الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الحلقة الحادية عشر -ذاكرة الترف النرجسي بقلم: د.حنان عواد

تاريخ النشر : 2017-02-23
الحلقة الحادية عشر -ذاكرة الترف النرجسي بقلم: د.حنان عواد
عذابات الرحيل..

دروب مزروعة بالأشواك...

بعد أن تخرجت من معهد المعلمات ،انتسبت الى جامعة بيروت العربية،كما أسلفت سابقا..وأخذ نشاطي يمتد مداه،ليعبر الأسلاك الشائكة،ويتجذر في الأرض ..

وفي مراكب الرحيل،وفي دروب التواصل مع الكون والانسان،كانت حكايات وظلت حكايات منسوجة من عذاباتنا..

فقد كنا نسافر من فلسطين المحتلة عبر الجسر،وما أقساها من تجربة!.

وما أصعبها، حينما نحاول نسج خيوط من وقائعها ومواقعها في كلمات تصور

المرارة،وعمق الأحزان.

وكلما استدرت بوجهي، وحلقت بذاكرتي الى تلك اللحظات،أشعر بمدى الأذلال الذي واجهه شعبنا،ومدى الظلم الذي عاشه ونقش في ذاكرته..

أول مرة أغادر بها عبر الجسر،كانت للذهاب الى بيروت لاجراء الامتحانات ،كم حلمت بهذا اليوم،وانا أطالع المادة المقررة،وأسافر في الكلمات وفي النصوص..،واعيد النظر وأختبر الذاكرة، لتحقيق يقين النجاح المنشود.

 كان الرحيل قاسيا،معذبا،ولم أكن أتخيل مثل هذه القسوة التي تمزق الذاكرة.!

فبعد أن أعددت الوثائق اللازمة،واحتضنت الكتب التي سأطير بها الى بيروت،والى قاعة الامتحان،بدأت تلاحقني خطوات الاحتلال الجائرة .فحينما عبرت الجسر الاسرائيلي،تم حجز السيارة،وألقي بالأمتعة على الأرض،قدمت الهوية ،وانتظرت طويلا،عيون الضابط تتفحص الأوراق،يأمر بخلع الحذاء على أرض الهجير المر..والسير على الحصى في قيظ النهار،أنتظر وأنتظر، حتى ترد الينا الأمتعة بعد التفتيش المرير،كل ورقة نحملها تفتش،ملامح خوف ووجل تبدو على صفحات الوجه القلق الواجم،مسيرة اذلال لا تصور..أنظر الناس حولي،كبار السن والنساء،أتساءل،كيف يقبل الرجال هذه المذلة؟!،وكأن زمن الرجال قد انتهى،وكأنما كبرياؤنا أصبح منسيا.

تجحظ عيناي،يجف ريقي،أحتج،أصرخ،العن الساعات،ولكن دقائقها تمر،وأنهار الآلام تجري مياهها مع كل نبضة خوف،وكل تحسب واحتساب،ليسير الزمن العنقودي قسرا،يشكل في الأعماق تجاذبات نفسية، واحباطات يصعب تصويرها.

وبعد عذابات العبور من الجسر الاسرائيلئ،ننتظر حافلة أخرى، تتراكم بها المخلوقات البشرية في اندفاع،أصعد الحافلة،باحثة عن مكان ،فيشتد الزحام ،وأراني شيئا قد ذهب ،لأجد مكانا في آخر الحافلة،تسير الحافلة ببطء شديد،وكأن الزمن غاب بعيدا، وولى ،لأنسى أين أكون .

وصلت الجسر الأردني،فتشت الأوراق وطال الانتظار أيضا،ثم انتهى ختم الجوازات،لأستقل حافلة أخرى توصلني الى عمان...حافلة قديمة جدا،صوت الماتور يعزف ألحان الحرب ،تهب منها رياح حارة تحسب أنك في جهنم.. ساعة كأنها زمن سرمدي نطوي صفحاته .

وصلت الحافلة الى المدينة،وأنا في حالة ارهاق شديد،وتوجهت الى فندق صغير،فندق الكرفان في جبل الويبدة.

وهكذا سارت الساعات بخطى سلحفاة،وأعددت نفسي للتوجه الى بيروت في اليوم التالي.ومن هنا كان بدء زمن التحدي والعلاقة مع الكتاب والانسان.بيروت كانت معقلا للعلم،وكانت أيضا،موطنا للهروب لمن يبحث عن الهروب.

وبالنسبة لي، بيروت كانت امتدادا للقدس ولعالمي الخاص هنا وهناك،أي في علاقتي بالوطن،بالكون،بالكلمة والانسان..

في السنة الأولى قضينا فترة الامتحانات في فتدق" الانتركونتيننتال"،كنا نلتقي مجموعات من الطلبة العرب من مختلف الأقطار العربية،وفي كافتيريا الفندق،كنا نجلس ،نقرأ ونتحاور،وهناك تعرفت على مجموعة من الأصدقاء الذين ظللت أعتز بهم..كنت مبدعة وسريعة الحفظ وسريعة البديهة،وجدية لا وقت عندي للضياع،أحمل كتابي،ومن خلال حروفه،أقرأ حروف الحياة..استرسلت في الدراسة،وفي كل سنة أعبر بوابات المدينة بلافتاتها المتعددة،حاملة معي لافتتي الخاصة،والتي علقتها بوجداني، وانطبعت في مسيرتي،وظللت أرحل اليها عبر مسيرة أربع سنوات،وفي كل رحلة سنوية،حكاية وحكايات،أياما كنا نقضيها ما بين حروف الكتب،وما بين الناس.

وفي بيروت،التقيت بأناس كثيرين حملوا لي كل الحب والاحترام..أذكر ذاك الرجل الذي يطالعني دائما وأنا في السنة الأولى،وكلما رآني على شرفة الفندق،أرقب بزوغ القمر وزواله وطلوع الفجر،وأنا أحمل كتابي بعيون مرهقة،يأتي بين الحين والحين بزجاجة كولا أو بوظة،وبرسالة حنان من القلب...أذكر وجهه حينما أنهيت الامتحانات، وهو يوشحني بالوداع على أمل اللقاء.

والسنة الأولى لها خصائها وتجلياتها،هي بدء الرحلة في العبور الى عالم آخر،بفيض الطموح،ورسم الطريق بوقع الخطى،وتوثب العشق المسكون في الذات

الى آفاق وردية.يتصاعد النبض بقفزات يعلو مداها،وبراءة متفردة،لتعبر حدود فتاة في ربيع العمر.

كانت السنة الأولى حلما وواقعا..ومنطلقا لاكتشاف حقائق كثيرة،وأحداث شكلتنا في حوافي الرحلة بالحضور النرجسي، في لقاء شخوص تركت بصماتها علينا في درب العشق التوحدي مع كل جماليات الكون الموشى بجدليات الكون وضبابية الجواب.

وفي السنة الثانية،أقمت في فندق "كونكورد"،حينما وصلت الفندق،قدمت أوراق التسجيل ،وقدمت التحية.نظر الي رجل الاستقبال ،ابتسم،طلب المدير وحضر،رحب بي،وطلب مني الانتظار.عاد بعد دقائق ،ورافقني الى الغرفة،والتي اختارها كأحسن غرفة، لأنها خاصة بكبار الزوار..أذكر رقمها" 102"،ولما فتحتها كانت كحدائق الجنة مليئة بباقات الورود.

استرحت قليلا،ثم حملت كتابي،وأخذت في المطالعة سويعات،بل قل أياما طويلة،وكل من في الفندق من زملاء وطلبة يرقبني.

 كان في الفندق  زاوية جانبية هادئة،بها مقهى صغير،كان يخلو من الناس في الظهيرة،كنت أنتهز فرصة خلوه من الناس،وآخذ زاوية وأغرق بالدراسة..فلاحظت ضابطا وقورا برفقة امرأة حسناء،يأتي كل يوم ويحتسي فنجانا من القهوة، ويمضي،يسترق النظر الي ،ويتبعني بنظراته.تعرفت عليهما ودعاني الى مشاركتهما في الجلسة،وأخذنا في الحديث السياسي والانساني،وكانت السيدة لطيفة جدا وجميلة...

وفي اليوم التالي،دعاني مدير الفندق الى فنجان من القهوة،وقال لي ان الضابط يود التحدث اليك،فوجئت بذلك،وأخذت دقائق استراحة،وعدت الى غرفة المدير، ثم جاء الضابط حسب موعده،تحدث الي وأبدى اعجابه من جديتي واغراقي بالدراسة،ثم وجه كلمات خاصة لي قائلا:"ما رأيك يفكرة الزواج والاستقرار؟أنا أطالعك كل يوم ،وأشعر بأنك تقضين وقتك في الدراسة.فهل اذا تقدم اليك أحد،يمكن أن تأخذي الموضوع محمل الجد ؟نظرت اليه والى المدير الجالس قربه ،ابتسمت مازحة:"هل يرضى الجناح المحلق أن يوضع في قفص حتى لو كان ذهبيا؟تم تابعت :"الزواج رسالة انسانية راقية،ولكن كما ترى فانني أحمل رسالتي العلمية أولا،وهي طريق طويل علي أن أسير بها"،ثم تابع :"بصراحة أكثر،هل تقبلين الزواج مني؟"،لم أستغرب طلبه،وقلت له:"وماذا عن صديقتك؟!أجاب:"هذه صداقة فقط"،ثم استطرد قائلا:لا تعطني جوابا الآن،ارجعي الى عائلتك واستشيري والدك"،أكبرت فيه هذا الموقف، وقلت له :"أنني أثمن عاليا ثقتك بي،ولكنني جئت الى بيروت لأدرس،وأظن أن موضوع الزواج لا زال مبكرا بالنسبة لي،وأنا لا أعرفك جيدا"،ودعته وغادرت بكل هدوء واحترام.

وفي السنة الثالثة،امتدت الحكايات،وازداد الجد في حياتي،وأخذت أعبر الفكر من نوافذه العليا،ومن ساحاته الرحبة،وكان التحدي عندي قويا..كنت أقاوم بشدة أي عائق يبعدني عن مسيرتي..،حرصت على علاقتي الجادة مع الآخرين،وكانت التجربة الأمثل هي جلسات الحوار الفكري.

وكان لي العديد من الأصدقاء،أشعر وكأنني زهرة حائرة،حدثتني باقات الورود عن الروح العاشقة،وعقود الياسمين عن عطر الكون،وقصائد الشوق عن روح القلب والوجدان،عرفت كل هذا،ومن خلال مواقفهم عرفت معنى الرجولة الحقيقي..

وفي نهاية السنة الرابعة،سنة التخرج ،نظم المعهد العلمي حفلا خاصا للطلبة المتفوقين،نظمه فاروق مجدلاوي،وبالتعاون مع رئاسة الجامعة.حضر الحفل لفيف من الشخصيات الأكاديمية  والسياسية.افتتح الحفل بكلمة فاروق مجدلاوي رئيس المؤسسة ،تلاه كلمة السيد علي الحسيني،رئيس المؤسسة في القدس،وفي نهاية كلمته قدمني لألقي كلمة الخريجين. 

 وقفت بجرأة،وقدمت كلمتي بعبير الشكر لجهود المؤسسة ولرئاسة الجامعة،،مبشرة بمستقبل واعد للطلبة الخريجين، ببلاغة نالت اعجاب الحضور،فتقدم مني رئيس الجامعة،وبشرني بأنه سيكون لي مستقبل لامع ،واقتربت مني سيدة مصرية،عانقتني وقالت :"لن أنساك أبدا يا حنان ولن أنسى كلماتك .أسعدتني الكلمات وشجعتني أكثر.كانت خطواتي قفزا،وأمواج الفرح تغمرني،تنعكس على وجهي وعلى ايقاع خطواتي.

وفي اليوم التالي،أقلتني سيارة الجامعة برفقة رئيس المؤسسة وعدد من الطلاب،كانت لحظات فرح غير عادية،أدار الرجل المذياع،واذا بلحن ملائكي واغنية لنجاة الصغيرة تبث لأول مرة"ارجع الي"، كلمات الشاعر العربي نزار قباني،كنت مغرقة في التفكير،أتأبط كتابا وأقرأ في كتاب،وكلما عاود اللحن ايقاعه،تحرك السائق بحركات طرب غير معهودة،حتى خلت أن السيارة ستنحرف عن طريقها،ويضيع كل من فيها.

وعلى هامش الدراسة،كنت ألتقي الأدباء والشعراء في جلسات هادئة معمقة في مقاهي بيروت العامرة.وفي احدى الجلسات،اجتمعنا مع عدة شعراء ،واستمعنا الى قصائدهم في نبع الفوار،أخذت أحلل القصائد،وصوت المياه حولنا والموسيقى الهادئة يضفي روحا على الجلسة.

عدت الى الفندق،وجلست عند المدخل،واذا بوفد أجنبي يمر من أمامي،اقترب رجل من الوفد طارحا السلام،عرفني على اسمه"فريد مولر"،من النمسا،تحدثنا طويلا ثم تابعت الدراسة..ومرت الأيام،وعدت الى وطني،وفي أحد الأيام،رن جرس الهاتف،واذا بمحل الزهور يخبرني أن باقة ورد خاصة قد وصلت من النمسا سيحضرها الي،فاذا هي من فريد ميلر الذي التقيته في بيروت.بعدها اتصل بي ليتأكد من وصول الورد،وبعد اسبوع تسلمت طردا،ولما فتحته،وجدت به صورة العذراء مريم مصنوعة من الذهب الصافي.وبعد شهراتصل بي ليعلمني أنه في القدس.استقبلته بكل احترام، وعرفته على والدي وأبدى دعمه لقضيتنا الوطنية،ثم غادر وظل على تواصل معي ومع العائلة.وبعد سنين ذهبت الى هولاندا للمشاركة في مؤتمر سياسي،فمر في خاطري،وكان هاتفه قد ضاع مني وعنوانه أيضا..طلبت من الفندق ان يبحث في دليل الهاتف عن اسمه،لأفاجأ أن هنالك عشرات الأسماء المشابهة..فلم أستطع التوصل الى الهاتف ولا الى العنوان،ليظل في الذاكرة انسان يستحق الاحترام.

وفي تلك السنة أيضا،بينما كنت في جلسة هادئة في الفندق،واذا بالأعلام اللبنانية تخفق في يوم الاستقلال،تبعها اطلاق نار احتفالي،نظرت عيوني بعيدا لأمنية وتساؤل،متى سيكون استقلال فلسطين؟؟.

نهض قلمي بنبض الحضور بهذه المقطوعة الامنية:

"وحينما نلتقي ثانية يا وطني

وحينما يضمنا ثراك الغالي،

وحينما نعود اليك ملوحين بأبعادنا،

بأرواحنا،بهويتنا،بحبنا،بعزمنا

نعبر اليك عبر الشمس،عبر البحر

عبر كل الخواطر،عبر الصعوبات..

وحينما نلتق ثانية يا وطني..

تكون دروبنا الانتصار..
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف