34 عام على مذبحة صبرا وشاتيلا
د. أيمن أبو ناهية
مجزرة صبرا وشاتيلا هي واحدة من أبشع المجازر البشرية، وهي واحدة من صور الإجرام الانسانية التي لم ولن تنسى ولم يستطع غبار الزمن إخفاءها، كما لم يستطع التاريخ طمس معالمها، فهي باقية لم تغيب وحية لن تمت على الإطلاق، رغم محاولات قتل ذكراها، فهي ماثلة أمامنا، محفورة في أذهاننا وعقولنا، رغم محاولات مسح آثارها، شاهدة على أبشع صور الإجرام والقتل والعنجهية.
ومهما حاولنا وصف الجريمة وبشاعتها من رص كلمات وعبارات مليئة بالحزن والالم لم نستطيع اعطاء الدماء التي نزفت في صبرا وشاتيلا حقها ولم نوف للشهداء بالعهد ولا لذويهم بالثأر. حقيقة أن البعض كتب وتحدث عن الواقعة الاليمة في ذكراها من باب المشاعر المليئة بالحزن والغضب، والبعض الاخرى اخذته الحرقة على الضحايا من الشهداء الاطفال والنساء والشيوخ، وقد يكونوا عاشوا الاحداث في مخيمي صبرا وشاتيلا ورأوا بأم اعينهم المجازر ليكونوا شهود عيان على الجريمة ومرتكبيها، لذا ابدعوا في الوصف الدقيق لمجريات الاحداث في تلك الفترة، لكني احببت ان اعرف ما هو رأي شهود العيان من الطرف الاخر وهو الاحتلال الاسرائيلي حتى ولو من الزاوية السينمائية التي هي أيضا من وسائل الاعلام الاكثر تأثيرا بالمشاهد، خاصة اذا كانت تصور مشهد حقيقي يتعلق بجرائم ضد الانسانية، على غرار الهولوكوست وعندها سيكون اكثر رواجا وتداولا عالميا. المخرج آري فولمان الذي يوثقها بحرفية عالية، وهو الجندي السابق في الجيش الإسرائيلي والشاهد على مجزرة القرن إبّان الاجتياح الصهيوني للبنان عام (1982م).
وحتى يكون الفلم اكثر سهوله للمشاهدة والاستيعاب قدم فولمان فيلمه على شكل رسوم متحركة، برؤية وثائقية بانياً أحداثه على وقائع حقيقية، معيدا صياغة الحدث مثلما جرى، داعما موضوعه بمقابلات فعلية أجراها على مدى سنوات مع رفقاء سلاح كانوا معه وضباطا بمراتب كبيرة كانوا أصحاب نفوذ وكلمة في تلك الفترة، مختتما فيلمه بصور وثائقية حقيقية من أرشيف المجزرة ولمدة دقيقة كاملة كانت ضرورية جدا لتدعيم سير الفيلم ورؤيته، إشارة من فولمان على أن نفكر بعمق بواقع المجزرة وبأننا لا نشاهد فيلما عاديا او فيلم رسوم متحركة ممتع فما حدث قد حدث فعلا وأننا أجزاء مجزرة حقيقية راح ضحيتها آلاف الأبرياء.
وبما أن السينما هي أيضا تاريخ مروي صوريا إلا أن ضباب الحقيقة ما زال يحجب رؤية الواقع الفعلي للذي حدث، فما زلنا نجهل حتى اللحظة مدى تورط الجيش الإسرائيلي في مجزرة المخيمات، والذي نعرفه أن هنالك مليشيات لبنانية، او مليشيات موالية لإسرائيل اقتحمت مخيمي صبرا وشاتيلا في أيلول (1982م) وبتغطية من الجيش الإسرائيلي حيث طوقوا المنطقة وأضاءوا لهم سماء المخيم ليلا ليقترفوا جريمتهم وعلى مدى (3) أيام متتالية بلياليها وسط تعتيم أعلامي مقصود عقب اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل فبدت وكأن المذبحة ردا انتقاميا، بالتأكيد هنالك الكثير من المغالطات التاريخية – في رؤية المخرج للحدث - إلا انه فيلم يستحق الوقوف عنده والإشادة به كون لم يسبق للسينما الإسرائيلية أن قدمت فيلما فيه هذه الكمية من الشهادات والاعترافات عما حدث من جريمة ارتكبت بحق الآخر، وهو باب فتحه فولمان على مصراعيه ليتوج بأفلام أخرى مهمة تدون الحقيقة أو بعض منها للتاريخ "كما سيحدث لاحقا في فيلم مهم آخر هو (لبنان)". مثلما ظن الجنود الأمريكان أن حرب فيتنام نزهة فإذا بها جحيم مستعر كان فولمان ورفاقه يظنون أيضا أنهم في نزهة فوجدوا أنفسهم في ورطة كبيرة داخل حرب مستنزفة تركت داخل أرواحهم آثارا سيبقون يعانون منها حتى وقت طويل فكان لا بد من الاعتراف لتطهير آثام الروح.
حاول فولمان بشكل أو بآخر أن يقدم صورة أخرى (لإسرائيل) فرغم أنه ألقى اللوم في عملية المذبحة على المليشيات اللبنانية وأنها – أي إسرائيل - لم تقدم سوى الدعم ولم تشارك فعليا في المجزرة، مثل هذا الاعتراف يدركه المخرج جيدا أنه لا يبرئ ذمة الآخر من المشاركة بالذنب واقترافه ما دامت النية موجودة ومسكوت عنها، وإخفاء الحقيقة واضح وجلي، لذا عمل فولمان وبذكاء أيضا على أن يعرض فيلمه متزامنا مع الذكرى الـ(60) لقيام دولة (إسرائيل)، في رسالة واضحة وصريحة أن الدولة قامت بفعلها أو بمساعدة منها على ترسيخ وجودها من خلال تشريد شعب وذبحه واستيطان آخر بديله، فتجلت أفضل لحظات فولمان في رسالة الفيلم برده على بني جنسه بأنهم إن نجوا من مذبحة الهولوكوست فان فظاعة ما اقترفوه في صبرا وشاتيلا هي مذبحة أيضا لا تقل أهمية عما حدث لهم في الحرب العالمية الثانية.
حتى لو لم يشير الفيلم مباشرة الى اصابع الاتهام المتورطة في مجزرة صبرا وشاتيلا فمرتكبي المجزرة معروفين للقاصي والداني، وعلى جميع المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والعربية والدولية تحريك الدعاوى ضد مرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا وتقديهم للعدالة، لأن جريمتهم لا تسقط بالتقادم، فهي جريمة حرب بامتياز.
د. أيمن أبو ناهية
مجزرة صبرا وشاتيلا هي واحدة من أبشع المجازر البشرية، وهي واحدة من صور الإجرام الانسانية التي لم ولن تنسى ولم يستطع غبار الزمن إخفاءها، كما لم يستطع التاريخ طمس معالمها، فهي باقية لم تغيب وحية لن تمت على الإطلاق، رغم محاولات قتل ذكراها، فهي ماثلة أمامنا، محفورة في أذهاننا وعقولنا، رغم محاولات مسح آثارها، شاهدة على أبشع صور الإجرام والقتل والعنجهية.
ومهما حاولنا وصف الجريمة وبشاعتها من رص كلمات وعبارات مليئة بالحزن والالم لم نستطيع اعطاء الدماء التي نزفت في صبرا وشاتيلا حقها ولم نوف للشهداء بالعهد ولا لذويهم بالثأر. حقيقة أن البعض كتب وتحدث عن الواقعة الاليمة في ذكراها من باب المشاعر المليئة بالحزن والغضب، والبعض الاخرى اخذته الحرقة على الضحايا من الشهداء الاطفال والنساء والشيوخ، وقد يكونوا عاشوا الاحداث في مخيمي صبرا وشاتيلا ورأوا بأم اعينهم المجازر ليكونوا شهود عيان على الجريمة ومرتكبيها، لذا ابدعوا في الوصف الدقيق لمجريات الاحداث في تلك الفترة، لكني احببت ان اعرف ما هو رأي شهود العيان من الطرف الاخر وهو الاحتلال الاسرائيلي حتى ولو من الزاوية السينمائية التي هي أيضا من وسائل الاعلام الاكثر تأثيرا بالمشاهد، خاصة اذا كانت تصور مشهد حقيقي يتعلق بجرائم ضد الانسانية، على غرار الهولوكوست وعندها سيكون اكثر رواجا وتداولا عالميا. المخرج آري فولمان الذي يوثقها بحرفية عالية، وهو الجندي السابق في الجيش الإسرائيلي والشاهد على مجزرة القرن إبّان الاجتياح الصهيوني للبنان عام (1982م).
وحتى يكون الفلم اكثر سهوله للمشاهدة والاستيعاب قدم فولمان فيلمه على شكل رسوم متحركة، برؤية وثائقية بانياً أحداثه على وقائع حقيقية، معيدا صياغة الحدث مثلما جرى، داعما موضوعه بمقابلات فعلية أجراها على مدى سنوات مع رفقاء سلاح كانوا معه وضباطا بمراتب كبيرة كانوا أصحاب نفوذ وكلمة في تلك الفترة، مختتما فيلمه بصور وثائقية حقيقية من أرشيف المجزرة ولمدة دقيقة كاملة كانت ضرورية جدا لتدعيم سير الفيلم ورؤيته، إشارة من فولمان على أن نفكر بعمق بواقع المجزرة وبأننا لا نشاهد فيلما عاديا او فيلم رسوم متحركة ممتع فما حدث قد حدث فعلا وأننا أجزاء مجزرة حقيقية راح ضحيتها آلاف الأبرياء.
وبما أن السينما هي أيضا تاريخ مروي صوريا إلا أن ضباب الحقيقة ما زال يحجب رؤية الواقع الفعلي للذي حدث، فما زلنا نجهل حتى اللحظة مدى تورط الجيش الإسرائيلي في مجزرة المخيمات، والذي نعرفه أن هنالك مليشيات لبنانية، او مليشيات موالية لإسرائيل اقتحمت مخيمي صبرا وشاتيلا في أيلول (1982م) وبتغطية من الجيش الإسرائيلي حيث طوقوا المنطقة وأضاءوا لهم سماء المخيم ليلا ليقترفوا جريمتهم وعلى مدى (3) أيام متتالية بلياليها وسط تعتيم أعلامي مقصود عقب اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل فبدت وكأن المذبحة ردا انتقاميا، بالتأكيد هنالك الكثير من المغالطات التاريخية – في رؤية المخرج للحدث - إلا انه فيلم يستحق الوقوف عنده والإشادة به كون لم يسبق للسينما الإسرائيلية أن قدمت فيلما فيه هذه الكمية من الشهادات والاعترافات عما حدث من جريمة ارتكبت بحق الآخر، وهو باب فتحه فولمان على مصراعيه ليتوج بأفلام أخرى مهمة تدون الحقيقة أو بعض منها للتاريخ "كما سيحدث لاحقا في فيلم مهم آخر هو (لبنان)". مثلما ظن الجنود الأمريكان أن حرب فيتنام نزهة فإذا بها جحيم مستعر كان فولمان ورفاقه يظنون أيضا أنهم في نزهة فوجدوا أنفسهم في ورطة كبيرة داخل حرب مستنزفة تركت داخل أرواحهم آثارا سيبقون يعانون منها حتى وقت طويل فكان لا بد من الاعتراف لتطهير آثام الروح.
حاول فولمان بشكل أو بآخر أن يقدم صورة أخرى (لإسرائيل) فرغم أنه ألقى اللوم في عملية المذبحة على المليشيات اللبنانية وأنها – أي إسرائيل - لم تقدم سوى الدعم ولم تشارك فعليا في المجزرة، مثل هذا الاعتراف يدركه المخرج جيدا أنه لا يبرئ ذمة الآخر من المشاركة بالذنب واقترافه ما دامت النية موجودة ومسكوت عنها، وإخفاء الحقيقة واضح وجلي، لذا عمل فولمان وبذكاء أيضا على أن يعرض فيلمه متزامنا مع الذكرى الـ(60) لقيام دولة (إسرائيل)، في رسالة واضحة وصريحة أن الدولة قامت بفعلها أو بمساعدة منها على ترسيخ وجودها من خلال تشريد شعب وذبحه واستيطان آخر بديله، فتجلت أفضل لحظات فولمان في رسالة الفيلم برده على بني جنسه بأنهم إن نجوا من مذبحة الهولوكوست فان فظاعة ما اقترفوه في صبرا وشاتيلا هي مذبحة أيضا لا تقل أهمية عما حدث لهم في الحرب العالمية الثانية.
حتى لو لم يشير الفيلم مباشرة الى اصابع الاتهام المتورطة في مجزرة صبرا وشاتيلا فمرتكبي المجزرة معروفين للقاصي والداني، وعلى جميع المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والعربية والدولية تحريك الدعاوى ضد مرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا وتقديهم للعدالة، لأن جريمتهم لا تسقط بالتقادم، فهي جريمة حرب بامتياز.