الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/24
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

أسامة السلوادي يُحطّم "العجز" بعدسة مبدعة بقلم:بسام الكعبي

تاريخ النشر : 2016-10-22
عشر سنوات على إصابته الحرجة: 

أسامة السلوادي يُحطّم "العجز" بعدسة مبدعة

بسام الكعبي

إجتاز اليافع أسامة السلوادي منتصف شباط 1992 مدخل مخيم الأمعري الممتد على شارع رئيس يربط مدينة رام الله بالقدس، ويخترق جنوباً  البيرة  باتجاه مخيم  قلنديا  والمطار والضواحي المحتلة لبيت المقدس، وعندما تجاوز أطراف مخيم الأمعري بأول تغطية صحفية مهنية تلتقطها عدسته، من أجل توثيق نتائج عملية إطلاق نار؛ استهدفتْ مستوطناً قرب ملعب مدرسة البيرة الجديدة، وصل الشاب متأخراً قياساً لزملائه المصورين الذين سبقوه إلى الميدان، ولاحظ استرخاء عدساتهم  فوق الأكتاف. 

سأل المندفع ببراءة وبجرأة: هل أنهيتم التصوير؟ تلقى جواباً بهز الرؤوس إيجاباً على وقع جملة كرم شرقي معتادة: بإمكانك إلتقاط ما تشاء من صور! تناول البريء عدسته من فوق كتفه، وجهّز حواسه، وإتجه نحو الجنود والمستوطنين، وبدل أن يلتقط صور الحدث بات الحدث: إنقض عليه عدد من المستوطنين بمساندة جنود الاحتلال، وأشبعوه ضرباً ولكماً؛ تحت ضحكات صامتة لئيمة لزملاء مهنة عثروا على كبش فداء أخضر، ضحى به البعض لالتقاط صور تصلح للنشر في وكالات أنباء عالمية! 

تطايرتْ صوره في كل مكان، وأدرك قيمة الصورة، وتمسك بأهمية لقطات تستحوذ على حواس المتلقي، لكنه تعلم درساً أخلاقياً في المهنة، وقرر المنافسة الشريفة في حقل إبداعي يشتد التنافس به على إلتقاط صورة بارعة؛ في ظل وقائع الانتفاضة الأولى التي إندلعت يوم 9 كانون أول 1987 وقد شارفتْ على النهاية بتوقيع إعلان أوسلو يوم 13 أيلول 1993..لكن كيف إكتشف أسامة السلوادي ولَعَه بالتصوير؟ وما الثمن الباهظ الذي دفعه في منتصف مسيرته المهنية اللامعة، قبل عشر سنوات، يوم السابع من تشرين أول 2006؟

الأب المغامر

في الرابع عشر من شباط 1973 ولد آخر العنقود للوالدة عزيزة عودة في بلدة سلواد شمال رام الله، في عائلة جده الشيخ محمد عوض إمام البلدة، ولإبٍ مغامر يعشق الأرض والعمل والسفر. تزوج والده سعيد من إبنة عمه في سن مبكرة، وإنتقل للعمل في مدينة حيفا، وعاش فيها مع زوجته الأولى فترة ليست طويلة قبل أن تعصف بهما نكبة1948 ليعود إلى بلدته سلواد. 

قَطَعَ والده سعيد سنة 1952 صحراء الكويت مشياً من الحدود العراقية في البصرة حتى مدينة الكويت التي أقام فيها ثماني سنوات، ثم عاد إلى البلدة ليغادرها إلى الأردن مع هزيمة حزيران 1967. أقام في عمان سنتين وإشترى بيتاً قبل أن يقرر العودة نهائياً للإستقرار في  سلواد، ليظل  مزارعاً يحرث الأرض التي عشقها حتى رحيله سنة 1985؛ دون أن يتجاوز عتبة الستين، نتيجة أزمة قلبية خانته أثناء كده في حقوله الزراعية. 

أوصى سعيد بدفنه في قبر والدته بجوار شاهدة والده في بيدر للقمح تمتلكه عائلة الشيخ محمد عوض ويقع بجوار مقبرة البلدة، وقد إهتم الراحل بوالدته المسنة باعتباره أصغر الأبناء، وإختار قبرها ليدفن فيه، قبل أن يجاوره ووالده في الرحيل لاحقاً الشيخ المعروف فتح الله السلوادي. 

أنجب سعيد من زوجته الأولى عشرة أبناء أصغرهم أسامة، وأنجب صبياً وبنتاً من زوجته الثانية التي تقيم مع نجليّها في سلواد. تزوج الأبناء والبنات وإستقروا بين سلواد والناصرة وحيفا ونيويورك والأردن، وقد تمكن بعضهم من المشاركة في تشييع جثمان والدتهم سنة 2004 في مقبرة سحاب الأردنية، ورحلت عن عمر ناهز الخامسة والسبعين، وقد عاشت أيامها الأخيرة في منزل نجلها البكر محمد في عمان.

إستعاد أسامة السنوات القليلة التي قضاها طفلا برفقة والده أثناء عمله في حقوله الزراعية الواسعة، وأدرك لاحقاً كيف ورّثه عشق الأرض، فيما بَرعتْ ذاكرته اليافعة باصطياد جمال المشهد،  وزهور الأرض، وإنتاجها الدائم مختلطاً برائحة تربتها. طوال خمس سنوات تَبعَ الطفل أسامة  والده، قبل طلوع الشمس، إلى حقول زراعية  تنتج خضاراً طوال مواسم السنة، وكان الصغير يراقب بمتعة الطيور والغزلان تتحرر من غفوتها الليلية في فصل الصيف، ويتعلم منها في الشتاء الاختباء في جذع شجر الزيتون؛ اتقاء لبرد قارص يجتاح هضبة سلواد المرتفعة، المتاخمة لتل العاصور (1014 مترا) عن سطح البحر، وأعتبر ثاني  أعلى تل في قمم جبال رام الله والضفة الغربية، بعد جبل النبي يونس في حلول (الخليل) الذي يتجاوزه بستة عشر متراً.

 منذ شَهَدَ الفتى رحيل والده لم يتوقف عن العمل لتغطية إحتياجاته المالية ومصاريفه المدرسية: إشتغل في الحقول الزراعية، التجارة، ورشات البناء، وفتح محلاً لبيع الفلافل عندما كان طالباً بالصف الثاني ثانوي في السابعة عشرة من عمره، ومع كل المهن المختلفة التي تنقل بينها لم تنجح واحدة في استقطابه وحجب شغفه بالكاميرا والتصوير.

الصورة الأولى

قاد جمّال مطلع الثمانينات جمله، وحط به أمام  بوابة مدرسة سلواد الثانوية، وعَرضَ على طلبة المدرسة إلتقاط صورة فوق ظهر الجمل بمبلغ متواضع. لم يتردد أسامة في إنتزاع الفرصة، وحصل على أول صورة شخصية في تاريخ حياته قبل أن يتجاوز العاشرة من عمره. سَحَرَته لقطة العدسة وظل مفتوناً بها حتى فقدها، ليلتقط صورته المدرسية الثانية من أجل تثبيتها على بطاقة إمتحان الإعدادية (المترك) وكان يستعد لتقديم الامتحان قبل قرار إلغائه سنة 1986. إنتقل لمواصلة التعليم المهني في مدرسة دير دبوان الصناعية الثانوية، وظل حريصاً على الاحتفاظ ببطاقة (المترك) التي تحتفظ بصورته  الشخصية. 

السنوات الخمس في الحقل الزراعي برفقة والده، وتجربته الشخصية مع أول صورتين؛ تركت بصمتها على مسيرته المهنية، وبات مشغولا بالبحث عن عدسات لالتقاط الصور، وعثر على ضالته بكاميرا أحضرها إبن عمه من فنزويلا. عاد نظام عوض السلوادي من غربته اللاتينية سنة 1989 وبيده كاميرا احترافية استقطبت اهتمام أسامة. أعار عوض الكاميرا لإبن عمه وسَحرَته لقطاتها، وأخذ يصور أقرانه الطلبة لتجميع ثمن الأفلام وتكاليف تحميضها، واشترى مجلات متخصصة بالتصوير ليتعلم منها.

واظب أسامة طوال سنة 1990 على إستئجار كاميرا من مصوّر مناسبات البلدة ناصر عيسى وشريكه محمد عبد. كان يشتري منهما الأفلام، ثم يدفع تكاليف تحميض صور زملائه في مدرسة دير دبوان الصناعية الثانوية،  قبل أن يبيعها لهم بأسعار معقولة. إكتشف أن التصوير يدر ربحاً مالياً؛ يمكنه من تغطية مصاريفه المدرسية، وتنقلاته بين بلدته سلواد ومدرسته الصناعية في بلدة دير دبوان المجاورة شرقي رام الله.

 أنهى الثانوية العامة في المدرسة الصناعية متخصصاً بتقنيات وإليكترونيات الراديو والتلفزيون. اشترى مطلع1991 أول كاميرا بمبلغ باهظ نسبياً من المصور ناصر عيسى، وانطلق بالتصوير، وظهرت له أول لقطة بارعة في صحيفة (مساء البلد) لتدشن خطواته الاحترافية في تصوير وقائع الانتفاضة الشعبية الأولى، رغم أنه واكب تضحياتها في مرحلة الخريف الأخيرة قبيل دخولها أرشيف التاريخ.

عدسة الإنتفاضة

أعادت شرارة الانتفاضة الأولى في التاسع من كانون أول1987 الكاميرا الصحفية إلى الميدان، بعد انقطاعها طويلا عقب النكبة الكبرى1948 وهزيمة حزيران 1967، وقد كانت فلسطين سباقة في هذا الحقل المهني؛ عندما أسس البطريرك الأرمني يساي غرابيديان  أول مدرسة تصوير في الوطن العربي عام 1858، وإلتقط أول صور لمدينة القدس عام 1860 لا زالت بحوزة الكنيسة الأرمنية المقدسية وتحتفظ بها في أرشيفها، ثم توالى إبداع المصورين خليل رعد، والنصراوية كريمة عبود أول مصورة عربية وغيرهما. 

ألقتْ الانتفاضة الأولى بعدسات المصورين الأجانب إلى الشارع المشتعل، بمرافقة مجموعة من شبان القدس الهواة، لكن بعض الشبان تمكنوا بسرعة من المنافسة بإلتقاط حرفة التصوير، وحتى منافسة المصورين الأجانب المحترفين، وأثبت بعضهم قدرات مهنية رفيعة بلقطات بارعة، ولَمَع منهم في السنة الثانية للانتفاضة: عوض عوض، رولا حلواني، خالد السعو، أحمد جاد الله، عادل الهنا وغيرهم. دخل أسامة في منافسة شريفة مع زملاء المهنة المحترفين، وأثبت براعته بلقطات مهنية عبَدت الطريق لتعاقده مع وكالة الصحافة الفرنسية وصحف محلية.

زوّد أسامة وكالة الأنباء الفرنسية بلقطات من إنتفاضة النفق 1996، ثم إنتقل إلى وكالة رويترز وغطى إنتفاضة القدس 2000. أقام سنة 1995 أول معرض لصوره في قاعة وزارة الثقافة الفلسطينية بمدينة البيرة، وحَجَز سنة 1996 زاوية يومية في صحيفة محلية تحت عنوان (العدسة)، وأصدر سنة 1998 أول كتاب مصور بعنوان (المرأة الفلسطينية عطاء وإبداع)، ونال سنة 1999 المركز الثاني بمسابقة مهرجان التصوير الدولي في بغداد.

إستقال من وكالة رويترز للأنباء سنة 2004 وقرر التفرغ لتأسيس وكالة تصوير فلسطينية متخصصة أطلق عليها (ابولو) وصدر عنها سنة 2007، بعد تعافيه من الإصابة، مجلة (وميض) الشهرية المتخصصة بالتصوير، وإستمر إصدارها شهرياً طوال أربع سنوات، وزاد حجم الأعداد الأخيرة عن 120 صفحة وباللغتين العربية والانجليزية.

يقهر الغيبوبة بالأمل 

مساء السبت في السابع من تشرين أول 2006 وبعد إفطار أحد أيام شهر رمضان الكريم، غادر أسامة السلوادي منزله إلى الاستديو الجديد الذي إنتقل إليه منذ ثلاثة أسابيع؛ لتحضير الصور الفوتوغرافية التي إلتقطتْ في الضفة الغربية نهار الجمعة، وبشكل خاص الصور التي وثقتْ صلاة الجمعة في أروقة المسجد الأقصى المبارك، وتجهيزها للنشر في مجلات أوروبية تصدر صباح الأحد.

 سَمَع من مكتبه في الطابق الرابع من عمارة زيادة المطل على شارع  ركب وسط مدينة رام الله، صوت طلقات نارية في تظاهرة شعبية يطلق فيها قلة من المسلحين النار بعشوائية في إتجاهات مختلفة. دون تفكير، ومن أجل إشباع الفضول الصحفي باكتشاف سر الرصاص المتطاير؛ نَهَضَ بسرعة عن الكرسي لإلقاء نظرة من نافذة واسعة للمكتب، في اللحظة التي تحررت فيها طلقة عشوائية نحو الشباك. في أجزاء من الثانية اخترقتْ الطلقة البطن، وسارت إلى أعلى الجسم لتضرب الكبد، الطحال، الرئة، الحجاب الحاجز والنخاع الشوكي!

 أدرك أسامة خطورة إصابته، وصرخ باتجاه الشبان المشاركين بالمسيرة لإنقاذه، وسقط على الأرض دون أن يفقد الوعي حتى صعود الشباب إلى المكتب. أعطى أول المنقذين رقم هاتف للاتصال بذويه وغاب عن الوعي؛ ليكتشف لاحقاً أن الأغلبية الساحقة ساعدته على وصول المشفى، لكن أقلية هامشية من "المنقذين" جردتْ مكتبه من ثلاث كاميرات قديمة ونادرة؛ يتجاوز عمر الواحدة منها مائة عام!

نقل إلى مشفى رام الله بحالة حرجة، وعجز الطاقم الطبي عن تقديم العلاج المناسب: توقف القلب ونال علاجاً بالصدمة الكهربائية دون فائدة. صَمَد في مشفى رام الله أربعة أيام تحت أجهزة التنفس وفي غيبوبة كاملة؛ دون أن تسمح  سلطات الاحتلال بدخوله المستشفيات الإسرائيلية، أو مغادرته عبر جسر الكرامة باتجاه المشافي الأردنية. تجنّد الصحافيون في العالم للضغط على الاحتلال، ونقل بتنسيق أمني إلى مشفى إيخليوف في تل أبيب، وتبيّن حجم الإصابة: فقرة رقم 12 في العمود الفقري خرجت من مكانها وتركت بلا علاج. نزيف داخل المعدة. مياه على الرئة. تهتك الطحال. جرثومة هاجمت الدم وكانت أكثر خطورة من الإصابة!

 نفذ الأطباء ثلاث عمليات جراحية: تثبيت فقرة في العمود الفقري. تنظيف المعدة والرئة. استئصال  الطحال. ظل أسامة في غيبوبة طوال أربعين يوماً بسبب جرثومة الدم وصعوبة العمليات الجراحية، ولم يتوقع أحد نجاته، لكنه "خيّب ظن العدم" وفق بلاغة الشاعر المرموق محمود درويش.

خيالٌ يفترس الواقع!

خلال الغيبوبة الطويلة التي خطفتْ أربعين يوماً من عمره؛ تحررتْ روح أسامة من جسد مقيّد بالمطلق على سرير الشفاء، وتداخل الخيال بالواقع، ولم يعد الجريحُ قادراً على التمييز بين الوقائع والأحداث المتخيّلة، وبدت كأنها فيلم تسجيلي يشاهده ويستعرض دوره فيه بطريقة سقط فيها الهامش بين الحقيقة والخيال: "حضر" حفلة موسيقية في ألمانيا للموسيقار الشهير بيتهوفن. "إلتقط" بعدسته مجموعة صور للإمام الخميني عندما عاد منتصراً بثورته وحط في مطار طهران قادماً من باريس مطلع  شباط 1979؛ وقد حطّم بثورته نظام الديكتاتور رضا شاه بهلوي في إيران. "عاش" أسامة سنوات في لندن وتجول طويلا في شوارعها. "شاهد" نفسه يمشي في شوارع موسكو، و"صافح" مجموعة من الممرضين الروس بأرديتهم البيضاء. "قرأ" أسامة أحرف إسمه كاملاً على لافتات شوارع في رام الله، و"تجول" في ضواحي جديدة للمدينة لم يعرفها من قبل. "إختبر" تعذيب المخابرات الإسرائيلية وغمره المتكرر بالثلج، و"منعه" من الشرب رغم عطشه الشديد، وبلوغه حافة الموت بنار تشتعل في جسده. 

أحسّ بواقع غريب يدور حوله، لكنه كان يحلق في عالم خاص به، يعجز فيه عن النطق، وحتى التنفس، لأن البربيش يخترق حنجرته. كان "يرى" المرافقين حوله كأنهم محققين يكاد يسمع صراخهم، ولا يقدر على التواصل معهم، والرد على أسئلتهم. الأحداث المريعة التي عصفت بكوابيسه وليله الثقيل الطويل؛ دفعته لهذيان قسري، حتى ظنّ المحيطون به من ذويه أنه فَقدَ عقله، لعجزهم عن تفسير خيال الجريح المختلط بالواقع. 

عندما أدركتْ حواس أسامة حقيقة غيبوبته الطويلة، خاف من سلطان النوم، وظل يقاوم إغماض عينيه حتى لا يفقد واقعه مرة أخرى، وحتى لا يغيب مشهد سرير الشفاء، رغم قسوته، من أمام بصره. ولمّا أنهكه الأرق دسّ طبيب مناوب حبة منوّم في وجبة الجريح؛ لعل جسد  المنهك يستريح قليلا في النوم. 

إنتصار واقعه على هذيانه وخيالاته دفعته لاحقاً لإعادة قراءة ملحمة محمود درويش الشعرية الفلسفية (جدارية) التي حاور فيها التغييب، ورفع راية بيضاء في مواجهة ملك الموت: "لا أرى جسدي هناك، ولا أحسُّ بعنفوان الموت، أو بحياتي الأولى. كأني لستُ مني. منْ أنا؟ أأنا الفقيدُ أم الوليدُ؟" وقال درويش في مقطع آخر: "وأنا..حكيمٌ على حافة البئر. لا غيمة في يدي. ولا أحد عشر كوكباً على معبدي. ضاق بي جسدي. ضاق بي أبدي. وغدي جالسٌ مثل تاج الغبار على مقعدي".

 إهتم أسامة بفلسفة الحياة والموت، وأطلَ على نصوص متخصصة تتناول العقل الباطن؛ ولا زال يتساءل عن سر قدرته في تخزين الصور والأحداث والخيالات، قبل أن يعيد إنتاجها بطريقة عجيبة خارجة عن السيطرة والإرادة، ويستعيد دوماً درويش من ملحمة جداريته: "رأيتُ رفاقي الثلاثة ينتحبون، وهم يخيطون لي كفناً بخيوط الذهب".

إستعاد أسامة حواسه بالتدريج بعد غيبوبة خطفتْ أربعين يوماً، وتأملَ بصمت الشراشف البيضاء وأنابيب البلاستيك الكثيرة وأجهزة العلاج، قبل توجه رئيس قسم الجراحة في مشفى إيخيلوف إلى سريره وخاطبه: أنتَ محاربٌ قوي إنتصرتَ على إصابة حرجة جداً، وكنتُ على قناعة أنك لن تنجو إلا بمعجزة، لكن للأسف لن تستطيع المشي على قدميك منذ الآن! سَمَع أسامه الترجمة، ثم مرر بصره على ساقين ثقيلين جداً، ورد على الطبيب: الأمر واضح لي، لكن أعدك بأن أنهض ثانية وأمشي؛ لأني محارب قوي كما قلت.

فَقَدَ أسامة ثلاثين كيلو غراماً من وزنه، وبات غير قادر على الحركة مطلقاً إلا بمساعدة إثنين من الممرضين، وشعر بثقل يده وإرتعاشها عندما حمل القلم وحاول الكتابة. إنتقل بعد شهر من العلاج  إلى مشفى آخر  متخصص في التأهيل، وبدأ يتحسن بالتدريج: طلبَ جهاز كمبيوتر وبعثَ برسالة طمأن فيها أصدقائه عن صحته، وأخذ يتواصل إليكترونياً مع الأصدقاء والمؤسسات المهنية، وتمكن من بيع إحدى لقطاته البارعة لصحيفة بريطانية: طفل صغير يركب دراجة هوائية ويرتدي كمامة للوقاية من الغاز.

معجزة البقاء

أنهى ستة أشهر من التأهيل في المشفى، وقرر المغادرة على مسؤوليته الشخصية، بعد تحسن طبي طرأ على فقرات ظهره، وقد رفض أسامة كل محاولات الأطباء بضرورة إجراء عملية ترميم اللحم أسفل الظهر؛ بسبب تآكله وتقيحه نتيجة ذوبانه بسبب النوم لمدة طويلة على الظهر. سَمعَ من  أصدقائه عن طبيب سوري يقيم في ألمانيا باعتباره أفضل جراح للعمود الفقري وعلاج إصابات الشلل. أرسل للطبيب تقريراً يوجز وضعه الصحي، وجاء رد الجراح: التقرير لا يصلح إلا لرجل ميت! أجاب أسامة: أنا الميت يا دكتور. أخبره أخصائي العمود الفقري: عليك الإدراك أنك حيّ بمعجزة، ولا خيار أمامك سوى الصبر حتى تستعيد عافيتك، من أجل أن تستجيب إلى علاج مناسب.

بعد ظهر الحادي والعشرين من آذار 2007، وعلى وقع الاحتفاء السنوي بعيد الأم ومعركة الكرامة، وصل أسامة بيته في حي الطيرة غربي رام الله. وجد كل الصحافة بإنتظاره، وأجهش الصحافيون ببكاء مرّ؛ عندما أطلوا على كرسي متحرك يقيّد حركة صحافي شاب وقد بات مقعداً. غسل أسامة وجهه بتراب الأرض، وخاطب زملاء المهنة بالتماسك والكف عن البكاء، مؤكداً إيمانه القاطع بالقضاء والقدر، وأن الإنسان مهما ناور لن يستطيع الفرار من قدره.

 تماسك المصوّر وتكيّف مع ظروفه الجديدة: غيّر رخصة قيادة السيارة، إستبدل مركبته القديمة، وغيّر مكتبه، وشطب درج بيته، وبات أكثر إستيعاباً للإصابة القاسية التي وضعته بمواجهة حقيقية لتحدي الإعاقة؛ مهما بلغت المصاعب والحواجز، وإتخذ قراره بالانتصار على "مُقعدٍ" مقيّد فوق عجلات كرسي، ليحرر عدسته المتوهجة ويطلق العنان أمام بريقها، وبخاصة أنه تخلص، بعد أربع سنوات على إصابته، من الطلقة التي فتكت به، وغيّرت مجرى حياته: ظلتْ تسري في جسمه حتى سقطتْ يوماً أمام بصره في الحمام، بعد تسليطه ماء ساخناً لتنظيف جرح بلون الصدأ؛ أخذ يتشقق في ظهره بالتدريج، لتسقط الطلقة تحت بصره، وقد احتفظ  بها في أرشيفه المتعدد..والغريب في الأمر أنه كلما سأل عن كتلة في ظهره؛ يأتيه جواب المختصين: "لا تقلق، هذا دمل دهني سيزول قريباً"؟!

"موتٌ طائشٌ ضلّ الطريق" 

هل إلتزم أسامة  السلوادي بوعده، وحرر العدسة وتركها تسابق الضوء في كل إتجاه؛ منسجمة مع روح مغامر يحلق في الأمل، عدسة متوهجة لا تلتزم بقواعد جسد "مصلوبٍ" فوق عجلات..كيف التقط أسامة فن التصوير؟ وكيف أنجز  مسيرته الابداعية عقب إصابة خطرة قيّدت ساقيه فوق عجلات؟

أعاد أسامة تجميع أرشيفه المبعثر، وأصدر ثلاثة كتب : (فلسطين كيف الحال) سنة 2007، (القدس والحصار) سنة 2008، قبل أن يتفرغ إلى مشروع حياته بإطلاق توثيق التراث الفلسطيني: أصدر سنة 2012 (ملكات الحرير) متناولاً بلقطات محترفة الأثواب الفلسطينية المتنوعة؛ بألوانها المتعددة وتطريزها الدقيق، ونشر سنة 2014 (بوح الحجارة) ملتقطاً ببراعة فن العمارة المنتشر في فلسطين، وإحتجزها بمجموعة من اللقطات البارعة، وأصدر في نفس السنة (الختيار) مجموعة من صور بورتريه للرئيس ياسر عرفات خلال قيام الاحتلال بمحاصرته في مقر إقامته بالمقاطعة، وأصدر سنة 2016 (أرض الورد) بعد جهد متواصل طوال خمس سنوات، ووثق  بالصور كل الزهور البرية الفلسطينية، وتسمياتها، وتصنيفاتها وأسمائها العلمية، فيما ينتظر إصدار (زينة الكنعانيات) نهاية العام  الجاري  لتوثق صور صفحاته: الحلي والمجوهرات، ألبسة الزينة لدى الفلسطينيات، الحجب والتمائم المسيحية والإسلامية، وبذل أسامة سبع سنوات من الجهد لإنجاز الكتاب؛ الذي يصدر في إطار مشروع كبير لتوثيق التراث الفلسطيني، ويغطي عدة  أجزاء جديدة ومنها تصوير المأكولات الشعبية منذ العهد الكنعاني.  يشغل التراث الفلسطيني  حواس أسامة؛ لكن المناسبة تتزامن سنوياً مع إصابته الحرجة في السابع من تشرين أول في مفارقة عجيبة.

نجمات فلسطين

في السنوية العاشرة على إصابته الحرجة، أطلق  أسامة  مشروعه الجديد تحت عنوان (فلسطين صورة شخصية) أو بورتريه:  الفكرة  تلتقط مكونات التنوع الجمالي في فلسطين عبر الصورة الشخصية، سواء من مظهر الرداء،  أو تصفيف الشعر، أو كحل العيون ولونها. يتضمن الكتاب المرتقب نحو مئة صورة شخصية لأفراد من مختلف الفئات الاجتماعية والأعمار والأجيال والخلفيات. تراعي العينة  المستهدفة بالتصوير نسبة الإناث، الأطفال، كبار السن. تطوع عدد كبير  من الإناث والأطفال والرجال  للتصوير؛ بهدف إنجاح فكرته، وتحقيق مشروعه بإصدار كتاب جديد في سلسلة كتبه المميزة. تعتبر دراسة الحالة الفلسطينية عبر الصورة  فكرة رائدة على المستوى المحلي والعربي وربما الدولي، وتسجل باعتبارها خطوة فريدة من نوعها في مسيرة السلوادي. 

أطلق أسامة العنان أيضاً لثلاثة مشاريع جديدة: (كلام على الحيط) يتناول فيه فن الجرافيتي من كتابة ورسومات على الجدران، ويتطلب توثيق هذا الجهد سنوات من العمل. (نجمات فلسطين) بدأ العمل على المشروع منذ فترة قصيرة، ويستهدف تصوير مائة ريادية فلسطينية، ونشرها في كتاب مع سيرة ذاتية توثق تجربتها الشخصية، ويتوقع إصداره في غضون العامين المقبلين. (التوثيق البصري للتراث) ويتوقع أن يخطف مشروعه المركزي عشرة أجزاء، ويستهدف التراث بكل تجلياته، وصدر منه: ملكات الحرير، بوح الحجارة، أرض الورد، وقريباً زينة الكنعانيات.

تم تكريمه سنة 2010 من قبل مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية، وتسلم سنة 2012 من الرئيس محمود عباس الميدالية الذهبية للاستحقاق والتميّز، وحصل سنة 2014 على لقب (عين فلسطين) من إتحاد الكتاب واللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم. خطف غلاف عدد آب 2014 لمجلة (ناشيونال جيوغرافيك) الشهيرة إحدى صور (ملكات الحرير): سجل مراسل المجلة الصحافي اللبناني محمد طاهر تقريراً عن نشاطات المصور أسامة، مترافقاً مع مجموعة صور بتوقيع عدسته المحترفة، وسُجل التقرير باعتباره أول مادة تنشر عن فلسطين منذ صدور المجلة الأميركية سنة 1888، وبدء صدورها باللغة العربية من إمارة أبو ظبي عام 2010. 

عمل أسامة مستشاراً لمؤسسة ياسر عرفات طوال ست سنوات منذ عام 2008، ثم إشتغل  مستشاراً لمدة ستة أشهر في مكتب منظمة اليونسكو بمدينة رام الله. نظم مجموعة من المعارض الشخصية في الأردن، قطر، الامارات، مصر، الولايات المتحدة، فرنسا، إيطاليا إضافة إلى المعارض التي نظمها في فلسطين.

 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف