الكتابة ــ دوراً ورسالة....(2/3)
.. كثيرٌ هم الذين قالوا ويقولون أو كتبوا ويكتبون، بكل أسلوبٍ ودليل وبيانٍ وتبيين.. لكنما قليلٌ..قليل هم الذين سمعوا أو استمعوا لما كُتب أو قيل! وربما اتجهت العيون من العامة أكثر إلى مشاهد الرقص وما فيها من ترغيب، أو انصرفت أسماعهم إلى آلات العزف والتطريب.. أما أولئك الخاصة الذين يتعلق بهم الأمر؛ ممن لو وصلت إليهم الكلمة لفعلت فعلها وأدّت دورها، فقلما ترفع إليهم فضلا عن أن يطلبوها أو يفتشوا عنها! ولو أنها أفلتت إليهم يوماً أو صادفتهم مرةً أو مروا بها لماما أو اصطدموا اصطداماً، لما ألقوا لها بالاً أو أعاروها اهتماماً! ولكن، أيعني ذلك أن يلقي الأديب بيراعته ويسكب حبره؟ أو لا يرفع الخطيب صوته ولا يعتلي منبره؟ وهل يعني أمراً أخطر من ذلك ألا وهو نهاية مهمة الأدب في عصرنا؛ ليأخذ دوره شيء جديد آخر له علاقة بما جدّ على العصر من أسباب القوة والتصنيع؛ بحيث يخفت صوت الخطيب ويبهت حبر الكاتب أمام هدير الآلات ودخان المصانع والنفّاثات، ويموت الشعور الأدبي والأخلاقي إزاء سيطرة المادة وطغيان الحكومات؟ والجواب على ذلك أنه في الواقع ورغم كل الملابسات والظروف المستجدة، تبقى الكلمة الرشيدة في كل ثوب من أثوابها القشيبة ما بقي للإنسان سمعٌ ولسان، هي الوسيلة الأولى والمثلى للتأثير أو التوجيه، للتغيير أو التنبيه، لتحديد الموقف أو اتخاذ القرار وللنقد وتصحيح المسار! الكلمة هي الضوء الأخضر لبدء السير على الطريق الصحيح.. هي الأذان لبدء العمل والتنفيذ على بصيرة وخطة مستنيرة.. فبعد كل التجارب والممارسات، وما ينجم عن ذلك من خطأ أو صواب، يرتفع جرْس الكلمة دائماً ليعلن النتيجة، ثم يضع خطوط العمل لبدء السير على طريق مرحلة جديدة أنضج ثمرة وأفضل نتيجة.. فالكلمة هي الأداة المترجمة للإرادة، والتي لا يبدأ عمل صحيح إلا بترجمتها إلى أوامر واضحة ومفصلة.. وبعد ذلك أو قبله، فالكلمة هي وسيلة المصدر الأول من مصادر المعرفة، ألا وهو المصدر النقلي أو العلم بالرواية.. كما أنها لا بدّ أن تساهم في تمحيص وتحرير المصدر الثاني الذي هو العقل أو العلم بالدراية.. بل إنّ الفن التشكيلي ثم السمفونية الموسيقية اللذين يبدوان لأول وهلة في غنى عن الترجمة الكلامية؛ ليس لهما في الواقع قيمة تُذكر، دون أن يؤديا مفاهيم ومعاني لا يكون إلا للكلمة شرف إبرازها وتأكيدها! وهكذا لا ينشأ علم أو يستقر بغير الكلمة، كما لا يستغني فن أو يستقل عنها! وفي متاهات التخبط والضياع، وتباين المفاهيم ، واختلال الضوابط واختلاف النزعات، لا بد أن يرتفع صوت الكلمة نافذاً إلى العقل والقلب كليهما.. فيحرّك من بعد ركود، ويطوّر من بعد جمود، ويبني من بعد خراب، ويثبّت من بعد زعزعة واضطراب. ولو رجعنا إلى المادة اللغوية للكلمة لوجدناها من الكلْم والكلم هو الجرح، مما يحدو بنا إلى أن نربط بين مدلول اللفظين ربطاً عملياً مقارناً؛ نصل به إلى تحقيق الوظيفة التي تتعلق بالجانب الثاني من جانبَي البناء الأدبي أو الحضاري، وهو جانب التصحيح بعد الممارسة والخطأ.. وذلك إذا ما تذكرنا أنّ الجرح ليس مضراً في كل الأحوال، بل يكون ضرورياً وواجباً في بعض الأحيان؛ فهناك من الأمراض ما لا يشفى إلا بالجراحات، وهناك من الحقوق ما لا يُنال إلا بسفك الدماء!!
لذلك فإنّ الكلمة إذا ما وظّفت في مجال النقد الذاتي الذي هو أشبه ببعض العمليات الجراحية الشافية، فلا تعدو أن تكون قد استخدمت في صميم وظيفتها التي يوحي بها المعنى المصدري الذي اشتقت منه. وللكلمة بعد ذلك أسرار وللكلمة علوم.. مع الحلقة الثالثة والأخيرة من هذا الموضوع..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستقلال عدد 992
.. كثيرٌ هم الذين قالوا ويقولون أو كتبوا ويكتبون، بكل أسلوبٍ ودليل وبيانٍ وتبيين.. لكنما قليلٌ..قليل هم الذين سمعوا أو استمعوا لما كُتب أو قيل! وربما اتجهت العيون من العامة أكثر إلى مشاهد الرقص وما فيها من ترغيب، أو انصرفت أسماعهم إلى آلات العزف والتطريب.. أما أولئك الخاصة الذين يتعلق بهم الأمر؛ ممن لو وصلت إليهم الكلمة لفعلت فعلها وأدّت دورها، فقلما ترفع إليهم فضلا عن أن يطلبوها أو يفتشوا عنها! ولو أنها أفلتت إليهم يوماً أو صادفتهم مرةً أو مروا بها لماما أو اصطدموا اصطداماً، لما ألقوا لها بالاً أو أعاروها اهتماماً! ولكن، أيعني ذلك أن يلقي الأديب بيراعته ويسكب حبره؟ أو لا يرفع الخطيب صوته ولا يعتلي منبره؟ وهل يعني أمراً أخطر من ذلك ألا وهو نهاية مهمة الأدب في عصرنا؛ ليأخذ دوره شيء جديد آخر له علاقة بما جدّ على العصر من أسباب القوة والتصنيع؛ بحيث يخفت صوت الخطيب ويبهت حبر الكاتب أمام هدير الآلات ودخان المصانع والنفّاثات، ويموت الشعور الأدبي والأخلاقي إزاء سيطرة المادة وطغيان الحكومات؟ والجواب على ذلك أنه في الواقع ورغم كل الملابسات والظروف المستجدة، تبقى الكلمة الرشيدة في كل ثوب من أثوابها القشيبة ما بقي للإنسان سمعٌ ولسان، هي الوسيلة الأولى والمثلى للتأثير أو التوجيه، للتغيير أو التنبيه، لتحديد الموقف أو اتخاذ القرار وللنقد وتصحيح المسار! الكلمة هي الضوء الأخضر لبدء السير على الطريق الصحيح.. هي الأذان لبدء العمل والتنفيذ على بصيرة وخطة مستنيرة.. فبعد كل التجارب والممارسات، وما ينجم عن ذلك من خطأ أو صواب، يرتفع جرْس الكلمة دائماً ليعلن النتيجة، ثم يضع خطوط العمل لبدء السير على طريق مرحلة جديدة أنضج ثمرة وأفضل نتيجة.. فالكلمة هي الأداة المترجمة للإرادة، والتي لا يبدأ عمل صحيح إلا بترجمتها إلى أوامر واضحة ومفصلة.. وبعد ذلك أو قبله، فالكلمة هي وسيلة المصدر الأول من مصادر المعرفة، ألا وهو المصدر النقلي أو العلم بالرواية.. كما أنها لا بدّ أن تساهم في تمحيص وتحرير المصدر الثاني الذي هو العقل أو العلم بالدراية.. بل إنّ الفن التشكيلي ثم السمفونية الموسيقية اللذين يبدوان لأول وهلة في غنى عن الترجمة الكلامية؛ ليس لهما في الواقع قيمة تُذكر، دون أن يؤديا مفاهيم ومعاني لا يكون إلا للكلمة شرف إبرازها وتأكيدها! وهكذا لا ينشأ علم أو يستقر بغير الكلمة، كما لا يستغني فن أو يستقل عنها! وفي متاهات التخبط والضياع، وتباين المفاهيم ، واختلال الضوابط واختلاف النزعات، لا بد أن يرتفع صوت الكلمة نافذاً إلى العقل والقلب كليهما.. فيحرّك من بعد ركود، ويطوّر من بعد جمود، ويبني من بعد خراب، ويثبّت من بعد زعزعة واضطراب. ولو رجعنا إلى المادة اللغوية للكلمة لوجدناها من الكلْم والكلم هو الجرح، مما يحدو بنا إلى أن نربط بين مدلول اللفظين ربطاً عملياً مقارناً؛ نصل به إلى تحقيق الوظيفة التي تتعلق بالجانب الثاني من جانبَي البناء الأدبي أو الحضاري، وهو جانب التصحيح بعد الممارسة والخطأ.. وذلك إذا ما تذكرنا أنّ الجرح ليس مضراً في كل الأحوال، بل يكون ضرورياً وواجباً في بعض الأحيان؛ فهناك من الأمراض ما لا يشفى إلا بالجراحات، وهناك من الحقوق ما لا يُنال إلا بسفك الدماء!!
لذلك فإنّ الكلمة إذا ما وظّفت في مجال النقد الذاتي الذي هو أشبه ببعض العمليات الجراحية الشافية، فلا تعدو أن تكون قد استخدمت في صميم وظيفتها التي يوحي بها المعنى المصدري الذي اشتقت منه. وللكلمة بعد ذلك أسرار وللكلمة علوم.. مع الحلقة الثالثة والأخيرة من هذا الموضوع..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستقلال عدد 992