الأخبار
بلومبرغ: إسرائيل تطلب المزيد من المركبات القتالية وقذائف الدبابات من الولايات المتحدةانفجارات ضخمة جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب بغدادالإمارات تطلق عملية إغاثة واسعة في ثاني أكبر مدن قطاع غزةوفاة الفنان صلاح السعدني عمدة الدراما المصريةشهداء في عدوان إسرائيلي مستمر على مخيم نور شمس بطولكرمجمهورية بربادوس تعترف رسمياً بدولة فلسطينإسرائيل تبحث عن طوق نجاة لنتنياهو من تهمة ارتكاب جرائم حرب بغزةصحيفة أمريكية: حماس تبحث نقل قيادتها السياسية إلى خارج قطرعشرة شهداء بينهم أطفال في عدة استهدافات بمدينة رفح"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيران
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

قراءة في منير فاشة: "حكايتي مع الرياضيات" بقلم:ناجح شاهين

تاريخ النشر : 2016-10-22
قراءة في منير فاشة: "حكايتي مع الرياضيات"

ناجح شاهين

هذه هي حكاية منير فاشة الثانية. يريد منير أن يخط طريقاً يروج فكرة بث الحكايات التي تكشف حدود "المقدس" العلمي. ولا بد أن الرياضيات من أكبر المقدسات، إن لم تكن أكبرها على الإطلاق.

ولعل الكلمة المفتاح في تفكير فاشة هي كلمة "السيطرة". وهي كلمة يتم استعمالها دون تحديد كاف. كما أنها تختلط على الأرجح في ذهن القارئ/المتلقي بكلمة القوة power التي تشيع في فلسفات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. ويزيد فاشة الموقف التباساً بعدم إشارته إلى فوكو أو أي رمز "ما بعدي" بينما يفتتح مقدمته بعرض الاحتكارات العولمية الخمسة لسمير أمين (ص 5) لينطلق منها إلى القول بأن احتكار حركة المال، ووسائل التدمير العسكري ...الخ ليست هي الجوهرية وإنما "احتكار ادعاء التفوق الذهني والأخلاقي وما يشكل معرفة وعلوماً ورياضيات." ومثلما يذكر فاشة أمين، فإنه يستحضر غرامشي وفكرته عن الهيمنة. غني عن القول إن فاشة يستشهد بغرامشي مع افراغ فكرة الهيمنة من جوهرها. غرامشي بطبيعة الحال كان يتحدث عن الهيمنة الآيديولوجية الطبقية، ولم يكن يتحدث عن المعرفة المتشكلة في الفراغ. والواقع أن فاشة يتحدث عن استخدام المعرفة لخدمة من يريدون السيطرة. ولكن ذلك يظل غائماً وعاماً، ولا يمت إلى فكرة الهيمنة الطبقية بصلة واضحة. وذلك يتضح في غياب أية رغبة لدى فاشة في مناقشة أية برامج أو رؤى للإطاحة بأية قوى مهيمنة. وفي أحسن الأحوال يتبنى الرجل فكرة "ما بعدية" تنصح الجمهور باليقظة تجاه ما يحصل، وتوسيع الفهم لآليات السيطرة بغرض مقاومتها. بالطبع ليس هناك خطة "ثورية" بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. لكن فاشة يقدم على الرغم من هذه التحفظات وغيرها إضاءات هامة على صعيد عيوب النظام التعليمي السائد كونياً منذ بدايات العصر الحديث. وهو ينتقد تعبير "الحداثة" ذاته لأنه في رأيه يشي بكونية ليست من حقه مقارنة بالأنظمة السابقة عليه. لكننا من حيث التحقيب لا نجد مسوغاً قوياً للإقرار بوجهة نظر فاشة. ذلك ان التحقيب في الواقع يتم على نحو بسيط ومباشر وشبه تلقائي، لأنه يقسم العصور إلى قديم ووسيط وحديث، وهو مثلما نزعم مجرد تحقيب زماني قد لا يشي بأية أبعاد أيدويولوجية. ولعل مسألة تسمية الحقب والعصور من أصعب الأشياء. وقد يفيدنا في هذا السياق أن نذكر أن من أرادوا نقد الحداثة أطلق عليهم اسم "ما بعد الحداثة". واليوم يدور الحديث عن "ما بعد ما بعد الحداثة" وقد لا نعدم بعد عشر سنوات من يتحدث عن "ما بعد، ما بعد، ما بعد الحداثة". وهذه التسميات لا تشي بادعاء الكونية، بقدر ما تشي بعجز "المؤرخين" عن إعطاء أسماء تصف الظاهرة على نحو تعريفي "ماهوي" على طريقة الحد الأرسطي.

ينتقد فاشة عملية التقييم العمودي الذي يقارن الناس بعضهم ببعض، ويعد هدف ذلك هو السيطرة (ص 6). وبدلاً من التركيز على ما يمكن لكل منا أن يفعله فإننا نوضع جميعاً أمام اختبار واحد موحد (مثل التوجيهي) دون مراعاة الفروق بيننا. وهكذا فإن تنافساً غير عادل على اتقان الأشياء ذاتها هو الذي يحدث. وهذا بالطبع إخضاع وعبودية وتكييف للفرد وتطويع له ليتقبل ما يملى عليه دون مساءلة.

بالطبع نحن هنا أمام ما نميل إلى تسميته ب"النزعة الأداتية" التي تجعل الإنسان "ماهراً" على نحو معين في إنجاز أشياء بذاتها يحتاجها الاقتصاد القائم والمجتمع الذي يقف وراءه. لذلك نميل إلى القول إن الجانب المهم هنا بالنسبة لمن صاغوا النظام هو تحقيق أقصى قدر ممكن من الفاعلية التي تعظم فرص الربح. وهذا يعني أن الممارسة المدرسية بمراحلها المختلفة وممارسة البحث العلمي تخضع جميعاً لمقتضيات "التطور" الذي يؤدي إلى تعظيم الربح للطبقة الرأسمالية. ومن هذه الناحية نميل إلى القول إن موضوعة تضبيط الناس على حد تعبير فوكو وموضوعة السيطرة بحسب فاشة إنما هي ناتج ثانوي "مفيد" ولكنها ليست في صلب الخطة. هناك بالطبع ايديولوجيا يتم بثها في المنهاج بأجزائه المختلفة تعمل على تعميق امتثال الطفل-الإنسان لمقتضيات تأبيد السيطرة الرأسمالية. أما التقانة الأداتية الجنونية فهي "فاعلية" اقتصادية أساساً تنعكس في الممارسة تدميراً للذكاء متعدد الأبعاد وتختزل الإنسان في مهارة ذات اتجاه واحد.  

ينتقد فاشة بحق (ص9) فيما نزعم النزعة الرقمية التي تنحو إلى قياس كل شيء بما في ذلك الإنسان عن طريق الأرقام. وهكذا يغدو الذكاء والإنجاز البشري، والقيمة الإنسانية كلها قابلة للتكميم الذي يفيد المؤسسة المهيمنة في اختيار العناصر البشرية اللازمة لنجاح عملها. بالطبع هذا تقييم يحول الإنسان إلى سلعة أو إلى ماكنة تحدد قيمتها رقمياً. وقد أفشل في امتحان ما رقمياً دون أن يعني ذلك أن من حصلوا على الأرقام العالية هم أفضل مني في نواح مختلفة. وغني عن القول إن الإنسان قيمة في ذاته وأن هذه الأرقام التي تغرب الإنسان عن جوهره هي تدمير لمعنى الإنسانية. والواقع أن فاشة (ص 10) يرى أن هناك إفساداً على نطاق واسع لشتى نواحي الحياة، ولكنه يعزو ذلك إلى ما ينتشر في "المدينة" من "معارف وعلوم ورياضيات." وهذا في رأينا الضعف الجوهري في موقف فاشة لأنه يقوم هنا بالضبط بوضع العربة أمام الحصان. ليست المعرفة إلا النتاج الضروري لبنية المجتمع، وخصوصاً تكوينه الاقتصادي وما يهيمن فيه من علاقات إنتاجية تصوغ الوعي العلمي على نحو معين يتلاءم مع احتياجات الواقع المعطى. وبهذا المعنى فإننا نصر على أن نقد المعرفة مهما كان مهماً وضرورياً لن يذهب بنا إلى أي مكان إذا لم يشهد المجتمع البشري في مستوى كوني ثورة اجتماعية شاملة تهز أسسه القائمة وتقود إلى تغيير في منظوراته المعرفية على نحو جذري.

لكن فاشة لا ينطلق على الأرجح من موقع قريب نظرياً لما ذهبنا إليه، وهو على العكس يرى أن وعي الأفراد واتجاههم نحو رواية "حكاياتهم" هي المنطلق للتغيير. وفي هذا السياق يختلط لديه النقد المهم لأداء المعرفة في السياق الرأسمالي بنقد "رومانسي" عام للإنجاز الإنساني كله مع دعوة إلى العودة للطبيعة والماضي لا يمكن أن تقودنا إلى أي فهم مشترك. ولعل من المناسب أن نذكر هنا أن محاججة فاشة تفتقر إلى الإحكام الاستدلالي –كيف لا وهو يثور اساساً ضد هذه القواعد بما في ذلك مناهج العلم وطرائقه الحديثة والقديمة على السواء على الرغم من أنه يظن أنه غير منزعج من القديمة-، ولذلك نجده مثلاً يستدعي "بيت الحكمة" العباسي لكي يكون نموذجاً للجامعة في أحسن صورها. بالطبع يتوهم طرح فاشة أن المأمون كان يعيش في عالم خال من الصراع، وأن بيت الحكمة كان مؤسسة نقية لا تريد سوى تنمية العقل والمعرفة الخالصة. ولعل من الغريب بالفعل أن يتوهم مثقف عميق مثل فاشة أن المأمون الذي كان يدفع ثمن الكتاب ذهباً في بعض الأحيان، لم يكن لديه مشروع أيديولوجي ضخم. لكن الأدلة التاريخية اليوم تشير إلى دور خطير أداه المأمون ودولته في بناء الدين الجديد –الإسلام- من بين أمور أخرى. وقد يفيدنا أن نذكر فاشة أن دولة المأمون لم تكتف بتوزيع الذهب على أصدقائها من المفكرين، وإنما قامت بمطاردة أعدائها الأيديولوجيين بلا هوادة وصولاً إلى مستوى الاعتقال والنفي والقتل.

يتحدث فاشة عن "المجاورة" (ص 14) بوصفها الطريقة الأكثر أصالة للتعلم واكتساب المهارات والخبرات المتجذرة في الوجود الاجتماعي. وينتقد التخصصات الضيقة التي تمنعنا من رؤية الترابط في الوجود الانساني والطبيعي والاجتماعي. وهذا النقد محق من ناحية أولية دون شك. ولكن من قال بأن أساطين العلم الحداثي قد فشلوا في إدراك أهمية الترابط؟ لقد ذهب رجل مثل الفيزيائي هيزنبرج حد القول إن من لم يقرأ فلسفة أرسطو ويتمثلها جيداً لا يمكن له أن يفهم فيزياء الكم أو مبدأ اللاتحديد principle of none certainty. لكن هيزنبرج لا يشارك فاشة رأيه في أن المعرفة المتخصصة العميقة في الفيزياء وما أنتجته من بناء نظري وتطبيقي هائل يمكن أن تتحقق بالمجاورة. المجاورة طريقة مشروعة وجميلة وتلقائية للتعلم حول الحياة الفعلية ولكنها بالطبع لن تزودنا بجراحي دماغ من طراز رفيع، كما أنها لن تبني لنا جيشاً يمتلك الأسلحة المعقدة الضرورية لكي نحمي أنفسنا في عالم الوحشية الرأسمالية التي تنقض علينا طوال الوقت وتنهبنا وتحتجز تطورنا، وتعيدنا إلى مراحل سابقة كلما قطعنا شوطاً كبيراً أو صغيراً.

ينقض فاشة دون هوادة على أسس العلم الأرسطية-الرشدية قبل الحداثية وما تلاها. وهكذا يصرح (ص 19) أنه لا يستطيع "التفكير بكلمة واحدة يمكن أن يكون لها معنى عالمي." وهذا يعني ببساطة أن قواعد العقل الأرسطي الأساس من قبيل الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع لا يمكن التوافق بخصوصها بهذا القدر أو ذاك. ولعل من المؤسف أن قيمة الصواب الثنائية الأرسطية ينسبها فاشة خطأ ل "القبيلة الأوروبية" وعصرها الحديث، في حين أن هذه القيمة النابعة من مبدأ عدم التناقض والتي يمكن أن نختلف معها بالطبع –مثلما فعل قبلنا ماركس وهيزنبرج وغيرهم- قد تم تبنيها على نطاق كوني قبل الحداثة بزمن طويل، ولم تتمكن الحداثة من تجاوزها على الرغم من توجيه بعض النقد لها. بالطبع يمكن أن ننسب إلى قيمة الصواب الأرسطية، قسمة الناس (ص 20) إلى ناجح وفاشل وما يتصل بها من امتحانات غبية –خصوصاً العامة-  تجعل نسبة كبيرة من الطلبة لا يصلحون لشيء لسبب تافه هو أنهم لم ينجحوا في امتحان قد يكون هو الغبي وليس الطالب الذي لم ينجح فيه. ولكن ذلك شيء وقول فاشة أن قصف اليابان بالقنابل الذرية هو نتاج لهذا الفيروس التعليمي شيء آخر. اليابان لم تقصف بالقنابل الذرية لأن الولايات المتحدة اعتقدت أنها ذكية وأن اليابان غير ذكية. والاستعمار التدميري لجنوب العالم لم يكن نتيجة اعتقاد أوروبا أن البشر غير متساوين في الذكاء. ليس اختراعاً للعجلة أن نقول إن فكرة عدم مساواة البشر هي نتاج للحاجة لتسويغ قهر شعوب العالم ونهبها، والمعارف التي تسوغ ذلك ليست السبب فيما حصل ويحصل، وإنما هي المنتجات الأيديولوجية الضرورية لتسويغ الاحتياجات الاستعمارية النابعة من البناء الاقتصادي الرأسمالي. هنا يتقدم لينين بالطبع على فاشة على الرغم من أن الثاني يأتي بعده بقرن من الزمان.

هنالك الكثير من الأفكار الوجيهة في كتيب منير فاشة الذي نقوم بقراءته. ولكنه في حمى اندفاعه لنقد كل شيء يقع في المغالطات –التي قد لا يؤمن بها بسبب أنها تأتي من المؤسسة العلمية الرسمية التي يريد أن ينقضها- ومن ذلك نقده لفكرة الانتقال مع الأطفال من البسيط إلى الأصعب والأكثر تركيباً. وهو يرى في هذا السياق أن الأطفال يمكن أن يتعلموا أي شيء، ويسوق حجة كيف أن الأطفال جميعاً يتعلمون اللغة في ثلاث سنوات. وهو مثال موفق في الظاهر لأن اللغة واحدة من الظاهرات الإنسانية الأكثر تعقيداً. ولكن التفحص السريع للغة التي يتقنها الطفل يمكنه أن يكشف لنا أن الطفل إنما ينجز مستوى أولياً بسيطاً من اللغة وأن هناك "طوابق" أخرى في اللغة قد لا يتقنها المرء في حياته كلها. وليس أسهل لإثبات ذلك من مقارنة لغة شخص بالغ مدرب مثل فاشة أو مثل كاتب هذه السطور مع لغة محمود دوريش أو ابن رشد. بل إن فاشة نفسه لم يتمكن على ما يبدو من كتابة نصه "حكايتي مع الرياضيات" بالعربية، وإنما كتبه بالإنجليزية، ليقوم شخص أكثر احترافاً بمراجعته وتدقيقه وتصويبه، ثم ترجم إلى العربية. ونستطيع أن نزعم أن مترجمة الكتاب لم توفق دائماً إلى استخدام عربية سليمة، وهذا يعني أن الطفل لا يتملك اللغة حقاً بالسهولة التي يصفها فاشة.

أحياناً يقول الأستاذ فاشة أشياء أولية في فكر الحداثة الذي يمارس نقده معتقداً أنه يكتشف أشياء جديدة في نقد الموقف الإنساني من المعرفة. يقول ص 39: "نحتاج اليوم إلى يقظة لا إلى تطور؛ إلى حماية لا إلى تنمية؛ إلى شفاء لا إلى ارتقاء على سلم الاستهلاك. المحور الأهم في عملية التعلم يكمن في مواجهة الإنسان لنفسه ومعتقداته، والشك فيما يسمعه من خبراء ومهنيين." كأننا نقرأ ديكارت في "رسالة في الطريقة" أو في "التأملات" وليس هناك من زيادة على ما طلبه ديكارت من نزعك شك منهجية تضع كل ما هنالك موضع التفحص الواعي الدقيق.

من الأمور الجوهرية التي يجدر ذكرها نقد فاشة المهم لخيلاء الأكاديميين الذين يظنون أنفسهم يمتلكون ناصية المعرفة دون غيرهم. وفي هذا السياق ينتقد البحث الذي تنتجه الجامعات ومراكز البحث جميعاً. وقد تنبه لذلك كله مثلما يقول في سياق عمله بين 1997 و 2007 في مركز دراسات الشرق الأوسط التابع لجامعة هارفارد. وقد وفرت له تلك الجامعة المعروفة بوصفها الجامعة التي تحصل دائماً على "الأرقام" الأعلى، الفرصة لكي يقوم بأبحاثه المختلفة التي تنقد العلم وتدعو إلى لون مختلف من المعرفة وإنتاجها.

أذكر أنني كنت طالباً في جامعة معروفة أخرى، ولكنها تحصل على أرقام بعد هارفارد طوال الوقت، وتلك هي جامعة بنسلفانيا الشهيرة. وفي الوقت الذي تحتل فيه هارفارد المرتبة الأولى دائماً على ما يبدو، فإن بنسلفانيا أختها الأقدم تأتي في المرتبة السادسة أو السابعة. في بنسلفانيا كنت بصدد اقتراح مشروع بحث لرسالة الدكتوراة، وقد حفيت أقدامي من أجل أن أقنع أحداً من الأساتذة بأن يتعاون معي في بحثي الذي كانت خطته تتمحور باختصار تام حول تفسير الظاهرة الديمقراطية استناداً إلى التباس الاستغلال الاجتماعي في النظام الرأسمالي المعاصر مقارنة مع الأنظمة السابقة التي كان يتم فيها انتزاع الفائض من الناس بالقوة. وقد رفضوا "فتح" الموضوع. وكان مسوغهم الأساس أن لا أحد في هارفارد أو ستانفورد أو برنستون...الخ يرى هذا الموضوع يستحق البحث. لكن هارفارد "كبيرتهم" بالذات وافقت على فتح منتدى كامل وتمويله ليعمل فيه الدكتور فاشة وينفذ أبحاثه النقدية. ربما أن علينا الاستنتاج للأسف أنه على الرغم من اخلاص الرجل وسلامة نيته، إلا أنه في الواقع كان يعمل في نطاق مقبول تماماً بالنسبة لهارفارد: إن هارفارد كانت "سعيدة" بأن ينقد العلم وأن يدعو أبناء أمته إلى "المجاورة" بدلاً من إنتاج المعرفة المتخصصة التي تنافس هارفارد وتنافس الاستعمار العالمي. المعرفة بالمجاورة لن تنتج صناعة ولا أسلحة حاسمة تغير خريطة ميزان القوى المائل كلية لمصلحة مركز العالم. نميل إلى القول إن سمير أمين محق في توصيفه للاحتكارات أكثر من فاشة. ويؤسفنا أنه على الرغم من أهمية الكثير من النقاط التي يثيرها فاشة في سياق نقده للمعرفة ونظام التعليم، إلا أنه في المحصلة النهائية يقدم مشروعاً "أيديولوجياً" لا يتناقض مع احتياجيات تأبيد السيطرة الاستعمارية على العالم الفقير في الجنوب.

ليس مهماً كثيراً أن نذكر أن مراجع الدكتور فاشة جميعاً باللغة الإنجليزية بما فيها الأوراق التي كتبها الرجل نفسه. ولكن هذا يظل أمراً له دلالة عندما يغيب عن الكتيب كل ما يتصل بعلاقة الوعي والعلم بالنظام الاقتصادي-السياسي المسيطر في العالم منذ خمسة قرون، ونعني به الرأسمالية. لقد قامت الرأسمالية بالطبع بإنشاء نظام معرفي وتعليمي "على قياسها" ولكنها أيضاً قامت بإبادة سكان قارة عن بكرة أبيهم، وقد كانوا يشكلون خمس سكان العالم. وقامت الرأسمالية أيضاً باستعباد ثلاثة أرباع العالم، ونقلت ملايين البشر من القارة السمراء إلى القارة "الجديدة" لكي يكونوا عمالاً غير أجراء (=عبيد) في مزارعها في أمريكا الشمالية. وبنت الرأسمالية قوة عسكرية غير مسبوقة استخدمتها وما تزال في السيطرة على العالم ونهبه.

ليس تغيير موقفنا من الرياضيات أو طرق تعليمها كافياً بذاته لتغيير هذه الوقائع، لا بد من ثورة اجتماعية وسياسية جذرية تهدم النظام الرأسمالي الكوني، والعالم اليوم على مفترق طرق على حد تعبير سمير أمين: إما الاشتراكية أو البربرية.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف