
قناديل على أسوار القدس
بقلم:د.حنان عواد
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
رئيس رابطة القلم الفلسطيني
------------------------------------------------
يا قدس أرضي والفؤاد موجع والقلب يهفو دائم الخفقان
رمز الخلود لأمة معطاءة رمز العطاء على مدى الأزمان
يا قدس جرحك جرحنا ونشيدنا فتسلحي بالصبر والسلوان.
انا جعلنا بحرنا ورمالنا نارا على الأعداء والطغيان*
القدس الذاكرة والذكرى
القدس مدينة عظيمة،جميلة شامخة،من ملامح عظمتها يتشكل كل شموخ الكون وكبريائه..المدينة الوادعة التي احتضنت ميلادي و طفولتي غير الهادئة،حينما جاءت اللحظة التي لم أستشر بها،ولم أدر بأنها ستأتي ،ثم امتدت اشعاعات النور الى عيوني، فأبحرت في البدايات الكونية الصغيرة بسطحية الأشياء وألغاز العلامات التائهة من حولي، تشربت دقائق الأمور والأشياء في زاوية الزمن الصغيرة،وفي وسع الكون الذي جئت منه ،ووسعت، لكي أحمله في روحي،وفرشت ضفائري على هيئته،واستوقفتها،واستحلفتها بكل ما في الكون من روعة،بأن لا تأتي وأن لا تذهب،ولكن ظلالها أبت الا أن تأتي،وأن تذهب.أوراق حياتي متناثرة،أشيائي ضائعة،وخيوط النور في عيني تمضي الى ضفاف أبلغها وضفاف لا أبلغها.أحجز مقعدا في مكان،أستوقف زمانا،وأرحل الى مكان آخر،محاولة بنبض قلبي أن تظل لحظتي المضيئة في ديمومة الحضن الدافئ.
وحينما تبدأ الشمس في رحلة احتضان البحر عند الغروب،وذوبانها فيه،أترقبها في اليوم التالي وأراها أشرقت ُثانية.
وعرفت من انطلاق النور من حولي ،بأنني أمتد الى الهوى الكوني الشامل في رحلة كشف واشراق..في بحر النجوى والخلود.
حينها أدركت وجهين رائعين،عيون أم حنون تنطلق منها كل اللغات وأحاسيس البشر،وكبرياء رجل متفتح الذهن واسع الأبعاد الثقافية.
اقتربت منهما،في فيض الحب والحنين،ومن خلالهما امتدت علاقتي في أمداء فلسطين فضاء روحي الطليقة.
أن تكون أديبا وشاعرا،يعني أن تحاول احتواء لحظاتك جميعها..
أن تكون أديبا وشاعرا مقدسيا حالما بالجمهورية الفضلى والوطن الأمثل،يعني أن تكتب بدم التجربة القصوى، وبالزمن الصاعد نحو فجر اللقاء..
في كل يوم تحضرني الذكرى، وتشتعل نيران الألم للحظات كانت ومواقف..
أذكر القدس يوم عقد فيها أول تجمع فلسطيني ،عام الف وتسعمائة وأربعة وستين،ليمنح الفلسطيني انطلاقا وصوتا مميزا،وانا في طفولة تتشكل ما بين الوعي واللاوعي.أذكر عشرات الشخصيات تفد الى بيتنا ،يجلسون مع والدي ويناقشون المواضيع التي ستعرض في المجلس الوطني..وأنا أتسرب بينهم،وأفرح حينما يلتفتون الي،وأحاول أن أفهم ما يجري.أذكر عددا كبيرا من الشخصيات حضرت من غزة ومواقع أخرى الى بيتنا،كان الحدث كبيرا،ولا زالت صورة الشقيري مرسومة في ذهني، حديثه ،كلماته ،خطاباته وروحه الانسانية الراقية.
أركض من غصن المدرسة لأحتضن ورود السياسة ،علني أفهم ما يجري من حماس الشباب وزيارة بورقيبة الى الوطن،تعليقاته واحتجاجاته،وصرخات المتظاهرين ناصر..ناصر.
أذكر الأرض الترابية حيث كانت تقف الحدود الأخرى وراءها،تستنهض الذاكرة..طريق طويل يمتد الى الجامعة العبرية.كان يوم الأربعاء من كل أسبوع يوما خاصا لقافلة الاغتراب،كنت أسمعهم يقولون "الآن ستمر القافلة"،وأتساءل أية قافلة،لأعلم بأنها ستخترق الأرض الفلسطينية، لتعبر بحراسة مشددة الى الجامعة.يشدني حب الاستطلاع،وتهزني الحقائق..أخرج من البيت بسرعة،اركض مسافة نصف كيلو متر من بيتنا في وادي الجوز، لأرقب سير القافلة مع مجموعة من أطفال حارتنا.المنطقة ترابية خالية من البيوت والسكان ،تسكنها اشباح الطغاة تلك المنطقة ذاتها ،هي التي غطتها الآن المستوطنات الاسرائيلة،وغيبت عنها شبابها ونضارتها،وشوهت ملامحها ،وقسمت تضاريسها.ولم تتوقف عندها،بل امتدت في أفاقنا الرحبة،تبيع القمر،تصادر السماء،وتقضي على الضياء،فتضيع النجوم.
وتمضي الأيام عجالا،ويبدأ التلويح بالحرب..
الحرب صورة مقلقة،مفزعة،أذكر أن الاعلام العربي وبشكل خاص الاعلام المصري،قد أعد للحرب منذ فترة،وأغنى الروح بالأغاني الثورية الرائعة،وكنا فرحين على نغم الحرب.
في يوم الاثنين الخامس من حزيران،وحوالي الساعة العاشرة صباحا،خرجنا من المدرسة بعد اعلان حالة التأهب.
ثم جاء البيان الأول،أطلقه أحمد سعيد من اذاعة صوت العرب، بأن قواتنا أسقطت ثلاثة وعشرين طائرة،يا لها من فرحة!!!أنشودة الله أكبر فوق كيد المعتدي تتردد كل بضع دقائق،ويتلوها بيان—بيانات..وتثور الروح وكأنها تلغي آثار النكبة،عابرة الى فكرة العودة والتحرير،ويعلو النداء الأخير ويتردد الصدى.
من القدس ابتدأت الصرخة الاولى، وانطلقت صرخاتنا معها، وتجمعنا للنجدة محملين بالأمل ،غادرنا الخوف بعيدا،وخلنا صوت الرصاص سيمفونية خالدة.رددنا الأناشيد ،حملنا الرايات،وسرنا في ايقاعات المعركة، مؤمنين بأن باب الحرية قد غادرته أقفاله وفتح على مصراعيه.مضينا مضاء السيوف،هل "آن للغريب أن يرى حماه"؟وهل يبعث طائر الفيتيق ثانية في وداع نهائي للهزيمة؟وهل سنرى الراية فوق الأسوار؟وأعراس المجد والحناء؟في ليلة قدرية تصحو فيها الملائكة،
تطوف في سماء القدس ،تضئ قناديلها ،وينتشر الضوء في المدينة وتبعث الروح.
مارد الفكرة والأحلام يولي مذعورا،يطل تائها صوب الجهات الأربعة.وفجأة يتوقف لحن السيمفونية ليردد الحان القدر، فيصل الخبر....
أذكر ذكريات الرعب يوم الثلاثاء، حيث اشتد القصف وتناثرت شظايا القنابل حولنا،وكلما أسدل الظلام ستائره،كلما اشتد القصف.خرج والدي وجارنا في اليوم التالي،وقفا عند حديقة البيت،فشاهدا حافلات خضراء ،فتنسما عبير النصر.."لا بد ان الحافلات العراقية والسورية قد وصلت"!ثم تبين فيما بعد انها حافلات الاحتلال بلونها الأخضر، محملة بالجنود.
يشتد القصف ثانية، وتصوب الرصاصات باتجاهنا.في تلك الليلة لم يصمت صوت المدافع ولا القذائف،وبدأت البقع الداكنة ترتسم عليه..وظل الرعب يعشعش في النفوس وصراخ الأطفال وأحزان المارة.
ذلك الركن وتلك النقطة العسكريةقرب مستشفى المطلع،بها عدد من الجنود الأردنيين،لم يكف عن المقاومة، ولم يستجب لأوامر الانسحاب،تكاثفت الضربات عليهم،وظل الاباء العربي الذي عبأ طاقاتهم،قاوموا ولم يسلموا لآخر قطرة من دمهم..وفي صبيحة الأربعاء،صمتت القذائف في تلك النقطة العسكرية...
غادر الجنود..استشهد الجنود..وداعا أيتها الدروب المنقوشة على أكاليل الغار.
بعدها،جاء صوت المذيع الاسرائيلي بجملته التي لا تنسى،"أيها العرب..انكم الآن أموات بلا قبور..ارفعوا الرايات البيضاء على أسطحة المنازل"،فرفعنا الرايات السوداء.
الهزيمة!ما أصعب الهزيمة حينما يحملها الرجال الذين يعتزون بكبريائهم وكرامتهم.أهي الهزيمة أم النكسة؟أم هي كل قاذورات الكون ونقائض العدل..
جنائز،دموع،آهات وويلات.ويكبر الرعب،تتمطى الحرب، وتتحول أشكالها، ولا زالت أغنية أم كلثوم "راجعين بقوة السلاح،راجعين نحرر الحمى،
راجعين كما رجع الصباح من بعد ليلة مظلمة،"وحينما تتابع المقطع"جيش العروبة يا بطل الله معك"،تنساب دموع القلب،وأذكر البطولات التي كانت أمامي، وأذكر صورة جنودنا رافعين أياديهم الى الأعلى ،أذكر أجسادهم وبزتهم العسكرية وهي تعانق الثرى ،أصرخ ! كيف تراق دماؤنا قربانا ؟؟وتهب في روحي رياح الاغتراب لضياع الأرض والانسان.وتظل الدموع تتملكني كلما سمعت الأغنية ثانية.آه يا وجع السنين ويا رجع صدى الآلام!!
ليست الحرب هزيمة عسكرية فقط،بل انها هزيمة الروح،هزيمة الذات أمام الذات،
فكيف نستطيع ترميم ما انكسر؟وكيف تنتشل الروح بعد الهزيمة، وكيف يعاد بناء وجدانها الجمعي،وكيف نثور ثانية والقبور مفتوحة لجنودنا،والاهانات موجهة اليهم، في أرضهم ،على أيدي عصابات لم تواجهها الا بطولات فردية.
فأين أريج أيقاع الأغنيات؟؟
وأين الوعود وأين الكلام؟؟
لقد ضاع منا "نحن"،
وظل الجرح مفتوحا!
وبعد الحرب بأيام،ألقى الرئيس جمال عبد الناصر خطابا أعلن تنحيه،وكأنما كان باعلانه هذا،قد نحى قلوب الناس بعيدا،وتساقطت الدموع الحزينة من عيون الرجال،تلك القلوب الجريحة ،هل تستطيع احتمال تنحية أخرى؟؟؟؟؟
القدس الواقع والمستقبل
وتصمت مدينة المدائن مودعة الأمان،وتمتطي الأيام ساكنة خافتة الأضواء..تستيقظ الروح جراحا،هزائم تركت بصماتها في كل شئ..انتكست الكلمات،وغابت روحها،وفاضت الأقلام في كتابات التعذيب النفسي،والتحليل الأدائي والابتدائي للنكسة،للهزيمة والفجر الأسود،
وكانت الكلمة بديلا عن الانتحار.
تسير الحياة بمرارة،بايقاع الزمن الأسود..وتغفو السنون على الغياب،باحتة عن جواب للمراثي..وبحور الدم.يشتد القيظ، في صحراء الروح ورمالها المتحركة..
فكيف تعود الروح وتطلق ذاتها من أنفاق الوهم والشعار؟
وكيف تصير الهزيمة طريقا للنصر في واحات التخاذل؟
وكيف لا يظل الدم الفلسطيني والعربي مهدورا؟
وكيف لايطول غياب الرجال؟؟.
الأسئلة كثيرة،والجواب بعيد..
والقصة بائسة،أبطالها يتعثرون...
الاحتلال يفترش الأرض..
ويفترس الانسان...
لا بد من بدء،ولا بد من ثورة،ولا بد من استعادة الحق والعنفوان!!
والقدس "عروس العروبة" تصرخ كلما نظرت ذاتها في مرآة لا تعكس الا وجها قبيحا للعابرين الينا عنوة،يقطعون أوصالها،يبعدون رجالاتها ويستوون على عرشها،يمطرونها بالرعب،يمزقون التاريخ،يعبثون بالثرى القدسي وينتشرون على صدرها كابوسا.يرسمونها بهوية اللمواطنة،ويعبرون اليها جحافلا في النهب.
تضيق الأيام،ويطول الظلام، فتنسى المدينة اسمها ،ترنو الى الله العلي القدير بأناتها،فهل من جواب؟؟؟.
استيقظ الصمت في هدير الموت بطيئا ،.أطل نور من خلف الجدار بعهد وقسم وتهاليل،ووقع خطى وتباشير بالاسراء،حتى سارت الجموع على مواقيت الصلاة.تحرك الصوت في الأقصى،ألله أكبر ألله أكبر وكان الفتح.
ابتدأ العمل في ظلال الصمت والتقية،والاحتلال الوحشي يفتك بأظافره أعناقنا،
تصعد الروح ثانية بالفكرة،وتصير الكلمة الثائرة طريقا،والسياسة رفيقا..يقص الرقيب الكلمات،ويعتقل النص في قفص الاتهام مودعا ذاته في سطر مشطوب..
تشتد القبضة الحديدية،ومحاولة خلق البدائل الاحتلالية المشبوهه..
وكان أن يأتي طائر النورس من شواطئ غزة،وطائر الرعد والوعد..
وجاء الصوت خضيبا يلف غمام الليل بصوت التحرير،ويرتقي بالكلمة،رغم غياب الوسائل المعلقة لها وبها،ويصحو الضمير على ايقاع الانطلاقة،وينطلق عبير الروح في ساحات المعركة.
تولد الكلمات من رحم الفراق،ولغة العاشقين..
ترتدي القدس حلة الأمل،ويولد العمل ،وترتسم علامات الوجود فكرة،وبذل خاكية وسلاح.."أصبح عندي الآن بندقية"،ممثل شرعي وطريق..
ينتشر الرعب،يكبر الأطفال ويشتد الحريق..
وطوق الروح بالكلمات يزين وقائع الرحلة..يشتد مقص الرقيب،وتسير القدس ما بين رحلة تحد وما بين صمت معلق ،وما بين أشواك وأشراك تنقشها يد المحتل.
تنقطع القدس عن العالم،تفرض الاقامات الجبرية والابعاد..تتعقد الحالة،نحاول أن نختلس لحظة حرية،فكرة وكتاب على مرمى حجر العذاب..تجمعنا في منارات ثقافية،أبدعنا في صياغة وتشكل الهوية الوطنية في ربوع فلسطين التاريخية، وتم التنوير والتثوير.وكان الأدب المقاوم شعلة لا يخفت ضوؤها،والأديب منارة لا يغيب نورها،كبر هذا الدور، وتجلى في الثورة وفي الانتفاضة،واختالت القدس عروسا للنضال.لم يسلم كاتب ملتزم من فعل التوقيف لتغلق المدينة أمام عاشقيها،
فيخفت النشاط،ويظل الاغلاق يرمي بسهمه الحاد الى وجه الكلمة والأرض والانسان.الى أن تفجر الموقف بعودة العائدين،وتشكلت القوة الفلسطينية في ظلال الأهل والمكان .رفرفت الرايات ،واستمر التحدي، واندلعت نيران المقاومة بأشكال متعددة وقفزات نوعية،نبتت "أزاهير الدم"،وأطلت الشموع من وراء القضبان ..
حينما تمتد يداي بصرخات روحي في العناق الأخاذ للوطن،أحتضن القدس مدينتي الحبيبة..أنظر الى عينيها، فأرى الضوء فيها يتلاشى،أنظر الى ملامحها فأراها تغيرت،أنظر الى بنائها القديم فأراه ملونا بالابيض والأزرق ونجمة غريبة..
أمشي،تقفز خطواتي في باب العامود،فأرى على السور التاريخي علامات دخيلة.وعند باب الجديد،تتحرك شجيرات النخيل التي لم تكن يوما من ملامحها.
وعند البوابات التي تحمل تاريخ الفكرة، يتجمع الغرباء مدججين بالسلاح،تقفز الرصاصات الى أرواح ابنائنا،تعبر الجنازة تلو الجنازة ويعم السواد.
ومن عمق الجرح ينطلق الصوت ثانية،"حبيبتي تنهض من نومها"،وأمي تعيد حفل زفافها،وأروقة الأقصى تتفرس في العابرين الجدد.معلقة على ساحاتها كاميرات لا تلتقط الا أمواج المقاومة،ليتوارى صوت الآذان،ويغيب صوت الله أكبر.
وأعيد الذكرى والسؤال،كيف جرى هذا التحول والتآكل لمفهوم القوم؟؟؟
كل بقعة من مدينتي الطهور تدنست..
كل مبنى يرسم تاريخه غابت نقوشه وجرت فيه أنهار الدماء،
وتسارعت مواكب الراحلين..
آه يا مدينتي،يا عشقي الدائم..
"أغدا ألقاك:؟؟
وأنا أكتبك نصا سحريا خالدا
مرصودا اليك،
ليومك الآتي في دلال دنف العاشقين...
أشتاقك ،وأنا بين يديك..
أفتقدك، وأنا أعيشك فكرة،
عاصمة معتقة الحنين...
أشتاقك ،سرا أزليا مرسوما بدمي،
ووشما محفورأ في عروقي..
ودربا في طريق الآلام..
وما تبقى الا أنت،
أيتها الليلكة العطشى للأمان،
في أريج مجد العائدين...
لن يتوقف قلمي عن حلمه والدعاء..
أللهم أنقذنا بمعجزة الهية.
بقلم:د.حنان عواد
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
رئيس رابطة القلم الفلسطيني
------------------------------------------------
يا قدس أرضي والفؤاد موجع والقلب يهفو دائم الخفقان
رمز الخلود لأمة معطاءة رمز العطاء على مدى الأزمان
يا قدس جرحك جرحنا ونشيدنا فتسلحي بالصبر والسلوان.
انا جعلنا بحرنا ورمالنا نارا على الأعداء والطغيان*
القدس الذاكرة والذكرى
القدس مدينة عظيمة،جميلة شامخة،من ملامح عظمتها يتشكل كل شموخ الكون وكبريائه..المدينة الوادعة التي احتضنت ميلادي و طفولتي غير الهادئة،حينما جاءت اللحظة التي لم أستشر بها،ولم أدر بأنها ستأتي ،ثم امتدت اشعاعات النور الى عيوني، فأبحرت في البدايات الكونية الصغيرة بسطحية الأشياء وألغاز العلامات التائهة من حولي، تشربت دقائق الأمور والأشياء في زاوية الزمن الصغيرة،وفي وسع الكون الذي جئت منه ،ووسعت، لكي أحمله في روحي،وفرشت ضفائري على هيئته،واستوقفتها،واستحلفتها بكل ما في الكون من روعة،بأن لا تأتي وأن لا تذهب،ولكن ظلالها أبت الا أن تأتي،وأن تذهب.أوراق حياتي متناثرة،أشيائي ضائعة،وخيوط النور في عيني تمضي الى ضفاف أبلغها وضفاف لا أبلغها.أحجز مقعدا في مكان،أستوقف زمانا،وأرحل الى مكان آخر،محاولة بنبض قلبي أن تظل لحظتي المضيئة في ديمومة الحضن الدافئ.
وحينما تبدأ الشمس في رحلة احتضان البحر عند الغروب،وذوبانها فيه،أترقبها في اليوم التالي وأراها أشرقت ُثانية.
وعرفت من انطلاق النور من حولي ،بأنني أمتد الى الهوى الكوني الشامل في رحلة كشف واشراق..في بحر النجوى والخلود.
حينها أدركت وجهين رائعين،عيون أم حنون تنطلق منها كل اللغات وأحاسيس البشر،وكبرياء رجل متفتح الذهن واسع الأبعاد الثقافية.
اقتربت منهما،في فيض الحب والحنين،ومن خلالهما امتدت علاقتي في أمداء فلسطين فضاء روحي الطليقة.
أن تكون أديبا وشاعرا،يعني أن تحاول احتواء لحظاتك جميعها..
أن تكون أديبا وشاعرا مقدسيا حالما بالجمهورية الفضلى والوطن الأمثل،يعني أن تكتب بدم التجربة القصوى، وبالزمن الصاعد نحو فجر اللقاء..
في كل يوم تحضرني الذكرى، وتشتعل نيران الألم للحظات كانت ومواقف..
أذكر القدس يوم عقد فيها أول تجمع فلسطيني ،عام الف وتسعمائة وأربعة وستين،ليمنح الفلسطيني انطلاقا وصوتا مميزا،وانا في طفولة تتشكل ما بين الوعي واللاوعي.أذكر عشرات الشخصيات تفد الى بيتنا ،يجلسون مع والدي ويناقشون المواضيع التي ستعرض في المجلس الوطني..وأنا أتسرب بينهم،وأفرح حينما يلتفتون الي،وأحاول أن أفهم ما يجري.أذكر عددا كبيرا من الشخصيات حضرت من غزة ومواقع أخرى الى بيتنا،كان الحدث كبيرا،ولا زالت صورة الشقيري مرسومة في ذهني، حديثه ،كلماته ،خطاباته وروحه الانسانية الراقية.
أركض من غصن المدرسة لأحتضن ورود السياسة ،علني أفهم ما يجري من حماس الشباب وزيارة بورقيبة الى الوطن،تعليقاته واحتجاجاته،وصرخات المتظاهرين ناصر..ناصر.
