الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

دراسة فى ديوان " بوح المدى " للشاعر عاطف الجندى بقلم:شعبان عبد الحكيم محمد

تاريخ النشر : 2016-09-25
دراسة فى ديوان " بوح المدى " للشاعر عاطف الجندى بقلم:شعبان عبد الحكيم محمد
سم الله الرحمن الرحيم

الحب والوطن .... وجماليات الإيقاع

دراسة فى ديوان " بوح المدى " للشاعر عاطف الجندى

د / شعبان عبد الحكيم محمد

-1-

الشاعر عاطف الجندى له صوته الشعرى الدافق الرخيم ، صوت  موسيقى ممتع ، يصدق على شعره قول ابن رشيق قديما "إنما الشعر ما أطرب وهزَّ النفوس " ...نعم شعر عاطف الجندى قيثارة موسيقية ، تستحوذ على الأذن ، وتطرب القلب ، وتمتع العقل بدلالاته الفنية ، وقيمه الجمالية ، كتب عاطف الجندى كثيراً من الأعمال الشعرية ذات القيمة الفنية العالية ، وكُرِم فى غير موضع ، وفرض نفسه على الساحة بأدائه المتفرد ، وصوته الندى ، فمن أعماله الشعرية بلا عينيك لن أبحر ، مرايا النفس ، صباح الخير يا سارة ، للنار أغنية أخيرة ، لا أريد ،أنت القصيدة ، العيون السود ، بين مطارين ، اعترافات ليلية ، بوح المدى ، وسنقف بدراستنا عن ديوانه الأخير " بوح المدى ( ط . دار الجندى للنشر والتوزيع . عام 2015 م )

ومن البداية ومن عنوان الديوان " بوح المدى " والسيموجرافيا التى يوحى إليها  غلاف الديوان ، صورة الغلاف " لفتاة جميلة " والصفحة الخلفية جزء من قصيدة " حبة التوت الأخيرة " : يا حبة التوت الأخيرة

من هنا نصب الشباك ؟!

عيناى أم عيناك

أم قمر أطل بمهجتى

والأرض عانقها بهاك ؟! .....إلخ .

 وتحت هذا الجزء من هذه القصيدة صورة للشاعر جالس يعزف على بيانو .... فالشاعر فى ديوانه يوحى لنا بجل ما يتضمنه هذا الديوان ( عزف موسيقى عذب للمرأة ) من خلال غالبية قصائد ديوانه ، ليس غريباً على الشاعر هذا ، فدواوينه السابقة يستحوذ الحب على معظم قصائدها ، لذا لُقب بالرومانسي الثائر وبأمير الرومانسية .

والديوان بعد مكون من ثلاث وثلاثين قصيدة ، قصائد الغزل تستحوذ على  مساحة نذكر منها ( بأي خريدة أبدأ ، غيرة ، لا أحب الشاعرة ، حبة التوت الأخيرة ، هذا اختيارك ، المهر ، بوح المدى ، سمر ، الهاتف ،عناب الصباح ، حتى الغرق )

الحب عند الشاعر توحد وحلول فى المحبوبة ، فهى كل شىء ،المحبوبة هى التى تبعث الحياة فى روع الشاعر ، بها تكون بها الحياة ، وبدونها لا يكون طعم الحياة ، كما يقول فى قصيدة " بأى خريدة أبدأ ؟! "

لأنك ملءُ أوردتى

ونبض قصيدة المنشأ

وترياقى الذى أرجوه

كى أهنا...

وكى أبرأ

أحبك ساحلا ً للنور والأحلام

لا يظمأ

.......

فأنت نهاية التقويم

والترقيم

والمبدأ 

وأنت البحر والربان

والمجداف والمرفأ   ص 5 : 7 .

ولا نختلف فى أن كثيراً من الشعراء - ومنهم عاطف الجندى - عبَّروا عن جمال المحبوبة فى لحظها ، وحديثها ، وابتسامتها ، وعطرها ، وأناقتها ، ورقتها ، وهمسها ....إلخ ،  ولكن عاطف الجندى كشاعر متفرد يعيشنا فى قصائد الحب الجو الشاعرى النابض المتدفق بالجمال والحياة ، لما يمتلكه من حس فنى راق ٍ ، ولغة ناصعة فى تدبيج الكلم متجاورة ، ولأول مرة أرى شاعراً يجسد الغيرة من المحبوبة  تصل إلى مستوى الغيرة من كل ما يستلزم أناقتها وجمالها وما تستخدمه ، كما جاء فى قصيدة " غيرة "

أغار عليك من كحل

تراقص حول جفنيك

ومن قرط حظى بالقرب

من تفاح خديك

ومن نظارة سوداء

تحمى سحر هدبيك

ومن فرشاة أسنان

ومن قلم يخط الروج

عنابا

ويذوى مثلما أذوى

هياما حول عينيك .....إلخ ص 23

وصلت به الغيرة حتى من نفسه ، ومن أوراقه ،  ومن قلمه ،  ومن شفتيه ، إنه جنون الحب ، حين تسرى المحبوبة فى أعماقه ، ليصبح حبها هوساً وجنونا ً ، فالحياة الحب ، والحب الحياة ، كما قال أحدهم ،  وإذا كانت الحياة حباً ، فمن الأحرى أن تكون المحبوبة كما يريد الشاعر فى صورتها المثالية للمرأة والحب ، يقول فى قصيدة غيرة :

فكونى مثلما أهوى

فحبكِ شمس إشراقى ص 27

وتتجلى رؤية الشاعر فى تفسيره للحب بأنه يستحيل وصفه ، فأقل ما يقال عنه كلمة " الحب " إنه أكبر من التعريف والتصنيف ، يقول فى قصيدة " لا أحب الشاعرة " :

أنا لا أحب الشاعرة

فالحب أبسط ما يقال عن الهوى

إن مس نبضا

فى القلوب الطاهرة

والحب بحر

يكسر المجداف فيه

ولا وصول للشواطىء

فى انهمار الآصرة   ص 29

هذا عن رؤية الشاعر للحب عاطفة سامية يصعب التعبير عنها ، ولكنها تتجلى فى بعث الحياة فى النفوس ، وبطعم الحياة فى لذاذتها ، وإن كنا لا نقصد من دراستنا تتبع موضوعات الديوان بقدر تجلياته الفنية ، التى تتمثل فى حسن الصياغة ، وروعة الإيقاع ، وقديما قال الجاحظ "إنما الشعر صياغة ، وضرب من التصوير " ، فألفاظ الشاعر فى قصائده عامة – ومنها قصائد الحب – تتدفق فى جريان هادئ جميل ، كجرى الماء على الأرض المنبسطة ، كل ذلك من خلال إيقاع موسيقى  جميل يدخل الأذن فى نداوة ، وارتياح ، لحسن تخيِّر الشاعر لمعجمه اللغوى ، وقد عبَّر الشاعر فى شعره  عن رؤيتنا حين رأى أن الشعر جمال ،  وتشكيل جمالى يحدث المتعة والارتياح الوجدانى ، يقول فى قصيدة " الدائرة " :

فهتفت ما أدريه

أن الشعر مفتاح الشعور

ورقة متناثرة

والشعر تكوين الجمال  ص43

ولك أن تطرب فى عزف الشاعر فى تولهاته الشجية ، حتى أننا نجد أنفسنا مأسورين بشدو الشاعر فى طرب رقيق ، ونغم  وضىء ،  يمتع الروح والعقل ، يقول فى قصيدة " لا أحب الشاعرة " :

سأموت إن مرّ النسيم بخدها

أو مسَّها

بالورد لو أهمى لها

سأظل مكتئباً ،أصارع

مسْهداً

سحب الدخان

على عيونى الماطرة ..... ص 32

فقصائد الشاعر فى الحب يغلب عليها هذا الجمال الفنى ، حيث اللغة النابضة المتدفقة دون تكلف فى انسجام  ، وتوافق بين مفرداتها ....صانعة لنا سيمفونية موسيقية فى إيقاعها ، الذى يعتمد على روح الموسيقى العربية فى القصيدة العمودية ، هذا الإيقاع الذى يقوم على الترتيب والتوزيع المنتظم بالحركات والسكنات ، تبعا لدفقات الوجدان ،فـ  " الإيقاع نبع ...... والإيقاع شعريا ، هو تناوب منتظم ، إنه بعبارة ثانية تناوب نسق  " 1[1]) و يلعب الإيقاع دورا فاعلا فى تلقى الشعر لذا رأى جون ستيوارت أن الشعر " يستغرق السمع فالشعر إذن استغراق للسمع ، الحالة القصوى من الغرق ، في نشوة صوتية ، وجذل إيقاعي غزير " (2) فقصائد الشعر لها نشوة وطرب ، حتى ان المتلقى يمكن ان ينسجم مع النص ، ويعبر منفعلا ، بقول " الله "

ولا غرابة أن تصدر من المتلقين حركات لا إرادية تعبيرا عن شعورهم باللذة والنشوة لجمال إيقاع الشعر ، لتتجاوب النفس مع الوقع الموسيقى الخلاب فى صورة زئبقية صعودا وهبوطا ، مع قوة هذه الحركة وانخفاضها ، وفى هذا يقول جويو " إن الإيقاع يسيطر على جميع الحركات ، ويقلب هذا الاضطراب إلى نموذج منتظم ،فإذا كنت فى حالة قلق بسيط رأيت ساقك تتحرك وتهتز ، وإذا كنت تعانى ألما نفسيا فى بعض الأحيان رأيت الجسم كله يضطرب ، فإذا لم يكن هذا الألم شديدا جدا ، رأيت الجسم يهتز إلى أمام والى وراء ... إن الكلام يكتسب بتأثيره العصبى قوة وإيقاعا " (3)

 و قليلاً ما يعتمد الشاعر على التعبير بالصورة ، لتكون الصورة هى الملمح الفنى البارز فى توصيل الشاعر لتجربته ، كما فى قصيدة " حتى الغرق " ، والتى يقول فيها :

 . خُذيني لعينيكِ حتى الغرقْ

لأطفئ فى اللونِ

صهدَ الأرقْ

فإنى أذوبُ بنبضِ المرايا

وفى الليل نجمٌ

هواه احترقْ

أيا ساحرَ الطرفِ

دعني أغني

على باب عمرٍ

بنا ينسرقْ

دعينا من البعد فالحب يُشوى

كما النار تفني

 اخضرارَ النزقْ

كطيرٍ ذُبحنا

بسيفِ الفراقِ

وشِعري يموتُ كطيفٍ مَرَقْ

دعينا نغني

سويا لنحيا

ونترك للغير دنيا القلقْ

أريدك في راحتيَّ

 الكمانَ

ليعزفني فيكِ هذا الحبقْ

قصيدًا أكونُ

إذا كنتِ لحني

فمدي يديكِ لومضٍ برقْ

.....إلخ

فالقصيدة تصور مدى التحامه بالمحبوبة وذوبانه فيها ، ومن خلال الصورة الفنية يصور هذه المشاعر ، فيريد الإبحار والغرق فى عينيها ، وفى إبحاره ُيطفىء جسده من صهد البعد ، وتمتد أفق الصورة بعد ذلك فى جسد القصيدة ، صانعاً صورة رومانسية حالمة ، فيذوب كنجم احترق فى ظلمة الليل ، لا الاحتراق المادى المدمر ، ولكنه الاحتراق الوجدانى ، الذى يسعى إلى تعويضه من خلال اختلاق جو رومانسى ، يلتقيان معاً ، فيغنى لها أنشودة عمر ضاع ، ويريد أن يبعثه حيا نضرا من جديد ، من خلال الغناء والسعادة والمرح ، مودعين زمن الفرقة والبعاد ، الذى يشوى النفوس كالنار الملتهبة سعيراً ، مصوراً هذه الفترة فى قسوتها بطائر ذُبح .... ويرجع مرة ثانياً لدعوتها للغناء ، الذى به سر الحياة وجمالها ....فهى لحنه الهادىء الجميل الذى يسرى فى الجسد ، فينتشى ، ويعود له رونقه ....إلخ .

فالقصيدة تعتمد على التصوير القريب المعبر فى تلقائية جميلة عن مشاعر التوهج والشوق للتوحد بالمحبوبة ، لا بالصورة الصوفية ، التى تتنكر لواقعية الحياة ، ولكن بالصورة الوجدانية التى يلتحم فيها الطرفان روحانياً وألفة وصفاءً .

عناب الصباح

شفتاك عُنَّاب الصباح

والثغر

وشوشة الأقاح

أما الخدود فقد تزين وردها

فاغتال فى صمت البراح

من أى شىء قد خلقت

أمثلنا

أم أنت تفاح ، وراح ؟!

أم أنت مانجو واستفاض على غصون

من مراح ؟!  ....إلخ . ص 109

-2-

الملمح الثانى فى الديوان تصويره لموقف الشاعر من الأحداث الأخيرة فى مصر ، ومشاركته فى ثورتها فكراً وتواجداً مع الثوار ، وهناك أربع  فى الديوان عن الثورة ، تهيب بالشعب الاتحاد ومواصلة الثورة وهى ( هبَّة التحرير ، ابتهالات ثائر ، قل للبلاد ، لا أحد ) وثلاث قصائد تصور للتردى بعد الثورة ( أغنية للطائر السجين ، الطبع يغلب التطبع ، ديمقراطية ) إضافة إلى قصائد قومية ، تأتى امتداداً للمشاعر الوطنية ، فى حب الدول العربية ومشاركتها فى ثورتها ، والتغنى بأمجادها ، والقصائد هى ( تونس ، دمكم دمى ( للمغرب الأقصى ) ، يا كل ليبيا ، الشيخ المناضل ( رثاء عمر المختار ) 

قصيدة " هبّة التحرير" تصور لنا التحام الفعل بالقول عند المبدع الملتزم بقضايا وطنه ، والمشاركة الفاعلة فى تغيير البلاد بفعل الثورة ، ولما كان الحدث مزلزلا عتياً ، جاءت موسيقى النص مجلجلة ذات وقع رنان ، يقول :

يا نار كونى فى انهمار القافية

لا تهدئى

سندوس يوماً طاغية

فلتحرقى رمز الفساد

وحزبه

ولترجعى فينا هبوب العافية

لا تخمدى

فالنصر فى إقدامنا

نأبى المهانة

أن تكون الطافية   ....إلخ  ص   91

فالثورة جامحة لدحر الفساد والقضاء على الطغاة ، حباً للوطن ودفاعاً عن كرامتنا ، فهذه بلادنا ندافع عن تواجدنا مرفوعى الرأس بها ، وبعدها يشيد فى تلاحم قوى الشعب من مسلم  ومسيحى ، ورفضهم لمبدأ توريث السلطة الذى كان يخطط لتنفيذه الرئيس المخلوع ، والتصد ى لقواته مهما كان الثمن من دماء الشهداء ، ولعلنا نلاحظ على هذا النص الحماس الزائد ، واتقاد الغضب .....وهذا يعبر عن صدق الشاعر فى معايشته لتجاربه ، وهذا الموقف عايشه الشاعر واقعيا ( بنزوله التحرير مع الثوار ) قبل معايشته فنياً) إلخ .

ويرتبط بقصائد الثورة قصائد عرَّت الواقع السياسى فيما بعد ، حيث انحرفت فى بعض مساراتها ، وظلت البلد فى فوضى مقنعة ، ومن هذه القصائد التى عبرت عن هذا قصيدة "  أغنية للطائر السجين " وفيها إدانة للتسلط البوليسى ،و إدانة لوطن يفتقد الأمن والأمن لتسلط جهاز الأمن ، بتلفيقه التهم لأبنائه  ، وتشعر فى القصيدة بنبض الشاعر وتأزمه ، التى يقول فيها : 

صباح الخير يا وطناً

يوزع تهمة الأفيون والبانجو

على أبنائه جهراً

وأحياناً يخيرهم

بأن يجدوا لهم تهماً

وفى هذا الزمان الصعب

يدسس تهمة المولوتوف

تلك جريمة ،أضحت ْ

كغول جرائم الدنيا

وأكبر من مداركنا

ويخرج فى جرائد تدعى التدقيقَ  ص 8

أن الضابط الإنسان أنقذنا

وأن الضابط الموعود فى دورية التزوير

قد لاقى التلاميذا

وأن الطالب الموهوب معطوب

ومأجور لسفك جرائم الدنيا .... ص 9

ويتوالى التدفق الشعرى راثياً لغد مؤلم ، رامزاً له بابنه ( محمد )  الذى كان متفوقاً  علمياً ، وراح ضحية هذا التلفيق للتهم الكاذبة ، ويضفى على النص درامية باسترجاع ذكرياته مع  هذا الطفل ، وهو يودعه على كتفه حقيبته المحملة بأدواته المدرسية .... الذى تخيله مسجونا هذه اللحظات ... ويصنع مفارقة عجيبة ، تضفى على النص درامية مميزة ، فهذا الطفل وقف فى التحرير ليصنع الغد الجميل ، ولكن كان القادم سيئاً ، ورغم كل ذلك ينصح ابنه بأن يظل محباً لوطنه ،  مهما فعل المفسدون لسفك أحلامنا بعد هذه الثورة ، وفى النهاية يوصيه ألا يموت فى قلبه حب هذا الوطن :

لذا أوصيك أن تبقى

عبيراً زاهر الأغصان

فكن رجلا كعهدى فيك

لا ذلّ ولا سجَّان

ولا قضبان هذا السجن

تمحو العشق للأوطان .... ص 15 .

وفى قصيدة " ديمقراطية " يهزأ من سوء الاختيار الاضطرارى ما بين صنفين فاتكين ، فكلاهما ذئبان ، ذئب يمتلك حَرَفية الذئاب  ( أعتقد أنه  يقصد رموز النظام الذين يتقنون اللعبة السياسية ، بما فيها من تضليل وتدجيل )  وذئاب متخبطين  متشبثين بتصورات دينية منحرفة  (أعتقد أنه يقصد الإخوان ) يقول :

اختر موتا بين اثنين

ذئب يعرف فن العوم

يغير جلد الصبح بجلد العصر

ويقتل فينا صبح الطفل

.........

وذئب يلبس ثوب الشاة

ويذكر قول الرب

بوقت الذبح

يكفر فينا فن الحرف

ويمنع عنك فنون العصر

ويحجب عنك الشمس

بدعوى أن الدين

يبيح القتل

لمن يجتاز حدود الفكر  

اختر قتلا بين اثنين ص 104

وفى قصيدة " لا أحد " يخاطب الدكتور مرسى أن يرحل ، ويرثى له بأنه لم يدرك الوقت المناسب للرحيل ، وليقدم اعتذاراً على تأخره فى الرحيل ، يقول فى مستهل القصيدة بلهجة حازمة ، وبيان مؤثر فى النفوس :

اختر طريقك لا أحد

يرجوك فى هذا البلد ....

وبعدها يقول :

فاختر طريقك  فى الزحام

وقل لمصرَ وأهلها

متأسفٌ

هذا اختيارى بالرحيل هدية ٌ

والسهو منى جائز

لكنه ما كان يوماً عن عمد .....إلخ . ص 134.

وجاءت القصائد القومية امتداداً للمدِّ الثورى عند الشاعر ، فى قصائد ( تونس ، دمكم دمى ، يا كل ليبيا ، الشيخ المناضل ) و قصيدتا تونس ودمى دمكم  جاءتا معبرتين  عن لحظة تكريمه فى هذين البلدين ، حيث تفجرت عاطفة القومية بالأحداث الجارية ، فيشيد بالمدّ الثورى الذى جاء من تونس ، مع استدعاء عبق التاريخ بالتغنى بمآثر التاريخ  جامع الزيتون والقيروان و القائد طارق بن زياد وعقبة بن نافع .  

قصيدة تونس درة من درر الديوان ، تلهبنا حماسة وشوقاً ، وتغرس فى أعماقنا ولاء ووفاء ، وتعطر نفوسنا بعطر التاريخ المزهر الوضىء ،  من المطلع يهزنا الشاعر بتدفق مشاعره الندية لرؤية هذا البلد وأبنائه :

من أرض مصر

قد أتيت الآن

والبشر يملأ مهجتى

ألوانا

النيل حمَّلنى

سلاما عاطراً

للقيروان محبة

وحنانا  ص 51

الوقع الموسيقى الخلاب والعاطفة الفائرة ، والخطابية الملفتة التى تخلب القلب ، جعل لهذه القصيدة وقعها فى النفوس ، وبعدها يعدد لمآثر هذا البلد ، نفحات جامع الزيتون ، وطارق بن زياد الذى صنع مجدا وفتح بلاداً ، وجاء الحاضر امتداداً له تجلى ذلك فى ثورة فريدة غيرت صورة المجتمع ، وجاءت ثورة التحرير فى مصر امتداداً لها ، وتناغما مع مبادئها وقيمها ، وعلى غرار القصيدة التراثية يبدأ بحسن الاستهلال ، وينهيها نهاية جميلة مؤثرة ، فى قوله :

إن جئت أنشد ودكم

فى شخصها

فالاسم تونس

والضحى قد بانا

هانت جميع أماكن الدنيا سوى

مصر

وتونس

للفتى ما هانا ..... ص 59

وفى قصيدة " دمكم دمى " يكاد يسير حول نهج القصيدة السابقة ، التغنى بجمال هذا البلد وأهله وشوقه إليهم ، شوقه لمراكش :

للمغرب الأقصى ستذهب ؟!

قلت : شوق ٌ ضمنى

لمراكش الحمراء وانفتح الستار

فرأيت عقبة

فوق ظهر شموخه

والبشر يشرق فى ثنايا وجهه

والكون يعلوه انتصار    ص 87

ورأيت طارق ، والندى من حوله

وأشاوساً سمرا

يجمعهم شعار

هذا طريق الحق

من ذا يشترى

جنات خلد  ص 88

على هذا العزف يسير شاعرنا الحاضر والماضى ومشاعر الإخوة والمحبة والسلام ، وصل التوحد إلى قوله :

دمكم دمى

وروابط كثر

تجمع بيننا

 والقلب ينبض بالشذا

والعين

تعرف فى الدروب حبيبها

 وتتوق دوما

للنهار

إنى أتيت محملا

بعروبتى

وقضيتى

هى وحدة كبرى

يغلفها الفخار    ص 90

وقصيدة " يا كل ليبيا " يتغنى بانتصار الثورة ، والقضاء على نظام القذافى ، وهشاشة فكره ،  وجنونه وتدميره للبلاد ، وفى قصيدة " الشيخ المناضل " يتغنى ببطولات عمر المختار المناضل الليبى الذى قتله ايطاليا عام 1930 م ،

فالحر يأبى

أن يموت مقيداً

والنسر يشرع

للفضاء جناحا   ص 121

هلا رأيت من الشيوخ مناضلا

أدمى الأعادى

جيئة ورواحا ؟!

من برقة الأبطال كان كفاحه

أسد يثور

ممزقا أتراحا

ما همَّه من مدفع

ولهٍ به

أو خاف من جيش

يثير جراحا   ص 122

لقد ذكرنا بقصيدة شوقى فى رثاء عمر المختار ، والتى تُعد أجمل قصيدة رثاء فى هذا الشهيد ، حين افتتحها بقوله :

ركزوا رفاتك فى الرمال لواء     يستنهض الوادى صباح مساء

إضافة إلى هذين الملمحين اللذين تدوران حولهما قصائد الديوان ، نجد قصائد أخرى متعددة الدلالة ، لعل من أجمل هذه القصائد  قصيدة " مكاشفة " والتى تتغنى بروح الشاعر الإنسانية كإنسان قبل كل شىء ، فكما يرد فى النص ، ليس من الأغنياء ،أو من العظماء ، ولكن كما يقول :

غير أنى

منذ ولدت ...لا أرى إلا التساوى

يجمع الأضداد حولى

والرضا بالكون

موجود لدى ....

لم أفرق بين ما الأرض

من جنس ولا دين

ولا عرق سمى  ص 19

فالإنسان بإنسانيتة ، وهذا أعظم ما يمتلكه المرء فى الحياة ، وكما يقرر الشاعر فى النهاية .

و هناك كثير قصائد أخرى فى الديوان تتسم بالجمال الفنى لمقدرة الكاتب كقصيدة ساندرا الحفيدة التى يتغنى باسمها ،وأربع مقطوعات يتهكم فيها بالفتاوى وبفهم الدين الفهم الخاطىء و هى ( فتوى 1 -  فتوى 2 - هل فى الدين  - صندوق ) وقصيدة " أنت وحدك " خاتمة الديوان مديح للرسول ( ص) فهو الشفيع الأوحد ....

-3-

ومما يميز شعر عاطف الجندى – كما ذكرنا - الإيقاع  الموسيقى المطرب الذى يستحوذ على الأذن ، ويمتع الروح ، لامتلاك الشاعر الحاسة الموسيقية التى تتدفق فى سيولة ورقة ونغم مدهش ، وأعتقد أن الشاعر مازالت ذائقته الإيقاعية متأثرة بموسيقى الشعر العربى ، هذه الموسيقى التى تعتمد على بحور الشعر العربى ، وما لها جماليات إيقاعية ، تتمثل فى التكرار والتساوى والتوازى .....إلخ ....

لذا ارتبط  جمال الشعر عند النقاد العرب بما يحدثه من طرب ، ، فالشعر– عند القاضى الجرجانى  – عند سماعه ، تجد فى نفسك  " من الارتياح ويستخفك من الطرب إذا سمعته " (4) وعند ابن رشيق  " إنما الشعر ما أطرب ، وهز النفوس ، وحرك الطباع ، وهذا باب الشعر ، الذى وضع له ، أو بنى عليه ـ لا ما سواه " (5) وعند ابن طباطبا " للشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم لصوابه ، وما يرد عليه من حسن تركيبه ، واعتدال أجزائه "(6)  وارتباط الشعر بالغناء منذ نشأته يؤكد هذا الملمح ، فكان العربى ينشد الشعر كأغنية ، يحدو بها بعيره فى الصحراء ، فينتظم " كلامه على ضربات أخفاف الإبل وحركاتها ، ومعروف أن السير عملية إيقاعية ، ومن ثم بدأ الإيقاع يتوازى مع مقاطع اللغة المنغومة " (7) وورد عن حسان قوله :

تغن بالشعر إما كنت قائله       إن الغناء لهذا الشعر مضمار (8)

ويرى أحد الباحثين أن كلمة الشعر مرتبطة بالغناء ، لأن كلمة شعر تعنى الغناء فى إحدى اللغات السامية ، واللغة العربية إحدى هذه اللغات ، فلا غرابة أن تكون " لفظة شعر العربية مأخوذة من اللهجات الكنعانية ... من لفظة شير ، التى تعنى فيما تعنى الغناء ، والتى يبدو أن حرف العين فيها استبدل بالياء ، ففعل " شار " " يشير " فى الكنعانية فعل ثلاثى أجوف ، ومعناه يغنى " (9)

وفى الغناء استمتاع وطرب ، يهز النفوس ، فتستجيب له ، بحركات لا إرادية تعبيرا عن هذا الفرح ، وقد ظل هذا الملمح مقترنا بالشعر ، لذا يرى أحد المعاصرين أن الشعر " إذا لم يهز ويثر بموسيقاه ، يفقد أهم عناصره ، ولا يعد شعرا ، بل قد يعد نظما ، أو نثرا موزونا "(10) وعند باحث آخر " الإيقاع والقافية تكسران حالة الرتابة فى النفوس ، وتثيران حالة من الهزة والارتياح ".....

وهذا ما نجده فى شعر عاطف الجندى ، فنجد كثيرا من قصائد الشاعر ، تتكأ على موسيقى القصيدة العمودية ، التى تعتمد على تكرار تفعيلة واحدة ..... بداية من قصيدته : بأى خريدة أبدأ ؟!  " لأنك ملءُ أوردتى  ونبض قصيدة المنشأ ....إلخ وهى تعتمد فى موسيقاها على تكرار تفعيلة ( مفاعلتن البحر الوافر )  

وقصيدة " غيرة "  والتى يقول فيها : أغار عليك من كحل  تراقص حول جفنيك ومن قرط حظى بالقرب من تفاح خديك ( تكرار تفعيلة مفاعلتن ( البحر الوافر ) وكذلك قصيدة " مكاشفة "   التى يقول فيها : ليس عندى أى شىء/  لؤلؤ ، قمر جميل أو غناء فوضوى ، تفعيلة فاعلتن ( البحر الوافر) .....إلخ

أكثر من ذلك يصنع الشاعر بمهارة فائقة القافية داخل القصيدة ، وهذه الظاهرة تستقطب كل قصائد الشاعر ، ونضرب مثلا من قصيدة " لا أحب الشاعرة "

أنا لا أحب الشاعرة

فالحب أبسط ما يقال عن الهوى

إن مس نبضا

فى القلوب الطاهرة

والحب بحر

يكسر المجداف فيه

ولا وصول للشواطىء

فى انهمار الآصرة   ص 29

فتكرار كلمات ( شاعرة ، طاهرة ، آصرة ) يعطى لحنا للقصيدة ، كوحدة إبقاعية تنتهى بحروف واحد ،إضافة إلى التوازن النابع من بنية الكلمة .

شعر عاطف الجندى يُقرأ ويُسمع ....لروعة إيقاعه وما يتضمنه من دلالات إنسانية راقية ، وأعتقد أن وقعه الموسيقى يجعل أكثر تأثيراً فى النفوس حين يلقيها الشاعر ، وأعتقد أن كثيراً من قصائده ألقاها فى حفلات ومناسبات عدة ، وكان لها الأثر الطيب فى النفس ، التى تطرب للإيقاع ،  وتلذ بالموسيقى ، وأترك القارىء على استشعار الجمال الإيقاعى فى هذا المقطع من قصيدة " هذا اختيارك " :

فاضت عيونك

كاختصار للندى

والكل أصبح عالماً بهواكا

ضدان يلتقيان

فاشتعلا مدى

وتوحد الجمعان فى مسعاكا

يممت نبضك

نحو خصر مليحة

وسكبت شعرا

صاعداً لمداكا .....إلخ . ص 39

إننا لا يمكن أن نفسر الوقع الموسيقى فى كلمات ، بل نستشعره فى وقعه على النفس ، وهنا نتذكر قول إسحاق الموصلى ، عندما سأله المعتصم ، أخبرني عن معرفة النغم ، وبينها لي ، فقلت ( إسحاق الموصلي )  :" إن من الأشياء أشياء ، تحيط بها المعرفة ، و لا تؤديها الصفة " (11) فالكلام لا يمكن ان يصف اللذة والمتعة لهذا الإيقاع ، ولكن ندركه بالذوق والحس .

مراجع وهوامش  الدراسة

1 - أدونيس (على أحمد سعيد ): زمن الشعر ط . 5 دار العودة بيروت  د. ت  ص164.

 2- د. على جعفر العلاق : الشعر و التلقي  دراسة نقدية  ط  دار الشروق  عام 1997 ص 67 .

3 - جان مارى جويو : مسائل فلسفة الفن المعاصرة , ترجمة د. سامي  الدروبى  ط  دار اليقظة العربية للتأليف و النشر دمشق عام 1906 ص 167.

4- القاضى الجرجانى (القاضي على بن عبد العزيز )  :  الوساطة بين المتنبي و خصومة تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم و على محمد البجاوي ، ط . دار القلم بيروت لبنان د.ت .ص 27.

  5 -  ابن رشيق  ( أبو علي الحسن ) :  العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ط ، دار الجيل ط 5 ، عام 1981 -  1/128.

6- ابن طباطبا  (محمد بن أحمد ):   عيار الشعر ، تحقيق د . محمد زغلول سلام منشأة المعارف بالإسكندرية د . ت ص 53.

7- د . عز الدين إسماعيل : الأسس الجمالية في النقد العربي ، عرض وتفسير ومقارنة ، ط دار الفكر العربي ط 3 ، 1974 . ص 344.

 8- حسان بن ثابت : ديوان حسان بن ثابت ، تحقيق د . سيد حنفى حسنين ، ط . دار المعارف عام 1983 ص 280.

 9 -  د . مصطفى الجوزو : نظريات الشعر عند العرب ( الجاهلية والعصور الإسلامية ) ط . دار الطليعة بيروت ط 2 عام 1988م ص 68.

  10 - مصطفى عبد اللطيف السحرتى :     الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث ، مطبعة المقتطف والمقطم عام 1948 م . ص 52 .

 11-  الآمدي ( أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى) : الموازنة بين أبى تمام (حبيب بن أوس) و البحترى (أبى عبادة بن الوليد ) تحقيق محمد محى الدين عبد الحميد  ، ط . دار المسيرة د.ت . و تحقيق السيد أحمد صقر ، ط . دار المعارف د . ت . 1/374 .


[1] - أدونيس (على أحمد سعيد ): زمن الشعر ط . 5 دار العودة بيروت  د. ت  ص164.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف