الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/26
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

نائل البرغوثي يشق طريق الآلام بصبر في سجون الاحتلال بقلم:بسام الكعبي

تاريخ النشر : 2016-10-22
في عيد ميلاده التاسع والخمسين:

نائل البرغوثي يشق طريق الآلام  بصبر في سجون الاحتلال

بسام الكعبي

الجزء الأول

 تَجوّل الأسير نائل البرغوثي مطلع نيسان 1997 مع رفاقه في ساحة "فورة" معتقل نفحة الصحراوي، تحت شمس صباحية فاترة، وطار بصره فجأة  إلى عصفور بحجم قلبه، يتمدد دون نبض في الرمل: خَطَفه (أبو النور) على الفور،  نفض عنه حبيبات النقب الصفراء، مَسَح مراراً على قلبه الساكن، ووضَعَه تحت جرزة صوف لعله يخطف  قليلاً من دفئ قلب طاهر. إستعاد العصفور وعيه بمعجزة السماء بعد دقائق من "المعالجة" بوسائل متاحة لأسير يتحدى قسوة السجّان في صحراء النقب؛ أطعَمه، وبلّل حلقه بقطرات ماء؛  لمواجهة جفاف في صحراء قاحلة. إسترد الطائر روحه وحرك جناحيه استعداداً للطيران. تأمل الرمادي بدقة ملامح المسعف الوسيم، "طالباً" إستكمال مهمته ومساعدته على التحليق. قفز إلى الفضاء مترنحاً، وقد يكون فشل في وظيفته التي يحترفها، وربما سَقط مغشياً عليه فوق الرمل الأصفر الجاف خارج أسوار المعتقل!

تمنى نائل أن يحلق عصفور الشمس حراً في السماء، يحمل أنفاسه التي نفخ بها في صدره ليخفق بجناحيه عالياً، ويفترس كطائر رعد لهيب الشمس، يكفيه قيّد سلاسله منذ عشرين عاماً  (في ذلك الوقت). حَزنَ نائل لاحتمالية الموت التي تربصتْ بالرمادي الجميل، وكتب يخاطب الجناح الغائب عن البصر:" لَمْ تتركنا وحدنا؟ لقد تَحمَلتَ بشجاعة تبعات إصرارك على مرافقتنا من منفى إلى آخر، من شمال أخضر يانع إلى جنوب أصفر قاحل. رفَضتَ كل محاولات الغزاة بدفننا في الصحراء، ومنحتنا صلاتك الخاصة عند كل فجر، لعل تغريدتك الفلسطينية المتفجرة بالجمال والإيمان، تزهر فينا الأمل بالحرية والانتصار على السجّان. أنت تشدو في صحراء واسعة مخيفة دون خوف. لروحك الشجاعة التي سلمتنا القوة والتماسك والصبر..السلام والطمأنينة".

كيفَ عثر الأسير نائل البرغوثي على لغته الجميله، وتماسكه الأسطوري، وقبض على الجمر منذ سنوات طويلة جداً.. مِنْ أين إستمد  صلابة مواصفاته ليشق طريق الآلام بصبر وثبات؟ وكيف وظَفَ قدرته على صياغة المفارقات بطريقة ساخرة وبارعة؛ ساعدته على مزيد من التماسك في سنوات الاعتقال القاسية والطويلة جداً؟

شقاوة طفل

في الثالث والعشرين من تشرين أول  1957 رزق صالح البرغوثي وزوجته فرحة بالمولود الثاني  نائل في قرية كوبر شمال رام الله، لعائلة عريقة  تعود جذورها إلى قرية دير غسانة المجاورة. 

تعلم نائل في طفولته المبكرة كيفية إشعال سيجارة الهيشة من جده عبد الله، الذي عاش مائة عام، وتنقل في عدة بلدان أثناء خدمته العسكرية مع الجيش التركي، ولاحقاً، ساعده ذلك على توفير ولعة للسجائر في زنازين الاحتلال.

 إشتهر جده رباح، والد أمه، كطبيب شعبي يعالج المرضى مجاناً بالأعشاب، وتجول خلال الاحتلال البريطاني في غالبية المدن والقرى الفلسطينية، وإكتسب شهرة واسعة في العلاج المجاني للمحتاجين. قضى رباح عدة أشهر في سجون الاحتلال البريطاني لمواقفه المناهضة للسيطرة الاستعمارية، واكتسب طبيب الأعشاب من والده علي موهبة الخطابة وقرظ الشعر، ووَرثَ الموهبة لكريمته فرحة التي تميّزت بزجلها الشعبي الوطني.

 سافر نائل سنة 1961 إلى عمان برفقة والدته لأول مرة في حياته، وذلك للاطمئنان على صحة خاله علي، وقبل مضي عام على زيارته الأولى، عاد مرة ثانية وأخيرة إلى جبل النصر في عمان لزيارة خاله علي عقب الافراج عنه من سجون الأردن. في اليوم الأخير للزيارة، شارك والدته وخاله في جولة للتسوق بمركز العاصمة، وعلى مدخل أحد المحلات لفت انتباهه "حارساً" بحجمه وطوله يتحرك بطريقة غريبة، ويبتسم بأسلوب مفتعل. تسمّر الصغير على باب المحل فيما عَبَرت والدته برفقة شقيقها إلى الداخل. حاول الصغير التواصل مع "الحارس"، لكنه تجاهله ولم يرد عليه، وواصل إبتسامته الساخرة. صفعه الصغير على وجهه، فتحطمتْ لعبة البلاستيك التي تضبط حركة "الحارس" المنتظمة نتيجة تشغيل بطارية. خرج صاحب المحل ليتفحص الأضرار، وبعد جدل أبدى خاله استعداده لتعويض خسارة البائع بدفع خمسة دنانير أردنية، لكن صاحب المحل تنازل عن حقه رافضاً تعويض خسارته. 

عقب زيارتين قصيرتين يتيمتين إلى شرقي الأردن قبل بلوغه السادسة، بدأ مشواره المدرسي عندما التحق سنة 1963 في الصف الأول ابتدائي بمدرسة كوبر. استقطب تمرده "عداء" المعلمين منذ الدروس الأولى؛ صفعه أستاذه علي السفاريني بقسوة على وجهه، لأنه رفض الاستجابة لتعليماته وكتابة الأحرف العربية بقلم رصاص، وأصر على رسمها بستة ألوان وفرتها علبة تلاوين إحتفظ بها في حقيبة القماش. رد الصغير صفعة المعلم الجبّار بالانتقام من نجله ضرار، وضربه علقة ساخنة. أقام الأستاذ السفاريني القادم من أرياف طولكرم، مع أسرته في غرفة مقابلة لسقيفة والد نائل.

الأستاذ عبد الرازق البرغوثي، حفر التاريخ بطريقة ذكية في ذاكرة طالب وطأ الصف الرابع: بَرَع الأستاذ بالرسم، وجسّد بالطباشير لوحة للقائد خالد بن الوليد فوق فرسه وبيده سيف المقاتل، وأدهشتْ اللوحة الفتى الصغير، وبدتْ كأنها  تبعث الروح في المقاتل وفرسه. استخدم الأستاذ اللوحة كوسيلة إيضاح للتاريخ العربي، وزرعها في ذهن الفتى؛ وقد حفظ التاريخ العربي عن ظهر قلب، وبات الرسم  الفني المبدع يسابق المعلومات إلى ذهنه، كلما شكل التاريخ محوراً للنقاش مع رفاقه.

لم يَسلَم كتاب التاريخ، فقد اشتبك نائل مع زميله رياض زيبار على الكتاب. أصر زميله على الاحتفاظ به، رغم العلامة الفارقة التي وضعها نائل على كتابه. اشتبكا وتدخل الأستاذ أحمد رضوان لفض الاشتباك، وعرض عليهما تمزيق الكتاب إلى نصفين ومنح كل منهما نصفاً. وافق زميله رياض فوراً على الاقتراح، فيما رفضه نائل بقوة ودافع عن حقه الكامل بملكية الكِتاب، لصعوبة  تمزيق التاريخ، والتنازل عنه بصفقة والقبول بشطر منه. صَمت الأستاذ برهة ثم قال دون تردد: الكِتاب لك يا نائل، والتاريخ لمن يرفض اقتسامه والمساومة عليه.

 دشن عدوان 5 حزيران 1967 مرحلة جديدة من التاريخ؛ على وقع هدير الدبابات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وقطاع غزة، وسيناء، والمرتفعات السورية، وشَاهد نائل طائرات  تلاحق بعضها في السماء، وسَمع صوت القذائف قبل أن يسمع الأخبار عن هزيمة الأنظمة العربية وإنكسار جيوشها.

شاهد مائة جندي من قوات الصاعقة المصرية في أطراف كوبر، بعد فشلهم في السيطرة على نقطة عسكرية قرب اللطرون خسرها الجيش الأردني. انسحب قائد الفصيل بعد استشهاد عدد كبير من مقاتليه، ونقل معه عدداً من الجرحى. استقرتْ قوات الصاعقة في التلال الغربية لقرية كوبر، وأبدى نائل  حماساً لمساعدة الجيش المصري بجمع  الخبز والبيض وما تيّسر من أطعمة، حتى تمكنت قوات الصاعقة من وصول الأردن بلباسها العسكري وكامل عتادها، ونالتْ أوسمة على شجاعتها، وأرسلتْ عبر الأثير شكرها لأهالي  كوبر لدورهم في مساعدة الصاعقة المصرية على صمودهم.

انتقل نائل إلى مدرسة الأمير حسن في بلدة بيرزيت بعد إنهاء المرحلة الابتدائية، وطالب أستاذه كمال حنون بأن تحمل المدرسة إسم الثورة. رمَقه الأستاذ بنظرة يختلط فيها الاعجاب بالغضب من طالب متمرد: بدك تغيّر إسم المدرسة يا نائل بسيف عنتر! المدرسة اقيمت قبل ولادتك بسنوات طويلة وحملتْ إسمها؟ لم يقتنع نائل بالأجوبة القاسية التي كان يتلقاها من معلميه رداً على اقتراحه المتمرد.

عنفوان فتى

أنهى المرحلة الاعداية سنة 1972 وانتقل إلى المرحلة الثانوية في نفس المدرسة، لكنه دخل طوراً جديداً من التمرد، ونشط كطالب بارز في التظاهرات، ونسج علاقات مع طلبة ناشطين في جامعة بيرزيت.

 في العاشر من نيسان  1973 إغتالت مجموعة "كوماندوز" إسرائيلية في بيروت ثلاثة من كبار قادة حركة فتح: كمال ناصر، كمال عدوان وأبو يوسف النجار. شهدت بيرزيت، بلدة الشاعر كمال ناصر، تظاهرات طلابية استنكارا لعملية التصفية الجسدية، وتقدم صفوفها نائل، كما شارك بتظاهرات يوم الأرض التي إندلعت في الثلاثين من آذار 1976.

اكتسب نائل لقبه  (أبو اللهب) من نيران عجلات السيارات التي كان يشعلها في شوارع بيرزيت خلال التظاهرات، ومن قبعة جلد سوداء كان يرتديها مقولبة على رأسه أثناء المسيرات. بات نائل عرضة لاستدعاء واستجواب المخابرات الإسرائيلية في مقر الحاكم العسكري (المقاطعة) في رام الله.

واصل أواخر العام 1976 اهتمامه بنقاش  الفلسفة  الماركسية والمادية التاريخية، وناصر الطلبة  من أجل تعريب المناهج في جامعة بيرزيت، وساند اندلاع إضراب الأسرى في سجن عسقلان بتظاهرة  طلابية ساهمت باحتجازه في خريف 1977 بمعتقل رام الله، وقد إلتقى  بأول أسير في غرف السجن: الحاج شريف من قرية ترمسعيا شمال رام الله. أصيب نائل بالدهشة عندما عَلم أن الحاج شريف محكوم بالسجن الفعلي عشر سنوات منذ عام 1969 وقضى منها ثماني سنوات، وتساءل في سره: كيف قضى الحاج شريف كل هذا العمر في السجن؟ مِنْ أينَ يعلمُ نائل البرغوثي عدد السنوات الطويلة التي سيقضيها في سجون الاحتلال؟!

..يتبع
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف