الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/26
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

التاريخ العام والادبي لعصر صدر الاسلام بقلم: حسين علي الهنداوي

تاريخ النشر : 2017-02-20
الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية
في عصر صدر الإسلام
تأليف
المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي

بسم الله الرحمن الرحيم



جميع الحقوق
محفوظة للمؤلف


الموسوعة مسجلة في
:1-مكتبة الاسكندرية
2-مكتبة بيت الشباب في الشارقة
3-مكتبة جمعة بن ماجد –الامارات
4-مكتبة الفهد الوطنية
5- مكتبة بن ادريس المغرب-مراكش
6-مكتبة بن باديس - الجزائر


كتاب
التاريخ العام والادبي لعصر صدر الاسلام


حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة) - أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
- نشر في العديد من الصحف العربية - مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا - ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م - تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا - انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983 - حائز على إجازة في اللغة العربية -حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق - عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين قسم اللغة العربية في مدينة درعا - انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0 - عضو اتحاد الصحفيين العرب - عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب - عضو تجمع القصة السورية - عضو النادي الأدبي بتبوك الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله : 1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن ) 2- الإمارات العربية ( الخليج ) 3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ ) 4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي ) المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله : 1- مجلة المنتدى الإماراتية 2- مجلة الفيصــل السعودية 3- المجلة العربية السعودية 4- مجلة المنهـــل السعودية 5- مجلة الفرسان السعودية 6- مجلة أفنــــان السعودية 7- مجلة الســــفير المصريــــة 8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية مؤلفاته : أ‌- الشعر : 1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990 2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994 3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994 4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996 5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996 6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط ب‌- القصة القصيرة : شجرة التوت /1995 ج – المسرح : 1- محاكمة طيار /1996 2- درس في اللغة العربية /1997 3- عودة المتنبي / مخطوط 4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط د – النقد الأدبي : 1- محاور الدراسة الأدبية 1993 2- النقد و الأدب /1994 3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4-أسلمة الأدب هـ - الدراسات الدينية : 1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول 2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني 3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث 4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟ الصحف الالكترونية التي نشر بها : 1- قناديل الفكر والأدب 2- أنهار الأدب 3- شروق 4- دنبا الوطن 5- ملتقى الواحة الثقافي 6- تجمع القصة السورية 7- روض القصيد 8- منابع الدهشة 9-أقلام 10-نور الأدب



قال الله تعالى في كتابه العزيز:
( (والشعراء يتبّعهم الغاوون/ 224/ألم تر أنهم في كل واد يهيمون / 225/ وأنهم يقولون مالا يفعلون/226/ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون / 227 / ))
سورة الشعراء



ـ حدثنا عبد الله بن يوسف :
أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم، عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما :
أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إنّ َمنَ البيان ِ لسحرا، أو إنَّ بعض َالبيان ِسحرا )) ـ
صحيح البخاري
/5767/



بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد الصادق الوعد الأميت وعلى آله وصحابته أجمعين . وبعد :
إذا كان الشعر في عصر ما قبل الإسلام ( العصر الجاهلي ) قد شغل العرب في جزيرتهم مفاخراً ومنافراتٍ ومدحا ً وذمّا ً، وغزلاً من خلال تحريكه لمشاعرهم وعواطفهم وعصبياتهم ؛ فإن نزول القرآن الكريم عليهم قد حرّك عقولهم وأفكارهم وأخرجهم من ظلمات العصبيات القبلية إلى نور الأمة الواحدة التي تتمحور حول دعوة التوحيد ورفع راية (-لا إله إلا الله- ) , هذه القضية التي خلق الله سبحانه وتعالى الكون وما فيه ومن فيه من أجلها والتي غيرت وجهة الفكر الإنساني الذي بقي لفترات طويلة يتخبط في دياجي الشرك والعبودية لغير الله تعالى ؛ وقد أحدث القرآن الكريم بمفاهيمه ومعارفه وتعاليمه ثورة حقيقية في حياة العرب أولا وفي حياة الأمم الأخرى ثانيا ً حيث فتح للناس آفاقا ً جديدة وشكّل لهم روحاً جديدة وسلوكا ً جديدا ً في تعارفهم مع مفردات الكون والناس وما هي إلا سنوات معدودات حتى امتزجت آيات هذا القرآن الكريم مع سحرياتهم الحمراء فاندفعوا لنشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وتكونت حول هذا القرآن الكريم علوم وآداب بهرت الفكر العالمي وغيرت مجرى نظر الناس نحو فكرة التوحيد حتى عند أصحاب الديانات الأخرى التي تقسم الألوهية إلى أقسام أو التي تجسدها في شخصية إنسان أو صنم أو عند من أخذوا يتنكرون للألوهية بشكل عام ويعتبرون الكون قد أوجد نفسه بنفسه أو وجد مصادفة -وحاشا لله -أن يكون كونه الذي خلقه بيديه لا صانع له ؛ وهكذا فقد صار من الحاجة أن يطلع القارئ على كل العلوم والآداب التي كتبت حول آيات القرآن الكريم وما تبعها من دراسات أدبية شملت السنّة النبوية المطهرة الشارحة والمفسرة لهذه الآيات. ونحن في هذا المجلد لا نبتغي دراسة الأحكام الشرعية بمفهوم ( العبادات والمعاملات ) بقدر ما نريد أن نطلع على آداب هذا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وما فيهما من قصص وأمثال وحكم وبلاغة وأساليب , ونحن نعلم جميعا أن هذا القرآن الكريم قد بهر العرب من الساعة الأولى لنزوله وما يزال يبهر العقول البشرية حتى من غير المسلمين ، ثم إننا في هذا المجلد ندرس ما أفرزته قرائح الأدباء والشعراء في حراك هذه الدعوة من خلال نوع جديد من الشعر يسمى ( شعر الدعوة ) حيث تضاءل شعر العصبية القبلية أمام ذلك التغير الجديد فقد أصبح الإسلام أبا للناس جميعا ً يفتخرون به بعد أن كانوا يفتخرون بقيس وتميم وغيرها من القبائل
أبي الإسلام لا أب لي سواه ........إذا افتخروا بقيس أو تميم
كل ذلك مع ما نجده من تراجع قليل لفن الشعر وتقدم لفن الخطابة التي أصبحت من مستلزمات المسلمين الضرورية في المجتمع والأعياد والحجج والوفود وصار لحركة الشعر نقاد غير مختصين وإن كانوا واعين لحركة الشعر وعلى رأسهم الرسول عليه الصلاة والسلام , الذي أسس بنقده الأدبي لأول نوع من الشعر هو ( الشعر الدعوي ) والذي نبّه القرآن الكريم إلى أهميته في نشر الدعوة خلال سورة الشعراء حيث قسم الشعر إلى قسمين ( شعر غاوٍ ) و(شعر واعٍ) وشكّل الرسول صلى الله عليه وسلم أول جمعية للشعر الدعوي ( جمعية شعر الدعوة ) ومثلها حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنهم أجمعين على أن ما غطّاه هذا الشعر من مساحة العقل المسلم لم يشكل التغطية الكاملة بل تقاسم الفكر المسلم مجموعة قضايا توزعها القرآن الكريم وعلومه والسنة النبوية الشريفة والأدب العربي والمعارف الأخرى وتحول الشعر إلى متنفس للشعراء في التعبير عن قضاياهم الخاصة والعامة ؛ ومع ذلك فقد خطا الأدب العربي والإسلامي خطوة ثانية في حمل قضايا الأمة وهموم الفرد وتطلعاته وارتقى أكثر , فمن شعر متكسب ( المدح ) أو شعر( هجاء) إلى شعر دعوة , وهذا ارتقاء بحد ذاته في وظيفة الشعر، كما وأن الأدب في هذا العصر قد توسعت مداخله فنشط فن الخطابة من خلال خطبه -صلى الله عليه وسلم- التي أضحت مثالا يحتذى به في البلاغة النبوية وتألق فن الرسائل من خلال ما خطه الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام للملوك المجاورين لجزيرة العرب كما وأشرق فن الوصايا التي تركها لنا رسول الله عليه الصلاة والسلام والمطلع على السنة النبوية التي جمعها لنا العلماء يدرك تماما أن نصوص التشريع النبوي إضافة إلى كونها قوانين وشرائع حياتية فهي نصوص أدبية فائقة الجمال , تبزّ ببلاغتها كل النصوص الأخرى وهذه ما سنلمسه من خلال فصول هذا المجلد التي تتحدث عن البلاغة النبوية . وأكثر ما يلفت الانتباه في الأدب في عصر صدر الإسلام ( الموعظة التقوية ) في القرآن الكريم , والحديث الشريف , والتي تحتاج إلى كتاب مستقل لدراسة( موضوعاتها وعناصرها وأساليبها واتجاهاتها ) . وهكذا فقد فتح لنا هذا العصر على قلة عدد سنواته آفاقا جديدة في سلم الحياة الفكرية.
أ-حسين علي الهنداوي
سوريا -درعا


الباب الأول
مظاهر الحياة العامة
في عصر صدر الإسلام


توطئة
الإسلام نقلة نوعية
لحياة العرب، والعالم
ليس هناك أدنى شك أنَّ الإسلام دين عالمي أممي جاء رحمة للعالمين ، فهو يفتح بقدومه صفحة جديدة في تاريخ النثر العربي ، بعد أن فتح العرب صفحة عريضة في تاريخ الشعر ....هي صفحة دين قويم بعث به رسول عظيم صلوات الله وسلامه عليه ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وينقل العرب ، وغير العرب من حياة الفوضى ، والهمجية ، والخرافة ، والوثنية ، والعداوة ، والبغضاء إلى حياة مدنية ، قوامها سعادة الجنس البشري وهناءته . ولا يمضي نحو عشرين سنة حتى يجمع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم العرب على هذا الدين الحنيف، ويستأصل ما كان فيهم من جذور همجية ، ووثنية ، وتفكك ، وتخاصم ، فيصبحوا بنعمة الله أمة واحدة تتعاون على الخير ، والبر ، والتقوى ، ويخروا إلى الأذقان سجدا خشوعا لربهم ، ورهبة من عقابه ، ورغبة في رحمته التي وسعت كل شيء . لم يعد العرب قبائل متنابذة ، كما كانوا في الجاهلية، يقتل بعضهم بعضا معظمين للدماء مفاخرين بالأحساب والأنساب، بل أصبحوا جماعة واحدة رحماء فيما بينهم، يسند قويهم ضعيفهم، لا يتحارب7ون ولا يتخاصمون، بل يتآزرون ويتعاونون، فلا نهب ولا سلب، ولا عصبية قبلية ، ولا دعوة جنسية، فالمسلمون جميعا من كل القبائل ..... من عرب، وغير عرب إخوة لا فضل لغني على فقير، ولا لقوي على ضعيف، بل هم جمعياً سواء ، ولا شريف على مشروف، ولا حر ولا عبد. كل منهم يرعى أخاه وحقوقه، وله حريته، ولكن بحيث لا تمس حرية الآخرين، فقد حدد الإسلام لهذه الحرية بتكاليفه الدينية بما حرم من ضروب الإثم، ما ظهر منها وما بطن . إنه دين سماوي، تعنو فيه الوجوه للحي القيوم الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، ومد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا وأنبت فيها من كل الثمرات، فهو باعث كل حياة. قد أحاطت قدرته كما أحاط علمه بكل شيء، فهو القاهر فوق عباده: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وإنه ليعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، وقد أعذر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وأنذر، فمن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ، وإن وراء هذه الحياة حياة أخرى يحاسب فيها المرء على ما قدمت يداه ، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، فإما الجنة والنعيم، وإما النار والجحيم، والله مع سلطانه وعدله رحيم، وعلى المسلم أن يصدع بأوامره ونواهيه في سره وعلنه، وأن يسير على هدى نبيه، وما شرعه للناس، وأن يأخذ بتعاليمه ووصاياه التي تحقق له السعادة في دنياه وأخراه. وفي هذا الدين الكريم عقائد تتصل بوحدانية الله، والإيمان برسله وكتبه واليوم الآخر، وأن وراء عالمنا نوعين من الأرواح، نوعا خيراً هو الملائكة، ونوعا شريراً هو الشيطان، وفي الدين أعمال تتصل بعبادة الله وطاعته، هي الصوم والصلاة والزكاة، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، وإنه ليدعو من آمن به إلى سيرة مستقيمة، فلا بغي ولا عدوان ولا فحش، ولا قتل ولا نهب، ولا نميمة ولا غيبة ولا كبر ولا فخر، بل حياة طاهرة تقية، خلصت من كل الشوائب، وهي حياة وضع لها الدين نظاماً اجتماعياً سديداً يكفل للجنس البشري ما يليق به من كمال، إنها رسالة جليلة، ورسالة لم يؤدها أي دين من الأديان على هذه الصورة المثالية، ومن ثم لم تؤثر في العرب وحدهم، بل أثرت في العالم جميعه، ودانت لها الأمم في مشارق الأرض، ومغاربها مقرة بجلالها وجمالها.


الباب الأول
الفصل الأول
المظهر السياسي
{ الإداري ، والحربي، والتشريعي}
في عصر صدر الإسلام
ربما لم يعرف العرب قبل الإسلام ممالكا عظيمة ، ودولا كبيرة كالتي عرفهم لها الإسلام ، بسبب عدم قدرة أبناء الجزيرة على صناعة الإمبراطوريات ، وعدم تآلفهم ، وتجانسهم في وحدة منسقة ، فقد ذكر لنا القرآن الكريم أن الله تعالى وحده هو الذي يؤلف قلوبهم : { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم }[ ] ولذلك كانت الجـزيرة العـربية مقسمة مـن الجانب السياسي إلى مناطق تتحكم فيها القبائل ، وإذا كانت إمارات ( كنـدة - والغساسنة - والمناذرة ) قــد بـدأ الضعف يدب فيهــا . فإنّ مكة المكـرّمة إبان نزول وحــي السمــاء إليها لـم تكـن لتشكل مملكـة أو دولة مستقلـة ، إذ إن التجـار يتحكمون بــها ويديرون شؤونـها السياسية ، فيعقدون الأحلاف ، ويخـوضون الحـروب ، ويحمـون تجارتهـم إلــى الشام ، واليمـن بأنفسهم ، بينما كانت المدينة المنورة حرسها الله تعالى، يهيأ فيها عبـد الله بن أبي سلول كبير المنافقين ليتوج ملكاً عليها ، وكان يسكن المدينة فئات مـن اليهـود تتمثل فـي قبائل (بني النضير - وبني قينقاع - وبني قـريظة) . وقـد كانت الحياة السياسية قائمة علـى زعامة القبائل ولـم تتعد ذلك ، فلما جاء الإسلام واستقر الرسول فــي المدينة أنشأ أول دولـة عربية تستمــد قوانينها مـن القـرآن الكــريم ، وتقيم نظـاماً سياسياً قائماً علـى مبدأ الشورى ، ومساواة الحاكــم للمحكــوم ، واعتبـار المنصب السياسي مسؤولية ، وعبئاً كبيــراً يتحمّله الخليفة ، أو الأمير ضمن قاعدة : (الإمارة تكليف لا تشريف) . ولقد نزل القرآن الكريـم فـي مدة لا تتجاوز اثنين، وعشرين عاماً علـى قـوم انتشرت بينهــم عادات سميت فيما بعـد بالعادات الجاهلية ، تعتمـد هــذه العادات علــى مبـدأ الصراع الاجتماعـي القائـم علـى الأخـذ بالثأر ، واعتبـار المرأة غنيمة ، وعـدم توريث النساء ؛ إضافة إلـى انتشار عادات شرب الخمـور ، واتخـاذ الحياة ، واللهو فيها غاية بحد ذاتها . وقـد استطاع القرآن الكريم بمفاهيمه الجديدة أن ينزع مـن نفوس هؤلاء الأعراب الرواسب التـي ذكرناها ، وأن يعيـد بناء الجانب الاجتماعي من حياة الإنسان بناء سليما أثر فيما بعد بالشعراء ، والأدباء ؛ وأسهم في نقل الفرد العربي من حياة إلى أخرى . لقـد كان العرب-أثناء وقبل نزول آيات القرآن الكريم- قوما يؤمنون بالسحر ، والكهانة ، ويقيمون حياتهم الفكرية علــى مجموعة من الأساطير ، ويعتقدون أن الشعر مستمد من الجن الذي تسكن وادي عبقر ، وأن لكل شاعر جنيا- ذكر أو أنثى- يمدُّه بما يقول من أشعار ، وقـد كان بعض الشعراء يتفاخرون بأن جنيّه ذكر وأن الجن الذي يمدون غيره مـن الإناث
إني وكل شاعر من اليشر..............شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
إضافة إلى أن القلة من العرب تؤمن بالنصرانية واليهودية بينما الأغلـب يقيم على الشرك ، ويعتقـد أن الملائكة بنات الله ، وأن الأصنام والأوثان ما هـي إلا آلهـة صغيـرة تشفع لهـم عنـد الإلـه الأكبر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وأن -البيت الحرام- كان يحتوي على ثلاثمئة ، وستين صنـماً ، وقـد يصنع العربي الجاهلي صنمه مـن التمـر ، فإذا ما جاع أكله . وبمجيء الإسلام ، ونزول القـرآن انبهـر العـرب بهـذه البلاغـة التـي يحملها ، فانصرفـوا عـن الشعـر ، وبدؤوا يحاولون فهـم هـذا الكتاب الجديـد-القرآن الكريم- إضافة إلـى أن الفتوحات الإسلامية قــد جعلت الشعر تكسد سوقه قليلاً ، خاصة ؛ وأن خيرات البلاد الأخرى قـد انفتحت عليهم ، وأن هؤلاء العرب بدؤوا يحملــون هـذا القرآن الكريم إلــى الأقوام الأخرى ولم نعـد نسمع ذكراً كثيراً للشعر ، إلا ما كان يأتي عفو الخاطر يتحدث عن وقائع العرب إذا خلا هؤلاء القوم إلى الحديث عن ذكرياتهم ، ومع ذلك : فإن هذا العصر ( عصر الإسلام ) حفل بأكثر من مئة شاعر . لقد أصبح واضحاً لدينا بعد قراءة حياة العرب قبل الإسلام سياسياً أن القبيلة بمفهومها العصبي لم تعد تصلح للحكم على الرغم من كونها المثل الأعلى للناس ، وأن عصبية القبيلة أسهمت في تكريس التفكك السياسي ، وتناحر القبائل ، وتقاتلها ؛ وأنه لما ظهرت الدعوة الإسلامية الجديدة التي حمل لواءها النبي صلى الله عليه وسلم تحققت للناس حياة هادئة مستقرة سليمة قائمة على الإخاء ، والعدالة ، والمساواة ، والتحرر من العبودية ، والخلاص من الظلم ، ونبذ الفروق الاجتماعية في تولي قيادة الدولة ، والجيوش ، والمناصب ؛ وأصبح الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعد استقراره في المدينة المنورة -622 – م-الرئيس الديني ، والزمني للدولة الفتية التي قامت على أساس من قوانين القرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة ، واستشارة أصحابه فيما لا وحي فيه امتثالا لقول الله تعالى : { وأمرهم شورى بينهم )} [الآية 38] .
1– المظهر السياسي في عهد الرسول (
بعد وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة مهاجراً اُعتبرَ قائد أمة ورئيس دولة ينظم حياة الجماعة , وكان الجانب الديني واحداً منها ، وأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم هو المرجع الأول لنشر الدين ولحل الخلافات، اختفى مجتمع العصبية القبلية ، وظهرت أول دولة عربية إسلامية جديدة قائمة على أساس العقيدة ، والدين ؛ وأوجد الرسول صلى الله عليه ، وسلم نظام -المؤاخاة بين المهاجرين - ، والأنصار ، وكتب الرسول صلى الله عليه وسلم وثيقة سميت ( الصحيفة ) حدد فيها طبيعة العلاقات بين مجتمع المدينة المنورة ، وما ترتب على ذلك من حقوق ، وواجبات .
2 – المظهر الإداري في عهد الرسول (:
أ-أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بعض العمال ( الولاة ) إلى الأماكن البعيدة من أجل جمع الزكاة ، وتعليم المسلمين أمور عباداتهم .
ب-اتخذ الرسول كتّاباً للوحي لتسجيل آيات القرآن الكريم.
ج- أرسل كتبا-رسائل- إلى الملوك والأمراء يدعوهم فيها للإسلام .
د-كانت الرسائل تختم بخاتم النبي صلى الله عليه وسلم .
3-المظهرالتشريعي والقضائي في عهد الرسول (:
اعتمد المسلمون في عصر صدر الإسلام بأمر من الرسول صلى الله عليه ، وسلم القرآن الكريم ، وسنته في تشريعاتهم القضائية ، والحياتية من أجل تسيير أمورهم ؛ وقد تولى صلى الله عليه وسلم بنفسه مهمة القضاء في المدينة المنورة ، وكان يصدر الأحكام ، ويشرف على تنفيذها ؛ أما بعد اتساع رقعة الدولة ، فقد بعث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إلى اليمن قاضياً ، وكذلك بعث إليها معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه .



الباب الأول
الفصل الثاني
المظهر الاجتماعي
في عصر صدر الإسلام
اهتم الإسلام بالحياة الاجتماعية اهتماماً بالغاً ، وقلب المفاهيم الجاهلية ، وحارب السلبي فيها ، واهتم بمؤسسة الأسرة ، وتمسك بالمثل ، والقيم الأخلاقية الحسنة في بناء الشخصية ، وحارب القيم السلبية : ( كالثأر ، والتكبر ، والعصبية القبلية ) ، وعزّز القيم الإيجابية : ( كالصدق ، والتعاون ، والكرم ) ، وأوجد قيماً جديدة : ( كالإيمان بالله وحده ، والمساواة بين الناس، والعدالة الاجتماعية ) .
أ-أعطى الإسلام المرأة دورها:
اهتم الإسلام ببناء المجتمع الإسلامي ، وأنقذ المرأة من عبوديتها ، ومنع وأدها ، وأعطاها حق العلم ، والميراث ؛ واختيار الزوج ، وشريك الحياة ، وكلفها ما كلف الرجال من أمور العبادة ، والدين . ومن مظاهر تكريم المرأة في الإسلام (اعترافه بأهليتها في الحقوق المدنية ، والمالية ، واعتبر النساء صنو الرجال) - (إنما النساء شقائق الرجال)- كما قال صلى الله عليه ؛ وسلم ، ومنح المرأة حق الحيا، والمساواة مع الرجل في الإنسانية ، والكرامة ؛ كما منحها حقّ إبداء الرأي ، وخاصة : ( في اختيار الزوج ) ؛ كما مُنحت حقَّ فصم عقد الزواج إذا أخدعت ، أو أكرهت عليه ؛ ومنع ولي أمرها من إجبارها على الزواج ممن لا ترغب به ؛ كما منحها حق التعليم ، واعتبره فريضة عليها- (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)- ، كما منحها حق التملك ، والتمليك ، وإجراء جميع العقود من البيع والشراء ، والرهن ، والوكالة ؛ وأعطاها حق العمل برضا زوجها ، وطالب الزوج بحسن معاملة الزوجة ، والتلطف في رعايتها ، والمودة ، والرحمة معها انطلاقا من قاعدة –(إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان )-ولقد حضّ الإسلام على الزواج الباكر حتى يلد الأولاد في شباب أبويهم ، وأوصى ؛ كذلك بالبر بالوالدين ، وقرن الإحسان إليهما بعبادة الله { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً } [الإسراء /23/] . ونبغت المرأة في هذا العصر في العلوم الشرعية ، والأدب ، والرواية للعلم ، والطب ؛ وعرفت النساء الشاعرات ، والأديبات والسياسيات ، كما شاركت المرأة في الجهاد بتطبيب الجرحى ، كما صنعت -نسيبة بنت كعب المازنية- مع زوجها -زيد بن عاصم - ، وابنيهما رضي الله تعالى عنهم في غزوة أحد ؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (" ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني" ) ، وقد جرحت يومها اثني عشر جرحا بين طعنة رمح ، أو ضربة سيف ؛ كذلك كانت رفيدة الأسلمية الأنصارية تداوي الجرحى في غزوة الخندق ، وأحبطت -صفية بنت عبد المطلب- رضي الله تعالى عنها تطويقاً مخططاً له عندما قتلت الجاسوس المرسل من بني قريظة لاستطلاع الآطام التي حلت بها النساء المسلمات ، وأولادهن ؛ وشاركت -خوله بنت الأزور رضي الله تعالى عنها في معركة اليرموك في الشام في وادي اليرومك في منطقطة حوران . وفي مجال تربية الطفل فقد نقض رسول الله صلى الله عليه ، وسلم عادة رفض العرب لمداعبة أطفالهم حيث كان يداعب الولائد من بناته ، وأبناء بناته ، وأبناء أصحابه ؛ وعمل الإسلام في تربية الأطفال التربية العلمية الفكرية : حيث جعل العلم فريضة على كل مسلم ، ومسلمة ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم : (" ليس مني إلا عالم أو متعلم " ) دلالةعلى ذلك.
ب- قضى الإسلام على الأمية :
منذ بدايته حين جعل فداء الأسير من المشركين تعليم عشرة من غلمان المسلمين في موقعة بدر ، وكذلك عمل على تربية الأطفال التربية الجسدية السليمة ، فقال صلى الله عليه وسلم :" حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية وركوب الخيل " .





الباب الأول
الفصل الثالث
المظهر الفكري والعلمي والثقافي في عصر صدر الإسلام
اقتصرت الحياة الفكرية قبل الإسلام على بعض المعارف البسيطة في الفلك ، والطب ، والأنواء ؛ وهي في معظمها مفتقرة إلى الطريقة العلمية في البحث ، وعلى تقدم كبير في الأدب شعراً، ونثراً ، وحكمةً ، وقد أسهم في ازدهار الحركة الفكرية في عصر صدر الإسلام
1-العامل الديني :
المتمثل في تأكيد الإسلام على أهمية العلم ، ورفع مكانته ، وحث الناس على طلبه في الكثير من آيات القرآن الكريم التي دعت إلى إعمال العقل ، واستخدام الفكر في الحصول على المعرفة في مظاهر الكون ، وأسرار الحياة في سورة [ العنكبوت- الآية -20 ] { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وسورة [آل عمران الآية-190 -191- ] { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ191} ، و[ الجاثية- الآية-3456 ] { إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) .} وأكدت السنة النبوية على أهمية العلم وضرورة التعلم –(العلماء ورثة الأنبياء)-( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)- وانتشرت مقولة (اطلبوا العلم ولو في الصين)-
2- تحدي الثقافات الأخرى :
حيث وجد المسلمون أنفسهم في مواجهة شعوب ذات حضارات عريقة، وثقافات متنوعة ، ( كالفرس ، والهنود ، واليونان ) ، مما أدى إلى ازدهار حركة نقل المعارف عند الأمم الأخرى .
3- تشجيع الرسول صلى الله عليه ، وسلم لأصحاب العلم :
وإغرائهم بمكانة العلماء عند الله من خلال آيات الذكر الحكيم- { إنما يخشى الله من عباده العلماء} [ ]- ، وقول الرسول صلى الله عليهوسلم نفسه : " إن العلماء يستغفر لهم كل من في السموات والأرض حتى الحيتان في البحار"
وقد تميزت الحركة الفكرية بعدة ميزات أهمها :
أ- شعبية المعرفة : حيث أصبحت المعرفة ، والعلم في متناول الطبقات الوسطى ، والفقيرة بعد أن كانت في أيدي النبلاء .
ب- قدرة الحركة الفكرية الإسلامية على تمثيل الثقافات الأخرى وهضمها والإفادة منها .
ج- التركيز على علوم الدين وعلوم اللغة والأدب بشكل خاص .
د- إسهام الأدباء والعلماء العرب والأعاجم في هذه الحركة الفكرية ،وفي نظام التربية والتعليم برزت مؤسسات تعليمية تقدم العلم والمعرفة ، وتشجع على البحث العلمي منها :
1- الكتاتيب: التي نشأت بعد الإسلام ، وكانت تلحق بالمساجد يؤمها الصبيان لتعلم القراءة ، والكتابة ، والقرآن الكريم ؛ وكانت أول مدرسة لتعليم القرآن الكريم في زمن الرسول صلى الله عليه ، وسلم هي ( دار الأرقم ) .
2- المساجد: ونظام الحلقات فيه منذ زمن الرسول صلى الله عليه ، وسلم حيث كان طلبة العلم يجتمعون على شكل حلقات حول أستاذهم ، وقد كانت المساجد في هذا العصر تدرس القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ؛ وقد كان الطلاب في المساجد نظاميين ، وغير نظاميين ؛ وبرزت في مدن الدولة الإسلامية مراكز ثقافية : ( كمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ) ، وفيه يعظ أصحابه ، ويعلمهم أمور دينهم ، ويستقبل الوفود، ويرسل البعوث ؛ وقد غلب على الحركة الفكرية في مسجد المدينة المنورة طابع العلوم الدينية في (القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ، والفقه ) معتمدين على الحديث النبوي النبوي الشريف أكثر من الاعتماد على الرأي ، والقياس ؛ وكذلك كانت مدرسة ( مكة المكرمة في المسجد الحرام حرسه الله تعالى ) تدرس القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف طوال العام ، وفي موسم الحج خاصة ً. وكذلك حض الإسلام على المعالجة ؛ وأبعد الطب عن مظاهر السحر، والشعوذة ، ونُقلَ عن رسول الله صلى الله عليه ، وسلم قوله : "يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء " ، وهناك أحاديث كثيرة في حفظ الصحة ، والوقاية من المرض عرفت باسم ( الطب النبوي ) ، وقد اتصل العرب بعد الفتح الإسلامي بعلوم الطب عند الفرس ، واليونان ، والهند ؛ ونقلوا بعض كتبهم فضلا عمَّا وصلهم عن الإرث الطبي للعرب القدماء في العراق ، والشام ، ومصر .




الباب الأول
الفصل الرابع
المظهر الديني
في عصر صدر الإسلام
قلب القرآن الكريم بمفاهيمه الجديدة حياة العرب الدينية القائمة على الخرافة ، والوهم ، والتقليد ؛ ونقلهم من عبادة الأصنام ، والكواكب إلى عبادة الواحد الأحد ؛ وتعد قضية ( التوحيد ) التي كرس الإسلام مفهومها الصحيح هي أعظم منجز قدمه العرب للإنسانية من خلال قوله تعالى :- { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد } [سورة الإخلاص] - قال الله تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [ النحل:36] . وقال تبارك وتعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } – [ الأعراف:59 ] . وقال تبارك وتعالى: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [ الأعراف:65 ] . وقال تبارك وتعالى: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ الأعراف:73 ] وقال تبارك وتعالى: { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} - [ الأعراف:85 ] . وقال تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [ المائدة:72 ] . وقال تعالى: { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [ ] . وكان العرب قبل الإسلام قد عاصروا دولة الروم ، والفرس ، وانكبُّوا على عبادة الأصنام . وكان إلى الغرب والشمال من الجزيرة العربية المملكة البيزنطية «الروم» ، وفى يديها مصر ، والشام ، وإلى الشرق ، والجنوب منها مملكة "الفرس" ، وفى يديها العراق، واليمن ، وكلتا المملكتين كانت طامعة فى السيطرة على الجزيرة العربية، وكانت بينهما بسبب ذلك حروب طاحنة امتدت حقبة طويلة. ولقد أظل الإسلام الجزيرة ، والحرب قائمة، لم تخمد نارها إلا مع العام -الثامن ، والثلاثين- بعد الستمائة. وحين أخفق الروم في بسط نفوذهم على الجزيرة حربا أخذوا ينفذون إليها سلماً، فمدُّوا أيديهم إلى الغساسنة فى شمالي الجزيرة يجعلون منهم أعوانهم على هذا الغزو السامي ، وكما فعل الرومان فعل الفرس ، فإذا هم الآخرون يمدون أيديهم إلى المناذرة ، ملوك الحيرة فى الشرق ، يجعلون منهم أعوانهم على الوقوف أمام الغزو الروماني. وإذ كان الروم نصارى لقن الغساسنة طرفا من النصرانية، وإذ كان الفرس مجوسا أخذ المناذرة بطرف من المجوسية ، وإذا النصرانية تعرف طريقها إلى الجزيرة العربية عن طريق الشام ، كما التمست المجوسية طريقها إلى الجزيرة العربية عن طريق الحيرة ، وإذ الحرب التي كان يلتقى فيها السيف بالسيف ، تصبح ، وقد التقى فيها الرأي بالرأي ، يقف المجوس ، ومن ورائهم اليهود والنصارى ، ويقف النصارى للمجوس واليهود ، والجزيرة العربية تشهد هذا الصراع فى الرأي ، فتشارك فيه موزعة بين ( المجوسية واليهودية والنصرانية ) ، ويزيد البيئة العربية تشتتاً توزع اليهود إلى : ( ربانيين ، وقرائين ، وسامريين ) ، وتوزع النصارى إلى ( يعاقبة ، ونساطرة ، وأريسيين ) ، هذا إلى جانب توزع الجزيرة العربية توزعا آخر بين : ( عبادة الكواكب ، وعبادة الأصنام ) ، وإذ العرب أوزاع في الرأي، أشتات فى الفكر، يمسك كل بما يحلو له ويطيب ، وإذا هم قد نبذوا الكثير مما توارثوه من شريعة ( إبراهيم ، وإسماعيل ) لا يتمسَّكون منه إلا ببقية قليلة ، كانت تتمثل فى تعظيم الكعبة المشرفة ، والحج إلى مكة المكرمة ، وإذا هم بعد هذا أمة أضلتها الضلالات ، واستهوتها الموبقات ، واستحوذت عليها الخرافات، تذل للأصنام ، وتستنيم للكهان، وتستولى الأزلام ، وإذا أخلاقها تراق ، وتهون على موائد الخمر ، والميسر؛ وإذا عدلها يفوته عليها بغى الأقوياء ، وإذا أمنها ليس لها منه إلا هباء. ويقال: ( إن أول ما كانت عبادة الحجارة فى بنى إسماعيل عليه السلام ، فكان لا يظعن من مكة المكرمة ظاعن منهم، حين ضاقت عليهم ، والتمسوا الفسح فى البلاد ، إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم الشريف حفظه الله تعالى تعظيماً له، فحيثما نزلوا وضعوه ، فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى خرج بهم ذلك إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة ، حتى نسوا ما كانوا عليه ، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام -غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات ). وكان فيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام يتمسكون بتعظيم البيت الحرام ، والطواف به ، والحج والعمرة ، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. وكان الذين اتخذوا تلك الأصنام من ولد إسماعيل عليه السلام ، وغيرهم : ( هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، اتخذوا «سواعا» برهاط . وكلب بن وبرة، من قضاعة، اتخذوا «ودّا» بدومة الجندل . وأنعم ، وطيىء، وأهل جرش، من مذحج، اتخذوا «يغوث بجرش» . وخيوان- بطن عن همدان- اتخذوا «يعوق» بأرض همدان من أرض اليمن ، وذو الكلاع من حمير، اتخذوا «نسراً» بأرض حمير، وكان لخولان صنم يقال له : «عميانس» يقسمون له من أنعامهم ، وحروثهم قسما، وكان لبنى ملكان بن كنانة بن خزيمة صنم يقال له : «سعد» صخرة طويلة بفلاة من أرضهم ، وكان روس صنم، يقال له: «ذو الكفين» . واتخذت قريش صنما على بئر فى جوف الكعبة يقال له: «هبل» . واتخذوا «أسافا» ، و«نائلة» على موضع زمزم ، ينحرون عندهما . واتخذ أهل كل دار فى دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفراً تمسّح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجّه إلى سفره ، وإذا قدم من سفره تمسح به ، فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله . وكانت لبنى كنانة «العزى» بنخلة ، وكانت «اللات» لثقيف، بالطائف . وكانت «مناة» للأوس والخزرج ، ومن دان بدينهم من أهل يثرب. وكان «ذو الخلصة» لدوس ، وخثعم ، وبجيلة. وكانت «فلس» لطيىء. وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له: «رثام» . وكانت «رضاء» بيالنى ربيعة بن كعب بن سعد . وكان «ذو الكعبات» لمكر، وتغلب ، ابنى وائل ) .



الباب الأول
الفصل الخامس
المظهر الاقتصادي ، والمالي
في عصر صدر الإسلام
حثَّ الإسلام على العمل ، ودعا إليه في كل مجالاته الزراعية ، والصناعية ، والتجارية ، والرعوية ؛ ففي هذا العصر -عصر صدر الإسلام - لم يكن لاهتمام المسلمين بنشر الدعوة الجديدة أثر سلبي على الحياة الاقتصادية .
أ-الزراعة:
فقد قال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه عندما رأى يده خشنة من أثر المجرفة التي يعمل بها لينفق على عياله : ( هذه يد يحبها الله ورسوله ) ، وكذلك شجع النبي صلى الله عليه ، وسلم على إحياء الأرض الموات ، فقال: ( من أحيا أرضا ميتة فهي له ) ؛ وكذلك ما صنعه صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر حين دفع الأرض إلى أهلها ، وأعمرها بنصف ما يخرج منها من تمر ، وقمح ، وشعير .
ب التجارة :
فقد استمر نشاطها في عصر صدر الإسلام ، وزاد الاهتمام بها ؛ وكان لقريش نصيب وافر منها حيث كانت قوافلها تجوب الجزيرة العربية ،وتصل إلى الحيرة وبصرى وغزة وصنعاء ، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك النشاط في [ سورة قريش] : { لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } ، ولكنها عادت لتضعف بسبب الفتوح الإسلامية ، وانشغال الناس بها ؛
ج- الصناعة :
فلم تتعدَّ صناعة السيوف ، والرماح التي نشطت بسبب الفتوحات الإسلامية .
د- الموارد المالية :
كانت الموارد المالية في زمنه صلى الله عليه وسلم ، تقوم على ما يتبرع به الصحابة ، والميسورون من ذوي المال الذين يبذلون الكثير منه لدعم متطلبات الدعوة ، وأصبح للدعوة بعد الهجرة النبوية المطهرة –خزينة- تتألف مواردها من ( الغنائم – الزكاة – الهبات ) .


الباب الأول
الفصل السادس
إرهاصات ما قبل نزول القرآن
(خارطة طريق الدول الكبرى)
عاشت المنطقة المحيطة بجزيرة العرب في فترة ما قبل النبوة صراعات دينية ، وسياسية على الرغم من المدنية التي عاشتها تلك الدول بما امتلكته من علوم كثيرة جعلتها مهداً للحضارة ، والصناعات ، والآداب ، وإن كانت الديانات في هذه الدول ممسوخة
أ-فقد كانت الإمبراطورية الرومانية البيزنطية : منذ -395 م-(الروم) تحكم دول اليونان ، والبلقان ، وآسية الصغرى ، وسورية ، وفلسطين ، وحوض البحر الأبيض المتوسط ، ومصر، وكل أفريقيا الشمالية ، وعاصمتها القسطنطينية ، والتي انتهت بفتح العثمانيين للقسطنطينية ( 1453-م) بقيادة ( محمد الفاتح ) لأنها تثقل رعاياها بالإتاوات ، ومضاعفة الضرائب مما أحدث فيها اضطرابات ، وثورات أهلكت ثلاثين ألف شخص في العاصمة ، ولم يعد همّ الحكام إلا جمع المال ، وإنفاقه باللهو ؛ فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم ، وعمت الرهبانية ، ودخل الناس في الجدل البيزنطي ، وانتشر المذهب الباطني ، وتنوعت فنون اللهو ، والرياضيات ، والمصارعة ، وحب العنف ، والهمجية ، والدموية في الألعاب ؛ وكانت مصر عرضة ً لاضطهاد ديني فظيع ، واستبداد سياسي شنيع ، مع انتشار البؤس والشقاء على مستوى واسع , كانت مصر بقرة حلوباً يسيء هؤلاء الرومان إطعامها ؛ وكذلك كثرت المظالم في سوريا التي غدت أيضا مطية للمطامع الرومانية حتى اضطر السوريون إلى بيع أولادهم وفاءً لديونهم .
ب-وكذلك كانت الإمبراطورية الساسانية : والتي تأسست على يد ازدشير -224 – م - ، وحكمت( أسبوته – خوزستان – ميديه –فارس – أذربيجان – خراسان – خوارزم – العراق – اليمن – كرمان – سرخس - جرجان – طبرستان – كجة الهندية – وكاتتيها وار الهندية – ومالوه الهندية ) ؛ وقد كانت عاصمتها ( طيسفون ) (المدائن) ، وديانتها (الزردشتية ) التي خلفت الديانة ( المزدائية ) وكانت ( الزردشية ) تؤمن بإلهي النور ، والظلمة – الخير ، والشر – ( روح الخير ، وروح الشر ) ، وقد جذّرها زعيمها – ماني- عام ( 300 م ) ، ثم تبعه -شاه بور- ، وقد حرَّم – ماني- النكاح ، ودعا إلى حياة العزوبية للقضاء على الفساد ، والشر في العالم ؛ ثم ظهر -مزدك -عام ( 500 م) ، فأباح الأموال ، والنساء ، وجعل الناس شركاء فيهما ؛ وقد كان الناس يدخلون على الرجل في داره ، فيغلبونه على منزله ، وأمواله ، وعرضه ؛ فانتهكت الأعراض ، وسلبت الأموال ، ونشأ جيل لا مبالٍ باطل بارع في النميمة ، والخبث ، والافتراء ، والبهتان اتخذ سبيل الإباحة وسيلة للثراء ، والجاه ، والكسب ؛ فانتشرت ثورات الفلاحين بعد أن تجرأ اللصوص ، والنهابون على قصور الأغنياء ، وأراضي العامة ، مما جعل الأرض مقفرة ، وازداد التطرف ، والمغالاة ؛ وصار الملك ( إلها مقدسا ) لا ترد كلمته يمتلكون موارد البلاد ، وكنوزها ، وخيراتها . وأبناؤها خدمٌ لهم حتى أن ( يزدجرد ) آخر ملوكها حين هرب أيام الفتح الإسلامي حمل معه ( ألف طباخ – وألف مغنٍّ – وألف قيم للنمور- وألف قيم للبزاة ، وحاشية أخرى ؛ وهذا ما جعل الشعب يرزح تحت ثقل الجوع ، والبؤس ، والشقاء يعيشون عيشة البهائم يتخذهم الملوك وقوداً للحرب ، مما جعل الكثير من الناس يدخلون الأديرة فراراً من الضرائب ، والخدمة العسكرية .
ج-وأما الهند التي تميزت في ذلك العصر : بالطب والفلسفة ، والرياضيات ، والفلك كانت ديانتها في عام( 600 م ) ، وأخلاقها أحط الديانات ، وأحط الأخلاق ، حيث انتشرت الخلاعة حتى في المعابد ، وانتقصت المرأة إلى حد اللعب بها -بدل الدراهم بالقمار -تحرق نفسها بعد موت زوجها مع وجود فروق طبيعية بين الأغنياء ، والفقراء ؛ وقسِّم المجتمع إلى ( الكهنة – المواربون – الفلاحون – العبيد ) ، حيث يحكم الهند مجموعة حكومات كثيرة يسودها الاضطراب ، والحرب ...تعيش عزلة تامة عن العالم . وأما أوروبا فقد كانت غارقة في الجهل ، والأمية ، والحروب الدامية بعيدة عن الحضارة ، والعلوم الإنسانية ، والأدب ...أجسامهم قذرة ، ورؤوسهم تعيش على الوهم يعذب الرهبان أجسامهم يعتقدون أن (روح المرأة روح حيوان) غير خالدة .
د-وأما جزيرة العرب : فقد ساءت أخلاق سكانها في العصر الجاهلي حيث أولعوا بالخمر ، والقمار ، والزنا ، والسلب ، والنهب ، ووأد البنات ، والغارات ، وقطع الطرق ؛ وسقطت مكانة المرأة بحيث أصبحت تورث ، وتباع.... يتزوج بها الرجل بالعدد الذي يريد ، ويتحكم في أفعال رجالها عصبية قبلية دموية جامحة مغرمة بالحرب ، والقتال : كما يقول : ( الرقاد بن المنذر بن ضرار الضبي ) :
إذا المهرة الشقراء أدرك ظهرها فشب الإله الحرب بين القبائل
وأوقد ناراً بينهم بضرامــــــــــــــــها لها وهج للمصطلي غير طائل
وكذلك عبر عن ذلك عمير التغلبي القطامي الذي يتحدث عن رغبة قومه في القتال مع القبائل الأخرى حيث يغير العربي على أخيه إنلم يجد من يغير عليه:
وأحيانا على بكرٍ أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
وكذلك قول عمرو بن كلثوم :
أبا هندٍ فلا تعجلْ علينا وأنظرْنا نخبّرْك اليقينا
بأنّا نورد الراياتِ بيضاً ونصدرهن حمراً قد روينا
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
وكانت حوانيت الخمر تملا الأحياء ، والحارات حتى أن المدينة غصت شوارعها به عندما حرم القرآن الكريم هذه الخمرة ، وأريقت في الشوارع. وكذلك تحدث عنها عنترة ، ولبيد بن ربيعة العامري ؛ وغيرهم ، وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة :
قد بت سامرها وغاية تاجر وافيت إذ رفعت وعز مدامها
ومن لم يشارك من العرب في مجالس القمار ينبذ ، ويعد ذلك عاراً عليه ؛ وقد قال شاعرهم :
أعيرتنا ألبانها ولوحومها وذلك عار يا بن ريطة ظاهر
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ونشرب في أثمانها ونقامر
وكم من جاهلي قامر على أهله ، وماله ! أما -الربا - فحدث ، ولا حرج ؛ فقد يتعاطاه العرب ، واليهود أضعافا مضاعفة حتى ساووا بينه ، وبين البيع ؛ وقالوا { إنما البيع مثل الربا } [ ] ، ومثله –الزنا- غير مستنكر عندهم يتخذ الرجل خليلات دون عدد ، وتتخذ المرأة أخلاء دون عقد ؛ وقد يكرهون النساء على الزنا ، ويأخذون أجره إضافة إلى أن المرأة تتعرض للغبن ، والحيف، وتؤكل حقوقها ، وتبتز أموالها ، وتحرم إرثها ، وتعضل بعد الطلاق ؛ أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجا ترضاه ، وتورث كالدابة ، والمتاع ، وتوءد غيرة ً ، ولخوف العار ، وتشاؤماً لكونها ( شيماء – سوداء – برشاء – كسحاء ) ، وكان العرب يقتلون أولادهم خشية الفقر ، والإملاق ؛ وقد يضحون بولد إن يبلغ أولاد الرجل عشرة كما فعل -عبد المطلب- جد النبي محمد صلى الله عليه ، وسلم ؛ وكان كرههم للبنات يجعلهم ينسبونها لله – وحاشا لله تعالى ذلك- على اعتبار أن الملائكة بنات الله في نظرهم ، وتفشّى الفساد في البر ، والبحر بين الناس . { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } [ الروم /41 ] .


الباب الأول
الفصل السابع
الديانات السماوية والوضيعة
قبل بعثة النبي (
تحولت الديانات السابقة للإسلام في يد المحرفين ، والمزورين ، واللاعبين ، والطامحين لحيازة المال ، والجاه ، والمنصب ؛ ففقدت روحها الحقيقية ، وأنكرها ذوو الفطرة الصحيحة ، والعقول السليمة
أ-فقد أصبحت اليهودية: بقايا طقوس ، وتقاليد لا روح ، ولا حياة فيها ؛ حيث اعتلّت عقيدتها الصحيحة بفعل تأثر اليهود بالأمم المجاورة ؛ فقد طالبوا موسى عليه السلام أن يصنع لهم عجلا يعبدونه بعد أن هداهم لعبادة إله واحد ونجاهم من بطش فرعون .
ب-وابتليت المسيحية : بتحريف الغاليين ، وتأويل الجاهلين ، ووثنية الرومان المتنصرين ، فدفنت تعاليم – السيدالمسيح - عليه السلام البسيطة تحت ركام ذلك ، واختفى نور التوحيد ، وإخلاص العبادة ( لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) ؛ وتغلغلت عقيدة التثليث ، وأن الإله الواحد مؤلف من ثلاثة أقانيم ، وكذلك انتشرت الوثنية في المجتمع المسيحي ( عبادة الشهداء ، والأولياء يحملونهم صفة الألوهية ، والقداسة ؛ وتحولت بعض الأعياد الوثنية ( كعيد الشمس إلى عيد ميلاد السيد المسيح ) عليه السلام -400 م - إضافة إلى المعارك بين نصارى الشام ، ونصارى مصر حول حقيقة المسيح عليه السلام ، وطبيعته
ج-أما المجوسية : فقد عكف أبناؤها على عبادة النار يستقبلونها في صلاتهم ، ويبنون الهياكل لها ؛ وانتشرت عبادة الشمس ؛ وتفلت الناس خارج المعابد يصنعون ما يشاؤون إضافة إلى عبادة القمر، والماء ، ودينونتهم للثنوية عبادة ( إله النور إله الظلمة ) .
د-وكذلك البوذية : في الهند ، وآسيا الوسطى تعبد الأصنام ، وتنصب تماثيل لبوذا ، وتعبد غير خالق السموات والأرض ، وإذا حاولت أن تكشف عن الديانة البرهمية فستجد أن أكثر من ( 330 ) مليون إله ، وإلهة حتى أن الناس كانوا يعبدون كل ما يستحسنوه حيث ارتقت صناعة التماثيل ارتقاءاً كبيراً ،
ه-ولم تختلف الهندوكية : عن البوذية في الإغراق في الوثنية ، وخلق الآلهة الصغيرة التي تنظم إلى بعضها لتشكل تجمعا لهذه الآلهة .
و-وكذلك لم يختلف العرب : عن تلك الشعوب في تأليه الأصنام ، وعبادتها ، وإقامة النصب لها في فترة ما قبل- نبوة محمد عليه الصلاة والسلام -على الرغم من إيمانهم في الزمن القديم -بدين إبراهيم الخليل عليه السلام - والذي بقي منه بقية من الحنفاء لا تزيد على أصابع اليدين عند مجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كان لكل قبيلة صنم ، ولكل مدينة صنم ، ولكل بيت صنم ؛ وكان في جوف الكعبة المشرفة حرسها الله تعالى ، والتي بناها آدم عليه السلام ، ورفع قواعدها إبراهيم الخليل ، وابنه إسماعيل عليهما السلام ( 360 ) ثلاثمائة ، وستون صنماً ، كما أن لبعض العرب آلهة من الملائكة أ والجن ، والكواكب ؛ وأن الملائكة هي بنات الله ؛ وأن الجن شركاء له يعبدونهم ، ويؤمنون بقدرتهم ، وتأثيرهم على الحياة والناس ؛ أما اليهود والنصارى ، فقد كان لهم بقية من التأثير في نجران ، والمدينة المنورة ، ومكة المكرمة حيث كان ورقة بن نوفل ، وأمية بن أبي الصلت ، وغيرهم .


الباب الثاني
خصائص الدعوة الإسلامية

الباب الثاني
الفصل الأول
الإسلام دعوة توحيد
لله تعالى
أ-كان العرب في معظمهم قبل الإسلام وثنيين يعبدون الأصنام ، والأوثان ، ويقدسونها . وقد تكون هذه الأصنام على شكل حجارة ، أو أشجار ، أو تماثيل ، أو غير ذلك . فالعرب كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة ، ولكنهم في حقيقة أمرهم كانوا يعتقدون بوجود الله عز وجل ، وكانوا يعبدون الأصنام لكي يتقربوا من خلال ذلك إليه عز وجل . ويؤكد ذلك ما ورد في القرآن الكريم من آيات ، حيث يقول الله تعالى: { وما نعبدهم إلا ليقربونا من الله زلفى } [الآية 3 سورة الزمر]
ب-وكان لكل قبيلة صنم خاص بها ، أو أكثر ؛ وهنالك أربعة أصنام رئيسة يعبدها ، ويقدسها عدد كبير من العرب ، وهي (هبل -ومناة –واللات- والعزى) ، والصنم الأول هبل كان موجودا في الكعبة ، أما بقية الأصنام فقد كانت موجودة خارج مكة المكرمة . وقد ورد ذكر هذه الأصنام في القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى في سورة النجم : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى } [ الآية 19 ] ، وكان العرب يقدسون أربعة أصنام أخرى أقل أهمية من تلك الأصنام .
ج-وعندما انتصر الإسلام ودخل المسلون مكة المكرمة ، وفتحوا بقية الجزيرة العربية حطموا كل الأصنام والأوثان . وأصبح جميع العرب يؤمنون بوجود الله الواحد الأحد الذي لا شريك له ، كما يؤمنون برسالة النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، كما أصبحوا يطبقون شريعة الدين الإسلامي مما له علاقة بالصلاة ، والزكاة ، والصيام والحج ، وجميع الأمور التي لها علاقة بشريعة الله تعالى ، وتعاليمه .
د-وقد خلع الإسلام على أتباعه سلوكا يتميز بمبادئ خلقية فاضلة وقيماً ساميةً ، تقوم على أساس التعاون ، والتسامح ، والوفاء ، والصدق، والمحبة ، والإخاء التي عرف كثير منها عند العرب قبل الإسلام ؛ وهذا ما أكده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: "إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا : أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ ، فَإِيَّاكَ، وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ؛ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" [ متفق عليه ] ؛ والدعوة إلى توحيد الله ، وعبادته هي دعوة الأنبياء جميعاً دون استثناء ؛ قال الله تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ النحل:36] . وقال تبارك وتعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ لأعراف:59] . وقال تبارك وتعالى: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ } [ لأعراف:65] . وقال تبارك وتعالى: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ لأعراف: 73]. وقال تبارك وتعالى: { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [لأعراف:85] . وقال تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] . وقال تعالى: { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[العنكبوت:1 ]


الباب الثاني
الفصل الثاني
الإسلام دعوة فكرية
أ-يعد الفكر من أهم منجزات القرآن الكريم الذي أعطاه مكانة عظيمة ، وجعل طلبة والمواظبة عليه من العبادة لله تعالى.
ب-والأمر المهم الذي جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أنه ربط حياة العرب بشكل خاص ، والمسلمين بشكل عام بالفكر من خلال هذا القرآن الكريم ، ففتح لهم آفاق الكون ، ومفرداته ، والحياة ، وعناصرها ، والإنسان، وعجائب خلقه ؛ واهتم الإسلام كثيراً بالعلم ، وشجع على تعليم أبناء المسلمين ، كما شجع على إعمال الفكر ، والتأمل في ظاهرات الكون المختلفة ، وحث على طلب العلم حيث يقول الله تعالى في سور الزمر: { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الآية 9 ] ، كما يقول الرسول صلى عليه ، وسلم "طلب العلم فريضة على كل مسلم ، ومسلمة " ؛ وينسب له أيضا "اطلبوا العلم ولو في الصين " .
ج-وقد أدى اهتمام الإسلام بالعلم إلى نبوغ عدد كبير من العلماء العرب، والمسلمين ؛ وكان التعليم يتم في بداية الأمر عن طريق حلقات العلم في المساجد
د-ولقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه ، وسلم المثل الأعلى في تشجيع العلم ، فقد جعل فدية المتعلم من أسرى بدر تعليم عشرة صبيان من أطفال المسلمين ، وما معجزة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم (القرآن الكريم ) إلا دلالة واضحة عل اهتمام الإسلام بالعلم .
ه-وفي قراءة ما بين السطور لهذا القرآن الكريم نجد أن المكتبة العربية لم تكن لتوجد لولا هذا الفيض الرباني العظيم الذي جعل المسلمين يهتمون بالعلم اهتماماً كبيراً .


الباب الثاني
الفصل الثالث
الإسلام دعوة سياسية
كان المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربية قبيل الإسلام يعيش حياة قبلية يسيطر فيها رؤساء القبائل ، والزعماء على مقدرات الناس ، ويسخرونهم في حروب قبلية تهلك البلاد والعباد ، وتعود بالضرر على جميع القبائل، والجماعات ، وتمزق وحدة العرب ، وتضامنهم وتعاونهم . ولقد وضع الإسلام أسسا جديدة للدولة الإسلامية من أهمها :
1-اعتماد مبدأ الشورى في اختيار الحكم ، وفي تسيير شؤونه معتمدين في ذلك على قوله تعالى في سورة آل عمران { وشاورهم في الأم} [الآية 159 ]، وكذلك قوله تعالى في سورة الشورى { وأمرهم شورى بينهم} [ الآية 38 ]
2-توفير الحرية بجوانبها المتعددة مثل حرية العقيدة ، والرأي ، والتعبير ، والتفكير
3-المساواة بين جميع المواطنين في تطبيق النظام ، والقانون ، وتكافؤ الفرص .
4-ضمان حقوق المواطنين غير المسلمين ( أهل الذمة ) ، إذ ترك لهم حرية العبادة ، والتملك ، والرأي ، والاجتماع ، والعمل ؛ وكان للإسلام دور في بناء الدولة العربية الواحدة التي دينها الإسلام إذ لم تكن الدعوة الإسلامية مخصصة للعرب فقط ، وإنما جاءت للناس كافة حيث يقول الله تعالى مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في سورة الأنبياء : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الآية 107 ] . ومن هنا عدَّ العرب أنفسهم مكلفين بنشر الدعوة الإسلامية ، وتبليغها للشعوب الأخرى في مشارق الأرض ، ومغاربها . لقد عمل العرب على نشر ثقافة عربية إنسانية مع عقيدتهم الجديدة في البلدان التي فتحوها ، واستطاعوا بفضل الإسلام بناء دولة واحدة بخليفة واحد وجيش واحد، وقوانين ومؤسسات واحدة ، فكان الإسلام دعوة حقيقية شاملة بعثت حضارة إنسانية خالدة على أكتاف أمة عظيمة ، عرفت كيف تأخذ مكانها المناسب في العلم عبر العصور التاريخية . كذلك كان للإسلام أثر كبير في توحيد الأمة العربية ، إذ ألغى العصبية القبلية التي كانت تمزق الأمة العربية إلى قبائل ، وأحل محلها الرابطة الدينية التي توحد بين جميع القبائل العربية . ونتيجة لذلك -وبفضل الإسلام- توحَّد العرب للمرة الأولى في تاريخهم . ونتيجة لوحدة الأمة العربية تمكن العرب من نشر رسالة الإسلام ، ودين التوحيد في مشارق الأرض ، ومغاربها . ونتيجة لذلك أيضا تمكن العرب تدريجيا من تحرير بلاد الشام ، والعراق ، ومصر ، وليبيا ، وشمال أفريقيا ، فأصبحت جزءاً أساسياً من الأمة العربية ، والوطن العربي .


الباب الثاني
الفصل الرابع
الإسلام دعوة اقتصادية
انطلق الإسلام من اتجاهات جديدة في مجال الحياة الاقتصادية تؤكد على العدالة ، والكسب الحلال ، وعدم الاحتكار ، وعدم الاستغلال ، ومن أهم الأسس الاقتصادية التي أكدها الإسلام ، والتي كان يفتقر إليها المجتمع العربي قبل الإسلام :
1-التأكيد على أهمية العمل :
أكد الإسلام أهمية العمل ، واعتبره المصدر الوحيد لكسب الحلال ، ورأى أن العمل يعد عبادة ، ووضع اليد المنتجة في مكانه متميزة من الاحترام ، والتقدير ؛ وقد أدى ذلك إلى ازدهار النشاط التجاري بفروعه المختلفة .
2-محاربة وسائل الكسب غير المشروع :
حارب الإسلام وسائل الكسب غير المشروع مثل : ( الاحتكار ، والميسر ، والربا-الذي يعني تقديم الدين للآخرين مقابل فوائد عالية ) . وهذه الوسائل كان يعتمدها معظم أغنياء العرب لاستغلال حاجة الفقراء . وقد شجع الإسلام وسائل الكسب الحلال في الزراعة ، والصناعة ، والتجارة ؛ وأعطى الأرض لمن يحييها ، ويعمل بها .
3-تنظيم المعاملات المالية :
وقد نظم الإسلام العلاقات المالية بين المسلمين ، مما له علاقة بالبيع ، والشراء ، والعقود ، والوصايا ، والميراث ، وما إلى ذلك
4-احترام الإسلام للملكية الشخصية:
أباح الإسلام الملكية الشخصية ، ولكنه وضع حدودا لحفظها ، واشترط ألا تضر هذه الملكية بالمصلحة العامة ، وأن تكون بعيدة عن الاستغلال والاحتكار واستثمار جهد الآخرين
الباب الثاني
الفصل الخامس
الإسلام دعوة اجتماعية
أ-كان ظهور الإسلام ، وانتشاره انطلاقة هامة لإزالة العلاقات القائمة على العصبية القبلية ، والأخذ بالثأر ، ومنهاجاً جديداً للتأكيد على العدالة ، والمساواة ، والقيم الفاضلة ، والمبادئ ؛ والأسس الاجتماعية التي أكدها الإسلام جاءت لتصنع مجتمعا خالياً من النكوص ، فقد حضَّ الإسلام على القيم الإيجابية التي تميز بها العرب قبل الإسلام مثل : ( الكرم والوفاء بالوعد) ، كما أنه حارب القيم السلبية والعادات السيئة مثل : ( الثأر وشرب الخمر ولعب الميسر) .
ب-رفع مكانة المرأة ، وحفظ لها حقوقها في الزواج ، والإرث ، والتملك ، وطلب العلم ، والمشاركة في أعمال المجتمع في السلم ، والحرب ، ونظم أحكام التشريع ، والقصاص ، ووضع حدوداً للمشكلات ، والجرائم المختلفة مستمدة من القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة .
ج-وعمل على التقريب بين طبقات المجتمع ، وأفراده بوسائل متعددة من أهمها الزكاة ، والصدقات ، والضرائب التي تدفع لخزينة الدولة ، ويتم توظيفها من أجل رفع المستوى المعاشي، والحضاري لجميع أفراد المجتمع .
د- وأكد مبدأ المساواة بين جميع أفراد المجتمع في الحقوق ، والواجبات ، ودعا إلى تحرير الرقيق ، ومعاملتهم بلطف ، وإحسان ؛ وانطلاقا من هذه المواقف العظيمة استطاع العرب المسلمون بناء حضارة إنسانية راقية شملت مختلف جوانب الحياة .
الباب الثاني
الفصل السادس
الإسلام دعوة إنسانية
أ-تتمثل دعوة الإسلام في قوله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }[ ] ؛ بأنها دعوة إلى الناس جمعياً ليبنوا حياة واعدة بالخير ، والمحبة ، والعطاء والجمال ؛ وقد جاء الإسلام ليبني حياة إنسانية واعدة بالمحبة الإنسانية " أحبب لأخيك ما تحب لنفسك "[ ] ؛ ولقد تجلت الحياة الإنسانية الواعدة من خلال قول رسول الله صلى الله عليه ، وسلم " الناس سواسية كأسنان المشط " ، وفي قوله أيضاً " لا فضل لأبيض على أسود, ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى "
ب-وإذا كانت دعوة الإسلام إلى التوحيد هي جوهر الدين الحنيف ، فإنما ذلك لأن الإسلام جاء لينقذ الناس من الظلمات إلى النور؛ وقد تعممت هذه النظرة الإنسانية التي بثها القرآن الكريم في ثنايا آياته من خلال مفاهيم المساواة ، والعدل ، والحق ، والخير الإنساني التي لولاها لبقي الإنسان يعيش في تخبط وإحباط . لقد بنى الإسلام إنساناً جديداً قوام حياته القيم الإنسانية الطافحة بالخير ، والمحبة ، والعطاء ؛ فكانت: ( الأمانة والصدق والاستقامة )السلم الإنساني الذي يصعد عليه الإنسان للعلى ، والحضارة ؛ وتجلت قيم هذا الدين الجديد عطاء ، ومحبة لبناء برج الحضارة الإنسانية .


الباب الثالث

الإرهاصات بمولد الرسول
كانت الجزيرة العربية إبان مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في توزع ديني بين يهودية ونصرانية ومجوسية ووثنية جر إلى توزع اجتماعي، فشخصت أبصار القلة الواعية من رجالات الجزيرة الراشدين إلى السماء تنشد العون وتستمطر الرحمة، وجمعت البلبلة الفاشية بين أربعة من هذه القلة الواعية، وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد ابن عمرو بن نقيل، ينظرون لأنفسهم ولأمتهم، فما انتهوا إلى رأى، وإذا هم أشتات حين انفضوا كما كانوا أشتاتا حين اجتمعوا، لأن الأمر كان أجل من أن يحمل عبئه غير رسول مؤيد من السماء. وكانت الإرهاصات تشير إلى ميلاد هذا الرسول، وإلى أن هذا الرسول اسمه محمد، وأحمد، وبهما كان يسمى صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى:
{ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ } . [الأعراف/ 156] ، ويقول تعالى: { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } . [الصف 6] ، ويقول تعالى: { الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ } [الأنعام 30] ، ويقول تعالى: { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ } [آل عمران 93] ، فمما لا شك فيه ولا تعترضه شبهة أنه لا يجوز للخصم المخالف أن يستشهد على خصمه بما فى كتابه، وينتصر عليه بالتسمية من غير أصل ثابت عنده، أو مرجع واضح لديه، وهل الاستشهاد على هذا إلا بمنزلة الاستشهاد على المحسوس، الذى لا يكاد يقع الاختلاف فيه؟ وعلى الرغم مما دخل إلى التوراة من تحريف وتبديل فثمة فيها ما يحمل هذه الإشارة إلى محمد، ولقد جاء هذا التحريف والتبديل إلى التوراة بعد ما خرّب بختنصر بيت المقدس، وأحرق التوراة، وساق بنى إسرائيل إلى أرض بابل. ويقال إن عزيزا أملاها في آخر عمره على واحد من تلامذته، وكان هذا الإملاء لا شك عن حفظ فردى، وعن هذه النسخة المملاة كانت النسخ المختلفة، وكان هذا التحريف. ويستدلون على ذلك بما في التوراة من أخبار عما كان من أمر موسى عليه السلام، وكيف كان موته، ووصيته إلى يوشع بن نون، وحزن بنى إسرائيل وبكاؤهم عليه، وهذا ونحوه لا يجوز عقلا إن يكون من كلام الله ولا من كلام موسى. ثم إنه ثمة توراة في أيدى السامرة تخالف تلك التي في أيدى سائر اليهود في التواريخ والأعياد وذكر الأنبياء، كما أنه ثمة توراة في اليونانية تخالف التوراة العبرانية في السنين بما يربى على ألف وأربعمائة سنة، وهذا التخالف محال إن يتصف به كتاب من عند الله. وينقل صاحب البدء والتاريخ عن نسخة من التوراة لأبى عبد الله المازني : يا داود، قل لسليمان من بعدك إن الأرض لي أورثها محمدا ليست صلاتهم بالطنابير، ولا يقدسوني بالأوتار. وفيها: إن الله عز وجل يظهر من صهيون إكليلا محمودا. والإكليل هو الرياسة والإمامة، والمحمود: محمد صلى الله عليه وسلم. وفى التوراة العبرية، من قول الله تعالى لإبراهيم: سمعت دعاءك في إسماعيل، ها باركت إياه، وكثرت عدده وأنميته جدّا جدّا حتى لا تعد كثرته اثنا عشر ملكا يولد، وأظهره لأمه عظيمة. وفيها: وجاء الرب من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من فاران . وساعير جبال فلسطين حيث ظهر عيسى، وفاران: مكة المكرمة ، وتجد في التوراة العربية (سفر التثنية، الإصحاح 18، الآية: 15) : يقيم لك الرب إلهك نبيّا من وسطك من إخوتك مثلى له تسمعون. ولقد جاء بعد موسى عيسى، وهو من بنى إسرائيل، ومقتضى الآية أن يكون ثمة نبي مرتقب بعد عيسى، ومحمد من ولد إسماعيل، وإسماعيل أخو إسحاق، وإسحاق جد بنى إسرائيل، وإخوتهم هم بنو إسماعيل. وتزكّى هذا الآية الثامنة عشرة من الإصحاح الخامس والعشرين، من سفر التكوين حيث تقول: وسكنوا- أى أبناء إسماعيل- من حويلة إلى شور التي إمام مصر، حينما تجيء نحو أشور أمام جميع إخوته نزل. وكذا تزكيه الآية الثانية عشرة من الإصحاح السادس عشر، من سفر التكوين: وأمام إخوته يسكن. وفى إنجيل يوحنا (الإصحاح: 14، الآية: 15، الإصحاح: 16، الآية: 6- 7 م) ما يشير إلى إتيان الفار قليط، ومعنى الفار قليط: الكثير الحمد، وهذا المعنى هو ما تعطيه كلمة أحمد، التي هي من أسماء النبي. غير أن النص العربي من الإنجيل، جعل مكان الفار قليط في الموضعين : (المعزى ) . ففي الموضع الأول يقول الإنجيل: ومتى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذى من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي. والنص في غير النسخة العربية، على لسان عيسى وهو يخاطب الحواريين : أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذى لا يتكلم من تلقاء نفسه وهو يشهد لي بما شهدت له، وما جئتكم به سرّا يأتيكم به جهرا. وفى الموضع الثاني يقول: وأما الآن فأنا ماض إلى الذى أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضى ... ؟ لكنى أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتكم المعزى، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. والنص في غير النسخ العربية: إن الفارقليط روح الحق الذى أرسله أبى باسمي هو الذى يعلمكم كل شيء. والفارقليط لا يحكم ما لم أذهب. وفى سفر رؤيا يوحنا (الإصحاح: 19، الآية: 11، 15) : «ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينا وصادقا وبالعدل يحكم ويحارب» . ومحمد يدعى الأمين الصادق. وفيه أيضا (19: 15) «ومن فمه يخرج سيف ماض لكى يضرب به الأمم وهو سير عاهم بعصا من حديد وهو يدوس معصرة خمر» . والقرآن الكريم في مضاء السيف أذعنت له الأمم، ومحمد حرم الخمر وما حرمها عيسى.


الباب الرابع
حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم
( 1 )
أسرته و نشأته
أ - نسب الرسول صلى الله عليه وسلم:
يرجع الرسول بنسبه إلى بني هاشم , وهم من أهم بطون قريش . وكان جدة عبد المطلب من سادات قريش وزعمائها البارزين , وهو الذي تفاوض مع أبرهة الحبشي عندما حاول هدم الكعبة , وكان عظيم الشأن في قومه , كما كان يشرف على الأمور التي لها علاقة بسقاية الحجاج . ومن أعمام الرسول البارزين أبو طالب وحمزة والعباس .
ب - نشأة الرسول صلى الله عليه وسلم :
ولد الرسول صلى الله عليه وسلم في مدينة مكة في الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام 571 م ( عام الفيل ) . وهو العام الذي جاء فيه أبرهة الحبشي على ظهر فيل لغزو مكة وهدم الكعبة , ولكنه باء بالهزيمة والفشل . توفي والد الرسول صلى الله عليه وسلم واسمه عبد الله بن عبد المطلب في يثرب قبل ولادة الرسول , حيث كان عائدا من تجارة له ودفن عند أخواله بني النجار . وبعد فترة من ولادته تولت رضاعته السيدة ( حليمة السعدية ) رضي الله تعالى عنها التي كانت تقيم في بادية بني سعد , حيث الهواء الطلق واللغة العربية السليمة .وكان من عادة أشراف العرب في قبيلة قريش في تلك الفترة إرسال أولادهم للرضاعة في البادية لفترة من الوقت . وعندما أصبح عمره ست سنوات توفيت والدته آمنة بنت وهب فكفله جده عبد المطلب . ولما بلغ الثامنة من عمره توفي جده عبد المطلب فكفله عمه أبو طالب الذي كان شديد المحبة له والاهتمام به, وكان يعامله مثل معاملته لأولاده(علي وعقيل وجعفر ) وقد رعاه وتعهده إلى أن أصبح شابا يافعا .
وعندما كان صغير السن وفي التاسعة من عمره رافق عمه أبا طالب في تجارة له في بلاد الشام . وقد التقيا في مدينة بصرى الشام مع الراهب النصراني( بحيرى ) الذي رأى فيه علامات النبوة , ونصح عمه أبا طالب أن يعود بابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى مكة خوفاً عليه من غدر اليهود , ففعل أبو طالب ذلك . اشتغل الرسول صلى الله عليه وسلم في صباه برعي الغنم وكان يفتخر بهذا العمل
ومما تجدر الإشارة إليه أن معظم أهالي قريش في تلك الفترة كانوا يعملون في التجارة و إليها يرجع سبب غناهم وثرائهم . وكانت القوافل التجارية تتجه شمالاً نحو بلاد الشام , حيث يتم التبادل التجاري في مدينة بصرى , أو تتجه جنوباً نحو اليمن والحبشة، وقد سميت رحلاتهم هذه برحلة الشتاء والصيف . وقد ورد ذلك في القرآن حيث يقول الله تعالى في سورة قريش : (( لإيلاف قريش , إيلافهم رحلة الشتاء والصيف , فليعبدوا رب هذا البيت , الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف )) وكانت القوافل التجارية تتجه نحو بلاد الشام في فصل الصيف غالباً بينما تتجه القوافل إلى اليمن والحبشة في فصل الشتاء .
ج - رضاعة الرسول صلى الله عليه وسلم :
كانت عادة العرب أن تسترضع أولادها في البادية , ليتعلموا فصاحة الأعراب و خشونة العيش في البادية , ويستنشقوا هواءها وعبيرها صافيا بعد كدر. دفعت آمنة رضي الله تعالى عنها طفلها محمد صلى الله عليه وسلم إلى حليمة السعدية لترضعه في منازل قومها بني سعد قرب الطائف , وذلك على عادة العرب في تربية أولادهم في البادية , لتقوى عزائمهم وتشتد هممهم . فكان قدومه على بني سعد بركة وخيرا . ومكث الرسول صلى الله عليه وسلم عـند حليمة ثلاث سنوات حتى بلغ الخامسة , حيث كانت حليمة ترعاه فيها أحسن رعاية وتكرمه أحسن الإكرام كما لو كان واحداً من أولادها .
( 2 )
أسرته ونشأته
أ - مكانة الرسول في قومه :
كان الرسول صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم , وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى (( وإنك لعلى خلق عظيم )) سورة القلم , الآية (4) . وقد اشتهر بين قومه بالمروءة , والوفاء بالعهد , وحسن الجوار , والحلم و العفة والتواضع والصدق والأمانة , حتى لقبوه بالصادق الأمين .
ب - حلف الفضول
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشارك في أعمال مجتمعه ويتعاون مع أبناء قومه في كل ما يعود عليهم بالخير والنفع . فقد شارك وهو في السابعة عشرة من عمره في حلف الفضول الذي عقده سادات مكة لنصرة الضعيف والمظلوم . وكلمة فضول مشتقة من الفضل والفضيلة وسبب هذا الحلف أن رجلاً قدم إلى مكة ومعه بضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي ثم رفض أن يدفع له ثمنها , فاستنجد بأشراف قريش الذين اجتمعوا وأعادوا له ثمن بضاعته وتعاهدوا على نصرة المظلومين والضعفاء ضد من يعتدي عليهم ، وكان له الفضل في إنهاء الخلاف الذي نشب بين القبائل المختلفة . وكاد أن يتطور إلى القتال بينهم بشأن وضع الحجر الأسود في المكان المخصص له من الكعبة , حيث أشار عليهم بطريقة أرضت الجميع ودلت على ذكائه و رجاحة عقله , وثقة قومه به .
ج - زواجه من خديجة بنت خويلد :
كانت خديجة إحدى نساء قريش الفاضلات , وهي معروفة برجاحة عقلها وعراقة نسبها . وكان لديها مال تعمل فيه في التجارة , حيث تستأجر من يشرف على تجارتها لقاء مبلغ من المال . وعندما سمعت بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإخلاصه وأمانته طلبت منه أن يذهب بتجارتها إلى بلاد الشام , فوافق على ذلك . ورافقه في الرحلة غلامها ميسرة وقد كانت الرحلة ناجحة . وربحت خديجة مبلغاً كبيراً من المال , وشجّعها ذلك على الزواج منه وكان عمر الرسول صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة . ولقد ساعده زواجه من خديجة على العيش بهدوء , حيث وقفت إلى جانبه بقوة وإخلاص ولا سيما في بداية نزول الوحي عليه .
د - انصراف الرسول صلى الله عليه وسلم للتفكير في الأمور الدينية :
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم راضياً عن معتقدات قومه الوثنية وعبادتهم للأصنام , وإيمانهم بتعدد الآلهة . وكان يشعر في قرارة نفسه بوجود إله واحد عظيم لا شريك له . وهو الذي خلق هذا الكون الفسيح والرائع بجميع محتوياته . ولذلك كان يذهب إلى خارج مكة المكرمة ويتجول بين شعابها ووديانها حتى يصل إلى غار حراء , حيث يعتكف هناك لفترة من الوقت يقضيها بالتأمل في جمال الكون وروعة نظامه , وقدرة الخالق العظيم التي لا حدود لها .
هـ - إعادة بناء الكعبة :
كانت قريش قد قررت إعادة بناء الكعبة بعد أن تصدعت جدرانها , وعندما تم هدمها جمعت القبائل الحجارة لبنائها , ثم بنوا حتى إذا بلغ البنيان موضع الحجر اختصموا فيه , كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوزوا وتحالفوا وتواعدوا للقتال فمكثت قريش أربع ليال – أو خمس ليال – على ذلك . ثم اجتمعوا في الكعبة فتشاوروا وتناصفوا . ثم اتفقوا أن يجعلوا بينهم فيما يختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد , يقضي بينهم فيه , فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا به , هذا محمد . فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال : هلم لي ثوبا . فأتي به . فأخذ الركن , فوضعه فيه بيده ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم رفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بنى عليه وكانت قريش تسمي الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي (الأمين)
(3) جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم
لنشر الدعوة
أ - نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم :
بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً في غار حراء يتأمل في الكون والحياة , أوحي إليه وهو في الأربعين من عمره بأن الله تعالى قد اختاره لنشر دعوة التوحيد والتبشير بدين الإسلام , ولقد نزل عليه جبريل عليه السلام وأخبره بذلك وطلب منه أن يقرأ , ثم علمه الآيات الخاصة بسورة العلق وبدايتها قوله سبحانه وتعالى (( اقرأ باسم ربك الذي خلق , خلق الإنسان من علق , اقرأ وربك الأكرم , الذي علم بالقلم ......)) ، وقد عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته وأخبر زوجته خديجة بما جرى له , فسألت قريبها ورقة بن نوفل عن ذلك , وكان من حكماء العرب فأخبرها بأن زوجها جاءته النبوة الصادقة , ولذلك فإن خديجة آمنت بالرسول وشجعته ووقفت إلى جانبه
ب أدوار الدعوة الإسلامية :
للدعوة الإسلامية دوران أساسيان أولما الدور المكي الذي يتضمن الحوادث التي حصلت في مكة المكرمة . أما الثاني فهو الدور المدني يشمل الحوادث التي جرت في مدينة يثرب ( المدينة المنورة ) حرصها الله بعد هجرة الرسول إليها . أما الدور المكي فهو يتألف من فرعين أيضا وهما :
1 – الدور السري :
بعد نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم بنزول آيات القرآن الكريم بدأ يدعو الناس إلى الدخول في الإسلام , ولكنه كان يفعل ذلك سرّاً لأنه كان يخاف من قريش زعيمة الشرك والوثنية في شبه جزيرة العرب . ولقد استمر هذا الدور ثلاث سنوات تقريبا , كان الرسول من خلاله يدعو أهل بيته وأصدقاءه إلى عبادة الإله الواحد وترك عبادة الأوثان . وكان أول من آمن به من الرجال صديقه أبو بكر رضي الله عنه , ومن النساء زوجته خديجة رضي الله عنها ومن الصبية ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه , كما آمن به مولاه زيد بن حارثة ( والمولى معناه في تلك الفترة العبد المعتق أو طالب الالتجاء ) , ثم بدأ عدد المسلمين يزداد تدريجياً وكان الرسول يلتقيهم في دار الأرقم .
2 – الدور العلني :
بعد ذلك صعد الرسول إلى جبل الصفا أخذ يدعو أهله وأعمامه وأهل مكة للدخول في دين الإسلام . وقد حصل ذلك جهراً وعلناً امتثالاً لأوامر الله عز وجل , حيث ورد في سورة الشعراء قوله تعالى :{ وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الآية 214 ] ، كما ورد في سورة الحجر قوله تعالى: { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } [ الآية 94 ] . لقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم قومه للإيمان برسالة الإسلام ومناصرته , ولكن قريشا رفضت الاستجابة لدعوته , وأخذت تقاومه وتعارضه وتكيد له , لأنهم كانوا يعتقدون أن انتشار الإسلام سوف يهدد مكانة قريش وزعامتها الدينية والاقتصادية . وطبعاً كان ذلك الاعتقاد خاطئاً , لأن انتصار الإسلام أعطى لقريش ومكة مكانة عظيمة وأهمية كبيرة واستمر ذلك حتى الوقت الحاضر . لقد استمر هذا الدور عشر سنوات كانت خلاله قريش تسيء معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم , كما تسيء إلى المسلمين بأشكال مختلفة , وقد تم تعذيب عددٍ كبيرٍ منهم أيضاً . ومن الواضح أن السبب الرئيس لمقاومة قريش للرسول يكمن في أنه دعاهم إلى أمور تختلف عما عرفوه عن آبائهم و أجدادهم , ولم يكونوا في قرارة أنفسهم يرفضون مبادئ الدين الجديد . يقول تعالى في سورة الزخرف موضحا رأي قريش { قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مهتدون } [ الآية 22 ]
ج - أبو طالب وموقفه من الرسول :
طلبت قريش من أبي طالب أن يمنع ابن أخيه عن المضي في دعوته إلى الدين الجديد , عن طريق إغرائه بالمال والجاه ولكنه رفض ذلك وقال ((والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه )) واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته وبقي أبو طالب يدافع عنه مما زاد من حقد قريش وأذاها للمسلمين , وبخاصة للذين لا ينتمون إلى بطون قوية تحميهم أو كانوا من الأرقاء والموالي , مثل عمار بن ياسر وبلال الحبشي .

(4) -جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لنشر الدعوة:
أ - هجرة المسلمين إلى الحبشة :
عندما تزايد اضطهاد المشركين من قريش للمسلمين عرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهاجر بعضهم إلى الحبشة تخلصاً من أذى المشركين . وقد اختار الحبشة دون غيرها من البلدان , لأن سكانها يدينون بالمسيحية , وما عرف عن ملكها ( النجاشي ) من تسامح وعدل ولبعدها أيضا عن قوافل قريش وتجارتها . هاجر عدد من المسلمين إلى الحبشة على دفعتين . وقد رحب النجاشي بالمهاجرين و أكرم وفادتهم , وترك لهم الحرية في ممارسة شعائر دينهم
ب - موقف قريش من الهجرة إلى الحبشة :
غضبت قريش من هجرة المسلمين إلى الحبشة واستاءت من موقف النجاشي , فأرسلت وفداً محملاً بالهدايا ليطلب منه طرد المهاجرين من بلاده , إلا أن النجاشي رد وفد قريش على أعقابه خائباً عندما تأكد من سلامة نوايا المهاجرين وصدق إيمانهم .
ج -مقاطعة قريش لبني هاشم :
خافت قريش من ازدياد عدد المسلمين , وبالتالي استفحال خطرهم وبخاصة بعد أن أسلم رجلان هامان , وهما حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب , فقررت مقاطعة بني هاشم حتى يسلموا الرسول صلى الله عليه وسلم ليقتلوه , ووقعوا وثيقة تنص على عدم مخالطتهم والتعامل معهم بيعاً أو شراءً أو مصاهرة ً. ورفض بنو هاشم طلب قريش ولجؤوا إلى شِعْبِ أبي طالب شرقي مكة حيث أقاموا ثلاث سنوات لاقوا خلالها الكثير من التعب والعناء . اجتمع بعض عقلاء قريش وقرروا تمزيق الوثيقة وإنهاء المقاطعة وعاد بنو هاشم إلى بيوتهم , وعاود المسلمون نشر دعوتهم فازداد عددهم .
د -عام الحزن :
بعد انتهاء المقاطعة وفي العاشر من البعثة توالت المحن على الرسول الله صلى الله عليه وسلم , فقد توفيت زوجته خديجة , كما توفي عمه أبو طالب ,ففقد بموتهما ما كان يتمتع به من حماية ودعم ولهذا سمي هذا العام بعام الحزن . بعد ذلك تجرأت قريش واشتدت في إيذائها للمسلمين , ففكر الرسول بالخروج إلى الطائف لعله يجد فيها نصيراً له .
(5) جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لنشر الدعوة
أ - الخروج إلى الطائف :
قرر الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج من مكة إلى الطائف , لكي يدعو أهلها إلى مساعدته والدخول في الإسلام . ولكن أهالي الطائف لم يستجيبوا له , بل عمدوا إلى إيذائه لأسباب متعددة منها تأصل المعتقدات والوثنية في نفوسهم , وكذلك حرصهم على الاستمرار بالعلاقات الودية بينهم وبين قريش , لا سيما وأن بلدهم تعد منطقة اصطياف لأغنياء مكة. وعاد الرسول إلى مكة وهو أكثر تصميماً على متابعة دعوته الناس للدخول في الإسلام , ولا سيما بالنسبة لأفراد القبائل الذين يزورون مكة في موسم الحج , ومن أكثرهم أهمية وفود يثرب .
ب - الإسراء والمعراج :
بعد عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى مكة حصلت حادثة الإسراء والمعراج ,والإسراء معناه انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم ليلا من مكة إلى المسجد الأقصى في القدس بمساعدة جبريل عليه السلام . أما المعراج فهو يعني صعود الرسول إلى السماء بمساعدة جبريل أيضا ثم عودته إلى مكة . وقد وردت في القرآن الكريم سورتان لهما علاقة بهذه الحادثة وهما الإسراء والنجم .قال تعالى في سورة الإسراء { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} [ ] .
ج - بيعة العقبة الأولى :
توجه الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الوافدين من أهل يثرب في موسم الحج , فاستجاب لدعوته اثنا عشر شخصاً , وبايعوه على اعتناق الإسلام , فأرسل الرسول معهم مصعب بن عمير لكي يعلمهم القرآن ويشرح لهم أصول الدين الإسلامي , وقد حصلت هذه البيعة في منطقة قريبة من مكة تقع إلى الشمال منها وتسمى العقبة و لذلك سميت بيعة العقبة الأولى وكان لهذه البيعة أثر كبير في انتشار الإسلام في مدينة يثرب .
د - بيعة العقبة الثانية :
وفي موسم الحج التالي اجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم مع مجموعة ثانية من أهل يثرب بلغ عدد أفرادها ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين حيث بايعوا الرسول على اعتناق الإسلام ونصرته , ودعوه للهجرة إلى يثرب لكي يتولوا حمايته ومساعدته على نشر الدين الإسلامي .
ه - الأوس والخزرج :
والواقع أن مدينة يثرب كان يعيش فيها في تلك الفترة قبيلتان هامتان وهما الأوس والخزرج , وكان هناك خلافات كبيرة بينهما , ولذلك فإن قبولهم دعوة الرسول للدخول في الإسلام من خلال بيعتي العقبة الأولى والثانية ساعد على إيجاد الوَحْدة والمودة بينهما .
و - موقف قريش :
استاءت قريش من موقف أهل يثرب , وبخاصة بعد هجرة المسلمين إليها وتشكيلهم قوة لا يستهان بها تهدد طريق القوافل التجارية المتجهة من مكة إلى بلاد الشام , وأخذت تفكر جدياً بالتخلص من الرسول صلى الله عليه وسلم و أصحابه .
ز - موقف أهل الطائف :
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف , عمد إلى نفر من ثقيف , هم يومئذ ساداتها, فجلس إليهم ودعاهم إلى الله , وكلّمهم بما جاءهم من أجله , فردوا عليه ردّاً منكراً , وفاجؤوه بما لم يكن يتوقع من الغلظة وسمج القول . فقام الرسول من عندهم وهو يرجوهم أن يكتموا خبر مقدمه , فلم يجيبوه إلى ذلك , ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به . وجعلوا يرمونه بالحجارة


(6) -هجرة الرسول إلى المدينة المنورة
وتأسيس الدولة العربية الإسلامية
أ - الهجرة النبوية:
بعد بيعة العقبة الثانية ازداد عدد المسلمين في يثرب , وأصبحوا قوة لا يستهان بها مما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر بنقل مقر دعوته من مكة إلى يثرب . ولذلك أذن لأصحابه المسلمين في مكة بالهجرة إلى مدينة يثرب على دفعات حتى لا يشعر بهم المشركون , فيكيدون لهم ويمنعونهم من الهجرة وقد استقبلهم مسلمو يثرب بالمحبة والترحاب . ونتيجة لذلك قرر سادة قريش منع المسلمين من الهجرة إلى يثرب , كما قرروا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بمشاركة عدد من الشباب الذين يمثلون قبائل مكة المختلفة فيضيع بذلك دمه ولا يتمكن بنو هاشم من محاربة جميع القبائل لأخذ ثأرهم منهم . وعندما أذن الله لرسوله بالهجرة غادر مكة سرّاً مع صاحبه أبي بكر وطلب من ابن عمه علي بن أبي طالب أن يبيت في فراشه . وعندما اكتشف المشركون خروج الرسول وصاحبه من مكة أسرعوا إلى اللحاق بهما , ولكنهم أخفقوا في ذلك إذ كان الرسول وصاحبه مختبئين في غار ثور , فلما علما بأن قريشاً عادت إلى مكة بعد أن أخفقت في القبض عليهما تابعا سيرهما ولحق بهما علي بن أبي طالب . وقبل دخول يثرب توقف الرسول صلى الله عليه وسلم في ( قباء ) ووضع أساس أول مسجد في الإسلام وهو ( مسجد قباء ) . وقد دخل مدينة يثرب في الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام 622 م واستقبله أهلها بالبهجة و الأناشيد . أصبحت يثرب منذ ذلك التاريخ تعرف باسم المدينة المنورة ’ وأصبح سكانها من الأوس والخزرج الذين أسلموا يعرفون باسم الأنصار , بينما أطلقت على المسلمين المهاجرين من مكة كلمة المهاجرين , وأصبح مجتمع المدينة المنورة الإسلامي مؤلفاً من المهاجرين والأنصار , وهم الذين شاركوا في غزوات الرسول . وأصبحت حادثة الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي ( التاريخ الهجري ) .
ب - تأسيس الدولة العربية الإسلامية :
بعد وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بدأت مرحلة جديدة من الدعوة الإسلامية تعرف باسم الدور المدني , بينما كانت المرحلة السابقة لها تسمى بالدور المكي . ومن أهم الأعمال التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل بناء الدولة العربية الإسلامية :
1 - بناء مسجد المدينة المنورة .
2- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار .
3 - إصدار الصحيفة ( الوثيقة ) .
4 - إعداد الجيش الإسلامي للجهاد في سبيل الله .
ويتبين من مراجعة الوثيقة وما يتعلق بها أن مجتمع المدينة أصبح منظماً على أسس جديدة من أهمها :
1-الرسول صلى الله عليه وسلم هو رئيس المسلمين وقائدهم دينيا ودنيويا , وينبغي الرجوع إليه لأخذ رأيه في جميع الأمور قبل تنفيذها
2-حلت رابطة العقيدة الإسلامية و الأخوة الدينية محل رابطة النسب والعصبية القبلية .
3-يتم التعامل بين المسلمين بما ينسجم مع أحكام الشريعة الإسلامية
4-كفل الإسلام حرية العقيدة لجميع سكان المدينة .
5-كفل الإسلام الأمن لجميع سكان المدينة وحدد حقوقهم وواجباتهم
6-أصبح الدفاع عن المدينة واجباً على كل من يقيمون فيها .
7-أصبح مسجد الرسول المقرّ الرئيسي لإدارة شؤون المسلمين .
ج - عناية الله تعالى في الغار:
أما –المشركين- فقد انطلقوا بعد أن علموا بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم ينتشرون في طرق المدينة , ويفتشون عنه في كل مكان حتى وصلوا إلى غار ثور .وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أقدام المشركين تخفق من حولهم , فأخذ الروع أبا بكر , وهمس يحدّث الرسول صلى الله عليه وسلم ( لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا ) فأجابه عليه الصلاة السلام : (( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما )) فأعمى الله أبصار المشركين , حتى لم يحن لأحد منهم التفاته إلى الغار , ولم يخطر ببال واحد منهم أن يتساءل عما يكون بداخله .
(7 )-غزوة بدر الكبرى
2 / هـ 624 / م
استمرت قريش والقبائل الموالية لها في مقاومة الدعوة الإسلامية , وأخذت تخطط للقضاء عليها , وذلك خوفاً على مصالحها الدينية والتجارية . وقد فرض الله تعالى الجهاد على المسلمين , دفاعاً عن النفس من جهة , وإزالة للعقبات التي تعرض سير الدعوة الإسلامية من جهة أخرى .
أ - أسباب غزوة بدر الكبرى :
1-إظهار قوة المسلمين .
2-تهديد مصالح قريش التجارية .
3-التعويض على المهاجرين الذين صادرت قريش أموالهم .
ب - أحداث غزوة بدر الكبرى :
علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن قافلة تجارية كبيرة لقريش مؤلفة من ألف بعير قادمة من بلاد الشام بقيادة أبي سفيان , فخرج مع أصحابه وعددهم 313 رجلا لاعتراضها , ولكن أبا سفيان ,غير خط سير القافلة واتجه بها نحو الطريق الساحلي , وأرسل يستنفر قريشاً لحماية قافلتها من المسلمين . وعلى الرغم من نجاة القافلة , فقد أصرّ بعض زعماء قريش وعلى رأسهم أبو جهل على محاربة المسلمين , لأنهم أصبحوا يهددون طريق التجارة الرئيسي الذي يصل بين مكة وبلاد الشام . وقاد زعماء قريش وفي طليعتهم أبو جهل جيشاً مؤلفاً من 950 رجلاً ودارت المعركة بينهم وبين المسلمين عند- ماء بدر - . وكانت نتيجة المعركة انتصاراً رائعاً للمسلمين بسبب شجاعتهم وإيمانهم العميق بالعقيدة التي يدافعون عنها , والتزامهم بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم . وكذلك بسبب دعائهم الله عزّ وجلّ بأن ينصرهم على أعدائهم المشركين . أما بالنسبة للمشركين فقد انهزموا هزيمة منكرة , ولقي بعض زعمائهم الشهيرين مصرعه ومن بينهم أبو جهل نفسه . وقد سقط كثير من القتلى في صفوف المشركين , كما تمّ أسرُ عدد كبير منهم . أما عدد شهداء المسلمين فقد كان قليلاً للغاية . ولقد بلغ من اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم أن افتدى الأسير المتعلم عن طريق تعليم عشرة من أبناء المسلمين . والواقع أن كلمة غزوة تعني ( الحملة العسكرية التي قادها الرسول بنفسه لمحاربة أعداء المسلمين ) , وقد بلغ عدد غزوات الرسول بمجموعها 27 غزوة , أما السرية فهي تعني ( الحملة البسيطة التي كان يرسلها الرسول لأداء مهمة معينة ولم يكن قائداً لها ) . وقد سميت هذه الغزوة بغزوة بدر الكبرى , بسبب وجود غزوة سابقة حصلت في العام نفسه 2 هـ , وسميت غزوة بدر الأولى . ولقد نزلت في القرآن الكريم بعض الآيات حول غزوة بدر ومنها قوله تعالى [ في الآية 123 من سورة آل عمران ] { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } . وبعد معركة بدر تم إجلاء بني قينقاع عن المدينة بسبب غدرهم بالمسلمين .
ج - نتائج غزوة بدر الكبرى :
1-هي أول معركة يخوضها العرب ضد بعضهم تتم على أساس العقيدة والدين وليس على أساس النسب والعصبية القبلية .
2-هي أول انتصار عسكري للمسلمين على المشركين .
3-زادت ثقة المسلمين بأنفسهم .
4-أصبح المسلمون يهددون الطرق التجارية لمدينة مكة


(8) -غزوة أحد
3 / هـ 625 / م
أ - أسباب غزوة أحد :
1-رغبة قريش في الأخذ بثأرها من المسلمين .
2-رغبة قريش في استرداد هيبتها بين القبائل .
ب - أحداث غزوة أحد :
خصصت قريش أموال القافلة التي حاول المسلمون اعتراضها للإنفاق على غزوة الثأر , وجهزت جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة أبي سفيان لمحاربة المسلمين . وقد خرج جيش المشركين من مكة ثم عسكر عند جبل أحد قرب المدينة المنورة . وشاور الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه , واستقرّ الأمر على ملاقاة العدو خارج المدينة , فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع ألف رجل لملاقاة المشركين . وفي الطريق انسحب المنافق ( عبد الله بن أبي ) مع عدد من المنافقين وعادوا إلى المدينة , بهدف خلق الفوضى وتمزيق وحدة صف المسلمين . ثم تمركز المسلمون في وادي جبل أحد , ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض رماته على جبل أحد , وأمرهم بحماية ظهر المسلمين من الخلف وعدم مغادرة أماكنهم مهما كانت النتيجة . ودارت المعركة واشتد القتال بين الطرفين وكاد النصر يكون حليف المسلمين , ولكن المعركة تحولت في نهاية المطاف لصالح قريش بسبب :
1-مخالفة الرماة لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم , حيث إنهم اعتقدوا أن المسلمين قد انتصروا , فتركوا أماكنهم وانصرفوا لجمع الغنائم .
2-أشاع بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل , وهذا أحدث ارتباكاً كبيراً في صفوف المسلمين .
3-استغل خالد بن الوليد وكان لا يزال من المشركين تخلي الرماة عن مواقعهم , فقام بعملية التفاف حول الجبل , وبذلك أصبح جيش المسلمين بين قوتين من المشركين , وأدى ذلك إلى هزيمة المسلمين وقلب المعركة لصالح المشركين .
ج - نتائج غزوة أحد :
1-هزيمة المسلمين بسبب مخالفة الرماة لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ,
2-استشهاد عدد من المسلمين من بينهم حمزة عم الرسول .
3-عرف المسلمون أن بينهم عدداً من المنافقين خذلوهم وعادوا من منتصف الطريق .
4-عدم تحقيق قريش لأهدافها , وعودتها إلى مكة مهددة متوعدة بأنها ستعود لقتال المسلمين والقضاء عليهم .
5-إجبار يهود بني النضير على الجلاء عن المدينة المنورة بسبب تآمرهم على الرسول والمسلمين .
د - وصف معركة أحد :
وراح رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) حين صلاة الجمعة فأصبح بالشعب من أحد فالتقوا يوم السبت في النصف الأول من شوال سنة ثلاث , وكان رأي الرسول الله (صلى الله عليه وسلم ) (( ألا يخرج إليهم )) فقال رجال من المسلمين ..... يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم أو ضعفنا, ... فلم يزل الناس برسول الله (صلى الله عليه وسلم) .... حتى دخل بيته ولبس لأمته .... فخرج في ألف من أصحابه .وفي الطريق انخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس ...ومضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على وجهه حتى نزل بالشعب من أحد .... فجعل ظهره وعسكره إلى أحد ... وتعبأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للقتال في سبعمائة رجل ، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس فقد جنبوها , فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الرماة وهم خمسون رجلاً عبد الله بن جبير ..... وقال : انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا , اثبت مكانك لا تؤتين من قبلك ...... فاقتتل الناس حتى حميت الحرب .... فأنزل الله نصره وصدقهم وعده وكانت الهزيمة لا يشك فيها ... لولا أن الرماة الذين عينهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الجبل تركوا أماكنهم وانحدروا ليجمعوا الغنائم مما أعطى فرصة لخالد بن الوليد للالتفاف على المسلمين ومباغتتهم من خلف فتراجعوا وصاح أحد المشركين أن محمد قد قتل , وفي الحقيقة أصيبت رباعيته وشج في وجنتيه وكلمت شفتاه .... وقاتل مصعب بن عمير دون الرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعه لواؤه حتى قتل فأعطى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) علي بن أبي طالب اللواء . ثم عرف المسلمون ما برسول الله فنهضوا به ونهض معهم نحو الشعب ومعه صحابته . ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام المقبل فقال رسول الله لرجل من أصحابه : قل : نعم هي بيننا وبينكم موعد ..
(9)-غزوة الخندق ـ الأحزاب
5 / هـ 627 / م
أ -أسباب غزوة الخندق :
قام يهود بني قريظة بتأليب القبائل ضد المسلمين وشجعوهم على التحالف مع قريش لمحاربة المسلمين .
ب -أحداث غزوة الخندق :
ألفت قريش حلفاً مع عدد من القبائل المعادية للإسلام , ثم توجهت جموعهم في حوالي عشرة آلاف مقاتل نحو المدينة المنورة , بقصد احتلالها وتدميرها وقتل سكانها ، واستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه , فأشار عليه الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر خندق حول القسم المكشوف من المدينة ، وقد شارك الرسول صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق , كما جهز جيشا قوامه ثلاثة آلاف مجاهد بقصد التصدي للمشركين . ثم فوجئت قريش وحلفاؤها بوجود الخندق , وهو أمر لم يألفه العرب في حروبهم السابقة , ولذلك لم يتمكن جيش المشركين من اجتياز الخندق للوصول إلى المدينة المنورة . لم تحدث معركة حاسمة أو مواجهة مباشرة بين الطرفين , واقتصر الأمر على بعض المبارزات الفردية مع المشركين الذين تمكن بعضهم من القفز فوق الخندق , فتصدى لهم المسلمون فبعضهم قتل وبعضهم الآخر هرب . ولجأ الرسول إلى العمل السياسي لفك الحصار عن المدينة المنورة عن طريق بث الفرقة في صفوف الأحزاب , وقد نجح في ذلك . كما أن تسخير عوامل الطبيعة التي أرسلها الله تعالى من عواصف وأمطار غزيرة أسهمت في فشل الحصار حيث تم اقتلاع الخيام وتشرد الخيول فانسحب المشركون وعادوا خائبين .
ج - نتائج غزوة الخندق :
1-هزيمة الأحزاب وفشلهم في تحقيق أهدافهم .
2-فقدان قريش هيبتها بين القبائل .
3-ارتفاع شأن المسلمين بين القبائل العربية .
4-اكتساب المسلمين أساليب جديدة في القتال .
5-معاقبة الرسول صلى الله عليه وسلم بني قريظة عقاباً شديداً بسبب غدرهم بالمسلمين , ونقضهم العهد مع الرسول , وانحيازهم إلى الأحزاب .
سميت هذه الغزوة بغزوة الخندق نسبة إلى الخندق الذي حفره المسلمون حول القسم المكشوف من المدينة المنورة . وتسمى أيضاً ( غزوة الأحزاب ) نسبة إلى اتفاق جماعات مختلفة ضد المسلمين
د - المبارزة بين علي بن أبي طالب وعمرو بن ود العامري
في غزوة الخندق ( السنة الخامسة للهجرة )
فلما كان يوم الخندق خرج عمرو بن ود وهو مقنع بالحديد فنادى : من يبارز ؟ فقام علي بن أبي طالب فقال : أنا لها يا نبي الله , فقال النبي اجلس . ثم نادى عمرو : ألا رجل يبرز ؟ فجعل يؤنبهم ويقول أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها ؟ أفلا تبرزون إلي رجلاً ؟ فقام علي فقال : أنا يا رسول الله ! فقال : اجلس . ثم نادى الثالثة فقام علي رضي الله عنه فقال : يا رسول الله أنا فقال : إنه عمرو : فقال وإن كان عَمْراً . فأذن له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , فمشى إليه , فقال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي, قال أبنُ عبد مناف ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . فقال : يا بن أخي من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أقتلك ؟ فقال له علي : لكني والله لا أكره أن أقتلك , فغضب فنزل وسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي مغضباً واستقبله علي بدرقته فضربه عمرو في درقته وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه , وضربه علي على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج , وسمع رسول الله التكبير فعرفنا أن عليا قد قتله , ثم أقبل علي نحو رسول الله ووجهه يتهلل .
(10) - صلح الحديبية
6 / هـ 628 / م
أ - رغبة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أداء العمرة :
من شعائر ديننا الإسلامي أداء فريضة الحج مرة في العمر لمن استطاع إلى ذلك سبيلا . ويتم الحج في أيام محددة من العام الهجري . أما العمرة فهي تعني أداء مناسك الحج في غير موسمه . وفي السنة السادسة للهجرة وبعد أن ازدادت قوة المسلمين قرر الرسول صلى الله عليه وسلم زيارة مكة لأداء العمرة , و إظهار قوة المسلمين و تعظيمهم للكعبة المشرفة . وخرج الرسول (صلى الله عليه وسلم) من المدينة على رأس ألف و أربعمئة من المسلمين قاصداً مكة . وقد حاولت قريش إقناعه بالعدول عن دخول مكة , ولكنه أصر على موقفه , وأرسل إليها وفداً برئاسة عثمان بن عفان رضي الله عنه , ليبين للمشركين أنه جاء إلى مكة مسالماً لا محارباً ، وتأخر وفد المسلمين لدى قريش ثلاثة أيام , وسرت إشاعة مفادها أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد قتل , فبايع المسلمون الرسول على محاربة قريش , وسميت هذه البيعة ( بيعة الرضوان ) لكن الوفد عاد سالماً وتم عقد الصلح بين الطرفين , وسمي صلح الحديبية نسبة إلى المكان الذي عقد فيه الصلح.
ب - شروط صلح الحديبية :
1-إيقاف الحرب بين الطرفين أي الرسول وقريش لمدة عشر سنوات .
2-أن يرد الرسول صلى الله عليه وسلم من يأتيه مسلماً من قريش دون إذن وليه ولا تلتزم قريش برد من يأتيها من المسلمين .
3-أن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه هذا العام , فإذا كان العام القادم دخلوا مكة لأداء العمرة بعد أن تخرج منها قريش .
4-من أراد الدخول في حلف قريش فله ذلك , ومن أراد الدخول في حلف المسلمين فله ذلك .
ج - نتائج صلح الحديبية :
1-اعترفت قريش رسمياً بالجانب الإسلامي ممثلا بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين .
2-بدأ عدد من مشاهير الرجال في مكة بالدخول في الإسلام مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص .
3-أتاح هذا الصلح الفرصة لتأديب من تبقى من اليهود وهم يهود خيبر .
4- أتاح هذا الصلح الفرصة للرسول صلى الله عليه وسلم لنشر دعوته في بقية أجزاء الجزيرة العربية وخارجها فأرسل عدة رسائل إلى الملوك والأمراء في عصره يدعوهم فيها إلى الإسلام .
(11) - الرسائل إلى الملوك والحكام :
من الملوك والحكام الذين تمَّ إرسال رسائل إليهم لدعوتهم إلى الإسلام كسرى ملك الفرس , وهرقل ملك الروم , والمقوقس حاكم مصر , وكذلك النجاشي ملك الحبشة . وقد كان رد الملوك والحكام مختلفا . فمنهم من كان رده لطيفا مع أعضاء الوفد ومنهم من كان رده قاسياً وجافاً . ولكن لم يقبل أحد منهم الدخول في الإسلام
(12)- غزوة خيبر 7 هـ - 629 م :
شعر الرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الوقت قد حان لمعاقبة يهود خيبر بسبب مواقفهم المملوءة بالخداع والتآمر , وتعرضهم لقوافل المسلمين الذاهبة إلى بلاد الشام . وقد حاصر الرسول حصونهم وفتحها , وتم إجلاء قسم منهم عن المنطقة , وسمح للقسم الآخر بالبقاء فيها شريطة تقديم قسم من غلالها للمسلمين .
(13) - غزوة مؤتة (1) 8 هـ - 630 م :
تقع قرية مؤتة على مشارف بلاد الشام . وفي السنة الثامنة للهجرة أرسل الرسول جيشا لمحاربة الروم في تلك المنطقة , وكان يقوده زيد بن حارثة وعدده ثلاثة آلاف مقاتل . وعندما وصل إلى هناك وجد أن الروم قد حشدوا له ما يزيد على مئة ألف مقاتل . وقد دارت معركة قاسية قتل فيها قائد المسلمين زيد بن حارثة , واستشهد بعضهم في المعركة , وتمكن خالد بن الوليد من إعادة جيش المسلمين إلى المدينة . وتكمن أهمية غزوة مؤتة أنها أول توجيه من الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين بضرورة محاربة الروم وطردهم من بلاد الشام .
(14)-فتح مكة المكرمة
8 / هـ 630 / م
أ - فتح مكة :
نقضت قريش صلح الحديبية لأنها ساعدت قبيلة بكر المتحالفة معها ضد قبيلة خزاعة المتحالفة مع المسلمين , ولذلك صمم الرسول صلى الله عليه وسلم على تنفيذ الاتفاق الذي عقده مع القبيلة المتحالفة معه ، وجهز الرسول جيشا مؤلفا من عشرة آلاف مقاتل وخرج قاصدا مكة وقد حاولت قريش تجديد الصلح مع المسلمين ولكن الرسول رفض ذلك . وقبل وصول المسلمين إلى مكة التقوا أبا سفيان فأسلم وعاد إلى مكة يدعو أهلها للدخول في الإسلام ويبلغهم قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن , ومن دخل بيته وأغلق بابه فهو آمن . وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم جيش المسلمين إلى أربعة أقسام ليدخل كل قسم من جهة , ودخل المسلمون مكة دون مقاومة . وطاف الرسول صلى الله عليه وسلم مع المسلمين حول الكعبة وحطموا الأصنام . ولقد عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة وقال لهم عبارته المشهورة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
ب نتائج فتح مكة :
1-تحطيم الأصنام وانتهاء عهد الوثنية في مكة .
2-إعلان قريش ومعظم القبائل دخولها الإسلام .
3-تمهيد الطريق لتوحيد شبه الجزيرة العربية تحت راية الإسلام .
(15) ـ غزوة حنين وحصار الطائف : 8 / هـ 630 / م
بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام لم يبق على الوثنية في مكة والمناطق القريبة منها سوى قبيلتي هوازن وثقيف اللتين تحالفتا ضد المسلمين . وقد سار الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس الجيش الذي فتح به مكة باتجاه وادي حنين المؤدي إلى الطائف . وكانت مفاجأة غير متوقعة للمسلمين أن مقاتلي هوازن وثقيف تمركزوا في شعاب وادي حنين , ثم هجموا فجأة على المسلمين , وأحدثوا ارتباكاً كبيراً في صفوفهم . ولكن المسلمين تمكنوا من استعادة قوتهم وهزموا المشركين , وحاصروا مدينة الطائف , ولكنهم لم يتمكنوا من فتحها وانسحبوا منها وبعد فترة قدم وفد من هوازن و ثقيف إلى المدينة المنورة وأعلنوا إسلامهم . وقد وردت في القرآن الكريم في سورة التوبة آيتان تتحدثان عن غزوة حنين (( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم )) ......
(16) - غزوة تبوك : 9/ هـ / 631 / م :
بعد استقرار الأمور في منطقة الحجاز قاد الرسول جيشا تعداده حوالي 30 ألف مقاتل لقتال الروم المحتشدين في تبوك . ولكن لم تحصل معركة أو مواجهة مباشرة بين المسلمين والروم , لأن هؤلاء انسحبوا من تبوك قبل وصول المسلمين إليها فدخلها الرسول صلى الله عليه وسلم وصالح أهلها ثم عاد إلى المدينة المنورة .
(17) - عام الوفود : 9 / هـ 631 / م :
بعد غزوة تبوك أخذت القبائل العربية من جميع أنحاء شبه جزيرة العرب تفد إلى المدينة المنورة لكي تعلن إسلامها . وكان ذلك في السنة التاسعة للهجرة ولذلك أطلق على ذاك العام اسم عام الوفود .
(18) - خطاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوم فتح مكة:
وقف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن فتح مكة المكرمة على باب الكعبة ثم قال : (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له , صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده , ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين , إلا سدانة البيت وسقاية الحاج , ألا وقتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا , فيهما الدية مغلظة .
يا معشر قريش , إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء . الناس من آدم , وآدم خلق من تراب , ثم تلا : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى , وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم))/ الحجرات / 49/. يا معشر قريش ( أو يا أهل مكة ) ما ترون إني فاعل بكم ؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء
(19) -حجة الوداع
10 هـ ، 632 م
أ - تأدية المسلمين لفريضة الحج:
بعد أن اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى انضمام سائر أنحاء شبه الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام ، قرر الذهاب إلى مكة الأداء فريضة الحج وتعليم المسلمين مناسك الحج ودعوتهم للتمسك بدينهم . اجتمع في مكة أكثر من مئة ألف حاج من مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية ، وبعد تأدية المسلمين لفريضة الحج وقف الرسول صلى الله عليه وسلم ليلقي خطبته الأخيرة ، ويعلن استكمال تعاليم الدين الإسلامي ، حيث ورد في سورة آل عمران قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [ الآية رقم 3 ] . كانت هذه أول وآخر حجة للرسول ، وقد سميت بحجة الوداع ، لأن المسلمين شعروا من خلالها وكأن الرسول يودعهم ، ولن يلقاهم مرة ثانية في موسم الحج
(20) - تجهيز جيش أسامة :
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشعر بأن الحدود الشمالية لشبه الجزيرة العربية ما تزال مهددة بالخطر بسبب وجود الروم في جنوب بلاد الشام ، ولذلك أمر بتجهيز جيش لمحاربة الروم بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة . ولكن هذا الجيش لم ينفذ مهمته بسبب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
(21 ) - وفاة الرسول 11/ هـ 632 / م :
عاد الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بعد حجة الوداع وقد مرض بالحمى ، وتوفي بسبب هذا المرض في الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام 11هـ عن عمر يناهز الثالثة والستين عاماً ، بعد أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وحدد لها الطريق المستقيم
(22) - مقتطفات من خطبة الرسول في حجة الوداع:
وقف الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حجة له خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : (أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا . أيها الناس : إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ، إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد . فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن ربا الجاهلية موضوع ، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب وإن دماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيع بن الحارث بن عبد المطلب . أيها الناس : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد؛ أيها الناس : إن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حق ، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً ، ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد ؛ أيها الناس : إنما المؤمنون إخوة ، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه ، ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد ؛ فلا ترجعن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدها كتاب الله ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد؛ أيها الناس : إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم، وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد ؛ قال : فليبلغ الشاهد الغائب )


الباب الخامس

تارخية الخطاب القرأني


ما هو القرآن الكريم؟
أولاً-القرآن الكريم
أ-هو اسم لكلام الله تعالى المنزّل على عبده، ورسوله محمد بوساطة جبريل الأمين المتعبد بتلاوته -وحيًا -، المعجز بكل سورة منه ، المنقول من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى السماء الدنيا المنزل منجماً ، ومتفرقاً بعد ذلك ليس بمخلوق ، ككلام البرية، { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت 41 - 42] .
ب- وهو اسم لكتاب الله -خاصة-، ولا يسمى به شيء من سائر الكتب. وقد تكلم به الله تعالى حقيقة لا مجازًا ، من باب إضافة الكلام إلى قائله ، ليكون للعالمين نذيرًا ، وإضافته إلى محمد صلى الله عليه ، وسلم إضافة تبليغ، وأداء ؛ لا إنشاء ، وابتداء ؛ وآيات القرآن الكريم في غاية الدقة ، والإحكام ، والوضوح ، والبيان ، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير، وسيظل هذا الكتاب معجزًا من الناحية البلاغية ، والتشريعية ، والعلمية ، والتاريخية ، وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ، ومن عليها
ج-لم يتطرق إليه أدنى شيء من التحريف ؛ تحقيقا لقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9] . فالدنيا كلها لم تظفر بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم ، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية ، من هذا القرآن المجيد الذي قال الله فيه : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } [الإسراء:9] .
د-أنزله الله على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [إبراهيم:1] . فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وضمن للمسلمين ، وللإنسانية الأمن، والسعادة في دنياهم ، وأخراهم ، إذا هم تَلَوْه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره ، وآياته ، وتفقهوا جمله ، وكلماته ، ووقفوا عند حدوده ، وَأْتمروا بأوامره ، وانتهوا بنواهيه ، وتخلقوا بما شرع ، وطبقوا مبادئه ، ومُثُله ، وقيمه على أنفسهم ، وأهليهم ، ومجتمعاتهم . قال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [البقرة: 121] . قال ابن عباس: "يتَّبعونه حق اتباعه، يحلون حلاله ، ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه عن مواضعه".
ه- تأثر به الجن ساعة سمعوه ، وامتلأت قلوبهم بمحبته ، وتقديره ، وأسرعوا لدعوة قومهم إلى اتباعه فَقَالُوا : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا } [الجن -1 - 3] . وقد حكى الله في القرآن الكريم عنهم أنهم قَالُوا : { يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف 30 - 31] .
و-فاق هذا الكتاب المبارك كل ما تقدمه من الكتب السماوية ، وكانت منزلته فوق منزلتها، قال تعالى: { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف: 4] ؛ وقال -سبحانه-: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } [المائدة: 48] . إنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، نزل به الروح الأمين على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً مقسطاً في ثلاث وعشرين سنة، حتى تستعد القوى البشرية لتلقي هذا الفيض الإلهي، وهو معجزة الإسلام الكبرى، إذ لم يبلغ أي كتاب ديني ، أو دنيوي ما بلغه من روعة البيان والبلاغة، ومس المشاعر ، وأسر القلوب، سواء حين يتحدث عن عظمة الله ، وجلاله ، أو حين يشرع للناس ما به صلاح معاشهم ، وآخرتهم ، أو يصور لهم الثواب ، والعقاب، والفردوس ، والجحيم، أو يقص عليهم من أنباء الرسل الأولين ما فيه عبرة ، ومزدجر للمؤمنين . فقد نزل في أسلوب لا يبارى في قوة إقناعه ، وبلاغة تركيبه ، حتى ليقول الوليد بن المغيرة أحد خصوم الرسول صلى الله عليه ، وسلم ، وقد سمعه يتلو من آياته: "والله لقد سمعت من محمد كلاماً، ما هو من كلام الإنس والجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق" ، ويلاحظ الوليد ملاحظة صادقة ، هي أن القرآن الكريم لا يماثل كلام الإنس ، ولا كلام الجن ؛ ويلاحظ الذي كان يجري على ألسنة كهانهم ، فهو طراز وحده، له سحره البياني، بل له إعجازه الذي انقطعت آمال العرب دونه في محاكاته، أو الإتيان بشيء على مثاله في السيطرة على الألباب والقلوب، وقد تحداهم جل وعز أن يجمعوا أمرهم وكيدهم، فيأتوا بسورة من مثله أو بسور تحاكيه، فعجزوا وذلوا، يقول سبحانه: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [ ]، ويقول تبارك وتعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ ] ، ويشرح ذلك الجاحظ فيقول: "بعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام في زمن أكثر ما كانت العرب فيه شاعرا وخطيبا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، دعاهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى، والحمية دون الجهل والحيرة نصبوا له الحرب ونصب لهم الخير... وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن، ويدعهم صباح مساء إلى معارضته إن كان كاذبا بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديا لهم بها، وتقريعا لهم بعجزهم عنها قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوا ولو مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر، ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيد ويحامي عليه، ويكابر فيه، ويزعم أنه قد عارض وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم، وعارض الشعراء من أصحابه والخطباء من أمته؛ لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه عن بذل النفوس، والخروج عن الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والفضل بطبقات، ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة والقصائد الموجزة، ولهم الأسجاع واللفظ المنثور، ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم، فمحال -أرشدك الله- أن يجتمع هؤلاء كلهم في الأمر الظاهر والخطاب المكشوف البين مع التقريع بالتقصير والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد أعمالهم، وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة، وكما أنه محال أن يطيقوه ثلاثا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، كذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه، ويجدون السبيل وهم يبذلون أكثر منه". وكان طبيعيا أن يستكين العرب أمام هذه الذروة الرفيعة من البلاغة والبيان، وهي ذروة ليس لها في اللغة العربية سابقة ولا لاحقة، ذروة جعلت العرب حين يستمعون إلى آية تعنو وجوهم لربهم، ويخرون ركعا وسجدا مشدوهين بجماله مبهورين ببلاغته، وفي ذلك يقول جل وعز: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [ ] ويقول: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [ ] . ولا يزال هذا الشعور الذي كان يختلج في قلوب العرب الأولين تخفق به القلوب في كل عصر لما يفتح من آفاق العالم العلوي، ولما يؤثر به في صميم الوجدان الروحي، وهو يمتاز بأسلوب خاص به ليس شعرا، ولا نثرا مسجوعا، وإنما هو نظم بديع، فصلت آياته بفواصل تنتهي بها، وتطمئن النفس إلى الوقوف عندها. وتتنوع الفواصل بين طوال، وقصار ومتوسطة بتنوع موضوعاته وتنوع المخاطبين، فقد كان يغلب عليه الإيجاز والإشارة في بدء الدعوة قبل الهجرة، حين كان يدعو إلى عبادة الله ونبذ الديانة الوثنية، والإيمان بالبعث والنشور، فلما انتقل الرسول عليه الصلاة ، والسلام إلى المدينة المنورة غلب عليه البسط، والإطناب لبيان نظم الشريعة، وما ينبغي أن يكون عليه نظام الحياة الاجتماعية، مما تقتضيه مصالح البشر في حياتهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة. وقد أثر هذا الكتاب العظيم آثارا بعيدة في اللغة العربية، فقد حول أدبها من قصائد في الغزل والحماسة، والأخذ بالثأر والفخر ووصف الإبل، والخيل والسيوف والرماح، ومن حكم متناثرة لا ضابط لها ولا نظام، إلى أدب عالمي يخوض في مشاكل الحياة والجماعة، وينظم أمورها الدينية والدنيوية. فارتقى الأدب العربي رقيا لم يكن يحلم به العرب، واتسعت آفاقه. وعادة يشير مؤرخو هذا الأدب إلى بعض ألفاظه التي ابتدأها ابتداء مثل ( القرآن، والفرقان والكافر والمشرك والمنافق، والصوم والصلاة والزكاة ) ، فمدلولات هذه الألفاظ لم تكن حتى كان، والحق أنه جميعه بألفاظه ومعانيه المختلفة يعد ابتداء، بما علم العرب من أسس الإسلام ومبادئه، وبما بين لهم من ماهية الحياة بعد الموت ومن البعث، والنشور ورسالة الرسل، وعبادة الله الواحد الأحد، وبما نظم لهم البشرى والسعادة في الدارين، وعلى نحو ما جمع العرب على دين واحد جمعهم على لهجة واحدة من لهجات اللغة العربية، هي لهجة قريش، وكانت قد سادت في الجاهلية على لهجات القبائل العدنانية الشمالية، فأتم لها هذه السيادة على لهجات القبائل اليمنية الجنوبية، وكانت هي التي حملها العرب معهم في فتوحاتهم، فانتشرت في العالم الإسلامي جميعه من الصين والهند إلى المحيط الأطلسي، وجبال البرانس، إذ كانت تلاوته فرضا مكتوبا على المسلمين، قال جل شأنه: { وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا } [ ]، وقال: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [ ] ، وبذلك كان للقرآن الكريم الفضل العظيم في حفظ اللغة العربية، وذيوعها وانتشارها بين ملايين الناس مدى أجيال متعاقبة، بل مدى قرون مترادفة إلى اليوم. فالقرآن هو الذي حفظ اللغة العربية القرون المتطاولة السابقة، وقد حول العربي من إنسان جاهل يؤمن بالخرافات إلى إنسان محب للعلم مشغوف بالمعرفة، يطلبها أينما كانت، ولم يلبث أن فتح له الأرض، فدخلت إلى العربية أمم شاركت في لسانها وأدبها، وتعاونت في تلك النهضة الروحية والاجتماعية والأدبية والعلمية، ومن الحق أن كل ما كسبته لغتنا من آداب في الشعر والنثر، ومن علوم شرعية ولسانية وعقلية فلسفية، إنما كان بفضل القرآن، بل لقد تعدت آثاره لغته العربية إلى لغات الأمم الإسلامية التي لا تنطق بلغته، ولنتصور العرب لم يرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل فيهم الذكر الحكيم إذن لما فارقت لغتهم جزيرتهم، ولظلوا وثنيين في تنابذ وشقاق، وحروب طاحنة، بل لعل لغتهم كانت قد اندثرت كما اندثرت لغات قديمة كثيرة، فالقرآن الكريم هو الذي نفخ في روحها، وهو الذي أتاح لها الحياة على توالي القرون، وهو الذي نقلها من لغة بداوة إلى لغة مدنية، حتى أصبحت لغة عالمية لأمم كثيرة اتخذتها لسان ثقافتها وآدابها، ولا يوجد في تاريخ البشرية كتاب له هذه الآثار العظيمة في لغته، وتغيير أحوال من آمنوا به، بل هو يقف وحده في هذا الباب، إنه مفخرة العرب ومعجزة الإسلام، وآيته الباهرة.


القرآن الكريم:
هو كلام الله المنزل على رسوله محمَّد - صلى الله عليْه وسلَّم - المتعبَّد بتلاوته، المتحدَّى بأقصر سورة منه، المنقول إلينا نقلاً متواترًا، المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور. هذا القرآن هو الكتاب المبين الَّذي ﴿ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، وهو المعجِزة الخالدة الباقية المستمرَّة على تعاقُب الأزمان والدّهور، إلى أن يرِثَ الله الأرض ومَن عليها. وهو حبْل الله المتين، والصِّراط المستقيم، والنّور الهادي إلى الحقّ، وإلى الطَّريق المستقيم، فيه نبَأ ما قبلكم، وحُكْم ما بيْنكم، وخبَر ما بعدكم، هو الفصْل ليْس بالهزْل، مَن ترَكَه من جبَّار قصمه الله، ومَن ابتغى الهُدَى في غيرِه أضلَّه الله، مَن قال به صدَقَ، ومَن حكم به عدل، ومَن دعا إليه فقد هُدِي إلى صراطٍ مستقيمٍ. هذا القرآن: هو وثيقة النبوَّة الخاتمة، ولسان الدِّين الحنيف، وقانون الشَّريعة الإسلاميَّة، هو قدْوتنا وإمامنا في حياتِنا، به نهتدي، وإليه نَحتكِم، وبأوامِرِه ونواهيه نعمل، وعند حدوده نقِف ونلتزم، سعادتنا في سلوك سُنَنه، واتِّباع منهجه، وشقاوتنا في تنكُّب طريقه والبعد عن تعاليمه، وهو رباطٌ بين السَّماء والأرْض، وعهدٌ بين الله وبين عباده، وهو منهاج الله الخالد، وميثاق السَّماء الصَّالح لكلِّ زمان ومكان، وهو أشْرف الكتب السَّماويَّة، وأعظم وحْيٍ نزل من السَّماء. وباختصار، فإنَّ كلام الله - سبحانه وتعالى - لا يُدانيهِ كلام، وحديثُه لا يشابههُ حديث؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]. ولقد رفع الله شأنَ القرآن، ونوَّه بعلوِّ منزلتِه؛ فقال سبحانه: ﴿ تَنْزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا ﴾ [طه: 4]، كما وصفه - سبحانه وتعالى - بعدَّة أوْصاف مبيِّنًا فيها خصائصَه الَّتي ميَّزه بها عن سائِر الكتُب[1]. فمِن ذلك: قوله تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]. قال العلامة ابن سعدي - رحمه الله -: "القرآن العظيم والذِّكْر الحكيم فيه الخير الكثير، والعلم الغزير، وهو الَّذي تستمدّ منه سائر العلوم، وتستخرج منه البركات، فما من خير إلاَّ وقد دعا إليه ورغَّب فيه، وذكر الحِكَم والمصالِح الَّتي تحثُّ عليه، وما من شرٍّ إلاَّ وقد نَهى عنه، وحذَّر منْه، وذكَر الأسباب المنفِّرة منه ومن فعلِه وعواقبها الوخيمة، فاتَّبعوه فيما يأمُر به وينهى، وابْنُوا أصولَ دينِكم وفروعه عليْه"[2].
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: "فيه الدَّعوة إلى اتِّباع القرآن، يرغِّب - سبحانه - عباده في كتابه ويأمرهم بتدبُّره والعمل به والدَّعوة إليه، ووصفه بالبركة لِمَن اتَّبعه وعمل به في الدُّنيا والآخرة؛ لأنَّه حبل الله المتين"[3]. وقوله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]. وصف الله كتابه هنا بصفات كثيرة؛ وهي: التِّبيان، والهُدى، والرَّحمة، والبُشرى، فالقرآن الكريم تبيانٌ وبيان تامّ لكلّ ما يحتاجه الإنسان في مسيرتِه في الحياة الدنيا، من عقيدةٍ صحيحة، وسلوكٍ قويم، وشريعةٍ محْكمة، فلا حجَّة بعده لمحتجّ، ولا عذر لمعتذِر، فلا عقيدة أو سلوك أو شريعة يَرضاها الله إلاَّ ما جاء فيه، ولا صلاحَ للفرد والجماعة إلاَّ بهذه العقيدة والعبادة والسُّلوك، والشَّرع والحكم الإلهي التَّامّ الكامل المنزَّه عن الشبهات والهوى، فالله - سبحانه - الَّذي خلق الإنسان، وهو من يبين له ذلك وحدَه، ففيه بيان الأصول والعقائد والقواعد لكلّ شيء، وفي سننه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - التفصيل والشَّرح[4]. هذه بعض أوْصاف القرآن الواردة في كتاب الله - عزَّ وجلَّ - فالقرآن يتحدَّث عن نفسِه فيها بأجْلى صورة وأوضح بيان. أمَّا السنَّة النبويَّة فحديثها عن القرآن ووصفها لآياتِه، وبيان فضْلِه وعلوّ منزلته، فالنصوص فيها كثيرة، منها: ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن زيدِ بن أرقم - رضِي الله عنْه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - خطب، فحمِد الله وأثْنَى عليه، ثمَّ قال: ((أمَّا بعد، ألا أيُّها النَّاس، فإنَّما أنا بشَر يوشِك أن يأتِيَني رسولُ ربِّي فأُجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين: أوَّلُهما كتابُ الله؛ فيه الهدى والنور، فخُذوا بكتاب الله، وتمسَّكوا به))، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثمَّ قال: ((وأهل بيْتي))، وفي لفظ: ((كتاب الله هو حبْل الله المتين، من اتَّبعه كان على الهُدى، ومَن ترَكَه كان على الضَّلالة)). وروى ابنُ حبان في صحيحه، عن أبي شريح - رضي الله عنه - قال: خرج عليْنا رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال: ((أبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلاَّ الله، وأنِّي رسول الله؟)) قالوا: نعم، قال: ((فإنَّ هذا القرآن طرفُه بيد الله وطرفُه بأيديكم، فتمسَّكوا به، فإنَّكم لن تضلُّوا ولن تهلكوا بعده أبدًا)). وروى مسلم من حديثِ عُمر بن الخطَّاب - رضِي الله عنْه - أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين)). كلّ هذه النصوص تبيِّن لنا فضائل هذا القرآن العظيم وتعلي شأنه ومكانته؛ لأنَّه كلام الله وحْده سبحانه، وصَفهُ منزلُه بكلِّ كمال، وجعل في تلاوته المهابة والجلال، وجعله أيضًا أساس الشَّريعة الإسلاميَّة، وجعله مصدر الأحكام الشَّرعيَّة، والمسائل الفقهيَّة، فهو الكتاب الحقّ الَّذي عليه مدار سعادتِنا في أمر دينِنا ودنيانا، ويرحم الله القائل: سَأَصْرِفُ وَقْتِي فِي قِرَاءَةِ مَا أَتَى عَنِ اللَّهِ مَعْ مَا جَاءَنَا عَنْ رَسُولِهِ فَإِنَّ الهُدَى وَالفَوْزَ وَالخَيْرَ كُلَّهُ بِمَا جَاءَ عَنْ رَبِّ العِبَادِ وَرُسْلِهِ وقال آخر: قُرْآنُ أَصْلُ أُصُولِ الدِّينِ قَاطِبَةً فَكُنْ هُدِيتَ بِهِ مُسْتَمْسِكًا وَثِقَا . قال يحيى بن أكثم: كان للمأمون - وهو أميرٌ إذ ذاك - مجلسُ نظَر، فدخل في جُملة النَّاس رجلٌ يهودي، حسَن الثَّوب، حسَن الوجْه، طيِّب الرَّائحة، قال: فتكلَّم فأحسن الكلام والعبارة، فلمَّا تقوَّض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم، قال: أسلِمْ حتَّى أفعل بك وأصنع، ووعدَه، فقال: ديني ودين آبائي، وانصرف. قال: فلمَّا كان بعد سنةٍ جاء مسلمًا، فتكلَّم على الفقه فأحسن الكلام، فلمَّا تقوَّض المجلس دعاه المأمون وقال: ألستَ صاحبَنا بالأمس؟ قال: بلى، قال: فما كان سبَب إسلامِك؟ قال: انصرفتُ من حضرتِك فأحببْتُ أن أمتحِن هذه الأديان، وأنت تراني حسنَ الخط، فعمدتُ إلى التَّوراة فكتبتُ ثلاثَ نُسَخ فزِدتُ فيها ونقصت، وأدخلْتُها البِيعة فاشتُرِيَت منِّي، وعمدت إلى الإنجيل فكتبتُ ثلاث نسخ فزِدتُ فيها ونقصتُ، وأدخلْتُها الكنيسة فاشتُرِيتْ منّي. وعمدت إلى القُرآن فحملت ثلاثَ نسخ وزِدت فيها ونقصت، وأدخلتُها الورَّاقين فتصفَّحوها، فلمَّا وجدوا فيها الزِّيادة والنقصان، رمَوا بها فلم يشتروها، فعلمْتُ أنَّ هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سببَ إسلامي[5]. وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].


ثاتياً- أسماء كتاب الله
ولقد سمى الله ما أنزله على رسوله ( قرآنا، وكتابا، وكلاما، وفرقانا، وذكرا، وقولا) . وقد أنهاها بعضهم إلى نيف وتسعين اسما، وجعلها بعضهم خمسة وخمسين اسما، وأكثر ما ذكروه يعد من قبيل الصفات، من ذلك: (الهادى، والقيم) . وأكثر هذه الأسماء دورانا هو لفظ القرآن الكريم ، فقد جاء فى نحو من سبعين آية، وكان فى كلها صريحا فى اسميته ومدلوله الخاص، من أجل ذلك كتبت لهذه اللفظ الغلبة على غيره، وكان هذا الاسم الغالب لكتاب الله الذى جاء به محمد وحفظه عنه المسلمون. ويؤثر عن الشافعى أنه قال: القرآن الكريم اسم علم غير مشتق خاص بكلام الله فهو غير مهموز، لم يؤخذ من قراءة، لكنه اسم لكتاب الله، مثل: التوراة والإنجيل . ويقول الزجاج: إن ترك الهمز فيه من باب التخفيف ونقل حركة الهمز إلى الساكن الصحيح قبلها. والقائلون بالهمز مختلفون، وأوجه ما فى خلافهم رأيان: أولهما: أنه مصدر لقرأت، مثل: الرجحان، والغفران، سمى به الكتاب المقروء، من باب تسمية المفعول بالمصدر. والرأي الثاني: أنه وصف على فعلان، مشتق من القرء، بمعنى الجمع. وأما تسميته بالمصحف فكانت تسمية متأخرة جاءت بعد جمع القرآن وكتابته، وكانت من وضع الناس، فإنهم يحكون أن عثمان حين كتب المصحف التمس له اسما فانتهى الناس إلى هذا الاسم. غير أن هذا يكاد يكون مردودا، فلقد سبق أن علمت أن ثمة مصاحف كانت موجودة قبل جمع عثمان، هى: ( مصحف على، ومصحف أبى، ومصحف ابن مسعود، ومصحف ابن عباس) . والمصحف: هو الجامع للصحف المكتوبة بين الدفتين. ويقال فيه: مصحف، ومصحف، بضم الميم وكسرها مع فتح الحاء، والضمة هى الأصل، والكسرة لاستثقال الضمة، فمن ضم جاء به على أصله، ومن كسر فلاستثقال الضمة.

ثالثاً- مقاصد أهل العلم في وصف القرآن وبيان فضله:
وللقرآن في شعر الشُّعراء، ونظم القصيد المكان المعلَّى، وكيف لا وهو كلام الله تعالى؟! قال الإمام عبدالله بن محمد الأندلسي في قصيدتِه البديعة، الموسومة بـ "نونيَّة القحطاني" عن وصف القُرآن وفضْلِه: تَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ وَوَحْيُهُ بِشَهَادَةِ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَكَلامُ رَبِّي لا يَجِيءُ بِمِثْلِهِ أَحَدٌ وَلَوْ جُمِعَتْ لَهُ الثَّقَلانِ وَهُوَ المَصُونُ مِنَ الأَبَاطِلِ كُلِّهَا وَمِنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ مَنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنْ يُبَارِيَ نَظْمَهُ وَيَرَاهُ مِثْلَ الشِّعْرِ وَالهَذَيَانِ فَلْيَأْتِ مِنْهُ بِسُورَةٍ أَوْ آيَةٍ فَإِذَا رَأَى النَّظْمَيْنِ يَشْتَبِهَانِ فَلْيَنْفَرِدْ بِاسْمِ الإِلَهَةِ وَلْيَكُنْ رَبَّ البَرِيَّةِ وَلْيَقُلْ سُبْحَانِي فَإِذَا تَنَاقَضَ نَظْمُهُ فَلْيَلْبِسَنْ ثَوْبَ النَّقِيصَةِ صَاغِرًا بِهَوَانِ أَوْ فَلْيُقِرَّ بِأَنَّهُ تَنْزِيلُ مَنْ سَمَّاهُ فِي نَصِّ الكِتَابِ مَثَانِي لا رَيْبَ فِيهِ بِأَنَّهُ تَنْزِيلُهُ وَبِدَايَةُ التَّنْزِيلِ فِي رَمَضَانِ اللَّهُ فَصَّلَهُ وَأَحْكَمَ آيَهُ وَتَلاهُ تَنْزِيلاً بِلا أَلْحَانِ هُوَ قَوْلُهُ وَكَلامُهُ وَخِطَابُهُ بِفَصَاحَةٍ وَبَلاغَةٍ وَبَيَانِ هُوَ حُكْمُهُ هُوَ عِلْمُهُ هُوَ نُورُهُ وَصِرَاطُهُ الهَادِي إِلَى الرِّضْوَانِ جَمَعَ العُلُومَ دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا فِيهِ يَصُولُ العَالِمُ الرَّبَّانِي قَصَصٌ عَلَى خَيْرِ البَرِيَّةِ قَصَّهُ رَبِّي فَأَحْسَنَ أَيَّمَا إِحْسَانِ وَأَبَانَ فِيهِ حَلالَهُ وَحَرَامَهُ وَنَهَى عَنِ الآثَامِ وَالعِصْيَانِ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ قَوْلِهِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ عِبَادَةَ الأَوْثَانِ وقال - رحمه الله - أيضًا: قُلْ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَلامُ إِلَهِنَا وَاعْجَلْ وَلا تَكُ فِي الإِجَابَةِ وَانِي وَكَلامُهُ صِفَةٌ لَهُ وَجَلالَةٌ مِنْهُ بِلا أَمَدٍ وَلا حِدْثَانِ
وقال الإمام الشاطبي في قصيدتِه الموسومة بـ "حرز الأماني" في القِراءات:
وَبَعْدُ فَحَبْلُ اللَّهِ فِينَا كِتَابُهُ فَجَاهِدْ بِهِ حِبْلَ العِدَا مُتَحَبِّلا وَأَخْلِقْ بِهِ إِذْ لَيْسَ يُخْلِقُ جِدَّةً جَدِيدًا مُوَالِيهِ عَلَى الجِدِّ مُقْبِلا؛ وقال أيضًا - رحمه الله -:وَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ وَأَغْنَى غَنَاءٍ وَاهِبًا مُتَفَضِّلا وَخَيْرُ جَلِيسٍ لا يُمَلُّ حَدِيثُهُ وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلا وَحَيْثُ الفَتَى يَرْتَاعُ فِي ظُلُمَاتِهِ مِنَ القَبْرِ يَلْقَاهُ سَنًا مُتَهَلِّلا هُنَالِكَ يَهْنِيهِ مَقِيلاً وَرَوْضَةً وَمِنْ أَجْلِهِ فِي ذِرْوَةِ العِزِّ يُجْتَلى يُنَاشِدُ فِي إِرْضَائِهِ لِحَبِيبِهِ وَأَجْدِرْ بِهِ سُؤْلاً إِلَيْهِ مُوَصِّلا، وقال العلامة حافظ بن أحمد حكمي - رحمه الله - في قصيدتِه الموسومة بـ "سُلَّم الوصول إلى علم الأصول" في التَّوحيد: كَلامُهُ جَلَّ عَنِ الإِحْصَاءِ وَالحَصْرِ وَالنَّفَادِ وَالفَنَاءِ لَوْ صَارَ أَقْلامًا جَمِيعُ الشَّجَرِ وَالبَحْرُ تُلْقَى فِيهِ سَبْعَةُ ابْحُرِ وَالخَلْقُ تَكْتُبْهُ بِكُلِّ آنِ فَنَتْ وَلَيْسَ القَوْلُ مِنْهُ فَانِ وَالقَوْلُ فِي كِتَابِهِ المُفَصَّلْ بِأَنَّهُ كَلامُهُ المُنَزَّلْ عَلَى الرَّسُولِ المُصْطَفَى خَيْرِ الوَرَى لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلا بِمُفْتَرَى يُحْفَظُ بِالقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ يُتْلَى كَمَا يُسْمَعُ بِالآذَانِ كَذَا بِالابْصَارِ إِلَيْهِ يُنْظَرُ وَبِالأَيَادِي خَطُّهُ يُسَطَّرُ وَكُلُّ ذِي مَخْلُوقَةٌ حَقِيقَهْ دُونَ كَلامِ بَارِئِ الخَلِيقَهْ ، وقال أيضًا - رحمه الله -:َلَّتْ صِفَاتُ رَبِّنَا الرَّحْمَنِ ِ عَنْ وَصْفِهَا بِالخَلْقِ وَالحِدْثَانِ فَالصَّوْتُ وَالأَلْحَانُ صَوْتُ القَارِي لَكِنَّمَا المَتْلُوُّ قَوْلُ البَارِي مَا قَالَهُ لا يَقْبَلُ التَّبْدِيلا كَلا وَلا أَصْدَقَ مِنْهُ قِيلا



رابعاً-القرآن الكريم وأمية الرسول:
صلى الله عليه وسلم
لقد كان محمد صلوات الله عليه أميّا لا يعرف أن يقرأ ولا يعرف أن يكتب، ما فى ذلك شك، يدلك على ذلك اتخاذه بعد أن أوحى إليه كتّابا يكتبون عنه الوحى، منهم: ( أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلىّ بن أبى طالب، والزّبير بن العوام، وأبىّ بن كعب بن قيس، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبى سفيان، ومحمد بن مسلمة، والأرقم بن أبى الأرقم، وأبان بن سعيد بن العاص، وأخوه خالد بن سعيد، وثابت بن قيس، وحنظلة بن الربيع، وخالد بن لوليد، وعبد الله بن الأرقم، والعلاء بن عتبة، والمغيرة بن شعبة، وشرحبيل بن حسنة ) . وكان أكثرهم كتابة عنه: زيد بن ثابت، ومعاوية . كما يدلك على ذلك أيضا ما ذكره المؤرخون عند الكلام على غزوة «أحد» أن العباس وهو بمكة كتب إلى النبى كتابا يخبره فيه بتجمّع قريش وخروجهم، وأن العباس أرسل هذا الكتاب مع رجل من بنى غفار، وأن النبيَّ حين جاءه الغفاري بكتاب العبّاس استدعى أبىّ بن كعب- وكان كاتبه- ودفع إليه الكتاب يقرؤه عليه، وحين انتهى «أبىّ» من قراءة الكتاب استكتمه النبيَّ. ولو كان النبي غير أمي لكفى نفسه دعوة «أبىّ» لقراءة كتاب العبّاس في أمر ذي بال. وثمة ثالثة يذكرها المؤرخون أيضا عند قدوم وفد ثقيف على النبي، فلقد سألوا النبي حين أسلموا أن يكتب لهم كتابا فيه شروط، فقال لهم: اكتبوا ما بدا لكم ثم ائتوني به. فسألوه في كتابهم أن يحل لهم الرّبا والزّنا. فأبى علىّ بن أبى طالب أن يكتب لهم. فسألوا خالد بن سعيد بن العاص أن يكتب لهم. فقال له على: تدرى ما تكتب؟ قال: أكتب ما قالوا ورسول الله أولى بأمره. فذهبوا بالكتاب إلى رسول الله فقال للقارىء: اقرأ. فلما انتهى إلى الرّبا، قال له الرسول: ضع يدى عليها. فوضع يده. فقال: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا } [ ] ، ثم محاها. فلما بلغ الزّنا وضع يده ثم قال: { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى } [ ] ، ثم محاها، وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا . ولقد عثر الباحثون على الكتابين المرسلين من النبي إلى المقوقس وإلى المنذر بن ساوى، والكتاب الأول محفوظ فى دار الآثار النبوية في الآستانة، وكان قد عثر عليه عالم فرنسي فى دير بمصر قرب أخميم، والكتاب الثاني محفوظ بمكتبة فينا. ومن قبل هذه الأدلة يقول تعالى في الرسول: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } [ ] . ويقول تعالى فى الرسول أيضا: { وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ ] ، ولم تكن البيئة العربية على هذا بيئة كاتبة قارئة، بل كان ذلك فيها شيئا يعد ويحصى، وكان حظّ المدينة المنورة من ذلك دون حظ مكة المكرمة ، ولم يكن في المدينة حين هاجر إليها الرسول غير بضعة عشر رجلا يعرفون الكتابة، منهم: ( سعيد بن زرارة، والمنذر بن عمر، وأبى بن وهب، وزيد بن ثابت، ورافع بن مالك، وأوس بن خولى ) . ولقد أحس الرسول ذلك بعد هجرته إلى المدينة، فكان أول ما فعله بعد انتصاره فى «بدر» وأسره من أسر من رجال قريش القارئين الكاتبين، أن جعل فدية هؤلاء أن يعلّم كلّ رجل منهم عشرة من صبيان المسلمين، وبهذا بدأت الكتابة تروج سوقها في المدينة. حتى إذا كان عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمر بجمع الصّبيان في المكتب، وأمر عبد عامر بن عبد الخزاعي أن يتعهدّهم بالتعليم، وجعل له رزقا على ذلك يتقاضاه من بيت المال. وكان المعلّم يجلس للصبيان بعد صلاة الصّبح إلى أن يرتفع الضحى، ومن بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر. وحين خرج عمر إلى الشام وغاب عن المدينة شهرا استوحش إليه الناس، وخرج صبيان المكتب للقائه على مسيرة يوم من المدينة، وكان ذلك يوم الخميس، ورجعوا معه إلى المدينة المنورة يوم الجمعة، وقد انقطعوا عن المكتب يومين أجازهما لهم عمر، وكانت بعد ذلك عادة متبعة . وحين اختار الله لرسالته «محمدا» اختار فيه صفات حسّية وصفات معنوية. أمدّهما به وطبعه عليهما، فوهبه من الأولى نفسا قوية، وروحا عالية، وقلبا كبيرا، وذهنا وقّادا، وبصيرة نفاذة، ولسانا مبينا، وفكرا واعيا، ووهبه من الثانية صدق لسان، وطهارة ذيل، وعفة بصر، وأمانة يد، ورحمة قلب، ورقّة وجدان، ونبل عاطفة، ومضاء عزيمة، ورحمة للناس جميعا. وكان اختيار الله نعالى له أميّا لا يقرأ ولا يكتب يضيف إلى إذعان الناس له وإيمانهم برسالته سببا يفسره تعالى في قوله: { وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ . ويبيّنه } [ ] صدور هذا الوحى على لسانه يتلوه على قومه بكرة وعشيّا، ولا تبديل فيه ولا تغيير، وما يقوى على مثلها إلا من يملك أسفارا يعود إليها ليستظهر ما فيها. وليس في منطق الرسالات أن تكون الحجّة للناس عليها، بل لا تطالع الناس إلا والحجّة لها عليهم، كما لا تطالعهم إلا وفى صفحاتها الجواب على كل ما يصوّره لهم تصوّرهم، تحوط السماء رسالاتها بهذا كله لكيلا يكون للناس على الله تعالى حجة، وليكون منطق الرسالات من منطق الناس، لا تلتوى عليهم الرسالة فيلتووا هم عليها. ولم يكن اختيار محمد صلى الله عليه وسلم قارئا وكاتبا شيئا يعزّ على السماء، ولكنه كان شيئا إن تمّ يهوّن من حجّة السماء فى نفوس الناس، وكانوا عندها يملكون أن يقولوا باطلا ما حرص القرآن على ألا يقولوه: من أن هذا الذى جاء به الرسول قد أخذه من أسفار سابقة. وهذه التي ألزمتها حجة السماء السلف من قبل، فأذعنوا لها عن وعى وبصر- وأعنى بها أمية الرسول صلى الله عليه وسلم - أراد أن يثيرها نفر من الخلف من بعد ليخرجوا على حجة السماء عن غير وعى ولا بصر. غير أننا نفيد من هذا الذى يريد الخلف أن يثيروه تأكيد المعنى الذى قدّمناه من أن حجة السماء تجيء أشمل ما تكون بشكوك العقول، محيطة بكل ما يصدر عنها، يستوى في ذلك أولهم وآخرهم. وقد ننسى، مع هؤلاء المخالفين الطاعنين، تقرير القرآن الكريم الصادق عن أميَّة محمد والادلّة القائمة في ظلّ القرآن لبكريم على ذلك، قد ننسى هذا وذاك لنسائلهم: أى جديد يفيدهم هذا- إن صح- وقد مضى على رسالة محمد ما يقرب من أرب
سريعة، وما وجدنا شيئا ينال من هذه الرسالة من قرب أو من بعد، جهر به أو أسرّ من يريدون أن يجعلوا محمدا قارئا كاتبا، وأن يجعلوا من هذا سببا إلى أنه نقل عن أسفار سابقة.
خامساً- مجالات الخطاب القرآني لأصناف الناس:

وهنا نقِف وقفة قرآنيَّة مع مجالات الخطاب القرآني وشموليَّته لأصناف المخاطبين، وبيان ذلك فيما يلي:
1-خطاب القرآن الكريم للنَّاس عامَّة: باستقراء آيات القرآن الكريم، نجد أن الله -تعالى-قد وجَّه الخطاب لعموم الناس في غير موضعٍ من القرآن، وكلّ خطاب فيه له هدفه ومقاصده، ومجموع سياق هذه الآيات الواردة في خطاب النَّاس عشرون موضعًا، إلاَّ خمسةَ مواضع منها، ثلاثة منها سياق خطاب الله للنَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لدعوة النَّاس إلى اتّباعه والإيمان برسالته وهى قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]. وقوله سبحانه: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ﴾ [يونس: 104]. وقوله سبحانه:﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾[يونس: 108]. وقوله - سبحانه-: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ [الحج: 49]. أمَّا الخطاب الخامس فهو من سياق كلام نبي الله سليمان -عليه السلام -في قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 16]. أمَّا ما عدا هذه المواضع فهي خطابٌ من الله -سبحانه وتعالى - إلى عموم النَّاس. وهذه بعض الآيات الواردة في ذلك:
1- قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].
2- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا ﴾ [البقرة: 168].
3- وقوله تعالى: ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ﴾ [النساء: 133].
4- وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ﴾ [النساء: 170].
5- وقوله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ﴾ [النساء: 174].
6- وقوله - جلَّ وعلا -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [النساء: 1].
7- وقوله جلَّ شأنُه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُم مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [يونس: 23].
8- وقوله - تبارك وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُور ﴾ [يونس: 57].
9- وقوله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ﴾ [لقمان: 33].
10- وقوله - جل ثناؤه -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ ﴾ [فاطر: 3].
11- وقوله - جلَّ ذكره -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ [فاطر: 5].
12- وقوله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15].
13- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13].
إلى غير ذلك من الآيات في مخاطبة الناس عمومًا ودعوتهم إلى الهدى والخير.
2- خطاب القرآن الكريم للأنبياء والمرسلين: ومن مجالات الخطاب القرآني خطابه للأنبياء والمرسلين - عليهم السلام - وأمرهم بدعوة الناس إلى الإيمان والتوحيد، وإلى أصول الخير والسعادة وأشياء أخرى، ومن ذلك:
1- قوله - عزَّ وجلَّ - في شأن نبي الله نوح - عليه السلام -: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُّؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ﴾ [هود: 37، 36]. قوله تعالى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46، 45].
2- قوله - سبحانه - في شأن نبى الله زكريا - عليه السلام -: ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 7].
3- قوله - عزَّ وجلَّ - في شأن نبي الله يحيى - عليه السلام -: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 12].
4- قوله - سبحانه - في شأن نبي الله عيسى - عليه السلام -: ﴿ إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ ﴾ [المائدة: 110]. وقوله - سبحانه -: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾ [المائدة: 116].
5- قوله - عزَّ وجلَّ - في شأن نبي الله إبراهيم - عليه السلام -: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ﴾ [الحج: 27، 26]. وقوله تعالى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 105، 104].
6- قوله تعالى في شأن نبي الله داود - عليه السلام -: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ ﴾ [ص: 26].
7- قوله - سبحانه - في شأن نبي الله موسى وهارون - عليهما السلام -: ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14، 11]. وقوله - سبحانه -: ﴿ اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ [طه 43، 42].

8- قوله - سبحانه - في شأن النبي محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 46، 45]. وقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ [الأحزاب: 1]. وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التحريم: 9]. وقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا ﴾ [الممتحنة: 12].
وقول جل ذكره: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [المزمل: 2، 1]. وقوله تبارك اسمه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 2، 1]. وقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ [المائدة: 67]. والآيات في شأن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - كثيرة بفضل الله تعالى.
3- خطاب القرآن للمؤمنين والصالحين: وقد ورد الخطاب بصفة الإيمان خاصَّة في القرآن في حوالي تسعةٍ وثمانين موضعًا في القرآن، وكذا خطابه لسائِر الصَّالحين والمؤمنين. فمن ذلك:
1- قوله - عزَّ وجلَّ - في شأن المؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ﴾ [البقرة: 104].
2- وقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153].
3- وقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172].
4- وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178].
5- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
6- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278].

7- وقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]
8- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59].
9- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [النساء: 135].
10- وقوله - جلَّ ذكرُه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1].
11- وقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ [المائدة: 2].
12- وقوله - جلَّ ثناؤه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 35].
13- وقوله - جلَّ ذكرُه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ ﴾ [المائدة: 51].
14- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ﴾ [الأنفال: 15].
15- وقوله - جلَّ وعلا -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].
16- وقوله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ [التوبة: 28].
17- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77].
18- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ﴾ [النور: 27].
19- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]
20- وقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ﴾ [التوبة: 38].
21- وقوله - جلَّ ذكرُه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا ﴾ [الأحزاب: 69].
22- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 70].
23- وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ ﴾ [الحجرات: 1].
24- وقوله - جلَّ ثناؤه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6].
25- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ ﴾ [الحجرات: 11].
26- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المجادلة: 9].
27- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ ﴾ [الحشر: 18].
28- وقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ﴾ [الممتحنة: 1].
29- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ﴾ [الممتحنة: 13].
30- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ ﴾ [التحريم: 8].



هذه بعض الأمثلة الخطابيَّة للفئة المؤْمنة الواردة بلفظ الإيمان، وهناك أمثلة أخرى واردة بفعل الأمر، وترْك النَّهي، كما أبان القرآن ذلك، نذكر منها على سبيل المثال:
1- قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103].
2- وقوله تعالى: ﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105، 104].
3- وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 123].
4- وقوله سبحانه: ﴿ وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ﴾ [النحل: 95].
5- وقوله سبحانه: ﴿ وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ﴾ [النحل: 116].
6- وقوله تعالى: ﴿ لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ﴾ [الإسراء: 22].
7- وقوله - جلَّ ذكره -: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء: 33، 32].
8- وقوله - جلَّ ثناؤه -: ﴿ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ [الزمر: 55].
4- خطاب القرآن لأهل الكتاب وغيرهم من المشركين: وقد خاطب الله - سبحانه - في كتابه العزيز أهل الكتاب ودعاهم إلى اتّباع الهدى والحق، وإلى الحكم بما أنزل الله، وإلى الإيمان برسالة النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ومتابعته، وكذا خطابه لسائر الكفَّار والمشركين إلى معرفة الله وحْده وعبادته - سبحانه. وقد تكرَّر ذكر هذا الخطاب في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، نذكر منها ما يلي:

1- قول الله - عزَّ وجلَّ - في شأن أهل الكتاب: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ ﴾ [آل عمران: 64].
2- وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آل عمران: 98].
3- وقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ ﴾ [آل عمران: 99].
4- وقوله سبحانه: {﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقّ ﴾ [النساء: 171].
5- وقوله سبحانه: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [المائدة: 68].
6- وقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [المائدة: 76].
7- وقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا ﴾ [المائدة: 77].
8- وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ [المائدة: 15].
9- وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91].
10- وقوله سبحانه: ﴿ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾ [آل عمران: 12].
11- وقوله سبحانه: ﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾ [آل عمران: 20].
12- وقوله - جلَّ وعلا -: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 93].
13- وقوله - جلَّ وعلا -: ﴿ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ [البقرة: 139].

14- وقوله - جلَّ ذكرُه -: ﴿ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ ﴾ [الأنعام: 63].
15- وقوله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ [الأنعام: 91].
16- وقوله تعالى: ﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال: 38].
17 وقوله - تعالى شأنه -: ﴿ قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنْظِرُونِ ﴾ [الأعراف: 195].
18- وقوله - جلَّ ذكرُه -: ﴿ قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 59].
19- وقوله سبحانه: ﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [سبأ: 24].
20- وقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعْمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ ﴾ [الجمعة: 6]
5- خطاب القرآن للمنافقين وأمثالهم: ورد هذا الخطاب القرآني للمنافقين في جملة من الآيات القرآنية نذكر منها:
1- قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ﴾ [التوبة: 52].
2- قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُّتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ﴾ [التوبة: 53].
3- وقوله تعالى: ﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 61].
4- وقوله تعالى: ﴿ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 64].
5- وقوله جل ثناؤه: ﴿ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 65].
6- وقوله تعالى: ﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81].
وهناك بعض أنواع الخطاب الأخرى مثل خطاب الخلْق بعضهم لبعض، كخطاب المنافقين بعضهم لبعض، أو خطاب المؤمنين للكافرين، أو خطاب الكفَّار للمؤمنين كالَّذي كان ذكره في سورة الأعراف، أو خطاب المؤمنين للمؤمنين كالَّذي في سورة الطور، أو خطاب الكفار للكفَّار كالَّذي في سورة سبأ والأعراف، وغير هذه الخطابات كثيرة، ولنكتفِ هنا بذكر الأنواع الَّتي بيناها لكوْنِها كافية بالغرض


سادساً-شمولية القرآن الكريم:

لقد تميَّز كتاب الله تعالى بصفاتٍ وخصائص لم تكُن لكتابٍ سماويٍّ سواه، فمِن هذه الخصائص:

♦ التَّيسير، للتِّلاوة والحفظ والفهم والعمل.

♦ الإعجاز بكلِّ أنواعه: البلاغي، والتَّشريعي، والموضوعي، والعلمي.

♦ الخلود على مرِّ العصور والأجيال.

♦ الشُّمول لكلّ مناحي الحياة الإنسانيَّة؛ فهو كتاب الدّين كلِّه والدُّنْيا أيضًا.

ولنقفْ هنا وقفة بسيطة مع الخصِّيصة الخامسة، ألا وهي شموليَّة القرآن.

شمولية القرآن:

لَم يقف القرآن الكريم عند واحدٍ من الجوانب الإنسانيَّة، بل إنَّه تحدَّث بشموليَّةٍ إعجازيَّةٍ بديعةٍ عن كلّ الجوانب الَّتي يحتاج إليها الإنسان، وخاصَّة في الجوانب الدينيَّة والتَّعبُّديَّة؛ لأنَّها مجالات متعدِّدة؛ لذلك شملها القرآن في ثنايا حديثه وآياته:

الشمول العقدي:

يتمثَّل هذا الشّمول ببيان حقيقة توحيد الله - سبحانه وتعالى - بصورة واضحة، وذلك ببيان ذاته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وبيان سائر أركان الإيمان الستَّة: الإيمان بالله وملائكته وكتُبه ورسُله واليوم الآخر والقضاء والقدر.

كما يتمثَّل بربْط الكون والإنسان والحياة بالله - سبحانه وتعالى - ومن ثمرات هذا الشّمول أنَّ الإنسان يشعر برقابة الله - تعالى - له في جميع أقواله وأفعاله، فيولد في نفسه عنصر النَّقد الذَّاتي والمحاسبة الذَّاتيَّة، وبالتَّالي فالمسلم يخلص في عمله، ويخلص في عبادته ويلتزم بأوامر الله ويَجتنب نواهيه.

الشمول التشريعي:

يتضمَّن القرآن الكريم تشريعًا كاملاً لمختلف مناحي الحياة، فيشمل: العبادات، والمعاملات، والعقوبات، والسياسة الخارجية، ومعاهدات السِّلْم والحرب والحياد، وسائر الأنظِمة الَّتي يقوم عليها المجتمع، ويتَّصف هذا التَّشريع القرآني بصفَتين رئيستَين، وهما: العموميَّة والديمومة[7].

ولهذا؛ جعله الله للنَّاس كلّهم وللعالمين دستورًا هاديًا وشافيًا، وجعله خالدًا دائمًا على مرّ الزَّمان والأجيال، فالقرآن دستورٌ شامل، وصَفَه منزِّله - وهو ربّ العالمين - بأنَّه تبيانٌ لكلّ شيء، فقد خاطب الرَّسول المنزَّل عليه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بقوله: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].

وقد قال الخليفة الأوَّل: "لو ضاع منّي عقال بعيرٍ لوجدتُه في كتاب الله".

ومن هنا يتَّضح لنا كمال القُرآن في هدايتِه وشموله، وعظمة بلاغته وأسلوبِه؛ ولذا فإنَّ عليْنا دوام تلاوته وفهْمه مع كون العمل به من آكد فرائضِه

الشمول الخطابي للنفس الإنسانيَّة:

ومعنى ذلك: أنَّ القرآن شمِل في خطابِه العقْل والوجدان والعاطفة؛ لأنَّ القرآن الكريم حين يدْعو إلى العقيدة الصَّحيحة في الله، وفي كلّ ما جاء عنْه، وحين يدْعو إلى التِزام تشريعٍ معيَّنٍ في عباداتِنا أو معاملتِنا أو نُظُمنا الاجتماعيَّة، وحين يدْعو إلى الخلُق الكريم، والأدب الحميد، واتِّخاذ ذلك منهجًا لنا في سلوكِنا الشَّخصي مع الله ومع النَّاس، حين يدْعو القرآن إلى هذا كلِّه، لا يدْعو إليه دعوةً جافَّة وخشنة ليس فيها إلاَّ مجرَّد الأمر الصَّارم أو النَّهي العنيف، وإنَّما يدْعو إليه دعوة الحكمة العاقلة، فيُورده بأسلوبِ الأمْر أو النَّهي مقرونًا بوسائل الإقناع بصِدْقِه، وصلاحيَّته وحسن عاقبتِه.

ووسائل الإقناع متعدِّدة:

فتارةً يكون الإقْناع عن طريق العقْل، وتارة يكون عن طريق الوجْدان، وتارةً ثالثة يكون عن طريق العاطفة، ولقد سلك القُرآن الكريم في دعْوته هذه الطُّرُق الثَّلاثة:

1- خاطب العقل: لأنَّ من النَّاس مَن لا يؤمن إلاَّ بالدَّليل العقلي، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 91]، وقوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [الأنبياء: 22]، وكلْتا الآيتَين دليل منطقي واضح يدركه من له إلْمام بأساليب المناطقة في استِدْلالهم، ويُدركه كلُّ مَن له عقلٌ يعي ولو لَم يكُن على علمٍ بأسلوبِ المناطقة, ثمَّ هناك آياتُ الله في السَّماوات وفي الأرض وفي أنفُسِنا، وكلُّها براهين عقليَّة تشهد بوجود الله وربوبيَّته، والقرآن الكريم - في أكثر من آية - يلْفِت أنظارَنا إلى هذه الدَّلائل والبراهين، حتَّى تقوم الحجة بها على النَّاس.



وخاطب القرآن الوجدان: لأنَّ مِن النَّاس من لا يحفزه إلى الانقِياد والطَّاعة إلاَّ ما يحرّك وجدانه، ويُثير فيه جانب الرَّغبة أو الرَّهبة، فإذا ما أُمِر بِمعروفٍ وقرن الأمر بالتَّرغيب، رغبتْ نفسه في الامتثال أملاً في الثَّواب، وإذا ما نُهِي عن منكرٍ وقُرِن النَّهي بالتَّرهيب، كفَّ نفسه عنه رهبةً من الوقوع تحت طائلة العقاب.

وكثيرًا ما نجد في القُرآن الكريم آياتٍ تحرِّك في الوجدان نوازعَ الخير بما تضمَّنتْه من وعدٍ بسعادة الدُّنيا ونعيم الآخرة، وآيات أخرى تُنيم في الوجدان نوازعَ الشَّرّ بما تضمَّنتْه من وعيد بشقاء الدّنيا وعذاب الآخرة.

فمن الآيات التي تحرّك في الوجدان نوازعَ الخير، وتبعث على امتِثال الأوامر الإلهيَّة: قولُه تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]. وقوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [النساء: 13].

ومن الآيات التي تنيم في الوجدان نوازع الشَّرّ، وتبعث في النَّفس الخوف من الوقوع فيما نَهى الله عنْه: قوله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112]، وقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [السجدة: 20، 21].

وخاطب القُرآن العاطفة: لأنَّ مِن الناس مَن لا يستجيب لدعوة الخير إلاَّ إذا خوطب بما يهزّ عاطفتَه، ويوقظ في نفسه كوامنَ الحبِّ والشَّفقة والرَّحمة، وفي القُرآن الكريم آياتٌ كثيرة تدْعو إلى عمَل البرِّ والخير، وأُخرى تنهى عن ارتِكاب بعض ما لا يَليق بالإنسان، وهذه وتلك مقرونة بِما ينبِّه العواطف الإنسانيَّة ويُثيرها حتَّى تكون المحرِّك الدَّافع لفعل الخيرات والمبرَّات، والمثبِّط عن ارتِكاب الحماقات والموبقات.

فمن الآيات المقترنة بِما يحرِّك العواطف الدَّافعة إلى فِعْل الخيرات والمبرَّات: قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].

ومن الآيات المقرونة بِما يحرِّك العواطف المعوقة عن ارتكاب الحماقات والموبقات: قوله تعالى: ﴿ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 20، 21]، وقوله تعالى: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9].

وهكذا يُخاطب القرآن الكريم العقل والوجدان والعاطفة؛ حتَّى يصِل إلى القلوب بتعاليمِه ومفاهيمه من كلِّ هذه النَّوافذ، وتلك رحمةٌ من الله بعباده الَّذين شرحوا صدورَهم للقُرآن، ولم يوصدوا دونه هذه المنافذ ويضعوا عليها أقفالاً من المكابرة والعناد[8].

هكذا نرى الشموليَّة القرآنيَّة البديعة في أسلوبه البديع البليغ، الَّذي جمع بين العقْل المفكِّر، والوجْدان الذي تلهبه النَّوازع، والعاطفة التي تحرِّكها البواعث والغرائز، وهكذا نجد القُرآن كلَّه مزيجًا حلوًا سائغًا، يخفِّف على النفوس أن تجرع الأدلة العقليَّة، ويرفّه عن العقول باللَّفتات العاطفيَّة، ويوجّه العقول والعواطف معًا جنبًا إلى جنب لهداية الإنسان وخير الإنسان[9].

- ‏ومن أنواع الخطاب القرآني الشريفة:

الآيات التي اشتملَت على مخاطبتنا لله سبحانه، لا سيَّما في مواطن الدُّعاء.

• ومن أمثلته: قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6].

وهي آية تعلِّمنا أدبَ الخِطاب مع الله سبحانه.

فلو لم تكن الهداية أكبر نِعمة في حياة الإنسان، لَما علَّمنا الحق سبحانه أن نطلبها في كل ركعة من صلواتنا عندما نقرأ الفاتحة.

3- من أساليب الخِطاب القرآني:

لاحظتُ من خلال تتبُّعي لأساليب الخطاب القرآني أنه عندما يكون الأمر متعلقًا بهذه الأمَّة، يكون الخطاب بواسطة رسولها؛ حفظًا لمقام الربوبيَّة، ومراعاة لمنصب الرسالة.

وعندما يكون الخِطاب متعلقًا بالحديث عن الأمَم يخبر الحق عنهم بنفسه من غير واسطة.

4- عندما يكون الخِطاب متعلقًا بالعبادة والربوبيَّة يكون الحديث بلا واسطة غالبًا، وكذلك التشريعات.

5- ومن أساليبه: كثرة الخِطاب بأسلوب الجمع؛ مما يدلُّ على أهميَّة الجماعة في حياة الأمة، وعدم الفرقة.

6- إنَّ الله سبحانه يعبِّر عن نفسه بالجمع في مقام العطاء، ويعبِّر بالمفرد في مقام الألوهيَّة.

فلكلِّ مقام مَقال يناسبه.

7- سورة الفاتحة تعلِّمنا أدبَ الخِطاب مع الله سبحانه.

ويلاحظ أنَّ نصفها الأول كان بضمير الغائب: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2].

ونصفها الثاني كان بضَمير المخاطب:

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].

وكأنَّ نِصفها الأول يشير إلى عالَم الغيب، بينما نِصفها الثاني يشير إلى عالم الشهادة.

8- و‏‏من أساليب الخطاب القرآني:

الاختصار والإحالة على ما سبق تفصيله.

ومن أمثلته:

قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ... ﴾ [النحل: 118].

9- ‏من أساليب الخطاب القرآني:

حكاية أقوال المنصِفين من أهل الإيمان والعقل الرشيد، ومن أمثلته: أقوال مؤمِن آل فرعون في (14) آية من سورة غافر.

كلمات صادِقة من نفس مخلِصة، غدَت قرآنًا يُتلى! إنَّه درس في أهميَّة الكلمة الناصحة في الحياة!

10– وبعد، فإنَّ من مظاهر جمال القرآن الكريم تنوُّع خِطابه؛ وهو لون من ألوان إعجازه، وتأثيره، وليتَ الباحثين في الدِّراسات القرآنية يلتفتون إلى هذا الموضوع المهم!

سابعاً-كيف نتدبُّر القرآن الكريم: إنَّ من الواجب على كلّ مسلم أن يتدبَّر هذا القرآن العظيم، وأن يتفهَّم آياتِه ومعانيَه، وأن يعيش معه برُوحه وفِكْره ووجدانه؛ كما قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وقال أيضًا: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]. قال العلامة ابن سعدي - رحِمه الله -: "أي: فهلا يتدبَّر هؤلاء المعرضون القُرآن كتاب الله، ويتأمَّلونه حقَّ التَّأمُّل، فإنَّهم لو تدبَّروه، لدلَّهم على كلّ خير، ولحذَّرهم من كلِّ شرّ، ولملأ قلوبَهم من الإيمان، وأفئِدتَهم من الإيقان، ولأوْصلَهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبيَّن لهم الطَّريق الموصّلة إلى الله، وإلى جنَّته ومكملاتها، ومفسداتها، والطَّريق الموصّلة إلى العذاب وبأيّ شيءٍ تُحْذَر، ولعرَّفهم بربِّهم، وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوَّقهم إلى الثَّواب الجزيل ورهَّبهم من العقاب الوبيل"[6].

ولا يَخفى عليْنا ما للتدبُّر من آثارٍ وفوائد، وقد كان رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يتدبَّر القرآن، ويردِّدُه وهو قائم باللَّيل، حتَّى إنَّه في إحْدى اللَّيالي قام يردِّد آيةً واحدةً من كتاب الله، وهو يصلِّي لَم يُجاوزْها حتَّى أصبح، وهي قوله تعالى: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] رواه أحمد، وهذا يدلّ على وجوب تدبُّر القرآن الكريم ومُعايشة آياتِه، وفهْم معانيه وما تدْعو إليْه.

والقرآن فيه توْحيد، ووعْد ووعيد، وأحكام وأخبار، وقصص وآداب، وأخلاق وآثارها في النَّفس متنوّعة.

وقد كان صحابة النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقرؤُون ويتدبَّرون ويتأثَّرون، وكان أبو بكر - رضِي الله عنْه - رجُلاً أسيفًا رقيقَ القلب، إذا صلَّى بالنَّاس وقرأ كلام الله - تعالى - لا يتمالَكُ نفسَه من البكاء، ومرض عُمر - رضِي الله عنْه - من أثر تلاوة قوْل اللَّه تعالى: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7، 8].

وقال عثمان بن عفَّان - رضي الله عنْه -: "لو طهرتْ قُلوبُنا ما شبِعَت من كلام ربِّنا"، وقُتِل شهيدًا مظلومًا ودمُه على مصْحفه، وأخبار الصَّحابة في هذا كثيرة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمطلوب من القُرآن هو فهْم معانيه والعمل به، فإن لم تكُن هذه همَّة حافظه لم يكُن من أهل العلم والدين"، وصدق القائل:

فَشَمِّرْ وَلُذْ بِاللَّهِ وَاحْفَظْ كِتَابَهُ فَفِيهِ الهُدَى حَقًّا وَلِلخَيْرِ جَامِعُ هُوَ الذُّخْرُ لِلمَلْهُوفِ وَالكَنْزُ وَالرَّجَا وَمِنْهُ بِلا شَكٍّ تُنَالُ المَنَافِعُ بِهِ يَهْتَدِي مَنْ تَاهَ فِي مَعْمَعِ الهَوَى بِهِ يَتَسَلَّى مَنْ دَهَتْهُ الفَجَائِعُ

فنسأل الله - تعالى - أن يجعل القُرآن ربيعَ قلوبِنا، ونورَ صدورنا، وجلاء أحزانِنا، وذَهاب همومِنا وغمومنا، اللَّهُمَّ آمين.

وقد أجمع كم الذين اطلعوا على نصوص القرآن الكريم ودرسوها أنه بالإضافة أنه كتاب هداية وتشريع، فهو نصوص أدبية لها روح الأدب، وأسلوبه؛ فقد خاطبنا تعالى بأسلوب عربي له ما لأساليب العرب من سمات وخصائص؛ وقد تنوع أسلوب الخطاب القرآني بحسب الطرح الذي يبغيه هذا النص .
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30].

"بعد أن ساق الله أحوال المكذِّبين المتجبِّرين - عاد وثمود وفرعون وغيرهم - يوم الحشر والحِساب، وما يلاقونه من العنت والشدة والجزع، جاءت هذه الآيات تُخاطب بكل لطف ورقةٍ النفوسَ المؤمنة المطمئنة بذكر الله، التي سكنها اليقين فلم يخالجها شك أو ريب، وأَمِنت يوم الفزع الأكبر، فلا تشعر بخوف أو حزن أو اضطراب.

وهو حكاية لحال من اطمأن قلبه بذكر الله وطاعته، إثر حكاية حال مَن اطمأنَّ بالدنيا"؛ تفسير أبي السعود (9: 158).

يقول الراغب الأصفهاني - رحمه الله -: "الطمأنينة والاطمئنان: السكون بعد الانزعاج؛ قال: ﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ﴾ [الأنفال: 10]، ﴿ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]، ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾ [الفجر: 27]، وهي ألا تصير أمَّارةً بالسوء، وقال تعالى: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، تنبيهًا أن بمعرفته تعالى والإكثار من عبادته يكتسب اطمئنان النفس"؛ معجم مفردات ألفاظ القرآن: (ص: 317).

فهي إذًا لفتة جميلة، أن يأتي سبحانه بهذه اللفظة (المطمئنَّة) لا غيرها، المفيدة للسكون بعد الانزعاج في سياق الهلع والخشية والاضطراب، وسياق من خلع قلبه خوفًا من العذاب والحساب والعرض على الله.

والسؤال: متى يقال لها هذا الكلام؟

والجواب: قد يكون هذا عند الموت ومُعايَنة السكرات.

ومن جميل ما روي: عن سعيد بن جبير قال: قرأ رجل عند رسول الله عليه الصلاة والسلام: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ [الفجر: 27، 28]، فقال أبو بكر: ما أحسن هذا! فقال النبي: ((أما إن المَلَك سيقولها لك عند الموت))؛ تفسير ابن كثير (4: 511 - 512).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحًا قالوا: اخرجي حميدة أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي وأبشري برَوْح وريحان، ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تَخرُج، ثم يعرج بها إلى السماء فيُفتح لها فيقال: مَن هذا؟ فيقولون: فلان، فيقال: مرحبًا بالنفس الطيبة في الجسد الطيِّب، ادخُلي حميدة، وأبشِري برَوْحٍ وريحان، ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله))؛ الحديث رواه ابن ماجه.

قال الحسن البصري: "إن الله تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن، اطمأنَّت النفْس إلى الله تعالى، واطمأنَّ الله إليها"؛ القرطبي (22: 285).

ويُمكن أن يقال لها هذا الكلام عند البعث، وقد يقال عند دخول الجنة.

ومِن اللطائف المرويَّة: ما جاء عن سعيد بن جبير قال: "مات ابن عباس بالطائف، فجاء طير لم يُرَ على خلقته، فدخل نعشَه، ثم لم يُرَ خارجًا منه، فلما دُفن تُليَت هذه الآية على شفير القبر، لا يُدرى من تلاها: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 28 - 30]"؛ تفسير ابن كثير (4: 512).

وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر الهروي - المعروف بشكر - في كتاب "العجائب" بسنده عن قباث بن رزين أبي هاشم قال: أُسرت في بلاد الروم، فجمعنا الملك وعرض علينا دينه، على أن مَن امتنَعَ ضُربت عنقه، فارتدَّ ثلاثة، وجاء الرابع فامتنع، فضُربت عنُقُه، وأُلقي رأسه في نهر هناك، فرسَب في الماء، ثم طفا على وجه الماء، ونظر إلى أولئك الثلاثة فقال: يا فلان، ويا فلان، ويا فلان - يُناديهم بأسمائهم - قال الله تعالى في كتابه: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 28 - 30]، ثم غاص في الماء، قال: فكادت النصارى أن يُسلموا، ووقع سرير الملك، ورجع أولئك الثلاثة إلى الإسلام، قال: وجاء الفداء من عند الخليفة أبي جعفر المنصور فخلَّصنا"؛ تفسير ابن كثير (4: 512).

والمتأمِّل في الآيات يجد فيها مِن ضروب الإعجاز والإيجاز ما يُمكن إجماله بما يَلي:

• افتُتح الخطاب بالنداء بـ (يا)، وهو للنداء على البعيد لا للقريب، والقريب يستعمل له "أي"، فتقول: أي زيدُ، أو الهمزة "أ"، فتقول: أخالدُ.

والسؤال: لماذا جاء بالنداء للبعيد والسياق سياقُ قرب من الحضرة الإلهية والرضوان الرباني؟ والجواب: أنه جعل البُعد في المكان والمنزل بعدًا في المكانة والمنزلة، فهذه الثلَّة سيبلغون شأوًا عظيمًا، ويَسكنون رضًا لا مثيل له، وهو كثير في القرآن، وهذا مِن اللُّطف الإلهي مع هؤلاء القوم، جعلنا الله منهم.

• استعمل القرآن الربوبية مضيفًا إياها إلى الذات العلية في قوله: ﴿ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ﴾، فلِمَ لَم يستعمل لفظ الجلالة (الله) أو غيره من الأسماء والصفات؟!

والجواب: أن الربوبية تُستعمَل عادةً في سياق اللطف والرقة والإصلاح، وأما لفظة (الله) فتستعمل عادة في سياق الجلال والعظمة؛ فالمناسب هنا استعمال الربوبية؛ لِما في هذا الإكرام الذي سيلقاه هؤلاء من اللطف بهم ما لا يخفى على أحد.

• أنَّ مجيء لفظة (عبادي) بالإضافة إلى الذات الإلهية العليَّة فيه من الإكرام والتعظيم لحال هؤلاء القوم ما لا يناله غيرهم؛ فالإضافة فيها تشريف لسموِّهم في العلياء حتى استحقُّوا أن يُضافوا إلى الله الجليل.

لكن السؤال: ما معنى هذه الجملة ﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾؟

الجواب: ادخلي في جملة عبادي الصالحين، وانتظمي في سلكهم، فهي كقوله تعالى: ﴿ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 9].

فهم ليسوا وحدهم في هذه الجنان، وإنما مع إخوانهم على سُرُر مُتقابلين.

• عادة ما يأتي في القرآن الوعد بـ: جنة والجنة وجنات جنتان، ولم يعهد في القرآن الوصف بهذه الإضافة إلى الله إلا في هذا الموضع من القرآن الكريم في هذه السورة الكريمة ﴿ وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾، فهذا مِن ميزات السورة وخصائصها التي انفرَدت بها من دون السور الأخرى.

والحكمة من الإضافة هنا: زيادة تشريف لهم ولسكناهم، وبيان علو منزلتهم والكرامة التي حباهم بها الله - جلَّ شأنه - فما تتخيَّل وتتوقع من جنة يُضيفها الله إلى نفسه العليَّة؟!

فهم في كنف وضيافة وجوار العلي العظيم، في مقعَد صدق عند مليك مقتدر، فهنيئًا لهم هذه المنازل والمساكن.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ممَّ خُلق الخلق؟ قال: ((مِن الماء))، قلنا: الجنة ما بناؤها؟ قال: ((لَبِنة مِن ذهب، ولَبِنة مِن فضَّة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، مَن يدخلها ينعم ولا يَبْأَسُ، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم، و

لقرآن الكريم على ضوء القراءة التاريخانية
بقلم: الشيخ حسن بدران
تمهيد: نحن هنا إزاء معطى محدد ودقيق: كيف نتعامل منهجيا مع النص الديني؟ وتنشأ المجازفة في هذا النوع من البحث حين نقارب النص القرآني وفق آليات منهجية تتسم بالتوتر والنسبية ولا تقر أي لون من ألوان الثبات. وهذا النمط من الدراسات لا تستسيغه الأطر التقليدية السائدة في فهم النص إذ ترى في مجمل الطروحات الحداثية على اختلاف أنظارها نوعا من تعمد سوء الفهم القائم على أساس من القطيعة مع التراث، وتنم عن سعي حثيث نحو إيجاد سلطة بديلة ترتكز في مرجعيتها إلى فهم النص «من خارجه». ويتم ذلك عادة في حقل اللسانيات الذي يشهد نشاطا خصبا على مستوى الدراسات المعاصرة، وهو نشاط تأويلي قائم على الرمزية ومهجوس بطابع الانزياح الدلالي الذي من شأنه أن يحرر القارئ من إسار حرفية النص بما يجعله على المحك في علاقته بالنص الديني، ذلك النص الذي ينبغي أن يتسم دوما بدرجة ما من الثبات والوضوح. وبالإضافة إلى اللسانيات تعتمد المناهج الغربية الحديثة في دراستها للقرآن الكريم بشكل أساس على المنهج التاريخاني.

النزعة التاريخية (التاريخانية)

التاريخانية Historirisme غير التاريخية Historite وقد عرفّت بأنها مذهبة التاريخ ضمن بوتقة مفهومية ترى أن التاريخ محكوم بقوانين موضوعية تسير به مسبقاً نحو غاية ثاوية فيه تحملها طبقة أو أمة أو عرق.. والمقصود بالتاريخانية هنا التاريخ كمبدأ وحيد للتفسير، تفسير كل الظواهر المرتبطة بالإنسان (حتى الديانات) عن طريق شروطها التاريخية، فالتاريخ يكفي نفسه بنفسه، ولا علاقة له بأي مبدأ آخر للتفسير، لأن التاريخانية تنفي كلّ المبادئ الأخرى كالغيب والوحي والرسالات.. والتاريخانية ليست مجرّد منهج بل هي مذهب يرى بأنّ كلّ حقيقة - مهما كانت النتيجة - للشروط التاريخية. وبحسب هذا المذهب فإننا لا نستطيع الحكم على الأفكار أو الحوادث أو المفاهيم والمعتقدات والأديان ونظم الجماعات، إلا بنسبتها للوسط التاريخي الذي ظهرت فيه؛ إذ النظر إليها من ناحيتها الذاتية يوقعنا في التباسات اختزالية مقيتة... بينما نسبتها للوسط التاريخي ستضعها في إطار المعالجة والرؤية الموضوعية لخصائصها وتركيبها ومظهرها. لذا فلا مناص من ضرورة النسبة الحتمية للتاريخ؛ إذ سر كل شيء وروحه هو التاريخ، وسر الروح إنما يعرض نفسه في التاريخ حسب المسيحية؛ وعلى التاريخ في العلم والفن والدين والفلسفة والقانون حسب هيغل.

ويفضّل محمد أركون استخدام مصطلح التاريخية على التاريخانية، باعتبار أن التاريخانية هي القول بأن كل شيء يتطور مع التاريخ، وانه ينبغي دراسة الأحداث من خلال ارتباطها بالظروف التاريخية، بينما تهدف التاريخية تحديدا إلى إقصاء الاستخدام اللاهوتي والإيديولوجي للتاريخ، والإفضاء بالتالي إلى مقولة التفسير التاريخي للقرآن باعتبار أن مضامينه موافِقة لظروف معيشة وأفق محمدP ومستمعيه الأوائل، لكنها لم تعد تتوافق مع ظروف معيشة وأفق قارئ اليوم الحضاري.

أما نصر حامد أبو زيد، فيتفاوت المنهج التاريخي عنده ما بين تاريخية لا تعترف بصعيد خاص للظاهرة الدينية ولا تقرُّ به، وتتعامل معها كأية ظاهرة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية عادية، انطلاقًا من ذاتيتها المباشرة والزمكانية، وبين تاريخانية تأخذ بالاعتبار البعد التزامني، التطوري، للظاهرة الدينية، والأصعدة الخاصة للظاهرة (الميثولوجية، الميتافيزيقية، والجمالية)، باعتبار الدين ظاهرة ميتافيزيقية. وبعكس التاريخية (أو التاريخوية) التي تنطلق من فرضية وجود مسار موضوعي (وضعي) أو اتجاه عام، غائي، سببي، وعِلِّي، يقوم على قوانين تحكمه، ويمكن بناء الحكم على أساسها، فإن المنهج التاريخاني يرى أن الظاهرة الدينية تشتمل على «قيمة» متعالية، لا تخضع لقوانين المنطق الصوري ولمبادئ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع.

وإذا كانت النظرة التاريخوية تؤكِّد على بطلان المعقولية الدينية، دون التمييز ما بين الثيولوجي والميثولوجي، بين الدين والدينية، فإن النظرة التاريخانية تجد أن أشكال القدسي والرمزي محايِثة في أكثر أشكال الحداثة العقلانية. ومن نافل القول إن موضوعات الحياة وآداب المعاملة والحب والجنس والجمال والبيئة لها قيمة مقدسة.

إن تبنّي أركون للتاريخية بما هي ميزة تتكفل جانب إقصاء الاستخدام اللاهوتي والإيديولوجي للتاريخ، يكشف عن الوجه الإيديولوجي الذي يغلّف النزعة التاريخية وجانب القلق في ادعائها العلمية والمنهجية، كما أن تمسّك أبو زيد بالتاريخانية وعيا منه بخصوصية الظاهرة الدينية واشتمالها على قيمة ميتافيزيقية متعالية فوق منطقية لا ينبغي أن يفهم منه إلغاء خطوط التقاطع في امتهان المنزع التاريخاني العتيد.

التاريخانية والنص القرآني

ثمة محاولات لإخضاع القرآن للقراءة التاريخية، ففي جهة الاستشراق، نجد أن المناهج التي اتبعها المستشرقون في دراسة القرآن، وخلال حوالي المئة والخمسين عاماً، تدّعي في أكثرها أنها تاريخية أو تاريخانية ونقدية، وما توصلت لأكثر مما توصل إليه تيودور نولدكه[1] الذي يقع كتابه «تاريخ القرآن» في أولها (صدرت صيغته الأولى عام 1859). وأن ما انتهى إليه برتزل وجفري أولاً، ثم بلاشير وبارت ثانياً أن الطريقة التاريخانية النقدية غير مثمرة، لأنها تتعامل مع القرآن كما تعاملت مع النصوص المخطوطة، والتي لها مخطوطات عدة تختلف نصاً وقِدماً ودقة، وأنها إنما تريد باستعمال اختلافات النسخ الوصول إلى نص محقق أقرب إلى ما كتبه «المؤلف» أو تركه. فهناك بالنسبة إلى هذه المدرسة نص أول للقرآن غطته أو حرّفته أو حررته نصوص ثوان وألْسنة، وهي تطمح لإعادته للطبعة الأولى أو للمخطوطة الأولى. وقد حكم نولدكه على هذه المحاولة بالخطل منذ البداية عندما قال إن النص القرآني يعود إلى القرن السابع الميلادي، وليس فيه أَوْ لَهُ أصولٌ وفروع، بل هو نص واحد «على غرابة ترتيبه وتركيبه». وما منع ذلك كلاً من أوتو برتزل وآرثر جفري من جمع اختلافات القراءات ومخطوطات القرآن الأقدم، وطوال عقود، إلى أن تخليا عن المشروع «التحقيقي» و«النقدي» بعد الحرب الثانية.

وفي جهة الاستغراب: ثمة محاولات أيضا للخوض في هذا الاتجاه، نلحظ من دعاته وإن بنسب مختلفة ومتفاوتة: الطيب تيزيني في النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة. عابد الجابري في التراث والحداثة. هاشم صالح في القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني. علي حرب في نقد النص، ونقد الحقيقة. نصر حامد أبو زيد في الخطاب والتأويل، ومفهوم النص. أدونيس في الثابت والمتحول. محمد أحمد خلف الله في الفن القصصي في القرآن. محمد شحرور في الكتاب والقرآن قراءة معاصرة. صادق جلال العظم في نقد الفكر الديني. حسن حنفي في دراسات إسلامية، ومفهوم النص.

وقد اشتغل المفكر الجزائري محمد أركون منذ ثمانينيات القرن الماضي على وضع آليات قراءة النص الديني وفق منظور المنهج التاريخي موضع التنفيذ، وانخرط في فضاء فكري مختلف عن البيئة الثقافية الأصلية التي ينتمي إليها ويشتغل عليها، مما أتاح له وضعا أكثر موائمة وتحررا وانفلاتا من القيود والشروط التي تقتضيها طبيعة التفاعل مع المحيط الأصلي الذي يصب عليه فكره.

وقد دعا أركون إلى ممارسة النقد التاريخي على النص القرآني بقوله: عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن. واتسم طرحه بالإخلاص العميق للنزوع العلماني الليبرالي من خلال انخراطه الكلي بالأسس المنهجية الغربية، التاريخية والتفكيكية، دونما مراعاة للخصوصيات المحيطة، وكذلك من خلال متابعته للنشاط الاستشراقي الذي ينبغي بنظره التعامل معه بوصفه قناة الوصل النقية التي لا ينبغي التشكيك بجدوائيتها العلمية من جهة أخرى.

وشيئا من هذا، لم يتوفر لنصر حامد أبو زيد الذي وجد نفسه في ذات الطريق ولكن في ظرف مختلف كليا عن سابقه، فقد دعا أبو زيد للتحرر من سلطة النص والقراءة الحرفية، وإلى التأويل بمقتضى المنهج التاريخي في ضوء مبدأ التطور والتغير في الأزمنة والأحوال. وبسبب اعتناقه لهذه الفكرة في منتصف التسعينيات كان عليه أن يواجه حكما بالارتداد عن الدين، نتيجة تثويره الفكري ونمطيته المتوترة، فقد كان يصدر عن خلفية حداثية مهجوسة بمزاج إسلامي تثويري.

ونظرا لتشعب الموضوع سوف نعمد إلى الاستشهاد بآراء محمد أركون كونها الأكثر أداءا والأوفى تمثيلا للخطاب العلماني الغربي على مستوى الدراسات القرآنية، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تمثله هذه الآراء من مسار عام على مستوى تطبيقات النزعة التاريخية المنهجية دون الوقوف عند شخص قائلها.

تاريخية النص القرآني

يتعامل الخطاب العلماني مع النص القرآني بوصفه «نصا تاريخيا»، وهذا يعني:

1) إخضاع النص القرآني للقراءة النقدية عن طريق النقد التاريخي المقارن، والتحليل الألسني التفكيكي، ونحوها من مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية..

يفترِض الخطاب العلماني وجود مشكلة تعترض سبيل فهمنا للنص القرآني، وتتحدد هذه المشكلة في وجود فَرْق بين النص المقروء في زمن نزوله على النبيP، وبين النص المكتوب بين دفتي المصحف، ويصرح أركون بأن المقدس الذي نعيش عليه أو معه اليوم لا علاقة له بالمقدس الذي كان للعرب في الكعبة قبل الإسلام، ولا حتى بالمقدس الذي كان سائدا أيام النبي.

إن التفكيك بين القرآن والظاهرة القرآنية، الشريعة والفقه، الدين وفهم الدين، المعنى والمغزى.. على أساس التمييز بين ما هو إيماني وما هو تاريخي من شأنه أن يمهد السبيل لإرساء الظاهرة الدينية على قاعدة التاريخ. وكما يقول أركون: أما التمييز بين القرآن الكريم والظاهرة القرآنية فأقصد به الفرق بين تغذية الروح الإسلامية بكلام الله تعالى، ودراسة النصوص القرآنية كما ندرس الظاهرة الفيزيائية أو البيولوجية أو الاجتماعية أو الأدبية، وبهذا يمكن لنا - بحسب الزعم - تجاوز العراقيل التي تحول دون فهمنا لآيات القرآن في الوقت المعاصر.

وتتمثل العرقلة في أن القرآن يقوم - عن طريق العمليات الأسلوبية والبلاغية - بخلع التعالي على أحداث تاريخية واقعية حصلت في زمن النبـيP، ولكنها حوّرت من قبل الخطاب القرآني لكي تتخذ دلالة كونية تتجاوز خصوصيتها المحلية، وتصبح وكأنه لا علاقة لها بحدث محدد وقع في التاريخ المحسوس.. فالقرآن يمحو المعالم المحسوسة والإشارات التاريخية الدقيقة عن طريق أسلوب التسامي والتصعيد، أي تصعيد هذه الأحداث بالذات، وإسباغ الروحانية الدينية والكونية على مفردات ذات مضمون اجتماعي وسياسي وقانوني في الأصل. وهكذا ينجح القرآن في محو كل التفاصيل والدقائق التاريخية للحدث، ويصبح خطابا كونيا موجها للبشر في كل زمان ومكان، وهكذا يفقد صفته التاريخية فيبدو وكأنه خارج التاريخ أو يعلو عليه.

هذه المحاولات من القرآن هي محاولات أيديولوجية، أي أن القرآن يفعل ذلك ويتعالى بالتاريخ لمقاصد وأغراض دنيوية. فقداسة القرآن هنا ليست أصلية وإنما دخيلة، وليست جوهرية وإنما سطحية، وليست حقيقية وإنما مصطنعة حصلت لأسباب سياسية وثقافية وتلاعبات فكرية، وأن هذه التلاعبات قد كشفها النقد وتبين زيفها فيما يخص التوراة والإنجيل، أما بالنسبة للقرآن فإن هذا لم يحصل بعد فلا يزال كتابا مقدسا يحتوي على مساحة كبيرة من اللامفكر فيه.

ومن هنا يطمح الخطاب العلماني - كما يدعي - إلى نزع هالة القداسة عن الوحي بتعرية آليات الأسطرة والتعالي والتقديس التي يمارسها الخطاب القرآني، فننظر إلى القرآن ليس على أنه كلام آت من فوق، وإنما على أنه حدث واقعي تماما كوقائع الفيزياء والبيولوجيا، أو أن ندرسه بوصفه نصا فقط ونصا لغويا دون أي اعتبار لبعده الإلهي لأن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق على النص يعكّر كون النص منتجا ثقافيا، ويعكر الفهم العلمي له. ولأن النصوص الدينية ليست مفارقة لبنية الثقافة التي تشكلت فيها، والمصدر الإلهي لها لا يلغي كونها نصوصا لغوية مرتبطة بزمان ومكان، ولا يهمنا هذا المصدر الإلهي، وكل حديث فيه يجرنا إلى دائرة الخرافة والأسطورة.

وعليه، فالفهم الصحيح للقرآن يتوقف على إزاحة هذا الغطاء الإيديولوجي المصطنع عن وجه النص القرآني، وقراءته على أنه نصّ تاريخي أدبي تطبق عليه المناهج الحديثة المختلفة في دراسة النصوص الأدبية والتاريخية، كمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومنهج التاريخ المقارن للأديان. ذلك أن النظر إلى القرآن نظرة نقدية تاريخية إنتربولوجية من شأنها أن تزعزع جميع الأبنية التقديسية والتنزيهية التي بناها العقل اللاهوتي التقليدي، وبالتالي تعمل على إفراغ الدين من محتواه الإيديولوجي وتحديد مساحته في إطار علماني ممنهج.

وفي سبيل تحقيق الغايات المنشودة، يدعو الخطاب العلماني إلى التوسل بالدراسة التفكيكية للنصوص المقدسة، والى قراءتها على أنها نصوص تاريخية منفصلة عن مصدرها، أو ما يسمى في البنيوية بموت المؤلف. كما يتبنى هذا الخطاب في دراسته للقرآن الكريم الهيرمنيوطيقا التي تقوم في الدراسات الأدبية على التفرقة بين المعنى والمغزى، حيث إن المغزى قد يختلف لكن معناه ثابت، والمغزى يقوم على العلاقة بين النص والواقع، والواقع متجدد ومتغير. وهذا اللفظ يعني تأويل النصوص الدينية بأسلوب خيالي وبطريقة رمزية تبتعد عن المعنى الحرفي المباشر، وتحاول كشف المعاني الخفية وراء النصوص المقدسة. وإن التفريق بين معنى ومغزى النصوص، المعنى الذي يمثل الدلالة التاريخية للنصوص في سياق تكونها، والمغزى الذي هو محصلة قراءة عصر غير عصر النـزول، هذا التفريق المزعوم يقتضي الحكم على كتاب الله باعتباره (نصوصا) تاريخية، ويوضح ذلك أن مصطلح تاريخية النصوص المقدسة متأثر إلى حد كبير بإسقاط النظرية النسبية في الدراسات الأدبية والتاريخية المعاصرة على النص القرآني.

2) إخضاع النص القرآني للقراءة كنصّ بشري، أو كنصّ إلهي محكوم بسقف التاريخ والثقافة.

تدعو التاريخية إلى تفريغ جعبة النص الديني من مفاهيم العالمية والاطلاقية ونزع صفة الخلود والصلاحية لكل زمان ومكان عنه، وذلك بغية الالتفاف على حقيقة كونية القرآن من خلال إحالته إلى التاريخ والنظر إليه باعتباره نصا تاريخيا محكوما بشروط تاريخية وظرفية يزول بزوالها، وتعمل على ربط القرآن بسياقات تنـزله، وتفسير معانيه تفسيرا تداوليا قاصرا من خلال الخوض في مسألة أسباب النـزول والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني وغيرها من القضايا.. فالغاية من أرخنة الخطاب القرآني بحسب تعبير أركون هي العودة بالقرآن بشكل علمي إلى قاعدته البيئوية والعرقية ـ اللغوية والاجتماعية والسياسية ـ الخاصة بحياة القبائل في مكة والمدينة في بداية القرن السابع الميلادي، وهذا الجهد يجد مشروعيته في القول بأن القرآن الكريم خطاب تاريخي يتغير فهمه ومعناه مع تغير الزمان والمكان، وبناء على ذلك فما جاء فيه من عقائد وشرائع تتغير وتتبدل مع تبدل الزمان والمكان، وهذا التبدل لا يقصد منه هنا المرونة في الاجتهاد الفقهي المواكب لمتغيرات الواقع عبر الزمان والمكان بمقدار ما يعنى به عدم صلاحية الحكم الشرعي لكل زمان ومكان، فهو وقتي، بمعنى أنه جاء لوقت قد مضى، ولم يعد يتلاءم مع الوضع الحالي، وبالتالي، يجب أن تتغير تفسيراته بما يناسب الوضع المستجد! وثمرة هذا الجهد تظهر فقط في استنباش (وليس استحضار) اللحظة التاريخية الأولى التي تتكشف عن المعنى المدفون تحت أنقاض المؤامرة الإيديولوجية القابعة في مخيال الباحث العلماني، ذلك أن قراءة النص القرآني كنصّ محكوم بسقف التاريخ والثقافة من شأنها أن تكشف لنا عن الخلفية السياسية والثقافية للتلاعبات الفكرية، وهذا النقد سوف يساهم في تعرية النص القرآني من زيف القداسة تماما كما حصل بشأن التوراة والإنجيل.

إلا أن الذي حصل بالفعل عند تصفح بنيات التطبيق المنهجي التاريخاني التي ساهم بانجازها العلمانيون العرب، وبالتحديد أمثال محمد أركون، هو وقوعهم في فخ التقليد والمحاكاة التطبيقية الهزيلة لما أحدثته الدراسات الاستشراقية التاريخانية على مستوى التوراة والإنجيل، وسوف نحاول الوقوف فيما يلي على عملية الإسقاط الحرفي والتي تنم عن تجاهل مطبق للخصوصية القرآنية والتراثية حتى ليخال القارئ لهذا الحقل أنه بإزاء انبعاث استشراقي مندثر بامتياز.

وسوف نسوق هنا لبعض المداليل المباشرة التي أفضت إليها الممارسة المنهجية التاريخانية والتي تفصح عن مستوى الخطاب العلماني في سلوكه البحثي للنص القرآني:

الأسطرة ومشابهة التوراة والإنجيل: يربط أركون بين القرآن والتوراة بوصفه الخطاب الأسطوري فيقول: إن الحكايات التوراتية والخطاب القرآني هما نموذجان رائعان من نماذج التعبير الأسطوري. ويعقد صلة بين القرآن والأناجيل، فيقول: إن القرآن كالأناجيل ليس إلا مجازات تتكلم عن الوضع البشري، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكوِّن قانونا واضحا. فالقرآن الكريم برأيه يشكل نصا أسطوريا.

تشريعية القرآن الكريم: إن القرآن – كما الأناجيل – ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري لا يمكن أن تكون قانونا واضحا. وإن المعطيات الخارقة للطبيعة والحكايات الأسطورية القرآنية سوف تُتلقى بصفتها تعابير أدبية، أي تعابير مُحوَّرة عن مطامح ورؤى، وعواطف حقيقية، يمكن فقط للتحليل التاريخي السيسيولوجي (الاجتماعي) والبسيكولوجي (النفسي) اللغوي – أن يعيها ويكشفها. وفي هذا يشير أركون بإشارة واضحة إلى نفي كون القرآن الكريم مصدرا للتشريع، فالقرآن في نظره مجرد مجازات أدبية وحكايات أسطورية ليس لها صلة بالواقع .

القصص القرآني: لم يذهب أركون بعيدا عن الموقف الاستشراقي من القصص القرآني في زعمهم نقلها عن التوراة والإنجيل، ويردد مزاعم من سبقه من المستشرقين، فيقول: ننتقل الآن إلى النقطة الثالثة من موضوعنا: وهي التداخلية النصانية بين القرآن والنصوص الأخرى التي سبقته، وهنا نريد أن نقوم بقراءة تاريخية أفقية للخطاب القرآني، وذلك ضمن منظور المدة الطويلة جدا، بحسب تعبير المصطلح الشهير للمؤرخ الفرنسي فيرنان بروديل، وهذه المدة الطويلة جدا سوف تشمل ليس فقط التوراة والإنجيل، وهما المجموعتان النصيتان الكبيرتان اللتان تتمتعان بحضور كثيف في القرآن، أو في الخطاب القرآني، وإنما ينبغي أن تشمل كذلك الذاكرات الجماعية الدينية الثقافية للشرق الأوسط القديم، وبهذا الصدد يمكن القول إن سورة الكهف تشكل مثلا ساطعا على ظاهرة التداخلية النصانية الواسعة الموجودة أو الشغالة في الخطاب القرآني، فهناك ثلاث قصص هي: أهل الكهف، وأسطورة غلغاميش (يقصد به: الخضر) ورواية الإسكندر الأكبر (ويقصد: به ذي القرنين) وجميعها تحيلنا إلى المخيال الثقافي المشترك والأقدم لمنطقة الشرق الأوسط القديم. وفي سبيل قيام دراسة نقدية تمحص تلك الأخبار، يقول: ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس.

الرمزية: تبنى أركون منطق التفسيرات الرمزية الباطنية التي هي امتداد لمذهب الرمزية لدى فرويد، وماركس، ونيتشه، والتي ترى أن الرمز حقيقة زائفة لا يجب الوثوق به بل يجب إزالتها وصولا إلى المعنى المختبئ وراءها. وهو كثيرا ما يكرر مصطلح الرمزية في فهم النص، أو ما يسميه بالرمزية السيميائية (الدلالية) في فهم وتفسير النص. ويمجد أركون بالتفسيرات الباطنية فيقول: نجد بهذا الصدد أن القراءات الرمزية للصوفيين، والقراءات المجازية للغنوصيين الباطنيين هي أكثر خصوبة بالمعلومات والدروس تجسيد أو تحيين العجيب المدهش المحتمل وجوده في القرآن.

جمع القرآن الكريم: بخصوص الموقف من جمع القرآن الكريم يذكر أركون الروايات الإسلامية حول كتابة القرآن الكريم في العهد النبوي وجمعه في عهد أبي بكر وعثمان، ثم يعقب بعدم تسليمه بهذه الروايات الإسلامية ويثني على الكتابات الاستشراقية الناقدة لصحة جمع القرآن أمثال كتابات المستشرق الألماني نولدكه، في كتابه تاريخ القرآن، وشوالي، وبيرغستراسير في كتابيهما جمع القرآن، وتاريخ النص القرآني، والمستشرق الألماني ربيجيس بلاشير.

الغيب في القرآن الكريم: يعلق أركون على ما ورد في سورة التوبة من الأمر بجهاد المشركين وما أعدَّه الله من النعيم في الجنة للمجاهدين في سبيل الله بقوله: هكذا نجد أن كل الخطاب القرآني يوضع داخل التاريخية الأكثر اعتيادية ويومية، ولكن هذه التاريخية تحوَّر وتُحوَّل إلى نوع من تاريخ الخلاص الأخروي. ويقول: ولكن ظاهرة أن الخطاب القرآني قد استطاع بهذه الطريقة (ولا يزال) خلع القدسية والتعالي على التاريخ البشري الأكثر مادية ودنيوية والأكثر عادية وشيوعا ينبغي ألا تنسينا تلك الآتية والاعتباطية الجذرية للأحداث.. ليس الوجه الديني للتوبة إلا عبارة عن مجموع الصور أو التصورات التي تشكل مخيالا كونيا: أقصد الأنهار التي تجري، والمساكن الطيبة الموجودة في جنات، تستحيل في الزمان التجريـبي المحسوس الذي نعيشه.

خاتمة:

إن سبر أغوار مفهوم «تاريخية النص» في الفكر الغربي، والذي يرجع تحديدا إلى ظهور الماركسية الجدلية من جهة، وظهور مفاهيم علم اجتماع المعرفة من جهة ثانية، يقود إلى أن الوجود الاجتماعي للناس هو الذي يحدد وعيهم أو علاقة الفكر بالواقع. وهذا يعني أن المجتمع هو أساس كل الظواهر الدينية والمعرفة، وأن المجتمع يتأثر ويؤثر في معطيات تلك المعرفة، وإذا اختزل الدين إلى مجرد انبثاق اجتماعي وفق هذه المنهجية فإن الحقائق الغيبية لن تزيد عن كونها مجرد أساطير لا تدخل في نطاق الحقائق المشاهدة.

فقد حملت النزعة التاريخية في طياتها بذور الفشل بفعل انكفائها على نفسها، واتخاذها طابعا حتميا أدى بها إلى الاصطدام بالعمق الإيماني الميتافيزيقي، وإن حدة الموضوع وخطورته كان واحدا من الأسباب التي دعت الباحثين في الدراسات القرآنية في الغرب في الثلاثين سنة الأخيرة إلى التنكرُّ لأحادية المنهج التاريخاني ومذهبه الفلسفي، فعمدوا إلى تلافي الخلل من خلال دمج منهجي- تكاملي بينه وبين المنهج الظواهري، بينما فضّل آخرون العزوف كليا عن المناهج التاريخانية النقدية إلى قراءات مختلفة، كالقراءة المؤامراتية، والقراءة البنيوية، والقراءة التفكيكية، والقراءة الأنثروبولوجية،
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف