الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/24
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

السوسيولجي والأيديولوجي (صياغة جديدة) بقلم:د. أحمد محمد المزعنن

تاريخ النشر : 2016-09-24
دكتور أحمد محمد المزعنن
السوسيولجي والأيديولوجي
(صياغة جديدة)
من وحدة النضال إلى المأزق
تمثل الحالة النضالية الفلسطينية الحالية مشكلةً حقيقية ، وقد دخلت القضية الوطنية في دور الأزمة ، واكتسبت نتيجة لتراكم الأخطاء في دور المأزق المستعصي على الفهم والحل ،والذي لا يبدو أنه قابل للانفراج ، ومنذ بداية القضية الوطنية على الساحة الوطنية والإقليمية ، ثم على الساحة الدولية منذ عشرينيات القرن الماضي لم يسبق لها أن شهدت حالة من التمزق والتشتت وربما الضياع ، كالذي تشهده حاليًا، ويبدو أن كل محاولات الخروج من هذا المأزق إنما هو هروب إلى الأمام أكثر منه تبصر وتدبر ورغبة في الخروج من حال الأزمة المستعصية ، وربما كان السبب الرئيس هو التناقض المبدئي الذي قام الواقع بتأسيسه متمثلاً في وجود كيانين معرفيين ووجوديين في السوسيولوجي والأيديولوجي لا يمكن أن يتعايشا مع وجود التناقض الأصلي مع الكيان اليهودي الغازي للوجود الوطني ؛ ما لم يتخلص أحدهما من الآخر ،وخاصة في حال قبول أنموذج أوسلو الانحرافي بالوجود اليهودي ، ومحاولات إزالة التناقض معه منذ اتفاق أوسلو المشؤوم .
ومن المناسب تسليط الضوء على جانب مهم من جوانب المأزق الفلسطيني الراهن ؛ لأن له علاقة بالجذور السوسيولوجية والانتحاء الأيديولوجي لها في مراحل تمتد إلى ما قبل نكبة 1948م ، وظلت تلك الجذور تَفعلُ فعلَها بانتحاءات تعمل وفق قوانين الفعل الاجتماعي والفردي في ظروف استثنائية بعد النكبة 1948م ،وظهور الكيان اليهودي المحتل للوطن ، وفي مواقع اللجوء ، وأخذت تتجمع عناصر تغير اجتماعي فرضت أحكامًا عريقة للسوسيولوجيا المتحالفة مع الأيديولوجيا والمندمجة معها اندامجًا بالضرورة ؛ بهدف النجاة من الذوبان ،ومحافظةً على الوجود الأْوَليّ، وهي حالة لم يكن من الممكن التخفيف أو التقليل من فعلها في المجتمع الفلسطيني طوال سنوات الخضوع لإدارات غريبة عن مكونات هذا الشعب ، حتى جاء أنموذج أوسلو (الإجرامي الاحتيالى) الذي قاده جواسيس أوسلو ، ورسم خطوطه محمود رضا عباس مرزا الذي يمثل مهندس هذا المشروع التخريبي لأنموذج السوسيولجي - الأيديولوجي الفلسطيني العريق،ويطرح نفسه كأنموذج وحيد على الساحة الفلسطينية مستثمرًا حالة الوهن العربي ، والتواطؤ الدولي ، والضغوط اليهودية المتصاعدة على الشعب في الضفة والقطاع ، والمواقف السلبية من بعض الأنظمة العربية التي انتقلت من دور النأيِّ بالنفس إلى الدور الفاعل في التطبيع مع الكيان اليهودي المحتل للوطن .
كان ذلك يحدث بينما يُلهب ظهورالصهاينة الغزاة محركٌ انحرافيٌّ يتمثل في كونهم غرباء وافدين طارئين على المجال ،ويُجَمِّعون عناصر مكون سوسيو ـ أيديولوجي تلفيقي يحاول أن يغيّر معالم الظاهرة الاجتماعية الفلسطينية التي تمتد لآلاف السنين عمقًا،وبناء الظاهرة اليهودية الصهيونية الغازية بمواصفات جديدة في المكان الذي غيّروا معالمه ، وعبثوا بأسمائه التي ظهرت على سطح الثقافة الإنسانية من خلال تاريخ عريق وعميق من التفاعل الأزلي بين موجات إنسانية صنعت وشكلت المكان وملأت الزمان بمخرجات العبقرية من الفكر والفعل المتميزين في المجالات الحضارية المختلفة ، واكتسبت خصائص فريدة تستعصي على الطيِّ والليِّ والتطويع والتزييف والاختزال .
من منطلق التاريخ الإنساني كانت فلسطين موجودة كحقيقة تاريخية وإنسانية واجتماعية وعلمية ذات قداسة إلهية في ذات الزمن الذي كانت فيه الكعبة المشرفة بما تمثله من ثقل في المعادلة الإيمانية الضابطة للحركة الإنسانية،وكان الشعب المعروف حاليًا بالشعب الفلسطيني موجودًا قبل جميع الكيانات التي مزقت الرقعة العربية الأزلية بشعارات وإملاءات كونتها وفرضتها بريطانيا الدولة الأجنبية المحتلة لمعظم الكيان العربي الذي ورثته عن الدولة العثمانية التي هزمها التحالف الغربي الصليبي المتحالف مع الغزاة الخزر اليهود الصهاينة في الحرب العالمية الأولى (1414م -1419م) ،وترسمت الهزيمة بإلغاء الخلافة العثمانية (1924م)التي كانت المحرك الشرعي لأنشطة سلاطين آل عثمان منذ ظهورهم على مسرح السياسة الدولية بعد انتصارهم في مرج دابق عام 1516م ،وفتح القسطنطينية بشارة نبيِّ الإسلام على يد محمد الفاتح العظيم ،وكان الدين الإسلامي هو المحرك الأيديولوجي للسلاطين العظام الذين حكموا العالم الإسلامي ، وحموا الدين والذمار وحجموا الدور الصليبي في طور بناء الدولة الحديثة في أوروبا ،ومنعوا وبإصرار تكرار الهجمة الصليبية التي اندفعت نحو الشرق الإسلامي منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي .
لا عيدَ لكمْ بعدَ اليوم (صورة جزئية)
عندما وقعت هزيمة الجيوش العربية السبع التي هبَّت لنجدة الشعب الفلسطيني أمام العصابات الصهيونية التي كانت مسلحة تسليحًا متقدمًا بالنسبة لتلك الجيوش في خريف سنة 1948م، وبدأت تلك العصابات في ارتكاب المجازر لنشر الذعر بين سكان القرى والمدن الفلسطينية ضمن خطة لطرد أهلها تنفيذًا لوعد بلفور (2 نوفمبر 1917م)، انكشف ظهر المجاهدين الوطنيين ،وانكمش دور الأبطال الذين هبوا لنجدتهم من مختلف أقطار الأمة العربية ، وبدأ الشعب الفلسطيني عملية نزوح جماعية بحثًا عن ملاجىء آمنة إما في البلاد العربية المجاورة قبل تشبعها بالفكر والسلوك القُطري المغرق في الانعزال والاغتراب والطائفية السياسية والاجتماعية ، أو فيما تبقى من الوطن في قطاع غزة ، أو في الأراضي الشرقية من الوطن، وهي ما اصطلح عليه بالضفة الغربية بعد ضمها إلى الأردن عام 1951م،ووقتها كنا أطفالاً لا نفهم ما يدور حولنا،ولا يعدو تفاعلنا مع الأحداث أبعد من ترديد الأناشيد الوطنية اليومية في المدارس، والتركيز الشديد على الشحن العاطفي والمعرفي بمكونات المناهج الدراسية من التراث المعرفي الفلسطيني الثري والمتنوع ، ولا شكَّ أن معلمينا كانوا على دراية بما يحدث في وطنهم آنذاك وهم الصفوة والنخبة المتعلمة المثقفة المتابعة للأحداث من الشعب الفلسطيني،وكان الدليل على ذلك يبدو في حالة التوتر وقوة الانفعال والشحن الوجداني عند البعض منهم وخاصة في أواخر سنة 1948م.
وبعد خروجنا من قريتنا (الخصاص شرقيِّ عسقلان التاريخية التابعة إداريًا لمدينة المجدل) ولجوء أهلنا إلى قطاع غزة التحقتُ بمدرسة الزيتون الابتدائية ثم الإعدادية (المتوسطة)،وقد كانت الدراسة فيها للطلاب من أبناء اللاجئين أمثالي فترة ما بعد الظهر إلى المساء،ولا تزال صورة مدير مدرستنا الأستاذ محمود الشريف ـ رحمه الله ـ (من عائلة معروفة في مدينة المجدل) ماثلة في وجداني لا تفارق ناظري ، ويده ترتجف من قوة الانفعال وهو يخطب فينا غاضبًا عندما طالبنا الإدارة أن تمنحنا إجازة بمناسبة عيد الأضحى قائلاً في سياق حديثه: (لا عيدَ لكم بعد اليوم )،ووقتها ظننا تحت ضغط أحلام عالم الأطفال واستجابة لتقاليد ثابتة عايشناها في الأعياد قبل النزوح : أننا يمكن أن نفرح بالعيد كما كانت عادتنا قبل النزوح من قريتنا أثناء عطلة عيد الضحى من عام 1948م،على الرغم من غياب الكثير من متطلبات العيد التقليدية .
(لا عيدَ لكم بعد اليوم )،وظلت هذه الجملة تترسخ في الوجدان ، ثم أصبحت حقيقة إدراكية ووجودية محفورة في اللاشعور وذات طبيعة (دجماتية) قاسية متصلبة لم تفلح السنون في محوها أو التخفيف من وقعها،وكان كلُّ يومٍ يضيف إليها رمزية اللجوء والغربة والتشرد والإصرارعلى رفض عبث العابثين من الجواسيس والانتهازيين والمتلونين ،ثم من الأسلويين الجواسيس المتحالفين مع الصهاينة الغزاة من يهود الخزر،والأنظمة العربية التي تبيع وطنًا غير أوطانها ،وأرضًا غير أرضها بالمواقف المتخاذلة التي تبنت واحتضنت محمود رضا عباس مرزا وفريقه من الخونة والعملاء والجواسيس الذين اتخذتهم ستارًا يخفي استجابتها لمطالب وضغوط الدول الغربية الداعمة لليهود ،ثم في التطبيع مع مجتمع الجريمة الشاملة الصهيوني المحتل لفلسطين، وإجبار جماهير الأمة على قبوله ككيان طبيعي في الوسط الاجتماعي والثقافي العربي النقيض الأبدي لهذا الكيان الغريب .
قطعة من التاريخ :السفربرلك 1915م
كان أهلنا في المدن في جبهات المقاومة المتقدمة يقاتلون اليهود الغزاة ،ومن رموز الصمود البطولي التي أذكرها في محيط قريتنا على سبيل المثال بلدة (حمامة وأسدود وبرير وبربرة وسمسم والفالوجا) وغيرها من القرى والمدن القريبة ولابعيدة نسبيًا ،وكانوا يتصدون لموجات الهجرة والغزو والإجرام اليهودي المبرمج،وكانت معارف سكان القرى حينذاك محدودة بحدود ما يتناقلونه من أخبار عن جماعات المقاومة في أكثر من موقع،وخاصة في القرى التي تقع على خطوط الإمدادات بين المستعمرات اليهودية،وكان الاتصال الشخصي أهم وسيلة لنقل الأخبار نظرًا لضعف وسائل الاتصال وندرة أجهزة جمع ونشر الأخبار والمعلومات ،وساعد على ذلك قصر المسافات بين القرى والمدن الفلسطينية نتيجة لوجودها الأزلي في الأرض الخصبة المتصلة من أطرافها عند الحدود اللبنانية إلى نهايتها الجنوبية عند رفح وصحراء سينا والنقب ،والافتقار إلى كيان فلسطيني حكومي رسمي مستقل عن الإدارة الإنجليزية يمثل مصدرًا موثوقًا للمعلومات كالذي يوجد في هذه الأيام ،وفي غياب جهاز يوجه المواطنين لما ينبغي فعله،ويوضح ما يجري على أرض الواقع، فقد كان المذياع أو الراديو عملة نادرة في المدن أو عند بعض الوجهاء و(المخاتير) في القرى، والصحف كانت تصدر في المدن ولا تصل إلى القرى، والأمية متفشية بين الفلاحين خاصة ،باستثناء من تمكن منهم أن يرسل ابنه إلى مصر ليدرس في الأزهر، أو من استطاع أن يتلقى التعليم من أبناء الطبقات المقربة إلى الإدارة الإنجليزية الاستعمارية (حكومة الانتداب) ،وأبرز ما كان يتناقله الكبار في ذلك الوقت كان يؤكد :أن عملية النزوح مؤقتة،وأنهم سوف يرجعون بعد شهر أو شهرين إلى بيوتهم، كما حدث لسكان غزة أيام (السفربرلك 1915م )ويقصدون بذلك آخر وأكبرعملية حشد عسكري عثماني أثناء الحرب العالمية الأولى(1914هـ ـ 1919م ) عندما تحولت غزة إلى ساحة حشد لوجستي للجيش التركي المتجه إلى قناة السويس بقيادة الضابط التركي أحمد جمال باشا قائد الجيش الرابع ،لمهاجمة الجيش البريطاني المدعوم بالأسطول من البحر وبقوات القبائل التي جندها لورنس وانضوت تحت لواء أبناء الشريف حسين ـ شريف مكة آنذاك ـ الذي تحالف مع الإنجليز وأعلن أثناء الحرب ما أطلق عليه (الثورة العربية الكبرى على الدولة العثمانية عام 1916م) في الحجاز لإضعاف الدولة العثمانية،وذلك بعد مباحثات مطولة بينه وبين مكماهون المندوب السامي البريطاني في القاهرة،ووعده الإنجليز فيها بدولة عربية تمتد من جبال طوروس شمالاً (الحدود بين سوريا وتركيا بما فيها لواء الإسكندرون السليب)وقناة السويس جنوبًا،ولكنهم غدروا به فيما بعد،واقتسمت بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية بعد نهاية الحرب ولايات الدولة العثمانية ومن بينها البلاد العربية ـ بعد هزيمة ألمانيا وحليفتها تركيا ـ وفق اتفاقية (سايكس ـ بيكو – سيزنوف)بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية قبل الثورة البلشفية في أكتوبر 1917م ،وهي الثورة (1917م)التي قام بها البلاشفة الشيوعيون وقوضوا بها حكم أسرة رومانوف ،وأعلنوا قيام ما عرِف بالاتحاد السوفييتي زعيم الكتلة الإشتراكية فيما بعد.
وضع غزة
ونتج عن ذلك تحول منطقة غزة إلى ساحة حرب جعلت أهلها ينزحون عنها إلى الشمال في ضيافة إخوانهم المواطنين في المدن والقرى بحثًا عن مأمن،وكان عددهم حينئذ لا يتجاوز العشرة آلاف،لكن خروجهم وهجرتهم من مساكنهم لم يطل فقد عادوا إليها بعد هزيمة الجيش العثماني وتحطيم مقدمته في منطقة وادي العريش في شمال سيناء على الرغم من وصول بعض طلائعه إلى قناة السويس ،وكانت واقعة هجرة أهل غزة هذه لا تزال حية في الذاكرة الفردية والجَمعية للجيل الذي عاصر الحرب العالمية الأولى من الشعب الفلسطيني بعد حوالي ثلاثين سنة تقريبًا ،فأوحت إليهم بالسلوك الجمعي التلقائي الذي اصطبغ بنوع من العدوى الانفعالية الاجتماعية كسلوك غرزي يدفع نحو البحث عن الأمن والنجاة نتيجة لتردد أخبار المذابح الصهيونية وتواصل الإسقاط شبه اليومي للقنابل عن طريق الطائرات ليليًا ؛ولذلك ترك الناس دورهم بعد أن أغلقوها،واكتفوا بأن حملوا معهم مفاتيحها على أمل العودة قريبًا كما فعل أهل غزة في الحرب العالمية الأولى.
ولنفس هذا الغرض ـ النجاة والأمن من المذابح الصهيونية ـ اتجه سكان المدن الفلسطينية الساحلية نحو أقرب حدود عربية لهم في حركة نزوح كبرى،ووقتها وتحت حكم المستعمرين المحتلين الإنجليز والفرنسيين كان عبور الحدود بين البلاد العربية أسهل وأسلس وأكثر مشروعية منه في الوقت الراهن تحت الأنظمة الشوفونية المنغلقة المفرطة في القطرية ،فاتجه سكان حيفا وعكا مثلاً وما حولهما من القرى،وما يقع إلى الشمال منهما اتجهوا نحو لبنان،أما سكان شمال فلسطين في الداخل : مدينة صفد وطبريا وسكان سهل الحولة فاتجهوا إلى سوريا،وأهل يافا وما في جنوبيِّها من المدن الصغيرة كاللد والرملة والمجدل والقرى الشرقية وبعض سكان النقب اتجهوا نحو غزة،ونشرت قيادة الجيش المصري في المجدل آنذاك ـ ومصر آنئذ كانت قبل ثورة يوليو 1952م تحت حكم الملك فاروق وهو آخر أفراد أسرة محمد علي باشا ـ نشرت تلك القيادة بين السكان خبرًا يفيد أنها ستتمركز فيما عُرِف فيما بعد بقطاع غزة بموجب اتفاق الهدنة الثاني، وحدوده من بيت حانون وبيت لاهيا اللتين كانتا عبارة عن قريتين صغيرتين تتكونان من بيوت طينية قليلة العدد وحتى رفح التي كانت مجرد نقطة حدود تفصل بين مصر وفلسطين التاريخية،وقد بقي عبد الناصر ـ رحمه الله ـ وعدد من الأبطال معه محاصرين في عراق المنشية وجيب الفالوجا شرق غزة،وذلك بعد انسحاب الجيش الأردني فجأة وبلا سابق إنذار من اللد والرملة وانكشاف ميمنة الجيش المصري الذي اضطر إلى التراجع عن هجومه على مشارف تل أبيب (كانت قيادت ف يالمجدل ووصل إلى يبنا شمالً متجاوزًا اللد والرملة حيث القوات الأردنية)،وكان الجيش الأردني وقتها يُعرف بالفيلق العربي تحت قيادة ضابط بريطاني يدعى ونجت (وشهرته في الأردن أبو حنيك)،وكان الأمير عبد الله بن الحسين جد الملك حسين والد الملك عبد الله الثاني هو القائد العام للجيوش العربية السبعة التي كانت مشتبكة في حرب مع العصابات الصهيونية بعد رفض مشروع التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1947م ورفضته الدول العربية وكلها تقريبًا محتل من جانب بريطانيا وفرنسا ،وقرروا الزحف إلى ميدان فلسطين لمجابهة العصابات اليهودية وطردها من فلسطين وحماية إخوانهم الفلسطينيين .
رغم النكبة والتشرد
في عام 1948م خرج معظم الشعب الفلسطيني حاملاً معه خصائصه الاجتماعية والمجتمعية الأصلية،فقد كان لدى سكان كل مدينة أو قرية أو خربة عادات ومهارات وتقاليد في الأفراح والأتراح والأعياد والملابس والعلاقات الاجتماعية وعادات إنتاجية ومعيشية ولهجة أو قل لكنة خاصة تميزهم في إطار الثقافة الشعبية الفلسطينية العامة التي تميزالشعب الفلسطيني،ولقوة الروابط الاجتماعية والدرجة العالية من التماسك الاجتماعي،ونمط التكافل الأسري الراقي، ولرسوخ الكثير من القيم الدينية والاجتماعية في الأسر النازحة،فقد حرصت النسبة العظمى من الشعب على إعادة بناء الكيانات الاجتماعية التي نشأوا وسطها لقرون ماضية في المدن والقرى والأودية والجبال والسواحل ويعيدون بناءها في المواقع التي انتهى بهم مشوار اللجوء للاستقرار فيها وعلى صورة مجتمعاتهم الأصلية،فتجمع أهل كل قرية أو مدينة أو حي بطريقة تلقائية في موقع واحد في حدود الممكن والمتاح،وذلك سعيًا لتحقيق أعلى درجة من التجانس الاجتماعي والمجتمعي والثقافي،فعلى سبيل المثال تجمع عدد كبير من أهل بلدة الجورة الواقعة قرب مدينة عسقلان التاريخية ومسقط رأس الشيخ أحمد ياسين ـ رحمه الله ـ ومعهم كل من كانت حياته ترتبط بالبحر في بلدته الأصلية،تجمعواعلى ساحل البحر المتوسط غربي مدينة غزة فيما يعرف حاليًا بمعسكر أو مخيم الشاطىء،وبالطبع لم يعد المكان مخيمًا بل صار حيًا من مدينة كبيرة،وبعض أهل الجورة ابتعد بهم المشوار قليلاً فسكنوا سواحل خانيونس ورفح يفتشون عن بيئة زراعية متميزة تعرف بالمواصي(وهي الأرض الزراعية بمحاذاة سيف البحر مباشرة،ولها نظام دورة زراعية خاصة لا تنقطع فيها الزراعة على مدار العام فكأنها جزيرة زراعية في وسط محيط مختلف عنها)،ومثلهم فعل أهل يافا وكل من كانت له علاقة بالبحر، وتجمع معظم سكان القرى الزراعية حول الأراضي الزراعية في المقار الجديدة في حي الزيتون والشجاعية على أمل استئناف أنشطتهم الاقتصادية في حدود المتاح رغم ضيق مساحة القطاع،ونفس الأمر حدث في الضفة الغربية مع اختلافات فرضتها حقيقة أن الضفة أكبر مساحة وأكثر تنوعًا في التضاريس وأكثر رحابة تسمح بتنوع النشاط البشري،وزادت الفرص بعد ضمها إلى الأردن وسلخها عن جنسيتها الفلسطينية واستبدالها بالجنسية الأردنية بعد مؤتمر أريحا ،أما من كانت حرفته التجارة أو الصناعة فقد بحثوا عن ممارسة انشطتهم في أجواء المدن أو القرى والبلدات الأكبر حجمًا وأصبحوا جزءًا من الكيانات الجديدة والأصلية أسرع من إخوانهم في المخيمات والتجمعات خارج المدن .
ولم يكن المخيم أو المعسكر مجرد مكان أو مجال فيزيائي،ولكنه بوضعه الجديد وفرَّ وعاءً إنسانيًا متجانسًا،فكان معظم سكان أي جزء في المخيم أو (بلوك) ـ كما كان يعرف ـ ينتمون إلى نفس القرية أو المدينة في حدود الممكن،وربما لم يكن ذلك صدفة، بل كان ثمرة للمحاولات الأولى للتجمع المتجانس الذي أسسه اللاجئون الفلسطينيون الأوائل،ولهذه الظاهرة أمثلة في بعض بلاد العالم ،ظهرت لدى المهاجرين الأوروبيين الأوائل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبلاد أميريكا الجنوبية (اللاتينية)وأستراليا ونيوزيلندا عند اكتشافها،فعلى سبيل المثال نجد سكان الولايات الشمالية الشرقية الست على ساحل الولايات المتحدة الأميريكية المعروف بإقليم نيوإنجلند ـ أي إنجلترا الجديدة ـ هم في غالبيتهم من ذوي الجذور الأنجلوسكسونية أي من الجزر البريطانية،وتتركز السلالات اللاتينية (من أصول إيطاليا وإسبانية وبرتغالية وفرنسية )في دول أميريكا الجنوبية،وتتوزع الجماعات ذات الأصول المتوسطية بما يشبه الانتحاء الثقافي والاجتماعي أو الانجذاب المناخي في إقليم جنوب غرب أستراليا،ويكون الصينيون حاليًا نسبة كبيرة من سنغافورة وماليزيا وبعض أقاليم إندونيسيا .
النكسة
وأضيفت موجة جديدة من النزوح القسري والعشوائي والاحتيالي المبرمج بعد هزيمة عام 1967م بالتنسيق مع أطراف محددة من السيكوبولوتيك العربي ،ونتج عنها إضافة أعداد كبيرة من الجيل الثاني والثالث من سكان قطاع غزة والضفة الغربية إلى المقيمين خارج فلسطين،وبعد توقيع اتفاقية أوسلو حدث ما يشبه العملية الاحتيالية متعددة الأطراف ،فاعتبر نازحًا كل من لم يدخل في تعداد عام 1968م الذي قامت به سلطات الاحتلال،أو من لا يحمل الهوية الإسرائيلية التي تعتبر حاليًا الفارق الرئيس الذي يحدد الانتماء الرسمي المعترف به دوليًا حسب مواصفات سلطة أوسلو العميلة .
ومنذ عام 1992م زادت عمليات النبذ والعزل والفرز بعد قبول فريق أوسلو من التجار والسماسرة والجواسيس قَصْرَ المواطنة والتبعية السياسية للكيان الجديد ـ الذي أطلقوا عليه السلطة الوطنية الفلسطينية ـ على حاملي جواز السلطة من سكان الضفة والقطاع أو مَنْ دخل مع إدارة السلطة من الأفراد الذين جذبتهم الاستثمارات التي كانت تبشر بسنغافورة ثانية في غزة من طبقة المغامرين الذين تحلقوا حول محمد عبد الرؤوف القدوة (ياسرعرفات) وأعوانه كل حسب نيته والجهة التي تديره وتوجهه ،ومعظمهم اختفت آثارهم مع اختفاء المليارات والمشاريع الخيالية التي كانت يسيل لها لعاب الطامعين في اقتسام الإرث المادي بعد تبخر الإرث المعنوي في بيداء التنازلات والمشاريع التفاوضية الوهمية التي تحاول التوصل إلى سلام مستحيل ، وكانت اتفاقية المعابر عام 2005م بين سلطة أوسلو العميلة والكيان الصهيوني آخر الاتفاقيات الاحتيالية النوعية لتثبيت الأمر الواقع ،ونتج عن هذه الاتفاقية منع أي فلسطيني لا يحمل جواز سفر السلطة والهوية اليهودية من دخول الضفة والقطاع ، ثم زادت القيود بعد فوز حماس في انتخابات عام يناير 2005 م ، ثم فرض الحصار الصهيوني على الأهل في غزة ،وتصعيد الانقسام الذي دبره عباس وفريقه جواسيس أوسلو والقوى الداعمة له ؛ تمهيدًا لضرب قوى المقاومة في ديسمبر 2008م ويناير 2009م ، بحيث إن كل تطور سياسي أو عسكري يمارسه العدو وحلفاؤه كان ينعكس آثارًا اجتماعية على الداخل والخارج الهدف منها كسر إرادة الشعب وتفتيت وحدته .ثم في الحرب على غزة وعلى حماس والقسام تحدسدًا عام 2012م ،والحرب المدمرة التي شنها جيش العدوان عام 1914م .
السوسيولجيا القسرية في المخيمات
تشكلت السوسيولوجيا القسرية في المخيمات في البلاد العربية التي حاولت تزييف الانتماء الوطني الفلسطيني بطرح مواصفات جديدة للإنسان الفلسطيني،وربط السوسيولوجيا الأصلية التي حملها اللاجئون أو النازحون أو اللامنتمون أو البدون الفلسطينيون معهم بشروط جديدة من الولاءات المصطنعة الخاضعة لتوصيف الوسط الفيزيائي والثقافي الذي وجدوا أنفسهم خاضعين لعناصره وضغوطه الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
أدت بعض وقائع التناقض التي تصاعدت إلى حدِّ الصراع والصدام إلى تصدع الكثير من الأبنية السيكولوجية والسوسيولوجية،ولم تحدث مراجعات كافية للتجارب المريرة التي وجدت تجمعات الشعب نفسها غارقة في أوحالها،وكان ذلك من بين أسباب تسلل العبثية والعفوية في الظاهرة النضالية التي يصر بعض المنتمين إليها من أصحاب مشروع أوسلو وأعوانه وصفها بالتطور الطبيعي أمام ضغوط المحيط،وهم في ذلك يلقون مسؤولية الفشل على مُكَوَنٌ عام وغامض وهلامي بهدف تشتيت التركيز عن العجز الوظيفي الذي تمثله سلطةٌ ارتضت دورًا ناقصًا حدده المحتل بالخضوع لعوامل القوة الصهيونية المسيطرة ،حيث تفرض هذه الشروط طبيعة الفعل ورد الفعل الفردي والمجتمعي بكل أشكاله،وانتهت في النهاية إلى كيانٍ وظيفي له دور محدد هو الحفاظ على أمن الكيان اليهودي المحتل ولو أدى ذك إلى قتل أبناء الشعب أو تسليمهم لليهود كما يحدث حاليًا وبإصرار في تجمعات الضفة الغربية المحتلة من قوتين متناسقتين ومنسقتين حتى تويان على إخضاء المكون البطولي لهذا الشعب الذي لا يوجد له مثيل في الجنس البشري،وهو شعب يسيل لعاب كل الكيانات الإنسانية لاستقباله ودمجه الجيني والثقافي في مكوناته الإثنية ، كا يفعلون حاليًا في المكون الأصلي للشعب السوري .
نورد هذه الحقيقة لأن الذي يجري حاليًا على مسرح الأحداث في المستنقع الفلسطيني له جذور في التكوين السوسيولوجي،وتحديدًا في أجواء التطورات المتلاحقة بعد حرق غزة وقتل أهلها،وتدمير بيوتها وحصارها ،والعنصر الفاعل الذي يعمل لدى كل من يجرؤ على المساس بالحقوق الوطنية من هؤلاء هو نتاج سوسيولوجيا قسرية تكوِّن ظاهرة وظيفية انحرافية جاءت من تغير سطحي للتكيف للشروط غير الموضوعية في الوسط الذي وجد الشعب الفلسطيني نفسه فيه محاصرًا بكيانات ترفع في وجهه شعارًا ضبابيًا يروج لثقافة السلام فيما يعرف بالمبادرة العربية(بيروت 2002م) التي تتبنى مشروع أوسلو الذي ثبت فشله،ولكنه لم ينتهِ رسميًا .
حماس وتعانق السوسيولوجيا والأيديولوجيا
عندما نزح الفلسطينيون قسرًا أو احتيالاً او اختيارًا عن وطنهم لم يكن يوجد صراع بين اعتبارات السوسيولوجيا والأيديولوجيا،حيث كانت الأبنية الاجتماعية توظِف توظيفًا تلقائيًا أحكام العقيدة الإسلامية لدى الغالبية العظمى من الشعب،وكانت شخصية المختار،أو رئيس البلدية أو الشيخ الأزهري (الخطيب أو المفتي) و (إكْبار) العائلات (أي الشخصيات البارزة فيها كما ينطقها الفلسطينيون) والوجهاء كل هؤلاء يمثلون إفرازًا سوسيولوجيًا لمجتمع متجذر أفقيًا ورأسيًا،ولا نبالغ إذا قلنا إن جذوره تمتد إلى الأصول الكنعانية والآرامية والعربية الأولى،وكان لا يظهر إلى السطح الاجتماعي تحت ضغط السوسيولوجيا إلا أصحاب الكاريزما القيادية المبررة التي تحظى باحترام شديد وبلا منازع،وقد انتقلت تلك المكونات إلى المعسكر،ووجدت لها نظائرها في السوسيولوجيا المضيفة في المناطق التي انتقل إليها إخوانهم اللاجئون،وكان ذلك من أهم العوامل التي أسست للتجانس الاجتماعي في مناطق التجمع البشري باستثناء بعض الحالات الفردية.
وظلت تلك الظاهرة الضابطة الحاكمة فارضة نفسها على الحُكَّام الجدد من السلطات الأردنية في الضفة الغربية وفي قطاع غزة تحت الإدارة المصرية ،وفي المخيمات بالضفة الشرقية للأردن قبل 1967م أو في مناطق تجمع الفلسطينيين في سوريا والعراق وغيرهما من مناطق اللجوء على اختلاف في قوة التأثير والتأثر،وكانت الشخصيات التقليدية عضد ومرجعية السلطات في المنطقتين الفلسطينيتين الخالصتين،أما في البلاد الأخرى فالأمر يختلف،ولكل تجمع بشري قوانينه وشروطه في تحديد نمط العلاقة مع الوسط الجديد،والفلسطينيون في لبنان أنموذجه الماثل الذي يقدم أوضح دليل على المأزق السوسيولوجي في تفاعلاته مع المقر الجديد.
لم تظهر الحاجة إلى إعادة النظر في الأيديولوجيا إلا بعد ظهور الجماعات ذات الأيديولوجيات الغريبة في بعض مناطق التجمع الفلسطيني بتأثير ظهور الحركات السياسية المسلحة الجديدة التي تتبنى استراتيجية المقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني المحتل للوطن،فتراجعت السوسيولوجيا للأيديولوجيات الوافدة الجديدة قسريًا وبلا منازع،وتبدلت العوامل التي تحدد شروط الفعل الفردي والمجتمعي في الوسط السيوسولوجي الجديد نتيجة لغلبة مصفوفة الأهداف الجمعية للنهج الجديد الذي تبناه وتحمل مسؤوليته جيل كامل بدأ بالشقيري ولم ينته بموت (ياسر عرفات)،بل ازداد عمقًا وزخمًا عندما توحدت الأيديولوجيا والسوسيولوجيا في مجتمع أسسته وقادته وصنعته وحمته حركة المقاومة الإسلامية حماس في أنموذج فذٍ وفريد من نماذج البناء الاجتماعي الذي يمارس الوظائف الاجتماعية في النُسق البنائية بسلاسة ومرونة وكفاءة نادرة .
إن العوامل التي بلورت وصنعت وأخرجت أنموذج حماس الفذ ليست فقط سقوط النقيض الأوسلوي،أو الصدام بين مشروعين سياسيين على الساحة الفلسطينية ـ كما يحاول الكثيرون تفسيره ـ ولكن العامل الحاسم في إخراج هذه الأنموذج البنائي الوظيفي كان التقاء السوسيولوجيا اللاجئة المهاجرة مع السوسيولوجيا المتوطنة في الأجيال الجديدة التي قادها الدعاة والمعلمون والمصلحون والقادة الرواد بدءًا بالشيخ القائد أحمد ياسين ورفاقه في غزة،ومجموعات القادة في الضفة الغربية،وليس انتهاءً بالقادة الميدانيين في حقول العمل السياسي والاجتماعي حاليًا.
التقى الرافدان السوسيولوجيان في المساجد بتأثير التوجه الإسلامي العارم الذي نتج عن كون حماس امتدادًا لحركة الإخوان المسلمين،ونتيجة لفشل سلطة أوسلو وفسادها،وانكشاف عوار منهجها ،وتجذرت الأيديولوجيا المتعانقة مع السوسيولجيا في قاعات المحاضرات في الجامعات التي يرفدها نظام تعليمي كثيف الحماس للمبادىء التي رسخها أحمد ياسين والشيخ رائد صلاح وأعوانهما وتلاميذهما وقادة التيار السلفي الجديد في فلسطين وفي الخارج،وحافظ عليه كل من ساروا على نهجه في غزة والضفة وخاصة في مدينتي الخليل ونابلس ومخيمات الضفة، والتقوا في ميادين العمل الاجتماعي والتنظيمي والثقافي بعد أن صهرتهم تعاليم الإسلام السلفي التي تنطلق من مبادىء واضحة وصريحة وأولية مغروسة في التكوين الثقافي والاجتماعي للشعب الفلسطيني .
ويمكن تفسير ذلك بمثال بسيط من الأمثلة الكثيرة ـ لا تقليلاً من قيمة وحجم الأنموذج الفذ لحماس والجهاد ـ بل للتوضيح الجزئي لجانب من جوانب هذا الأنموذج:التقى أهل بلدة الجورة المجاورة لأطلال مدينة عسقلان التاريخية وهي مسقط رأس الشيخ أحمد ياسين يرحمه الله ، (وبالمناسبة فمعظم قادة حماس الظاهرين على الساحة من هذه البلدة ـ وهم خليط من الفلاحين والصيادين الذين يتمتعون بخصائص إيمانية وحياتية تفرضها شروط التعامل مع البحر واليابس بحثًا عن الرزق)التقوا مع خصائص فريدة متوفرة لدى مكونات الطبقة المتوسطة من أهل غزة في حي الزيتون بغزة الذي يتكون في معظمه من أجود أنواع الأراضي ليس فقط في القطاع بل في فلسطين قاطبة،وأهل حي الشجاعية بخصائصهم وصفاتهم المتميزة المتصفة بالكرم والرجولة والشجاعة والنخوة والطبيعة المحافظة،وأهل الأحياء التي تقيم بها الطبقة الوسطى في غزة في حي التفاح والدرج حيث الغالبية العظمى من أصحاب المهن والصناعات والمهارات المدنية في التجارة وغيرها من الأنشطة.ومثل ذلك يقال عن السوسيوأيديولوجيا لكل قطاع جزئي في الأنموذج المقاوم في الضفة والقطاع وفي الشتات مع الأخذ في الاعتبار ظروف إقامة كل قطاع.ومثل ذلك يقال عمَّا حدث في الضفة الغربية،وفي التجمعات الفلسطينية في الشتات والمنافي،وهذه الظاهرة الاجتماعية العريقة هي هدف منظري وفلاسفة الانهزام في سلطة أوسلو من الجواسيس والانتهازيين الذين حاولوا بمشروعهم المخرب تكوين نقيض اجتماعي بأيديولوجية متهافتة.
إن مزيج السوسيولوجيا والأيديولوجيا الذي نشأ وترعرع ونبغ ممثلوه وقادته في قاعات الكليات في الجامعة الإسلامية بغزة وفي جامعات الخليل ونابلس والقدس وبيرزيت وغيرها هو الذي صهر سكان مخيم رفح وسكان مخيم جباليا وسكان مخيمات الضفة في جنين وحول القدس ورام الله والخليل على سبيل المثال وصنع منهم كتلة متماسكة من أشد المقاتلين العقائديين وخلق البيئة المناسبة لظهور أصدق القادة الذين أعادوا ذكريات الشعب الفلسطيني وربطه بالسوسيولوجيا الأصلية في القرى والمدن والبوادي الأولى التي نزحوا منها،وكأن أكثر من ستين سنة من النكبة والتشرد كانت أشبه بحلم عابر،وهذا الوضع الضاغط من طرف يفترض فيه أنه قد انتهى أمره بتوقيع معاهدات السلام العربية واتفاقية أوسلو المشؤومة،هو الذي يشكل تهديدًا حقيقيًا للمشروع الصهيوني الاستعماري الغازي، وللمشروع الأوسلوي من العملاء والسماسرة والجواسيس، ولمشروع التوسع الأمريكي وحلفائه من النظام العربي الرسمي، وهو ما أملى على الصهاينة الحقد الإجرامي الذي مارسوه في معركة العزة في الفترة الممتدة بين 27ديسمبر 2008م حتى 23 يناير 2009م وما بعدها،وهو ما جاء بنتنياهو وليبرمان ومجموعة الأحزاب التي توصف باليمينية وما هي إلا يسارية شيطانية مخربة مفرطة في الإفساد والعنصرية .
لقد تمددت أشجار الزيتون المباركة وتقابلت في أعماق التربة المباركة مع أشجار الجميز العملاقة المشهورة بعطائها الفريد،فهي تثمر سبع مرات في العام،وينتشر ثمرها من أسفل جذوعها إلى أطراف أغصانها التي تعانق الغيوم،ولا توجد هذه الظاهرة الطبيعية الخضرية إلا في أرض ساحل فلسطين،وتجذرت حتى وصلت إلى الخزان المائي القديم التاريخي،وتمثلاً لما يحدث في أعماق تربة الأرض المقدسة تعانقت مكونات المجتمع الفلسطيني المتكافلة ،وعائلته وعناصره فوظفت المخزون الأصيل والعريق لمنظومات القيم والأخلاق والثقافة التي كادت سنوات الغربة واللجوء أن تمحو مجرد ذكرها،وأقامت تلك المكونات الكيان الذي تواصل مع المدد الطبيعي المتعمق في أرض غزة،والذي يستمد وينمي رصيده من الأمطار التي تأتي بها الرياح الغربية القادمة من المحيط الأطلسي بعد أن يهذبها ويباركها مرورها على شواطىء الأرض المقدسة وبحرها الشاهد على قداستها الحارس لما تبقى من أسوار مدنها الخالدة في عكا وأسدود وعسقلان ،صنعت المكونات الأصيلة في القرى والمدن الساحلية وفي الضفة أنموذجًا فريدًا من الثقافة الدينية التي هذبها وقوَّمها وعمق تأثيرها مجموعة من التحديات هائلة الضغوط ،وتصلبت مكوناتها في محاولة لصناعة نقيض للغزاة الصهاينة،ولكن المفاجأة الصاعقة كانت في نقيض وافد من نوعٍ آخر لم يكن في الحسبان.
النقيض الوافد :جواسيس أوسلو والأنموذج الاحتيالي
لا يوجد فرق حقيقي بين سكان المدن والقرى في فلسطين ، وذلك لأن كل المدن الفلسطينية تقع في محيط من القرى المدنية إن صحَّ التعبير ولا تبتعد أي قرية عن أطراف أي مدينة أكثر من ثلاثة أو أربعة كيلومترات ،حتى يمكن أن نعتبر القرى ضواحي للمدن الفلسطينية ، وتوجد علاقة عضوية راقية من نوع فريد بين سكان المنطقتين الحضريتين ،وقد حافظ أنموذج حماس السوسيو ـ أيديولوجي على مخرجات تلك الحقيقة الاجتماعية ، وساعده على ذلك تحول ما كان يطلق عليها المخيمات أو المعسكرات إلى أحياء مدنية فرضت أنماطًا متميزة من الخصائص الاجتماعية ،وكثفت من خصائص أنموذج الطبقة الوسطى المحافظة بتأثير الثقافة الدينية ،وقد جرت مقابلة ومعارضة مخرجات هذه العوامل السوسيوـ أيديولوجية التي حازت قبول غالبية الشعب الفلسطيني بأنموذج سوسيو ـ سيكو - بوليتك يتمثل في مكونات سلطة أوسلو العميلة ، ومكونات مشروعها التخريبي الوافد الذي اكتشفه القليلون في وقت مبكر،ولكنه لبَّس على غالبية الشعب عندما بلغ ذروته في الترميز العفوي والاحتيالي الضاغط بهدف صناعة أنموذج سوسيولوجي تحويلي تلفيقي قسري يفرغ السوسيوـ أيديولجي الحمساوي الشعبي الأصيل المتغلب من مضمونه ، ويفقده بريق مشروعه المقاوم ، ويستنزف طاقاته في صراعات جانبية ، وساعد سلطة أوسلو العميلة على المضي في هذا الأنموذج السويسولوجي الإحلالي انفرادها بالسلطة السياسية نتيجة لمقاطعة حماس وبعض الفصائل لمشاريع هذه السلطة ومجاراتها في مراحل علاقاتها مع الاحتلال ،ويبدو أن الوقت لا يزال مبكرًا للحكم على تصرفات هذه القوى التي تركت سلطة أوسلو تنفرد بالشعب وبالقرار في أخطر مراحل القضية الفلسطينية بدلاً من كشفها وتصفيتها في وقت مبكر قبل أن تتجذر وتدعمها جبهات إسناد تهدف إلى تخريب المشروع الوطني الفلسطيني وتكرسها كسلطة شرعية لا بديل لها ، وكانت السوسيولوجيا العبثية التجميعية حاضرة في الأنموذج السلطوي وهي ما أفضى إلى حالة الفوضى الأمنية وما قاد إلى أحداث 14 يونيه 2007م ،وهو الذي يكرس الانقسام وينحاز إلى الأعداء جريًا وراء وهم السلام الذي لا يوجد له أي ذكر في أجندة الصهاينة كما يجرى في (الكونتون)الانحرافي في رام الله وممارساته الإجرامية على مساحة الضفة الغربية .
ولم يبقَ من هذا التنظيم السوسيولوجي إلا القليل بعد دخول سلطة أوسلو إلى الضفة والقطاع،وقيامها بمحاولات محمومة من أصحاب المشروع للتأسيس لشروط سوسيولوجية تستأصل ما يمكن ان نطلق عليه الانتحاء الاجتماعي الفطري المتأصل في الشعب الفلسطيني والمتمثل في التجمع والتجانس الأسري ثم الانطلاق في مشاريع الأسر الممتدة وما ينتج عنها من نمو وتزايد في العلاقات الشبكية عن طريق النَسَب مع الأسر الأخرى .
النتيجة من ذلك كله هو الحقيقة الثابتة والمتمثلة في الظاهرة السوسيولوجية التي تضرب بجذورها في أعماق الشعب الفلسطيني ،وهي التي تقبلت الأيديولوجيا وهضمتها وتمثلتها وانبثقت منهما الحقيقة النضالية التي ترفض التزييف والتدليس الأوسلوي،وتخرج الخبث من معدن الشعب كما يخرج الكير خبث الحديد ، إنها السوسيولوجيا التي تحيّد العملاء وتنبذ الجواسيس مهما كثر عددهم . ويبدو أن المنهج الجدلي الهيجلي وجد ظواهر تستدعي استخدامه لتفسير غوامض العلاقة الأزلية بين القضية ونقيضها ،وأن صاحب هذا المنهج لم يضع وقته عبثًا ، فمن مقابلة القضية ونقيضها تتولد قضية تحمل في ذاتها عوامل وجودها وفرض نفسها على متغيرات المرحلة ، والمنهج الأشد صرامة في منطق العلم الصحيح هو منطق القضاء والقدر الذي ترسم معالمه نصوص القرآن الكريم والسنة المشرفة ووقائع وتجارب التاريخ المؤيدة للمنهج الرباني والتي تفرض حقيقة أن دولة الباطل ساعة وأن دولة الحق إلى قيام الساعة ،وأن مهما علا سلطان الظلم والتجبر والطغيان فلا بد أن يصير إلى زوال ليصبح عبرة وعظة لكل ذي لب وجنان .
ما بعد تدمير غزة بين الكانونيين(2008م – 2009م)
بعد تدمير غزة على يد اليهود في الحروب المتتابعة (2008م،2012م،2014م) تابعت القوى المتحالفة اندفاعها لنصب الفخاخ لعدوها الذي حاصره الصهاينة وأثخنوا جراحه،وقد كشفت مراجعة موضوعية لأحداث ما قبل الغزو الإجرامي لغزة بين العامين الميلاديين أن مصر (حسني مبارك وأبو الغيط )هي التي كانت مفوضة رسميًا وشعبيًا وعربيًا أمريكيًا ويهوديًا) بتصفية جيب المقاومة الأخير في غزة ، وبدا واضحًا من سياق التعامل المتشدد مع سكان القطاع أثناء العدوان وإحكام المعابر والاستجابات المتوالية للضغوط الأمريكية واليهودية والدولية لتدمير الأنفاق ومنع تهريب السلاح أن المهمة تسير في طريق مستقيم وبلا انتظار .
إلى أين ؟
تدل جميع المؤشرات على أن أصحاب مشروع أوسلو وحلفاءَهم من رموز السيكوبوليتيك والسيكوسوسيال والسيكوأيديولجي والسيكوإبستمولوجي ومجموعات التزييف والتحريف الواقعي والتاريخي من المحسوبين جدلاً على فكر ولغة الأمة في المنطقة من الكتاب والعاملين في حقول الإعلام والملتفين حول أصحاب القرار من كذابي الزفة،وعناصر ومراكز الدعم الدولي لهم يستشعرون القوة،ويندفعون لاستغلال الوضع المأساوي للشعب الفلسطيني في غزة والضفة،ويمارسون ضغوطًا معيشية على تجمعات هذا الشعب في الشتات في ظل أزمة مالية تحولت إلى أزمة اقتصادية عالمية،والصهاينة في هذه الظروف يعبثون بمقدرات العالم الاقتصادية والسياسية،ويقدمون العروض المغرية لحراس ثغرات الاختراق في العالم العربي،ويعيدون تفسير مراكز القوى في المنطقة تحت المظلة الأمريكية،ولا يبدو على الإدارات الأمريكية المتوالية أنها تغيرت إلا في الوجوه وبعض العبارات الرقيقة المخففة التي تتحول إلى سدود واستحالات عندما تصل الأمور إلى ما ينبغي للصهاينة فعله من أجل استحقاقات السلام .
استهوت فكرة الدولة التي حققت بعض الإنجازات الشكلية أنصار ومنتسبي سلطة أوسلو وبالغوا في محاولات التمثيل الانحرافي لمؤسسات دولة وهمية ليس لها أي مقومات حقيقية على أرض الواقع ، ومضوا بعيدًا خاصة في المجالات المنية التي تفرض القضاء على أي شكل من أشكال المقومة للمحتلين الصهاينة ، والمطابقة الكاملة في السلوك الشكلي والموضوعي مع اليهود المحتلين ، وظهرت تلك الدلائل في أحداث ما عرف بهبة القدس التي قتل اليهود فيها الشبان على الحواجز ،وأمعنوا في هدم البيوت ،واعتقال ومحاكمة الأطفال ، وتجريم التحريض وقذف الحجارة ، واشتركت قوات أمن المرزا عباس حتى في قتل المقاومين بالأيدي وبأعاب البنادق ، ولا يوجد أدنى شك بأن أجهزة سلطة أوسلو تقدم المعلومات المباشرة لليهود بحيث ينتقون من قرروا قتله بذريعة الطعن أو محاولات الطعن ، وأصبح من الأمور المسلم بها فيما يتبادله المواطنون في الضفة : أن ما يعرف بالتنسيق الأمني يؤدي دورًا أبعد بكثير من مجرد تبادل المعلومات في الأمور المدنية والمجالات الخدمية ،وهو أكثر بكثير من مجرد علاقات معلومات ،بل هو تنسيق مطلق لقمع المقاومة ، وحماية أمن الغزاة اليهود من منطلق تصور أنهم يمثلون دولة ذات سلطة وكيان حقيقي ،وليس مجرد ذراع من أذرعة قمع الشعب العربي الفلسطيني.
وفي هذه الأجواء التي تبدو ملبدة وقاتمة يبدو ظاهريًا أن جبهة المقاومة وداعميها في موقف ضعيف ومفكك ومكشوف وخاصة بعد تفكك دول ما كان يعرف بجبهة الرفض والممانعة ،وتشريد شعوبها ، واستنزاف قواها ، وتعطيل حركات الإنتاج المادي والمعنوي في معظم البلاد العربية ،وفي هذه الحالة يغدو من المُجدي التصلب المطلق في المواقف المبدئية،وعدم التنازل عن أي جزئية تمس الحقوق الثابتة،والانخفاض بسقف الحاجات المعيشية للناس إلى الحد الأدنى،مع الاحتفاظ بأعلى درجة من الروح المعنوية،وحشد المزيد من الأنصار ،وتنويع الأسلحة العسكرية ومضاعفة الرصيد اللوجستي النوعي منها،وعودة نهج حماس وحلفائها في الفصائل الجهادية إلى تقوية العلاقات مع شعبها في الخارج الذي تجاهلته محادثات المصالحة في القاهرة وغيرها من العواصم بهدف إضعافها ،وتشويه صورتها المجيدة التي خرجت بها من معركة العزة،وتصغير حجمها أمام حشد من العلمانيين والانتهازيين وكتلة الجواسيس الذين يدَّعون شرعيةً كاذبة والمزيفين لإرادة الشعب،ولن يطول تماسك جبهة السيكوبوليتك هذه،فسرعان ما يتخلى الصهاينة عن الجواسيس والعملاء بمجرد تيقنهم أنهم لن يحققوا لهم اختراقًا ذا بال في جبهات المقاومة الوطنية والقومية ،وهو نهج يدركه كل من تابع ويتابع مراحل الصراع مع هؤلاء الغزاة المجرمين.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم ،وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم .
(... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.) (يوسف:21)
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف