الأخبار
معظمهم أطفال.. استشهاد وإصابة عشرات المواطنين في قصف إسرائيلي على مناطق متفرقة بقطاع غزةالولايات المتحدة تفرض عقوبات على مقررة الأمم المتحدة الخاصة للأراضي الفلسطينية(أكسيوس) يكشف تفاصيل محادثات قطرية أميركية إسرائيلية في البيت الأبيض بشأن غزةجامعة النجاح تبدأ استقبال طلبات الالتحاق لطلبة الثانوية العامة ابتداءً من الخميسالحوثيون: استهدفنا سفينة متجهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي وغرقت بشكل كاملمقررة أممية تطالب ثلاث دول أوروبية بتفسير توفيرها مجالاً جوياً آمناً لنتنياهوالنونو: نبدي مرونة عالية في مفاوضات الدوحة والحديث الآن يدور حول قضيتين أساسيتينالقسام: حاولنا أسر جندي إسرائيلي شرق خانيونسنتنياهو يتحدث عن اتفاق غزة المرتقب وآلية توزيع المساعدات"المالية": ننتظر تحويل عائدات الضرائب خلال هذا الموعد لصرف دفعة من الراتبغزة: 105 شهداء و530 جريحاً وصلوا المستشفيات خلال 24 ساعةجيش الاحتلال: نفذنا عمليات برية بعدة مناطق في جنوب لبنانصناعة الأبطال: أزمة وعي ومأزق مجتمعالحرب المفتوحة أحدث إستراتيجياً إسرائيلية(حماس): المقاومة هي من ستفرض الشروط
2025/7/10
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

شاعر بألف شاعر .... دراسة أدبية بقلم رفعت المرصفى

تاريخ النشر : 2016-03-12
شاعر بألف شاعر .... دراسة أدبية بقلم رفعت المرصفى
شاعر بألف شاعر ... دراسة أدبية بقلم : رفعت عبدالوهاب المرصفى
تطبيقا على قصائد الرثاء للشاعر عبدالفتاح زكى المرصفى
---------------------------------
قبل البداية لابد أن نقول :
بالأمس القريب وتحديداً فى أغسطس من عام 2005 قدمنا الأعمال الكاملة للشاعر الكبير " عبد الفتاح زكى المرصفى " بعنوان " قصيدة لن تموت " ( ) من خلال السلسلة المطبوعة الصادرة عن الصالون الثقافى بمرصفا والذى أشرُف باستضافته ( ) ، وقد وقعت هذه الأعمال الكاملة لشاعرنا فى مجلد واحد من القطع الكبير بلغ عدد صفحاته ستمائة وأربع وعشرون صفحة وقمنا بتقسيم هذا الديوان الكبير إلى ستة أجزاء نوعية الأول منها بعنوان " على دنياى لا أبكى " ويضم قصائده فى الرثاء والجزء الثانى ويضم قصائده الوطنية بعنوان " وطاب الجُرح يا وطنى " وكتب مقدمته المرحوم الأستاذ / أحمد محمد عفيفى العرضى تحت عنوان شاعر وقرية ، والجزء الثالث ويضم قصائده العاطفية بعنوان " يا أميرة عرش قلبى " ، أما الجزء الرابع فجاء بعنوان " إليك تضرعى يا ذا الجلال" ويضم قصائده الدينية وقد كتب مقدمة هذا الجزء الأستاذ سعد عبد الرحمن الشيخ ، ثم نأتى إلى الجزء الخامس من هذا الديوان الذى جاء بعنوان "الأكشريات" ويضم قصائده الفكاهية التى اشتهر بها الشاعر فى حياته وبعد رحيله وصارت من ذكرياته النادرة بعد ذلك وقد كتب مقدمتها الأديب الكبير / محمد الشرنوبى شاهين – الذى كان صديقا شخصيا للشاعر ، أما الجزء السادس والأخير ويضم قصائده الاحتفالية والاحتفائية وكان بعنوان "مع حبى وتقديرى " .
ومما هو جدير بالذكر أن هذه الأعمال الكاملة لشاعرنا الكبير ما كان يمكن أن ترى النور لولا الجهد الشاق والحماس الجاد من أسرة الشاعر متمثلة فى شخص الأستاذ الصديق مجدى عبد الله زكى ابن شقيق الشاعر وكذلك المشاركة الفعلية والجادة من الأستاذ العزيز سعد عبد الرحمن الشيخ الذى كان صديقا شخصيا للشاعر رحمة الله عليه .
وأخيراً تحقق الحلم وصدرت الأعمال الكاملة فى موعدها المقرر والذى كان يوافق ذكرى وفاته وأقيمت بهذه المناسبة أمسية شعرية كبيرة بتاريخ 23/8/2005 فى منزل الشاعر بقرية مرصفا حضرها كبار المسئولين فى القرية والمحافظة فكانت بحق من أروع الاحتفاليات الشعرية والثقافية ، التى أقيمت بالمحافظة وبعد صدور هذه الأعمال صدرت بعض الآراء السلبية والإيجابية حولها وكان يجب أن نتقبلها كفريق عمل بصدر رحب فالكمال دائما لله تعالى وللحقيقة فقد كنا نتوقع بعض الأخطاء نتيجة لعوامل كثيرة مجتمعة خارجة عن إرادتنا والمهم أن هذه الأخطاء جاءت غير مقصودة ويمكن تصويبها فى مراحل قادمة وقد ألمحت إلى ذلك فى مقدمة هذه الأعمال قائلاً أن الأعمال البشرية لابد وأن يشوبها نقص ما ودائما تبقى النوايا الطيبة والطموح النبيل وقد وعدت فى نهاية تلك المقدمة المذكورة أيضاً بأننى سوف أقدم إضاءات نقدية حول هذه الأعمال الكاملة فى محطات قادمة وها أنذا أفى بجزء من هذا الوعد الذى قطعته على نفسى بإنجاز هذه الدراسة المتواضعة التى بين أيدينا الآن بعنوان " عبد الفتاح زكى عبد الفتاح " شاعر بألف شاعر وهى عبارة عن دراسة تطبيقية على الجزء الأول من الأعمال الكاملة الذى يضم قصائده فى الرثاء وقد تم تقسيم هذا البحث إلى أربعة عناصر فرعية كما يلى :
1- الإيقاع الشعرى وأثره فى شعر عبد الفتاح زكى المرصفى .
2- الصدق وأثره فى التجربة الإبداعية لشاعرنا .
3- الصورة الشعرية وخصوصيتها عند شاعرنا .
4- الحكمة والبعد الفلسفى عند شاعرنا .
كانت هذه هى العناصر الأربعة التى قمت بالتحليل والبحث فى قصائده الرثائية للتدليل عليها .

البداية :
الحقيقة التى لابد من ذكرها أننى كنت قد عقدت النية أن أغطى بدراستى تلك الأعمال الكاملة بكامل أجزائها الستة ولكن بعد البحث والتأمل فضلت أن أقدم دراسة تحليلية منفصلة لكل جزء على حده حتى يأخذ كل جزء حقه من البحث والدراسة وبالتالى كان هذا الجزء الأول منها الذى يبحث فى قصائده الرثائية، والحقيقة الثانية هى أننى لا يمكننى أن أتناول كل قصائده فى الرثاء بالنقد والتحليل وهى ثلاث وعشرون قصيدة لأن ذلك قد يحتاج إلى أضعاف أضعاف هذه المساحة المخصصة للبحث ومع ذلك فقد قمت بتقسيم القصائد تقسيما نوعياً وتغطية كل نوع بقصيدتين وبالتالى أكون قد غطيت جميع الأفكار والحقيقة الثالثة أننى فضلت عدم التعرض للبعد الدينى والبعد اللغوى فهو رحمة الله عليه كان أستاذا فى هذين البعدبن ومشهوداً له فيهما بالكفاءة .
ومن هنا أقصرت دراستى على صناعة الشعر ومقوماته الفنية وهو الجانب الذى أعتقد أننى يمكن أن أغطيه بشكل نسبى تاركا الفرصة للأقلام الأخرى لكى تدلى بدلوها فى هذا السياق .
بقى أن أؤكد أن أستاذنا الكبير " عبد الفتاح زكى المرصفى "ولد شاعرا فذاً وذا نفس شعرى طويل إذ أنه وبحسبة رياضية بسيطة وتطبيقا على قصائده فى الرثاء نجد أن متوسط طول قصائده " عدد أبياتها " يصل إلى ثمانية وثلاثين بيتا وهذا يجعله فى مصاف شعراء النفس الطويل ، وقد وصلنا إلى هذا المتوسط كالتالى :
عدد قصائد الرثاء اثنتان وعشرون قصيدة بعد استبعاد قصيدته القصيرة والبالغ عدد أبياتها خمسة أبيات فقط وهى بعنوان " وداعاً " وهى أقصر قصائده على الإطلاق فلا يجوز طبقا لعدد أبياتها إدخالها فى عملية حساب المتوسط .
إذن عدد قصائد الرثاء = 22 قصيدة
عدد أبيات هذه القصائد = 834 بيتاً
متوسط عدد أبيات كل قصيدة =
834÷22=37.9 بيتا تقريباً
وهذا متوسط كبير يضعه كما قدمنا من قبل فى مصاف شعراء النفس الطويل ، إذن فشاعرنا صاحب موهبة عظيمة وهى موهبة فطرية حباه الله تعالى بها منذ بداية هذه الموهبة الذى سبق بها عصره ونستطيع أن نبرهن أيضا على ما نقول من خلال أعماله الكاملة " قصيدة لن تموت " كالتالى :
أول قصيدة كتبها شاعرنا كانت قصيدة " أحلام ص 33 من الأعمال الكاملة كتبها فى 18/11/1940 وهى قصيدة عاطفية وكان عمر شاعرنا وقتها ثلاثة وعشرين عاما وكانت القصيدة من إيقاع بحر الكامل التام وجاءت صحيحة تماما دون أية أخطاء موسيقية أو لغوية أو تعبيرية وكان عدد أبياتها خمسة عشر بيتاً وإذا حكمنا بالمنطق والتجربة فى هذا الشأن نجد أن هذا العمر المبكر جداً لم يكن ليسمح له بالدراسة الجادة لصناعة الشعر ومقوماته التى تمكنه فى هذا السن الصغير نسبيا من كتابة قصيدة من خمسة عشر بيتاً من بحر الكامل التام دون أدنى خطأ فنى أو لغوى أو عروضى .
وكذلك فالقصيدة الثانية التى كتبها بعد قصيدة " أحلام " مباشرة كانت بعنوان "رب الحسن يحميها" وهى عاطفية التجربة وموجهة إلى السيدة/ جليلة حبه الأول كما هو مذكور فى الديوان وكانت هذه القصيدة من بحر البسيط وهو من البحور الشعرية المركبة التى يصعب ارتيادها خصوصا فى بداية المشوار الشعرى .
كل هذا وغيره يؤكد لنا أن شاعرنا ولد فذاً ذا موهبة فطرية مبكرة متمكناً من أدواته الشعرية ومن لغته الشعرية ومن موسيقاه الشعرية إذن ... ألستم معى أعزائى القراء بأننا أمام شاعر بألف شاعر ؟ وبالإضافة إلى ما سبق وتدليلا على موهبة شاعرنا وعلى قدراته الفطرية الخاصة وبالتطبيق على أعماله الكاملة نجد أن شاعرنا قد طرق معظم إيقاعات الشعر العربى البالغة ستة عشر بحراً صافية ومركبة وهذا يعكس ويؤكد تمكنه من علم العروض الذى يضم موسيقى الشعر المختلفة والدليل على تمكنه أيضا من موسيقى الشعر أنه كتب قصيدة "رب الحسن يحميها" من بحر البسيط فى 18/3/1941 وكانت ثانى قصيدة يكتبها كما ذكرنا من قبل وكما هو معلوم للجميع فإن بحر البسيط من أطول وأصعب بحور الشعر العربى بالإضافة إلى أن بحر الطويل الذى كتب منه شاعرنا قصيدته القصيرة "وداعاً " هذه القصائد الثلاث التى ذكرناها والتى أبدعها شاعرنا فى سن مبكرة دون أية أخطاء عروضية تؤكد تمكنه التام من كل إيقاعات الشعر العربى ( ) .
وبالدراسة والبحث أيضاً تبين أن شاعرنا يحب إيقاع بحر الكامل دون باقى أبحر الشعر العربى وسوف نثبت هذه الحقيقة تطبيقا على قصائده فى الرثاء فقد كتب شاعرنا ثلاثا وعشرين قصيدة فى الرثاء هى جملة قصائد الجزء الأول من الأعمال الكاملة منها ثمانى عشرة قصيدة من إيقاع بحر الكامل فقط وبمجموع عدد أبيات لقصائد بحر الكامل ستمائة وثمانون بيتاً وبقياس نسبة دوران بحر الكامل فى شعره وتطبيقا على قصائده فى الرثاء كالتالى :
عدد أبيات قصائد الرثاء = 839 بيتاً
عدد أبيات قصائد بحر الكامل فيها = 680 بيتاً
النسبة المئوية لدوران بحر الكامل فى شعره =
680 ÷ 839 × 100 = 81.05 %
وهذه نسبة كبيرة تؤكد عشقه وولعه بإيقاع بحر الكامل
وبالبحث والتحليل أيضاً وتطبيقا على أعماله الكاملة " " قصيدة لن تموت " نجد أن كل قصائد شاعرنا سجل حياتى كامل لكل نشاطاته وعلاقاته وتعاملاته فقد كان رحمه الله إذا فرح بانت فرحته فى شعره ، وإذا حزن دمعت قصائده ، وإذا مرض توجعت قصائده ، وإذا راسل كانت مراسلاته شعراً ، وإذا أبرق كانت برقياته شعراً ، وإذا عاتب كان عتابه شعراً وإذا واسى كانت مواساته شعراً وإذا هنأ كانت تهنئته شعراً وإذا حاور وجادل كان ذلك كله شعراً ولابد أن نذكر هنا أنه أنشأ صالوناً فكريا بكل أبعاده فى شعره لمناقشة بعض الموضوعات الفكرية الهامة ولنتأمل ذلك فى قصيدته التى عنوانها " لا تغضب يا رفاعى " ص 308 التى كانت حواراً جدلياً رائعاً حول الاختلاف فى تفسير بعض آيات القرآن الكريم نذكر مقطعا منها :

أتغضب إذ رددتك يارفـــــاعى
إلى الحـق المبيـن وباطـــــــلاع؟
وتأبى أن تُطيع صـــــــواب رَأْىٍ
و تمعن الخلف قدر المستطاع
و تبلغ صحبـك القــــــــراء أنـى
هضمت الشـــــــــاطبى و لم أراع
وأفتى فى القــــــــراءة لا أبـالى
وأفهمها على أسس ابتـــــداع
تعلل رأيـــك الواهـــــى بحكـم
يشذ عن القـــــواعد والســماع
وتطرح رأى طلحة والكســــائى
وغيــرهمــــــا وهم أهـل اتبــــاع
و عند المحصنات تشــــذ ضبطا
و تفتح صــــادها من غيـــر داع
فلا الكشـاف عندك ذو اهتمام
ولا بســـــواه تقنع يا رفــاعى

و صحبُك بالحقيـــقة قد أقـرُّوا
و أنت من الضــــلالة فى امتناع
ألم تعلـــم بأن الضـــــاد بحـــرُ
و فيـه الدر يســـكن جوف قاع
و أن العـــــلم يُحْجَبُ عن دعِــــىّ
و يُظهر من تواضع فى ارتفاع
و يشبه كِيرَ حـــــداد فيــنفى
خبيث الطبع مولــــود الرعــاع
مع العلماء واجلــــس فى خشوع
وصحح ما فهمـت بلا انقــــــطاع
و قـل يـا رب نفعنــى فـــــــإنى
لأَحـوَجُ ما أكـــون إلى انتـــفاع

وإلا فاقــــض و قتك بين رقيا
ومحــزنة وبعـــــد العصـر داع
وما فيــنا من العلمـــــــاء شــــئ
سوى قبسٍ ضئيلٍ من شــــعاع
مذاهب ضادنا يا شـيخ شَتـــــىَّ
فمنها سيبويه كذا السجاعى
بها البصـــرى و الكـــوفى أيضا
و لا يقـــوى على حصـــر يـــراعى
إذا فالضـــــاد مصدر كل معــنى
و ما فـــى ذاك شـئ من نِـــــزاع
إذن فهذا الرجل كان جامعة شعرية تمشى على الأرض .
وبالبحث والتحليل أيضا نتبين أن شعر هذا الرجل كان شهادات للحياة وللتاريخ وللضمير الإنسانى بكامله بل كان شعره دساتيرا للحياة بكل أبعادها ودليلا نحو الفوز فى الدنيا والآخرة ..
ولنتأمل ذلك فى قصيدته التى يهديها إلى ابنته نوال مهنئاً لها بزواجها بعنوان " يا عبير زهورى " ص 517 :
فى يوم فرحـك يا نوال تكشفت
أحزان قلبى واستراح ضميرى
ولئن نأيت كشأن كل عروسـة
فلأنت بين جوانحى وشعورى
قد سار ركبك يا نــوال يحُفه
أمــل القلوب ودعوة الجمهور
إنى على ثقة فلسـت بريبــة
لكـــن أردت مجـرد التذكيــر
لا شئ كالأخــــــلاق يجلب ألفة
فهى التى تعلى لكــل عشيـر
وتقبلى عذر المسئ و سـامحى
إن التسامح شــأن كل قديــر
ولزوجك الســامى أجل مكانة
فهو الأحـق بكثــرة التقدير
لا تهملى حــــق الإلــه وأخلصــى
ودعى الأمور تسير فى تيسير
رَبى الصغارعلى الفضيلة واغرسى
فى قلبهم حب الهـدى والنـور
صونى حقوق الجار لاتــــــــؤذى
ولا تتلفظى بالفاحش المهجور
والله أسأل أن أراك ســـعيدة
دنيا وأخرى يا عبيـر زهـورى
فبعد أن يهنئها ويسعد بها يذكرها بواجباتها نحو زوجها وبيتها ونحو أهل زوجها وبالتالى جاءت هذه القصيدة بمثابة ميثاق شرف للحياة الزوجية الناجحة والمثمرة ، وفى قصيدته الثانية التى كتبها إلى ابنته الأخرى وهى بعنوان " أسمى التحايا " ص 523 " وهى فى سفرها يذكرها فيها بتواضعها وبساطتها وحلاوة تعبيرها ويعبر فيها عن مدى شوقه إليها وإلى أبنائها وكيف أن حديثها ومزاحها له مذاق حلو جميل وفى النهاية يدعو لها بالصحة والأمانى الطيبة حيث يقول :
أسمى التحايا يا ابنتى لك يـا أعـــــز هديـــــــة
فيك التواضع والبساطة فــــــى ظـــلال العـــــزة
وحــــــــــــلاوة التعبيــــر زاد وضوحـــها فـى رقة
وحديثـــــكم و مزاحـكم للكـل أعظـم فرحــــــة
فبكـل يــــوم شـــــوقنا لا بل بكـل دقيــــــقة
لســـنا نمـل ســــــــــماعه فجميــعنا فى لهفـــــة
الله يمنحـــك المنـــــــــى مصحـوبة بالصحـــــــــــة
وأخيراً .. وبعد هذه المقدمة التى كان لابد منها أكرر ما قلته من قبل فى مقدمة الأعمال الكاملة بأن ما قدمنا وما نقدمه حول هذا الشاعر العملاق ما هو إلا لبنة متواضعة فى صرح الثقافة العربية وفى صرح الشعر العربى على وجه الخصوص وأن ما قدمنا ونقدمه ما هو إلا شعاع خافت حول شاعر ومعلم كبير بحجم وقامة " عبد الفتاح زكى المرصفى " فهو ما زال يستحق الكثير والكثير من الأبحاث والدراسات التى تكشف النقاب عن كنوز ثمينة فى إرثه الأدبى الرائع فهو كما قدمه من قبل المرحوم الأستاذ / أحمد محمد العرضى فى مقدمة كتاب " شاعر وقرية " بأنه صندوق من الجواهر وكلما فتشنا وبحثنا بداخله وجدنا من الكنوز الكثير .
وأكرر أيضاً بأن الأحلام ليست دائما بقدر الإمكانات ولكن الأحلام العظيمة تبدأ بخطوة تلو الأخرى حتى تكتمل رحلة الألف ميل وها نحن نخطو الخطوة الثانية نحو بلوغ هدفنا .
كما أن الآمال والطموحات ممتدة بامتداد الحياة والحياة ممتدة فى أجيالنا المتلاحقة فإن كانت الخطوات الأولى لنا فمما لا شك فيه أن هناك خطوات أخرى .. ولكن لغيرنا .. فإن وفقنا الله تعالى ففضل منه عز وجل وإذا أخفقنا .. فحسن النوايا وشرف المحاولة هما رصيدنا الأبقى .

الإيقاع الشعرى وأثره فى التجربة الإبداعية عند عبد الفتاح زكى المرصفى
-----------------------------------------------------------------------
أعتقد أن ما قدمه " عبد الفتاح زكى المرصفى " فى هذا الديوان من شعر رثائى يعتبر من أعظم أشعاره بشكل عام ربما لا يضاهيه من وجهة النظر الشخصية سوى شعر الخنساء ( ) فى العصر القديم فى رثاء أخيها صخر وشعر نزار قبانى فى رثاء زوجته "بلقيس " التى استشهدت فى بيروت عام 1978م .
ربما يكون من المفيد للقارئ فى هذه المنطقة بالذات أن نورد مقطعاً من شعر الخنساء فى رثاء أخيـها صخر حيث تقول ( ) :
يذكّرنى طلوع الشمس صخــراً
وأذكره لكل غروب شـمــــــسِ
ولولا كثرةُ الباكيــــن حـــولى
على إخوانهم لقتلت نفســــــى
وما يبكون مثل أخــــى ولكــن
أُعزّى النفس عنه بالتأسّــــــى
فلا والله لا أنســـــــــاك حتـــــى
أفارق مهجتى ويشقَّ رمســــــى
فقد ودّعت يوم فراق صخــــــــرٍ
" أبى حسان " لذاتى وأُنسّــــى
ونكتفى بهذه الأبيات الخمسة من شعر الخنساء فى رثاء أخيها صخر مؤكدين أن هذا هو شعرها الحقيقى الباقى والمتصل وتظل قصائدها فى أخيها صخر أهم شعرها كله وأفضله .
لكن الأمر اللافت للانتباه فى شعر الخنساء وبكائياتها على أخويها صخر ومعاوية هو إيثارها صخراً بالعديد من القصائد وتوهج شعرها فيه بالعاطفة الملتاعة والشعور الحقيقى بالفقد على عكس شعرها القليل فى معاوية ومما يثير الدهشة ويتصف بالغرابة صمت الخنساء أمام استشهاد أبنائها الأربعة فى موقعة القادسية فى السنة السادسة عشرة للهجرة ( ).
وكما أوردنا مقطعا من قصيدة الخنساء فى رثاء أخيها صخر نورد مقطعا من قصيدة نزار قبانى فى رثاء زوجته بلقيس( ) حيث يقول ( ) :
شكراً لكم ... شكراً لكم
فحبيبتى قتلت وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة
وقصيدتى اغتيلت ...
وهل من أمة فى الأرض إلا نحن
نغتال القصيدة ؟
قسما بعينيك اللتين إليهما
تأوى ملا يين الكواكب
سأقول يا قمرى عن العرب العجائب
ساقول فى التحقيق أن اللص
أصبح يرتدى ثوب المقاتل
سأقول فى التحقيق أن القائد الموهوب
أصبح كالمقاول
هذا هو التاريخ يا بلقيس
كيف يفّرق الإنسان بين
الحدائق والمزابل
بلقيس يا عصفورتى الأحلى
ويا أيقونتى الأغلى
ويا دمعا تناثر فوق خد المجدلية
بيروت تقتل كل يوم واحدا منا
وتبحث كل يوم عن ضحية
فالموت فى فنجان قهوتنا
فى مفتاح شقتنا
وفى ورق الجرائد والحروف الأبجديـة
ها نحن يا بلقيس ندخل مرة أخرى
لعصر الجاهليــة
بلقيس يا عطراً بذاكرتى
ويا قبرا يسافر فى الغمام
قتلوك فى بيروت مثل أى غزالة
من بعد ما قتلوا الكلام
بلقيس ليست هذه مرثية ... لكن
على العرب السلام .

وليأذن لى عزيزى القارئ أن أقدم فى هذا المجال مقطعاً من قصيدتى " الحروف السوداء " التى كانت رثاءاً لشقيقتى " هدى " رحمة الله عليها والتى رحلت إلى بارئها وهى تضع حملها الأول فى يناير 1985م ولنتأمل معاً أبياتاً من هذه القصيدة ( ) :
هى الدنيا فما دامــت على حــال لمن فيـــها
وسبحان الذى يبقى ربوبية وتأليـــــــها
له الرجعـى وإن طالت بنا الأعمار يطويــها
فقد كُنا على وعـــد بطرح من شذا القطفِ
إذا بالمـوت يخطفها مع غيبوبـة النـــزف
وقـال الطب قد رحلت وجاء الصوت كالسيف
فمات الفــرح فى دمنا وضاع الوعد بالخُلــــــف
فيا أختــــــاه معــذرة فكل الشعر لا يكفـــى
وتلك حروفى السوداء ما كفــــــت عـــــن الرفّ
ونار البين تعصف بى فأُحرق من لظى العصـــف
فهل يا دمع تُرجعـها وهل ياحزن .. هل تشفى
ويا أختــــــاه معــذرة وماذا عندنا يكفـــى ؟
فنامى أنـتِ راضيــــة بلا نصــــب ولا خـــــــوف
لعـــل اللــــه يجمعنــا مع الأبـــــرار فى الصــف
له الرجعى هو الجبـــار والمعــــروف باللطــــــف
وقد يندهش القارئ متسائلاً ... ما الذى يدفعنى بعد هذه المدة الطويلة بأن أتذكر هذه القصيدة وأضعها فى هذا الكتاب الهام وأقول بأن التجربة القاسية والجو النفسى الصادق الباكى الذى أخذنى إليه الشاعر الكبير عبد الفتاح المرصفى هو الذى أعادنى لربع قرن من الزمان لكى أعيش رحيلها والتى تجرعت بفقدها طعم الحزن الحقيقى للمرة الأولى فى حياتى فجاء رحيلها مذهلاً بكل المقاييس وهى التى كانت تستعد ونستعد معها لاستقبال وليدها الأول بعد طول انتظار .. ولكنها مشيئة القدر أبت أن يتم ذلك فبدلاً من أن تأتى حاملة طفلها أو على الأقل تأتى هى بمفردها ذهبت به إلى غير رجعة للمرة الأخيرة ... فكان الحزن الذى ما زال متغلغلاً بأوردتنا حتى النخاع .
إذن عزيزى القارئ .. لقد قدمنا لك مقطعاً من قصيدة للخنساء فى رثاء أخيها صخر وكانت من العصر القديم وقدمنا مقطعاً آخر من قصيدة نزار قبانى فى رثاء زوجته بلقيس وكانت من العصر الحديث ومقطعا من قصيدة " الحروف السوداء " التى أرثيت بها شقيقتى هدى ، وبين يديك الآن بعضاً من قصائد شاعرنا " عبد الفتاح زكى المرصفى " وعلينا جميعاً أن نتأمل لنصل فى نهاية المطاف إلى أن شاعرنا يليق به أن يوضع فى مصاف أعظم شعراء الرثاء قديما وحديثا .
لقد قدم شاعرنا فى هذا الديوان ثلاثة وعشرين قصيدة رثاء ، رثى فيها إبنه وفلذة كبده محروس فى ثلاث قصائد هى بترتيب ورودها بالديوان قصيدة " يا زينة الأطفال " ص 9 وعدد أبياتها اثنان وسبعون بيتا وهى من بحر الكامل وقصيدة " ذكراك يا محروس " ص 17 وهى مكونة من ثلاثة وعشرين بيتا وتنتمى إيقاعياً إلى بحر الوافر والقصيدة الثالثة فى رثاء ابنه محروس بعنوان " ويا محروس كنت لنا سراجا " وهى من بحر الوافر أيضا ومكونة من خمسين بيتا وتقع فى ص 20 من الديوان المذكور أما ما قدمه شاعرنا فى رثاء زوجته رحمة الله عليها قصيدتين هما " يارب عنها قد رضيت " ص 26 وهى مكونة من ثلاثين بيتا وتنتمى إيقاعياً إلى البحر الكامل والقصيدة الثانية كانت فى الذكرى الأولى لرحيلها وكانت بعنوان " يا طيف الحبيبة قل لها " ص 30 ويبلغ عدد أبياتها اثنان وثلاثون بيتا وتنتمى إيقاعيا إلى بحر الكامل .
أما والدته فقد رثاها شاعرنا بقصيدتين الأولى بعنوان " وداعا " ص 41 وهى من بحر الطويل ومكونة من خمسة أبيات فقط وهنا استفسار منطقى إذ كيف له وهو صاحب النفس الطويل فى الشعر أن يأتى بقصيدة من خمسة أبيات فقط وسوف نرد عن هذا التساؤل فى مرحلة لاحقة ونحن نتحدث عن الإيقاع الشعرى عند شاعرنا .
أما القصيدة الثانية فى رثاء أمه فكانت بعنوان " مازال الفؤاد منادياً أماه " ص 42 وهى من بحر الكامل وعدد أبياتها اثنان وثلاثون بيتا .
أما شقيقة شاعرنا الحاجة زكية رحمة الله عليها والتى قضت بالحجاز وقُبرت هناك أيضاً فقد رثاها شاعرنا بقصيدة وحيدة عنوانها "وسكنت جار محمد " وهى من بحر الكامل وتقع فى واحد وثلاثين بيتا ص 38 من الديوان المذكور .
أما الشيخ الجليل محمد عبد المتعال حبيشى فقد رثاه شاعرنا بقصيدتين وقال الثالثة فى حياته أما القصيدتان اللتان رثاه فيهما كانتا "نم فى مقامك يا حبيشى " ص 34 وهى من بحر الكامل وتقع فى أربعة وثلاثين بيتا والثانية كانت بعنوان " رباه متع روحه " ص 55 وهى من بحر الكامل أيضا وتقع فى سبعة وعشرين بيتا أما القصيدة الثالثة التى قالها فى حياته فكانت بعنوان " سيروا على نهج الإمام " ص 36 وهى من بحر الكامل ومكونة من واحد وعشرين بيتا .
أما أصدقاء شاعرنا "عبد الفتاح زكى المرصفى" فقد كان حظهم من قصائده الرثائية ثمانى قصائد الأولى بعنوان "رحل الصديق" ص 46 وهى فى رثاء صديقه المرحوم فتحى عبد الرحمن تمر وهى من بحر الكامل وتقع فى ثمانية وعشرين بيتا أما القصيدة الثانية فكانت بعنوان " مات الذى نفع البلاد " ص 49 وكانت فى رثاء المرحوم الأستاذ عبد الفتاح السيد عجمى المرصفى الذى كان عضوا فى لجنة طبع وتصحيح المصحف الشريف بالسعودية وتقع فى ستة وعشرين بيتا وتنتمى إيقاعياً إلى بحر الكامل .
أما القصيدة الثالثة فكانت بعنوان " وجدناك إنسانا فريدا " ص 58 وكانت فى رثاء المغفور له الشيخ نادى محمد نصر وعدد أبياتها واحد وخمسون بيتا وتنتمى إيقاعيا إلى بحر الوافر .
أما القصيدة الرابعة فى رثاء الأصدقاء فكانت فى رثاء زوجة الشيخ نادى محمد نصر وعلى لسان زوجها وكانت بعنوان " يارب خفف دمعتى" ص 61 وتقع فى أربعة وعشرين بيتا وتنتمى موسيقيا إلى بحر الكامل والقصيدة الخامسة فكانت فى رثاء الشيخ رمضان عيسوى بعنوان "اليوم تفجعنا المنية" ص 64 وعدد أبياتها واحد وأربعون بيتا وتسير إيقاعيا على نسق بحر الكامل .
أما القصيدة السادسة فكانت فى رثاء الأستاذ محمود محمد عوض الله وعنوانها "أسفى على ذاك النبيل " ص 68 وهى من بحر الكامل أيضا وعدد أبياتها ستة وعشرون بيتا أما القصيدة السادسة فى رثاء الأصدقاء فكانت فى رثاء الأستاذ /حسن محمد عفيفى الأكشر ص 74 وعنوانها " نجم تلألأ " وهى من بحر الكامل وعدد أبياتها تسعة وعشرون بيتا .
أما القصيدة الثامنة والأخيرة التى رثا بها شاعرنا " عبد الفتاح زكى المرصفى " أصدقاؤه فكانت فى رثاء الأستاذ الدكتور / عبد الحميد حشيش أستاذ القانون الدولى وعنوانها " مرارة الفقدان " ص 85 وتقع فى خمسة وثلاثين بيتا وتسير إيقاعيا على نسق بحر الكامل .
أما قصائده فى الرثاء التى كانت من نصيب شباب أهل القرية فكانت اثنتين الأولى منهما بعنوان "وداعاً يا إبراهيم " ص 52 وكانت فى رثاء المرحوم الشاب إبراهيم السيد كساب الذى وافته المنية وهو فى ريعان الشباب فترك مرارة خاصة فى حلوق كل من عاصروه وهى من إيقاع بحر الوافر وتقع فى ثلاثين بيتا أم القصيدة الثانية فكانت فى رثاء الطالب الشاب محمد جلال السعيد التى توفى أثر حادث أليم فرثاه الشاعر بقصيدة طويلة عنونها " مالى أراكم تصرخون" ص 71 وهى من إيقاع بحر الكامل أيضا وتقع فى ستة وأربعين بيتا .
أما الشخصيات الإفريقية والعربية التى رثاها شاعرنا " عبد الفتاح ذكى المرصفى " فكان منها الزعيم بارتيس لمومبا رئيس دولة الكونغو فى ذلك الحين فقد رثاه شاعرنا بقصيدة بعنوان " قتلوك غدراً ص 77 وهى من إيقاع بحر الكامل وتقع فى تسعة وأربعين بيتاً .
والقصيدة الثانية فى هذا المجال كانت فى رثاء الطيار المدنى عدنان السورى الذى قتل فى الأردن عام 1960 فكانت بعنوان " يا زين الشباب " ص 82 وتقع فى أربعة وثلاثين بيتا وتنتمى إيقاعيا إلى بحرالكامل .
كان هذا تصنيفا نوعيا وإيقاعيا لقصائد الرثاء لشاعرنا " عبد الفتاح زكى المرصفى " والتى تمثل أعماله الكاملة .
من التصنيف السابق نجد أن جميع قصائد الرثاء تنتمى إلى ثلاثة أبحر من جملة البحور ( ) الخليلية فى الشعر العربى وهى حسب ترتيبها من حيث الدوران فى شعره تبدأ ببحر الكامل وتفاعيله كما يلى:
متفاعلن متفاعلن متفاعلن ///5//5 ///5//5 ///5//5
متفاعلن متفاعلن متفاعلن ///5//5 ///5//5 ///5//5
وإن أتى مجزوءاً كما سيحدث فى قصيدتين هما: مالى أراكم تصرخون ، عدنان يا زين الشباب يأتى هكذا : متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن
///5//5 ///5//5 ///5//5 ///5//5
وقد أتت ثمانى عشرة قصيدة من هذا البحر وهى النسبة الأكبر من قصائد الرثاء يأتى فى المرتبة الثانية " بحر الوافر " ولكن بمسافة كبيرة بينه وبين بحر الكامل حيث أتت أربع قصائد فقط من قصائد الرثاء البالغة ثلاث وعشرون قصيدة من بحر الوافر التام وتفاعيله كما يلى :
مفاعلتن مفاعلتن فعولن مفاعلتن فعالتن فعولن
//5///5 //5///5 //5/5 //5///5 //5///5 //5/5
وبالتالى يأتى إيقاع بحر الوافر فى المرتبة الثانية عند شاعرنا من حيث ميله لإيقاعاته وحبه لها ثم يأتى فى المرتبة الأخيرة بحر الطويل وهو أصعب وأطول بحور الشعر الخليلى حيث أتت قصيدة وحيدة قصيرة من قصائد هذا المبحث الرثائى من بحر الطويل عدد أبياتها خمسة أبيات فقط لاغير وبتحليل أكثر لهذه النقطة بالذات يمكن أن نقول أن شاعرنا كان يحب ويرتاح كثيرا لإيقاع بحر الكامل والدليل كما قدمنا هو وقوع عدد ثمانى عشرة قصيدة فى إيقاع هذا البحر من جملة عدد ثلاث وعشرين قصيدة هى كل قصائد الرثاء فى هذا الديوان ثم يأتى بحر الوافر بعد ذلك وبفارق كبير كما قدمنا ثم بعد ذلك يأتى بحر الطويل فى قصيدة واحدة عدد أبياتها خمسة أبيات فقط
النسبة المئوية : 18/23 × 100 = 78.30 %
إذن فشاعرنا كان يطرب لإيقاع بحر الكامل ويسعد به وعلى العكس من ذلك كان لا يستريح لإيقاع بحر الطويل ولا يميل له وهنا قد يسأل البعض إذا كان شاعرنا لا يستريح لإيقاع بحر الطويل ولا يميل له فلماذا إذن أتى بقصيدة واحدة عدد أبياتها خمسة أبيات فقط على نسق هذا البحر؟ وبعد التأمل فى هذا الموضوع أستطيع أن أقول أن هناك إجابتان عن هذا السؤال ، الإجابة الأولى تقول بأن شاعرنا قد أراد أن يقول لنا بأنه كان لا يحب إيقاع هذا البحر إلا أنه يجيد السباحة بين أمواجه رغم طول تفاعيله وصعوبة امتطائه إذن فإن عزوف شاعرنا عن هذا البحر ليس عن عجز ولكن لعدم حبه لإيقاعاته خصوصا أن هذا البحر كما يبدو من أسمه هو أطول البحور الخليلية وأصعبها .
والإجابة الأخرى للرد على ذلك التساؤل وهى أن عزوف شاعرنا عن امتطاء هذا البحر خصوصا فى شعر الرثاء هى أن نغم بحر الطويل لا يتناسب مع الجو النفسى والإيقاعى لقصائد الرثاء وهذا ما سوف تؤكده أو تنفيه المباحث الأخرى لهذه الدراسة .
بناء على ما قدمنا يمكن القول بأن الحديث عن الإيقاع فى هذا المبحث ليس على سبيل الترف أو الإسهاب فى الطرح وإنما له أهميته القصوى فى الوقوف على الحالة المزاجية والموسيقية لدى أذن وقلب شاعرنا كما يعكس أيضاً ثقافته الإيقاعية تلك الثقافة التى تختلف بطبيعة الحال من شاعر إلى آخر ومن قصيدة إلى أخرى وبل من مقطع إلى آخر فى القصيدة نفسها كما أن هذا التنوع الموسيقى النسبى أو المحدود الذى قام به شاعرنا فى قصائد هذا المبحث إنما يعكس الثقافة الإيقاعية الثابتة لديه والتى لا تتغير إلا فى أضيق الحدود رغم قدرة شاعرنا الفائقة على السباحة فى كل بحور الشعر العربى إلا أنه فضل إيقاع بحر الكامل على كل الإيقاعات الأخرى والبالغة ستة عشر بحراً بما فيها بحر الكامل نفسه .

الصــــــــــدق وأثره فى التجربة الإبداعية عند عبد الفتاح زكى المرصفى

هناك من يقول بأن أجمل الشعر أكذبه وهناك من يقول بأن أجمل الشعر أصدقه وإن كانت المقولة الثانية هى الأكثر صدقا وبالتالى فأنا أميل إلى تصديقها ولكن دعونى أقول من خلال هذه التجربة الشعرية والإبداعية الرائعة لشاعرنا " عبد الفتاح زكى المرصفى "ومن خلال روعة التشبع الجميل الذى اعترانى من خلال هذه الدراسة حول شعره دعونى أقول بأن أعظم الشعر أصدقه .
وتعالوا معاً نتأمل بعض مقاطع الرثاء فى هذا الديوان التى يرثى بها شاعرنا ابنه محروس الذى توفى وهو فى عمر الزهورفقد كان عمره آنذاك أربعة أعوام والقصيدة بعنوان " يا زينة الأطفال " ص 9 حيث يقول مخاطبا محروس ( ) :
قد كـان ودى أن تكـون تهانى
لولا الـذى ماكـان فى الحســــبان
مـالى أراك مـودعــاً و عقيـــــدتى
محروس أن تحيـا و أن تنـــعـانى
مـاذا جـرى حتى ذهبت مبكـــــــراً
يا قـرة العينـين من ذكـــــران
محروس بعدك من سيفتح منزلى
من ذا يعـامل صبيـــتى بحنـان
من ذا يسيـر مشيـعاً لجنــــازتى
من ذا يفصـل يومـــــها أكفـانـى
من ذا يقـابل فـى الديـار معزيـا
من ذا يكرم من ســعى ورثــانى
ماذا جـرى ... قل لى بربـك نبِّنـى
حتـى ارتحــلت و ليـــس ذا بأوان
إلى أن يقول :
ســـــرنا وراءك للــــوداع يلفُـنا
جزع المحـــب و حســـــرة الولهـان
فى موكبٍ فخـم جليـل ســــــــاده
صمت رهيـب غُـصَّ بالأشــــــــــجان
قد كنت أحـلم أن أســير بزفـــة
و معى الدفوف لأنضر العرســــان
وبجانبى الساحات تؤتى سـحرها
لجموعـنا فى أعذب الألحــــــــــــان
و معى الأحبـة شاركونى فرحتى
بك ياأحـب النـاس.... لا أحـزانى
إلى أن يقول فى مقطع آخر :
فكّرت أن تفنى حياتى من يـدى
لولا انتحـارى ليــس بـ الإيــــمان
لقتلت نفسـى إثر موتـك يا بُنَىْ
أنت الوحيد فليـس بعـدك ثـان
ذقنا بفقـدك كــل بـؤس عمنا
لا يسـتطيع لوصـفه تبيــانى
إلى أن يقول مخاطبا قبر محروس فى مقطع آخر:
ياقبر محـروس... لديك وديعة
هى فلـذتى وخـلاصة الوِلـْـــــــدان
يا قبـر محـروس ...أتتك طـهارةُُ
ما مثلـها يا قبر فـى إنســـــان
يا قبر محروس ...شرفت بمكثه
فبمكثه قد كنت خير مكـان
يا قبر محـروس أتـاك فرحِّبُنْ
و انثر لمقدمـه شــذا الريحـان
هـا قد أتـاك بطلعـة وضّـــــــاءة
هـا قد أتـاك بحُسـنه الفتَّـــانِ
قد صـرت فينا كعبـةٍ من أجـله
ســـأطوف حــولك داعــى المنّان
سأطوف سعيا سـائلا رب الورى
فهو الكريـم محـال أن ينسانى
إلى أن يقول فى نهاية القصيدة :
محروس قم هذىعروسك قد أتت
فى نصف سـنك عمرها سنتان
بنت لعمـك كالزهـور نضـــــارة
بكما بـذا ما يشـتهى الزوجــان
زفـت اليـك ســعيدة بقـدومها
وأتتـك كــامـلة و ذات معـــــان
معها رسـالتى التى قد ســطرت
مـن والــــد متفجّـعٍ حيــــــــــــران
تهـدى أعز سـلامنا و لذكـركم
سنظل نحيـيه مــدى الأزمـــــــان
فاسعد مع الولدان ياعين المنى
وانعـم هنـاك بجنـة الرحمـــــان
فما أصدق هذا الشاعر وما أعظم هذا الشعر فدائما ما يكون إحساس الأب أن ابنه هو الذى سينعاه مهما امتد به بساط العمر وهو الذى سيخلفه وهو الذى سيشيعه ويعد كفنه وهو الذى سيتقبل عزاءُه وهو الذى سيرعى أحفاده وبناته وهو الذى سيكون السند والمعين لإخواته البنات ، كل هذه المشاعر والأحاسيس هى التى تأتى على ذهن الوالد حين يولد له ابن خصوصا إذا كان ابنه الأول .
ما أروع تلك المشاعر حين يغلفها الصدق ويكسوها الإيمان وما أشهى هذه الأشجان إذا كانت لعزيز علينا وهل هناك أعز من فلذة كبد الإنسان وهل هناك أشهى من محروس على قلب والده ..؟
إن المشاعر التى تخرج من القلب تصل دائما وسريعا إلى قلوب الآخرين .
ولنتأمل قوة هذا الصدق مع هول الفاجعة فى بيت آخر من هذه القصيدة الرثائية الطويلة والتى بلغ عدد أبياتها اثنان وسبعون بيتاً مما يعكس طول النفس الشعرى لدى هذا الشاعر الكبير وسوف نعود إلى طول النفس الشعرى فى موضع آخر من هذا البحث ، نعود إلى البيت الشعرى الذى يحمل دفقة من الصدق تفوق كل خيال واصفا مشهد التشييع المهيب ومتخيلاً مشهد الزفاف الجميل الذى كان يتمناه لابنه ولك عزيزى القارئ أن تعقد المقارنة الذهنية والتصويرية بين المشهدين فيقول :
سـرنا وراءك للـوداع يلفُنــــا
جزع المحب و حسـرة الولهــــان

فى موكبٍ فخـم جليـل ســـــاده
صمت رهيـب غُـصَّ بالأشــــــجان
قد كنت أحـلم أن أسير بزفة
ومعى الدفوف لأنضر العرسـان
ومعى الأحبـةشاركونى فرحتى
بك يا أحب الناس ...لا أحـزانــى
مالى آراك مودعا وعقيـــــدتى
محروس أن تحيا وأن تنعانى
ونلاحظ فى هذه المقطوعة تلاطمُُ بين أمواج الأحاسيس المرة وأمواج من الأحاسيس الحلوة صورتان متناقضتان تماماً الأولى فيها قمة الحزن والمرارة فى مشهد الوداع الأخير ، والثانية تفيض بالفرحة والسعادة الغامرة لمشهد الزفاف الإسطورى الذى تخيله الشاعر لمحروس وهو فى سن الزواج وفى النهاية وبقوة الإيمان بالله عز وجل يفيق الشاعر من خيالاته مخاطباً ابنه أنه كان يتمنى أن يكون المشهد عكسياً أى أنه كان يتمنى أن محروس هو الذى يواريه التراب وهو الذى يتقبل عزاؤه وهو الذى ينعاه لكنها حكمة الله تعالى وحكمه وهو خير الحاكمين .
فما أروع هذا التصوير الشعرى الطازج المؤثر بين مشهد فعلى معاش وهو مشهد تشييع الوالد لابنه محروس ومشهد آخر تمناه ولم يحققه الشاعر وهو زفاف محروس على عروسه وشتان بين المشهدين .
إنها روعة وحرارة الفقد ومرارة الألم والأمنيات التى أصبحت مستحيلة إلا من تخيلها .
ولنتأمل هذا الصدق من شاعرنا أيضاً حين يقول مخاطبا محروس فى نفس القصيدة قائلا :
فكرت أن تفنى حياتى من يـدى
لولا انتحـــــــارى ليـس بــ الإيمان

لقتلت نفسـى إثر موتـك يا بُنَىْ
أنت الوحيد فليـس بعـدك ثانى
ولنتأمل أيضاً فى هذين البيتين الصراع الداخلى الذى يفور بداخل شاعرنا صراع بين قوة الإيمان وبين تربص الشيطان الذى يروج له فكرة الانتحار والتخلص من الحياة حزنا على ابنه الوحيد ولكن قوة إيمانه انتصرت فى النهاية كما أشرنا من قبل . فقد استطاع فى اللحظة المناسبة أن يفيق ويعود إلى رشده إيماناً بقضاء الله وقدره وهو الإنسان المؤمن الذى يحمل كتاب الله وهديه .
وأخيراً يخاطب الشاعر قبر محروس فى صياغة شعرية رائعة تفيض شجنا وصدقا ودموعا ولو أنه تجاوز الحدود فى بعض الصور الشعرية كما سنرى فيما بعد حيث يقول من نفس القصيدة ص 15 مخاطبا قبر ابنه محروس :
يا قبر محـــروس لديـك وديـعة
هى فلـذتى وخـــــــلاصة الولــــدان
يا قبـر محـروس أتتك طـهـــارة
ما مثلـها يا قبر فـى إنســــــــان
يا قبر محروس شـرفت بمكـثه
فبمكـثه قد كنـت خيـر مكـان
وهنا نقول أنه نظراً لشدة الفجيعة ومرارة الفقد نسى أن أطهر مخلوق على وجه البسيطة هو الرسول صلى الله عليه وسلم ...
فكان يجب أن يؤكد على أن طهارة ابنه هى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته ، ولكنها الصدمة الفاجعة التى أذهلته وله كل العذر نسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته وأن يفيض عليه بالغفران .
ثم يقول فى نفس المقطع :
يا قبر محـروس أتـاك فرحِّبُنْ
و انثر لمقدمـه شــذا الريحــــــان
قد صـرت فينا كعبـة من أجـله
ســــأطوف حــــــولك داعى المنان
سأطوف سعيا سـائلا رب الورى
فهو الكريـم محـال أن ينسـانى
أيضا وفى هذا المقطع ولشدة الصدمة ومرارة اللحظة ومشاعر الأبوة الصادقة جعلت شاعرنا يتخذ من قبر ابنه كعبة يطوف ويسعى حوله من حين لآخر
وهو رحمة الله عليه أعلم منى بأنه ليس هناك كعبة سوى كعبة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما وعلى نبينا السلام وهى الكعبة المنوطة بالطواف والسعى حولها .
وكما قدمنا نؤكد بأن هذا الخلط الغير مقصود بالتأكيد وهذا التعظيم لابنه ولقبره جاء من هول الصدمة ومرارة الفجيعة فمحمد صلوات الله وسلامه عليه هو أطهر الخلق أجمعين والكعبة المشرفة فى هذه الدنيا المنوطة بالسعى والطواف كما أمرنا الله عز وجل ورسوله الكريم .
ثم نصل إلى نهاية القصيدة التى يتحقق فيه حلم شاعرنا فى زفاف ابنه لعروسه ولكنه ليس زفافا دنيويا وإنما زفاف إسطورى ملائكى حيث يزف فيه شاعرنا ابنة أخيه " هدى " التى رحلت وهى فى نصف عمر محروس حيث لها من العمر سنتان وكأن الشاعر بهذا الزفاف الأخروى قد حقق ما كان يتمناه لابنه محروس فى الدنيا فقد زف ابنة عمه هدى إليه فى القبر وحملها رسالة سطرت من دمه ومن دموعه ومن أحاسيسه لكى تسلمها له حين تلقاه .
هذا هو الصدق الذى يصل بالمشاعر من القلب إلى القلب وهذا هو الصدق الذى يجعل المتلقى يشعر إنه داخل الحدث وليس خارجه .. ألستم معى بحق بأن أعظم الشعر أصدقه ؟

االصورة الشعرية وخصوصيتها عند عبد الفتاح زكى المرصفى

وما زلنا مع شاعرنا الكبير " عبد الفتاح زكى المرصفى " فى رثاءه لفلذة كبده محروس ولكن مع قصيدة أخرى بعنوان "ويا محروس كنت لنا سراجا " ص 20 حيث يقول فى مقطع منها مخاطبا فقيده محروس :
و حيد القلب مالـك من رجـــــوع
شوتنى النار والتهمت ضلوعـى
و كنت أظـن أن الدمـع يطــفى
لهيـب القلب فازدادت دمـوعى
وكنــت أظن أنـك من نصيــبى
تقر العيـن بالطفــل الوديـــع
و كنـت أظـن أنـك يـا حبيـبى
سـتحبنى وتـوقد لى شـــموعى
ولـم يخطـر ببـالى أن نفســـــى
تعيش بعيشـة الرجـل الوجيع
و لم يخطر بســـــمعى أن أذنــى
تنـال الوقـر من نبـأ فظيــــــع
و حسـبى أن أراك فتى وحيــداً
و رب توحــدٍ مُرضى الجميـــــــــع
تشـق طريق عيـشك فى فــــلاح
تجــدد ما تآكـل من دروعــــــى
تكّمل منـك أوصـافى ويطفــــو
بك العيش الهنيئ على ربوعى
شـقاوتك الطريـفة فى فـؤادى
تداعبــنى بأســـــــلوب بديــع

وصـورتك اللطيـفة فــى خيـالى
تحـاكى الزهر فى بـدء الطلـوع
و يا محـروس كنت لنا سـراجاً
فولىّ النور كالبـرق السـريـع
إلى أن يقول مخاطباً زمانه :
ألا فارحـم فــــؤادى يا زمـــــانى
ويكفـى ماأخذت فكن مطيعى
فلم يسـمع وجـار على ضـنـــايا
و حطمنى و ما لـــى من شــفيــع
و ليسـت هـذه أولـــــــى الرزايـا
لنـا حـتى نـلام على الهلـــــــوع
لقد تـرك البـلاءُ بـنا تبــــــاعاً
و لا أدرى تهـانـى من تليـــــعى
إلى أن يقول مخاطباً قلبه المعنى حيث يقول :
لـك الرحمـن يا قلبــــى المُعـنَّى
فكـم لاقيــت من طفل صـريــع
فلا تعجـب فـإن الفـكـــر ولـــىَّ
و صرت مشـارك الرجل الدفيـع
إلى أن يقول مخاطباً ربه سبحانه وتعالى :
فيا ربى دعــوت فكـن مجيـبى
فوحـدك أنت يـا ربــى سـميعى
فبـاعد بين شـيطانى ونفسى
و خذ بيـدى قربت من الوقــوع
و أعـلم بأنك المعبــــــود حـــقا
خصصـتك يا إلـهـــى بالركــوع

وأمـرك فـىَّ يا ربـــــــــى مُطــاعُُ
على عيـنى يقــابل بالخضـوع
وهـب لى منك ســـلطانا نصـيراً
فإنـى لســت بالجلد الشــــجيع
وما زلنا عند الصورة الشعرية فى شعر " عبد الفتاح زكى المرصفى " ولنتأمل المقطع الشعرى السابق لنجد فيه الصورة الشعرية المتدفقة التى تفيض حزنا وحرارة على الفقيد الصغير حيث يقول :

شوتنى النار والتهمت ضلوعى
ويقول : وكنت أظن أن الدمــــع يطفى
لهيب القلب فازدادت دمـــوعى
فكلمات شوتنى النار والتهمت والدمع واللهيب والدموع كلها كلمات تشى بالجو النفسى الحزين والمؤلم الذى يعيش فيه الشاعر .
ثم يضيف صورة شعرية قوية فى التأثير كما هى قوية فى الصياغة حيث يقول : تجدد ما تآكل من دروعى " كأنه يشبه نفسه فى هذه المرحلة بالفارس الذى تآكلت دروعه ويحتاج إلى من يجددها له فهل هناك غير ابنه يصلح لهذه المهمة لكن القدر لم يمهل هذا الطفل لكى يكبر ويجدد ما تآكل من دروع أبيه !! إنها صورة شعرية مستمدة من ميادين القتال والمنازلة وهذا يوحى بقسوة هذه المعركة مقارنة بكل المعارك التى خاضها هذا الفارس ، وهل هناك معركة أقسى وأشد ضراوة على شاعرنا من معركة مواراة ابنه وفلذة كبده التراب ؟ ثم نتأمل الصورة الشعرية الأخيرة التى يقول فيها :
ويا محروس كنت لنا سراجا
فولى النور كالبرق السريع
كأنه يشبه محروس بالسراج الذى ظهر فى حياته ولكنه لم يدم طويلا فولى كالبرق السريع أى أنه ظهر واختفى كالبرق السريع وهى صورة توضح سرعة اختطاف هذا الابن من حياته .
هذه هى الصورة الشعرية لدى شاعرنا وهذا هو الصدق الذى يشعلها دائما وهذا هو الشعر الذى يحتضن كل هذه المشاعر والأحاسيس وهذا هو الشاعر الذى استطاع أن يضفر كل هذه المعطيات مجتمعة فى قصيدة واحدة تئن لها القلوب وتذوب من قسوتها الضلوع .
ولنتأمل قصيدته الثالثة فى رثاء فلذة كبده محروس وعنوانها " ذكراك يا محروس " ص 17 والذى يقول فى مقطع منها :
على دنيــاى لا أبكـى فإنــــى
حرمت متاعها وعرفت بأســـى
تمـر علىَّ أيـــــــامى ســــــــواء
فيوم سعادتى هو يوم نحسى
و قلت لعل فى صبــرى شـفائى
فلم يمـح التصبر ما بنفسـى
فيـاربى فــــؤادى قد تلاشــى
وصـرت معـذباً من كل لمســى
و ظهرُ الأرض فى نظرى تمــاماً
من الأحزان يشبه بطن رمسى
و فى العينين لا أدرى اختلافاً
فحفل جنـازتى هو حفل عرسى
ملأت الكـأس آمـــــــــــالا فلـما
هممت بشـربها حطمت كأسـى
إلى أن يقول :
فقد ودعــــــت يـوم فراق طـه
أنيس القلـــب لذاتـى وأنسـى
ولكــنى ســـأذكره كل حيـن
ولا أنســــاه فى جهرى وهمسى
و فى الميعاد أبعث حر شـوقى
و هام به الفؤاد هيـام قيسـى
إلام تخص يادهــــرى فــــــؤادى
و فى الأحشـاء ترمينى بقوسى
إلام تضيـع آمــــالى وتمحـــــــو
بكل قسـاوة أزهـار غرســــــى
تعتبر هذه القصيدة من أروع قصائد هذا الديوان فقد كتبها شاعرنا فى ذكرى رحيل ابنه وقد هدأت نسبيا ثورة الألم بنفسه وبدأ يمارس الحياة ولكن بإحساس آخر فالأيام عنده سواء أبيضها كأسودها وسعيدها كشقيّها .
كما تعتبر هذه القصيدة من أعلى القصائد فنياً بما تحتويه من عدد كبير من الصور الشعرية المتتالية والرائعة فى نفس الوقت فمثلاً يقول :

و ظهرُ الأرض فى نظرى تمـــاماً
من الأحزان يشبه بطن رمسى
فهو يصور كم الحزن والألم الذى يعيشه على سطح الأرض مثل بطن القبر إذن فحياته فى الدنيا مثل وجوده فى باطن القبر وهى صورة تحمل من القتامة ما يجعلها تعبر عن الجو النفسى والإحساس القاتم الذى يعيشه شاعرنا بعد فقد ابنه كما يؤكد هذا مرة أخرى وفى صورة أخرى تالية لا تقل حزنا وفجيعة عن سابقتها حيث يقول :
و فى العينين لا أدرى اختـلافاً
فحفل جنـازتى هو حفل عرسى
فهو يقول فى هذه الصورة بأن عينيه صارت لا ترى سوى الحزن والألم من جميع الزوايا وفى جميع الأحيان فالصورة التى أمام عينيه دائماً هى الحزن والفجيعة والدموع حتى أنه أتى بالنقيضين فى صورة شعرية رائعة فذكر أن يوم جنازته مثل يوم عرسه تماما لا فرق فى عينيه وفى إحساسه .
ثم ننتقل إلى صورة أخرى تعبر عن مدى اليأس والتوجع الذى يحياه بعد فقد ابنه فيقول :
ملأت الكــــــأس آمــــــالا فلـما
هممت بشربها حطمت كأسـى
ولك أن تتخيل عزيزى القارئ هذا التخبط النفسى الذى يعيش فيه شاعرنا من خلال هذه الصورة التى يحاول فيها أن يستعيد توازنه النفسى بالخوض فى آمال جديدة ولكنه لا ينجح فى ذلك ولا يقوى على ذلك فيظل على حزنه وانكساره .
ثم ننتقل إلى صورة أخرى لعلها من أروع الصور فى قصيدته حيث يقول :
و فى الميعاد أبعث حر شـوقى
و هام به الفؤاد هيـام قيسـى
فقد بدأ من شدة الفقد وطول البعاد يشعر بحنين واشتياق إلى ابنه فبدأ يبعث له الأشواق الحارة وربما القبلات والأحضان بدأ يعيش وكأن ابنه محروس فى سفر طويل وسوف يعود فبدأ يتعجل قدومه بإرسال الأشواق والقبلات الحارة وفى الشطر الثانى عاش مع فقيده حالة من الهيام وبدأ يعيش حالة من العشق الجميل الذى يشبه هيام " قيس " بمعشوقته " ليلى العامرية " وهى صورة شعرية جديدة وغريبة فلم أرها من قبل فقد وظف حالة العشق المعروفة بين قيس وليلى فى تعميق حالة شدة الحزن بداخله هذه الصورة فكأن هذا الرجل يحاول أن يتعايش فى الحياة بشكل أو بآخر بعد فجيعته بابنه فتعامل مع الموضوع بشكل آخر اعتبر فيه أن ابنه مسافرا أو بعيدا عنه وبدأ حالة من العشق والانتظار الذى يبعث فيه الحياة ولكنه لا يستطيع فيعود من جديد يعاتب الدهر على ما اختصه به من حزن وألم فى صورة شعرية قوية أخرى حيث يقول :

إلام تخص يادهـرى فـــــــــــؤادى
و فى الأحشـاء ترمينى بقوسى
إلام تضيـع آمــــــالى وتمحــــــو
بكل قسـاوة أزهـار غرســـــــى
فقد عاد من جديد إلى معاتبة الدهر واتهامه له بطعنه بقسوة فى أحشائه واتهامه له بمحو كل ما هو جميل من أزهاره وطروحاته .
إذن فقصيدة " ذكراك يا محروس " من القصائد الغنية بالصور الشعرية المكثفة وغنية بالأحاسيس القاتمة والآمال الضائعة وغنية أيضا بالتباين المؤثر فى مشاعر هذا الرجل فتارة يتصدى بإيمانه لفجيعته وتارة يشتاق إلى فقيده وكأنه سيعود وتارة يعاتب الدهر على قسوته وتارة يكون حكيما معنا فيقول لنا أن هذه الدنيا لا تستحق البكاء عليها لتفاهتها وقسوتها إنها قوة الفجيعة وأنين الألم الذى جعله يتأرجح هنا وهناك رحم الله تعالى هذا الرجل الذى صار عظيما بعد مماته مثلما كان عظيما فى حياته .
ننتقل إلى دمعة أخرى من دموع شاعرنا الكبير " عبد الفتاح زكى المرصفى " ودموعه هذه المرة فى رثاء زوجته وشريكة حياته فها هو يرثيها بقصيدة طويلة بعنوان " يارب عنها قد رضيت " ص 26 وسوف اختار بعضا من أبياتها لكى نتأملها معا عزيزى القارئ قبل الولوج فى عالمها الشعرى ولنتأمل معا هذه الأبيات التى اخترتها من هذه القصيدة التى يقول مخاطبا زوجته :
إن لم يجئ دمعـى لفقدك من دمى
فمن الـذى أولـى بسـيل دمـــــــائى
ماتت صغارى ما جزعت وكنــت لى
نعم السُّـــــلوَّ لرحــلة الإيـــــــــتاء

أنت التـى أرضيــت عنى عيشــتى
و بذلــت فى هــــذا أتــــــــم رضــاء
أرضيت ربك فى رضــــاى ومن مضى
منـا و مــــــــن لازال فى الأحيــــــاء
إلى أن يقول مخاطبا والديه الراحلين :
يا والــــــدىَّ إليــــكما مـن متعــت
برضــــــــاكما مـن طـــــــاعة وولاء
أدت رسـالتها وكــان شـــــــعارها
للكـل واجبـــه بلا اســـــــتثــناء
تصل الجميـع بعطفها وبعفـوهـا
تأســــــو جراح الدهـر فى الضـــــراء
إلى أن يقول مخاطبا من رحل من أبنائه قائلاً :
يـافلـذة الأكبــاد هـذى أمكـم
جـاءت إليكم بعد طول عـــناء

قد شـقها ألـم البعــاد فرحّبـوا
بعروجها واسـتمتعوا بلقــــاء
والآن حـان جـزاؤها فتهيـــؤا
والله يجزيـها بحســــــن جــزاء
ثم يخاطب فى النهاية ربه ويقرر رضاؤه عنها ويدعو لها بالعفو والمغفرة فيقول :
يا رب عنـها قد رضيـت وإننـى
أدعوك ربـى يامجيــــب دعــائى
ترضـى وتغفر ذنبها وتزيد فى
إحسـانها يا واهــــــب النعمــــاء
ولنتأمل معا قوة ومتانة الصورة الشعرية عندنا شاعرنا الكبير فالصورة الشعرية هى أهم مقومات القصيدة العربية وهى التى تميز بين النظم وبين الشعر وكلما ارتقت الصورة الشعرية فى كلام ما كلما ارتقى هذا الكلام إلى مستوى الشعر ولكى تكون الصورة الشعرية قوية ومؤثرة لابد وأن تكون جديدة وطازجة وغير متداولة ومن أروع الصور الشعرية فى هذه القصيدة البيت الذى يقول فيه :
إن لم يجئ دمعـى لفقدك من دمى
فمن الـذى أولـى بســـــــيّل دمـائى
أى أنه يريد أن يقول إذا لم أبك دما عليك فعلى من إذن يكون البكاء ولنتأمل معا هذا الاستفهام التعبيرى الذى يؤكد علي أنها هى الوحيدة فى هذا الكون التى تستحق بكاؤه الدموى ، وهنا صيغة مبالغة لتقريب المعنى وتقويته لدى القارئ وصور المبالغة ليست جديدة فى الشعر العربى قديمه وحديثه وأذكر فى هذا المجال صيغتين للمبالغة فى الشعر العربى القديم مع اختلاف الجو النفسى لكل قصيدة فهذا شاعرنا القديم قيس يحدث أصحابه وخلاّنه عن معشوقته ليلى العامرية فيقول فى صورة شعرية رائعة تعتبر من أقوى الصور الشعرية فيقول :
ولما تلاقينا على ســفح ربوة
وجدت بنان العامريـــــة أحمرا
قلت خضبت الكف بعد فراقنا
قالت معاذ الله ... ذلك ما جــــرا
ولكنى .. لما رأيتـــك راحــــــلا
بكيت دما حتى بللت به الثرى
مسحت بأطراف البنـــان مدامعى
فصار خضابا بالأكف كما ترى
وكما قدمنا هناك اختلاف للجو النفسى لكل قصيدة فشاعرنا " عبد الفتاح زكى المرصفى " يبكى دما لفراق زوجته التى رحلت إلى السماء أما ليلى العامرية فبكت دما عند فراق حبيبها قيس فى لقائهما الأخير :
وتحضرنى أيضا فى هذه اللحظة من الكتابة صورة بلاغية أخرى لا تقل روعة وجمالا وتأثيراً عن صورة شاعرنا الكبير " عبد الفتاح زكى المرصفى " ولا عن صورة شاعرنا القديم قيس فى محبوبته ليلى العامرية .
ولنتأمل معا هذه الصورة للشاعر الفارسى الكبير " مهيار الديلمى " حيث يقول فى جو نفسى مغاير مخاطبا أحبته على البعد :
اذكرونا مثل ذكرانا لكـم
رب ذكـــــرى قربت من نزحا
اذكروا صبا إذا غّنى بكــم
شرب الدمع وعاف القــــــدح
فشاعرنا الفارسى يؤكد فى صورته السابقة أنه عندما يغنى لحبيبته على بُعدها فإنه يزرف دمعـاً يشربه بديلا عن أقداح الخمر .
هذا هو الشعر وهؤلاء هم الشعراء وهذه هى الصورة الشعرية عند شاعرنا بروعتها وجمالها وأحكام صياغتها وقوة تأثيرها .
ولنتأمل صورة شعرية أخرى فى قصيدة شاعرنا " عبد الفتاح زكى المرصفى " فى نفس القصيدة حين يقول مخاطبا زوجته الراحلة :
أنت التـى أرضيت عنى عيشــتى
و بذلــت فى هذا أتـم رضـــــــــاء
والمألوف أن يقول أنتِ التى رضيتِ عن عيشتى وبذلت فى هذا الجهد ولكنه عكس الصورة لكى تأتى فى أروع الصياغات الشعرية حيث يقول هى التى جعلت عيشته ترضى عنه أو بمعنى أكثر رحابة هى التى جعلت الدنيا ترضى عنه وتبتسم له وفى هذه الصياغة العكسية للصورة تقوية للمعنى وتقريبـه إلى
المتلقى بما يهز القارئ هزاً شعرياً ممتعاً وهذا هو الشعر وهذه هى الصورة الشعرية الباعثة للهزة الشعرية التى يقول فيها الشاعر مؤكداً أن هذه الهزة الشعرية هى التى تصاحب الشعر الحقيقى فيقول :
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه
فليس خليـقا بأن يُقال له شــعر
ويقول الشاعر الكبير نجيب سرور حول الهزة الشعرية أيضاً ولكن بالعامية المصرية : الشعر مش عامى وفصيح / الشعر لو هزّك بقى الشعر بصحيح
ثم نأتى إلى نهاية هذه القصيدة حيث يقرر شاعرنا فى نهاية رثائه لزوجته بأنه راض عنها تماما داعيا الله عز وجل بأن يرضى عنها ويغفر لها إنه سميع مجيب الدعاء .
نحن ما زلنا نحلق حول الصورة الشعرية عند شاعرنا وننتقل إلى زفرة رثائية أخرى قدمها فى رثاء أمه بعنوان : " ما زال الفؤاد مناديا أماه " فى ص 42 وكما تعودنا معا فى هذا الطرح التحليلى المتواضع سوف أجتزأ بعض الأبيات من تلك القصيدة ولنتأملها معاً :
أمـاه هل يشــــفى بكـائى علـتى
مازلـــت أبكـى والفــــؤاد عليـل
قد كنت أجـزع من بعـادك لحظة
كيف التَّصبُّر و البعــاد طويــل
أمـــــاه ما زال الفـــــؤاد مناديـاً
لمَِ لـمْ تجــيبى إنـه مشـــــغول
أمـاه يا رمز الحنـان فما الـــــذى
ألهــاك عنـى هـل أتـاك رســـول
و الله مــــــــالى بعد أمـى عيــشة
ترضى الفــؤاد ولا الجميـل جميـل
مـات الذى أحيـا الدمـــوع بفقده
وأصـــابنى مما بليـــت نحـــــــول

ما كنـت أمـا يا حيــــــــاتى إنـما
قد كنت نبــعاً للســرور نبيـل
أُمـــــــاه يا رمز الحنـان تعطـفى
كيف السـبيل أما إليــك سـبيل؟
أبكيــك يا أمـل الحيـاة بدمعـة
أبكـى بكـل جـوارحـــى و أطيـل
وبعد أن أوردنا هذا المقطع القصير من القصيدة فلنتأمل معا بعداً آخر للصورة الشعرية وهو الاستفهام وأثره فى تقوية الصورة وفى جذب انتباه المتلقى للمعنى وسوف نذكر بعض الاستفهامات فى المقطع السابق على سبيل المثال لا الحصر فمثلا يقول شاعرنا:
هل يشفى بكائى علتى ؟ ويقول كيف التصبر والبعاد طويل ، ويقول : لما لم تجيبى ؟ ويقول : فما الذى ألهاك عنى هل أتاك رسول ؟ ويقول أيضا : كيف السبيل أما إليك سبيل ؟
كل هذه الصيغ الاستفهامية وغيرها لها دور فعال فى تقوية المعنى وإبراز الصورة والصعود بالكلام إلى مستويات الشعر العليا فمثلا عندما يقول :
أمـاه يا رمز الحنـان فما الــــذى
ألهــاك عنـى هـل أتـاك رسول؟
وهو فى هذا البيت يعبر عن قسوة الفراق ومرارة البعد ويستفسر من أمه ثم يرد هو بنفسه على الاستفسار قائلاً هل أتاك رسول ؟ نعم يا شاعرنا الكبير أتاها رسول الموت ليصعد بها إلى جوار ربها إذن فالسؤال ثم طرح الإجابة يمثلان نوعا من التشويق للقارئ وتهيئة الجو النفسى له بما يضئ إحساسه بالصورة الشعرية وبما يضمن روعة الهزة الشعرية كما قدمت فى موضع سابق .
وننتقل إلى زفرة شعرية أخرى من قصائد الرثاء لشاعرنا الكبير " عبد الفتاح زكى المرصفى " لندلل منها على قوة الصورة الشعرية لدى شاعرنا وهى قصيدة بعنوان " وجدناك إنسانا فريدا " يرثى بها الشيخ نادى محمد نصر حيث يقول فى ص 58 مخاطبا الشيخ نادى محمد نصر :
وكنت المســــتجيب بلا رجــــاء
لنجـدتنا تخف وما انتـــــظرتـا
و جدنا فيـك إنسانا فريــــــدا
قريبـا رغم أنـك قد علـــــــوتا
كميل الشمس يدنيها شعاع
و يعليها المقـام كـذاك كنتا

و كم خرجت من جيـــــل وجيـــل
فلا صلفاً و لا كبـراً حـويـــــــــتا
أبوك له من القـرآن فضـــــــــلُُ
و فضل أبيك يا نـادى ورثـــتا
وقد كنـت المعلم والمربــــــــى
بأسـلوب بما فيـه انفــــــردتا
جعلت طريـقة التدريـــــس فنا
بهذا الفن أسـتاذى اشـــتهرتا
مشـاكلنا تجيئـــــك كل وقت
فتقضى ما مللت وما احتجبـــــتا
و بالقسطاس تحكم لا تحـــابى
وحتى من لأسـرته انتســـــبتا
وداعـا يا أبـىُّ فكــــــــل حــــــى
من الدنيا سيشرب ما شـــربتا

و يبقى وجه ربك ذى الجــــــلال
فبا لفردوس يا نــــادى نعمـتا
و للتـاريخ ذكراكـــــم بفخــــر
وهـا هو ذاك يثبت ما أتيــــــتا
عليك من الجميـع ثناء صـــــدق
ويرحمك الإلـه كما رحمـــــــــــتا
ويـــــا أهلى ويا بلـــدى عـــــــزاء
سيصبح كل من فىالأرض موتى
فهذا حال دنيــانا فصَبَــــــــرْاً
ويا نسل الفقيد لـنا ســلمتا
ولنتأمل الصورة الشعرية الرائعة فى البيت الثالث من المقطع السابق الذى يقول فيه :
كميل الشمس يدنيها شعاعُ
ويعليها المقــام كذاك كنتا
كأنه يريد أن يقول أنك كنت متوهجا ببيتنا كقرص شمس تدنو منا بشعاعك إذا طلبناك ولكنك تبقى بعيدا علواً ومنزلة ، إن هذه الصورة التى تتخذ من قرص الشمس محوراً لها صورة غاية فى الجدة والقوة والتأثير فهو متوهجا كالشمس قريبا منا بشعاع مثل شعاع الشمس بعيداً بمقامه الذى يشبه قرصها علواً ومنزلة مقام الشمس أى أنه بعيدا كمقام الشمس قريباً كأشعتها أنها صورة شعرية رائعة نستدل بها على قوة التصوير الشعرى لدى شاعرنا ونبرهن بها على القدرة الخلاقة لديه فى صياغة الصورة الشعرية عندما تحتاج قصيدته إلى ذلك .
ولم يقتصر " عبد الفتاح زكى المرصفى " فى رثاءه على أهله وأصدقائه ومحبيه وإنما تعدى ذلك إلى رثاء الشخصيات الدولية من حوله والتى كانت لها مواقف مشرفة على المستوى المحلى والعالمى وهذا بلا شك يعكس ثقافة هذا الرجل ومدى تفاعله مع القضايا الدولية من حوله فها هو يرثى الزعيم الأفريقى باتريس لمومبا رئيس دولة الكونغو فى بداية الستينات والذى اغتالته أيادى الغدر والخيانة فى ذلك الوقت بقصيدة عنوانها " قتلوك غدراً " ص 77 وكعادتنا فى هذا البحث سوف نورد بعضا من أبياتها لنتأملها معا حيث يقول مخاطبا هذا الفقيد الأفريقى الكبير :

باتريس فى كبدى لقتلك حرقة
تطفو على قلبى الجريـــــــح ونار
ما أنت فى نسبى ولكن للأســـــى
عينى تسـيل و دمعـــــها مــدرار


ما سال دمعى يا لمومبا لقتــلكم
كأس الحِمام على الــــــــورى دوار
لكن لجبن القاتليـن وغــــــدرهم
يا قاتـلون و منكم الأحـــــــــــرار
قتلوا بك الأخلاق فى أوج العــــــلا
قتلوا الضمير و لطخوه وجــــــاروا
ما كنـت ياكنغو الجـدير بعـزه
إن لم تُفجّر حـوله الأنهــــــــــــــار
دمك الـزكى معلق برقـــــــابهـم
وعبيد بلجيـكا كسـاها سُــــعار
قتلوك غدراً يا لمومبا وضـــــللوا
جـــــــاؤا بحجــــة أنهم أنصـــــــار
إلى أن يقول فى نهاية القصيدة مخاطبا شعب الكونغو :
يا شعب كنغو لا تمكن غادراً
من سلبكم لا يعتريك شــجار
إياك تضعف أو تهــون لما أتى
ومجزنجا فيكم باســلُُُ مغـوار
حلت به روح الزعيــم فباركوا
هذا الرئيـــــــس فعــــزمه جبـار
هيا اجمعوا من شأنكم وتآلفوا
فالحـق دومـــــا ســـــيفه بتـار
ولنتأمل البعد الإنسانى لدى شاعرنا الكبير حينما يقول مخاطباً الرئيس باتريس لمومبا قائلاً وإن كنت لست من نسبى العربى الإسلامى إلا أننى حزنت كثيرا وانتابنى الآسى لهذا الغدر الذى أحل بكم .
ويؤكد هذا البعد الإنسانى لديه حين يقول فى البيت الثالث من المقطع السابق مخاطبا الزعيم الإفريقى الكبير أنه لم يحزن لقتله بقدر ما كان حزنه الشديد على الخيانة التى ألمت به لأن الموت كأس لابد وأن يتجرعه الجميع وهذا يعكس البعد الإيمانى لدى شاعرنا وإيمانه بالقضاء والقدر وبالفلسفة الحقيقية للموت ثم يأتى إلى نهاية المقطع مخاطباً شعب الكونغو ومحذراً إياه من الضعف والفرقة ومحفزاً على مساندة الزعيم الوطنى الجديد " مجزنجا " والالتفاف حوله حتى يستكمل المسيرة نحو التحرير ومؤكداً أن الحق دائما سوف ينتصر فى النهاية بإذن الله تعالى .
وأخيراً ومع آخر زفرة من زفرات هذا الديوان قصيدة بعنوان " مرارة الفقدان " ص 58 يرثى فيها صديقه أ.د/ عبد الحميد حشيش أستاذ القانون الدولى فيقول مخاطباً الفقيد :
يعز علىَّ بأن يكــــون بيـانى
لرثاء خلًٍّ خطبه أضنــــــــــــانى

قد كنت أرجو أن يكون لفرحه
لا أن يكون اليوم للأحـــــــــزان
واليوم تفجعنا المنية فجـــأة
فى واحدٍ من أعظم الخــــــــــــلان
فلقد مضى عبد الحميد بسرعة
فالقلب ذاق مـــرارة الفقــــدان
عبد الحميد لك النعيم بجنـةٍ
ولنا الأســــى للبعد والحرمــــان
عذراً إذا ضعف اصطبارى يا أخى
مالى على وقع الخطـــوب يـــدان
إنى انتبهت على رحيلك فجأة
وجلال خطبك يا أخى أعيـــــانى
سيظل طيفك فى خيالى دائـماً
فى العين بل فى القلب والوجدان

ما بال ركبك قد تحــول فجأة
بدل السرور يجيئ بالأحـــــزان
الله يعطيك الجزاء بفضــــــــله
وبقدر ما قدمت للأوطــــــــــــان
ولأنت حىُّ عند ربك آمــــــــــــنُُ
فتمتع فى جـنة الرضــــــــــوان
والله نسأل أن يجود لأهلكــــم
ولمرصفا بالصبر والســــــــلوان
نخلص مما تقدم أن شاعرنا الكبير " عبد الفتاح زكى المرصفى " كان يعرف قدر كل من يرثيه وهذا هو أهم أسباب قوة قصائده وبعد تأثيرها فقد كان محباً للجميع تربطه بهم روابط الود والصدق والإخلاص كما أنه ولشدة تأثره بفقدهم وللبعد الإنسانى العميق بداخله ولثقافة الوفاء التى كانت متأصلة فى أعماقه كان يجد نفسه يتألم شعراً ويبكى شعراً ويودع شعراً ويشيع شعراً أو بمعنى أشمل وكما قدمنا من قبل كان هذا الرجل يتنفس شعراً وينهل شعراً ويتغذى شعراً وأن عطاءاته الشعرية لهى أروع ما قيل من شعر وعلى وجه الخصوص قصائده فى الرثاء لقد كان رحمه الله كملكة النحل تفرز شهدا جمعه من بساتين الأدب ومن روابى الحياة المثمرة التى تربى عليها على امتداد عمره العامر .
ولقد كان رحمه الله الصندوق الذى يجمع فيه كل نفيس وغال فى هذه الدنيا .
لقد كان رحمه الله يمثل طاقة شعرية متدفقة وخلاقة كما كان يملك قدرة مدهشة على التحكم فى موسيقى الشعر وفى صياغة صوره الشعرية بصدق وإحكام .
لقد كان رحمه الله يملك نفساً شعريا طويلا ومتدفقا قلما تجده فى أقرانه من الشعراء وقد بدا هذا واضحا فى قصائده بشكل عام .
كل هذا وتلك قدرات إبداعية خاصة لا تتوافر إلا لأمثاله من الشعراء الأفذاذ .
ألستم معى وبعد هذا الطرح النقدى المتواضع لبعض من قصائده من أننا أمام شاعر بألف شاعر .

الحكمة والبعد الفلسفى فى شعر " عبد الفتاح زكى المرصفى "

ولا يخلو شعر شاعرنا الكبير وخصوصا شعره فى الرثاء الذى نبحث فيه الآن من روائع الحكمة ومسك الفلسفة .
ولنتأمل ما يقوله على سبيل المثال فى ص 31 من القصيدة التى يرثى بها زوجته " يا طيف الحبيبة قل لها " مخاطبا نفسه قائلاً :
يا نفس إن المـرأ أفـرغ كأسـه
وقضى عليك الدهر أن تتجـرعى
يا نفس إن الدهـر هـذا شـــــأنه
فمن الزمان وشأنه لا تجـــــزعى
يا نفس إن المـوت حـقُُ واقـــــع
فاستقبليه مع الرضا واسترجعى
يانفس إن حبيبتى هى فى رحاب
الله جل جلاله فاســـــــــــتودعى

يا نفـس إن الله يطـفئ نـارنا
فهو الرحيم و فضله لم يمنـــعِ
وهنا فى خمسة أبيات متتالية تبوح بالحكمة وتفيض بالطرح الفلسفى يستجمع الشاعر كل مخزونه المعرفى والإيمانى لكى ينظر لما حوله وما يحدث له من ابتلاءات الدهر نظرة فلسفية تأملية تموج بالثراء الإيمانى العميق فشاعرنا هنا وبعد أن تجرع الفقد وهضم طعم المرارة فاق إلى رشده واستجمع إيمانه وثقافته وخبراته الحياتية مخاطبا نفسه كأنه يواسيها على مصابها الأليم ويسدى لها الحكمة والنصح والإرشاد ولكن فى حقيقة الأمر هو يواسى نفسه ويهدئ من روعها من خلال الحوار الفلسفى بينه وبين نفسه ويمكن القول هنا بأنه لا يخاطب نفسه فقط وإنما يخاطب النفس البشرية بشكل عام وكأنه يمارس دوره فى الحياة كواعظ وخطيب ولكنه هنا يتخذ من شعره منبرا خاصاَ لذلك الوعظ ، فالموت فجيعة عامة ولما لا وهل هناك من يستطيع الإفلات من ملك الموت وصدق الشاعر الذى يقول :
مهما نعيش فإن المــــــوت يحصدنا
كالمنجل الفذ لا يبقى سـوى الحفرِ
فالموت درس وليت النـــاس تدركه
لم يخـــــش ملكاً ولا صنفا من البشر
واستمرارا مع هذا الطرح الفلسفى فى إبداع شاعرنا نتأمل ما يقوله فى ص 51 من قصيدة بعنوان " مات الذى نفع البلاد " الذى يرثى فيها الأستاذ / عبد الفتاح السيد عجمى عضو لجنة طبع وتصحيح المصحف الشريف بالسعودية والذى توفى بالأراضى الحجازية وقبر بها حيث يقول :
قالوا غريب قلت لست بغــربـــة
دار النبى مـراد كـــل جنــــــــان
وكذا جهـادك فى الحقيـقة إنه
هو والذى بالســيف مســـــتويان
لم لا وأنت من الذين تربصــــــوا
بذوى الهــوى والغش والبهتــان
ورجــاؤنا فى الله يضـعف أجــــره
وجميع ما فـوق البسـيطة فــــان
فهو يؤكد من البيت الأول أن الموت فى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمل ومراد كل أصحاب العقول والقلوب المؤمنة ، وإن الجهاد بالحرف لا يقل عن الجهاد بالسيف .
ثم يأتى إلى البيت الأخير ليسوق حكمته التى تقول بأن كل ما على الأرض إلى فناء بإذن الله مصداقا لقوله تعالى فى سورة الرحمن :  كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام صدق الله العظيم
وانظر إلى النصف الثانى من البيت الأخير وكيف استطاع شاعرنا أن يصبغ هذه الحكمة بهذا الطرح الفلسفى والإيمانى الرائع .
لنتأمل أيضاً كيف يمكن لهذا البعد الإيمانى أن يهدئ من مرارة الفقد ومن هول الفجيعة .
إن الإيمان والصبر والحكمة والبعد الفلسفى فى فكر وعقل شاعرنا يجعله يأتى فى النهاية بالبلسم الشافى لكل ما تجرّعه من أحزان وأشجان كأنه يبحث فى داخله عن دواء لكل داء .
وعلى نفس المنوال وانطلاقا من نفس البعد الفلسفى والإيمانى الذى نبحث فيه نقرأ من قصيدة " وجدناك إنسانا فريداً " ص 61 والتى يرثى فيها صديقه الشيخ نادى محمد نصر الأبيات الذى يقول فيها :
وداعـا يا أبـــــــىُّ فكـل حـــــــى
من الدنيا سيشرب ما شـــربتا
ويا أهلـــــى ويا بلـــــــــدى عـزاء
سيصبح كل من فىالأرض موتى
وكأنه يريد أن يقول من منطلق الحكمة ومن منطلق التصبر لنفسه ولغيره إذا كان كل من على الأرض سوف يشرب من كأس الموت عاجلاً أو آجلاً وإذا كان فى نهاية الأمر كل من على الأرض سيصبحون موتى فلما إذن الجزع والحزن من قضية الموت .
واستمرارا فى الطرح الفلسفى فى تجربة شاعرنا الكبير " عبد الفتاح زكى المرصفى " نتأمل ما يقوله من قصيدة " ذكراك يا محروس " ص 17 فى رثاء ابنه وفلذة كبده حيث يقول :
على دنيـــاى لا أبكـى فإنـى
حرمت متاعها وعرفت بأسـى
خبرت بلاءها و شببت عمـرى
على الأحزان من قدمى لرأسـى
إذن فلماذا يبكى على الدنيا وقد علم بنصيبه منها منذ أن فقد ابنه الوحيد محروس .
فقد حُرم بذلك متاعها وخبر بلاءها وانعدم حظه فيها ولماذا يبكى عليها وهو الذى قد شب على الأحزان من قدمه لرأسه فهى إذن لا تستحق كل هذا البكاء .
وأخيراً ألم أقل لكم أعزائى القراء بأن شاعرنا الكبير يجند كل طاقاته الإيمانية والثقافية والفلسفية بل يجند كل خبراته الحياتية من أجل تخفيف دموعه وتطييب نفسه .
حقا إنه لشاعر كبير وإنسان شفيف خليق بأن نقول عنه بأنه شاعر بألف شاعر .

تقبلوا خالص تقديرى

رفعت المرصفى
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف