الأخبار
الاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينيةمستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية مشددة من قوات الاحتلالعائلات أسرى الاحتلال تطالب الوفد بتسريع إنجاز الصفقة خلال هذا الأسبوعنعيم قاسم: لن نكون جزءاً من شرعنة الاحتلال في لبنان ولن نقبل بالتطبيعفتوح: تهجير عشرات العائلات من عرب المليحات امتداد مباشر لسياسة التطهير العرقي والتهجيرالنيابة والشرطة تباشر إجراءاتهما القانونية في واقعة مقتل شابة في مدينة يطا
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

قرية كوبر.. أرض الطفولة ومنبع الذكريات بقلم: حلا البرغوثي

تاريخ النشر : 2017-02-03
قرية كوبر.. أرض الطفولة ومنبع الذكريات بقلم: حلا البرغوثي
قرية كوبر.. أرض الطفولة ومنبع الذكريات
بقلم: حلا البرغوثي..

انتهيت من ارتداء نفسي الفتية، وعدلت ياقة روحي، وألقيت نظرة أخيرة على مرآتي بعد أن وضعت قبعتي، وتبرّجت بابتسامة تمتلئ نقاءً وحيوية، فتحت باب البيت ورحت أمشي بفرحة طفل لخطواته الأولى، أطير كعصفور أطلق سراحه من قفص ذهبي، رحت أهبط على درجات البيت، درجة تلو الأخرى، وكل درجة كانت تقربني إلى الأرض، كانت تزيد خفقات قلبي اضطرابا.

وضعت قدمي على الشارع بحياء وكأنني لأول مرة أعانقه، ولكن سرعان ما صرت أقفز كفراشة أزهرت في طريقها ورود الماضي، وعبق الذكريات. في كل خطوة على ذلك الشارع كنت أجمع من زواياه وأرصفته ثلة من اللحظات واللقطات، وكأنني كنت فارغة وامتلأت جعبتي في لحظات. لا زلت أمشي والشارع كشريط سينمائي لا ينتهي، ونسيم عليل يقتحم كل أوردتي، وينعش شعيراتي الدموية، أوراق الشجر في مدرستي تسافر إليّ، على ظهر أغصانها، تدغدغ روحي وتعيدني إلى ذلك المقعد الخشبي الذي امتلأ بالخربشات والحروف والرسومات، تعيدني إلى ضحكات بريئة، إلى عنفوان صارخ كان ينتفض طموحا وأملا، وتحده حيطانٌ أربع، لكن النوافذ كانت مشقوقة فسربت بعضا من كل شيء.

أعادني صوت بوق السيارة إلى الشارع، وأكملت جمع كل ما علق من ذكرياتي في قريتي الحبيبة ‘‘كوبر’’، مررت على أشجار اللوز فتذكرت الكاتب الراحل ‘‘حسين البرغوثي’’ تخيلته يجلس تحت شجرة اللوز بشعره الأشقر الغجري، يحمل كتابا وقلما، ويعيد صياغة كتابه: (سأكون بين اللوز) ليصبح (أنا بين اللوز).

ولكن كم من أحلام نتركها خلفنا بعد أن نرحل عن هذه الحياة؟!، وعلى الجهة المقابلة لأشجار اللوز يرقد أموات لهم على كل حجر وغصن ونسمة هواء بصمة، ولهم في قلوب كل منا شيء من الوجع والغصة، رحمهم الله جميعا.

في تلك اللحظة التي وقفت بها أمام المقبرة، شعرت بأن أرواحنا وقلوبنا وعقولنا مقابر، وفي هذا اليوم تحت سماء كوبر وفوق أرضها رحت أنبش كل مقبرة أحملها في داخلي، ومع كل ذكرى كنت أرمم فيها جزءًا مني، كنت أحيا من جديد بشكل جديد، بعكس ما تحمله مقابر الأرض من موت ودمار، من تشتت وتفتت. قرأت الفاتحة على أرواحهم ومضيت لأكمل طريقي على نفس الشارع، ولكني وصلت إلى مفترق، إلى دوار درت فيه على سنواتي. على هذا الدوار طبعت آثار أقدام أجدادنا. وآثار حب الزيتون ورائحة العقال والكوفية لا زالت تفوح من قمحنا، ولكن للأسف ما عاد القمح يملأ حقولنا كما كان، ومن هذا المفترق افترقت جداتنا بعد أن جمعهن طابون واحد، هذا الطابون كان مثل ‘‘الفيسبوك’’ في عصرنا، كل الأخبار والحكاوي والخراريف لم تكن تحلوا إلا على رائحة الخبز الساخن وكأس شاي بميرامية الجبال. ضاع الطابون كغيره، ورحلت جداتنا (وأيه على جداتنا وقعداتهم يا محلاها وما أدفاها). من غيرهن لم نكن سنعلم بوجود جبينة والغول، الشاطر حسن، نص نصيص، وفي ذاكرتي لا زلت أحتفظ بمقولة لجدتي (سرية) رحمها الله، كانت تقولها وقت النوم لتحمينا ألا وهي:

(محوطين حواطة الله وسيدي أحمد الرفاعي ما يسعى علينا ساعي لا من بعيد يجينا ولا من قريب يذينا). كنا نكررها ثلاث مرات قبل النوم لنبعد كل الشرور عنا، ولا زلت حتى هذا اليوم أرددها، لربما لن يدرك الجميع ما يجول في خلدي ويعتمل قلبي من مشاعر لهذه القرية، لأنهم لم يعيشوا فيها ولا يملكون رصيدا من الحب والحزن والفرح والطفولة فيها، فكل منا يعشق منبته ومنشأه، وحيث عاش طفولته سيكون أجمل مكان عنده في الدنيا.

‘‘زرقيتة’’.. حارتي، أول حارة في قرية كوبر قد يكون اسمها غريبا أو مضحكا، ولكنها بالنسبة لي هي كتلة من الحب، هي الوطن كله، حارة أمي وأبوي وإخوتي وأعمامي وعماتي وأولادهم حارة ضحكاتي ودمعي، ليلي ونهاري، طفولتي وشبابي، في نجومها خبأت أسراري ولا زلت..

‘‘زرقيتة’’، المسارب، الدوار، واد الشيخ، الكركفة، دير الجواني وغيرها من حارات كوبر التي تنبض بقلوب أشخاص أحبهم، ولكن حتى الآن لم أعرف السبب الحقيقي وراء تسمية كوبر بهذا الاسم.

أذكر أيام المدرسة الابتدائية، خلافاتنا على العائلات (البرغوثي) و(الفلاحين)، العائلات الرئيسية في كوبر. كانت خلافات عنصرية تسللت إلى طفولتنا البريئة، فكنا ننقسم فريقين، ونبدأ بإلقاء الكلام الساخر على بعضنا البعض. ذكريات مضحكة ومؤلمة في ذات الوقت، ولا زالت هذه الخلافات موجودة حتى الآن، لكنها تتفاوت من شخص لآخر، ولكن من وجهة نظري الخاصة لا تهمني العائلات ولا الديانات ولا اللهجات، كل ما يهمني هو الشخص نفسه بتعامله وطباعه. ورغم وجود العنصرية لكن هناك علاقات طيبة بين أبناء قريتي، فيتبادلون الزيارات في المناسبات السعيدة والحزينة، وأتمنى أن نتمكن من استئصال هذا الورم الخبيث الذي ينهش بقلوبنا ورم خلقه الاحتلال ليفرق بيننا، فالأسماء والعائلات لا تلغي كوننا إخوة وأبناء آدم وحواء.

في نهاية الطريق، جلست لأستريح قليلا، فقد أنهكتني كل هذه الذكريات التي أحدثت تناقضا واضطرابا في المشاعر، وراحت تدفعني للبكاء والضحك، أمسح دمعتي وألمس ابتسامتي، أثارت حنينا لغياب وفراغ ينهش في يومنا الحاضر. تذكرني بأن كل يوم يمضي لن يعود، وكل عام يرحل سيأخذ معه بعضا من أحبائنا؛ إما موتا، أسراً أو غربة. فحين أتخيل أنني سأعود لهذا الشارع مرة أخرى، فإن يقينا مغروسا بفكري سينشب مخالبه ليكون واقعا، بأن الألم سيكون أكبر، والدمع أكثر، وما مضى قد مضى واندثر، كتلك الزيتونة العظيمة الكبيرة التي كنت أستظل بها عند جامع قريتي، وكانت مرتعا لي أستلقي على جذورها، وألتقط أنفاسي المقطوعة من طول الطريق، لكنها قطعت منذ زمن، وقطع معها شيء من روحي.

أمنيتي حين أموت أن أدفن في أرض امتلأت بخطواتي وضحكاتي، أرض تنضح بطفولتي، أرض نضج ترابها بين يداي. سأدفن هناك كي أسمع صوت ضحكتي وفرحي وعنفواني تحت التراب, كي أسمع صوت المآذن والنشيد والوطني والإذاعة المدرسية. كي أبقى في رحم دافئ في بلد آمن.

قرية كوبر، إحدى قرى مدينة رام الله التي قدمت لهذا الوطن تضحيات من شهداء وأسرى وجرحى وكتاب ولا زالت تقدم. كوبر حكاية لن يعشقها إلا من عاش فيها وتنشق هوائها واعتلى أشجارها. ومن يعشقها سيتمنى حتما أن يكون بين اللوز...

مدونة فلسطينية
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف