
أحمد بهجت
شعلة إبداع لم تنطفئ
د. إبراهيم العاتي(*)
مرت خلال الشهر الماضي الذكرى السنوية الخامسة لرحيل الأديب والصحفي والكاتب المبدع الأستاذ أحمد بهجت، الذي تعرفت عليه منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكان ذلك أبان دراستي العليا في القاهرة التي امتدت من أواخر السبعينيات وحتى أوائل الثمانينيات. وقد لفت نظري سلسلة مقالات قرأتها، كان الراحل العزيز قد نشرها في مجلة الإذاعة والتلفزيون حينما كان يرأس تحريرها بعنوان (بحار الحب عند الصوفية)، ولما كنت بطبعي ميالاً إلى التصوف والتعمق في أبحاثه، والتعرف على أعلامه، والاختلاف إلى طرقه وأذكاره، ومحاولة الارتقاء لمقاماته وتجلياته، فسعيت للتعرف على الأستاذ بهجت، وتحقق لي ما أريد، وتوثقت علاقتنا عبر الأيام والسنين، فصرت ألتقيه كلما سنحت الفرصة إما في بيته بمصر الجديدة القريب من كلية البنات أو في مكتبه بالأهرام، وموعدنا دوماً في المساء، وفي المكتب بعد الظهر لأن الأستاذ بهجت كان له برنامج خاص وهو السهر طوال الليل حيث يهبط عليه وحي القلم وتحلو له الكتابة، وينام في النهار. ولم يكسر هذه العادة إلا يوم مناقشتي لأطروحة الدكتوراه التي ابتدأت في الساعة الحادية عشرة صباحاً بمدرج (شفيق غربال) في كلية الآداب- جامعة عين شمس، وكان موضوعها (الإنسان في فلسفة الفارابي)، وكتب عنها في اليوم التالي بجريدة الأهرام في عموده اليومي الأثير (صندوق الدنيا) الذي كان يتابعه ملايين القراء في مصر. وقد اخبرني ان العنوان في الأصل كان يستخدمه الكاتب والاديب والشاعر المصري ابراهيم عبد القادر المازني (1989-1949)، وكان اسلوبه الأدبي ساخرا، وحينما بدأ بهجت يكتب في الأهرام وكان اسلوبه ساخرا ايضا، نصحه خاله الدكتور رشاد رشدي، وهو أحد كتاب المسرح المصري الحديث ودرس في بريطانيا، بأن يجعل عنوان عموده نفس عنوان المازني نظرا للتشابه بين اسلوبيهما، وهكذا كان.
لكن الحقيقة ابعد من ذلك، ففد كانت هنالك، رغم بعض الاستثناءات، مدرستان رئيستان تقتسمان الساحة الادبية في مصر والعالم العربي وهما: مدرسة طه حسين ومدرسة العقاد، وكل واحدة منهما لها اسلوبها الخاص في الكتابة وطرق التفكير والمواقف السياسية والاجتماعية، وقلما تجد كاتبا يخرج عنهما، ومن هذه القلة الأستاذ بهجت الذي تأثر باسلوب المازني الساخر، وربما الاسلوب الساخر للشيخ عبد العزيز البشري الذي اهدى لروحه احد كتبه.
واسلوبه الساخر يتضح من عناوين بعض كتبه مثل: مذكرات زوج، ومذكرات صائم، تحتمس (400) بشرطة، كما يتضح من برنامجه الاذاعي اليومي (كلمتين وبس) الذي كان يكتبه الاستاذ بهجت ويقدمه الفنان الكوميدي فؤاد المهندس، ويحظى بشعبية واسعة لما فيه من مراجعات نقدية للكثير من المشكلات التي يعاني منها المجتمع المصري القاهري على وجه التحديد!
وأرجع إلى التصوف الذي جمعني بالفقيد الراحل، فقد وجدت عنده كنوزاً من المعرفة الروحية لا تنفد، ومعيناً من الفن الملهم لا ينضب. وأذكر أنني أهديته كتاب (الرسالة القشيرية)، وهو أحد كتب التصوف المعروفة التي تشرح هذا العلم ومصطلحاته، فكانت مصدراً موحياً للكثير من مقالاته، وأحدها كان عن الإمام جعفر الصادق (ع) (ت148هـ) في حوار له مع أحد الزهاد والمتصوفة الأوائل هو شقيق البلخي (ت194هـ)، الذي سأل الصادق عن (الفتوة) فقال له: قل انت أولاً ما هي؟ فقال شقيق: إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا..فلم يكن جوابه متسقا مع اهل الطريقة والحقيقة كما ظهر من تعليق الصادق، فسأل البلخي الإمام: وما الفتوة عندكم يا ابن بنت رسول الله؟ فقال الصادق: إن أعطينا آثرنا وإن منعنا شكرنا!.. وهنا تتجلى اخلاق العارفين وشدة ارتباطهم بالله التي يمتازون بها عن غيرهم. فأن تشكر من اعطاك وتصبرعلى من منعك، هذا امر جيد ولكن ان تؤثر الاخرين بما يرزقك به الله وتشكره في حالة المنع فتلك درجة لا يبلغها الا الأوحدي من الناس ممن صفت نفسه وروّضها على الزهد والتوكل على الله. وقد نشر الاستاذ بهجت مضمون هذا الحوار في عموده اليومي (صندوق الدنيا).
ثم أهديته كتاب (المواقف) للنفَّري، والفتوحات المكية لابن عربي، فكانت مثاراً لمناقشات تستغرقنا حتى ساعات متأخرة من الليل، دون أن نشعر بالوقت، وما زالت أصداؤها تتردد في ذاكرتي ما حييت. ولعل التصوف كان مدخلا رحبا لمعرفته وكتاباته الدينية التي لاقت رواجا منقطع النظير، حتى أن كتابه (قصص الانبياء) طبع مرات عديدة، وقد الف نسخة خاصة منه للأطفال، كما ألف كتبا أخرى لهم، ايمانا منه بأهمية الكتابة للاطفال باعتبارهم أجيال المستقبل.
كان للاستاذ بهجت عطف كبير على الحيوان، فقد كان عنده كلب ضخم اسمه (سلطان)، وصادف ان سافر بهجت الى الخارج وتسلل الكلب الى الشارع وكانت توجد في حينها فرقة خاصة من الشرطة التي تقوم بتصفية الكلاب الضالة، وظنوا ان (سلطان) من بينها فأطلقوا عليه الرصاص وأردوه قتيلاً، وحينما عاد الاستاذ بهجت وعرف بما حصل كتب عمودا أو أكثر يرثي فيه (سلطان)، وينتقد بعنف وسخرية جهاز الشرطة الذي تجرد من الانسانية والرحمة!!
على ان سلطاناَ واحداَ اهون من القطط الصغيرة والكبيرة التي امتلأ بها بيت الاستاذ بهجت في آخر مرة قابلته فيها عام 2007 والتي اضطرتني الى اختصار الزيارة، لأني لم اكن احب القطط اصلا، بما فيها تلك البيضاء المترفة ذات الشعر الطويل، فكيف بها اذا كانت سوداء بأنياب ومخالب متحفزة؟!
كان الاستاذ بهجت ذا بصيرة سياسية نافذة وقد اتضح ذلك في العديد من مواقفه تجاه القضايا والاحداث العاصفة التي هبت على المنطقة كالحرب العراقية الايرانية التي حاول النظام العراقي اعطاءها بعدا طائفيا وعنصريا وتمكن، بأموال العراق وخيراته وتضليله، من حشد جيش من الاعلاميين من كل حدب وصوب...من داخل الوطن العربي وخارجه، هدفهم الترويج لطروحاته الكارثية عن تلك الحرب التي شكلت بداية التمزق والتشرذم العربي، وكذلك بداية حرف البوصلة عن قضية الأمة المركزية وهي فلسطين، بافتعال قضايا ومعارك جانبية مع ايران مرة ومع الكويت والسعودية والامارات العربية مرة اخرى. لكن تلك الالاعيب لم تنطلِ عليه، وقد عرض موقفه منها في كتاب (طاغية البعث في مياه الخليج).
حينما قابلته أخر مرة قبيل وفاته كان المرض قد أخذ منه مأخذاً، لكن روح النكته لم تفارقه وقلق الفنان وهواجسه تعتمل في صدره، رغم صعوبة ترجمتها من جسده المنهك!
رحمك الله يا ابا خالد وأجزل لك الثواب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عميد الدراسات العليا- الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية (لندن)


شعلة إبداع لم تنطفئ
د. إبراهيم العاتي(*)
مرت خلال الشهر الماضي الذكرى السنوية الخامسة لرحيل الأديب والصحفي والكاتب المبدع الأستاذ أحمد بهجت، الذي تعرفت عليه منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكان ذلك أبان دراستي العليا في القاهرة التي امتدت من أواخر السبعينيات وحتى أوائل الثمانينيات. وقد لفت نظري سلسلة مقالات قرأتها، كان الراحل العزيز قد نشرها في مجلة الإذاعة والتلفزيون حينما كان يرأس تحريرها بعنوان (بحار الحب عند الصوفية)، ولما كنت بطبعي ميالاً إلى التصوف والتعمق في أبحاثه، والتعرف على أعلامه، والاختلاف إلى طرقه وأذكاره، ومحاولة الارتقاء لمقاماته وتجلياته، فسعيت للتعرف على الأستاذ بهجت، وتحقق لي ما أريد، وتوثقت علاقتنا عبر الأيام والسنين، فصرت ألتقيه كلما سنحت الفرصة إما في بيته بمصر الجديدة القريب من كلية البنات أو في مكتبه بالأهرام، وموعدنا دوماً في المساء، وفي المكتب بعد الظهر لأن الأستاذ بهجت كان له برنامج خاص وهو السهر طوال الليل حيث يهبط عليه وحي القلم وتحلو له الكتابة، وينام في النهار. ولم يكسر هذه العادة إلا يوم مناقشتي لأطروحة الدكتوراه التي ابتدأت في الساعة الحادية عشرة صباحاً بمدرج (شفيق غربال) في كلية الآداب- جامعة عين شمس، وكان موضوعها (الإنسان في فلسفة الفارابي)، وكتب عنها في اليوم التالي بجريدة الأهرام في عموده اليومي الأثير (صندوق الدنيا) الذي كان يتابعه ملايين القراء في مصر. وقد اخبرني ان العنوان في الأصل كان يستخدمه الكاتب والاديب والشاعر المصري ابراهيم عبد القادر المازني (1989-1949)، وكان اسلوبه الأدبي ساخرا، وحينما بدأ بهجت يكتب في الأهرام وكان اسلوبه ساخرا ايضا، نصحه خاله الدكتور رشاد رشدي، وهو أحد كتاب المسرح المصري الحديث ودرس في بريطانيا، بأن يجعل عنوان عموده نفس عنوان المازني نظرا للتشابه بين اسلوبيهما، وهكذا كان.
لكن الحقيقة ابعد من ذلك، ففد كانت هنالك، رغم بعض الاستثناءات، مدرستان رئيستان تقتسمان الساحة الادبية في مصر والعالم العربي وهما: مدرسة طه حسين ومدرسة العقاد، وكل واحدة منهما لها اسلوبها الخاص في الكتابة وطرق التفكير والمواقف السياسية والاجتماعية، وقلما تجد كاتبا يخرج عنهما، ومن هذه القلة الأستاذ بهجت الذي تأثر باسلوب المازني الساخر، وربما الاسلوب الساخر للشيخ عبد العزيز البشري الذي اهدى لروحه احد كتبه.
واسلوبه الساخر يتضح من عناوين بعض كتبه مثل: مذكرات زوج، ومذكرات صائم، تحتمس (400) بشرطة، كما يتضح من برنامجه الاذاعي اليومي (كلمتين وبس) الذي كان يكتبه الاستاذ بهجت ويقدمه الفنان الكوميدي فؤاد المهندس، ويحظى بشعبية واسعة لما فيه من مراجعات نقدية للكثير من المشكلات التي يعاني منها المجتمع المصري القاهري على وجه التحديد!
وأرجع إلى التصوف الذي جمعني بالفقيد الراحل، فقد وجدت عنده كنوزاً من المعرفة الروحية لا تنفد، ومعيناً من الفن الملهم لا ينضب. وأذكر أنني أهديته كتاب (الرسالة القشيرية)، وهو أحد كتب التصوف المعروفة التي تشرح هذا العلم ومصطلحاته، فكانت مصدراً موحياً للكثير من مقالاته، وأحدها كان عن الإمام جعفر الصادق (ع) (ت148هـ) في حوار له مع أحد الزهاد والمتصوفة الأوائل هو شقيق البلخي (ت194هـ)، الذي سأل الصادق عن (الفتوة) فقال له: قل انت أولاً ما هي؟ فقال شقيق: إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا..فلم يكن جوابه متسقا مع اهل الطريقة والحقيقة كما ظهر من تعليق الصادق، فسأل البلخي الإمام: وما الفتوة عندكم يا ابن بنت رسول الله؟ فقال الصادق: إن أعطينا آثرنا وإن منعنا شكرنا!.. وهنا تتجلى اخلاق العارفين وشدة ارتباطهم بالله التي يمتازون بها عن غيرهم. فأن تشكر من اعطاك وتصبرعلى من منعك، هذا امر جيد ولكن ان تؤثر الاخرين بما يرزقك به الله وتشكره في حالة المنع فتلك درجة لا يبلغها الا الأوحدي من الناس ممن صفت نفسه وروّضها على الزهد والتوكل على الله. وقد نشر الاستاذ بهجت مضمون هذا الحوار في عموده اليومي (صندوق الدنيا).
ثم أهديته كتاب (المواقف) للنفَّري، والفتوحات المكية لابن عربي، فكانت مثاراً لمناقشات تستغرقنا حتى ساعات متأخرة من الليل، دون أن نشعر بالوقت، وما زالت أصداؤها تتردد في ذاكرتي ما حييت. ولعل التصوف كان مدخلا رحبا لمعرفته وكتاباته الدينية التي لاقت رواجا منقطع النظير، حتى أن كتابه (قصص الانبياء) طبع مرات عديدة، وقد الف نسخة خاصة منه للأطفال، كما ألف كتبا أخرى لهم، ايمانا منه بأهمية الكتابة للاطفال باعتبارهم أجيال المستقبل.
كان للاستاذ بهجت عطف كبير على الحيوان، فقد كان عنده كلب ضخم اسمه (سلطان)، وصادف ان سافر بهجت الى الخارج وتسلل الكلب الى الشارع وكانت توجد في حينها فرقة خاصة من الشرطة التي تقوم بتصفية الكلاب الضالة، وظنوا ان (سلطان) من بينها فأطلقوا عليه الرصاص وأردوه قتيلاً، وحينما عاد الاستاذ بهجت وعرف بما حصل كتب عمودا أو أكثر يرثي فيه (سلطان)، وينتقد بعنف وسخرية جهاز الشرطة الذي تجرد من الانسانية والرحمة!!
على ان سلطاناَ واحداَ اهون من القطط الصغيرة والكبيرة التي امتلأ بها بيت الاستاذ بهجت في آخر مرة قابلته فيها عام 2007 والتي اضطرتني الى اختصار الزيارة، لأني لم اكن احب القطط اصلا، بما فيها تلك البيضاء المترفة ذات الشعر الطويل، فكيف بها اذا كانت سوداء بأنياب ومخالب متحفزة؟!
كان الاستاذ بهجت ذا بصيرة سياسية نافذة وقد اتضح ذلك في العديد من مواقفه تجاه القضايا والاحداث العاصفة التي هبت على المنطقة كالحرب العراقية الايرانية التي حاول النظام العراقي اعطاءها بعدا طائفيا وعنصريا وتمكن، بأموال العراق وخيراته وتضليله، من حشد جيش من الاعلاميين من كل حدب وصوب...من داخل الوطن العربي وخارجه، هدفهم الترويج لطروحاته الكارثية عن تلك الحرب التي شكلت بداية التمزق والتشرذم العربي، وكذلك بداية حرف البوصلة عن قضية الأمة المركزية وهي فلسطين، بافتعال قضايا ومعارك جانبية مع ايران مرة ومع الكويت والسعودية والامارات العربية مرة اخرى. لكن تلك الالاعيب لم تنطلِ عليه، وقد عرض موقفه منها في كتاب (طاغية البعث في مياه الخليج).
حينما قابلته أخر مرة قبيل وفاته كان المرض قد أخذ منه مأخذاً، لكن روح النكته لم تفارقه وقلق الفنان وهواجسه تعتمل في صدره، رغم صعوبة ترجمتها من جسده المنهك!
رحمك الله يا ابا خالد وأجزل لك الثواب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عميد الدراسات العليا- الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية (لندن)

