بأزمات إقتصادية ، حتي لاتقع في أيادي الأحزاب الشيوعية . وهنا غضب الروس ، وأطلقوا علي هذا التوجه : " استعمار الدولار " . ثم خطي الأمريكان خطوة أكبر ، من خلال إعلان ترومان عن برنامج النقطة الرابعة لتأييد السلام العالمي . يدور البرنامج حول أربعة محاور هي : التأييد المطلق للأمم المتحدة . كسب الشعوب بالعمل علي الإصلاح الإقتصادي . تقوية الأمم التي تعادي الكتلة الشيوعية . تقديم المعونات لتحسين أحوال كل دول العالم . وفي المقابل كون الإتحاد السوفيتي حلف وارسو ، ومنظمة الكوميكون ـ سوق اقتصادية اشتراكية ـ ومن هنا بدأت الحرب الباردة بين المعسكرين . وقد أدرك الأمريكان مبكراً ، عدم كفاية مشروع مارشال ، وبرنامج النقطة الرابعة ، لإزالة الشيوعية من طريق الرأسمالية ، فاتجهت إلي تغيير عقول الشعوب ، ودفعها في اتجاه كراهية الشيوعية ، وتقديم النموذج الأمريكي الرأسمالي ، كبديل ثقافي بأبعاده في الحرية الفردية ، عن طريق استزراع ذلك في مختلف المجتمعات ، وإيجاد علاقة سببية بين الخبز والرأسمالية . ولتحقيق ذلك أنشأت أمريكا الـ : CIA ليتولي الجانب الثقافي في الحرب الباردة . وقد تشكل الجهاز من بعض أعضاء مكتب الخدمات الإستراتيجية المنحل ، وكان أبرزهم آلان دالاس . وكان أول أعمال الجهاز تشكيل الواجهة ، أو الغطاء ، الثقافي الذي سيعمل من خلاله علي تحصين العالم من وباء الشيوعية ، والتمهيد للمصالح الأمريكية في الخارج ، فكان الكونسورتيوم . وكان الكونسورتيوم يضم مجموعة من الراديكاليين الذين كفروا بالشيوعية ، ليقوموا هم بأنفسهم بنقدها ، من خلال مختلف الوسائط المتاحة ، من كتابة المقالات ، أو إلقاء المحاضرات العامة ، أو كتابة الروايات الأدبية ، أو الأعمال المسرحية ، علي أن تدور هذه الأعمال حول أسباب اعتناق الشيوعية ، والإيمان بها ، ثم الكفر بها ، والتوبة عنها . وعندما يأتي الخطاب من شيوعيين منشقين يكون أكثر إقناعاً عما إذا جاء من عناصر رأسمالية . وعندما افتتح الروس بيتاً ثقافياً في برلين ؛ لنشر الثقافة الشيوعية ، قامت أمريكا بافتتاح بيوتاً ثقافية في مختلف دول العالم ، لنشر الثقافة الأمريكية من خلال المحاضرات العامة ، والعروض السينمائية والمسرحية ، وحفلات الموسيقي ، والمعارض الفنية ، وإرسال فرق موسيقي الزنوج الأمريكان ، لنفي عنصريتها الدفينة . ومنح جهاز المخابرات صلاحيات هائلة في سبيل المحافظة علي الصورة الأمريكية المرسومة دعائياً وإعلامياً . وكذا استخدام الأنشطة النفسية السرية ، بما في ذلك التخريب ، والتدمير، بالإنقلابات والإغتيالات ، ومساندة حركات المقاومة السرية ، والمعارضة السياسية ، في الدول المعادية لأمريكا ، وذلك علي نحو متقن لا تنكشف معه أي علاقة بالحكومة الأمريكية . وأعطي الجهاز الحق في التمويل اللازم لأنشطته دون تقديم أي بيانات عن أوجه الصرف ، حتي لا يكون هناك مستند يثبت مسئولية الحكومة . وقد عمل جهاز المخابرات علي تجنيد عناصر له في كل مناحي الحياة الأمريكية ، بقصد كشف الشيوعيين الأمريكيين . وقد قام الجهاز بتشكيل اللجنة القومية من أجل أوربا الحرة ، لاستغلال مهارات اليهود الشرقيين في المنفي بقصد تطوير برامج للتصدي للأنشطة الروسية . ثم أسس منظمة الحرية الثقافية ، التي تحولت فيما بعد إلي الإتحاد الدولي للحرية الثقافية ، وأنشأ فروعاً له في 35 دولة ، أصدرت أكثر من 20 مجلة ، وقامت بتنظيم المعارض الفنية ، والحفلات الموسيقية بقصد كسر الوعي بالشيوعية عند المثقفين . وقد تم الإستعانة بمؤسسة فورد ، ومؤسسة روكفلر لتنفيذ مشروعات مشتركة . ولقد سيطر الجهاز علي مجمل الحياة الثقافية علي نحو مخيف ، باعتبار ما فعله في مجال الفن والأدب ، لإعادة بناء البنية الثقافية في العالم ، علي نحو يدفع الشعوب إلي التخلي عن الأنماط القيمية التقليدية القديمة ، واكتساب أنماط جديدة ، كالتركيز علي الحريات المطلقة بلا حدود ، في مقابل القيود الموجودة في الشرق . فحين تتشرب الجماهير ثقافة تداعب غرائز التملك ، والتفرد ، والأنانية ، لن تقاوم الإنقلاب علي القديم . وهذا ما يراهن عليه النظام العالمي الأمريكي الجديد الذي أعلنه بوش ، وأداته في ذلك منظمة التجارة العالمية ، التي لا تقتصر مهمتها علي مبدأ حرية التجارة ، وإنما تمتد إلي مبدأ الحرية الثقافية ، حتي يتحول العالم إلي النموذج الأمريكي . فهل هذا التراث الأمريكي يمكن اعتباره بعيداً عن أحداث ما يطلق عليه الربيع العربي ؟ . وهل أفلت مثقفينا ، وشعرائنا ، وفنانينا ، ونقادنا ، وعلمائنا ، ومؤرخينا ، من قبضة هذه الأجهزة ؟ ! . وهل يدركون ـ سواء وعوا ذلك أم لم يعوه ، راق لهم ذلك أم لم يرق ـ أن الإستسلام لهذا الإخطبوط يعد عمالة وخيانة ؟ ! . أسئلة أظنها في حاجة إلي إجابة .
حـســـــن زايـــــــــد