
الشهيد وافي الشعيبي
وافي الشعيبي.. أوفى بعهده لله والوطن والشعب
خاض مقاومة بطولية شهدتها عيون أهالي وسماء وأشجار وجبال بني زيد
بقلم الكاتب: نصير أحمد الريماوي
شهيد أكل حب البلوط والخروب.. وكان يبيت مع الأفاعي والعقارب داخل الكهوف في الجبال، وخاض مقاومة بطولية مع جنود الاحتلال الإسرائيلي البغيض شهدتها عيون أهالي وسماء وأشجار وجبال بني زيد قبل استشهاده، وكسر جنود الاحتلال يده اليمنى أثناء التحقيق معه في المعتقل وتركوه بدون علاج كما كسروا يده ثانية وساقه أثناء استشهاده، و مزقوا جسده بالصواريخ والقذائف والرصاص، وأوصى والدته بأن تزغرد له وتوزع الحلوى حال سماعها نبأ استشهاده .
بطل قصتي هذه هو الشهيد"وافي أسعد عثمان الشعيبي" البالغ من العمر 25 عاما ولد في قرية "دير غسانه" الواقعة على بعد(28) كيلو مترا شمال غرب رام الله بتاريخ 2/2/1979.
وتدور أحداث قصة هذا الشهيد في بيت يقع في قرية "قراوة بني زيد" و يتكون من طابقين مساحة كل منهما 148 مترا مربعا بالإضافة إلى التسوية ويعود للمواطن "ماجد عرار" الذي لم يمر على السكن فيه أكثر من ثلاث سنوات وكلفه مبالغ مالية باهظة أثناء تشييده لإيواء أطفاله الخمسة وزوجته وبقي عليه من الدين (40) ألف شيقل للمهنيين لم يسددها بعد وقد هدمة الاحتلال بالجرافات على من فيه من أثاث، وسوّاه بالأرض بعدما قصفه بالقذائف والصواريخ المحمولة على الكتف والرصاص من جميع الجهات .
في هذا اليوم 11/1/2005 كان الجو شديد البرودة و السماء ملبدة بالغيوم والناس نيام في منازلهم وكانت طائرة استطلاعية إسرائيلية في تلك الأثناء تحلق وتدور في سماء منطقة بني زيد( دير غسانه،وبيت ريما، وكفرعين،وقراوة) منذ الساعة الثانية عشرة ليلا واستمرت إلى ما بعد الساعة السادسة والنصف صباحا بعد انقشاع الظلام وأصبح متعارف عليه بين المواطنين أن تحليق هذه الطائرة نذير شؤم .
وتزامن مع ذلك قيام قوات الاحتلال الإسرائيلي باقتحام قرية قراوة بقوة عسكرية كبيرة وما يزيد عن عشرين جيبا عسكريا وحاصرت مداخلها عند الساعة الثالثة والنصف فجرا بينما ذكر شهود عيان أن جنود المشاة كانوا حول القرية - وخصوصا المنزل المستهدف- منذ الساعة الثانية عشرة ليلا.. عند الساعة الرابعة إلا ربعا حاصروا المنزل من جميع الجهات وصعد القناصة على أسطح المنازل المجاورة .. في بادئ الأمر بدأ الجنود بإلقاء الحجارة والقنابل الصوتية على نوافذ المنزل وطرق الباب الرئيسي.. صاحب المنزل فتح الباب .. طلبوا منه الخروج هو وعائلته من المنزل فورا وعدم إخراج الأثاث .. فخرج مع أطفاله وزوجته خارج المنزل .. قال لهم الضابط: "تعالوا شوفوا كيف سنهدم المنزل على من فيه! و كان الضابط يحقق مع الزوج وزوجته من فترة لأخرى حول ما إذا كان بقي أحد في المنزل أم لا؟..عند الساعة السادسة اعتقلوا "ماجد"و أجبروا عائلته وعائلة شقيقه"ساجي" بعد إخراجها من منزلها هي الأخرى إلى الذهاب إلى منزل الوالد "ربحي عرار" واحتجزوهم هناك في غرفة واحدة تحت التهديد بالسلاح حتى الساعة الرابعة والنصف عصرا بعد الانتهاء من تنفيذ جريمتهم النكراء.
كان "أحمد رباح" شقيق زوجة صاحب المنزل شاهدا على ذلك، قال: "عندما سمعت القصف تجاه منزل شقيقتي ما بين الساعة (5.30 - 6) صباحا،خرجت من منزلنا فورا حتى وصلت على بعد (60) مترا من منزل شقيقتي .. سمعت صراخ جنود الاحتلال على بعضهم بعضا، وفي نفس الوقت سمعت تكبير الشهيدين لمدة ربع ساعة أثناء المقاومة والتصدي لجنود الاحتلال الذين اقتحموا المنزل .. عند الساعة السابعة سمعت صوت انفجار شديد وكذلك انفجار آخر ما بين الساعة الثامنة والنصف و التاسعة وكان ذلك صوت الصواريخ التي قصفوا بها المنزل .. ثم شاهدت جنود الاحتلال وهم يحملون ثلاثة جنود جرحى على الحمالات خرجوا بهم من داخل المنزل، وبعضهم كان على ما أعتقد مقتولا، وقد أطلق الجنود قنبلة دخان حوله فورا لإخفاء حقيقته عن عيون الناس".
خاض معركة بطولية شهدتها عيون أهالي وسماء وأشجار وجبال بني زيد
وقد خاض الشهيد "وافي" ومن معه مواجهة بطولية مع جنود الاحتلال دفاعا عن النفس والوطن وكرامة الأمتين العربية والإسلامية أمام أهالي القرية وشهدتها عيونهم كما كانت السماء وأشجار وجبال بني زيد التي أحبها شاهدة على ذلك. ولم يستشهد "وافي" إلا بعد أن كبدهم خسائر في الأرواح بالرغم من كثرة عددهم و تنوع عتادهم العسكري مقابل اثنين يتسلحان بالإيمان وبعدالة قضيتهما فقط.و لم تعرف عائلته الخبر إلا بعد الساعة الحادية عشرة عندما تلقت اتصالا هاتفيا يبلغه استشهاد "وافي" .. اتصل بعض أشقائه على الفور بطوارئ سلفيت لاستطلاع الأمر فأكد لهم نبأ الاستشهاد.
مسعف يروي لحظة دخوله المنزل ومشاهدته الجثتين
"خالد عرار" المسعف لدى الإغاثة الطبية روى لي لحظة إخراج الشهيدين من المنزل، وقال: نحن عيادة متنقلة تعمل في محافظة سلفيت ومن سكان قراوة بني زيد، عند الساعة السابعة والنصف صباحا في يوم الاستشهاد كان جنود الاحتلال في القرية و على مداخلها، توجهنا بسيارة الإسعاف إلى ناحية سلفيت..وحال وصولنا عند المخرج الشرقي المؤدي إلى سلفيت جنود الاحتلال أوقفونا ومنعونا من مواصلة السفر لتأدية واجبنا في القرى الأخرى التي تقرر العمل فيها قبل يوم، ولم يكن لدينا علم بوجود شهداء في القرية بعد، واضطررنا إلى سلوك طريق آخر حتى تمكنا من وصول سلفيت .. ونحن هناك اتصل بي بعض شبان القرية وابلغوني عن وجود جرحى فيها .. اتصلت بطوارئ سلفيت وطلبت إرسال سيارة إسعاف حكومية .. وقد منع جنود الإحتلال أيضا سيارات إسعاف، سلفيت،وبلدية بني زيد، والهلال الأحمر من الدخول إلى القرية .. وبعد ذلك وصلتني أخبار عن وجود شهداء في منزل(ماجد) فاضطررنا العودة إلى القرية ثانية عند الساعة (9.30) صباحا في سيارة اسعاف الإغاثة ..عند المدخل قام جنود الاحتلال بحجزنا ومنعنا من التوجه إلى المنزل الذي قصف .. قلت لهم:لقد قصفتم المنزل ويمكن وجود جرحى بداخله!فكان الجواب : هذه منطقة عسكرية مغلقة..بعد ذلك حضر ضابط الإدارة العسكرية .. توجه إلى المنزل ثم عاد إلينا بعد عشر دقائق وابلغنا عن وجود جثتين في المنزل،وطلب توجه سيارة إسعاف مع مسعفين فقط إلى المنزل..ذهبت أنا وآخر تابع لإسعاف الهلال الأحمر .. كانت واجهات المنزل من الجهات الأربع مليئة بالثقوب من الرصاص ومتفجرة وشاهدت أن معظم القصف كان مركزا على جوانب النوافذ .. دخلنا المنزل .. كان في حالة يرثى لها .. وواجهاته الداخلية مدمرة والأثاث والملابس محترقة وفي مدخل بيت الدرج الصاعد إلى الطابق الثاني توجد غرفة صغيرة الحجم ولها نافذة صغيرة تطل على الخارج .. وجدنا جثتي الشهيدين "وافي" و"عبد الله" فيها وموضوعتان على بعضهما البعض على شكل (إكس) .. "عبد الله" من تحت و"وافي" فوقه .. كان "وافي" يرتدي سترة خضراء اللون .. نزعتها عنه وسحبنا جثته ثم وضعناها على الحمالة .. كان مصابا بقذيفة دخلت عينه اليمنى وحطمت نصف وجهه الأيمن وفي جسده الطاهر ست إصابات بعضها دخل من البطن وخرج من الظهر والبعض الآخر دخل الخاصرة وخرج من الثانية وفي الساقين، لاحظت كسرا في ركبة الساق اليمنى وكذلك رأيت تمزقا في عضلة الساق من تحت الركبة بالإضافة إلى وجود كسر في اليد اليمنى،أما "عبد الله الديك" فكانت إصاباته في العنق وفوق الحاجب الأيسر بالرأس،واليدين وكانت ملابس الشهيدين غارقة بالدماء ومخلوطة بأتربة ناعمة ورطبة .. وضعنا أغطية عليهما وأخرجناهما من المنزل وطلب منا الضابط ترك الجثتين أمام المنزل،ورفع الغطاء عن وجهيهما ..وقام الضابط وجندي آخر بإلتقاط الصور الفوتوغرافية وبالفيديو للشهيدين كما فتشا جيوب الشهيد "وافي" وأخرجا منها بعض الأوراق ولم يسمحا لنا برؤية ما فيها،وبعد ذلك سمحوا لنا بنقلهما إلى طوارئ سلفيت و الدماء لا زالت تنزف من جثمان الشهيد "وافي".كما أصاب جنود الاحتلال كل من:سهيلة عرار35سنة وهي في بلقونة منزلهم بعيار معدني في الكتف،وغادة عزيز عرار35 سنة بقنبلة صوتية في كعب الساق اليمنى وسطحته وحرقته،وجيانا عرار14 سنة بقنبلة صوتية في الفخذ الأيسر،والمسعف فادي عزيز عرار30سنة بقنبلة صوتية في الذقن وذلك أثناء قيام جنود الاحتلال بإطلاق القنابل الصوتية والأعيرة المعدنية والرصاص الحي تجاه المواطنين .
"ربحي عرار" 68 سنة أكد أن ولدية لم يكونا مطلوبين في يوم من الأيام وكانا يذهبان يوميا إلى أعمالهم في مجال البناء ويمران عبر الحواجز العسكرية، ولم يصادف في يوم من الأيام أن سألهم جنود الاحتلال عن شيء؟ و يعتقد في حديثه أن جنود الاحتلال كانوا يتحججون بوجود مطارد في المنزل بهدف هدمه؟ ويتهم جنود الاحتلال بوضع جثتي الشهيدين في منزل نجله"ماجد" لنفس الهدف؟ وكانت ترافق الجنود جرافة صغيرة عند الساعة الخامسة وكانت تحاول الوصول إلى المنزل ولم تتمكن فأحضروا بعد ذلك جرافة جنزير ضخمة الحجم طحنت بجنازيرها (15) شجرة زيتون من الحجم الكبير، وجرفت بساتين تعود لكل من: حسن خلف، ومصعب عطا، وجمعة رباح، وعطية أحمد، وأحمد فايز وألحقت بهؤلاء المزارعين خسائر جسيمة حتى وصلت إلى المنزل وشرعت في هدم ما تبقى من المنزل بعد قصفه وتدميره بالكامل على ما فيه من أثاث وكتب الطلاب المدرسية وملابسهم ولم يسلم شيء في المنزل من شرها أنيابها.
رأت في منامها اليهود يقبضون عليه قبل ليلة من استشهاده
أوصى والدته أن تزغرد وتوزع الحلوى و أن لا تبكيه
أعطى والده 200شيقل لعلاج والدته
وتستذكر والدته "يسرى الشعيبي" طفولته وآخر أيام حياته وحديثه حيث قالت: لقد أسميناه "وافي" لأنه آخر العنقود لأشقائه وشقيقاته الـ (16) ، وأدخلناه في روضة "أحلام" وقد نشأت بينه وبينها علاقة حميمة منذ نعومة أظفاره ، ثم تعلم في مدرسة بني زيد الثانوية حتى الصف الثالث الإعدادي وتسرب منها في عام 88 إبان الانتفاضة الأولى بالرغم من علاماته الجيدة.. وأثناء وجوده في المدرسة أصيب بعيار ناري مر من تحت عينه اليسرى ومزق لحمة حجر العين من الأسفل ولولا صديق له ناداه في لحظة إطلاق جنود الاحتلال الرصاص نحوه مما دفعه للإلتفات إليه وإدارة وجهه جانبا الأمر الذي أنقذه من استشهاد محقق حينئذ.. و كان يؤذن في مسجد القرية منذ صغره نظرا لصوته الجميل، كما حصل على جائزة قبة الصخرة في مسابقة دينية وكان عمره آنذاك 16سنة .. وعندما كبر وترعرع انخرط في العمل مع أشقائه في أعمال الكسارة لكسب قوت العيش بسبب الظروف الاقتصادي القاسية .. كان من طبعه يحب الأناقة،ومحبوبا من قبل أهالي قريته..ومن هواياته أنه كان مولعا بصيد الغزلان من الجبال .. في عام 2001 بنى له بيتا جديدا مساحته (150) مترا مربعا و مكون من طابقين على أمل أن يستقر فيه ولا زال في طور التشطيب، وعقب مطاردته عزف عن تكملة تشطيب المنزل، كما كان يرفض الزواج عندما نعرض عليه وكان يقول: داري في الآخرة ؟
وتضيف والدته" يسرى الشعيبي": قبل أسبوع من استشهاده كنت أنا مريضة.. جاء الشهيد لزيارتنا فوجدني نائمة..أعطى والده (200) شيقل وطلب منه إرسالي إلى المستشفى للعلاج، بعد ذلك تناول العشاء الأخير عندنا المكون من لحمة مع بصل..وكان يحاول بيع المنزل الجديد الذي بناه ويقول:"يا أماه لا أريد المنزل"، و أوصاني إذا استشهد أن أرضى عنه وأن لا أبكي عليه، ولا أصرخ، وأن أوزع الحلوى عن روحه، وأن أزغرد فرحا لشهادته،وكان كلما يعود إلى المنزل ونتلاقى أبدأ بالبكاء، فكان يغضب ويبدأ بتشجيعي وبث العزيمة في نفسي ويدب الطمأنينة في أرجاء البيت بإيمانه الراسخ ثم يختفي.. وقبل ثلاثة أيام من استشهاده تصور كثيرا.. و يوجد أيضا شيء مهم أحب أن أذكره وهو قبل ليلة من استشهاده رأيت في المنام أن الشهيد موجود عندنا، ثم خرج إلى الحمام الموجود خارج المنزل لقضاء حاجته، وعاد بعد لحظات، وجلس على الكنبة.. ثم نهضت أنا أيضا ونزلت عن الدرج إلى الحمام ذاته فوجدت اثنين مختبئين تحت الدرج..صرت أصيح، وأقول: حرامية .. حرامية، التفت الشهيد نحوي، وقال :هؤلاء يهود ..يهود، ثم ركض مسرعا إلى الباب الخلفي للمنزل للهرب، فقبض الاثنان عليه .. صرت أصيح، وأقول:" يا حاج.. وافي راح .. يا حاج.. وافي راح"،وصحوت من منامي مرتعبة، وحمدت الله أنه كان حلما..لكن في اليوم الثاني استشهد "وافي" وقد تحول الحلم إلى حقيقة .. ونفذت وصيته كما أراد.. زغردت له، ووزعنا الحلوى.
كسروا يده اليمنى أثناء التحقيق معه في الاعتقال
وتركوه بدون علاج
لقد كان الشهيد "وافي" صديقا حميما وقريبا للشهيدين "لؤي سليم" الذي كان مطاردا و"عايد غيث" وقد أثر استشهادهما عليه كثيرا حيث كان من الأوائل الذين عثروا على جثتيمها ممزقتين من كثرة الرصاص وغارقتين بالدماء خلال شهر رمضان المبارك وساعد في حملهما بين يديه،وشاهد بشاعة وفظاعة جرائم الاحتلال التي كانت مرسومة على الجثتين الطاهرتين .. بعد ذلك ترك العمل وأصبح همه منصبا على العمل الوطني والثأر لصديقيه.. اعتقلته سلطات الاحتلال في عام 2003 لمدة ثلاثة شهور في سجن "عوفر" وأثناء التحقيق معه كسروا يده اليمنى جراء التعذيب الوحشي وطيلة فترة الاعتقال هذه لم يتم علاجها وقد تحمل بصبره الآلام الشديدة، هذا الأسلوب تتبعه سلطات الاحتلال مع المعتقلين كأحد أساليب التعذيب والضغط الجسدي والنفسي عليهم .. و على أثر ذلك أضرب المعتقلون تضامنا معه لعلاجه أو الإفراج عنه .. تم الافراج عنه بعد هذه المدة المذكورة، ثم استطاع "وافي" مواصلة علاجه في مستشفى رام الله الحكومي حيث تم تجبير الكسر وربط يده المكسورة بالبراغي المعدنية لمدة أربعة شهور.. أثناء ذلك شن جيش الاحتلال حملة اعتقالات في قرى بني زيد وداهموا منزلهم عند الساعة الثالثة والنصف فجرا ولم يجدوه في المنزل عند الوالد والوالدة، فأرسلوا له بعد ذلك بلاغا للمقابلة فرفض بسبب الآلام التي لا زالت في يده المكسورة، وبعدها أصبح مطاردا لسلطات الاحتلال .
ومنذ ذلك أصبحت عائلته هدفا لجنود الاحتلال ومداهمة منازل أشقائه واعتقال أفرادها وترويع الأطفال والنساء بهدف الضغط عليهم لتسليم الشهيد.وقال "محمد أسعد" شقيق الشهيد:" داهم جنود الاحتلال في أول مرة منازل أشقائه السبعة(محمد،محمود،فيصل،صافي،عبد اللطيف،أحمد، عبد الباسط ) وكانت تلك بعد مرور شهر على مطاردته وخربوا أثاث المنازل وقاموا باحتجاز البعض في غرف منفردة والبعض الآخر خارج المنازل في البرد القارس أثناء فصل الشتاء، كما اعتقلوا (لبيب فيصل،ومحمد ووديع صافي، وأسعد وعبد الخالق محمد) وهم من أبناء أشقاء الشهيد واقتادوهم إلى مستوطنة "حلميش" و استجوابهم حول عمهم المطارد ثم اخلوا سبيلهم في نفس اليوم،وبعد أسبوعين من المداهمة الأولى اقتحمت قوة عسكرية كبيرة تقدر بـ(100) جندي وعشر دبابات عسكرية قرية "دير غسانة" وتكررت عملية مداهمة المنازل أكثر من عشر مرات واستخدام أسلوب التهديد بهدم منازل أشقائه واعتقالهم،وقبل ستة شهور من استشهاده اعتقلوا الوالد "أسعد الشعيبي" البالغ من العمر 85 عاما وأبنائه جميعا بتاريخ 15/6/2005 عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل .. قيدوا أيدينا ثم وضعونا في جيب عسكري واقتادونا إلى سجن"عوفر" وتركونا داخل الجيب حتى الساعة الثانية عصرا في جو شديد الحرارة وكان تركيز المحقق أثناء التحقيق معنا هناك على ضرورة تسليم "وافي" إليهم، ثم أعطانا بلاغا للمراجعة يوميا عند الساعة الثامنة صباحا، وكلما كنا نذهب في نفس الوقت صباحا يتركوننا حتى المساء وبعدها يسألوننا إن كنا أحضرنا "وافي" أم لا؟ وتكررت العملية لمدة أربعة أيام، وكذلك قبل أربعة شهور أيضا اعتقلوا أشقائه(محمود،وعبد الباسط وعبد اللطيف،وأحمد) لمدة أربعة شهور في معتقل "عوفر" وتم تحويل "أحمد" للاعتقال الإداري في النقب لمدة ثلاثة شهور أخرى، وفي تاريخ 27/1/2005 اقتحمت قوة عسكرية كبيرة قرابة (200) جندي وفرضوا حظر التجول على القرية من الساعة الثالثة فجرا حتى الواحدة ظهرا، وحاصروا منازلنا وفجروا أبوابها وحطموا العديد من النوافذ الزجاجية وتخريب الأثاث الداخلي وتكبيدنا خسائر مادية فادحة، كما أجبروا جميع من كانوا فيها على الخروج إلى العراء وكذلك الأطفال واعتدوا بالضرب على بعضهم وهم، "صهيب محمود" وهو من طلاب الصف التاسع بمدرسة بشير البرغوثي،و"عبد الرزاق صافي"13 سنة في الصف السادس،و"أدهم عبد الباسط"18سنة طالب توجيهي وهم في نفس المدرسة وكذلك "محمد جمال"،وتخريب المركبات التابعة لنا بالإضافة إلى تفجير الكهوف القريبة من منازلنا،وعندما قلنا للشهيد سلم نفسك كان يرد علينا: بأن جنود الاحتلال سيقطعون يدي إذا بسلم نفسي ".
كان يبيت مع الأفاعي والعقارب
ويأكل ثمار الخروب والبلوط في الجبال
و منذ مطاردته توارى عن الأنظار وأصبحت كهوف وجبال قرى بني زيد ملاذه الآمن .. وقضى حياته فيها وكان يبيت بين الأفاعي والعقارب أحيانا، أما ثمار أشجار الخروب والبلوط فكانت غذاءه وخاصة الشهور الأربعة الأخيرة من حياته.. وأصبح لا يخاف الليل وجنود الاحتلال معا، وكان حب الوالدين يدفعه للمغامرة بروحه أحيانا من أجل رؤيتهما بين الفترة والأخرى ويأتي سريعا كالطير ولم يذق طعما للأعياد فقد كان لا يستطيع مشاركة أهله بهجت العيد أثناء أيام الأعياد فكان يصبر حتى تنتهي أيام العيد وتسنح له الظروف ويأتي إلى مسقط رأسه فكان يتمكن من رؤية قسما من أهله وأما القسم الآخر فلم يتمكن من رؤيته بسبب المخاطر التي كانت تحيط به من العيون والفرق الخاصة والمداهمات المفاجئة ..
كان الوالد"اسعد الشعيبي" يعمل في الكويت منذ عام 64 كحارس لإحدى شركات مبيعات الخشب والحديد والسيارات فيما كانت زوجته وأطفاله في قرية دير غسانه وبعد احتلال الضفة الغربية خاف على مصير أسرته فعاد إلى الأردن ومن الأردن سار مشيا على الأقدام حتى وصل قريته خلال يوم وليلة وكان ذلك بتاريخ9/6/1967 وكان والده مشلولا ومقعدا في تلك الأثناء وطلب منه البقاء في القرية وعدم العودة ثانية إلى الكويت، وقد شارك وهو في ريعان شبابه في ثورتي 36 و39 مع محمد لعمر، وفارس العزوني، ضد الاستعمار البريطاني لفلسطين والعصابات الصهيونية.
وهكذا استشهد "وافي".. كسروا يده في التحقيق وبعد تجبيرها كسروها ثانية أثناء استشهاده وشوهوا جسده الطري بحقدهم العنصري، كان يحاول بيع منزله الجديد الذي بناه في أيامه الأخيرة،وظلت دماؤه تنزف منذ استشهاده في قراوة ونقله إلى سلفيت حتى مواراة جثمانه في قريته دير غسانة عصرا وقد روى بها أرض الوطن وأينما انتقل جثمانه ترك جزءا من دمه فيه كوصية لشعبه وكأنه يقول لنا تركته لكم فحافظوا عليه وارسموا به أشجار بلادي وتضاريسها وحدودها، وكأنه يقول لنا هذه أمانة في أعناقكم بعدما أن أديت واجبي الوطني والديني فصونوا الأمانة وأنني عانيت الكثير في سبيل رفعة كلمة لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.
وافي... أوفى بعده لله وللوطن وللقضية..لم يهن يوما ولم يضعف بل ظل صامدا وشامخا كصمود وشموخ شجر الزيتون، وفاضت روحه الطاهرة إلى خالقها راضية مرضية .. وتمت مواراة جثمانه الطاهر بجوار صديقيه وقريبيه الشهيدين"لؤي" و "عايد" في مقبرة دير غسانة تنفيذا لوصيته.
_____________15/1/2005
[email protected]
خاض مقاومة بطولية شهدتها عيون أهالي وسماء وأشجار وجبال بني زيد
بقلم الكاتب: نصير أحمد الريماوي
شهيد أكل حب البلوط والخروب.. وكان يبيت مع الأفاعي والعقارب داخل الكهوف في الجبال، وخاض مقاومة بطولية مع جنود الاحتلال الإسرائيلي البغيض شهدتها عيون أهالي وسماء وأشجار وجبال بني زيد قبل استشهاده، وكسر جنود الاحتلال يده اليمنى أثناء التحقيق معه في المعتقل وتركوه بدون علاج كما كسروا يده ثانية وساقه أثناء استشهاده، و مزقوا جسده بالصواريخ والقذائف والرصاص، وأوصى والدته بأن تزغرد له وتوزع الحلوى حال سماعها نبأ استشهاده .
بطل قصتي هذه هو الشهيد"وافي أسعد عثمان الشعيبي" البالغ من العمر 25 عاما ولد في قرية "دير غسانه" الواقعة على بعد(28) كيلو مترا شمال غرب رام الله بتاريخ 2/2/1979.
وتدور أحداث قصة هذا الشهيد في بيت يقع في قرية "قراوة بني زيد" و يتكون من طابقين مساحة كل منهما 148 مترا مربعا بالإضافة إلى التسوية ويعود للمواطن "ماجد عرار" الذي لم يمر على السكن فيه أكثر من ثلاث سنوات وكلفه مبالغ مالية باهظة أثناء تشييده لإيواء أطفاله الخمسة وزوجته وبقي عليه من الدين (40) ألف شيقل للمهنيين لم يسددها بعد وقد هدمة الاحتلال بالجرافات على من فيه من أثاث، وسوّاه بالأرض بعدما قصفه بالقذائف والصواريخ المحمولة على الكتف والرصاص من جميع الجهات .
في هذا اليوم 11/1/2005 كان الجو شديد البرودة و السماء ملبدة بالغيوم والناس نيام في منازلهم وكانت طائرة استطلاعية إسرائيلية في تلك الأثناء تحلق وتدور في سماء منطقة بني زيد( دير غسانه،وبيت ريما، وكفرعين،وقراوة) منذ الساعة الثانية عشرة ليلا واستمرت إلى ما بعد الساعة السادسة والنصف صباحا بعد انقشاع الظلام وأصبح متعارف عليه بين المواطنين أن تحليق هذه الطائرة نذير شؤم .
وتزامن مع ذلك قيام قوات الاحتلال الإسرائيلي باقتحام قرية قراوة بقوة عسكرية كبيرة وما يزيد عن عشرين جيبا عسكريا وحاصرت مداخلها عند الساعة الثالثة والنصف فجرا بينما ذكر شهود عيان أن جنود المشاة كانوا حول القرية - وخصوصا المنزل المستهدف- منذ الساعة الثانية عشرة ليلا.. عند الساعة الرابعة إلا ربعا حاصروا المنزل من جميع الجهات وصعد القناصة على أسطح المنازل المجاورة .. في بادئ الأمر بدأ الجنود بإلقاء الحجارة والقنابل الصوتية على نوافذ المنزل وطرق الباب الرئيسي.. صاحب المنزل فتح الباب .. طلبوا منه الخروج هو وعائلته من المنزل فورا وعدم إخراج الأثاث .. فخرج مع أطفاله وزوجته خارج المنزل .. قال لهم الضابط: "تعالوا شوفوا كيف سنهدم المنزل على من فيه! و كان الضابط يحقق مع الزوج وزوجته من فترة لأخرى حول ما إذا كان بقي أحد في المنزل أم لا؟..عند الساعة السادسة اعتقلوا "ماجد"و أجبروا عائلته وعائلة شقيقه"ساجي" بعد إخراجها من منزلها هي الأخرى إلى الذهاب إلى منزل الوالد "ربحي عرار" واحتجزوهم هناك في غرفة واحدة تحت التهديد بالسلاح حتى الساعة الرابعة والنصف عصرا بعد الانتهاء من تنفيذ جريمتهم النكراء.
كان "أحمد رباح" شقيق زوجة صاحب المنزل شاهدا على ذلك، قال: "عندما سمعت القصف تجاه منزل شقيقتي ما بين الساعة (5.30 - 6) صباحا،خرجت من منزلنا فورا حتى وصلت على بعد (60) مترا من منزل شقيقتي .. سمعت صراخ جنود الاحتلال على بعضهم بعضا، وفي نفس الوقت سمعت تكبير الشهيدين لمدة ربع ساعة أثناء المقاومة والتصدي لجنود الاحتلال الذين اقتحموا المنزل .. عند الساعة السابعة سمعت صوت انفجار شديد وكذلك انفجار آخر ما بين الساعة الثامنة والنصف و التاسعة وكان ذلك صوت الصواريخ التي قصفوا بها المنزل .. ثم شاهدت جنود الاحتلال وهم يحملون ثلاثة جنود جرحى على الحمالات خرجوا بهم من داخل المنزل، وبعضهم كان على ما أعتقد مقتولا، وقد أطلق الجنود قنبلة دخان حوله فورا لإخفاء حقيقته عن عيون الناس".
خاض معركة بطولية شهدتها عيون أهالي وسماء وأشجار وجبال بني زيد
وقد خاض الشهيد "وافي" ومن معه مواجهة بطولية مع جنود الاحتلال دفاعا عن النفس والوطن وكرامة الأمتين العربية والإسلامية أمام أهالي القرية وشهدتها عيونهم كما كانت السماء وأشجار وجبال بني زيد التي أحبها شاهدة على ذلك. ولم يستشهد "وافي" إلا بعد أن كبدهم خسائر في الأرواح بالرغم من كثرة عددهم و تنوع عتادهم العسكري مقابل اثنين يتسلحان بالإيمان وبعدالة قضيتهما فقط.و لم تعرف عائلته الخبر إلا بعد الساعة الحادية عشرة عندما تلقت اتصالا هاتفيا يبلغه استشهاد "وافي" .. اتصل بعض أشقائه على الفور بطوارئ سلفيت لاستطلاع الأمر فأكد لهم نبأ الاستشهاد.
مسعف يروي لحظة دخوله المنزل ومشاهدته الجثتين
"خالد عرار" المسعف لدى الإغاثة الطبية روى لي لحظة إخراج الشهيدين من المنزل، وقال: نحن عيادة متنقلة تعمل في محافظة سلفيت ومن سكان قراوة بني زيد، عند الساعة السابعة والنصف صباحا في يوم الاستشهاد كان جنود الاحتلال في القرية و على مداخلها، توجهنا بسيارة الإسعاف إلى ناحية سلفيت..وحال وصولنا عند المخرج الشرقي المؤدي إلى سلفيت جنود الاحتلال أوقفونا ومنعونا من مواصلة السفر لتأدية واجبنا في القرى الأخرى التي تقرر العمل فيها قبل يوم، ولم يكن لدينا علم بوجود شهداء في القرية بعد، واضطررنا إلى سلوك طريق آخر حتى تمكنا من وصول سلفيت .. ونحن هناك اتصل بي بعض شبان القرية وابلغوني عن وجود جرحى فيها .. اتصلت بطوارئ سلفيت وطلبت إرسال سيارة إسعاف حكومية .. وقد منع جنود الإحتلال أيضا سيارات إسعاف، سلفيت،وبلدية بني زيد، والهلال الأحمر من الدخول إلى القرية .. وبعد ذلك وصلتني أخبار عن وجود شهداء في منزل(ماجد) فاضطررنا العودة إلى القرية ثانية عند الساعة (9.30) صباحا في سيارة اسعاف الإغاثة ..عند المدخل قام جنود الاحتلال بحجزنا ومنعنا من التوجه إلى المنزل الذي قصف .. قلت لهم:لقد قصفتم المنزل ويمكن وجود جرحى بداخله!فكان الجواب : هذه منطقة عسكرية مغلقة..بعد ذلك حضر ضابط الإدارة العسكرية .. توجه إلى المنزل ثم عاد إلينا بعد عشر دقائق وابلغنا عن وجود جثتين في المنزل،وطلب توجه سيارة إسعاف مع مسعفين فقط إلى المنزل..ذهبت أنا وآخر تابع لإسعاف الهلال الأحمر .. كانت واجهات المنزل من الجهات الأربع مليئة بالثقوب من الرصاص ومتفجرة وشاهدت أن معظم القصف كان مركزا على جوانب النوافذ .. دخلنا المنزل .. كان في حالة يرثى لها .. وواجهاته الداخلية مدمرة والأثاث والملابس محترقة وفي مدخل بيت الدرج الصاعد إلى الطابق الثاني توجد غرفة صغيرة الحجم ولها نافذة صغيرة تطل على الخارج .. وجدنا جثتي الشهيدين "وافي" و"عبد الله" فيها وموضوعتان على بعضهما البعض على شكل (إكس) .. "عبد الله" من تحت و"وافي" فوقه .. كان "وافي" يرتدي سترة خضراء اللون .. نزعتها عنه وسحبنا جثته ثم وضعناها على الحمالة .. كان مصابا بقذيفة دخلت عينه اليمنى وحطمت نصف وجهه الأيمن وفي جسده الطاهر ست إصابات بعضها دخل من البطن وخرج من الظهر والبعض الآخر دخل الخاصرة وخرج من الثانية وفي الساقين، لاحظت كسرا في ركبة الساق اليمنى وكذلك رأيت تمزقا في عضلة الساق من تحت الركبة بالإضافة إلى وجود كسر في اليد اليمنى،أما "عبد الله الديك" فكانت إصاباته في العنق وفوق الحاجب الأيسر بالرأس،واليدين وكانت ملابس الشهيدين غارقة بالدماء ومخلوطة بأتربة ناعمة ورطبة .. وضعنا أغطية عليهما وأخرجناهما من المنزل وطلب منا الضابط ترك الجثتين أمام المنزل،ورفع الغطاء عن وجهيهما ..وقام الضابط وجندي آخر بإلتقاط الصور الفوتوغرافية وبالفيديو للشهيدين كما فتشا جيوب الشهيد "وافي" وأخرجا منها بعض الأوراق ولم يسمحا لنا برؤية ما فيها،وبعد ذلك سمحوا لنا بنقلهما إلى طوارئ سلفيت و الدماء لا زالت تنزف من جثمان الشهيد "وافي".كما أصاب جنود الاحتلال كل من:سهيلة عرار35سنة وهي في بلقونة منزلهم بعيار معدني في الكتف،وغادة عزيز عرار35 سنة بقنبلة صوتية في كعب الساق اليمنى وسطحته وحرقته،وجيانا عرار14 سنة بقنبلة صوتية في الفخذ الأيسر،والمسعف فادي عزيز عرار30سنة بقنبلة صوتية في الذقن وذلك أثناء قيام جنود الاحتلال بإطلاق القنابل الصوتية والأعيرة المعدنية والرصاص الحي تجاه المواطنين .
"ربحي عرار" 68 سنة أكد أن ولدية لم يكونا مطلوبين في يوم من الأيام وكانا يذهبان يوميا إلى أعمالهم في مجال البناء ويمران عبر الحواجز العسكرية، ولم يصادف في يوم من الأيام أن سألهم جنود الاحتلال عن شيء؟ و يعتقد في حديثه أن جنود الاحتلال كانوا يتحججون بوجود مطارد في المنزل بهدف هدمه؟ ويتهم جنود الاحتلال بوضع جثتي الشهيدين في منزل نجله"ماجد" لنفس الهدف؟ وكانت ترافق الجنود جرافة صغيرة عند الساعة الخامسة وكانت تحاول الوصول إلى المنزل ولم تتمكن فأحضروا بعد ذلك جرافة جنزير ضخمة الحجم طحنت بجنازيرها (15) شجرة زيتون من الحجم الكبير، وجرفت بساتين تعود لكل من: حسن خلف، ومصعب عطا، وجمعة رباح، وعطية أحمد، وأحمد فايز وألحقت بهؤلاء المزارعين خسائر جسيمة حتى وصلت إلى المنزل وشرعت في هدم ما تبقى من المنزل بعد قصفه وتدميره بالكامل على ما فيه من أثاث وكتب الطلاب المدرسية وملابسهم ولم يسلم شيء في المنزل من شرها أنيابها.
رأت في منامها اليهود يقبضون عليه قبل ليلة من استشهاده
أوصى والدته أن تزغرد وتوزع الحلوى و أن لا تبكيه
أعطى والده 200شيقل لعلاج والدته
وتستذكر والدته "يسرى الشعيبي" طفولته وآخر أيام حياته وحديثه حيث قالت: لقد أسميناه "وافي" لأنه آخر العنقود لأشقائه وشقيقاته الـ (16) ، وأدخلناه في روضة "أحلام" وقد نشأت بينه وبينها علاقة حميمة منذ نعومة أظفاره ، ثم تعلم في مدرسة بني زيد الثانوية حتى الصف الثالث الإعدادي وتسرب منها في عام 88 إبان الانتفاضة الأولى بالرغم من علاماته الجيدة.. وأثناء وجوده في المدرسة أصيب بعيار ناري مر من تحت عينه اليسرى ومزق لحمة حجر العين من الأسفل ولولا صديق له ناداه في لحظة إطلاق جنود الاحتلال الرصاص نحوه مما دفعه للإلتفات إليه وإدارة وجهه جانبا الأمر الذي أنقذه من استشهاد محقق حينئذ.. و كان يؤذن في مسجد القرية منذ صغره نظرا لصوته الجميل، كما حصل على جائزة قبة الصخرة في مسابقة دينية وكان عمره آنذاك 16سنة .. وعندما كبر وترعرع انخرط في العمل مع أشقائه في أعمال الكسارة لكسب قوت العيش بسبب الظروف الاقتصادي القاسية .. كان من طبعه يحب الأناقة،ومحبوبا من قبل أهالي قريته..ومن هواياته أنه كان مولعا بصيد الغزلان من الجبال .. في عام 2001 بنى له بيتا جديدا مساحته (150) مترا مربعا و مكون من طابقين على أمل أن يستقر فيه ولا زال في طور التشطيب، وعقب مطاردته عزف عن تكملة تشطيب المنزل، كما كان يرفض الزواج عندما نعرض عليه وكان يقول: داري في الآخرة ؟
وتضيف والدته" يسرى الشعيبي": قبل أسبوع من استشهاده كنت أنا مريضة.. جاء الشهيد لزيارتنا فوجدني نائمة..أعطى والده (200) شيقل وطلب منه إرسالي إلى المستشفى للعلاج، بعد ذلك تناول العشاء الأخير عندنا المكون من لحمة مع بصل..وكان يحاول بيع المنزل الجديد الذي بناه ويقول:"يا أماه لا أريد المنزل"، و أوصاني إذا استشهد أن أرضى عنه وأن لا أبكي عليه، ولا أصرخ، وأن أوزع الحلوى عن روحه، وأن أزغرد فرحا لشهادته،وكان كلما يعود إلى المنزل ونتلاقى أبدأ بالبكاء، فكان يغضب ويبدأ بتشجيعي وبث العزيمة في نفسي ويدب الطمأنينة في أرجاء البيت بإيمانه الراسخ ثم يختفي.. وقبل ثلاثة أيام من استشهاده تصور كثيرا.. و يوجد أيضا شيء مهم أحب أن أذكره وهو قبل ليلة من استشهاده رأيت في المنام أن الشهيد موجود عندنا، ثم خرج إلى الحمام الموجود خارج المنزل لقضاء حاجته، وعاد بعد لحظات، وجلس على الكنبة.. ثم نهضت أنا أيضا ونزلت عن الدرج إلى الحمام ذاته فوجدت اثنين مختبئين تحت الدرج..صرت أصيح، وأقول: حرامية .. حرامية، التفت الشهيد نحوي، وقال :هؤلاء يهود ..يهود، ثم ركض مسرعا إلى الباب الخلفي للمنزل للهرب، فقبض الاثنان عليه .. صرت أصيح، وأقول:" يا حاج.. وافي راح .. يا حاج.. وافي راح"،وصحوت من منامي مرتعبة، وحمدت الله أنه كان حلما..لكن في اليوم الثاني استشهد "وافي" وقد تحول الحلم إلى حقيقة .. ونفذت وصيته كما أراد.. زغردت له، ووزعنا الحلوى.
كسروا يده اليمنى أثناء التحقيق معه في الاعتقال
وتركوه بدون علاج
لقد كان الشهيد "وافي" صديقا حميما وقريبا للشهيدين "لؤي سليم" الذي كان مطاردا و"عايد غيث" وقد أثر استشهادهما عليه كثيرا حيث كان من الأوائل الذين عثروا على جثتيمها ممزقتين من كثرة الرصاص وغارقتين بالدماء خلال شهر رمضان المبارك وساعد في حملهما بين يديه،وشاهد بشاعة وفظاعة جرائم الاحتلال التي كانت مرسومة على الجثتين الطاهرتين .. بعد ذلك ترك العمل وأصبح همه منصبا على العمل الوطني والثأر لصديقيه.. اعتقلته سلطات الاحتلال في عام 2003 لمدة ثلاثة شهور في سجن "عوفر" وأثناء التحقيق معه كسروا يده اليمنى جراء التعذيب الوحشي وطيلة فترة الاعتقال هذه لم يتم علاجها وقد تحمل بصبره الآلام الشديدة، هذا الأسلوب تتبعه سلطات الاحتلال مع المعتقلين كأحد أساليب التعذيب والضغط الجسدي والنفسي عليهم .. و على أثر ذلك أضرب المعتقلون تضامنا معه لعلاجه أو الإفراج عنه .. تم الافراج عنه بعد هذه المدة المذكورة، ثم استطاع "وافي" مواصلة علاجه في مستشفى رام الله الحكومي حيث تم تجبير الكسر وربط يده المكسورة بالبراغي المعدنية لمدة أربعة شهور.. أثناء ذلك شن جيش الاحتلال حملة اعتقالات في قرى بني زيد وداهموا منزلهم عند الساعة الثالثة والنصف فجرا ولم يجدوه في المنزل عند الوالد والوالدة، فأرسلوا له بعد ذلك بلاغا للمقابلة فرفض بسبب الآلام التي لا زالت في يده المكسورة، وبعدها أصبح مطاردا لسلطات الاحتلال .
ومنذ ذلك أصبحت عائلته هدفا لجنود الاحتلال ومداهمة منازل أشقائه واعتقال أفرادها وترويع الأطفال والنساء بهدف الضغط عليهم لتسليم الشهيد.وقال "محمد أسعد" شقيق الشهيد:" داهم جنود الاحتلال في أول مرة منازل أشقائه السبعة(محمد،محمود،فيصل،صافي،عبد اللطيف،أحمد، عبد الباسط ) وكانت تلك بعد مرور شهر على مطاردته وخربوا أثاث المنازل وقاموا باحتجاز البعض في غرف منفردة والبعض الآخر خارج المنازل في البرد القارس أثناء فصل الشتاء، كما اعتقلوا (لبيب فيصل،ومحمد ووديع صافي، وأسعد وعبد الخالق محمد) وهم من أبناء أشقاء الشهيد واقتادوهم إلى مستوطنة "حلميش" و استجوابهم حول عمهم المطارد ثم اخلوا سبيلهم في نفس اليوم،وبعد أسبوعين من المداهمة الأولى اقتحمت قوة عسكرية كبيرة تقدر بـ(100) جندي وعشر دبابات عسكرية قرية "دير غسانة" وتكررت عملية مداهمة المنازل أكثر من عشر مرات واستخدام أسلوب التهديد بهدم منازل أشقائه واعتقالهم،وقبل ستة شهور من استشهاده اعتقلوا الوالد "أسعد الشعيبي" البالغ من العمر 85 عاما وأبنائه جميعا بتاريخ 15/6/2005 عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل .. قيدوا أيدينا ثم وضعونا في جيب عسكري واقتادونا إلى سجن"عوفر" وتركونا داخل الجيب حتى الساعة الثانية عصرا في جو شديد الحرارة وكان تركيز المحقق أثناء التحقيق معنا هناك على ضرورة تسليم "وافي" إليهم، ثم أعطانا بلاغا للمراجعة يوميا عند الساعة الثامنة صباحا، وكلما كنا نذهب في نفس الوقت صباحا يتركوننا حتى المساء وبعدها يسألوننا إن كنا أحضرنا "وافي" أم لا؟ وتكررت العملية لمدة أربعة أيام، وكذلك قبل أربعة شهور أيضا اعتقلوا أشقائه(محمود،وعبد الباسط وعبد اللطيف،وأحمد) لمدة أربعة شهور في معتقل "عوفر" وتم تحويل "أحمد" للاعتقال الإداري في النقب لمدة ثلاثة شهور أخرى، وفي تاريخ 27/1/2005 اقتحمت قوة عسكرية كبيرة قرابة (200) جندي وفرضوا حظر التجول على القرية من الساعة الثالثة فجرا حتى الواحدة ظهرا، وحاصروا منازلنا وفجروا أبوابها وحطموا العديد من النوافذ الزجاجية وتخريب الأثاث الداخلي وتكبيدنا خسائر مادية فادحة، كما أجبروا جميع من كانوا فيها على الخروج إلى العراء وكذلك الأطفال واعتدوا بالضرب على بعضهم وهم، "صهيب محمود" وهو من طلاب الصف التاسع بمدرسة بشير البرغوثي،و"عبد الرزاق صافي"13 سنة في الصف السادس،و"أدهم عبد الباسط"18سنة طالب توجيهي وهم في نفس المدرسة وكذلك "محمد جمال"،وتخريب المركبات التابعة لنا بالإضافة إلى تفجير الكهوف القريبة من منازلنا،وعندما قلنا للشهيد سلم نفسك كان يرد علينا: بأن جنود الاحتلال سيقطعون يدي إذا بسلم نفسي ".
كان يبيت مع الأفاعي والعقارب
ويأكل ثمار الخروب والبلوط في الجبال
و منذ مطاردته توارى عن الأنظار وأصبحت كهوف وجبال قرى بني زيد ملاذه الآمن .. وقضى حياته فيها وكان يبيت بين الأفاعي والعقارب أحيانا، أما ثمار أشجار الخروب والبلوط فكانت غذاءه وخاصة الشهور الأربعة الأخيرة من حياته.. وأصبح لا يخاف الليل وجنود الاحتلال معا، وكان حب الوالدين يدفعه للمغامرة بروحه أحيانا من أجل رؤيتهما بين الفترة والأخرى ويأتي سريعا كالطير ولم يذق طعما للأعياد فقد كان لا يستطيع مشاركة أهله بهجت العيد أثناء أيام الأعياد فكان يصبر حتى تنتهي أيام العيد وتسنح له الظروف ويأتي إلى مسقط رأسه فكان يتمكن من رؤية قسما من أهله وأما القسم الآخر فلم يتمكن من رؤيته بسبب المخاطر التي كانت تحيط به من العيون والفرق الخاصة والمداهمات المفاجئة ..
كان الوالد"اسعد الشعيبي" يعمل في الكويت منذ عام 64 كحارس لإحدى شركات مبيعات الخشب والحديد والسيارات فيما كانت زوجته وأطفاله في قرية دير غسانه وبعد احتلال الضفة الغربية خاف على مصير أسرته فعاد إلى الأردن ومن الأردن سار مشيا على الأقدام حتى وصل قريته خلال يوم وليلة وكان ذلك بتاريخ9/6/1967 وكان والده مشلولا ومقعدا في تلك الأثناء وطلب منه البقاء في القرية وعدم العودة ثانية إلى الكويت، وقد شارك وهو في ريعان شبابه في ثورتي 36 و39 مع محمد لعمر، وفارس العزوني، ضد الاستعمار البريطاني لفلسطين والعصابات الصهيونية.
وهكذا استشهد "وافي".. كسروا يده في التحقيق وبعد تجبيرها كسروها ثانية أثناء استشهاده وشوهوا جسده الطري بحقدهم العنصري، كان يحاول بيع منزله الجديد الذي بناه في أيامه الأخيرة،وظلت دماؤه تنزف منذ استشهاده في قراوة ونقله إلى سلفيت حتى مواراة جثمانه في قريته دير غسانة عصرا وقد روى بها أرض الوطن وأينما انتقل جثمانه ترك جزءا من دمه فيه كوصية لشعبه وكأنه يقول لنا تركته لكم فحافظوا عليه وارسموا به أشجار بلادي وتضاريسها وحدودها، وكأنه يقول لنا هذه أمانة في أعناقكم بعدما أن أديت واجبي الوطني والديني فصونوا الأمانة وأنني عانيت الكثير في سبيل رفعة كلمة لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.
وافي... أوفى بعده لله وللوطن وللقضية..لم يهن يوما ولم يضعف بل ظل صامدا وشامخا كصمود وشموخ شجر الزيتون، وفاضت روحه الطاهرة إلى خالقها راضية مرضية .. وتمت مواراة جثمانه الطاهر بجوار صديقيه وقريبيه الشهيدين"لؤي" و "عايد" في مقبرة دير غسانة تنفيذا لوصيته.
_____________15/1/2005
[email protected]