الأخبار
الهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينيةمستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية مشددة من قوات الاحتلالعائلات أسرى الاحتلال تطالب الوفد بتسريع إنجاز الصفقة خلال هذا الأسبوع
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

المدينة السعيدة بقلم: محمد احميمد

تاريخ النشر : 2015-08-14
المدينة السعيدة

لو تأملنا بعقولنا، ونظرنا إلى الحياة الإنسانية المعاصرة، ووقفنا أمام الظواهر الاجتماعية والتطورات الحاصلة، والتقلبات الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ومعايشة الأزمات والصراعات والمعانات؛ التي يواجهها الإنسان المعاصر داخل مجتمعه وفي مدينته، وأمام صنوف من الصور والمشاهد والألوان التي نصادفها في الطريق، لَقضَينا منها عجبا، ولَلَقِينا في وصفها تعبا.
وإزاء كل ذلك نسأل؛ كيف يمكن للإنسان أن يبني رؤيته الصحيحة حول الحياة، والخروج من الأزمة، وإحداث المجتمع السليم، وإقامة المدينة الكاملة، وما هي الحلول الناجعة لذلك لكي ينال الإنسان كماله ويحصِّل سعادته؟

• طغيان الجانب المادي على الجانب القيمي :
إذا درسنا مجتمعنا ومدينتنا، وتأملنا في جماعات الناس واطلعنا على سَيْرهم فيها، فسنجد صنوفا وأنواعا من السلوكات والممارسات، وحالات من المشاعر الضيقة الحرجة، والأمزجة المتخالفة، ونزاع الناس مع بعضهم البعض؛ من أجل تحقيق المصالح والوصول إلى الغايات، المشروعة وغير المشروعة، وكون الناس يتوقون إلى كمالاتهم وإلى تحصيل سعاداتهم، فإنهم اعتمدوا وسائل شتى للوصول إلى تلك الكمالات، وتحصيل تلك السعادات، فتراهم يسعون في الأرض لتحقيق غاياتهم، باحثين هنا وهنالك، فمنهم من يبحث عن معاشه ومتطلباته الحياتية، ومنهم من يرغب في الاستزادة من توفير مقتنياته تحقيقا لرغباته الجسمانية، ومنهم من يبحث عن السلطة والقوة، ومنهم من يبحث عن الجاه والوجاهة الاجتماعية، فهم طَرائق قِدَدا، يطلبون الكمالات وتحصيل السعادات، لكن القليل منهم تحصلت له تلك السعادة، وأدرك معناها، وعرف حقيقتها، وهذا يظهر لك من جو المدينة التي تقيم فيها، فالطابغ الغالب عليها هو البؤس والشقاوة في الغالب الأعم، بسبب تعقد الحياة من جهة، وتبدل القيم الإنسانية من جهة أخرى، وسيطرة الأنانية على المجتمع، وانتقال الصراع المجتمعي داخل المدينة إلى البيوت، وتحوله من صراع خارجي إلى داخلي أيضا؛ فأصبح حاضرا بين الأسرة الواحدة، والعائلة الواحدة، بسبب طغيان المصالح والمنافع وفقدان الانسجام بين أفرادها، واضطربت البيوت وخلت من السكينة، وفُقِدَت المودة والتراحم بين الأزواج، وانتفى البر بين الآباء والأبناء، والحب بين الإخوة والأخوات، وانقلبت الموازين، وكثر الفساد، وندرت الأعمال الصالحة بين الناس، وغلبت عليهم الأعمال الفاسدة، وفقدت الحياة طيبتها، فنزل بالمدينة الشقاء، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[سورة النحل: 97]
إن الصراع الذي يعيشه الإنسان اليوم داخل المجتمع والمدينة والبيت، هو صراع بين المصالح والمبادئ، صراع بين الجسد والروح، بين المادة والمعنى، بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، ولقد أصبحت مهمة الإنسان ومسؤولياته وطموحاته متابعة التطور المستمر لوسائل الحياة، والحصول على متطلبات الغريزة، حيث وجَّهَ الإنسان تطوره وِجْهةً سلبية افقدته من خلالها إنسانيته وشعوره بالحياة وتجلياتها القيمية، وأصبح الحديث عن السعادة بمعناها الإنساني ضربا من الخيال، ودعوةً إلى العيش في اليوتوبيا، وإذا ما تأملنا جيدا فإننا سنجده يعيش في الديستوبيا حقيقة –وهو المكان السئ والمخيف- إذا ما أردنا تفعيل مثل هذه المصطلحات.
وأمام هذه الأزمات والصراعات، وفي ظل الشقاء الذي يعيشه الإنسان اليوم، وانعدام سعادته وكثرة اضطرابه وقلقه؛ أصبح الإنسان يصف المدينة بالوحش الذي يأكل أبناءه، ويقض مضاجعهم، بعدما أن كان قد أحدثها لكي يحقق استقراره وينال خيراته، ويححق كماله ويحصل سعادته، فعلى أهل المدينة في مثل هذا الحال أن يفكروا في التخلص من توحشها بإرادة التغيير والإصلاح.

• المتاجرة بالسعادة وبيع الوهم :
السعادة التي يطلبها الإنسان اليوم هي سعادة مزيفة، سعادة عبارة عن منتج صناعي كباقي المنتجات الصناعية، يتاجر بها أباطرة المال والإعلام باتفاق مع رجال السياسة، الجهات المتنفذة في المجتمعات، ويُسَوِّقونها عبر أدوات الإشهار ووسائل الإعلام لكي يغروا الناسَ بذلك، ويحركوا قوتهم الشهوية التي تعمل من أجل تلبية متطلبات الغريزة، وسلب عقولهم من خلال أدوات الإلهاء والتضليل، وإفقادهم القوة العاقلة وإبعاد جانب الوعي عنهم، وثنيهم عن التفكير العاقل والتفاعل الإيجابي داخل المجتمع، حتى يتسنى لهم التسلط عليهم، والانتفاع بهم وتوجيههم كيفما أرادوا، إلى أية غاية ذميمة شاؤوا، وبذلك يتحكمون في المجتمعات الإنسانية من أجل منفعتهم الشخصية ومصالحهم السياسية والاقتصادية، وهم من جانب أنهم يغرونهم بالمنتجات الصناعية ووسائل الإلهاء، فإنهم يمنعون عنهم موجبات اقتناء الضروريات وحاجيات العيش؛ بالتضييق عليهم في الجانب المالي، فيرهقون كاهلهم بالمصاريف اليومية، وقصم ظهورهم بالغلاء، بالإضافة إلى الإغراء والإلهاء الممارس في حقهم، حتى لا يفكروا في شئ آخر غير هذا، وبذلك تتمكن فئة قليلة من التحكم في الفئات العريضة في المجتمعات والمدن.
ولن ينال الناس كمالهم إلا بالتخلص من هم الحصول على لقمة العيش، وسلطة الإغراء والإلهاء الممارس في حقهم، ونبذ الأنانية والمنفعة الشخصية عن المجتمع، وهذا لن يتأتى إلا بالقضاء على الجهل أولا، وتفعيل دور العقل ليستقيم التفكير الإنساني، فما أسهل التحكم بالمجتمعات والناس حينما توجههم بالقوة الشهوية، إلى ما يُستلذ لهم من مطعم ومشرب وملبس، وما تدعو إليه متطلبات الغريزة، ومنع القوة العاقلة والتفكير عنهم، وإلهائهم وإضلالهم عن التمييز ما بين الصواب والخطأ وما بين الحق والباطل.
وكما قلتُ فإن السعادة أصبحت تُعرض ضمن منتوجات تُباع وتُشترى، وتُمثَّل فقط في الاستمتاع باللذة، من الأكل والشرب والملبس، وتلبية رغبات الغريزة، وجعل اللهو والهزل غاية في نفسها؛ لا أنها وسائل للترفيه عن النفس تفرضها الحاجة، والحاجة عند العقلاء تُقدَّر بقَدْرها، وكل ما جاوز حدَّه إنقلب إلى ضده، ولذلك السعادة عندهم؛ تكمن في الانغماس في حالات الجسمانية، لا أنها حالة شعور نفسي داخلي تتجلى في الرضا، والاطمئنان، والمحبة، والحكمة، ومعرفة الكون والحياة، وما ينبغي فعله وما ينبغي تركه، وإدراك الإنسان لذاته، ومعرفته مبدئه ومنتهاه، لينال سعادته في الدنيا والأخرى.

