قبل أن يحلق عباس بن فرناس في الفضاء مقلدا الطيور ، أمضى وقتا طويلا في دراسة تحليق الطيور ، درس حركة الجناحين، ووظيفة الريش، والاستعانة باتجاه الريح ، لكنه أهمل دراسة الهبوط ، جل فكره انصب على التحليق فقط !! ولم يفكر في لحظة الهبوط !! وفعلا حلق عاليا ولمسافة جيدة ، وعندما أراد الهبوط ،كاد أن يقتل ، لقد تحطمت أضلاعه ، بعدها أخذ يدرس سبب الفشل.
قبل أن تطير عليك أن تفكر مليا بلحظة الهبوط الحتمية ؛ وإلا تكسرت أضلاعك، أو ربما أكثر .
إن الجهل عدو الحكمة ، وجذر المصائب ، وإذا هاج الجهل فبأي عقل يمكن أن يهدأ ،الإنسان النبيل لا يجاري غرائزه ، بل يتسامى عليها ؛ فالغرائز إذا تفجرت في كل الجهات فإنها تحوم كالبوم ،و تنعق كبوق الشر الرخيص ، فتهب الدهماء مثل الجوارح على الفريسة تنهشها ثم يحتدم الصراع على ما تبقى من الفريسة - عود ثقاب و يشتعل الهشيم - فتدعى كل جماعة نفسها مظلومة، وكل أخرى ساطية وظالمة؛ فيتعطل العقل ،وينغلق الفكر، ويختلط النبيل بالحقير ، عندها إياك أن تصدق خرافة العدل و العدالة ، إنها الغرائز تجمح!!! ليبقى كل طرف يدافع ضد ذوبانه، أو ضياعه بين الأقدام في متاهات مغلقة كالمقاصل !! في وقت الصراع تدور الرحى حلقات في متاهة دائرية ، و يصير كل شيء صحيحا !!! الظلم ، القهر ، القتل ، الجرائم ظاهرة وباطنة ، إلا الحقائق فعليها غطاء التزوير!!!
يعلو الصراخ و العويل : هل من منقذ فوق مرتبة الغريزة !! لقد فات الأوان، وصار الماضي ضريحا كبيرا ملآن ، و الذاكرة متعبة من صور المآسي ،والحاضر مغسول بدموع الندم على الحال البائس.
يقول افلاطون : ( إن الطاغية الطامح يستولي على رعاع من الطائعين العميان، ويسوقهم - إنه خائن لطبقته - وبعد حين لا بد للطائعين إلا أن يزدادوا طاعة أو ان يهربوا )
لذلك توصف الديموغرافيات بالعقم الأسود ؛ عندما تنضب فيها مظاهر النزاهة والتميز وتكثر سطحياتها و جهلاؤها ، ويتحول فكرها إلى ملصقات وشعارات وهتافات . فالنزاهة لها قاعدة لا تخطىء، والزور يدخل صغيرا وينتهي إلى جبال من الزور تشبه أكوام القمامة برائحتها وعفنها و قبحها، وإذ يتكاثر الغث، يبتعد المؤهلون بأنفسهم، ويختار الصالحون الانزواء، وتنزلق الجماعة برمّتها إلى التدهور.( الكبار يحتكرون الصمت، أما الصغار فيحتكرون الكلام و الثرثرة ) أو كما قال الفيلسوف ديكارت : (عاش ونجا من بقي في الظل )
إن من أبشع مراتب الجهل : التورط في وهم امتلاك الحقيقة كلها !! يحتقر عقله من يعتقد بذلك ، ويحتقر عقله أكثر من يتكئ على فكر الآخرين وتوصياتهم!! دون إعمال فكره . يقول برتراند راسيل :(مشكلة العالم : أن الجهلاء والمتشددين واثقون بمعرفتهم أشد الثقة ، أما الحكماء فتملؤهم الشكوك دائما ). الجاهل الذي يظن أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وحده ، لا يعيش الواقع ، بل ولا يحب الواقع ، لأنه يذكره بذاته الضيقة ، إنه يعيش ذاته الضيقة ،ولا يعيش ذاته المجموعية،إنه يرفض الآخر، لا يستمع إلى أدلة جديدة ، ولا إلى وجهات نظر جديدة ، ظنا منه أنه امتلك الحقيقة وأغلق فكره ،فهو يسمع ولا يسمع !! يرى ولا يرى !! لا يريد أن يستمع إلى جديد في قديم ، يريد أن يستمع إلى ما يريد ،ويصم أذنيه عما لا يريد ، وكل قول غير قوله باطل، إن أول ما يفعله التخلف هو إلغاء الآخر !!
الواقع ليس ملكك لوحدك إنه ملك ﻷبنائه ، لا تفصله على قدك ومزاجك.إن أعظم لياقات الإنسان : الوعي ، وقمة الوعي يكون بالنقد ، وتقبل النقد ، فالوعي بلا نقد لا قيمة له ، لا وعي بلا نقد ، فالنقد أهم لياقات الوعي ، تجرأ واستخدم عقلك ، قد يمنعك أحد من حرية التعبير،و لكن لا يستطيع أحد كان من كان من حرية التفكير ،فكر ، تدبر ، برر، برهن هذه حقيقة الإنسان المثلى.
لذلك عندما نمر بالعمالقة المتفردين نتوقف عند ذكراهم متأملين ومتألمين.
قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبة بيعته:( أيها الناس ، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرد عليه حقه إن شاء الله ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى أخذ الحق منه إن شاء الله )
يحكى أن سيدنا عمر رضي الله عنه استسقى شابا من قريش بعد أن عطش عطا شديدا ، فخلط له الشاب ماء بعسلٍ، فرفض عمر أن يشربه ؛ لأنه شعر أن ذلك رافهه أي بها ترف وردد قوله تعالى : ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ) فقال الشاب : يا أمير المؤمنين ليست هذه الآية لك ولا لهذا القبيل !! فقال عمر: وكيف ذلك ؟! فأجاب الشاب : أقرأ ما قبلها يا أمير المؤمنين، يقول تعالى: ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) ، فضرب عمر كفا بكف وقال : كل الناس أفقه من عمر ورددها مرتين، هذا عمر يقر بأنه لم يؤول الآية تأويلها الصحيح وأن الشاب أفقه منه في تأويلها ، إنها عظمة وتواضع الكبار ، أول درس نتعلمه مما سبق : عدم اقتطاع النص ، أي عدم سلخه من سياقه ، وإلا انحرف عن مبتغاه، يقول المؤرخون : ليس هناك مرحلة تاريخية يتيمة ،فأي مرحلة تاريخية لها علاقة بما قبلها ومؤثرة بقليل أو بكثير بما بعدها ، كقطعة المرايا المتكسرة ليس لها مخارج .
عندما يثور الغبار يعلو ويهبط و يعربد؛ فيحجب الرؤية ويلوث الصفاء و يتركنا متخبطين ننتظر بيأس وملل زخة المطر كالرحمة ؛ لتغسلنا وتطهرنا وتعيد الغبار إلى وكره .
بقلم : محمود حسونة ( أبو فيصل )
قبل أن تطير عليك أن تفكر مليا بلحظة الهبوط الحتمية ؛ وإلا تكسرت أضلاعك، أو ربما أكثر .
إن الجهل عدو الحكمة ، وجذر المصائب ، وإذا هاج الجهل فبأي عقل يمكن أن يهدأ ،الإنسان النبيل لا يجاري غرائزه ، بل يتسامى عليها ؛ فالغرائز إذا تفجرت في كل الجهات فإنها تحوم كالبوم ،و تنعق كبوق الشر الرخيص ، فتهب الدهماء مثل الجوارح على الفريسة تنهشها ثم يحتدم الصراع على ما تبقى من الفريسة - عود ثقاب و يشتعل الهشيم - فتدعى كل جماعة نفسها مظلومة، وكل أخرى ساطية وظالمة؛ فيتعطل العقل ،وينغلق الفكر، ويختلط النبيل بالحقير ، عندها إياك أن تصدق خرافة العدل و العدالة ، إنها الغرائز تجمح!!! ليبقى كل طرف يدافع ضد ذوبانه، أو ضياعه بين الأقدام في متاهات مغلقة كالمقاصل !! في وقت الصراع تدور الرحى حلقات في متاهة دائرية ، و يصير كل شيء صحيحا !!! الظلم ، القهر ، القتل ، الجرائم ظاهرة وباطنة ، إلا الحقائق فعليها غطاء التزوير!!!
يعلو الصراخ و العويل : هل من منقذ فوق مرتبة الغريزة !! لقد فات الأوان، وصار الماضي ضريحا كبيرا ملآن ، و الذاكرة متعبة من صور المآسي ،والحاضر مغسول بدموع الندم على الحال البائس.
يقول افلاطون : ( إن الطاغية الطامح يستولي على رعاع من الطائعين العميان، ويسوقهم - إنه خائن لطبقته - وبعد حين لا بد للطائعين إلا أن يزدادوا طاعة أو ان يهربوا )
لذلك توصف الديموغرافيات بالعقم الأسود ؛ عندما تنضب فيها مظاهر النزاهة والتميز وتكثر سطحياتها و جهلاؤها ، ويتحول فكرها إلى ملصقات وشعارات وهتافات . فالنزاهة لها قاعدة لا تخطىء، والزور يدخل صغيرا وينتهي إلى جبال من الزور تشبه أكوام القمامة برائحتها وعفنها و قبحها، وإذ يتكاثر الغث، يبتعد المؤهلون بأنفسهم، ويختار الصالحون الانزواء، وتنزلق الجماعة برمّتها إلى التدهور.( الكبار يحتكرون الصمت، أما الصغار فيحتكرون الكلام و الثرثرة ) أو كما قال الفيلسوف ديكارت : (عاش ونجا من بقي في الظل )
إن من أبشع مراتب الجهل : التورط في وهم امتلاك الحقيقة كلها !! يحتقر عقله من يعتقد بذلك ، ويحتقر عقله أكثر من يتكئ على فكر الآخرين وتوصياتهم!! دون إعمال فكره . يقول برتراند راسيل :(مشكلة العالم : أن الجهلاء والمتشددين واثقون بمعرفتهم أشد الثقة ، أما الحكماء فتملؤهم الشكوك دائما ). الجاهل الذي يظن أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وحده ، لا يعيش الواقع ، بل ولا يحب الواقع ، لأنه يذكره بذاته الضيقة ، إنه يعيش ذاته الضيقة ،ولا يعيش ذاته المجموعية،إنه يرفض الآخر، لا يستمع إلى أدلة جديدة ، ولا إلى وجهات نظر جديدة ، ظنا منه أنه امتلك الحقيقة وأغلق فكره ،فهو يسمع ولا يسمع !! يرى ولا يرى !! لا يريد أن يستمع إلى جديد في قديم ، يريد أن يستمع إلى ما يريد ،ويصم أذنيه عما لا يريد ، وكل قول غير قوله باطل، إن أول ما يفعله التخلف هو إلغاء الآخر !!
الواقع ليس ملكك لوحدك إنه ملك ﻷبنائه ، لا تفصله على قدك ومزاجك.إن أعظم لياقات الإنسان : الوعي ، وقمة الوعي يكون بالنقد ، وتقبل النقد ، فالوعي بلا نقد لا قيمة له ، لا وعي بلا نقد ، فالنقد أهم لياقات الوعي ، تجرأ واستخدم عقلك ، قد يمنعك أحد من حرية التعبير،و لكن لا يستطيع أحد كان من كان من حرية التفكير ،فكر ، تدبر ، برر، برهن هذه حقيقة الإنسان المثلى.
لذلك عندما نمر بالعمالقة المتفردين نتوقف عند ذكراهم متأملين ومتألمين.
قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبة بيعته:( أيها الناس ، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرد عليه حقه إن شاء الله ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى أخذ الحق منه إن شاء الله )
يحكى أن سيدنا عمر رضي الله عنه استسقى شابا من قريش بعد أن عطش عطا شديدا ، فخلط له الشاب ماء بعسلٍ، فرفض عمر أن يشربه ؛ لأنه شعر أن ذلك رافهه أي بها ترف وردد قوله تعالى : ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ) فقال الشاب : يا أمير المؤمنين ليست هذه الآية لك ولا لهذا القبيل !! فقال عمر: وكيف ذلك ؟! فأجاب الشاب : أقرأ ما قبلها يا أمير المؤمنين، يقول تعالى: ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) ، فضرب عمر كفا بكف وقال : كل الناس أفقه من عمر ورددها مرتين، هذا عمر يقر بأنه لم يؤول الآية تأويلها الصحيح وأن الشاب أفقه منه في تأويلها ، إنها عظمة وتواضع الكبار ، أول درس نتعلمه مما سبق : عدم اقتطاع النص ، أي عدم سلخه من سياقه ، وإلا انحرف عن مبتغاه، يقول المؤرخون : ليس هناك مرحلة تاريخية يتيمة ،فأي مرحلة تاريخية لها علاقة بما قبلها ومؤثرة بقليل أو بكثير بما بعدها ، كقطعة المرايا المتكسرة ليس لها مخارج .
عندما يثور الغبار يعلو ويهبط و يعربد؛ فيحجب الرؤية ويلوث الصفاء و يتركنا متخبطين ننتظر بيأس وملل زخة المطر كالرحمة ؛ لتغسلنا وتطهرنا وتعيد الغبار إلى وكره .
بقلم : محمود حسونة ( أبو فيصل )