أذكر الأرض الترابية حيث كانت تقف الحدود الأخرى وراءها،تستنهض الذاكرة..طريق طويل يمتد الى الجامعة العبرية.كان يوم الأربعاء من كل أسبوع يوما خاصا لقافلة الاغتراب،كنت أسمعهم يقولون "الآن ستمر القافلة"،وأتساءل أية قافلة،لأعلم بأنها ستخترق الأرض الفلسطينية، لتعبر بحراسة مشددة الى الجامعة.يشدني حب الاستطلاع،وتهزني الحقائق..أخرج من البيت بسرعة،اركض مسافة نصف كيلو متر من بيتنا في وادي الجوز، لأرقب سير القافلة مع مجموعة من أطفال حارتنا.المنطقة ترابية خالية من البيوت والسكان ،تسكنها اشباح الطغاة تلك المنطقة ذاتها ،هي التي غطتها الآن المستوطنات الاسرائيلة،وغيبت عنها شبابها ونضارتها،وشوهت ملامحها ،وقسمت تضاريسها.ولم تتوقف عندها،بل امتدت في أفاقنا الرحبة،تبيع القمر،تصادر السماء،وتقضي على الضياء،فتضيع النجوم.
وتمضي الأيام عجالا،ويبدأ التلويح بالحرب..
الحرب صورة مقلقة،مفزعة،أذكر أن الاعلام العربي وبشكل خاص الاعلام المصري،قد أعد للحرب منذ فترة،وأغنى الروح بالأغاني الثورية الرائعة،وكنا فرحين على نغم الحرب.
في يوم الاثنين الخامس من حزيران،وحوالي الساعة العاشرة صباحا،خرجنا من المدرسة بعد اعلان حالة التأهب.
ثم جاء البيان الأول،أطلقه أحمد سعيد من اذاعة صوت العرب، بأن قواتنا أسقطت ثلاثة وعشرين طائرة،يا لها من فرحة!!!أنشودة الله أكبر فوق كيد المعتدي تتردد كل بضع دقائق،ويتلوها بيان—بيانات..وتثور الروح وكأنها تلغي آثار النكبة،عابرة الى فكرة العودة والتحرير،ويعلو النداء الأخير ويتردد الصدى.
من القدس ابتدأت الصرخة الاولى، وانطلقت صرخاتنا معها، وتجمعنا للنجدة محملين بالأمل ،غادرنا الخوف بعيدا،وخلنا صوت الرصاص سيمفونية خالدة.رددنا الأناشيد ،حملنا الرايات،وسرنا في ايقاعات المعركة، مؤمنين بأن باب الحرية قد غادرته أقفاله وفتح على مصراعيه.مضينا مضاء السيوف،هل "آن للغريب أن يرى حماه"؟وهل يبعث طائر الفيتيق ثانية في وداع نهائي للهزيمة؟وهل سنرى الراية فوق الأسوار؟وأعراس المجد والحناء؟في ليلة قدرية تصحو فيها الملائكة،
تطوف في سماء القدس ،تضئ قناديلها ،وينتشر الضوء في المدينة وتبعث الروح.
مارد الفكرة والأحلام يولي مذعورا،يطل تائها صوب الجهات الأربعة.وفجأة يتوقف لحن السيمفونية ليردد الحان القدر، فيصل الخبر....
أذكر ذكريات الرعب يوم الثلاثاء، حيث اشتد القصف وتناثرت شظايا القنابل حولنا،وكلما أسدل الظلام ستائره،كلما اشتد القصف.خرج والدي وجارنا في اليوم التالي،وقفا عند حديقة البيت،فشاهدا حافلات خضراء ،فتنسما عبير النصر.."لا بد ان الحافلات العراقية والسورية قد وصلت"!ثم تبين فيما بعد انها حافلات الاحتلال بلونها الأخضر، محملة بالجنود.
يشتد القصف ثانية، وتصوب الرصاصات باتجاهنا.في تلك الليلة لم يصمت صوت المدافع ولا القذائف،وبدأت البقع الداكنة ترتسم عليه..وظل الرعب يعشعش في النفوس وصراخ الأطفال وأحزان المارة.
ذلك الركن وتلك النقطة العسكريةقرب مستشفى المطلع،بها عدد من الجنود الأردنيين،لم يكف عن المقاومة، ولم يستجب لأوامر الانسحاب،تكاثفت الضربات عليهم،وظل الاباء العربي الذي عبأ طاقاتهم،قاوموا ولم يسلموا لآخر قطرة من دمهم..وفي صبيحة الأربعاء،صمتت القذائف في تلك النقطة العسكرية...
غادر الجنود..استشهد الجنود..وداعا أيتها الدروب المنقوشة على أكاليل الغار.
بعدها،جاء صوت المذيع الاسرائيلي بجملته التي لا تنسى،"أيها العرب..انكم الآن أموات بلا قبور..ارفعوا الرايات البيضاء على أسطحة المنازل"،فرفعنا الرايات السوداء.
الهزيمة!ما أصعب الهزيمة حينما يحملها الرجال الذين يعتزون بكبريائهم وكرامتهم.أهي الهزيمة أم النكسة؟أم هي كل قاذورات الكون ونقائض العدل..
جنائز،دموع،آهات وويلات.ويكبر الرعب،تتمطى الحرب، وتتحول أشكالها، ولا زالت أغنية أم كلثوم "راجعين بقوة السلاح،راجعين نحرر الحمى،
راجعين كما رجع الصباح من بعد ليلة مظلمة،"وحينما تتابع المقطع"جيش العروبة يا بطل الله معك"،تنساب دموع القلب،وأذكر البطولات التي كانت أمامي، وأذكر صورة جنودنا رافعين أياديهم الى الأعلى ،أذكر أجسادهم وبزتهم العسكرية وهي تعانق الثرى ،أصرخ ! كيف تراق دماؤنا قربانا ؟؟وتهب في روحي رياح الاغتراب لضياع الأرض والانسان.وتظل الدموع تتملكني كلما سمعت الأغنية ثانية.آه يا وجع السنين ويا رجع صدى الآلام!!
ليست الحرب هزيمة عسكرية فقط،بل انها هزيمة الروح،هزيمة الذات أمام الذات،
فكيف نستطيع ترميم ما انكسر؟وكيف تنتشل الروح بعد الهزيمة، وكيف يعاد بناء وجدانها الجمعي،وكيف نثور ثانية والقبور مفتوحة لجنودنا،والاهانات موجهة اليهم، في أرضهم ،على أيدي عصابات لم تواجهها الا بطولات فردية.
فأين أريج أيقاع الأغنيات؟؟
وأين الوعود وأين الكلام؟؟
لقد ضاع منا "نحن"،
وظل الجرح مفتوحا!
وبعد الحرب بأيام،ألقى الرئيس جمال عبد الناصر خطابا أعلن تنحيه،وكأنما كان باعلانه هذا،قد نحى قلوب الناس بعيدا،وتساقطت الدموع الحزينة من عيون الرجال،تلك القلوب الجريحة ،هل تستطيع احتمال تنحية أخرى؟؟؟؟؟
القدس الواقع والمستقبل
وتصمت مدينة المدائن مودعة الأمان،وتمتطي الأيام ساكنة خافتة الأضواء..تستيقظ الروح جراحا،هزائم تركت بصماتها في كل شئ..انتكست الكلمات،وغابت روحها،وفاضت الأقلام في كتابات التعذيب النفسي،والتحليل الأدائي والابتدائي للنكسة،للهزيمة والفجر الأسود،
وكانت الكلمة بديلا عن الانتحار.
تسير الحياة بمرارة،بايقاع الزمن الأسود..وتغفو السنون على الغياب،باحتة عن جواب للمراثي..وبحور الدم.يشتد القيظ، في صحراء الروح ورمالها المتحركة..
فكيف تعود الروح وتطلق ذاتها من أنفاق الوهم والشعار؟
وكيف تصير الهزيمة طريقا للنصر في واحات التخاذل؟
وكيف لا يظل الدم الفلسطيني والعربي مهدورا؟
وكيف لايطول غياب الرجال؟؟.
الأسئلة كثيرة،والجواب بعيد..
والقصة بائسة،أبطالها يتعثرون...
الاحتلال يفترش الأرض..
ويفترس الانسان...
لا بد من بدء،ولا بد من ثورة،ولا بد من استعادة الحق والعنفوان!!
والقدس "عروس العروبة" تصرخ كلما نظرت ذاتها في مرآة لا تعكس الا وجها قبيحا للعابرين الينا عنوة،يقطعون أوصالها،يبعدون رجالاتها ويستوون على عرشها،يمطرونها بالرعب،يمزقون التاريخ،يعبثون بالثرى القدسي وينتشرون على صدرها كابوسا.يرسمونها بهوية اللمواطنة،ويعبرون اليها جحافلا في النهب.
تضيق الأيام،ويطول الظلام، فتنسى المدينة اسمها ،ترنو الى الله العلي القدير بأناتها،فهل من جواب؟؟؟.
استيقظ الصمت في هدير الموت بطيئا ،.أطل نور من خلف الجدار بعهد وقسم وتهاليل،ووقع خطى وتباشير بالاسراء،حتى سارت الجموع على مواقيت الصلاة.تحرك الصوت في الأقصى،ألله أكبر ألله أكبر وكان الفتح.
ابتدأ العمل في ظلال الصمت والتقية،والاحتلال الوحشي يفتك بأظافره أعناقنا،
تصعد الروح ثانية بالفكرة،وتصير الكلمة الثائرة طريقا،والسياسة رفيقا..يقص الرقيب الكلمات،ويعتقل النص في قفص الاتهام مودعا ذاته في سطر مشطوب..
تشتد القبضة الحديدية،ومحاولة خلق البدائل الاحتلالية المشبوهه..
وكان أن يأتي طائر النورس من شواطئ غزة،وطائر الرعد والوعد..
وجاء الصوت خضيبا يلف غمام الليل بصوت التحرير،ويرتقي بالكلمة،رغم غياب الوسائل المعلقة لها وبها،ويصحو الضمير على ايقاع الانطلاقة،وينطلق عبير الروح في ساحات المعركة.
تولد الكلمات من رحم الفراق،ولغة العاشقين..
ترتدي القدس حلة الأمل،ويولد العمل ،وترتسم علامات الوجود فكرة،وبذل خاكية وسلاح.."أصبح عندي الآن بندقية"،ممثل شرعي وطريق..
ينتشر الرعب،يكبر الأطفال ويشتد الحريق..
وطوق الروح بالكلمات يزين وقائع الرحلة..يشتد مقص الرقيب،وتسير القدس ما بين رحلة تحد وما بين صمت معلق ،وما بين أشواك وأشراك تنقشها يد المحتل.
تنقطع القدس عن العالم،تفرض الاقامات الجبرية والابعاد..تتعقد الحالة،نحاول أن نختلس لحظة حرية،فكرة وكتاب على مرمى حجر العذاب..تجمعنا في منارات ثقافية،أبدعنا في صياغة وتشكل الهوية الوطنية في ربوع فلسطين التاريخية، وتم التنوير والتثوير.وكان الأدب المقاوم شعلة لا يخفت ضوؤها،والأديب منارة لا يغيب نورها،كبر هذا الدور، وتجلى في الثورة وفي الانتفاضة،واختالت القدس عروسا للنضال.لم يسلم كاتب ملتزم من فعل التوقيف لتغلق المدينة أمام عاشقيها،
فيخفت النشاط،ويظل الاغلاق يرمي بسهمه الحاد الى وجه الكلمة والأرض والانسان.الى أن تفجر الموقف بعودة العائدين،وتشكلت القوة الفلسطينية في ظلال الأهل والمكان .رفرفت الرايات ،واستمر التحدي، واندلعت نيران المقاومة بأشكال متعددة وقفزات نوعية،نبتت "أزاهير الدم"،وأطلت الشموع من وراء القضبان ..
حينما تمتد يداي بصرخات روحي في العناق الأخاذ للوطن،أحتضن القدس مدينتي الحبيبة..أنظر الى عينيها، فأرى الضوء فيها يتلاشى،أنظر الى ملامحها فأراها تغيرت،أنظر الى بنائها القديم فأراه ملونا بالابيض والأزرق ونجمة غريبة..
أمشي،تقفز خطواتي في باب العامود،فأرى على السور التاريخي علامات دخيلة.وعند باب الجديد،تتحرك شجيرات النخيل التي لم تكن يوما من ملامحها.
وعند البوابات التي تحمل تاريخ الفكرة، يتجمع الغرباء مدججين بالسلاح،تقفز الرصاصات الى أرواح ابنائنا،تعبر الجنازة تلو الجنازة ويعم السواد.
ومن عمق الجرح ينطلق الصوت ثانية،"حبيبتي تنهض من نومها"،وأمي تعيد حفل زفافها،وأروقة الأقصى تتفرس في العابرين الجدد.معلقة على ساحاتها كاميرات لا تلتقط الا أمواج المقاومة،ليتوارى صوت الآذان،ويغيب صوت الله أكبر.
وأعيد الذكرى والسؤال،كيف جرى هذا التحول والتآكل لمفهوم القوم؟؟؟
كل بقعة من مدينتي الطهور تدنست..
كل مبنى يرسم تاريخه غابت نقوشه وجرت فيه أنهار الدماء،
وتسارعت مواكب الراحلين..
آه يا مدينتي،يا عشقي الدائم..
"أغدا ألقاك:؟؟
وأنا أكتبك نصا سحريا خالدا
مرصودا اليك،
ليومك الآتي في دلال دنف العاشقين...
أشتاقك ،وأنا بين يديك..
أفتقدك، وأنا أعيشك فكرة،
عاصمة معتقة الحنين...
أشتاقك ،سرا أزليا مرسوما بدمي،
ووشما محفورأ في عروقي..
ودربا في طريق الآلام..
وما تبقى الا أنت،
أيتها الليلكة العطشى للأمان،
في أريج مجد العائدين...
لن يتوقف قلمي عن حلمه والدعاء..
أللهم أنقذنا بمعجزة الهية.