من خلف النافذة. -
تلتصق عيناي بزجاج النافذة في فضول تام لأراقب الغادين و الرائحين في الشارع الممتد أمامي بفضائه الواسع و دكاكينه المتراصة ،يؤثثه أناس من مشارب مختلفة و بيئات متنوعة و متباينة ، لأجد نفسي – رغم بعدي عنهم- أتحاور مع بواطنهم و أتناجى مع خفايا صدورهم لأحاول أن أحدس ما تخفيه من مشاعر و أحاسيس لأخلص إلى تخمينات أفسرها من ظواهرهم في عملية استبطان من نوع خاص ، فيهم كهل أبله يجر في قدميه حذاءا مهترئا يحادث نفسه ,يبتسم تارة فتلمع عيناه ثم لا تلبث أن تنحسر عنها تلك الإبتسامة ليحل محلها شرود يطبعه حزن عميق تارة أخرى ، و على الرصيف الآخر فتيات ثلاث في مقتبل العمر بلباس عصري مثير كاشف لمفاتنهن : بناطيل ( جينز) زرقاء و بيضاء على قمصان ملونة بألوان الطيف و أحدية ذات كعب عال يحدثن بها نقرات على الأرض تثير السمع قبل النظر... أي كل ما يناسب عشية هذا اليوم من أيام الصيف، كل منهن تحاول أن تبرز أنوثتها و أناقتها أمام أترابها في تنافس ملفت. تتوقف إحداهن للحديث في هاتفها المحمول بخيلاء مزهوة أمام المارة الذين التفت منهم الذكور مدفوعين بالإعجاب أكثر من الفضول ، أما الإناث فكن بعيدات عن إحساس شقائقهم الرجال بل أبدين كل الضجر والتأفف والاستخفاف من حركات الفتاة الطاووسية وسط صديقتيها اللتين حاولتا معرفة صاحب المكالمة لكنها أصرت على التكتم فانخرطن في قهقهات مستفزة.
يمر شابان في العقد الثالث من عمرهما ثم يتوقفان للتحرش بالفتاتين اللتين لم تتأخرا عن إبداء كل ما لديهما من غنج و دلال دون أن تسلكا طريق التعارف وفقا لقول الشاعر : " ومن الناس من يحب المتمنع " . و هناك في الركن القصي من الشارع مقابل نافذتي تقبع مقهى شعبية تكون على هذه الصفة في الصباح لتتحول إلى مطعم وسط النهار مختص في الأكلة المتميزة التي عرفت بها المدينة "السردين المشوي ". و أي مطعم ؟ من الدرجة غير المصنفة طبعا مما يقبل عليه السواد الأعظم من الناس، في هذا الحين كان صاحبه - بقامته الطويلة و بنيته القوية التي تنافس أقطاب المصارعة الحرة و شعره الرمادي المتناثر على كتفيه بفوضى يمسح الموائد -غير المتشابهة في شكلها- من بقايا السردين الذي كان وجبة غذاء متأخرة لمجموعة من الزبناء الذين يرتادون هذا النوع من المطاعم في موسم الصيف حيث يجود البحر بهذاالصنف من السمك بمدينتي المتربعة على المحيط....وجلهم من سائقي الحافلات وسيارات الأجرة الكبيرة و غيرهم من أصحاب الحرف البسيطة أو العمال المياومين الراغبين في الحصول على أكلة صحية متوازنة و بثمن بخس .
جلس ثلاثة من هؤلاء الزبناء على مائدة خارج المطعم يحتسون كؤوس الشاي برتابة مملة ، يتابعون المارين أو بتعبير أصح المارات على الخصوص ...يتفحصون كل ناحية من أجسامهن و يعلقون بألفاظ في أغلبها بعيدة ولا شك عن كل ما ساقه الشعراء العذريون في أشعارهم للتغزل بالمرأة و مفاتنها ....
ولكن ، ولسوء حظهم توقفت إحدى المارات التي التقط سمعها المرهف بعضا من هذه التعليقات التي تنأى عن الأدب لتغرقهم في سيل من السب و الشتم مما يحفل به قاموس البداءة لديها البعيد عن كل رومانسية و المتحرر من كل القواعد الأخلاقية و الذي كان كافيا للكشف عن هويتها دون تعب المتتبعين في البحث عن من تكون ..
و سرعان ما انقض عليها أحدهم مستعرضا فحولته مدافعا على شرف الجماعة و متحدثا بلسان صحبته كما يدعي ليوقفها عند حدها على حد تعبيره.... جره صاحباه محاولين التعقيب على هذا الحدث العارض بالضحك و التنكيت ، أما المارة فقد التفوا حول الرجل و المرأة محايدين ، وهمهم الوحيد هو البحث عن الفرجة المجانية فقط في فضاء مفتوح و خاصة أن بطلته معروفة لدى جميع سكان الحي بالباحثة عن المشاكل أو صانعة عنصر الإثارة ... تفرق الجميع وابتعدت المومس و هي تسب و تتوعد بالانتقام في وقت لاحق قد يأتي أو لا يأتي، أما أنا فابتعدت عن النافذة بعد أن سمعت طرقات على الباب أرجعتني إلى عالمي المغلق الخالي من كل عناصر التشويق والإثارة و المتعة البصرية .
" همس الحال "
تلتصق عيناي بزجاج النافذة في فضول تام لأراقب الغادين و الرائحين في الشارع الممتد أمامي بفضائه الواسع و دكاكينه المتراصة ،يؤثثه أناس من مشارب مختلفة و بيئات متنوعة و متباينة ، لأجد نفسي – رغم بعدي عنهم- أتحاور مع بواطنهم و أتناجى مع خفايا صدورهم لأحاول أن أحدس ما تخفيه من مشاعر و أحاسيس لأخلص إلى تخمينات أفسرها من ظواهرهم في عملية استبطان من نوع خاص ، فيهم كهل أبله يجر في قدميه حذاءا مهترئا يحادث نفسه ,يبتسم تارة فتلمع عيناه ثم لا تلبث أن تنحسر عنها تلك الإبتسامة ليحل محلها شرود يطبعه حزن عميق تارة أخرى ، و على الرصيف الآخر فتيات ثلاث في مقتبل العمر بلباس عصري مثير كاشف لمفاتنهن : بناطيل ( جينز) زرقاء و بيضاء على قمصان ملونة بألوان الطيف و أحدية ذات كعب عال يحدثن بها نقرات على الأرض تثير السمع قبل النظر... أي كل ما يناسب عشية هذا اليوم من أيام الصيف، كل منهن تحاول أن تبرز أنوثتها و أناقتها أمام أترابها في تنافس ملفت. تتوقف إحداهن للحديث في هاتفها المحمول بخيلاء مزهوة أمام المارة الذين التفت منهم الذكور مدفوعين بالإعجاب أكثر من الفضول ، أما الإناث فكن بعيدات عن إحساس شقائقهم الرجال بل أبدين كل الضجر والتأفف والاستخفاف من حركات الفتاة الطاووسية وسط صديقتيها اللتين حاولتا معرفة صاحب المكالمة لكنها أصرت على التكتم فانخرطن في قهقهات مستفزة.
يمر شابان في العقد الثالث من عمرهما ثم يتوقفان للتحرش بالفتاتين اللتين لم تتأخرا عن إبداء كل ما لديهما من غنج و دلال دون أن تسلكا طريق التعارف وفقا لقول الشاعر : " ومن الناس من يحب المتمنع " . و هناك في الركن القصي من الشارع مقابل نافذتي تقبع مقهى شعبية تكون على هذه الصفة في الصباح لتتحول إلى مطعم وسط النهار مختص في الأكلة المتميزة التي عرفت بها المدينة "السردين المشوي ". و أي مطعم ؟ من الدرجة غير المصنفة طبعا مما يقبل عليه السواد الأعظم من الناس، في هذا الحين كان صاحبه - بقامته الطويلة و بنيته القوية التي تنافس أقطاب المصارعة الحرة و شعره الرمادي المتناثر على كتفيه بفوضى يمسح الموائد -غير المتشابهة في شكلها- من بقايا السردين الذي كان وجبة غذاء متأخرة لمجموعة من الزبناء الذين يرتادون هذا النوع من المطاعم في موسم الصيف حيث يجود البحر بهذاالصنف من السمك بمدينتي المتربعة على المحيط....وجلهم من سائقي الحافلات وسيارات الأجرة الكبيرة و غيرهم من أصحاب الحرف البسيطة أو العمال المياومين الراغبين في الحصول على أكلة صحية متوازنة و بثمن بخس .
جلس ثلاثة من هؤلاء الزبناء على مائدة خارج المطعم يحتسون كؤوس الشاي برتابة مملة ، يتابعون المارين أو بتعبير أصح المارات على الخصوص ...يتفحصون كل ناحية من أجسامهن و يعلقون بألفاظ في أغلبها بعيدة ولا شك عن كل ما ساقه الشعراء العذريون في أشعارهم للتغزل بالمرأة و مفاتنها ....
ولكن ، ولسوء حظهم توقفت إحدى المارات التي التقط سمعها المرهف بعضا من هذه التعليقات التي تنأى عن الأدب لتغرقهم في سيل من السب و الشتم مما يحفل به قاموس البداءة لديها البعيد عن كل رومانسية و المتحرر من كل القواعد الأخلاقية و الذي كان كافيا للكشف عن هويتها دون تعب المتتبعين في البحث عن من تكون ..
و سرعان ما انقض عليها أحدهم مستعرضا فحولته مدافعا على شرف الجماعة و متحدثا بلسان صحبته كما يدعي ليوقفها عند حدها على حد تعبيره.... جره صاحباه محاولين التعقيب على هذا الحدث العارض بالضحك و التنكيت ، أما المارة فقد التفوا حول الرجل و المرأة محايدين ، وهمهم الوحيد هو البحث عن الفرجة المجانية فقط في فضاء مفتوح و خاصة أن بطلته معروفة لدى جميع سكان الحي بالباحثة عن المشاكل أو صانعة عنصر الإثارة ... تفرق الجميع وابتعدت المومس و هي تسب و تتوعد بالانتقام في وقت لاحق قد يأتي أو لا يأتي، أما أنا فابتعدت عن النافذة بعد أن سمعت طرقات على الباب أرجعتني إلى عالمي المغلق الخالي من كل عناصر التشويق والإثارة و المتعة البصرية .
" همس الحال "