الأسوار والجدران لغة الانعزال والكراهية
د. محمد عبدالله القواسمة
عرف التاريخ البشري كثيرًا من الأسوار والجدران التي بنيت حول المدن وبين البلدان لحمايتها من الأعداء، أو عزلها عن جيرانها. لعل من أهم الأسوار القديمة أسوار طروادة، التي تقع آثارها الآن في منطقة الأناضول بتركيا. وقد بدئ ببنائها في القرن الثالث قبل الميلاد لحماية مدينة طروادة. وقد صمدت عشر سنوات من الحصار أمام جيوش اسبرطة. ولم تسقط إلا بالخديعة في القصة المعروفة بقصة حصان طروادة الخشبي الذي اختبأ في داخله الجنود الإسبرطيون، وتسللوا في الليل، وفتحوا أبواب المدينة.
وسور الصين العظيم، وهو من الأسوار الأكثر شهرة، ومن عجائب الدنيا السبع القديمة. ويمتدّ على الحدود الشماليّة الغربية للصين، يبلغ طوله حوالى ٢٤٠٠ كيلو متر، وقد بدأ الإمبراطور تشين شي هوانغ ببناء الجزء الأول منه عام ٢٢١ قبل الميلاد؛ لحماية حدود إمبراطورية الصين من قبائل الشمال. وفي عام ١٤٤٩م قام الإمبراطور مينغ وأسرته بإكمال بنائه، وقد استغرق بناؤه حوالى ٣٠٠ سنة. ولم تمنع عظمة السور هولاكو زعيم المغول من اجتياحه في القرن الثاني عشر الميلادي.
ثم أسوار بابل التي يرجع تاريخها إلى عام 375 قبل الميلاد، وكانت بابل مدينة ودولة في بلاد ما بين النهرين، وهي واحدة من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم.
كما عرفت الجدران حديثًا، من أهمها جدار برلين الذي بُني في ذروة الحرب الباردة عام 1961. لقد بنته ألمانيا الشرقية في منتصف مدينة برلين لمنع سكان برلين الشرقية من الهروب إلى غرب المدينة. وهُدم هدم الجدار عام 1989 مع سقوط الاتحاد السوفييتي.
نفاجأ، من وقت لآخر في هذا العصر الذي نعايشه، عصر العولمة الذي فيه تقلص الزمن، وتلاشت الحدود المكانية، وأصبح العالم أشبه بقرية صغيرة ببناء الأسوار والجدران بين الشعوب والدول، مثل جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل عام 2002 لإعاقة حياة السكان الفلسطينيين، وضم أراض من الضفة الغربية إلى كيانها. وقد أصدرت محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة عام 2004 قرارها بعدم شرعية بناء الجدار، ومع ذلك تلوح إسرائيل ببناء جدار على حدود الأردن وآخر على حدود قطاع غزة.
وآخر هذه الجدران جدار الفصل بين أمريكا والمكسيك، الذي وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في الأيام الأولى لتسلمه الرئاسة، القرار ببنائه من الحديد والإسمنت؛ بحجة منع مهربي المخدرات والمهاجرين غير الشرعيين من دخول الولايات المتحدة الأمريكية. ومن المتوقع أن يمتد الجدار 2000 ميل تقريبًا، ويكلف حوالى 25 مليار دولار.
إن هذا الجدار الذي وصفه ترامب بأنه "ضخم وسميك وجميل" قد يكون ضخماً وسميكًا لكنه لن يكون جميلاً؛ لأنه يعزل بلدين جارين من ناحية، ويستنزف أموالاً طائلة ترهق المواطن الأمريكي. والأهم من ذلك لن يحقق هدفه بمنع المهاجرين غير الشرعيين من التسلل عبره؛ فلن يعجزوا عن إيجاد الوسائل لاختراقه، فكما قالت الوزيرة الأمريكية السابقة جانيت نابو ليتالو: " أرني جداراً بارتفاع 50 قدماً أرك سلماً بارتفاع 51 قدماً"
السور رمز للسجن، الذي فيه تقيد الحريات، ويعذب الإنسان. والجدار رمز للانعزال، وإغلاق باب التفاهم بين الشعوب والأمم الذين جعلهم الله ليتعارفوا لا ليتقاتلوا، وينبذ بعضهم بعضاً. السور رمز للخوف، وعدم الثقة. لا يحقق الحماية والأمن لأصحابه؛ ولا مبرر لوجوده في عصر انفجار المعلومات، وتقدم تكنولوجيا الاتصالات، ووجود الطائرات الحربية، والصواريخ العابرة للقارات.
إن مصير الأسوار والجدران إلى الانهيار والهدم؛ فهي في النهاية لن تصمد أمام ما يسمون الأعداء، ولن تصمد في وجه الزمن. هذا ما حدث للأسوار والجدران في الماضي، فلم يتبق منها في طروادة وبابل والصين وبرلين سوى أطلال. وهذا ما سيحدث لجدار الفصل العنصري في فلسطين، وللجدار المزمع صنعه على حدود المكسيك. أجل، ستزول كل الأسوار والجدران لأنها تحمل معاني الكراهية والانعزال. لن يبقى منها غير بقايا حجارة يزورها السياح، ودارسو الآثار، وهواة الفن، ليرسموا عليها لوحات، ويكتبوا قصائد وكلمات تتغنى بجمال الحياة، وتعبر عن روح التسامح، والتعارف، والتآخي بين الشعوب، ونبذ الحروب.
[email protected]
د. محمد عبدالله القواسمة
عرف التاريخ البشري كثيرًا من الأسوار والجدران التي بنيت حول المدن وبين البلدان لحمايتها من الأعداء، أو عزلها عن جيرانها. لعل من أهم الأسوار القديمة أسوار طروادة، التي تقع آثارها الآن في منطقة الأناضول بتركيا. وقد بدئ ببنائها في القرن الثالث قبل الميلاد لحماية مدينة طروادة. وقد صمدت عشر سنوات من الحصار أمام جيوش اسبرطة. ولم تسقط إلا بالخديعة في القصة المعروفة بقصة حصان طروادة الخشبي الذي اختبأ في داخله الجنود الإسبرطيون، وتسللوا في الليل، وفتحوا أبواب المدينة.
وسور الصين العظيم، وهو من الأسوار الأكثر شهرة، ومن عجائب الدنيا السبع القديمة. ويمتدّ على الحدود الشماليّة الغربية للصين، يبلغ طوله حوالى ٢٤٠٠ كيلو متر، وقد بدأ الإمبراطور تشين شي هوانغ ببناء الجزء الأول منه عام ٢٢١ قبل الميلاد؛ لحماية حدود إمبراطورية الصين من قبائل الشمال. وفي عام ١٤٤٩م قام الإمبراطور مينغ وأسرته بإكمال بنائه، وقد استغرق بناؤه حوالى ٣٠٠ سنة. ولم تمنع عظمة السور هولاكو زعيم المغول من اجتياحه في القرن الثاني عشر الميلادي.
ثم أسوار بابل التي يرجع تاريخها إلى عام 375 قبل الميلاد، وكانت بابل مدينة ودولة في بلاد ما بين النهرين، وهي واحدة من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم.
كما عرفت الجدران حديثًا، من أهمها جدار برلين الذي بُني في ذروة الحرب الباردة عام 1961. لقد بنته ألمانيا الشرقية في منتصف مدينة برلين لمنع سكان برلين الشرقية من الهروب إلى غرب المدينة. وهُدم هدم الجدار عام 1989 مع سقوط الاتحاد السوفييتي.
نفاجأ، من وقت لآخر في هذا العصر الذي نعايشه، عصر العولمة الذي فيه تقلص الزمن، وتلاشت الحدود المكانية، وأصبح العالم أشبه بقرية صغيرة ببناء الأسوار والجدران بين الشعوب والدول، مثل جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل عام 2002 لإعاقة حياة السكان الفلسطينيين، وضم أراض من الضفة الغربية إلى كيانها. وقد أصدرت محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة عام 2004 قرارها بعدم شرعية بناء الجدار، ومع ذلك تلوح إسرائيل ببناء جدار على حدود الأردن وآخر على حدود قطاع غزة.
وآخر هذه الجدران جدار الفصل بين أمريكا والمكسيك، الذي وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في الأيام الأولى لتسلمه الرئاسة، القرار ببنائه من الحديد والإسمنت؛ بحجة منع مهربي المخدرات والمهاجرين غير الشرعيين من دخول الولايات المتحدة الأمريكية. ومن المتوقع أن يمتد الجدار 2000 ميل تقريبًا، ويكلف حوالى 25 مليار دولار.
إن هذا الجدار الذي وصفه ترامب بأنه "ضخم وسميك وجميل" قد يكون ضخماً وسميكًا لكنه لن يكون جميلاً؛ لأنه يعزل بلدين جارين من ناحية، ويستنزف أموالاً طائلة ترهق المواطن الأمريكي. والأهم من ذلك لن يحقق هدفه بمنع المهاجرين غير الشرعيين من التسلل عبره؛ فلن يعجزوا عن إيجاد الوسائل لاختراقه، فكما قالت الوزيرة الأمريكية السابقة جانيت نابو ليتالو: " أرني جداراً بارتفاع 50 قدماً أرك سلماً بارتفاع 51 قدماً"
السور رمز للسجن، الذي فيه تقيد الحريات، ويعذب الإنسان. والجدار رمز للانعزال، وإغلاق باب التفاهم بين الشعوب والأمم الذين جعلهم الله ليتعارفوا لا ليتقاتلوا، وينبذ بعضهم بعضاً. السور رمز للخوف، وعدم الثقة. لا يحقق الحماية والأمن لأصحابه؛ ولا مبرر لوجوده في عصر انفجار المعلومات، وتقدم تكنولوجيا الاتصالات، ووجود الطائرات الحربية، والصواريخ العابرة للقارات.
إن مصير الأسوار والجدران إلى الانهيار والهدم؛ فهي في النهاية لن تصمد أمام ما يسمون الأعداء، ولن تصمد في وجه الزمن. هذا ما حدث للأسوار والجدران في الماضي، فلم يتبق منها في طروادة وبابل والصين وبرلين سوى أطلال. وهذا ما سيحدث لجدار الفصل العنصري في فلسطين، وللجدار المزمع صنعه على حدود المكسيك. أجل، ستزول كل الأسوار والجدران لأنها تحمل معاني الكراهية والانعزال. لن يبقى منها غير بقايا حجارة يزورها السياح، ودارسو الآثار، وهواة الفن، ليرسموا عليها لوحات، ويكتبوا قصائد وكلمات تتغنى بجمال الحياة، وتعبر عن روح التسامح، والتعارف، والتآخي بين الشعوب، ونبذ الحروب.
[email protected]