
الشهيد عاد إلى الحياة
قصة "حميد" قضية شعب..وقصة بطولة، وتضحية، وشرف
قصة مناضل نذر نفسه للدفاع عن فلسطين وأهلها، واختفت آثاره عن أهله لمدة تزيد عن(22) عاما، واعتقدوا أنه شهيد، و تعرّض خلالها للإعتقال، والتعذيب والإصابات، والنفي حتى عاد إلى وطنه فلسطين..
بقلم الكاتب: نصير أحمد الريماوي
12/2/2017م
"حميد" شاب متوسط القامة، قمحي البشرة، وشعره خروبي، كان في ريعان شبابه عندما اختفت آثاره، وانقطعت أخباره عن أهله في مدينة "أعزاز" بمحافظة حلب السورية بعدما أنهى الصف السادس الإبتدائي في مدينة "سد الفرات" التابعة لمحافظة الرّقة في عام 1974م، وقطع أهله الأمل بالعثور عليه بعدما كانت تصلهم الأخبار تلو الأخبار المتضاربة، تارة بأنه استشهد، وتارة أخرى بأنه مصاب بجراح خطيرة؟...
لقد استمرت معاناة أهله أكثر من (22) سنة متواصلة، منذ عام 1978حتى عام 2000 إلى ما بعد عودة سلطتنا الوطنية إلى أرض الوطن...
قصة"حميد" هي قصة بطولة وتضحية وشرف، لقد نذر نفسه للدفاع عن القضية الفلسطينية كباقي السورين الشرفاء الذين انضموا لحركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح وغيرها، وكان لي الشرف التعرّف عليه من خلال زوجته"ابتهال" التي تعمل معنا في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، فكان "حميد" يتردد على الوزارة بسيارته لزيارة زوجته مع اقتراب انتهاء الدوام، لإعادتها معه في السيارة إلى المنزل برفقة نجله الصغير"أحمد" البالغ من العمر12سنة حاليا...
في أحد الأيام، أثناء زيارتي لموظفة تعمل معها في نفس القسم، صرنا نتحدث عن قصة لأحد أقربائها، فما أن سمعتنا الأخت "ابتهال" حتى بادرت بالحديث عن قصة زوجها المجهولة، والمثيرة للإنتباه مما أثارت فضولي، والاستماع لها، وشغفي لكتابتها.. طلبت منها الاستئذان من زوجها إن رغب في سرد قصته لي شخصيا لكتابتها ونشرها علّ هذه القصة تساهم في طمأنة أهله بعد طول غياب..
مرّت بضعة أيام على حديثنا،ثم جاءت -بعد التشاور مع زوجها- و أخبرتني بأن زوجها"حميد" على استعداد لسرد قصته، واللقاء معي. لقد أفرحني هذا الرّد، وحددنا موعد اللقاء.. فجاء "حميد" إلى مكتبي شخصيا.. تصافحنا، وتعارفنا على بعضنا ثم جلس..احتسينا القهوة معا، ثم بدأت بطرح الأسئلة عليه، مع رشفات القهوة، وقال: أنا اسمي "حميدي علي برهو حميدي" سوري الأصل من مدينة "أعزاز" بمحافظة حلب، ومن مواليد عام 1962م، وأسرتي مكونة من ثلاثة أولاد وثلاث بنات، لقد توفيت والدتي"عائشة"، وكان والدي يعمل في مجال التجارة.. بعد تركي للمدرسة، عملت في مصانع النسيج في مدينة حلب لمدة أربع سنوات، بعد ذلك سافرت إلى "لبنان" والتحقت بصفوف حركة فتح بتاريخ15/4/1978م مع قوات القسطل-سريّة الدّفاع، حيث كانت كتيبتنا في جنوب"صيدا" بلبنان، وكان عمري حينئذ (16) سنة.. وجاءت فكرة الإنضمام للثورة الفلسطينية أثناء عملي في مدينة "حلب" حيث صادفني شاب كان يرتدي الزّي الفدائي العسكري الفلسطيني، وشكل بسطاره المموه لما رأيته أعجبني.. سألت هذا الشاب:
- من أين لك هذا البسطار؟
- أنا فدائي في لبنان.
تحمّست لشراء مثل هذا الحذاء أو الحصول عليه..بحثت عن مثيله في المحلات التجارية بمدينة"حلب" فعثرت على واحدا، واشتريته فورا..في تلك الفترة لم تكن لدي بطاقة شخصية سورية لأنني كنت تحت السن القانونية.. لقد كانت رغبة جامحة لدى ابن خالتي"فاروق العبود" للذهاب إلى "لبنان" والعمل هناك- وهو يكبرني سنا- فسارعت إلى الطلب من والدي بالسماح لي بالذهاب معه إلى هناك للعمل معا في مجال البناء!!.. في بداية الأمر ، عارض والدي هذه الفكرة لأنني صغير السن، وبدون أوراق ثبوتية سوى شهادة الميلاد.. عندما لاحظ والدي إصراري على الذهاب باستمرار، اقتنع أخيرا.. لأنه لا يمكن الخروج إلا بضمانة الوالد، وموافقته الشخصية.. ذهبنا معا إلى مختار"أعزاز" والسرايا وحصلنا على الموافقة بناء على شهادة الميلاد فقط..كان ذلك في شهر نيسان من عام 1978، ذهبت مع ابن خالتي في سيارة أجرة إلى مدينة "زحلة" الواقعة في البقاع اللبناني..استأجرنا هناك مسكنا بجوار الأقارب ، وحصلنا على فرصة عمل في ورش البناء، لكن كان هدفي الشخصي من الذهاب إلى لبنان هو الانضمام إلى صفوف الفدائيين الفلسطينيين..بعد فترة وجيزة من العمل مع ابن خالتي تركته!! ثم عملت لوحدي في مجال البناء لمدة أسبوع.. خلال هذه الفترة أخذت أجرة أسبوع العمل، وذهبت إلى جنوب لبنان بدون علم أي أحد من الأقرباء!! حتى وصلت قرية"مغدوشة".. سكنت فيها، وعملت في البناء، ولم أكن أعرف التنظيمات الفلسطينية آنذاك، وما أعرفه فقط "أبو عمار" والثورة الفلسطينية.. أثناء عملي هناك كانت تمرّ في كل صباح من أمامي وأنا ذاهب إلى عملي سيارة "تيوتا" عسكرية للفدائيين، وتنقل التموين لهم، وخطر في بالي أن أوقفها.. أشرت لسائقها بالتوقف..توقف السائق، وقال:
- تفضل اركب..من أين أنت؟
- من سوريا، وأريد الانضمام إليكم!!
-تفضل اصعد إلى المركبة..
طلعنا معا، وأخذوني إلى القاعدة العسكرية في "صيدا" وكان قائدها"أبو محمد نايف" الذي استقبلنا وأخذوا منّي شهادة الميلاد وأرسلوها إلى قيادة "سريّة الدفاع"، عبأوا لي ذاتية ثم سلموني اللباس العسكري الفدائي المموه، والحذاء الفدائي المموه الذي حلمت بانتعاله... من هنا بدأ مشواري الكفاحي، والتدريب على كيفية استخدام الأسلحة.. بعد فترة جاء تقريري بالموافقة بعد البحث والتحرّي، وتفرّغت للعمل الوطني الفدائي منذ تاريخ15/4/1978م، والمشاركة في العديد من العمليات البطولية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي لغاية الإجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982م، و أنا مع"الحاج إسماعيل"- قوات القسطل..
المقنّعون
لقد كنت في "صيدا" بعد سقوطها في أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي إبان الاجتياح المذكورضمن قوات القسطل التابعة لسرية الدفاع، وكان معنا أيضا "فضل الريماوي- أبو عثمان" من بلدتكم "بيت ريما" الذي كان قائدا لفصيل فيها، خبأنا الأسلحة، بعدما تحاصرنا، أما أنا فقد كنت على سيارة مدفع رقم (106) ونقصف البوارج العسكرية الإسرائيلية الموجودة في عرض البحر الأبيض، وأثناء عودتي إلى الموقع قرب تلة"مار إلياس" التي كانت تتمترس عليها "كتيبة الشهداء" وكان قائدها "كمال الشيخ" التابعة لقوات القسطل، تفاجأت باحتلال هذه التلة من قبل جيش العدو، وقد أطلق جنود الاحتلال الإسرائيلي نحوي قذيفة فاصطدمت بحائط بيارة أشجار ليمون محاذية، خرجت من السيارة، وتركتها هناك، ودخلت إلى البيارة للتواري فيها، لكن كانت عيون الاحتلال المقنّعة منتشرة وتلاحقنا..جمعوا المواطنين في مجمع.. وصار جنود الاحتلال يمررونا من أمام المقنعين الموجودين داخل سيارات وعلى رؤوسهم أكياس سوداء اللون وفقط عيونهم البائنة.. يمررونا الواحد تلو الآخر من أمامهم للتعرف علينا، وعلى تنظيماتنا عن طريق التأشير بالأصبع تجاه الشخص المنظم حال مروره .. عندما جاء دوري. مرروني من أمام أحد المقنعين فأشار بإصبعه نحوي..
قلت له : لا تعذب حالك يا عميل أنا اعترفت"فتح"..
وقد استطعت التعرّف على هذا المقنّع من خلال التدقيق في عيونه البائنة، ومن خلال يده التي أشار بها تجاهي، وكان هذا المقنّع يدعى" المارد"!! ومن الرجال المحسوبين؟؟؟، وهو الذي قال لهم عنّي: بأن هذا الشخص هو سائق سيارة المدفع(106) المركونه هناك عند البيارة.. لم يتجرّأ أحد من جنود الاحتلال الاقتراب منها خوفا على حياتهم تحسبا لوجود متفجرات داخلها.. اقتادوني إليها ثم طلبوا منّي إخراج القذائف من داخلها.. أخرجتها حتى تأكدوا من عدم تلغيمها.. بعد ذلك وضعوا عصبة على عيني وقيّدوا يدي خلف ظهري واقتادوني ومن معي من المعتقلين إلى مجمع"الصّفا" داخل "صيدا"، وفي نفس اليوم نقلونا في باصات إلى معتقل"الجلمة" داخل فلسطين المحتلة ، وهو سجن قديم منذ الاستعمار البريطاني، ويبعد قرابة عشرة كيلو مترات عن مدينة "حيفا"، وكان عددنا كبيرا جدا(12000) معتقل، من بينهم (700) فدائي، وكان "ابن بلدتكم "فضل الريماي" معنا من ضمن المعتقلين، عندما وصلنا هذا المعتقل الصهيوني ألبسونا ملابس خضراء اللون،ثم تركونا في العراء لمدة عشرة أيام بلياليها في سهل جنين"الجلمة" وصوّرونا من جميع الجهات، ومن ثم نقلونا إلى الخيام في نفس المكان لمدة نصف شهر، وخلال هذه الفترة تعرضنا لمختلف أصناف التعذيب الوحشي والتجويع أثناء التحقيق..
مشاهد مروعة في معتقل أنصار، ودور المخاتير(العملاء) القذر
منا من استشهد تحت التعذيب، ومنا مَنْ قتلوه أثناء التعذيب، ومنا مَنْ اختفت آثاره، ومنا مَنْ أخفوا جثثهم
بعدها نقلونا إلى معكسر يدعى "أنصار" في جنوب لبنان، وضعونا داخل الخيام، وهذا المعتقل يتكون من(27) قسما، وكل قسم يحتوي على(500) شخص، وتلتف من حوله الأسلاك الشائكة والسواتر الترابية والحراسة المشددة ...هنا لم يكن يعرف عنّا الصليب الأحمر شيئا، ثم وضعوا مختار من عملائهم لكل قسم ليكون مسؤولا علينا!! وكان مختارنا لبناني يدعى" الكوثراني" (تم اغتياله لاحقا)، وهو من أوسخ ما رأته عيني في التعذيب، في هذا المعتقل استمر التعذيب الوحشي أثناء التحقيق: فمنا من استشهد تحت التعذيب، ومنا مَنْ قتلوه أثناء التعذيب، ومنا مَنْ اختفت آثاره، ومنا مَنْ أخفوا جثثهم، ناهيكم عن الحرمان من الأكل وإجبارنا على حمل الصخور الثقيلة، تحت الضرب بحبال مبلولة بالماء لتؤلمنا أكثر، وكان تعذيب المخاتير"العملاء" لنا يتم تحت حراسة جنود الاحتلال الصهيوني، وفي ظل التعتيم الإعلامي.. لقد استمر هذا الوضع لمدة ستة شهور متواصلة..
مظاهرة نساء المخيمات رفعت معنويات الأسرى
وقعت صداما أوقعت العديد من الجرحى المعتقلين، لكنهم حققوا مطالبهم
في أحد الأيام سمعنا أصوات النساء القادمة من المخيمات الفلسطينية بلبنان ناحية المعتقل تصدح بالهتافات الوطنية وسط مظاهرة صاخبة، فدبّت الحمية فينا عندما سمعنا أصواتهن الهادرة... قام المعتقلون مرة واحدة في جميع الأقسام، وانتفضنا داخل معسكر أنصار، وصارت مواجهة عنيفة بيننا وبين جنود الاحتلال وأعوانه..نحن نرشقهم بالحجارة وسيطرنا على بعض المجنزرات ، وهم يطلقون الرصاص تجاهنا، وعلى إثر ذلك أصيب العديد من المعتقلين بجراح، وكانت مطالبنا تتمثل فيما يلي:
- ضرورة تغيير مخاتير الأقسام "العملاء".
- تحسين نوعية الأكل.
- ضرورة وضع ألواح خشبية تحت فرشات النوم، لأنها كانت على التراب.
استجاب الصهاينة لمطالبنا، فقمنا على الفور باختيار مخاتيرنا بأنفسنا وتحقيق المطالب الأخرى..
كانت مظاهرة خارج المعتقل من النساء ومظاهرة داخل المعتقل نحن حققنا ما نريد بينما قمع جنود الاحتلال مظاهرة النساء هذه التي رفعت معنوياتنا وشدّت من أزرنا.
بعد ذلك أقدمت سلطات الاحتلال على تقسم معتقل "أنصار" إلى قسمين:
- المعسكرات الصيفية
- المعسكرات الشتوية
أنا نقلوني إلى المعسكرات الشتوية رقم(27) وكان مسؤوله"أبو علي مسعود"، هنا بدأنا بتنظيم أنفسنا بشكل أفضل وكل تنظيم يجمع شبابه، وكان المسؤول هو أعلى رتبة تنظيمة فينا، وصرنا نحدد المهام لمراقبة العملاء المدسوسين، ونطلع حراسات ليلية لمعرفة كيفية عمل العملاء، فكان كل عميل يكتب على ورقة ويضع حجرا بداخلها، ويلفها ويلقيها تجاه مجنزرة الاحتلال المارة أو تجاه الجنود أو تجاه الحراس أثناء الليل، كنا نراهم ونلقي عليهم القبض ونحقق معهم..وكان يصفني جنود الاحتلال في هذا المعتقل "بالمشاغب".. بعد ذلك صار الصليب الأحمر يزورنا في هذا المعسكر، ويحضر لنا موادا للرسم وألعابا، وينقل الرسائل.. في إحدى المرات أحضر لنا بلايز بيضاء اللون .. أعطيناها لرسام كان بيننا، ورسم عليها صورة للشهيد الرمز أبو عمار مع شعار العاصفة، وارتدينا هذه البلايز.. شاهد جنود الاحتلال هذا المشهد الوحدي والرسوم المعبرة فجنّ جنونهم، ووقعت صدامات بيننا وبينهم.. أحضروا مسؤول معسكرنا الشتوي"أبو مسعود" لتهدئة الوضع لكننا لم نرضخ لسياسة إسرائيل التي كانت ترمي إلى إجبارنا على خلع هذه البلايز، وأطقلوا على معسكر(27) بالمشاغب، كما قرروا تفريقنا عن بعضنا البعض وتوزيعنا على معسكرات أخرى، فأعادوني إلى معسكر رقم(17)..
أحرقنا جميع خيام معسكر أنصار
وحرمونا من الخيام لغاية تحررنا من هذا المعتقل خلال عملية تبادل الأسرى
هنا، اعترضنا على مرور المجنزرات من وسط المعسكرات، وصارت مشاحنات مع جنود الاحتلال، وقررنا إحراق الخيام في معسكر أنصار، وأشلعنا النيران فيها جميعها باستثناء خيمة المطعم، وكان ذلك في نهاية فصل الشتاء.. كعقاب لنا امتنعوا عن احضار خيام جديدة لنا، واستعنّا بأغطيتنا من، بطانيات وغيرها، وعملنا خيام تقينا شرد البرد، وفتحنا كل المعسكرات على بعضها البعض، وأزلنا الأسلاك الشائكة الفاصلة بين المعسكرات ، وصرنا نتنقل بحرية بين المعسكرات لغاية شهر6/1983 ، بينما حرمونا من الخيام لغاية تحررنا من هذا المعتقل خلال عملية تبادل الأسرى مقابل ستة جنود صهاينة في شهر 23/11/ 1983..
حفر النّفق، والهروب من المعتقل يوم 8/8 ، الساعة 8، والمجموعة رقمها 8
حفّزنا المعتقلين على تنظيم حفلة غنائية وسهرة مع دبكة شعبية لصرف انتباه جنود الاحتلال
أثناء وجودي في معسكر رقم(17) تحدثت سرّا مع بعض الأصدقاء من معسكر رقم(8) للهرب من المعتقل.. رسمنا الخطة، وطلبت نقلي من معسكر رقم(17) إلى معسكر رقم(8) حتى أتواجد رسميا هناك وكذلك" أحمد أبو سمرة"، فوافقت إدارة المعتقل على ذلك.. جلست هناك من الإخوة -وكان مختار المعسكر"عبد الكريم نجم"- واتفقنا على آلية الهروب ، و تتمثل في حفر نفق للتمويه شبه مكشوف، وحفر نفق آخر سرّي لا يعرفه إلا نحن بعمق مترين ونصف، فقمنا أولا بحفر النفق المكشوف بالأوتاد، و بالمجارف بعد سرقتها من سيارات النفايات الإسرائيلية، وبالشواكيش التي استطعنا الحصول عليها عن طريق رشوة الجنود بالتحف التي نصنعها داخل المعتقل من الخشب والصخر، و يبدأ الحفر نهارا، وما يفصلنا عن جنود الاحتلال، الأسلاك الشائكة، حيث كان يوجد سلك شائك، وبعده سلك شائك، وبعده سلك شائك، ومن ثم يليها ساتر ترابي عالٍ، ولا يتحرك الجنود إلا في داخل المجنزرات، لهذا كنّا بعيدين نوعا ما عن أنظارهم، ونحفر داخل خيمة مغلقة بحرامين، ونضع التراب المحفور في صناديق ونزرع فيها بذور ورود كان يحضرها لنا الصليب الأحمر،ثم نضعها على فوهة النفق وتحت الأسرّة، وأحيانا نضع التراب في مجاري المغاسل، أو في حفر الإمتصاص، وكان "أحمد أبو سمرة، وكمال نعالوه" مكلفين بحراسة النفق، وحتى لا ينكشف أمر النفق السرّي، وضعنا عليه صندوقا خشبيا، ووضعنا ترابا فيه، وزرعنا فيه شتلات بندورة، وقد صنعناه من الألواح الخشبية التي أحضروها لنا لوضعها تحت الفرشات.. من عادة الجنود يوميا أن يجمعوا الأسرى في ساحة المعسكر للعدد والتفتيش، وصرنا نحمل هذا الصندوق ونغلق به فوهة النفق قبل التفتيش والعدد، ناهيكم عن أن المسؤول عن خيمة المطبخ كان مختارنا"عبد الكريم" حافظ سرّنا، ومن ضمن المجموعة المخططة، وهذه الخيمة، هي الوحيدة التي لم تتعرض للاحتراق سابقا عندما أحرقنا الخيام، لذلك لم نلفت انتباه أحدا، وستطعنا الحفر لمسافة (37) مترا تحت الأرض، واستغرق العمل لمدة(37) يوما متواصلا شارك فيه(15) فدائيا.. عندما وصلنا خلف خيمة المطبخ، واجهتنا مشكلة الصخور، فانحرفنا إلى تحت السلك الشائك الواقع تحت الساتر الترابي المنصوب عليه برج الحراسة العسكرية الإسرائيلية، وكذلك ظهور تسرب مياه المجاري، والأوتاد الحديدية للشيك.. ما هي إلا لحظات حتى فتح النفق من أعلى الساتر عند الساعة الرابعة عصرا بتاريخ8/8/1983.. أحضرنا فرشة اسفنجية فورا مع صندوق خشبي، ورفعنا الأوتاد الحديدية من داخل النفق، واغلقنا الفوهة حتى لا يكشف الحارس أمرنا.. عدنا واجتمعنا، وقررنا الهرب في هذه الليلة..بدأنا نزحف على بطوننا داخل النفق إلى الشيك، ومن ثم إلى الساتر الترابي تحت برج الحراسة..انتظرنا حتى الساعة الثامنة ليلا بعد مغيب الشمس..قسمنا أنفسنا إلى مجموعات، وكانت مجموعتي رقم(8)، وأتفقنا أن يهرب أولا من حفروا النفق، وكان عددهم(15) أسيرا فدائيا فتحاويا.. كما حفّزنا المعتقلين على تنظيم حفلة غنائية وسهرة مع دبكة شعبية حتى نصرف انتباه جنود الاحتلال الحراس.. هكذا بدأت السهرة الغنائية عند الساعة الثامنة ليلا، ونحن تقدمنا زحفا غير آبهين بالجراح التي تحدثها الأسلاك الشائكة، وأزحنا الأوتاد الحديدية إلى ناحية ودخلنا تحت برج الحراسة مباشرة، ومن ثم إلى ناحية شارع الدوريات العسكرية، ويليه السلك الشائك الثاني، وكل واحد بعرض أربعة أمتار ..فتحنا به فتحة وهربنا ناحية الوادي السحيق، وتبعتنا مجموعات عدة حتى وصلنا الوادي المذكور، تجمّعنا هناك، وكنّا متفقين الذهاب إلى البقاع، لكن حصل ما لم نتوقعه، حيث انكشفت قصة هروبنا عندما كان أحد الأسرى خارجا من فوهة النفق صادفه عريف الحراسة يسير من فوق الساتر الترابي، و تفاجأ بخروج الأسير من تحت الأرض..رمى سلاحه من الخوف، وهرب وهو يصرخ.. طبعا الأسير لم يتمكن من الهرب فعاد أدراجه إلى المعتقل ثانية، فيما بدأ جندي الحراسة باطلاق الرصاص، وعمّت حالة من الارتباك في صفوف الصهاينة، وشغلوا الكشافات الليلية، وأطلقوا القنابل المضيئة، وانتشر الجيش بحثا عن الفارين.. ألقوا القبض على بعض المجموعات وهي في طريقها للخروج، فيما تمكن(76) فدائيا أسيرا من الهرب معنا.. بعد احساسنا بأن النفق انكشف أمره، قسّمنا أنفسنا إلى مجموعا عشوائية على وجه السرعة، واستغلينا خروج الجيش من المعسكر وارتباكه، وعدنا وهربنا من وسط المعسكر.. بعد نصف ساعة من الركض بين الأشجار، بدأ الطيران الإسرائيلي بإلقاء القنابل المضيئة.. كنّا نستغل بداية إطلاق القنابل، وقبل نهايتها ونركض لأن إضاءتها تكون ضعيفة، واستمرّينا في الركض حتى وصلنا منطقة تدعى"صربة" تابعة لكتائب جيش لَحِد الموالية لإسرائيل عند فجر اليوم التالي، بدون سلاح، ولا غذاء، وكان معي ثمانية فدائيين.. وصلنا إلى غرفة لاسلكي للكتائب، وفيها شخصان.. فاجأناهما، واستولينا على سلاحيهما.. عند أذان الصباح وصلنا قرية تدعى "عرب الجل" ونعرف بعض المواطنين فيها.. بعثنا "وضاح"و"محمود سعد" رحمة الله عليه، ونحن اختبأنا داخل بيارة حمضيات وتوارينا عن الأنظار.. ذهبا معا إلى هناك، وأحضرا لنا ثلاثة شبان من القرية بالإضافة إلى علب سجائر، وراديو، وملابس.. سألناهما عن امرأة لبنانية صاحبة نوفوتيه، وكان لها اتصالات مع الأخ القائد الشهيد "أبي جهاد" ..دلّونا عليها، وفي نفس اليوم ذهبت إلى البقاع، وقابلت "أبا جهاد" ، واتفقت معه على إرسال سيارة محملة بالحمضيات لتهريبنا فيها بين الصناديق من هذه القرية التي كانت تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي.. في تلك الفترة كانت حركة فتح تعاني من انشقاق جماعة أبو موسى عنها في "طرابلس"..
الاختباء في "وادي جهنم" المخيف، وحدوت معجزة إلهيّة
دخل جندي لحدي مع كلبه البلوليسي إلى تحت الشجرة التي اختبأنا تحتها وخرج
أكلنا علبة سردين مع ورق النعناع البرّي النابت على ضفاف مياه"وادي جهنم" الجارية من الجوع
عادت هذه المرأة الفاضلة إلينا، وأخبرتنا بالخطة، وطلبت منّا عدم الخروج لأن كتائب جيش لحد تفتش عن قاتلي أفرادها في المنطقة.. طلبنا منها تأمين سلاح لنا، كما نصحونا شباب قرية"الجل" بالذهاب إلى "وادي جهنم "والتخفّي هناك.. هذا الواد سحيق جدا ومليء بالأفاعي والأشجار الكثيفة، وخطير جدا..نزلنا إليه في نفس اليوم واختبأنا تحت شجرة كبيرة وارفة الظلال، وتتدلى غصونها على الأرض..كان جنود كتائب لحد يفتشون في "وادي جهنم"، ودخل جندي برفقة كلبه البوليسي إلى تحت الشجرة حيث نختبئ وخرج، وحصلت هنا معجزة، بأنه لم يرَنا، لا هو، ولا كلبه سبحان الله، ومن كثرة الجوع أكلنا علبة سردين كانت بحوزتنا مع ورق النعناع النابت على ضفاف مياه"وادي جهنم" الجارية..هنا أصرّينا على التحرك ليلا من المنطقة لأننا نعرف المناطق في جنوب لبنان، وكان معنا شابين من مخيم"عين الحلوة" و"صور"، أوصلناهما إلى مشارف "عين الحلوة" و"صيدا" المحتلة، وبقينا ستة فدائيين.. اصبحت تحركاتنا أثناء الليل فقط حتى وصلنا إلى امرأة فلسطينية صاحبة دكانة في منطقة"شحيم" تدعى"أم العبد كروم"، وهناك رأونا أهل المنطقة أثناء الليل، ونحن نحمل على ظهورنا شنطات مصنوعة من بقايا شوادر الخيام التي حرقناها في معسكر "أنصار" الصهيوني، واعتقد أهل المنطقة بأننا من الكتائب حتى وصلنا إلى هذه المرأة الطيّبة، واستقبلتنا في منزلها، وأخبرناها عن ابنها الذي كان معتقلا معنا...جلسنا هناك خلال هذه الفترة، وكان معنا من ضمن المجموعة فدائيا فتحاويا من الدروز يدعى" وجدي"، وهو ابن هذه المنطقة، طلبنا منه الذهاب إلى موقع كتيبة" الجرمق" الفتحاوية، وإبلاغها بمكان وجودنا، واتفقنا أن نلتقي معه في ساعة محددة، وإذا لم يعد سنغادر المكان فورا..ذهب هذا الفدائي المناضل..انتظرناه حتى الساعة المتفق عليها، ولم يعد!! أثناء ذلك أرسلت لنا هذه المرأة شابين لبنانيين فتحاويين، وقالا لنا: لقد اتصلنا بـ "وليد جنبلاط" ونستطيع إيصالكم إلى جماعته، وهي ستساعدكم؟؟؟.. أحضر الشابان سيارة مارسيدس..ركبنا فيها، وأوصلانا إلى منطقة"المختارة"، حيث يوجد مقر "وليد جنبلاط"..استقبلونا..طلبنا منهم سلاحا مع ذخيرة لحماية أنفسنا.. لقد كانت جماعة "جنبلاط" في حرب مع كتائب لحد الموالية لإسرائيل حينئذ.. طلبوا منا تدريبهم على كيفية استخدام راجمات الصواريخ (بي،أم،بي) لأنهم لا يعرفون كيفية استخدامها.. رفضنا ذلك، وكان المسؤول العسكري لمنطقة "المختارة" يدعى "نصري"، وأبلغنا هذا الأخير: بأن "جنبلاط" نسّق مع "أبي جهاد" بخصوصكم.
أُستشهد الشابان القادمان لإنقاذنا، وكذلك فدائيان من مجموعتي داخل سيارة الإسعاف مع سائق السيارة، أما أنا فقد أصبت بـ(13) رصاصة، واعتقال الآخرين المصابين بجراح
نظرت إلى الخارج من النافذة، فرأيت سياراتهم تسير مع المجنزرات الإسرائيلية؟؟..هنا قررنا الخروج من هناك..أثناء جلوسنا مساء في نفس اليوم، أحضر"نصري" معه إلينا شخصا ما، وعرّف على نفسه بأنه ضابط درزي لبناني، ولكن اكتشفنا أنه درزي إسرائيلي من خلال اسئلته ونقاشه معنا عندما سألنا عن النفق، وكيفية الهروب، والمعدات التي استخدمت، ثم خرج!! فهمت من ذلك بأنه ضابط إسرائيلي على الفور.. أصرّينا على الخروج عصر ثاني يوم، فأبلغونا :أن أبا جهاد يطلب منكم الخروج إلى ناحية "البقاع"..أحضروا لنا سيارة إسعاف عسكرية من نوع تيوتا وسائقها ملازم أول يدعى" سمير" الله يرحمه.. ركبنا السيارة وسرنا على طريق خاصة بالدروز محفورة بين الجبال، أثناء سيرنا شاهدت سيارة لاندروفر قادمة من أمامنا، ومَنْ بداخلها أشروا لنا بالتوقف!! لم نعرفهم في البداية.. قلت للسائق أسرع.. عادوا وساروا خلفنا، ولم أعرف بأنهم من كتيبة الجرمق الفتحاوية؟ تجاوزونا ثم توقفوا أمام سيارتنا، هنا تعرّف عليهم"كمال نعالوه" من الشويكة الذي كان معنا، لكن في هذه الأثناء -وقبل أن يقولا لنا بضرورة تغيير الطريق لمعرفتهم بوجود جيش إسرائيلي على الطريق- تفاجأنا بمجنزرة إسرائيلية، وكمين إسرائيلي أمامنا، فسارعنا إلى اطلاق الرصاص تجاه أول جندي إسرائيلي شاهدناه واقفا على الشارع ، وبعد ذلك فتحوا نيرانهم والرصاص مثل المطر من كل الاتجاهات نحونا، رأيت سيارتنا تقفز إلى أعلى من الرصاص فاستشهد إثر ذلك الشابان القادمان لإنقاذنا، وكذلك استشهد فدائيان من مجموعتي داخل سيارة الإسعاف، وهما: كمال نعالوة، محمود سعد، بالإضافة إلى سائق السيارة الدرزي، بينما أنا أصبت ب(13) رصاصة في جميع أنحاء جسدي، وكذلك من بقي معي من الفدائيين، وأغمي علينا لثوانٍ.. توقف الرصاص..اقتربوا من سيارتنا..صعدوا إليها ..قلّبونا ثم نزلوا..بعد استيقاظي من غيبوبتي وبدأت أتحرك.. شاهدوني وعادوا مرة ثانية، وصعدوا إلى السيارة..فحصونا.. فوجدوا أن ثلاثة جرحى منا ما زالوا على قيد الحياة.. أنزلونا من السيارة، ثم وضعونا على أرض الشارع، وتركونا.. بعد ذلك جاء الضابط الإسرائيلي الذي قابَلَنا في قصر "وليد جنبلاط"..وقف بجانبنا.. نظر إلينا ثم انصرف..هنا تأكدت بأن "نصري" الذي أحضر هذا الضابط الإسرائيلي إلى قصر"جنبلاط" هو عميل..بعد ذلك نقلونا إلى جبل "البارون" حيث يتمركز جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأسرونا ثانية.. لفّونا بورق سلفان أبيض اللون،وبعد ساعة ونصف، أحضروا طائرة مروحية، ونقلونا إلى مشفى "رمبم" العسكري بمدينة "حيفا" داخل فلسطين المحتلة، ورفض هذا المشفى استقبالنا، فحولونا إلى مستشفى آخر في مدينة "صفد"، وهناك قرروا قطع ساقي اليسرى بعملية جراحية..فرفضت هذه العملية.. وضعوني داخل غرفة الموتي! وكنت أغيب عن الوعي ثم أصحى من شدة الألم.. بعد ذلك، جاءني طبيب عربي، وطلب منّي التوقيع على العملية..
سألته: ماذا تريد أن تعمل؟..
- اطمئن ولا تخف..
فوقّعت له، وأنا ما بين الحياة والموت.. أدخلوني إلى غرفة العمليات.. متى استيقظت ؟لا أدري بعد العملية.. لكن ما أن فتحت عينيّ حتى وجدت المحققين فوق رأسي، وكنت مقيدا بالجنازير بالسرير، ولا يتحرك أي شيء من جسدي سوى اليد اليمنى.. مكثت في المستشفى لمدة (17) يوما مع حراسات عسكرية مشددة عليّ، وعلى باب الغرفة.. ثم نصحني هذا الطبيب العربي بأن أطلب إرجاعي إلى معتقل "أنصار" الصهيوني خوفا على حياتي من الاختفاء!! وكذلك الإضراب عن الطعام إذا رفضوا طلبي.. لأنهم كانوا يمنعون زيارة الصليب الأحمر لي.. طالبت إدارة المستشفى بضرورة إعادتي إلى معتقل أنصار بحجة عدم تكملة العلاج اللازم.. فرفضت الإدارة!! أعلنت بعد ذلك الإضراب عن الطعام.. جاء المحققون، وقالوا لي:
- لم ينتهِ علاجك بعد، وبعدها نرسلك إلى هناك..
قلت لهم: أريد الذهاب إلى هناك، وأرفض البقاء هنا، ومُصرّ على إضرابي عن الطعام..
استجابت الإدارة لطلبي بعد جهد جهيد..أحضروا سيارة صغيرة الحجم ونقلوني فيها وأنا مقيّد اليدين، والرجلين حتى أوصلوني معتقل "أنصار" في جنوب لبنان الذي هربنا منه. أما الجريحان الآخران فكانت جراهما طفيفة، وبكامل وعيهما، ونقلوهما إلى المعتقلات الإسرائيلية، فيما لم نعرف ماذا فعلوا بجثث الشهداء، وما هو مصيرها !!
نعود إلى معتقل أنصار (1).. عندما وصلت هناك، استقبلني إخوة السلاح استقبال الأبطال، وساعدوني بكل شيء، مثل: الذهاب إلى الدورة الصحية، والإغتسال، والأكل، والمشي حتى تشافيت وتعافيت.. ووجدت هناك أيضا مجموعات تخطط لحفر نفق جديد للهرب ثانية، وطلبت هذه المجموعات منّي مساعدتها حتى لو حملني أعضاؤها على أكتافهم.. مكثت في مستشفى معتقل "أنصار" لغاية23/11/1983 بعد ذلك، صارت عملية تبادل الأسرى مقابل ستة جنود إسرائيليين، و تم نقلنا بطائرات سويسرية إلى مطار "اللد" في فلسطين، ومن هناك إلى "مصر" ، ثم إلى " الجزائر" ، أي نفونا وأبعدونا عن الوطن بعد اعتقال دام (18) شهرا، وقد سميت مجموعتهم لاحقا بمجموعة "المختارة"... وسميت بهذا الاسم نسبه لأرض المعركة التي تم فيها أسرهم،وهي منطقه (المختارة)، وهي منطقه في "الشوف" تابعة للدروز، ومعقلا لـ" وليد جنبلاط" في لبنان، وسميت معركة "المختارة"...
كما تعرضت إلى اعتقال آخر في عام 1986م عندما خرجت مع (50) فدائيا في باخرة من الجزائر إلى لبنان في مهمة لفك الحصار عن المخيمات الفلسطينية، أثناء سيرنا في عرض البحر الأبيض اعترضنا جيش الاحتلال الإسرائيلي، واعتقلنا جميعا لمدة سنتين في المعتقلات الصهيونية، ثم أفرجوا عنّا بعد قضاء المدة، وعدنا إلى "الجزائر" من جديد.
الأهل لا يعرفون عنه شيئا، و هو لا يعرف عنهم شيئا
صار "حميد" في عالم المجهول
طوال هذه الفترة من النضال والتضحيات انقطعت أخباري عن الأهل ولم أعد إلى سوريا منذ انضمامي إلى حركة التحرير الوطني -فتح، وكانت تصلهم الأخبار عنّي من خلال الشباب السوري في لبنان أني شهيد، بينما كانت رسائلي مع الصليب الأحمر تخبرهم بأني أسير.. لقد قطع الأهل الأمل في العثور عليّ أو على طرف خيط يوصهم لي وصرت مجهول المكان، لا يعرفون عني شيئا، ولا أنا أعرف عنهم شيئا، وقصتي أضحت من قصص الخيال والميؤوس منها، واستمر هذا الحال من العذاب حتى عودة السلطة الوطنية الفلسطينية لأرض الوطن1994 فعدت معها إلى فلسطين..
بداية التواصل.. المفاجأة المحزنة، والمفجعة
طبعا عاد"حميدي" إلى فلسطين التي ضحى من أجلها وأجل شعبها، وهو يعتبر نفسه جزءا من الشعب الفلسطيني الذي احتضنه وجزءا من ثورته الفلسطينية، وبدأ يتحرك، ويزور رفاق البندقية، ويتواصل معهم، و كان من بينهم صديق له يدعى" أبو الليل" يسكن في منزل يقع على مدخل حارة"القيسارية" بمدينة نابلس، ويتردد على هذا الصديق الصدوق بين الفينة والأخرى..في إحدى زياراته عرّفه "أبو الليل" على صديق، له دكان في الحارة، ويدعى "نايف" كما عرّفه على منزله.. فما كان من الأخ "نايف" إلا أن عزم على "أبي الليل" و"حميد" لتناول طعام الغداء في منزله سوية.. فوافقا على هذه الدعوة.. حان وقت الغداء.. توجها إلى منزل "نايف"..أثناء تناولهم للطعام قال "حميد":
-هذا طعام أهل سوريا يا جماعة.
فرد عليه "نايف": زوجتي شامية يا رجل، ووالدتي شامية، وأخوالي كذلك أيضا!!
كانت فرحته كبيرة بهذه الجمعة الطيبة.. تناول طعامه بشراهة..
-طالما الأمر هكذا، أريد من زوجتك، وأهلها في سوريا أن يبحثوا لي عن أهلي في "أعزاز" بسوريا..
قصة زواجه، بداية التواصل مع أهله بسوريا
تقول ابتهال شقيقة "نايف" عن قصة زواجها من "حميد": في أحد الأيام كان "حميد" معزوم على عرس في قرية "تياسير" بمحافظة طوباس، فجاء إلى منزل شقيقي"نايف" لسؤاله عما إذا بحثوا عن أهله أم لا؟ وكان ذلك يوم الجمعة 17/4/2000 ، وذهب شقيقي معه إلى العرس.. أثناء عودتهما اتصل شقيقي بنا، وطلب تحضير الطعام لضيف معه.. طبعا جهّزنا الطعام، تناولا الطعام معا، ثم لعبا الورق حتى الساعة الحادية عشرة ونصف ليلا، طلبت زوجة شقيقي من "حميد" عنوان أهله في سوريا، وكنت أنا أغلي في بكرج القهوة، ثم طلبت منّي إدخال القهوة للضيف، وإعطائه عنواني في وزارة التربية والتعليم العالي بمدينة رام الله كي يتواصل معي "حميد" بدلا من الذهاب إلى مدينة نابلس.. ففعلت وأعطيته عنواني، وهنا رآني "حميد"، وكانت تلك بداية التعرّف عليه.. في صباح اليوم الثاني اتصل بي، وقال: أنا أريد الزواج منك، فهل توافقين على ذلك؟ قلت له: هذا كلام رجال، وليس كلامي.. وتفاجأت عندما عدت إلى منزلنا في مدينة نابلس بعد نهاية الدوام بوجوده في المنزل ، وصار قارئ الفاتحة مع شقيقي.. طبعا عندما زارنا في المنزل.. نظرت إليه من ثقب الباب.. وقلت في نفسي: من يضحي بنفسه لأجل وطن سوف لن يترك زوجته.. فوافقت على الزواج منه، عندما طلب يدي رسميا.. لم أكن أعرف شيئا عن المقدم والمؤخر..عندما ذهبنا لكتب الكتاب في محكمة نابلس الشرعية.. صرت أرتجف عندما جاء دور كتب الكتاب مع أن القاضي صاحب والدي، والمحكمة تقع في نفس شارع دكان والدي.. لحظات وسأل القاضي:
-كم هو المقدم؟
صرنا نتطلع بنظرات تساؤلية.. أنا طلبت ليرة !!
-كم هو المؤخر؟
لا جواب .. فكتب القاضي المؤخر من عنده، والعريس "حميد" وافق على ذلك ، وقال للقاضي: أنا أريد شريكة حياة، وليس شراء سلعة والحمد لله..
وهكذا تزوج"حميد" من "ابتهال" بتاريخ11/6/2000، ومع مرور الوقت أنجبا الطفل"أحمد"، والآن يعيشان حياة سعيدة وهانئة ومحبة... وصار "حميد" يعشق مدينة نابلس، ويقول عنها بأنها سوريا، نظرا لوجود كثير من الأسماء الدمشقية تزيّن المحال التجارية وغيرها ، وخاصة أن هذه المدينة تلقب بـ"دمشق الصغرى".
لحظة اللقاء الهاتفي الأول..شقيقتي تبكي وأنا أبكي
وحرمت من سماع صوت والذي وجدته متوفيا
لم تنسَ" زوجة نايف" طلب صهرهم "حميد" البحث عن أهله، واتصلت فورا بأخيها في سوريا، وطلبت منه الذهاب إلى بلدة "أعزاز" مسقط رأس"حميد"..فذهب إلى هناك، والتقى مع ابن خالته"أحمد العبود"، وحصل منه على أرقام هواتف منزل عمه، وهاتف منزل شقيقته "فتنة"، وهنا يقول "حميد":
حصلت على هذه الأرقام، واتصلت في بادئ الأمر بشقيقتي"فتنة"، وقلت لها : أنا حميد يا أختي أنا عايش وحي يرزق.. فلم تتوقع ظهوري.. فأغمي عليها فورا.. جاء نجلها الكبير"محمد" مسك الهاتف، وصار يغلط عليّ عبر الهاتف.. لأنه فكر في أول الأمر بأن شخصا ما يزعج فيهم!! وأغلق خط الهاتف بعد السباب والشتائم.. رجعت واتصلت مرة ثانية.. ردّ علي ابن شقيقتي.. صرت أشرح له أشياء حقيقية لإقناعه.. أثناء ذلك، عادت شقيقتي إلى وعيها، وأمسكت الهاتف، وتحدثت معي وهي تبكي.. وتبكي بحرقة المشتاق، وأنا بدأت أبكي..أبكي، وطال شرحي لها عن اختفائي طوال هذه المدة.. لكن من المؤسف جدا، عندما سألت عن الوالد، وجدته متوفيا قبل شهرين من اتصالي،أي خلال شهر 7/2000.. فلم يحالفنِ الحظ بسماع صوت أبي الذي عانى الكثير في غيابي.. وفي عام 2009 أرسلت زوجتي"ابتهال" ونجلي أحمد" إلى هناك للتعرف على الأهل، وكان ذلك أول لقاء وفرحة لا توصف...
من ناحيته العقيد " أحمد سالم أبو سمرة" الذي أطلق على موقعه في الفيس بوك اسم"النفق" هو أحد أفراد هذه المجموعة، ويذكر أسماء الأعضاء ، وأن جثامين الشهداء في مقابر الأرقام..
أبطال نفق أنصار، ومعركة المُختارة، هم:
1- الشهيد "كمال أحمد يوسف نعالوه" فلسطيني من طولكرم وعضو في الكتيبة الطلابية – كتيبه الجرمق.
2- الشهيد " محمود سعد " فلسطيني من مخيم اليرموك
وهو أحد عناصرالجبهة الشعبية.
3-عادل محمود سليمان قائد العملية، أصيب
بجراح وهو سوري من مدينة حلب، وتابع لـ" قوات القسطل "
4- حميد علي برهـو (جريح) - سوري من مدينة حلب تابع لـ" قوات القسطل "موجود في فلسطين..
5- أحمد سالم أبو سمـرة (جريح) فلسطيني من غزة
6- حسن زكيـة، فلسطيني من لبنان تابع لـ" قوات القسطل "
7-عدنان شمـه، لبناني من مدينه صور لبنان وتابع لـ" قوات القسطل "
8- وجدي عدنان لبناني وتابع لـ"الكتيبة الطلابية كتيبه الجرمق".
هذه هي قصة المناضل النقيب "حميد حميدي" الذي نذر نفسه للدفاع عن فلسطين وأهلها، واختفت آثاره عن أهله لمدة تزيد عن(22) عاما، تعرّض خلالها للإعتقال، والتعذيب والإصابات، والنفي، والتشرّد حتى عاد إلى وطنه فلسطين..
___________
[email protected]
قصة "حميد" قضية شعب..وقصة بطولة، وتضحية، وشرف
قصة مناضل نذر نفسه للدفاع عن فلسطين وأهلها، واختفت آثاره عن أهله لمدة تزيد عن(22) عاما، واعتقدوا أنه شهيد، و تعرّض خلالها للإعتقال، والتعذيب والإصابات، والنفي حتى عاد إلى وطنه فلسطين..
بقلم الكاتب: نصير أحمد الريماوي
12/2/2017م
"حميد" شاب متوسط القامة، قمحي البشرة، وشعره خروبي، كان في ريعان شبابه عندما اختفت آثاره، وانقطعت أخباره عن أهله في مدينة "أعزاز" بمحافظة حلب السورية بعدما أنهى الصف السادس الإبتدائي في مدينة "سد الفرات" التابعة لمحافظة الرّقة في عام 1974م، وقطع أهله الأمل بالعثور عليه بعدما كانت تصلهم الأخبار تلو الأخبار المتضاربة، تارة بأنه استشهد، وتارة أخرى بأنه مصاب بجراح خطيرة؟...
لقد استمرت معاناة أهله أكثر من (22) سنة متواصلة، منذ عام 1978حتى عام 2000 إلى ما بعد عودة سلطتنا الوطنية إلى أرض الوطن...
قصة"حميد" هي قصة بطولة وتضحية وشرف، لقد نذر نفسه للدفاع عن القضية الفلسطينية كباقي السورين الشرفاء الذين انضموا لحركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح وغيرها، وكان لي الشرف التعرّف عليه من خلال زوجته"ابتهال" التي تعمل معنا في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، فكان "حميد" يتردد على الوزارة بسيارته لزيارة زوجته مع اقتراب انتهاء الدوام، لإعادتها معه في السيارة إلى المنزل برفقة نجله الصغير"أحمد" البالغ من العمر12سنة حاليا...
في أحد الأيام، أثناء زيارتي لموظفة تعمل معها في نفس القسم، صرنا نتحدث عن قصة لأحد أقربائها، فما أن سمعتنا الأخت "ابتهال" حتى بادرت بالحديث عن قصة زوجها المجهولة، والمثيرة للإنتباه مما أثارت فضولي، والاستماع لها، وشغفي لكتابتها.. طلبت منها الاستئذان من زوجها إن رغب في سرد قصته لي شخصيا لكتابتها ونشرها علّ هذه القصة تساهم في طمأنة أهله بعد طول غياب..
مرّت بضعة أيام على حديثنا،ثم جاءت -بعد التشاور مع زوجها- و أخبرتني بأن زوجها"حميد" على استعداد لسرد قصته، واللقاء معي. لقد أفرحني هذا الرّد، وحددنا موعد اللقاء.. فجاء "حميد" إلى مكتبي شخصيا.. تصافحنا، وتعارفنا على بعضنا ثم جلس..احتسينا القهوة معا، ثم بدأت بطرح الأسئلة عليه، مع رشفات القهوة، وقال: أنا اسمي "حميدي علي برهو حميدي" سوري الأصل من مدينة "أعزاز" بمحافظة حلب، ومن مواليد عام 1962م، وأسرتي مكونة من ثلاثة أولاد وثلاث بنات، لقد توفيت والدتي"عائشة"، وكان والدي يعمل في مجال التجارة.. بعد تركي للمدرسة، عملت في مصانع النسيج في مدينة حلب لمدة أربع سنوات، بعد ذلك سافرت إلى "لبنان" والتحقت بصفوف حركة فتح بتاريخ15/4/1978م مع قوات القسطل-سريّة الدّفاع، حيث كانت كتيبتنا في جنوب"صيدا" بلبنان، وكان عمري حينئذ (16) سنة.. وجاءت فكرة الإنضمام للثورة الفلسطينية أثناء عملي في مدينة "حلب" حيث صادفني شاب كان يرتدي الزّي الفدائي العسكري الفلسطيني، وشكل بسطاره المموه لما رأيته أعجبني.. سألت هذا الشاب:
- من أين لك هذا البسطار؟
- أنا فدائي في لبنان.
تحمّست لشراء مثل هذا الحذاء أو الحصول عليه..بحثت عن مثيله في المحلات التجارية بمدينة"حلب" فعثرت على واحدا، واشتريته فورا..في تلك الفترة لم تكن لدي بطاقة شخصية سورية لأنني كنت تحت السن القانونية.. لقد كانت رغبة جامحة لدى ابن خالتي"فاروق العبود" للذهاب إلى "لبنان" والعمل هناك- وهو يكبرني سنا- فسارعت إلى الطلب من والدي بالسماح لي بالذهاب معه إلى هناك للعمل معا في مجال البناء!!.. في بداية الأمر ، عارض والدي هذه الفكرة لأنني صغير السن، وبدون أوراق ثبوتية سوى شهادة الميلاد.. عندما لاحظ والدي إصراري على الذهاب باستمرار، اقتنع أخيرا.. لأنه لا يمكن الخروج إلا بضمانة الوالد، وموافقته الشخصية.. ذهبنا معا إلى مختار"أعزاز" والسرايا وحصلنا على الموافقة بناء على شهادة الميلاد فقط..كان ذلك في شهر نيسان من عام 1978، ذهبت مع ابن خالتي في سيارة أجرة إلى مدينة "زحلة" الواقعة في البقاع اللبناني..استأجرنا هناك مسكنا بجوار الأقارب ، وحصلنا على فرصة عمل في ورش البناء، لكن كان هدفي الشخصي من الذهاب إلى لبنان هو الانضمام إلى صفوف الفدائيين الفلسطينيين..بعد فترة وجيزة من العمل مع ابن خالتي تركته!! ثم عملت لوحدي في مجال البناء لمدة أسبوع.. خلال هذه الفترة أخذت أجرة أسبوع العمل، وذهبت إلى جنوب لبنان بدون علم أي أحد من الأقرباء!! حتى وصلت قرية"مغدوشة".. سكنت فيها، وعملت في البناء، ولم أكن أعرف التنظيمات الفلسطينية آنذاك، وما أعرفه فقط "أبو عمار" والثورة الفلسطينية.. أثناء عملي هناك كانت تمرّ في كل صباح من أمامي وأنا ذاهب إلى عملي سيارة "تيوتا" عسكرية للفدائيين، وتنقل التموين لهم، وخطر في بالي أن أوقفها.. أشرت لسائقها بالتوقف..توقف السائق، وقال:
- تفضل اركب..من أين أنت؟
- من سوريا، وأريد الانضمام إليكم!!
-تفضل اصعد إلى المركبة..
طلعنا معا، وأخذوني إلى القاعدة العسكرية في "صيدا" وكان قائدها"أبو محمد نايف" الذي استقبلنا وأخذوا منّي شهادة الميلاد وأرسلوها إلى قيادة "سريّة الدفاع"، عبأوا لي ذاتية ثم سلموني اللباس العسكري الفدائي المموه، والحذاء الفدائي المموه الذي حلمت بانتعاله... من هنا بدأ مشواري الكفاحي، والتدريب على كيفية استخدام الأسلحة.. بعد فترة جاء تقريري بالموافقة بعد البحث والتحرّي، وتفرّغت للعمل الوطني الفدائي منذ تاريخ15/4/1978م، والمشاركة في العديد من العمليات البطولية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي لغاية الإجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982م، و أنا مع"الحاج إسماعيل"- قوات القسطل..
المقنّعون
لقد كنت في "صيدا" بعد سقوطها في أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي إبان الاجتياح المذكورضمن قوات القسطل التابعة لسرية الدفاع، وكان معنا أيضا "فضل الريماوي- أبو عثمان" من بلدتكم "بيت ريما" الذي كان قائدا لفصيل فيها، خبأنا الأسلحة، بعدما تحاصرنا، أما أنا فقد كنت على سيارة مدفع رقم (106) ونقصف البوارج العسكرية الإسرائيلية الموجودة في عرض البحر الأبيض، وأثناء عودتي إلى الموقع قرب تلة"مار إلياس" التي كانت تتمترس عليها "كتيبة الشهداء" وكان قائدها "كمال الشيخ" التابعة لقوات القسطل، تفاجأت باحتلال هذه التلة من قبل جيش العدو، وقد أطلق جنود الاحتلال الإسرائيلي نحوي قذيفة فاصطدمت بحائط بيارة أشجار ليمون محاذية، خرجت من السيارة، وتركتها هناك، ودخلت إلى البيارة للتواري فيها، لكن كانت عيون الاحتلال المقنّعة منتشرة وتلاحقنا..جمعوا المواطنين في مجمع.. وصار جنود الاحتلال يمررونا من أمام المقنعين الموجودين داخل سيارات وعلى رؤوسهم أكياس سوداء اللون وفقط عيونهم البائنة.. يمررونا الواحد تلو الآخر من أمامهم للتعرف علينا، وعلى تنظيماتنا عن طريق التأشير بالأصبع تجاه الشخص المنظم حال مروره .. عندما جاء دوري. مرروني من أمام أحد المقنعين فأشار بإصبعه نحوي..
قلت له : لا تعذب حالك يا عميل أنا اعترفت"فتح"..
وقد استطعت التعرّف على هذا المقنّع من خلال التدقيق في عيونه البائنة، ومن خلال يده التي أشار بها تجاهي، وكان هذا المقنّع يدعى" المارد"!! ومن الرجال المحسوبين؟؟؟، وهو الذي قال لهم عنّي: بأن هذا الشخص هو سائق سيارة المدفع(106) المركونه هناك عند البيارة.. لم يتجرّأ أحد من جنود الاحتلال الاقتراب منها خوفا على حياتهم تحسبا لوجود متفجرات داخلها.. اقتادوني إليها ثم طلبوا منّي إخراج القذائف من داخلها.. أخرجتها حتى تأكدوا من عدم تلغيمها.. بعد ذلك وضعوا عصبة على عيني وقيّدوا يدي خلف ظهري واقتادوني ومن معي من المعتقلين إلى مجمع"الصّفا" داخل "صيدا"، وفي نفس اليوم نقلونا في باصات إلى معتقل"الجلمة" داخل فلسطين المحتلة ، وهو سجن قديم منذ الاستعمار البريطاني، ويبعد قرابة عشرة كيلو مترات عن مدينة "حيفا"، وكان عددنا كبيرا جدا(12000) معتقل، من بينهم (700) فدائي، وكان "ابن بلدتكم "فضل الريماي" معنا من ضمن المعتقلين، عندما وصلنا هذا المعتقل الصهيوني ألبسونا ملابس خضراء اللون،ثم تركونا في العراء لمدة عشرة أيام بلياليها في سهل جنين"الجلمة" وصوّرونا من جميع الجهات، ومن ثم نقلونا إلى الخيام في نفس المكان لمدة نصف شهر، وخلال هذه الفترة تعرضنا لمختلف أصناف التعذيب الوحشي والتجويع أثناء التحقيق..
مشاهد مروعة في معتقل أنصار، ودور المخاتير(العملاء) القذر
منا من استشهد تحت التعذيب، ومنا مَنْ قتلوه أثناء التعذيب، ومنا مَنْ اختفت آثاره، ومنا مَنْ أخفوا جثثهم
بعدها نقلونا إلى معكسر يدعى "أنصار" في جنوب لبنان، وضعونا داخل الخيام، وهذا المعتقل يتكون من(27) قسما، وكل قسم يحتوي على(500) شخص، وتلتف من حوله الأسلاك الشائكة والسواتر الترابية والحراسة المشددة ...هنا لم يكن يعرف عنّا الصليب الأحمر شيئا، ثم وضعوا مختار من عملائهم لكل قسم ليكون مسؤولا علينا!! وكان مختارنا لبناني يدعى" الكوثراني" (تم اغتياله لاحقا)، وهو من أوسخ ما رأته عيني في التعذيب، في هذا المعتقل استمر التعذيب الوحشي أثناء التحقيق: فمنا من استشهد تحت التعذيب، ومنا مَنْ قتلوه أثناء التعذيب، ومنا مَنْ اختفت آثاره، ومنا مَنْ أخفوا جثثهم، ناهيكم عن الحرمان من الأكل وإجبارنا على حمل الصخور الثقيلة، تحت الضرب بحبال مبلولة بالماء لتؤلمنا أكثر، وكان تعذيب المخاتير"العملاء" لنا يتم تحت حراسة جنود الاحتلال الصهيوني، وفي ظل التعتيم الإعلامي.. لقد استمر هذا الوضع لمدة ستة شهور متواصلة..
مظاهرة نساء المخيمات رفعت معنويات الأسرى
وقعت صداما أوقعت العديد من الجرحى المعتقلين، لكنهم حققوا مطالبهم
في أحد الأيام سمعنا أصوات النساء القادمة من المخيمات الفلسطينية بلبنان ناحية المعتقل تصدح بالهتافات الوطنية وسط مظاهرة صاخبة، فدبّت الحمية فينا عندما سمعنا أصواتهن الهادرة... قام المعتقلون مرة واحدة في جميع الأقسام، وانتفضنا داخل معسكر أنصار، وصارت مواجهة عنيفة بيننا وبين جنود الاحتلال وأعوانه..نحن نرشقهم بالحجارة وسيطرنا على بعض المجنزرات ، وهم يطلقون الرصاص تجاهنا، وعلى إثر ذلك أصيب العديد من المعتقلين بجراح، وكانت مطالبنا تتمثل فيما يلي:
- ضرورة تغيير مخاتير الأقسام "العملاء".
- تحسين نوعية الأكل.
- ضرورة وضع ألواح خشبية تحت فرشات النوم، لأنها كانت على التراب.
استجاب الصهاينة لمطالبنا، فقمنا على الفور باختيار مخاتيرنا بأنفسنا وتحقيق المطالب الأخرى..
كانت مظاهرة خارج المعتقل من النساء ومظاهرة داخل المعتقل نحن حققنا ما نريد بينما قمع جنود الاحتلال مظاهرة النساء هذه التي رفعت معنوياتنا وشدّت من أزرنا.
بعد ذلك أقدمت سلطات الاحتلال على تقسم معتقل "أنصار" إلى قسمين:
- المعسكرات الصيفية
- المعسكرات الشتوية
أنا نقلوني إلى المعسكرات الشتوية رقم(27) وكان مسؤوله"أبو علي مسعود"، هنا بدأنا بتنظيم أنفسنا بشكل أفضل وكل تنظيم يجمع شبابه، وكان المسؤول هو أعلى رتبة تنظيمة فينا، وصرنا نحدد المهام لمراقبة العملاء المدسوسين، ونطلع حراسات ليلية لمعرفة كيفية عمل العملاء، فكان كل عميل يكتب على ورقة ويضع حجرا بداخلها، ويلفها ويلقيها تجاه مجنزرة الاحتلال المارة أو تجاه الجنود أو تجاه الحراس أثناء الليل، كنا نراهم ونلقي عليهم القبض ونحقق معهم..وكان يصفني جنود الاحتلال في هذا المعتقل "بالمشاغب".. بعد ذلك صار الصليب الأحمر يزورنا في هذا المعسكر، ويحضر لنا موادا للرسم وألعابا، وينقل الرسائل.. في إحدى المرات أحضر لنا بلايز بيضاء اللون .. أعطيناها لرسام كان بيننا، ورسم عليها صورة للشهيد الرمز أبو عمار مع شعار العاصفة، وارتدينا هذه البلايز.. شاهد جنود الاحتلال هذا المشهد الوحدي والرسوم المعبرة فجنّ جنونهم، ووقعت صدامات بيننا وبينهم.. أحضروا مسؤول معسكرنا الشتوي"أبو مسعود" لتهدئة الوضع لكننا لم نرضخ لسياسة إسرائيل التي كانت ترمي إلى إجبارنا على خلع هذه البلايز، وأطقلوا على معسكر(27) بالمشاغب، كما قرروا تفريقنا عن بعضنا البعض وتوزيعنا على معسكرات أخرى، فأعادوني إلى معسكر رقم(17)..
أحرقنا جميع خيام معسكر أنصار
وحرمونا من الخيام لغاية تحررنا من هذا المعتقل خلال عملية تبادل الأسرى
هنا، اعترضنا على مرور المجنزرات من وسط المعسكرات، وصارت مشاحنات مع جنود الاحتلال، وقررنا إحراق الخيام في معسكر أنصار، وأشلعنا النيران فيها جميعها باستثناء خيمة المطعم، وكان ذلك في نهاية فصل الشتاء.. كعقاب لنا امتنعوا عن احضار خيام جديدة لنا، واستعنّا بأغطيتنا من، بطانيات وغيرها، وعملنا خيام تقينا شرد البرد، وفتحنا كل المعسكرات على بعضها البعض، وأزلنا الأسلاك الشائكة الفاصلة بين المعسكرات ، وصرنا نتنقل بحرية بين المعسكرات لغاية شهر6/1983 ، بينما حرمونا من الخيام لغاية تحررنا من هذا المعتقل خلال عملية تبادل الأسرى مقابل ستة جنود صهاينة في شهر 23/11/ 1983..
حفر النّفق، والهروب من المعتقل يوم 8/8 ، الساعة 8، والمجموعة رقمها 8
حفّزنا المعتقلين على تنظيم حفلة غنائية وسهرة مع دبكة شعبية لصرف انتباه جنود الاحتلال
أثناء وجودي في معسكر رقم(17) تحدثت سرّا مع بعض الأصدقاء من معسكر رقم(8) للهرب من المعتقل.. رسمنا الخطة، وطلبت نقلي من معسكر رقم(17) إلى معسكر رقم(8) حتى أتواجد رسميا هناك وكذلك" أحمد أبو سمرة"، فوافقت إدارة المعتقل على ذلك.. جلست هناك من الإخوة -وكان مختار المعسكر"عبد الكريم نجم"- واتفقنا على آلية الهروب ، و تتمثل في حفر نفق للتمويه شبه مكشوف، وحفر نفق آخر سرّي لا يعرفه إلا نحن بعمق مترين ونصف، فقمنا أولا بحفر النفق المكشوف بالأوتاد، و بالمجارف بعد سرقتها من سيارات النفايات الإسرائيلية، وبالشواكيش التي استطعنا الحصول عليها عن طريق رشوة الجنود بالتحف التي نصنعها داخل المعتقل من الخشب والصخر، و يبدأ الحفر نهارا، وما يفصلنا عن جنود الاحتلال، الأسلاك الشائكة، حيث كان يوجد سلك شائك، وبعده سلك شائك، وبعده سلك شائك، ومن ثم يليها ساتر ترابي عالٍ، ولا يتحرك الجنود إلا في داخل المجنزرات، لهذا كنّا بعيدين نوعا ما عن أنظارهم، ونحفر داخل خيمة مغلقة بحرامين، ونضع التراب المحفور في صناديق ونزرع فيها بذور ورود كان يحضرها لنا الصليب الأحمر،ثم نضعها على فوهة النفق وتحت الأسرّة، وأحيانا نضع التراب في مجاري المغاسل، أو في حفر الإمتصاص، وكان "أحمد أبو سمرة، وكمال نعالوه" مكلفين بحراسة النفق، وحتى لا ينكشف أمر النفق السرّي، وضعنا عليه صندوقا خشبيا، ووضعنا ترابا فيه، وزرعنا فيه شتلات بندورة، وقد صنعناه من الألواح الخشبية التي أحضروها لنا لوضعها تحت الفرشات.. من عادة الجنود يوميا أن يجمعوا الأسرى في ساحة المعسكر للعدد والتفتيش، وصرنا نحمل هذا الصندوق ونغلق به فوهة النفق قبل التفتيش والعدد، ناهيكم عن أن المسؤول عن خيمة المطبخ كان مختارنا"عبد الكريم" حافظ سرّنا، ومن ضمن المجموعة المخططة، وهذه الخيمة، هي الوحيدة التي لم تتعرض للاحتراق سابقا عندما أحرقنا الخيام، لذلك لم نلفت انتباه أحدا، وستطعنا الحفر لمسافة (37) مترا تحت الأرض، واستغرق العمل لمدة(37) يوما متواصلا شارك فيه(15) فدائيا.. عندما وصلنا خلف خيمة المطبخ، واجهتنا مشكلة الصخور، فانحرفنا إلى تحت السلك الشائك الواقع تحت الساتر الترابي المنصوب عليه برج الحراسة العسكرية الإسرائيلية، وكذلك ظهور تسرب مياه المجاري، والأوتاد الحديدية للشيك.. ما هي إلا لحظات حتى فتح النفق من أعلى الساتر عند الساعة الرابعة عصرا بتاريخ8/8/1983.. أحضرنا فرشة اسفنجية فورا مع صندوق خشبي، ورفعنا الأوتاد الحديدية من داخل النفق، واغلقنا الفوهة حتى لا يكشف الحارس أمرنا.. عدنا واجتمعنا، وقررنا الهرب في هذه الليلة..بدأنا نزحف على بطوننا داخل النفق إلى الشيك، ومن ثم إلى الساتر الترابي تحت برج الحراسة..انتظرنا حتى الساعة الثامنة ليلا بعد مغيب الشمس..قسمنا أنفسنا إلى مجموعات، وكانت مجموعتي رقم(8)، وأتفقنا أن يهرب أولا من حفروا النفق، وكان عددهم(15) أسيرا فدائيا فتحاويا.. كما حفّزنا المعتقلين على تنظيم حفلة غنائية وسهرة مع دبكة شعبية حتى نصرف انتباه جنود الاحتلال الحراس.. هكذا بدأت السهرة الغنائية عند الساعة الثامنة ليلا، ونحن تقدمنا زحفا غير آبهين بالجراح التي تحدثها الأسلاك الشائكة، وأزحنا الأوتاد الحديدية إلى ناحية ودخلنا تحت برج الحراسة مباشرة، ومن ثم إلى ناحية شارع الدوريات العسكرية، ويليه السلك الشائك الثاني، وكل واحد بعرض أربعة أمتار ..فتحنا به فتحة وهربنا ناحية الوادي السحيق، وتبعتنا مجموعات عدة حتى وصلنا الوادي المذكور، تجمّعنا هناك، وكنّا متفقين الذهاب إلى البقاع، لكن حصل ما لم نتوقعه، حيث انكشفت قصة هروبنا عندما كان أحد الأسرى خارجا من فوهة النفق صادفه عريف الحراسة يسير من فوق الساتر الترابي، و تفاجأ بخروج الأسير من تحت الأرض..رمى سلاحه من الخوف، وهرب وهو يصرخ.. طبعا الأسير لم يتمكن من الهرب فعاد أدراجه إلى المعتقل ثانية، فيما بدأ جندي الحراسة باطلاق الرصاص، وعمّت حالة من الارتباك في صفوف الصهاينة، وشغلوا الكشافات الليلية، وأطلقوا القنابل المضيئة، وانتشر الجيش بحثا عن الفارين.. ألقوا القبض على بعض المجموعات وهي في طريقها للخروج، فيما تمكن(76) فدائيا أسيرا من الهرب معنا.. بعد احساسنا بأن النفق انكشف أمره، قسّمنا أنفسنا إلى مجموعا عشوائية على وجه السرعة، واستغلينا خروج الجيش من المعسكر وارتباكه، وعدنا وهربنا من وسط المعسكر.. بعد نصف ساعة من الركض بين الأشجار، بدأ الطيران الإسرائيلي بإلقاء القنابل المضيئة.. كنّا نستغل بداية إطلاق القنابل، وقبل نهايتها ونركض لأن إضاءتها تكون ضعيفة، واستمرّينا في الركض حتى وصلنا منطقة تدعى"صربة" تابعة لكتائب جيش لَحِد الموالية لإسرائيل عند فجر اليوم التالي، بدون سلاح، ولا غذاء، وكان معي ثمانية فدائيين.. وصلنا إلى غرفة لاسلكي للكتائب، وفيها شخصان.. فاجأناهما، واستولينا على سلاحيهما.. عند أذان الصباح وصلنا قرية تدعى "عرب الجل" ونعرف بعض المواطنين فيها.. بعثنا "وضاح"و"محمود سعد" رحمة الله عليه، ونحن اختبأنا داخل بيارة حمضيات وتوارينا عن الأنظار.. ذهبا معا إلى هناك، وأحضرا لنا ثلاثة شبان من القرية بالإضافة إلى علب سجائر، وراديو، وملابس.. سألناهما عن امرأة لبنانية صاحبة نوفوتيه، وكان لها اتصالات مع الأخ القائد الشهيد "أبي جهاد" ..دلّونا عليها، وفي نفس اليوم ذهبت إلى البقاع، وقابلت "أبا جهاد" ، واتفقت معه على إرسال سيارة محملة بالحمضيات لتهريبنا فيها بين الصناديق من هذه القرية التي كانت تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي.. في تلك الفترة كانت حركة فتح تعاني من انشقاق جماعة أبو موسى عنها في "طرابلس"..
الاختباء في "وادي جهنم" المخيف، وحدوت معجزة إلهيّة
دخل جندي لحدي مع كلبه البلوليسي إلى تحت الشجرة التي اختبأنا تحتها وخرج
أكلنا علبة سردين مع ورق النعناع البرّي النابت على ضفاف مياه"وادي جهنم" الجارية من الجوع
عادت هذه المرأة الفاضلة إلينا، وأخبرتنا بالخطة، وطلبت منّا عدم الخروج لأن كتائب جيش لحد تفتش عن قاتلي أفرادها في المنطقة.. طلبنا منها تأمين سلاح لنا، كما نصحونا شباب قرية"الجل" بالذهاب إلى "وادي جهنم "والتخفّي هناك.. هذا الواد سحيق جدا ومليء بالأفاعي والأشجار الكثيفة، وخطير جدا..نزلنا إليه في نفس اليوم واختبأنا تحت شجرة كبيرة وارفة الظلال، وتتدلى غصونها على الأرض..كان جنود كتائب لحد يفتشون في "وادي جهنم"، ودخل جندي برفقة كلبه البوليسي إلى تحت الشجرة حيث نختبئ وخرج، وحصلت هنا معجزة، بأنه لم يرَنا، لا هو، ولا كلبه سبحان الله، ومن كثرة الجوع أكلنا علبة سردين كانت بحوزتنا مع ورق النعناع النابت على ضفاف مياه"وادي جهنم" الجارية..هنا أصرّينا على التحرك ليلا من المنطقة لأننا نعرف المناطق في جنوب لبنان، وكان معنا شابين من مخيم"عين الحلوة" و"صور"، أوصلناهما إلى مشارف "عين الحلوة" و"صيدا" المحتلة، وبقينا ستة فدائيين.. اصبحت تحركاتنا أثناء الليل فقط حتى وصلنا إلى امرأة فلسطينية صاحبة دكانة في منطقة"شحيم" تدعى"أم العبد كروم"، وهناك رأونا أهل المنطقة أثناء الليل، ونحن نحمل على ظهورنا شنطات مصنوعة من بقايا شوادر الخيام التي حرقناها في معسكر "أنصار" الصهيوني، واعتقد أهل المنطقة بأننا من الكتائب حتى وصلنا إلى هذه المرأة الطيّبة، واستقبلتنا في منزلها، وأخبرناها عن ابنها الذي كان معتقلا معنا...جلسنا هناك خلال هذه الفترة، وكان معنا من ضمن المجموعة فدائيا فتحاويا من الدروز يدعى" وجدي"، وهو ابن هذه المنطقة، طلبنا منه الذهاب إلى موقع كتيبة" الجرمق" الفتحاوية، وإبلاغها بمكان وجودنا، واتفقنا أن نلتقي معه في ساعة محددة، وإذا لم يعد سنغادر المكان فورا..ذهب هذا الفدائي المناضل..انتظرناه حتى الساعة المتفق عليها، ولم يعد!! أثناء ذلك أرسلت لنا هذه المرأة شابين لبنانيين فتحاويين، وقالا لنا: لقد اتصلنا بـ "وليد جنبلاط" ونستطيع إيصالكم إلى جماعته، وهي ستساعدكم؟؟؟.. أحضر الشابان سيارة مارسيدس..ركبنا فيها، وأوصلانا إلى منطقة"المختارة"، حيث يوجد مقر "وليد جنبلاط"..استقبلونا..طلبنا منهم سلاحا مع ذخيرة لحماية أنفسنا.. لقد كانت جماعة "جنبلاط" في حرب مع كتائب لحد الموالية لإسرائيل حينئذ.. طلبوا منا تدريبهم على كيفية استخدام راجمات الصواريخ (بي،أم،بي) لأنهم لا يعرفون كيفية استخدامها.. رفضنا ذلك، وكان المسؤول العسكري لمنطقة "المختارة" يدعى "نصري"، وأبلغنا هذا الأخير: بأن "جنبلاط" نسّق مع "أبي جهاد" بخصوصكم.
أُستشهد الشابان القادمان لإنقاذنا، وكذلك فدائيان من مجموعتي داخل سيارة الإسعاف مع سائق السيارة، أما أنا فقد أصبت بـ(13) رصاصة، واعتقال الآخرين المصابين بجراح
نظرت إلى الخارج من النافذة، فرأيت سياراتهم تسير مع المجنزرات الإسرائيلية؟؟..هنا قررنا الخروج من هناك..أثناء جلوسنا مساء في نفس اليوم، أحضر"نصري" معه إلينا شخصا ما، وعرّف على نفسه بأنه ضابط درزي لبناني، ولكن اكتشفنا أنه درزي إسرائيلي من خلال اسئلته ونقاشه معنا عندما سألنا عن النفق، وكيفية الهروب، والمعدات التي استخدمت، ثم خرج!! فهمت من ذلك بأنه ضابط إسرائيلي على الفور.. أصرّينا على الخروج عصر ثاني يوم، فأبلغونا :أن أبا جهاد يطلب منكم الخروج إلى ناحية "البقاع"..أحضروا لنا سيارة إسعاف عسكرية من نوع تيوتا وسائقها ملازم أول يدعى" سمير" الله يرحمه.. ركبنا السيارة وسرنا على طريق خاصة بالدروز محفورة بين الجبال، أثناء سيرنا شاهدت سيارة لاندروفر قادمة من أمامنا، ومَنْ بداخلها أشروا لنا بالتوقف!! لم نعرفهم في البداية.. قلت للسائق أسرع.. عادوا وساروا خلفنا، ولم أعرف بأنهم من كتيبة الجرمق الفتحاوية؟ تجاوزونا ثم توقفوا أمام سيارتنا، هنا تعرّف عليهم"كمال نعالوه" من الشويكة الذي كان معنا، لكن في هذه الأثناء -وقبل أن يقولا لنا بضرورة تغيير الطريق لمعرفتهم بوجود جيش إسرائيلي على الطريق- تفاجأنا بمجنزرة إسرائيلية، وكمين إسرائيلي أمامنا، فسارعنا إلى اطلاق الرصاص تجاه أول جندي إسرائيلي شاهدناه واقفا على الشارع ، وبعد ذلك فتحوا نيرانهم والرصاص مثل المطر من كل الاتجاهات نحونا، رأيت سيارتنا تقفز إلى أعلى من الرصاص فاستشهد إثر ذلك الشابان القادمان لإنقاذنا، وكذلك استشهد فدائيان من مجموعتي داخل سيارة الإسعاف، وهما: كمال نعالوة، محمود سعد، بالإضافة إلى سائق السيارة الدرزي، بينما أنا أصبت ب(13) رصاصة في جميع أنحاء جسدي، وكذلك من بقي معي من الفدائيين، وأغمي علينا لثوانٍ.. توقف الرصاص..اقتربوا من سيارتنا..صعدوا إليها ..قلّبونا ثم نزلوا..بعد استيقاظي من غيبوبتي وبدأت أتحرك.. شاهدوني وعادوا مرة ثانية، وصعدوا إلى السيارة..فحصونا.. فوجدوا أن ثلاثة جرحى منا ما زالوا على قيد الحياة.. أنزلونا من السيارة، ثم وضعونا على أرض الشارع، وتركونا.. بعد ذلك جاء الضابط الإسرائيلي الذي قابَلَنا في قصر "وليد جنبلاط"..وقف بجانبنا.. نظر إلينا ثم انصرف..هنا تأكدت بأن "نصري" الذي أحضر هذا الضابط الإسرائيلي إلى قصر"جنبلاط" هو عميل..بعد ذلك نقلونا إلى جبل "البارون" حيث يتمركز جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأسرونا ثانية.. لفّونا بورق سلفان أبيض اللون،وبعد ساعة ونصف، أحضروا طائرة مروحية، ونقلونا إلى مشفى "رمبم" العسكري بمدينة "حيفا" داخل فلسطين المحتلة، ورفض هذا المشفى استقبالنا، فحولونا إلى مستشفى آخر في مدينة "صفد"، وهناك قرروا قطع ساقي اليسرى بعملية جراحية..فرفضت هذه العملية.. وضعوني داخل غرفة الموتي! وكنت أغيب عن الوعي ثم أصحى من شدة الألم.. بعد ذلك، جاءني طبيب عربي، وطلب منّي التوقيع على العملية..
سألته: ماذا تريد أن تعمل؟..
- اطمئن ولا تخف..
فوقّعت له، وأنا ما بين الحياة والموت.. أدخلوني إلى غرفة العمليات.. متى استيقظت ؟لا أدري بعد العملية.. لكن ما أن فتحت عينيّ حتى وجدت المحققين فوق رأسي، وكنت مقيدا بالجنازير بالسرير، ولا يتحرك أي شيء من جسدي سوى اليد اليمنى.. مكثت في المستشفى لمدة (17) يوما مع حراسات عسكرية مشددة عليّ، وعلى باب الغرفة.. ثم نصحني هذا الطبيب العربي بأن أطلب إرجاعي إلى معتقل "أنصار" الصهيوني خوفا على حياتي من الاختفاء!! وكذلك الإضراب عن الطعام إذا رفضوا طلبي.. لأنهم كانوا يمنعون زيارة الصليب الأحمر لي.. طالبت إدارة المستشفى بضرورة إعادتي إلى معتقل أنصار بحجة عدم تكملة العلاج اللازم.. فرفضت الإدارة!! أعلنت بعد ذلك الإضراب عن الطعام.. جاء المحققون، وقالوا لي:
- لم ينتهِ علاجك بعد، وبعدها نرسلك إلى هناك..
قلت لهم: أريد الذهاب إلى هناك، وأرفض البقاء هنا، ومُصرّ على إضرابي عن الطعام..
استجابت الإدارة لطلبي بعد جهد جهيد..أحضروا سيارة صغيرة الحجم ونقلوني فيها وأنا مقيّد اليدين، والرجلين حتى أوصلوني معتقل "أنصار" في جنوب لبنان الذي هربنا منه. أما الجريحان الآخران فكانت جراهما طفيفة، وبكامل وعيهما، ونقلوهما إلى المعتقلات الإسرائيلية، فيما لم نعرف ماذا فعلوا بجثث الشهداء، وما هو مصيرها !!
نعود إلى معتقل أنصار (1).. عندما وصلت هناك، استقبلني إخوة السلاح استقبال الأبطال، وساعدوني بكل شيء، مثل: الذهاب إلى الدورة الصحية، والإغتسال، والأكل، والمشي حتى تشافيت وتعافيت.. ووجدت هناك أيضا مجموعات تخطط لحفر نفق جديد للهرب ثانية، وطلبت هذه المجموعات منّي مساعدتها حتى لو حملني أعضاؤها على أكتافهم.. مكثت في مستشفى معتقل "أنصار" لغاية23/11/1983 بعد ذلك، صارت عملية تبادل الأسرى مقابل ستة جنود إسرائيليين، و تم نقلنا بطائرات سويسرية إلى مطار "اللد" في فلسطين، ومن هناك إلى "مصر" ، ثم إلى " الجزائر" ، أي نفونا وأبعدونا عن الوطن بعد اعتقال دام (18) شهرا، وقد سميت مجموعتهم لاحقا بمجموعة "المختارة"... وسميت بهذا الاسم نسبه لأرض المعركة التي تم فيها أسرهم،وهي منطقه (المختارة)، وهي منطقه في "الشوف" تابعة للدروز، ومعقلا لـ" وليد جنبلاط" في لبنان، وسميت معركة "المختارة"...
كما تعرضت إلى اعتقال آخر في عام 1986م عندما خرجت مع (50) فدائيا في باخرة من الجزائر إلى لبنان في مهمة لفك الحصار عن المخيمات الفلسطينية، أثناء سيرنا في عرض البحر الأبيض اعترضنا جيش الاحتلال الإسرائيلي، واعتقلنا جميعا لمدة سنتين في المعتقلات الصهيونية، ثم أفرجوا عنّا بعد قضاء المدة، وعدنا إلى "الجزائر" من جديد.
الأهل لا يعرفون عنه شيئا، و هو لا يعرف عنهم شيئا
صار "حميد" في عالم المجهول
طوال هذه الفترة من النضال والتضحيات انقطعت أخباري عن الأهل ولم أعد إلى سوريا منذ انضمامي إلى حركة التحرير الوطني -فتح، وكانت تصلهم الأخبار عنّي من خلال الشباب السوري في لبنان أني شهيد، بينما كانت رسائلي مع الصليب الأحمر تخبرهم بأني أسير.. لقد قطع الأهل الأمل في العثور عليّ أو على طرف خيط يوصهم لي وصرت مجهول المكان، لا يعرفون عني شيئا، ولا أنا أعرف عنهم شيئا، وقصتي أضحت من قصص الخيال والميؤوس منها، واستمر هذا الحال من العذاب حتى عودة السلطة الوطنية الفلسطينية لأرض الوطن1994 فعدت معها إلى فلسطين..
بداية التواصل.. المفاجأة المحزنة، والمفجعة
طبعا عاد"حميدي" إلى فلسطين التي ضحى من أجلها وأجل شعبها، وهو يعتبر نفسه جزءا من الشعب الفلسطيني الذي احتضنه وجزءا من ثورته الفلسطينية، وبدأ يتحرك، ويزور رفاق البندقية، ويتواصل معهم، و كان من بينهم صديق له يدعى" أبو الليل" يسكن في منزل يقع على مدخل حارة"القيسارية" بمدينة نابلس، ويتردد على هذا الصديق الصدوق بين الفينة والأخرى..في إحدى زياراته عرّفه "أبو الليل" على صديق، له دكان في الحارة، ويدعى "نايف" كما عرّفه على منزله.. فما كان من الأخ "نايف" إلا أن عزم على "أبي الليل" و"حميد" لتناول طعام الغداء في منزله سوية.. فوافقا على هذه الدعوة.. حان وقت الغداء.. توجها إلى منزل "نايف"..أثناء تناولهم للطعام قال "حميد":
-هذا طعام أهل سوريا يا جماعة.
فرد عليه "نايف": زوجتي شامية يا رجل، ووالدتي شامية، وأخوالي كذلك أيضا!!
كانت فرحته كبيرة بهذه الجمعة الطيبة.. تناول طعامه بشراهة..
-طالما الأمر هكذا، أريد من زوجتك، وأهلها في سوريا أن يبحثوا لي عن أهلي في "أعزاز" بسوريا..
قصة زواجه، بداية التواصل مع أهله بسوريا
تقول ابتهال شقيقة "نايف" عن قصة زواجها من "حميد": في أحد الأيام كان "حميد" معزوم على عرس في قرية "تياسير" بمحافظة طوباس، فجاء إلى منزل شقيقي"نايف" لسؤاله عما إذا بحثوا عن أهله أم لا؟ وكان ذلك يوم الجمعة 17/4/2000 ، وذهب شقيقي معه إلى العرس.. أثناء عودتهما اتصل شقيقي بنا، وطلب تحضير الطعام لضيف معه.. طبعا جهّزنا الطعام، تناولا الطعام معا، ثم لعبا الورق حتى الساعة الحادية عشرة ونصف ليلا، طلبت زوجة شقيقي من "حميد" عنوان أهله في سوريا، وكنت أنا أغلي في بكرج القهوة، ثم طلبت منّي إدخال القهوة للضيف، وإعطائه عنواني في وزارة التربية والتعليم العالي بمدينة رام الله كي يتواصل معي "حميد" بدلا من الذهاب إلى مدينة نابلس.. ففعلت وأعطيته عنواني، وهنا رآني "حميد"، وكانت تلك بداية التعرّف عليه.. في صباح اليوم الثاني اتصل بي، وقال: أنا أريد الزواج منك، فهل توافقين على ذلك؟ قلت له: هذا كلام رجال، وليس كلامي.. وتفاجأت عندما عدت إلى منزلنا في مدينة نابلس بعد نهاية الدوام بوجوده في المنزل ، وصار قارئ الفاتحة مع شقيقي.. طبعا عندما زارنا في المنزل.. نظرت إليه من ثقب الباب.. وقلت في نفسي: من يضحي بنفسه لأجل وطن سوف لن يترك زوجته.. فوافقت على الزواج منه، عندما طلب يدي رسميا.. لم أكن أعرف شيئا عن المقدم والمؤخر..عندما ذهبنا لكتب الكتاب في محكمة نابلس الشرعية.. صرت أرتجف عندما جاء دور كتب الكتاب مع أن القاضي صاحب والدي، والمحكمة تقع في نفس شارع دكان والدي.. لحظات وسأل القاضي:
-كم هو المقدم؟
صرنا نتطلع بنظرات تساؤلية.. أنا طلبت ليرة !!
-كم هو المؤخر؟
لا جواب .. فكتب القاضي المؤخر من عنده، والعريس "حميد" وافق على ذلك ، وقال للقاضي: أنا أريد شريكة حياة، وليس شراء سلعة والحمد لله..
وهكذا تزوج"حميد" من "ابتهال" بتاريخ11/6/2000، ومع مرور الوقت أنجبا الطفل"أحمد"، والآن يعيشان حياة سعيدة وهانئة ومحبة... وصار "حميد" يعشق مدينة نابلس، ويقول عنها بأنها سوريا، نظرا لوجود كثير من الأسماء الدمشقية تزيّن المحال التجارية وغيرها ، وخاصة أن هذه المدينة تلقب بـ"دمشق الصغرى".
لحظة اللقاء الهاتفي الأول..شقيقتي تبكي وأنا أبكي
وحرمت من سماع صوت والذي وجدته متوفيا
لم تنسَ" زوجة نايف" طلب صهرهم "حميد" البحث عن أهله، واتصلت فورا بأخيها في سوريا، وطلبت منه الذهاب إلى بلدة "أعزاز" مسقط رأس"حميد"..فذهب إلى هناك، والتقى مع ابن خالته"أحمد العبود"، وحصل منه على أرقام هواتف منزل عمه، وهاتف منزل شقيقته "فتنة"، وهنا يقول "حميد":
حصلت على هذه الأرقام، واتصلت في بادئ الأمر بشقيقتي"فتنة"، وقلت لها : أنا حميد يا أختي أنا عايش وحي يرزق.. فلم تتوقع ظهوري.. فأغمي عليها فورا.. جاء نجلها الكبير"محمد" مسك الهاتف، وصار يغلط عليّ عبر الهاتف.. لأنه فكر في أول الأمر بأن شخصا ما يزعج فيهم!! وأغلق خط الهاتف بعد السباب والشتائم.. رجعت واتصلت مرة ثانية.. ردّ علي ابن شقيقتي.. صرت أشرح له أشياء حقيقية لإقناعه.. أثناء ذلك، عادت شقيقتي إلى وعيها، وأمسكت الهاتف، وتحدثت معي وهي تبكي.. وتبكي بحرقة المشتاق، وأنا بدأت أبكي..أبكي، وطال شرحي لها عن اختفائي طوال هذه المدة.. لكن من المؤسف جدا، عندما سألت عن الوالد، وجدته متوفيا قبل شهرين من اتصالي،أي خلال شهر 7/2000.. فلم يحالفنِ الحظ بسماع صوت أبي الذي عانى الكثير في غيابي.. وفي عام 2009 أرسلت زوجتي"ابتهال" ونجلي أحمد" إلى هناك للتعرف على الأهل، وكان ذلك أول لقاء وفرحة لا توصف...
من ناحيته العقيد " أحمد سالم أبو سمرة" الذي أطلق على موقعه في الفيس بوك اسم"النفق" هو أحد أفراد هذه المجموعة، ويذكر أسماء الأعضاء ، وأن جثامين الشهداء في مقابر الأرقام..
أبطال نفق أنصار، ومعركة المُختارة، هم:
1- الشهيد "كمال أحمد يوسف نعالوه" فلسطيني من طولكرم وعضو في الكتيبة الطلابية – كتيبه الجرمق.
2- الشهيد " محمود سعد " فلسطيني من مخيم اليرموك
وهو أحد عناصرالجبهة الشعبية.
3-عادل محمود سليمان قائد العملية، أصيب
بجراح وهو سوري من مدينة حلب، وتابع لـ" قوات القسطل "
4- حميد علي برهـو (جريح) - سوري من مدينة حلب تابع لـ" قوات القسطل "موجود في فلسطين..
5- أحمد سالم أبو سمـرة (جريح) فلسطيني من غزة
6- حسن زكيـة، فلسطيني من لبنان تابع لـ" قوات القسطل "
7-عدنان شمـه، لبناني من مدينه صور لبنان وتابع لـ" قوات القسطل "
8- وجدي عدنان لبناني وتابع لـ"الكتيبة الطلابية كتيبه الجرمق".
هذه هي قصة المناضل النقيب "حميد حميدي" الذي نذر نفسه للدفاع عن فلسطين وأهلها، واختفت آثاره عن أهله لمدة تزيد عن(22) عاما، تعرّض خلالها للإعتقال، والتعذيب والإصابات، والنفي، والتشرّد حتى عاد إلى وطنه فلسطين..
___________
[email protected]