الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

مكارم الأخلاق من سورة الحجرات بقلم:عبد الكريم مطيع الحمداوي

تاريخ النشر : 2016-03-18
  الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي الحسني:

                     مكارم الأخلاق من سورة الحجرات

سورة الحجرات مدنية بإجماع، وهي ثمان عشرة آية، وتعد أول سور المفصل[1]. وقد شملت ما ينبغي أن يتحلى به المؤمن من مكارم الأخلاق وفضائل العادات ، في علاقته بربه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم مع الوالدين والعلماء وذوي السابقة في الجهاد والعمل الصالح ، ثم مع عامة المؤمنين في غيبتهم وحضورهم ، ومع فسقة الخلق وفتّانيهم ، ثم مع بني جنسه من كافة الأعراق والألوان والمعتقدات .

ومناسبتها لما سبقها في السورة المتقدمة عليها ( سورة الفتح ) ، أن الله سبحانه وتعالى لما وصف في الآية 29 من سورة الفتح  أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ( محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ)، عقّب على ذلك في هذه السورة – الحجرات – بالصفات التي ينبغي أن يتحلى بها أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ، ليكونوا أهلاً لهذه الصحبة النبوية في الدنيا والآخرة .

لقد خاطب البارئ عزّ وجل المؤمنين في هذه السورة خمس مرات بـقوله :( يا أيها الذين آمنوا ) ، في كل نداء من هذه النداءات توجيه إلى مكرمة خلق ينبغي التحلي به ، ثم خاطب في المرة السادسة عموم الخلق بقوله :( يا أيها الناس ) ليرشدهم إلى طريقة تحفظ أمن الجميع وسلامتهم وتعاونهم على البر والتقوى .

1- الخطاب الأول متعلق بأدب التعامل مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:

قال الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }(الحجرات 1).

وقد قرن الله تعالى في هذه الآية نفسه برسوله عليه الصلاة والسلام  ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ الوحيد عن ربه؛ وبما أن المؤمن دائما في حضرة ربه كما قال عز وجل {  وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } الحديد 4، فعليه احترام الرسول صلى الله عليه وسلم والانقياد لأوامره، لأن ذلك من صميم تقوى الله.

 وهذه التقوى تقتضي الالتزام بأمور منها :

عدم تقديم رأيه على أوامر الله ورسوله في الكتاب والسنة، فلا يقول ولا يقضي في الدين بخلاف ما تنص عليه الشريعة، ولا يجعل لنفسه تقدما على الله ورسوله في المحبة والولاء، بل يكون رأيه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه والسلام، وتكون محبته وولاؤه لله ورسوله أقوى وأشد من محبته وولائه لنفسه وأهوائه ومصالحه، ولا يترك من احترامه شيئا لا بالفعل ولا بالقول، ولا يقطع أمراً حتى يحكِّم فيه الكتاب والسنة.

2 – الخطاب الثاني متعلق بأدب الحديث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } الحجرات 2.

وقد نهى الله تعالى عن ثلاثة أمور :

- عن التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم بما لا يأذن به من الكلام والآراء والأحكام .

- عن رفع الصوت بحضرته .

- عن الجفاء في مخاطبته ومحاورته .

كما أمر بتعظيمه صلى الله عليه وسلم، وتوقيره وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، والتزام توجيهاته وأوامره .

وبما أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم حيا كحرمته ميتا، وكلامه المسموع منه مباشرة ككلامه المروي عنه بعد موته في الرفعة والإلزام، فقد وجب على كل من يسمع حديثه وسنته وهديه ألا يرفع صوته عليه أو يعرض عنه؛ لأن رفع الصوت والجهر به في حضرته صلى الله عليه وسلم أو عند تلاوة حديثه دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، لذلك عقب سبحانه على هذا التوجيه بقوله :{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }الحجرات 3، أي إنهم صُبُرٌ على التقوى مجربون لها ومدربون عليها، وأقوياء على تحمل مشاقها؛ فحكم بذلك بالإخلاص والإيمان والتقوى للمؤمنين الذين يتصفون بالمحبة لله ورسوله والولاء لهما، وتقديم أحكام الشرع على آرائهم وأهوائهم ومصالحهم، والاحترام لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيا وميتا، وغض الصوت بحضرته أو عند سماع سنته .

وقد قال أبو بكر رضي الله عنه عندما نزلت هذه الآية : " والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السّرار حتى ألقى الله عز وجل "[2]، كما كان إذا قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم قوم أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم  .

ويستنبط الفقهاء بالقياس من هذا التوجيه القرآني وجوب احترام الوالدين والعلماء وذوي السابقة في الدعوة والجهاد وكبار السن، والرفق بهم وعدم رفع الصوت بين أيديهم، والاستحياء بحضرتهم، مما تؤكده نصوص كثيرة لا يتسع المجال لها حاليا .

3- الخطاب الثالث متعلق بكيفية التعامل مع الفسقة وما ينقلونه من أخبار:

 قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }الحجرات6

وبما أن الفسقة أولياء للشيطان، والشيطان عدو للمؤمن الصادق؛ فإن همّ الشيطان وأوليائه الفسقة دائما هو إيقاع الفتنة بين المؤمنين، وتمزيق صفهم بنقل الأخبار الكاذبة والملفقة، والأضاليل المخترعة. فإذا كان الناقل فاسقا وجب التثبت والتبين والبحث عن الحقيقة في الأمر. وينطبق هذا التوجيه الرباني أيضا على الأنباء والتحاليل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنشرها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة التي يشرف عليها فساق الأمة أو أعداؤها؛ لأن غاية هؤلاء في الأصل فتنة الأمة وإضعافها وإفساد أحوالها.

وبما أن نتيجة الثقة في الفساق ونقولهم وأخبارهم غالبا ما تكون الفتنة والتقاتل بين المؤمنين، فقد عقب سبحانه على ذلك بالإرشاد إلى كيفية التغلب على هذه الفتنة بقوله :{ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } الحجرات 7، وفيها تذكير بأن النجاة من الفتن في اتباع سنته وهديه وعدم عصيان أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم حيا وميتا. ومرد ذلك إلى تمسك القلب بالإيمان الذي هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، ونفوره وكراهيته للكفر والفسوق والعصيان، وكل ذلك نعمة من الله وفضل.

 ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يثبته على الدين[3] ويكثر أن يقول "اللهم ثبت قلبي على دينك" فيقول له رجل: يا رسول الله تخاف علينا وقد آمنا بك وصدقناك بما جئت به؟ فيقول"إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلبها"، كما كان يحض المسلمين على تجديد إيمانهم بقوله[4]:( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان  في قلوبكم).

وضرب سبحانه وتعالى لهذه الفتن مثلا فيما يقع بين المؤمنين من تخاصم وتقاتل، فقال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } ( الحجرات 9 )  ثم أكد القاعدة الأصل والوشيجة المتينة في الصف المؤمن، التي هي الأخوة في الله فقال :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ  } ( الحجرات 10 )، وهذا ما بينته السنة النبوية في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم :" المسلم أخو  المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه [5]"، " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى[6]"، "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا، وشبك أصابعه [7]"، " منـزلة المؤمن من المؤمن منـزلة الرأس من الجسد، متى اشتكى الجسد اشتكى له الرأس ومتى ما اشتكى الرأس اشتكى سائر الجسد[8]"، "ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته [9]".

 ثم قرن سبحانه وتعالى الصلح بين المؤمنين المتخاصمين بالتقوى وجعله مدعاة لنـزول الرحمة عليهم بقوله تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }الحجرات 10، لأن الميل للصلح وإيثاره، انبثاق فطري من التقوى، والتقوى هي القناة الغيبية التي تنـزل منها الرحمة .

4   – الخطاب الرابع متعلق بعلاقة المؤمن مع عموم بني جنسه، وخصوص إخوته المؤمنين في حال حضورهم والتعامل المباشر معهم.

قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } الحجرات 11.

فبين المعاملة التي ينبغي أن تكون بين الأقوام رجالا ونساء ، شعوبا وقبائل بكافة ألوانهم وعقائدهم ومراتبهم الاجتماعية، وحث المؤمنين على أن يكونوا القدوة في الالتزام بهذا التوجيه القرآني الذي ينهى عن ثلاث مساوئ خلقية تمنع المودة وتصد عن طريق الحق، وتثير الأحقاد والفتن والعناد، وهي: السخرية واللمز والنبز .

فالسخرية هي أن ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الاحتقار والاستصغار، ولعل من سخرت منه أو احتقرته أعلى وأجل منك في ساعته تلك، ولعله يتوب بعد ذلك فتقبل توبته، ولعله يسلم فيحسن إسلامه وتكون مرتبته عند الله أعلى منك. ولعل سخريتك منه تثير في نفسه العزة بالإثم، فيزداد صدودا عن الحق وحقدا على أهله، فيكون لك من الوزر بذلك نصيب.

واللمز: هو ذكر الإنسان أخاه في حضرته بعيوبه.

أما النبز: فهو مناداة الإنسان أخاه بألقاب يكرهها أو يعدها محقرة، أو مثيرة للسخرية .

وسواء كانت السخرية واللمز والنبز بين الأفراد أو بين الأقوام والجماعات؛ فإن ذلك محرم يجب الإقلاع عنه، والمؤمن أحق من يلتزم بذلك؛ لأنه داعية إلى الإسلام وقدوة فيه، لاسيما إذا ارتكب هذا الإثم في حق المؤمنين؛ لأنه بذلك يكون قد نبز نفسه وحقرها وسخر منها، فالمؤمنون جسد واحد، ولذلك قال سبحانه :{ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } أي لا ينادي بعضكم بعضا بها .

5       – الخطاب الخامس في تعامله مع إخوته المؤمنين في حال غيبتهم وعدم حضورهم :

قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } ( الحجرات 12) .

وإذ حض سبحانه وتعالى في الآية السابقة على إساءة الظن بالفاسق والتبين في أقواله وتصرفاته، نهى هنا عن إساءة الظن بالمؤمنين وعن التجسس عليهم، ومحاولة الاطلاع على أسرارهم أو نقلها إلى أعدائهم، وعن اغتيابهم، وانتهاك أعراضهم في غيبتهم، وقد أخرج البخاري قوله صلى الله عليه وسلم:[10]" إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك".

والغيبة ثلاثة أوجه في كتاب الله تعالى: الغيبة، والإفك، والبهتان. الغيبة أن تقول ما في أخيك، والإفك أن تقول فيه ما بلغك عنه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه.

وقد عد سبحانه وتعالى هذه الموبقات بمثابة أكل لحم المؤمن ميتا، فقال: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}، وهذا غاية البشاعة واللؤم والانحطاط. وكما أن الميت لا يحس بأكل الآكلين، كذلك الغائب لا يسمع ما يقوله فيه المغتاب. والفعلان معا ( الغيبة وأكل لحم الميت ) في التحريم سواء. وفي الحديث المستفيض[11]:" فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [12]:" من أكل بمسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كسي ثوبا برجل مسلم ، فإن الله عز وجل يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مسلم مقام رياء وسمعة، فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة ".

كما أن التعفف عن دماء المؤمنين وأعراضهم وأموالهم طريق للتقوى ومدعاة للتوبة والرحمة وهو ما يشير إليه قوله تعالى { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.

6       – الخطاب السادس نداء للبشرية كافة ( الناس ):

 قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } الحجرات 13.

كان النداء في هذه الآية بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطابا يعم المؤمنين والكافرين، لكونهم من أصل واحد هو آدم وحواء ، وتذكيرا لهم بحقيقة كونية هي أنهم خلقوا من نفس واحدة :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء 1. وهذا الأصل الواحد يؤكد الأخوة البشرية الشاملة التي لا تفرق بين مسلم وكافر، أبيض أو أسود أو أحمر إلا بالتقوى، والتي تدعو الأفراد والشعوب والقبائل إلى التعارف والتآزر بما يؤدي إلى البر والإحسان والتناصح والمعاملة الكريمة، والتعاون على معرفة الحق والعمل بمقتضاه، لا يميزهم عن بعضهم إلا شيء واحد هو التقوى التي هي ثمرة الإيمان الحق تصديقا بالجنان وإقرارا باللسان وعملا بالأركان، واتقاء للشرك ظاهرا وباطنا، وهو ما يشرحه الحديث النبوي الشريف[13]: " من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ".

ولذلك عقب سبحانه وتعالى بضرب مثل ببني أسد الذين أظهروا الإسلام في سنة جدب وقحط من أجل الحصول على الصدقة، ولم تكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان، وكان إسلامهم مجرد استسلام واضطرار، فقال تعالى :{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }الحجرات 14، فحثهم بهذه الإشارة على أن يكونوا صادقين في وصف حالهم بأن يقولوا:{ أَسْلَمْنَا} أي: انْقَدْنَا واستسلمنا ؛ لأن الإيمان المطلوب لابد أن يواطئ فيه القول وعمل الجوارح ما في القلب، وهؤلاء لم يواطئ قولهم ما في قلوبهم، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول[14]: " الإسلام علانية والإيمان في القلب "، ويشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ويقول: " التقوى ههنا، التقوى ههنا ".

ثم بعد ذلك يعقب عز وجل بتعريف للمؤمنين حقا، وما ينبغي أن يتوفر فيهم من صفات هي الإيمان بالله ورسوله، وعدم الارتياب في هذا الإيمان، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس. فمن توفرت فيهم هذه الصفات وطابقت ألسنتهم عقيدتهم التي في قلوبهم، وظهرت ثمرة ذلك جهادا بالنفس والمال، كانوا صادقين. يقول تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } ( الحجرات 15 ). 
------------------------------------------
[1]  - سميت بالمفصل لكثرة الفصل فيها بين السور ولكون جميعها من المحكم الذي لا نسخ فيه.

[2] - المستدرك على الصحيحين 2/501

[3] - ابن ماجه2/1260، المستدرك على الصحيحين 1/706، صحيح ابن حبان 3/223

[4]  - المستدرك على الصحيحين 1/45

[5]  - مسلم 4/1986

[6] - مسلم 4/1999

[7]  - البخاري 2/863، مسلم 4/1999

[8] - المعجم الكبير2/40، مجمع الزوائد 8/187

[9] - سنن أبي داود 4/271

[10] - البخاري 5/1976

[11]  - البخاري 2/620

[12] - الأدب المفرد1/93

[13] - روي مرفوعا وموقوفا عن ابن عباس،  تفسير ابن كثير3/522، مكارم الأخلاق 1/18

[14] - مسند أحمد 3/13
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف