شوربة عدس !
د.أسامة جمعة الأشقر
أيها البرد كيف نداويك !
خذوا هذه الحبوب الحمراء واجعلوها مع البصل المذهّب بتقليبه مع الزيت المغليّ ثم اجعلوا فوقه ماءً كوبينِ لكل كوب عدس ثم ارتقبوا مدى نضجه المراد وأضيفوا عليه البهار والملح والمنكِّهات... ستجدون حساءً يهجم على البرد ويسري به الدفء في العظام ... .
وإنما كان فيه ذلك لأنه يابس باردٌ بطبعه يصلح للأبدان الرطبة والأجواء الرطبة ، لأن برودة الأشياء تستدعي نقيضها عادةً.
وينصح أطباؤنا أن تشرب ماء العدس أو تأكله بارداً فإنه يكون أنفع حالَ برودتِه، وكان بعضهم ممن يعمل ساعاتٍ طويلات يجعل العدس في زجاجات يضعها في الثلاجة ويتناولها بين الحين والحين.
وقد زعموا في الأخبار قديماً أن العدس طعام الأبرار، وأنه يرقق القلوب، ويُدمِع العيون، ويُذهِب الكِبرَ !
وكانوا قديماً يسمّون الشوربة ماءَ العدس ويقولون إنها مليّنة للأمعاء مسهّلة للبطن، وأكثر ما تكون قوة العدس في قشره ففيه الفائدة الأعظم، وكان بعضهم ينقعه في الخل ويأكل حبّه دون غلي بالنار.
وبعض الناس يجعله من المقبّلات المشهِّيات فيفتتحون به موائدهم، وأكثر الناس يجعلونه طبق المائدة الوحيد ، بل إنهم جعلوه إدامَهم المميّز في أعلى قوائم الطعام لديهم لأيام متصلات طويلات، ويذكرون أن الخليفة الأموي الراشد عمر بن عبد العزيز كان لا يأكل إلا العدس في أيام خلافته، ويظهر أنه يراه كاللحم أو هو أنفع، وفيه ترفُّعٌ عن الدنيا وزهدٌ فيها.
وأسوأ ما في حبوب العدس أنها مشحونة بالغاز كالفول، فهي كثيرة المنافع وكثيرة المَدافِع .
والعجيب أن اليهود مع نبي الله موسى قد اشتهوه وقدّموه – وهو الأدنى -على المنّ والسلوى، وما ذاك إلا لتمكّنه فيهم، والأطرف أنهم ذكروه مع لوازمه التي لا يتمّ استلذاذ العدس إلا به وهو البصل "الفحل" (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)، فأمرهم أن ينزلوا مصر فإنها أرض الفول والعدس والبصل !
وقد احتجّ البخلاء بفعل اليهود هذا في طعامهم فقالوا : إن بني إسرائيل لم يستبدلوا العدس بالمنّ، والبصل بالسلوى، إلا لفضل أحْلامهم (أي عقولهم)، وقديمِ علمٍ تدارَسوه من آبائهم !
ونجد أقباط مصر قديماً أيضاً يحتفون به تديّناً ، ومن أيامهم خميس العدَس ويكون قبل الفصح بثلاثة أيام يطبخون فيه ألوان العدس المصفّى في أيام صيام قاسية من أسبوع الآلام، ولا يجعلون فيه أي مكعبات من مرق الدجاج أو اللحم .
ولشهرة العدس وقوة حضوره فقد وضع الوضّاعون على لسان رسول الله أحاديث كثيرة في فضله، كلها موضوعة مكذوبة لا يستقيم منها شيء ، وأحسب أن طائفة من الحكّام الفاسدين كانوا يدعمون نشر أحاديث العدس وحكاية الفضائل عنه ليشتغل الناس بهذا الحب الرخيص عن طلب ما هو أعلى مكاناً منه في قوائم الطعام، ومن أطرف الموضوعات ما ذكروه عن ابن عباس يرفعه: مَن أحبّ أن يرق قلبه فليُدْمِن أكل العدس.
وكان من وصايا الكشّاشين الخبراء بشؤون الحمَام أن يجعلوا في يوم من أيام إطعام الحمام عدساً منقوعاً في ماء محلَّى فإن ذلك يستدعي لك الحمام من أقصى المدينة، ويمكن إضافة شوربة العدس حينها إلى طبق من الزغاليل المشويّة - عندهم - .
د.أسامة جمعة الأشقر
أيها البرد كيف نداويك !
خذوا هذه الحبوب الحمراء واجعلوها مع البصل المذهّب بتقليبه مع الزيت المغليّ ثم اجعلوا فوقه ماءً كوبينِ لكل كوب عدس ثم ارتقبوا مدى نضجه المراد وأضيفوا عليه البهار والملح والمنكِّهات... ستجدون حساءً يهجم على البرد ويسري به الدفء في العظام ... .
وإنما كان فيه ذلك لأنه يابس باردٌ بطبعه يصلح للأبدان الرطبة والأجواء الرطبة ، لأن برودة الأشياء تستدعي نقيضها عادةً.
وينصح أطباؤنا أن تشرب ماء العدس أو تأكله بارداً فإنه يكون أنفع حالَ برودتِه، وكان بعضهم ممن يعمل ساعاتٍ طويلات يجعل العدس في زجاجات يضعها في الثلاجة ويتناولها بين الحين والحين.
وقد زعموا في الأخبار قديماً أن العدس طعام الأبرار، وأنه يرقق القلوب، ويُدمِع العيون، ويُذهِب الكِبرَ !
وكانوا قديماً يسمّون الشوربة ماءَ العدس ويقولون إنها مليّنة للأمعاء مسهّلة للبطن، وأكثر ما تكون قوة العدس في قشره ففيه الفائدة الأعظم، وكان بعضهم ينقعه في الخل ويأكل حبّه دون غلي بالنار.
وبعض الناس يجعله من المقبّلات المشهِّيات فيفتتحون به موائدهم، وأكثر الناس يجعلونه طبق المائدة الوحيد ، بل إنهم جعلوه إدامَهم المميّز في أعلى قوائم الطعام لديهم لأيام متصلات طويلات، ويذكرون أن الخليفة الأموي الراشد عمر بن عبد العزيز كان لا يأكل إلا العدس في أيام خلافته، ويظهر أنه يراه كاللحم أو هو أنفع، وفيه ترفُّعٌ عن الدنيا وزهدٌ فيها.
وأسوأ ما في حبوب العدس أنها مشحونة بالغاز كالفول، فهي كثيرة المنافع وكثيرة المَدافِع .
والعجيب أن اليهود مع نبي الله موسى قد اشتهوه وقدّموه – وهو الأدنى -على المنّ والسلوى، وما ذاك إلا لتمكّنه فيهم، والأطرف أنهم ذكروه مع لوازمه التي لا يتمّ استلذاذ العدس إلا به وهو البصل "الفحل" (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)، فأمرهم أن ينزلوا مصر فإنها أرض الفول والعدس والبصل !
وقد احتجّ البخلاء بفعل اليهود هذا في طعامهم فقالوا : إن بني إسرائيل لم يستبدلوا العدس بالمنّ، والبصل بالسلوى، إلا لفضل أحْلامهم (أي عقولهم)، وقديمِ علمٍ تدارَسوه من آبائهم !
ونجد أقباط مصر قديماً أيضاً يحتفون به تديّناً ، ومن أيامهم خميس العدَس ويكون قبل الفصح بثلاثة أيام يطبخون فيه ألوان العدس المصفّى في أيام صيام قاسية من أسبوع الآلام، ولا يجعلون فيه أي مكعبات من مرق الدجاج أو اللحم .
ولشهرة العدس وقوة حضوره فقد وضع الوضّاعون على لسان رسول الله أحاديث كثيرة في فضله، كلها موضوعة مكذوبة لا يستقيم منها شيء ، وأحسب أن طائفة من الحكّام الفاسدين كانوا يدعمون نشر أحاديث العدس وحكاية الفضائل عنه ليشتغل الناس بهذا الحب الرخيص عن طلب ما هو أعلى مكاناً منه في قوائم الطعام، ومن أطرف الموضوعات ما ذكروه عن ابن عباس يرفعه: مَن أحبّ أن يرق قلبه فليُدْمِن أكل العدس.
وكان من وصايا الكشّاشين الخبراء بشؤون الحمَام أن يجعلوا في يوم من أيام إطعام الحمام عدساً منقوعاً في ماء محلَّى فإن ذلك يستدعي لك الحمام من أقصى المدينة، ويمكن إضافة شوربة العدس حينها إلى طبق من الزغاليل المشويّة - عندهم - .