الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

ذاكرة الترف النرجسي -الرحلة الأولى بقلم: د.حنان عواد

تاريخ النشر : 2017-01-04
ذاكرة الترف النرجسي -الرحلة الأولى  بقلم: د.حنان عواد
الرحلة الأولى.

القدس سيدة المدائن.

القدس مدينة جميلة،عظيمة شامخة،في ملامح أنفها يتشكل كل شموخ الكون وكبريائه،

المدينة الوادعة التي احتضنت طفولتي غير الوادعة،ثم امتدت اشعاعات النور الى عيوني،وأبحرت في البدايات الكونية الصغيرة بسطحية الأشياء وألغاز العلامات التائهة من حولي،فأدركت وجهين رائعين،عيون أم حنون تنطلق منها كل لغات الكون وأحاسيس البشر،وجبين عظيم من والد حنون طموح منفتح الذهن واسع الأبعاد الثقافية.

اقتربت منه؟منهما،وامتددت نحوهما بعلاقات عظيمة.

أذكر ذاك اليوم وأنا أقف في ساعات الصباح في سنوات عمري الأولى،بذلك الشعر الذهبي المتناثر فوق جبيني،أتأمل والدي وهو يعد نفسه للخروج..يقف أمام المرآة،أرى ذاك الوجه الأسمر الوسيم وقد تغطى بكتل بيضاء،هل بدأ الثلج في تراكمه؟؟.

أقف مدهوشة!ماذا يجري؟أمي تقف قربه تساعده،فشعرت بعظمة كونية غير عادية،أردت بلكنات لساني في ذلك الوقت أن أنعته بصفة جميلة خاصة ونادرة،أذكر أنني قلت:بابا..أنت شاطر!ثم ترددت وقلت هذه كلمة تقال للصغار..بابا أنت،ولم أكمل العبارة حتى أخذ أبي يضحك بشدة،وأمي تخفي وجهها من كثرة الضحك..

أذكر في ذاك اليوم أنني رددت على مسمعيهما لحنا جميلا لعبد الوهاب اسمه"هدية العيد"،كان أبي يعشقه ويحرك رأسه طربا حينما يسمعه،فحفظته عن ظهر قلب،وانتابت أمي لحظات كأنها جنونية،فلم تصدق أنني أستطيع في هذا العمر"سنتين"أن أردد ذلك اللحن الصعب..

ابتدأت طفولتي تمتد الى أحضان أمي وأبي..أختي الكبرى تكبرني بسنتين،كانت رائعة العيون،جميلة الوجه،كنت أراها ملاكا يفرش الكون حنانا،علي أن أتبعها،أتلقى أوامرها بفرح،وكلما أغضبتها أقدم اعتذاراتي.

وجاءت أختي الأصغر سوزان،وكان لي معها حكايات وحكايات،كانت أمينة سر شقاوتي.

وكان يوم ظليل حينما تأتي الى بيتنا جدتي الحبيبة من المدينة الأخرى طولكرم..حيث تكون الجذور..جدتي قديسة تملأ البيت قدسية حينما تطأه قدماها.كنت دائما أتبعها،أذهب معها الى المسجد برضاها أو غصبا عنها.أجلس قربها في الأمسيات لتحكي لي الحكايات الكثيرة،وتظل حكاياتها راسخة في المخيلة.

كانت جدتي تأتي الينا من فترة لأخرى لتتعبد في المسجد الأقصى..جدتي،أم والدتي،كانت طيبة جدا،حنونة جدا،مؤمنة لأقصى غايات الايمان ومحبوبة من الجميع،كلما زارتنا أزهرت قلوبنا فرحا..وكنت ألازمها وأتبعها حيث تذهب،وخاصة حينما تتوجه الى المسجد الأقصى والى أصدقاء لها يقطنون قرب المسجد.

أحيانا كثيرة كانت ترغب في أن تذهب بمفردها ،فأظل أمطرها دموعا حتى يرق قلبها.

وفي أحد الأيام،قررت جدتي أن تذهب الى المسجد الأقصى، ثم تزور أصدقاءها،وفضلت آنذاك أن تكون بمفردها..ولما شعرت بانشغالي يشيء ما،سارت على رؤوس أصابعها،وخرجت من البيت.وبعد عشر دقائق تقريبا اكتشفت غياب جدتي..كنت آنذاك لازلت في ثياب النوم،وفي قدمي يرن صوت "قبقاب"،فأخذت بالصراخ ودموعي تسيل أنهارا،تبعتها بسرعةالبرق،أنادي.."ستي..ستي"،وأمطار العين ملأت وجهي.الناس في الشارع ينظرون الي مستغربين!،لا أدري أهو من السرعة التي أعبر بها،أم من صوت "القبقاب"،وتابعت الصراخ،وظللت أركض..أركض،الى أن وصلت اليها..فاشفقت علي،وأخذتني من يدي،وشعرت بشعورها بالحرج وهي مضطرة أن تأخذني معها وأنا على هذه الحال.

قطعنا الشارع الأول،وانتظرنا الحافلة،ولما تأخرت الحافلة سرنا مشيا على الأقدام الى أن وصلنا الى المسجد.ظلت جدتي تصلي حتى أسدل الليل ستائره،فأخذنا أدراجنا عائدين من البلدة القديمة.وفي الطريق،عرجت جدتي على بيت اعتادت أن تزوره كلما زارت المسجد.

قرعنا الباب،واذا بشابة تفتح لنا،رحبت بجدتي كثيرا،ثم تقدمت سيدة تقارب جدتي سنا،أم يعقوب حجازي،عانقت جدتي،وبعد دقائق فردت الأطعمة أمامنا،كنت حينها جائعة جدا،فأخذت أتذوق الطعام اللذيذ الذي أعدته..وبعد ساعتين،أخذت عيناي تتحركان بعلامات الاعياء،غلبني النعاس،فزدت ثقلا على جدتي التي لم تستطع أن توقظني،وأمام رجاء صديقتها،وافقت جدتي على قضاء الليلة هناك.

وما بين النوم واليقظة،شعرت بالفرح الشديد يلفني،ثم لفعني الصمت،وأخذت أحلق بعيدا في آفاق أحلامي،وغبت عن الحضور...

وفجأة تحرك صوت أيقظني،الحركة الأولية في المئذنة المجاورة استعدادا لآذان الصبح.والذي استقبلته بخوف وقلق".الله أكبر"،صوت يشع جهرا في أركان مدينة القدس،تبع ذلك حركات وأصوات مارة بايقاعات سريعة..انهم يسارعون لأداء صلاة الفجر..

استيقظت جدتي،ولمحتها تدخل الحمام،وتصب الماء على يديها وقدميها،استغربت،وحضرني السؤال الذي عرفت جوابه متأخرا.

تتكرر هذه الأحداث في مدينة القدس التي شكلت ملامحي الطفولية..وحينما كنت اذهب مع جدتي،كان الزمان القرنفلي يمضي بعبق أخاذ،أكاد خلاله أن أنسى أمي..

بعد قليل،أخذت أصوات أخرى تسمع،أصوات الباعة وحركة العربات،السيارات وزقزقات العصافير.

مليحة،تلك الشابة أيقظتني،غسلتني وأخذت تمشط شعري الذي انساب على ظهري بلونه الأخاذ.

جهزت مليحة طعام الافطار،الزعتر البلدي والزيت النقي وابريقا من الشاي..أخذت ألعب قربها بينما جدتي وأم يعقوب خرجتا لأداء الصلاة..

ما أجمل الصباح في القدس!وهو بدء بالآذان وبقراءات القرآن الكريم..

ما أجمل الصباح !ونداءات الباعة تعزف سيمفونية خاصة لها..

وكأنما رعاية مليحة لي شغلتني عن اللحاق بجدتي،فألقيت القبقاب بعيدا،وأخذت ألعب بأشياء جميلة أعطتني اياها.وعند الظهر..أخذت الشمس تمتد عمودية،عادت جدتي،استراحت قليلا ،ثم أزفت ساعة العودة.ودعنا الأصدقاء،وسرنا عائدين..عبرنا باب الساهرة والحجارة الأثرية والأدراج الجميلة،أخذت أقفز عند كل درجة،وجدتي تشد يدي كي أتبعها.

لفت نظري عند مدخل باب الساهرة"محل ألعاب"،توقفت هناك وتأملت طويلا،ونظرت الى لعبة لفتت نظري،فأشرت الى جدتي،وكأنها لم تنتبه لي،وبدأت بالبكاء والرجاء،فاضطرت جدتي أن تشتريها لي.وهكذا،وفي كل مرة أسير مع جدتي،تكثر طلباتي،ولا أكف عنها،من حلوى والعاب،وكلما استجابت لي،كلما ضاعفت طلباتي..سرنا نعد الخطى الى أن وصلنا الى البيت،كانت أمي واقفة قرب الشرفة،تنظر بعين القلق،ولما دخلنا هدأ روعها .

في المساء،جاء أبي محملا بالطيبات كعادته،وبيده يحمل جهازا غريبا عليه دوائر كبرى،تفرست بالجهاز برغبة شديدة بالمعرفة،حرك والدي الجهاز،أخذت الدوائر بالتحرك،ووالدي يداعبني ويحدثني..ضغط والدي على زر أظنه كان أحمر،واذا بجميع الكلام والتعليقات تتردد ثانية..

انتابني الوجوم،وأخذني الضحك الجنوني،ولا أدري كيف توقفت.ولما استيقظت جدتي،استحلفتها أن تروي لي احدى قصصها،ففعلت.وفي تلك الأثناء،ضغط والدي الزر،ثم أدار الجهاز ثانية،فاذا بصوت جدتي يسمع بوضوح،ولا أستطيع تصوير انفعال جدتي واستغرابها وضحكها المتواصل,

في احدى الأمسيات الحميمية،وبينما كانت تروي لي قصة ممتعة على أمل أن أغفو بهدوء،الا أنني بقيت متيقظة وجدتي هي التي نامت..وفجأة استيقظت وهي تردد عبارة"لا اله الا الله"،وأخبرتني أنها رأتني في المنام على عرق دالية خضراء..استبشرت جدتي وقالت":سيكون لك شأن كبير".

كانت طفولتي غير عادية،كنت شقية جدا،خجولة جدا،كثيرة الابتسام والضحك الذي لا يتوقف،فصيحة اللسان حسب ما يقوله الكبار عني،شديدة الطموح،كثيرة الصرف بشكل يفوق التصور.

كنت أحب سماع المذياع،أجلس قربه ساعات طويلة،أتابع الأغاني الوطنية والمسلسلات أنا وأختي الحبيبة..كبرت أحداث الوطن وكبرت،وكبرت معي تطلعاتي..

كان للحرف في عمري عظمة،وللعلم تقديس،وللوطن بعد أسمى حلمت أن أصل اليه.

وكلما أدرت قرص المذياع،جاءت اذاعة صوت العرب من جوف الصمت،بذلك الايقاع الحماسي المتفجر..الله أكبر،وطني الأكبر،وكل جمال الكون يشتعل في كلمات بركانية كانت

تجد في عمق وجداني المكان.كنت أحفظ الأغنية وأردد كلماتها بسرعة،وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر،وقف الشعب،والله زمان يا سلاحي،وغيرها من عشرات الأغاني التي تحمل بذورها

جدلية البشرى بمستقبل الصراع والمعاناة.

كان بيتنا لحسن حظي يحوي جميع التجهيزات الكهربائية التي يحتاجها المرء لسماع الأخبار والأغاني والموسيقى،والتي كانت نادرة في ذلك الوقت.وبالطبع،وحسب القانون الحاكم،كان يحظر علينا الاستئناس الدائم باذاعة صوت العرب،لأنها تحمل بذورا من التحرك القومي الفاعل والذي ئؤثر في نفوس الأجيال.

كنت ،وكنا ننظر الى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بكل قدسيات وثقة الارادة الفاعلة للتغيير.كان عهدا استقينا من خلاله ملامح نضالية عالية،نمت في أعماقي وأنا طفلة صغيرة،

حملني اياها أمي وأبي، وغرساها في ذهني وفي قلبي ورسما طريقي للمسير.

أذكر الكثير من الاضرابات ومنع التجول في ذلك الوقت،وجنودا يحيطون بالمدينة والبيت،ورغم ذلك،كنت أدير المذياع وأرفع صوته وأغني معه،وكان الجنود ينظرون الي

كطفلة طائشة.

وفجأة،ارتفع صوت المذياع بشدة،وأذكر أنه كان لنا جارة مسنة وتدعي ام ابراهيم،رحمة الله عليها،جاءت الى أمي بسرعة وهي ترتجف،لقد ابتدأت الحرب يا أم رياض،لقد شن العدو على مصر العدوان الثلاثي.بالحقيقة لم أفهم كل التفاصيل،ولكن أغنية الله أكبر ظلت ترن في أذني.فقد كانت تبث  كل بضع دقائق،فحفظتها ورددتها كثيرا.اقتربت من حضن أمي الدافيء

متسائلة:"ماذا يعني العدوان الثلاثي"؟!،وأخذت أمي تشرح لي بلغة السياسة وبمنطقي الطفولي.

القدس يتحشرج صوتها للفاجعة،حالة الاستنفار تعلن،ملامح الحرب تكسو وجهها،وبذور عشق الوطن تنمو في نفوس الأطفال الذين أخذوا يكبرون.

ابتدأت علاقتي بالحرف تأخذ مجراها عبر مجلات ملونة آنذاك،"مجلة سمير"وقصص عاطفية، والسينما التي تعلقت بها كثيرا،وخاصة أفلام الرعب..

كان والدي طيب الله ثراه،يأخذنا في عطلة نهاية الأسبوع الى أماكن عديدة،كان قارئا من الدرجة الأولى،يحتضن الحرف والكتاب دائما،وأمي كانت تحتضننا وتحتضن العالم..وكان أبي

ينبوع القيم العليا والمواقف الانسانية.

في تلك السنة الجامحة بالأحداث،أطل على الكون وجه أخي الحبيب رياض الذي انتظره والدي طويلا،وامتلأ البيت حياة يوم ميلاده..ولا أنسى عيون أمي وبريقها عند تلقيها النبأ.

كان والدي يحلم بمولود يحمل اسمه ليرتب عائلته بعدد محدود،ولكن الضيف الأول جاء بنتا،أختي الكبرى رسمية التي منحها الله جمالا غير عادي،انها تمتلك وجه الملائكة وروح القديسين والثاني جاء بنتا والثالث أيضا.ورغم أن والدي لم يكن تقليديا أبدا،بل كان متقدما على زمنه بسنوات،الا أن شوقه الى الولد كان كبيرا.وجاء المنتظر ليكون مهد انطلاقة العائلة.أذكر ملامحه الانسانية،أذكر طفولته وميلاده الذي ولد في أعماقي فرحة كبيرة..كان الوقت مبكرا ينتظر حلول النور،نساء تدخل البيت،تساؤلات وعيون منتظرة..وقفت أنظر من النافذة استطلاعا،وكان البطل..وبعده بسنة ولد البطل الثاني أخي الحبيب زياد وكانا عنوانا للرجولة والكبرياء..

وقد منح والدي البنات -رغم انتظاره للبطل الآتي- حنانا منقطع النظير.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف