الفصل (7)
رواية تمرد
بقلم د / أميمة منير جادو
حتى عدنا .كنا في أسعد حالاتنا
حتى افترقنا في محطة المترو ..كنا في أروع حالاتنا .
قطعنا المسافة ما بين المقهى والشارع في غبش الليل ، نسير في ضي قناديل الضوء الشارد المنبعث من أعمدة الكهرباء البعيدة .
الأرض ليست ممهدة ، تناثرت فوقها زلطات كثيرة بقايا إشغالات مباني مستقبلية .
كنت تعثرت قبلها مرات ، راح يضيء كشاف "موبايله " المحمول بين الحين والآخر ، مسلطا ضوءه على الأرض أمامي ، فإذا ما لاحت زلطة ضربها ببوز حذائه وطيرها بعيدا ..
وهكذا ظل يفعل مرة تلو أخرى منشغلا بزلطات الطريق وصمت أشواقه عن الحديث معي .
كنا سعيدين لأننا معا ..
وكنت حزينة لأنني سأفارقه بعد حين ، تمنيت لو قضيت الليلة معه .تمنيت لو قضيناها معا.
في لقاء الأمس (أول لقاء لنا) عند البحر سألته : وقتما تريد تمشي أخبرني بلا خجل ، لا أريد أن أعطلك عن شيء ، وبابتسامة عذبة صافية ملؤها حنين داخلني منه وبرقة صوت رد: لا ، ليس ورائي شيء، أنا أنجزت كل المهام التي جئت لأجلها ، أهم ما كنت أريده فعلته ، ومستعد أمكث معك ثلاثة أيام متواصلة حتى الصباح .
سألني سؤال غريب لم أفهمه : هو في حد عندك بالشقة ؟
هززت رأسي وقطبت جبيني باستفهام واستنكار لمقصد سؤاله وأجبت بسرعة دون أن أسأله عما يقصده : نعم ، أولادي .ثم سألته بجدية : لم تسأل ؟
رد : لا أبدا ، مجرد سؤال عادي يعني ، كنت ... ... وغمغم بعبارة لم أتبينها تماما ، ربما قال : كنت بافكر نتغدى معا ، أو ما شابه ، ثقتي به حالت دون شك في أية نوايا آثمة ، لا أعتقد أنه من هذا النوع من الرجال ، ولا أعتقد أنه يظن في شيئا من ذلك ، كنت أربأ به وبنفسي عن مجرد التلميح لأي شيء خارج الأعراف .
عدى الموقف بسرعة وبارتباك قال : تحبي نتغدا هنا ، إيه رأيك ؟
شكرته وسألته : هل جوعان ؟
- لا أقول أنت لو تحبي .
- لا لا أبدا ، أشكرك .
كان في الطاولة بجوارنا مجموعة تتناول طعاما ربما وصلتنا رائحته فاشتهى أن يأكل،ثم نظر لشاشة العرض الكبيرة المعلقة هناك بعيدا عنا بالنادي المطل على البحر وقال مقترحا : ما رأيك غدا ستكون مباراة مهمة ، نأتي هنا ، ونشاهدها معا .سأجلس هناك ، وستجلسين هنا على هذه الطاولة وتراقبيننا من بعيد .
لم أفهم ما الحكمة في ذلك غير أنه أحب وجودي معه في كل حالاته أو تفاؤل بوجهى البشوش كما كنت أسمع دائما منذ طفولتي : يا وش الخير والسعد.
علق مؤكدا ما ذهب إليه ظني : أكيد سنكسب لو كنت معي .
ابتسمت وتمنيت وفكرت بسرعة : أنا لا أحب الكرة اطلاقا ولا صوت المعلق ولا المباريات ، ولا عمري شاهدت مباراة رغمنشأتي في بيت يشجع الأهلي ، فشجعت الأهلي بالوراثة دونما اهتمام حقيقي .
رد : وهذا شيء آخر نتوافق فيه معا، بيننا المشترك كثير جدا ، أتذكرين حين كنت أكتب لك شيئا وأجدك تتحدثين فيه في نفس الثانية تقريبا قبلما تصلك الرسالة ، أو العكس ؟ هل لا حظت ذلك ؟ هذا توافق...هههههه
-هذه ظاهرة التخاطر "التليباثي" وهو التواصل عن بعد في نفس الموضوع في نفس اللحظة ، فعلا قلت لي عن أشياء كثيرة كنا نفكربها في ذات الوقت ، سبحان الله ،هذه ظاهرة صحية في العلاقات الانسانية .
-إذن أنت أهلاوي مثلي ، ههههه.
أذكر أن كثيرا من تجمعات أمام التلفاز شهدها بيتنا الكبير ، كان جمهورها بابا وأصحابه ، كنت أضيق بها وبهم وبالوقت الذي يقضونه امام الشاشة لمتابعة المبارة ويصفقون ويتعصبون ويعلقون ، كنت ومازلت اعدها نوعا من التفاهة ، والفرا ، وأن هناك بالحياة ما هو أكثر أهمية بكثير,هو فكر يخصني لكني لا أحجر على أحد ممن يشاهدون آية مباراة ، لهم دينهم ولي ديني.
ليس عادل الرجل الأول ولا الأخير الذي يهتم بالشأن الكروي ، بل واحد من جماهير عريضة على مستوى العالم ،حتما هم الصح وأنا الخطأ.
حتما هم القاعدة وأنا شذوذها ، لم يعرف عني هذا ولم أشأ أن أزعجه برأي مخالف ، فاحتفظت به لنفسي ، ولم تأت مناسبة للحديث بيننا في الشأن الكروي ، سألته : أهي مباراة مهمة ؟
رد : نعم ... المنتخب سيلعب أمام فريق مهم ..
- قلت بوداعة : ربنا يوفق.
عاد يكرر : هيه ما رأيك ..سآتي أشاهد المباراة هنا ، سأجلس هناك ، وأشار جهة شاشة العرض البعيدة ، وأنت تجلسين هنا كما أنت "وطرق على المنضدة الفاصلة بيننا بيديه بهدوء" وراح يؤكد ثالثة : تكونين هنا ، معي وأنا أشاهد المباراة ، ونظر في وجهي متأملا بابتسامة وقور ، أحسست أنه يريدني معه في كل أوقاته ، لا يفوته شيء مني ، في كل سويعاته ، متابعاته ، فرحته ، أحزانه ، لو لا قدر الله وخسر المنتخب ، وربما يستمد مني تأييدا ما ، تحميسا ما ، ربما يود أن يحسب هذا الوقت من بين الوقت الذي سنقضيه سويا ، لكنه لن يكون عقله معي سيكون مشغولا بمتابعة المباراة .
فكرت أن النادي سوف يزدحم حتما بجمهور مشاهدي المباراة الدولية ، وأنا لست من المتحمسين إطلاقا لها ، رغم أني أتمنى أن أكون معه في كل الأوقات ، فسألته وأنا أشاور عقلي بتردد : متى ستنتهي المباراة ؟ فقال:ربما الحادية عشرة مساء .
ابتسمت : في هذا البرد ؟ أجلس لمشاهدة مباراة ، وأنت هناك وأنا هنا ؟ وجمهور محتمل ،والحادية عشرة ، لا.. لا ..صعب ، أتمنى لك وقتا سعيدا .
أومأ بابتسامة وقال : إذن هيا .
كان قد استقبل هاتفا من أخيه يطمئن عليه متى سيعود كأنه طفل صغير ، فاستشعرته قلقا مضطربا متوترا ، ويؤكد انه سيكون عندهم في خلال ساعة على الأكثر .
تضايقت ، لم تكن الساعة جاوزت الثامنة مساء ، كنا التقينا في الخامسة تقريبا ، السويعات جرت سريعة وأفلتت من اعتقالنا لها ، تمنيت لو قضيت معه وقتا أطول ، لكني لم أبين وامتثلت لرغبته دونما تردد .
كانت وجهته عن طريق المترو ، عكس وجهتي ، لكن في هذا الاتجاه يوجد مشوار لي مؤجل من الأسبوع الماضي ، والوقت مبكرا ، أحببت ان أقضي معه بعض وقت محتمل .
اتصلت بصاحب المكتبة ، وطلبت منه المجلات الأسبوعية التي اعتاد تجهيزها وتوصيلها لي وأخبرني أنه تحت الأمر وفي الخدمة ، وأنه يمكنه أن يأتي لي بها كما اعتاد ذلك قبلا ، لكن الرجل فوجئ بأني سأذهب له بنفسي ، فعاد يسألني : سيادتك تحضرين بنفسك لنا ؟ هذا شرف كبير ..فقلت : لي مشوار جواركم فقلت أمر عليكم وأردت أن استوثق من وجودكم بالمكتبة ، وأنها مفتوحة .
حفظت ماء وجهي بهذه الإجابة الكاذبة المرتجلة كارتجال المراهقات أمام الرجل صاحب المكتبة ، فلا مشوار بجوارهم ، ولا أنا أركب المترو ، لكن ركوبه له شجعني أن أركبه معه ، كأي طفلة تتشبث بمن تحب ، فطالما نحن معا ، فكل شيء ممكن وكل شيء يبدو لطيفا وممتعا أكيد.
أخبرته بوجهتي معه ، وركبنا ، سمحت الأقدار بمقعدين شاغرين على أريكة واحدة ، جلس لجواري ، ساد الصمت بيننا ، عرفت انه ليس من هواة التحدث بالمواصلات فصوته مرتفع والناس ستسمعه.وكنت مثله .
رغم أن صوته منذ جلسنا كان خفيضا ، لم ألحظ ارتفاعه ربما حرص على خفضه لأجلي ، كما حرص على تخليصه من لكنته المحلية فبان قاهريا لحد بعيد مما أدهشني .
حقا كان مدهشا في كل شيء منذ حديثنا بالنادي وأناقته وجنتلته حين سحب لي مقعدي لأجلس عليه كأي "جنتل مان" ، فلم يكن بدويا متخلفا بل عصريا متحضرا ، وراق لي هذا كثيرا ، لفتاته البسيطة مما تحبها المرأة واهتمامه بالتفاصيل البسيطة مما يعجبني في الرجل ، تدل على رقته وذكائه وتزيده جاذبية .
سألت نفسي أين تعلم كل هذا وتذكرت أنه أخبرني أنه عمل في بداية حياته بالسياحة قبلما يعمل محاسبا بالخليج منذ سنوات .
أفكر به وهو لجواري صامتا بيني وبينه مسافة الهمس ، قد يتحرك المترو من محطة لأخرى فتلصق كتفه بكتفي لكني كنت حريصة على مسافة السنتيمتر الواحد الذي لا تتيح هذا التلاصق ، لا لعدم رغبتي لكنه حياء اعتدته ، وحرص على وضعي ومكانتي .
لو تركت ذاتي على سجيتها لاشتعل حرمانها بالشوق دونما تلامس، ولكفاها الخيال أن يؤجج رغباتها، لكني أعتدت ترويضها وتهذيبها ، فانصاعت كثيرا لي ، في عز أوقات الاشتعال بالظمأ القاتل .
كان يكفيني أنه لجواري ، وأني أفتقده رغم الجوار ، شعور لم أمارسه من زمن طويل ، أخذته من جواري سيدة خريفية مثلي ركبت من المحطة التالية بان عليها الإجهاد ، فأجلسها مكانه كأي رجل شهم وجدع ، فرحت به في نفسي ، صار لمواجهتي صامتا ، يختلس كلانا النظر للآخر بين الحين الحين دونما تكلف على استحياء ، ونتبادل ابتسامات ودودة مريحة .
تقاسمنا حزنا شفيفا غامضا ، وبعض ارتباك مكابر وحيرة ، كنت أحسب المحطات التي نمر بها ، كل محطة تعني قرب النهاية ، وتمنيت أمنيات خبيثة ، تمنيت لو انقطعت الكهرباء وتوقف المترو .
لكن المترو ينهب القضبان نهبا كعادته ، يمضي سريعا محطة ثر أخرى ، يقصر الزمن الباقي لنا ، حتما ستأتي المحطة الأخيرة وحتما سنفترق ، عشت أحزان الفراق قبلما نفترق .
سويعات قليلة هي التي قضيناها هناك داخل الصوبة الزجاجية لذلك النادي المطل على البحر الأعظم.
سويعات ولا أحلى ذكرتني بفيلم العمر لحظة ، شعرت فيها كيف يختصر العمر للحظة .
تذكرت بيت الشعر القائل :
"ويهون العمر إلا ساعة ..... وتهون الأرض إلا موضعا"
كانت هي السويعات الأولى ، واللقاء الأول بيننا وجها لوجه ، لكن سبقته أحاديث كثيرة في غرفتنا الألكترونية الخاصة جدا ، حتى ليلة البوح ليلة ما قبل اللقاء ، البوح بعذاباتي ، أصر أن يعرف حقيقة وضعي الاجتماعي ، ولم أكن أهتم بهذا ، ولا أحببت أن يتعامل معي من خلاله بل من خلال حالة إنسانية راقية بعيدا عن الأوضاع والمسميات طالما في إطار القيم الجميلة المشروعة ، طالما لا تجاوز.
لكنه ليلتها أصر : أحب أن أعرف اين حدودي ؟وكيف أتعامل معك ؟ هل من حقي أبوح لك بما أريد ؟ أم ليس من حقي ويجب أن أصمت ، واحتفظ بمشاعري لنفسي ؟
يا الله ...
اللعنة على المسميات ..اللعنة على مشانق الأوضاع الاجتماعية الخانقة..ما توقعت أبدا أن يأت علي يوم وأوضع بهذا الموقف ، ويقتلني هذا الصراع .
كنت أخاف حد الرعب لو بحت له بحقيقتي المرة فابتعد ،وليتها الحقيقة .
تمنيت لو ظل قريبا ..
لم تكن هي المرة الأولى التي لا حقني فيها بالسؤال ، فقد سأله قبلا أكثر من مرة دونما مباشرة ، وكنت لا أهتم ، ولا أحبذ الحديث في خصوصية لا تهمني ولا تهم غيري .
وللحقيقة ألف وجه ..
الحقيقة ليست هي المثبوتة في الأوراق الرسمية .
الحقيقة هي الأفعال والسلوكيات التي نمارسها والمشاعر التي نشعر بها .
لكن كيف أفهمه إياها ؟
كان من الممكن أن أكذب أو أدع أي شيء وأخبره بأي شيء واكتفي بهذا القدر ، ولنتتابع على عام الفيس بوك دون الخاص ، وقد قررت هذا بالفعل أكثر من مرة ، وصمتت دونما إجابة بل ابتعدت أياما وكان يعود الحديث عفويا عاديا أخويا لا شبهة فيه .
كان من الممكن أن أتوقف هاهنا ولا داع حتى لأن أراه .
لكنها الأقدار ..
حقا إنها حكمة الأقدار مرسومة بعناية .
لو كنت بحالتي الطبيعية في قوتي ما كنت لقيته ..
لكنها الأقدار وحدها وضعتني تلك الليلة، ليلة ما قبل اللقاء، في حالة قصوى من الضعف الإنساني ، عبر هاتف أتاني من أحد أسباب تعاستي وشقائي بالحياة ، تأزمت الأمور فيما بيني وبين أباهم ، وفيما بينه وبين أولادي ، تأزمت لأقصى حد عبر حوار جارح قاس ، ليس بجديد علينا لكنه قتلني وقتلهم ، كأنه القشة التي قصمت ظهر البعير ، ووجدتني أختنق بقوة كأن ثعبانا يلتف حل رقبتي ويبثني سمومه .
ووجدتني مختنقة بما يفوق احتمالي ، لا ملاذ لي ولا ملجأ بعد الله في هذه اللحظة الحرجة ، وفي هذه العتبات الفارقة إلا هو ..عادل .. هو تحديدا ..ولا احد غيره ...
لا أدري لماذا ؟؟
أعرف الكثير لكنها معرفة العموم ، لا خصوصية لأحدهم عندي ، لا راحة كاملة ، لا ثقة مطلقة ، وحده عادل له عندي مشاعر مستثناة ، لم أكن وقفت عليها تماما إلا في هذه الليلة ، كأن تلك الليلة القاسية الخانقة هي اختبار قدري لمشاعري وأحاسيسي .
كان ضيقي واختناقي على أشده ، أود أخرج الشارع أصرخ ، أود ألقي بنفسي في هذا النهر ، القي بذاتي من الشرفة ، لهذا الحد خرجت عن كل عقل واتزان من فرط تجريحه وإهاناته وراحت سنين العمر كلها تجري بسرعة أمام عيني : لماذا احتملت ؟ ولماذا ضحيت؟ ولماذا لم أحسم أمري منذ زمن ؟ لماذا رضيت بهذه المذلة وذاك الهوان ؟ بكيت بكيت ، اختنقت ، اختنقت، ضعفت
ووجدتني أهاتفه بعد منتصف الليل بكل هذه الشحنة وهذا الاضطراب ، اعتذرت له وأخبرته دون مقدمات أنه كان لابد أن أهاتفه لاستعادة توازني ، لفض بعض توتري ، وأني في أسوأ حالاتي ، بل في أشد احتياجي إليه .
كن شعوري بالحاجة إليه كبيرا وعظيما ، وبما لم استطع التواصل مع غيره .
كنت قطعت وصلي بكل من حولي ولا أطيق أحدا غيره ، فاستعنت بالله واتصلت به .
كنت متوترة ، لا متوازنة ، مختنقة ،بحاجة شديدة كي أبكي في صدر إنسان خاص جدا ، استثنائي جدا ، أثق به وأرتاح إليه كثيرا .
هاتفته وأنا أتشوق ساعات الصباح كي ألقاه ، وطاردتني أغنية " ع اللي جرى .. ع اللي جرى ..بس أما تجيني وأنا أحكيلك ع اللي جرى ، وأمسح دموعي ف منديلك ع اللي جرى .."
ليلتها أخبرته : لا داعي لأن تعرف الكثير عني ، دعني أحدثك بشكل إنساني . عاد يؤكد ما تجاهلته قبلا : ستفرق معي كثيرا لو عرفت وضعك .
اندهشت في نفسي ، فهو يعرف عملي واهتماماي وعمري وأولادي ، لم أخف عنه شيئا ، هذا هو المباح للجميع ، لكنه ليس كالجميع ، صمم وألح .
أندهشت ، هذه عبارة لا يقولها إلا من يريد الزواج بامرأة ، وأنا بهذا العمر خارج نطاق هذا الطرح ن وكثيرا ما تعمدت كشف عمري له .هذا ما كان يهمني مصارحته به .
كرر سؤاله ولأني استبعدت فكرة الزواج تماما ، فلم تتطرق لذهني ، أدهشني إلحاحه ..قال مصمما : أرجوكي ..أخبريني بالحقيقة وأيا كانت لن تتغير مشاعري نحوك أبدا ، ولن يؤثر على شيء ، ولو جاءت متفقة مع رغبتي فيما أحب أن أسمع منك ، سيكون لنا شأنا آخر .
فأي شأن يقصد ؟ وأي رغبة يمكن أن تكون مع خريفية تودع الحياة مثلي ؟
فهمت انه يريد أن يسمع أني أرملة أو مطلقة مثلا ، وكنت أجمع بينهما في الحقيقة ،مع إيقاف التنفيذ ، بل تزيد عليها عذريتي لو أنصفنا ، هذه هي الحقيقة ، لكن الأوراق الثبوتية تدعي كذبا حقيقة أخرى : "زوجة عذراء" ، ولا تكتب كلمة عذراء ، زوجة منفصلة ، ولا تكتب منفصلة ، زوجة مع إيقاف التنفيذ ، ولا تكتب مع إيقاف التنفيذ ،زوجة بالإكراه منذ ما يربو فوق ثلاثين عاما ، زوجة مهانة مقهورة مقبورة مضطرة ، ولا تكتب صفاتها ؟
وزوجة مثالية أمام الناس ، لعلها السمة الوحيدة الواضحة والمشهود لها بها ، فأي حقيقة وأي مشروعية وأي عدل في هذا المسكوت عنه ؟؟
أكثر الزوجات هكذا ، والأزواج أيضا ...فأين العدالة ؟؟
أي عدالة وأي حقيقة لزوجة مطلقة نفسيا ؟ أرملة لزوج على قيد المحاكمة اليومية ، مات ودفنني بجواره في مطبخه وعشة دجاجه التي لم يبق بها إلا دجاجة وحيدة تبيض له ذهبا ، فأمسك بها ، ولم يمسكها بمعروف ولم يسرحها بإحسان .
فأي شرع هذا وأي دين يرضى هذا الذل والإذلال ؟؟
حاشا لله أن اشك في ديني لكن في أنفسنا نحن من فهمنا الدين خطأ .
هذه هي الحقيقة فكيف اخبره بها ؟
وكيف يفهمها ؟
وماذا سيقول عني ؟
كم انا متعبة هذه الليلة ، ضعيفة لأقصى حد، وظمأى لحنان بعيد المنال .
عاد يلح في سؤاله ويمنحني أمانا إضافيا : أرجوكِ ، أخبريني بالحقيقة ، ولن يتغير أي شيء ، ولا تفكري أبدا أني سأتخلى عنكِ ، هل أوكِ..أوكِ ..
قلت : أوكِ.
تنهد متنفسا الصعداء بارتياح شديد ، كان على صدره جبل جثم طويلا وأزحته عنه بتأميني على كلمته : أوك ، وموافقته .منحنى هذا الأمان شعورا بالثقة في أن أبوح له بالحقيقة ، لكن الكلمات تأبى أن تخرج مني ، تخنقني وبقوة ، تنتحر فوق لساني ، صعب ان أنطق ما ليس بالحقيقة ، هو يريد الحقيقة الموثقة ببطاقة هويتي الشخصية ، وأنا أود الاعتراف له بحقيقتي الوجدانية والروحية .
فانا في الحقيقة منفصلة ، ومطلقة نفسيا من ربع قرن ، أما المكتوب في الهوية الشخصية هو اسم رجل لم يزل مثبتا حيا يرزق ، وأنا التي مت اختناقا من زمن طويل.
وبوحت له حتى أصبح الصباح ...
سويعات قضيناها معا نحكي ، وحالة من التناغم الروحي الشفيف لا أنساها أبدا ، لم أعشها في عمري كله من قبل ، حالة حولتني من امرأة ذات جسد إلى روح شفافة أثيرية كانت تحلق في الآفاق.
لم أكن على الأرض معه بل كنا في السماء ، ينقطع الخط كل ساعة ، تارة اطلبه ، تارة يطلبني حتى مطلع الفجر ، صلينا وعدنا ، وكلما راودني النوم قمت وصنعت شايا ونيس كافيه ، لا هو يكتف مني ولا أنا اكتف منه .
كنت أنهل من عذب حديثه الفرات والكوثر وهو يبوح بالكثير من حياته وأنا في أقصى أقاصي سعادتي ، لم أفكر في أي شيء كنت معه وله وبه وفرح استثنائي وحالة خرافية عبر الأثير والبوح في المدى.
كأننا خلقنا لبعضنا ، كأن كل حياتنا قبلا زيفا ، وهاهي بدأت ...
تذكرته وهو يقول : أشعر كأني قابلتك قبل ميلادي ..عام 1990
ولم أنكر عليه مشاعره ، وأحببت هذا التواصل الحميم الراقي الرائع بيننا ، ودعوت الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.
2 فبراير 2017 –شبرا
رواية تمرد
بقلم د / أميمة منير جادو
حتى عدنا .كنا في أسعد حالاتنا
حتى افترقنا في محطة المترو ..كنا في أروع حالاتنا .
قطعنا المسافة ما بين المقهى والشارع في غبش الليل ، نسير في ضي قناديل الضوء الشارد المنبعث من أعمدة الكهرباء البعيدة .
الأرض ليست ممهدة ، تناثرت فوقها زلطات كثيرة بقايا إشغالات مباني مستقبلية .
كنت تعثرت قبلها مرات ، راح يضيء كشاف "موبايله " المحمول بين الحين والآخر ، مسلطا ضوءه على الأرض أمامي ، فإذا ما لاحت زلطة ضربها ببوز حذائه وطيرها بعيدا ..
وهكذا ظل يفعل مرة تلو أخرى منشغلا بزلطات الطريق وصمت أشواقه عن الحديث معي .
كنا سعيدين لأننا معا ..
وكنت حزينة لأنني سأفارقه بعد حين ، تمنيت لو قضيت الليلة معه .تمنيت لو قضيناها معا.
في لقاء الأمس (أول لقاء لنا) عند البحر سألته : وقتما تريد تمشي أخبرني بلا خجل ، لا أريد أن أعطلك عن شيء ، وبابتسامة عذبة صافية ملؤها حنين داخلني منه وبرقة صوت رد: لا ، ليس ورائي شيء، أنا أنجزت كل المهام التي جئت لأجلها ، أهم ما كنت أريده فعلته ، ومستعد أمكث معك ثلاثة أيام متواصلة حتى الصباح .
سألني سؤال غريب لم أفهمه : هو في حد عندك بالشقة ؟
هززت رأسي وقطبت جبيني باستفهام واستنكار لمقصد سؤاله وأجبت بسرعة دون أن أسأله عما يقصده : نعم ، أولادي .ثم سألته بجدية : لم تسأل ؟
رد : لا أبدا ، مجرد سؤال عادي يعني ، كنت ... ... وغمغم بعبارة لم أتبينها تماما ، ربما قال : كنت بافكر نتغدى معا ، أو ما شابه ، ثقتي به حالت دون شك في أية نوايا آثمة ، لا أعتقد أنه من هذا النوع من الرجال ، ولا أعتقد أنه يظن في شيئا من ذلك ، كنت أربأ به وبنفسي عن مجرد التلميح لأي شيء خارج الأعراف .
عدى الموقف بسرعة وبارتباك قال : تحبي نتغدا هنا ، إيه رأيك ؟
شكرته وسألته : هل جوعان ؟
- لا أقول أنت لو تحبي .
- لا لا أبدا ، أشكرك .
كان في الطاولة بجوارنا مجموعة تتناول طعاما ربما وصلتنا رائحته فاشتهى أن يأكل،ثم نظر لشاشة العرض الكبيرة المعلقة هناك بعيدا عنا بالنادي المطل على البحر وقال مقترحا : ما رأيك غدا ستكون مباراة مهمة ، نأتي هنا ، ونشاهدها معا .سأجلس هناك ، وستجلسين هنا على هذه الطاولة وتراقبيننا من بعيد .
لم أفهم ما الحكمة في ذلك غير أنه أحب وجودي معه في كل حالاته أو تفاؤل بوجهى البشوش كما كنت أسمع دائما منذ طفولتي : يا وش الخير والسعد.
علق مؤكدا ما ذهب إليه ظني : أكيد سنكسب لو كنت معي .
ابتسمت وتمنيت وفكرت بسرعة : أنا لا أحب الكرة اطلاقا ولا صوت المعلق ولا المباريات ، ولا عمري شاهدت مباراة رغمنشأتي في بيت يشجع الأهلي ، فشجعت الأهلي بالوراثة دونما اهتمام حقيقي .
رد : وهذا شيء آخر نتوافق فيه معا، بيننا المشترك كثير جدا ، أتذكرين حين كنت أكتب لك شيئا وأجدك تتحدثين فيه في نفس الثانية تقريبا قبلما تصلك الرسالة ، أو العكس ؟ هل لا حظت ذلك ؟ هذا توافق...هههههه
-هذه ظاهرة التخاطر "التليباثي" وهو التواصل عن بعد في نفس الموضوع في نفس اللحظة ، فعلا قلت لي عن أشياء كثيرة كنا نفكربها في ذات الوقت ، سبحان الله ،هذه ظاهرة صحية في العلاقات الانسانية .
-إذن أنت أهلاوي مثلي ، ههههه.
أذكر أن كثيرا من تجمعات أمام التلفاز شهدها بيتنا الكبير ، كان جمهورها بابا وأصحابه ، كنت أضيق بها وبهم وبالوقت الذي يقضونه امام الشاشة لمتابعة المبارة ويصفقون ويتعصبون ويعلقون ، كنت ومازلت اعدها نوعا من التفاهة ، والفرا ، وأن هناك بالحياة ما هو أكثر أهمية بكثير,هو فكر يخصني لكني لا أحجر على أحد ممن يشاهدون آية مباراة ، لهم دينهم ولي ديني.
ليس عادل الرجل الأول ولا الأخير الذي يهتم بالشأن الكروي ، بل واحد من جماهير عريضة على مستوى العالم ،حتما هم الصح وأنا الخطأ.
حتما هم القاعدة وأنا شذوذها ، لم يعرف عني هذا ولم أشأ أن أزعجه برأي مخالف ، فاحتفظت به لنفسي ، ولم تأت مناسبة للحديث بيننا في الشأن الكروي ، سألته : أهي مباراة مهمة ؟
رد : نعم ... المنتخب سيلعب أمام فريق مهم ..
- قلت بوداعة : ربنا يوفق.
عاد يكرر : هيه ما رأيك ..سآتي أشاهد المباراة هنا ، سأجلس هناك ، وأشار جهة شاشة العرض البعيدة ، وأنت تجلسين هنا كما أنت "وطرق على المنضدة الفاصلة بيننا بيديه بهدوء" وراح يؤكد ثالثة : تكونين هنا ، معي وأنا أشاهد المباراة ، ونظر في وجهي متأملا بابتسامة وقور ، أحسست أنه يريدني معه في كل أوقاته ، لا يفوته شيء مني ، في كل سويعاته ، متابعاته ، فرحته ، أحزانه ، لو لا قدر الله وخسر المنتخب ، وربما يستمد مني تأييدا ما ، تحميسا ما ، ربما يود أن يحسب هذا الوقت من بين الوقت الذي سنقضيه سويا ، لكنه لن يكون عقله معي سيكون مشغولا بمتابعة المباراة .
فكرت أن النادي سوف يزدحم حتما بجمهور مشاهدي المباراة الدولية ، وأنا لست من المتحمسين إطلاقا لها ، رغم أني أتمنى أن أكون معه في كل الأوقات ، فسألته وأنا أشاور عقلي بتردد : متى ستنتهي المباراة ؟ فقال:ربما الحادية عشرة مساء .
ابتسمت : في هذا البرد ؟ أجلس لمشاهدة مباراة ، وأنت هناك وأنا هنا ؟ وجمهور محتمل ،والحادية عشرة ، لا.. لا ..صعب ، أتمنى لك وقتا سعيدا .
أومأ بابتسامة وقال : إذن هيا .
كان قد استقبل هاتفا من أخيه يطمئن عليه متى سيعود كأنه طفل صغير ، فاستشعرته قلقا مضطربا متوترا ، ويؤكد انه سيكون عندهم في خلال ساعة على الأكثر .
تضايقت ، لم تكن الساعة جاوزت الثامنة مساء ، كنا التقينا في الخامسة تقريبا ، السويعات جرت سريعة وأفلتت من اعتقالنا لها ، تمنيت لو قضيت معه وقتا أطول ، لكني لم أبين وامتثلت لرغبته دونما تردد .
كانت وجهته عن طريق المترو ، عكس وجهتي ، لكن في هذا الاتجاه يوجد مشوار لي مؤجل من الأسبوع الماضي ، والوقت مبكرا ، أحببت ان أقضي معه بعض وقت محتمل .
اتصلت بصاحب المكتبة ، وطلبت منه المجلات الأسبوعية التي اعتاد تجهيزها وتوصيلها لي وأخبرني أنه تحت الأمر وفي الخدمة ، وأنه يمكنه أن يأتي لي بها كما اعتاد ذلك قبلا ، لكن الرجل فوجئ بأني سأذهب له بنفسي ، فعاد يسألني : سيادتك تحضرين بنفسك لنا ؟ هذا شرف كبير ..فقلت : لي مشوار جواركم فقلت أمر عليكم وأردت أن استوثق من وجودكم بالمكتبة ، وأنها مفتوحة .
حفظت ماء وجهي بهذه الإجابة الكاذبة المرتجلة كارتجال المراهقات أمام الرجل صاحب المكتبة ، فلا مشوار بجوارهم ، ولا أنا أركب المترو ، لكن ركوبه له شجعني أن أركبه معه ، كأي طفلة تتشبث بمن تحب ، فطالما نحن معا ، فكل شيء ممكن وكل شيء يبدو لطيفا وممتعا أكيد.
أخبرته بوجهتي معه ، وركبنا ، سمحت الأقدار بمقعدين شاغرين على أريكة واحدة ، جلس لجواري ، ساد الصمت بيننا ، عرفت انه ليس من هواة التحدث بالمواصلات فصوته مرتفع والناس ستسمعه.وكنت مثله .
رغم أن صوته منذ جلسنا كان خفيضا ، لم ألحظ ارتفاعه ربما حرص على خفضه لأجلي ، كما حرص على تخليصه من لكنته المحلية فبان قاهريا لحد بعيد مما أدهشني .
حقا كان مدهشا في كل شيء منذ حديثنا بالنادي وأناقته وجنتلته حين سحب لي مقعدي لأجلس عليه كأي "جنتل مان" ، فلم يكن بدويا متخلفا بل عصريا متحضرا ، وراق لي هذا كثيرا ، لفتاته البسيطة مما تحبها المرأة واهتمامه بالتفاصيل البسيطة مما يعجبني في الرجل ، تدل على رقته وذكائه وتزيده جاذبية .
سألت نفسي أين تعلم كل هذا وتذكرت أنه أخبرني أنه عمل في بداية حياته بالسياحة قبلما يعمل محاسبا بالخليج منذ سنوات .
أفكر به وهو لجواري صامتا بيني وبينه مسافة الهمس ، قد يتحرك المترو من محطة لأخرى فتلصق كتفه بكتفي لكني كنت حريصة على مسافة السنتيمتر الواحد الذي لا تتيح هذا التلاصق ، لا لعدم رغبتي لكنه حياء اعتدته ، وحرص على وضعي ومكانتي .
لو تركت ذاتي على سجيتها لاشتعل حرمانها بالشوق دونما تلامس، ولكفاها الخيال أن يؤجج رغباتها، لكني أعتدت ترويضها وتهذيبها ، فانصاعت كثيرا لي ، في عز أوقات الاشتعال بالظمأ القاتل .
كان يكفيني أنه لجواري ، وأني أفتقده رغم الجوار ، شعور لم أمارسه من زمن طويل ، أخذته من جواري سيدة خريفية مثلي ركبت من المحطة التالية بان عليها الإجهاد ، فأجلسها مكانه كأي رجل شهم وجدع ، فرحت به في نفسي ، صار لمواجهتي صامتا ، يختلس كلانا النظر للآخر بين الحين الحين دونما تكلف على استحياء ، ونتبادل ابتسامات ودودة مريحة .
تقاسمنا حزنا شفيفا غامضا ، وبعض ارتباك مكابر وحيرة ، كنت أحسب المحطات التي نمر بها ، كل محطة تعني قرب النهاية ، وتمنيت أمنيات خبيثة ، تمنيت لو انقطعت الكهرباء وتوقف المترو .
لكن المترو ينهب القضبان نهبا كعادته ، يمضي سريعا محطة ثر أخرى ، يقصر الزمن الباقي لنا ، حتما ستأتي المحطة الأخيرة وحتما سنفترق ، عشت أحزان الفراق قبلما نفترق .
سويعات قليلة هي التي قضيناها هناك داخل الصوبة الزجاجية لذلك النادي المطل على البحر الأعظم.
سويعات ولا أحلى ذكرتني بفيلم العمر لحظة ، شعرت فيها كيف يختصر العمر للحظة .
تذكرت بيت الشعر القائل :
"ويهون العمر إلا ساعة ..... وتهون الأرض إلا موضعا"
كانت هي السويعات الأولى ، واللقاء الأول بيننا وجها لوجه ، لكن سبقته أحاديث كثيرة في غرفتنا الألكترونية الخاصة جدا ، حتى ليلة البوح ليلة ما قبل اللقاء ، البوح بعذاباتي ، أصر أن يعرف حقيقة وضعي الاجتماعي ، ولم أكن أهتم بهذا ، ولا أحببت أن يتعامل معي من خلاله بل من خلال حالة إنسانية راقية بعيدا عن الأوضاع والمسميات طالما في إطار القيم الجميلة المشروعة ، طالما لا تجاوز.
لكنه ليلتها أصر : أحب أن أعرف اين حدودي ؟وكيف أتعامل معك ؟ هل من حقي أبوح لك بما أريد ؟ أم ليس من حقي ويجب أن أصمت ، واحتفظ بمشاعري لنفسي ؟
يا الله ...
اللعنة على المسميات ..اللعنة على مشانق الأوضاع الاجتماعية الخانقة..ما توقعت أبدا أن يأت علي يوم وأوضع بهذا الموقف ، ويقتلني هذا الصراع .
كنت أخاف حد الرعب لو بحت له بحقيقتي المرة فابتعد ،وليتها الحقيقة .
تمنيت لو ظل قريبا ..
لم تكن هي المرة الأولى التي لا حقني فيها بالسؤال ، فقد سأله قبلا أكثر من مرة دونما مباشرة ، وكنت لا أهتم ، ولا أحبذ الحديث في خصوصية لا تهمني ولا تهم غيري .
وللحقيقة ألف وجه ..
الحقيقة ليست هي المثبوتة في الأوراق الرسمية .
الحقيقة هي الأفعال والسلوكيات التي نمارسها والمشاعر التي نشعر بها .
لكن كيف أفهمه إياها ؟
كان من الممكن أن أكذب أو أدع أي شيء وأخبره بأي شيء واكتفي بهذا القدر ، ولنتتابع على عام الفيس بوك دون الخاص ، وقد قررت هذا بالفعل أكثر من مرة ، وصمتت دونما إجابة بل ابتعدت أياما وكان يعود الحديث عفويا عاديا أخويا لا شبهة فيه .
كان من الممكن أن أتوقف هاهنا ولا داع حتى لأن أراه .
لكنها الأقدار ..
حقا إنها حكمة الأقدار مرسومة بعناية .
لو كنت بحالتي الطبيعية في قوتي ما كنت لقيته ..
لكنها الأقدار وحدها وضعتني تلك الليلة، ليلة ما قبل اللقاء، في حالة قصوى من الضعف الإنساني ، عبر هاتف أتاني من أحد أسباب تعاستي وشقائي بالحياة ، تأزمت الأمور فيما بيني وبين أباهم ، وفيما بينه وبين أولادي ، تأزمت لأقصى حد عبر حوار جارح قاس ، ليس بجديد علينا لكنه قتلني وقتلهم ، كأنه القشة التي قصمت ظهر البعير ، ووجدتني أختنق بقوة كأن ثعبانا يلتف حل رقبتي ويبثني سمومه .
ووجدتني مختنقة بما يفوق احتمالي ، لا ملاذ لي ولا ملجأ بعد الله في هذه اللحظة الحرجة ، وفي هذه العتبات الفارقة إلا هو ..عادل .. هو تحديدا ..ولا احد غيره ...
لا أدري لماذا ؟؟
أعرف الكثير لكنها معرفة العموم ، لا خصوصية لأحدهم عندي ، لا راحة كاملة ، لا ثقة مطلقة ، وحده عادل له عندي مشاعر مستثناة ، لم أكن وقفت عليها تماما إلا في هذه الليلة ، كأن تلك الليلة القاسية الخانقة هي اختبار قدري لمشاعري وأحاسيسي .
كان ضيقي واختناقي على أشده ، أود أخرج الشارع أصرخ ، أود ألقي بنفسي في هذا النهر ، القي بذاتي من الشرفة ، لهذا الحد خرجت عن كل عقل واتزان من فرط تجريحه وإهاناته وراحت سنين العمر كلها تجري بسرعة أمام عيني : لماذا احتملت ؟ ولماذا ضحيت؟ ولماذا لم أحسم أمري منذ زمن ؟ لماذا رضيت بهذه المذلة وذاك الهوان ؟ بكيت بكيت ، اختنقت ، اختنقت، ضعفت
ووجدتني أهاتفه بعد منتصف الليل بكل هذه الشحنة وهذا الاضطراب ، اعتذرت له وأخبرته دون مقدمات أنه كان لابد أن أهاتفه لاستعادة توازني ، لفض بعض توتري ، وأني في أسوأ حالاتي ، بل في أشد احتياجي إليه .
كن شعوري بالحاجة إليه كبيرا وعظيما ، وبما لم استطع التواصل مع غيره .
كنت قطعت وصلي بكل من حولي ولا أطيق أحدا غيره ، فاستعنت بالله واتصلت به .
كنت متوترة ، لا متوازنة ، مختنقة ،بحاجة شديدة كي أبكي في صدر إنسان خاص جدا ، استثنائي جدا ، أثق به وأرتاح إليه كثيرا .
هاتفته وأنا أتشوق ساعات الصباح كي ألقاه ، وطاردتني أغنية " ع اللي جرى .. ع اللي جرى ..بس أما تجيني وأنا أحكيلك ع اللي جرى ، وأمسح دموعي ف منديلك ع اللي جرى .."
ليلتها أخبرته : لا داعي لأن تعرف الكثير عني ، دعني أحدثك بشكل إنساني . عاد يؤكد ما تجاهلته قبلا : ستفرق معي كثيرا لو عرفت وضعك .
اندهشت في نفسي ، فهو يعرف عملي واهتماماي وعمري وأولادي ، لم أخف عنه شيئا ، هذا هو المباح للجميع ، لكنه ليس كالجميع ، صمم وألح .
أندهشت ، هذه عبارة لا يقولها إلا من يريد الزواج بامرأة ، وأنا بهذا العمر خارج نطاق هذا الطرح ن وكثيرا ما تعمدت كشف عمري له .هذا ما كان يهمني مصارحته به .
كرر سؤاله ولأني استبعدت فكرة الزواج تماما ، فلم تتطرق لذهني ، أدهشني إلحاحه ..قال مصمما : أرجوكي ..أخبريني بالحقيقة وأيا كانت لن تتغير مشاعري نحوك أبدا ، ولن يؤثر على شيء ، ولو جاءت متفقة مع رغبتي فيما أحب أن أسمع منك ، سيكون لنا شأنا آخر .
فأي شأن يقصد ؟ وأي رغبة يمكن أن تكون مع خريفية تودع الحياة مثلي ؟
فهمت انه يريد أن يسمع أني أرملة أو مطلقة مثلا ، وكنت أجمع بينهما في الحقيقة ،مع إيقاف التنفيذ ، بل تزيد عليها عذريتي لو أنصفنا ، هذه هي الحقيقة ، لكن الأوراق الثبوتية تدعي كذبا حقيقة أخرى : "زوجة عذراء" ، ولا تكتب كلمة عذراء ، زوجة منفصلة ، ولا تكتب منفصلة ، زوجة مع إيقاف التنفيذ ، ولا تكتب مع إيقاف التنفيذ ،زوجة بالإكراه منذ ما يربو فوق ثلاثين عاما ، زوجة مهانة مقهورة مقبورة مضطرة ، ولا تكتب صفاتها ؟
وزوجة مثالية أمام الناس ، لعلها السمة الوحيدة الواضحة والمشهود لها بها ، فأي حقيقة وأي مشروعية وأي عدل في هذا المسكوت عنه ؟؟
أكثر الزوجات هكذا ، والأزواج أيضا ...فأين العدالة ؟؟
أي عدالة وأي حقيقة لزوجة مطلقة نفسيا ؟ أرملة لزوج على قيد المحاكمة اليومية ، مات ودفنني بجواره في مطبخه وعشة دجاجه التي لم يبق بها إلا دجاجة وحيدة تبيض له ذهبا ، فأمسك بها ، ولم يمسكها بمعروف ولم يسرحها بإحسان .
فأي شرع هذا وأي دين يرضى هذا الذل والإذلال ؟؟
حاشا لله أن اشك في ديني لكن في أنفسنا نحن من فهمنا الدين خطأ .
هذه هي الحقيقة فكيف اخبره بها ؟
وكيف يفهمها ؟
وماذا سيقول عني ؟
كم انا متعبة هذه الليلة ، ضعيفة لأقصى حد، وظمأى لحنان بعيد المنال .
عاد يلح في سؤاله ويمنحني أمانا إضافيا : أرجوكِ ، أخبريني بالحقيقة ، ولن يتغير أي شيء ، ولا تفكري أبدا أني سأتخلى عنكِ ، هل أوكِ..أوكِ ..
قلت : أوكِ.
تنهد متنفسا الصعداء بارتياح شديد ، كان على صدره جبل جثم طويلا وأزحته عنه بتأميني على كلمته : أوك ، وموافقته .منحنى هذا الأمان شعورا بالثقة في أن أبوح له بالحقيقة ، لكن الكلمات تأبى أن تخرج مني ، تخنقني وبقوة ، تنتحر فوق لساني ، صعب ان أنطق ما ليس بالحقيقة ، هو يريد الحقيقة الموثقة ببطاقة هويتي الشخصية ، وأنا أود الاعتراف له بحقيقتي الوجدانية والروحية .
فانا في الحقيقة منفصلة ، ومطلقة نفسيا من ربع قرن ، أما المكتوب في الهوية الشخصية هو اسم رجل لم يزل مثبتا حيا يرزق ، وأنا التي مت اختناقا من زمن طويل.
وبوحت له حتى أصبح الصباح ...
سويعات قضيناها معا نحكي ، وحالة من التناغم الروحي الشفيف لا أنساها أبدا ، لم أعشها في عمري كله من قبل ، حالة حولتني من امرأة ذات جسد إلى روح شفافة أثيرية كانت تحلق في الآفاق.
لم أكن على الأرض معه بل كنا في السماء ، ينقطع الخط كل ساعة ، تارة اطلبه ، تارة يطلبني حتى مطلع الفجر ، صلينا وعدنا ، وكلما راودني النوم قمت وصنعت شايا ونيس كافيه ، لا هو يكتف مني ولا أنا اكتف منه .
كنت أنهل من عذب حديثه الفرات والكوثر وهو يبوح بالكثير من حياته وأنا في أقصى أقاصي سعادتي ، لم أفكر في أي شيء كنت معه وله وبه وفرح استثنائي وحالة خرافية عبر الأثير والبوح في المدى.
كأننا خلقنا لبعضنا ، كأن كل حياتنا قبلا زيفا ، وهاهي بدأت ...
تذكرته وهو يقول : أشعر كأني قابلتك قبل ميلادي ..عام 1990
ولم أنكر عليه مشاعره ، وأحببت هذا التواصل الحميم الراقي الرائع بيننا ، ودعوت الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.
2 فبراير 2017 –شبرا