• ضرورة الوعي بالتغيير :
لكي تكون حياتك سعيدة ومجتمعك سعيداً ومدينتك كاملة؛ لا ينبغي الاكتفاء بالنظرة المادية وحدها للحياة والمجتمع والمدينة، بل لا بد من الموازنة بين المادة والمعنى بين الجسم والروح، وأن تعمل على توفير شروط السعادة لك ولأهلك وجماعتك، فيتحقق بذلك كمالك كإنسان، ولكي تصل إلى هذا؛ لا بد من الوعي بضرورة التغيير، ولا بد من تفعيل دور الروح والعقل والتفكير الصحيح من أجل بناء المجتمع الإنساني السليم، فأكبر من يخذل الإنسان هو الجانب الجسماني منه، وفي تفعيل دور الروح يكون خلاصك من سجنك.
الإنسان في هذه الحياة المعاصرة التي يحياها داخل المدينة فاقد الروح والعقل، والأزمة ليست أزمة معيشة بالدرجة الأولى؛ بقدر ما هي أزمة روح وعقل، فالإنسان أصبح يبحث عن الأكل والشرب والملبس ومتطلبات الغريزة فقط، كل هذا ضروري، لكن عندما يسيطر هذا الجانب فقط على الإنسان؛ يفقد إنسانيته، وكل ذلك يمكن تحقيقه إذا فكر بعقله، ووافق ما بين الجسم والروح، وحِرْص الإنسان الكبير على الاستغناء المادي؛ أفقده جانب عقله وروحه، مما جعله يشقى في هذه الحياة.

• نشأة المدينة :
لقد قيل إن الإنسان كائن إجتماعي بطبعه، وأيضا مدني بطبعه، وكونه كذلك فإنه عمل على خلق مجتمعه، بتأسيس روابط عائلية، وإحداث علاقات إجتماعية، من شأنها أن تسهل عليه حياته، ويصل إلى كماله المنشود، ويحصل بذلك سعادته، ولا يتحقق كل ذلك إلا بتوفير الضروريات من الطعام واللباس والسكن، ومتطلبات الحياة، وهي أقل ما تؤدي إلى الكمال الإنساني من حيث الضروريات الطبيعية.
فبعد أن كان الإنسان كائنا بدائيا؛ يعيش على صيد الحيوان، والتقاط الثمار؛ ليقتات بها كي يحافظ على بقائه، ويتخذ لباسه من أوراق الأشجار وجلود الحيوان، ويسكن الكهوف، بدأ يوظف بعضا من مهاراته التي ألزمته الحاجة إلى تعلمها، والوصول إلى تملكها، والقيام بالأعمال من أجل توفير ضروريات الحياة، بما يناسب إنسانيته، ثم إنه وطن نفسه على الاجتماع، وكونه عاقلا فإنه يفكر، ومن نتائج التفكير التطور، وبذلك طور أسلوب حياته وهيئته الاجتماعية. وكما أن الفرد من الناس له مهارات كان قد قام بتطويرها واستخدامها في ممارسات أعماله؛ فإنه أيضا محتاج في جماعته لمهارات الآخر وعمله، وبذلك يكون الناس جميعا في مجتمع كالبدن الواحد يكمل كل عضو فيه عضوا آخر.
وهذا الاجتماع بهذه الهيئة هو الذي يعطي المدينة ويدعو إلى نشأتها، وذلك بسبب التطور الحِرفي والصناعات التي إخترعها الإنسان ليسهل بها حياته، وكون الإنسان كائنا إجتماعيا بطبعه؛ فإن كلا من الناس محتاج بعضهم إلى بعض، ومكمل بعضهم بعضا، لما يستلزمه تجمعهم من تحقيق كل منهم حاجات الآخر، وإذا كانت الحِرف والصناعات، وأنواع الخدمات والمعاملات والعلاقات؛ هي التي تعطي الهيئة الاجتماعية، وأن نظام المجتمع يشبه في نظامه وتشكيلته نظام البدن؛ حيث كل عضو فيه يحتاج إلى عضو آخر لتستقيم حياته، فإن هذه الهيئة هي التي أعطت المدينة، لِما يمكن أن ينال الإنسان فيها من خيرات وتحقيقه الكمالات، وتحصيله السعادة.
وأقل ما يمكن توافره لتستقيم الحياة؛ هو توفير الضروريات، ثم الحاجيات لينال الإنسان كمالاته. والإنسان لا ينال كماله ويحصل سعادته إلا يتوفير كل حاجاته.
والإنسان هو القطب الذي تدور عليه حركة المدينة، وهو الأصل الذي أنشئت من أجله ليصل إلى غاياته المنشودة، والمدينة هي حاضرة المجتمع الإنساني، وميدان التجارة، وما يقتضيه المعاش، والإنسان لا يزاول عمله، ولا يفعل أشياءه إلا لأجل غايات هو يراها، ويرغب الوصول إليها، ولا بد من تحديد تلك الغايات، فليس كل غاية تحقق الكمال وتحصل السعادة. والناس مختلفون في تحديد هذه الغاية؛ ما بين الاستكمال المعنوي والاستكمال المادي، لكن الحكماء يروت أن الكمال الحقيقي للإنسان هو في الاستكمال المادي والمعنوي معا.
إن البحث عن الكمال المفقود والسعادة المرجوة هو الذي دفع الإنسان في أن ينشئ المدينة، ويتفنن في عمارتها، وييسر فيها عيشه قدر الإمكان؛ لينال فيها كماله ويُحصِّل سعادته، وللوصول إلى هذه الكمالات وتحصيل تلك السعادة؛ لا بد وأن تُدبَّر المدينة بالحكمة، فإذا كانت سياسة المدينة من أجل أن يجد فيها الإنسان أمنه، ويحفظ نفسه وسلامته، ويوفر كل ضرورياته وحاجياته وتحسينياته له ولأهله، وينال بذلك كماله وسعادته فلا بد وأن تكون الحكمة على رأس المدينة.

• السعادة :
السعادة لفظة مفهومة الدلالة للعموم، ومعناها مستحضر عند جميع الناس، وتعتبر السعادة أقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان، فلا يوجد شئ بعدها يطلبه الإنسان، ولذلك فهو يبحث عنها، وبوسائل مختلفة من أجل تحقيقها، وضد السعادة الشقاوة، والإنسان إما سعيد أو شقي، فثنائية السعادة والشقاوة هي التي ترافق الإنسان في حياته وتلازمه حتى بعد مماته.
وقد اختلف الناس في تحديد معنى السعادة، فمنهم من يراها في اللذة الحسية والشهوة، ومنهم من يراها في الفضيلة والخير الأسمى، وهي لا تُنال إلى بالفضائل النظرية والفضائل الخُلقية والصناعات العملية.
وقد تغير مفهوم السعادة في الحياة المعاصرة، فبعد أن كان مفهومها على الوجه الذي ذُكِر؛ أضحى مفهوما مختلفا، حيث أصبح الناس يبحثون عن تحقيق اللذة والاستمتاع بها لتحقيق السعادة، وذلك لما يسببه الإغراء الجسماني من أكل وشرب ولباس، ولهو وترفيه، وكل ما يدعو إلى تلبية متطلبات الغريزة؛ ظنا منهم أن تلك هي سعادتهم، بينما أوقعت بهم هذه السلوكات السيئة في الشقاء والقلق النفسي، فترتب عن ذلك كثير من الحالات المرضية النفسية، والشعور بالاكتآب لدى كثير من أفراد المجتمع، بسبب إهمال جانب التفكير العقلي السليم، وهذا جرّاء سوء الاختيار؛ الذي لم يكن عن رَويَّة وإدراك للمعنى الحقيقي للسعادة.

وبذلك يمكن القول: إن السعادة هي الاعتدال بين قوى النفس الثلاث، وهي:
1- (القوة) العاقلة المفكرة التي يميز بها الإنسان حقائق الأمور.
2- (والقوة) الغضبية التي بها يدفع عن نفسه المضار.
3- (والقوة) الشهوية التي يجلب بها المنفعة لجسمه؛ لكي يحقق بقاءه.
كل هذه القوى الثلاث إنما هي موجودة في الإنسان ليطلب بها كماله ويصل إلى غايته وهي تحصيل السعادة. والإنسان السعيد هو الذي يحقق الاعتدال والتوازن بين هذه القوى الثلاثة، وكل الشقاوة في طغيان القوتين الشهوية والغضبية، وتعطيل الأهم وهو القوة العاقلة؛ التي يجب أن تؤطر سلوك الإنسان في حياته كلها.
والوصول إلى الكمال لا يتأتى إلا بامتلاك الصفات الإيجابية للفرد، وتحقيق شروط قيام المدينة السعيدة، باعتباره عضوا فاعلا في المجتمع، ومن أجل إنشاء المدينة السعيدة، لا بد وأن تقام على أسس، أهمها:

1. الأمن :
حاجة الإنسان إلى الأمن كحاجته إلى الطعام والشراب، فالإنسان لا يمكن أن يحيا بلا أمن، والأمن نعمة لا بد منها في هذه الحياة، وأول ما يطلبه الإنسان هو الأمن في أي بلد ذهب إليه، وما تأسيس المدن إلا لحاجة الإنسان إلى تأمين حياته، وحفظ سلامته واستقراره، وتوفير معيشته، فاقرأ قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام لما أسكنَ ذريته في واد غير ذي زرع عند البيت الحرام، فأول ما طلب نعمة الأمن، فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾[سورة البقرة:126] ثم بعد ذلك طلب المعيشة والرزق لذريته، وقال: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾[سورة ابراهيم:37]
وكذلك من الله على قريش في مكة بنعمة الأمن، وقال جل جلاله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾[سورة قريش:3-4] وهذا لما للأمن من أهمية كبرى في حياة الإنسان، والأمن يحصل الاطمئنان في النفس، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً﴾[سورة النحل:112]. فالإنسان لا تحصل طمئنينته إلا إذا تيقن من عدم حصول مكروه لنفسه وأهله وماله فيما يستقبل من حياته وزمانه، وذلك باستيقانه من توافر الأمن، وشروط السلامة، وفي الحديث الشريف، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).[21] وقد أعطى الجرجاني تعريفا دقيقا جامعا شاملا للأمن، لا يحتاج بعده لتعريف آخر، قال: " الأمن: هو عدم توقع مكروه في الزمن الآتي".[22]
ومن أجل الأمن شرعت الشرائع ووضعت القوانين ليحفظ للناس حياتهم وأموالهم وأعراضهم، وهو من الضروريات لكي تستقيم حياة الإنسان. والإنسان مفطور على دفع ما يمكن أن يضر جسمه أو أهله أوماله بالقوة الغضبية التي فيه طبيعة، وحتى لا يبقى الإنسان دائما خائفا يترقب ويفكر في هاجس الأمن، إخترع قوانين يحفظ بها أمنه ويحافظ بها على سلامته، حتى يتسنى له الانصراف إلى أعمال أخرى بدل التفكير في الأمن.
وقد اجتهد في اختراع أدوات يحمي بها نفسه من أي اعتداء يمكن أن ينهي حياته أو يهدد سلامته، ونظَّم قوانين وأعرافا تعمل داخل الجماعة، من شأنه أن يحفظ بها أمنه، ويسيطر على كل الأوضاع التي يمكن أن تخل بهذا الأمن، فلتحقيق مدينة سعيدة لا بد من توفير الأمن حتى يعيش الإنسان في سلام بين أهله ومجموعته، وكل من يطمئن إليهم ويأنس إليهم، وهذا ما يجعل منه إنسانا سعيدا، وكون الأمن يساهم في تحقيق سعادة الإنسان؛ فإن المدينة الآمنة تكون مدينة سعيدة.
2. العدل :
وأقصد بالعدل هنا العدل المدني والسلوك الإنساني ومعاملة الناس فيما بينهم، لا العدل بمعناه الحكومي والقضائي، على اعتبار أن العدل حسن عقلا والظلم قبيح عقلا، فالعقل وحده يستقل بمعرفة حسن العدل وسوء الظلم دون الحاجة إلى أمر خارجي، وهذا مما يوجب معاملة الناس بعضهم لبعض بالعدل؛ لأن إدراكه مغروز بالفطرة فيهم، والكف عن الظلم أيضا من دلائل الفطرة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[سورة الشمس:7-8].
فبالعدل قامت السماوات والأرض ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾[سورة الرحمن:7-8-9] فكما أن الله خلق الكون وجعل له ميزانا وعدلا؛ فقد أمرنا بموازنة الأمور، وإقامة العدل في كل شئ، وألا نجاوز الحد ونطغى.
والعدل يكون في الأمور كلها في القول والعمل، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[سورة الأنعام:115].
وفي كل الممارسات التي من شئنها أن تُجرى بين الناس من أجل درك مصالحهم والقيام بأحوالهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[سورة الحديد:25].
ويمكن تفسير العدالة الإنسانية على أنها إنقياد الناس إلى العقل وضبط قوتهم الشهوية والغضبية لكي تستقيم أمور حياتهم وينالون كمالهم ويحققون سعادتهم. فهي إذن حالة للنفس بها يضبط الإنسان سلوكه وفق مقتضيات الحكمة. وبذلك يقوم المجتمع، ويتعايش أفراده فيما بينهم، ويحترم بعضهم بعضا ويتكاملون، ويحسن سلوك المدينة من أجل تحصيل سعادتها.
ولا يمكن أن يتحقق الكمال إلا بالعدل، فهو قوام الحياة، وأساس بناء المجتمع، وعمود المدينة.
وعلى مجتمع المدينة ألا يعتدي بعضهم على بعض في ممارساتهم الإقتصادية والمالية؛ ويستغني بعضهم على حساب بعض بالمصادرة والتملك والبخس، وكل الممارسات غير المشروعة في الأموال والمتاجرة بين الناس في الأسواق والمحلات التجارية والشركات، وكل ما من شأنه أن يحرك عجلة الاقتصاد وحركة الأموال، فمن خلال هذا يبدأ الشر. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾[سورة هود:85]
وذلك بالنَّزوة والنّهم والانفعالات النفسانية، وتغييب العقل؛ فيفشو الظلم، ويجور الناس بعضهم على بعض؛ تحقيقا لرغباتهم غير المشروعة، فمن حق كل إنسان أن يبتغ غايته؛ لكن ليس من حقه أن يعتدي على حقوق الآخرين، وينال من من مقدراتهم المادية والمعنوية.
وكذلك ألا يطغى أحد على أحد، أو يعتدي عليه بسبب انتمائه الديني أو المذهبي، فيجب أن يسود التعايش بين جميع المختلفين؛ ما داموا كلهم ينشدون السعادة، وغاياتهم واحدة هو التكامل والسعي إلى حياة أفضل، ومجتمع متكامل بعيد عن النعرات الطائفية والاحتراب الحزبي المذهبي، وأن يفعِّلوا ضرورةً فيما بينهم المشترك الإنساني والمبادئ الكونية، والالتزام بالفضيلة والعمل عليها، ليعم السلام ويكثر الخير فيهم جميعا، فليست السعادة لأمة دون أخرى.
فبالعدل قامت السماوات والأرض كما قيل، وبالعدل أيضا تقوم المجتمعات وتبنى المدن، ويأخذ الناس في الرقي، ويسعون إلى تحقيق كمالاتهم وتحصيل سعادتهم.

3. العلم والمعرفة :
العلم قوام الحضارة، وهو الذي يسمو بالأمم ويهذب مجتمعاتها ويثقف أفرادها، وبه ينال الإنسان كماله، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[سورة المجادلة:11].
وبما أن الإنسان كائن عاقل، ومن لوازم العقل التفكير والإدراك الذين يحصل بهما الإنسان المعاني والتصورات، فطبيعي إذن أن يكون العقل وعاء العلم والمعرفة، وبه يحكم الإنسان على التصورات والتجارب، وكل المعطيات النظرية والحسية، ويدرك من خلاله الصواب والخطأ والحق والباطل، وإذا كان الإنسان عاقلا مفكرا؛ فإنه بالعلم يهيئ سبل المعارف ليفهم الحياة بشكل أفضل، ويعي سبب وجوده و ما يؤول إليه، وبذلك يعمل من أجل تحقيق كماله وتحصيل سعادته.
والفرق بين الإنسان والحيوان، هو العقل الذي به يفكر، ويميزه عن باقي الكائنات الجسمانية المشاركة له في الحياة على الأرض، وأيضا بالعلم يعرف الإنسان قيمة نفسه وخصائصها، والواقع الذي يعيش فيه والمحيط الذي يحيط به، وبه يعرف الإنسان مستلزماته وما ينال به كماله ويحصل سعادته، وكذلك العلم يهذب النفس ويؤدبها، ويخلِّقها بخلق حسن، وبه يرتقي الإنسان من التخيل البهيمي إلى التفكير الإنساني، والمدنية هي التي وجهت الإنسان إلى طلب العلم للاستزادة من المعارف التي فرضتها طبيعة التجمع الإنساني، والبيئة التي يحيا فيها، والمحيط الذي يحيط به، والواقع الذي يعايشه، وكلما تطورت الصناعات والهيئة الاجتماعية تطور معها العلم.
وقد أول الإسلام أهمية للعلم؛ حتى جعل العالم أفضل من العابد، فعن أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى االله عليه وسلم : ( فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ " ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا ، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ).[35]
والعلم علمان علـم معنـوي وعلـم مـادي، فـالعلوم المعنويـة هـي العلـوم الدينيـة والعلـوم الإنسـانية، والعلوم المادية هي علوم الطبيعة والفزياء والصناعة، وكل ما له علاقة بـالكون مـن جهة الجانـب المادي، وكل هذه العلوم ضرورية للإنسان، فالإنسان روح وجسم، وهـو يحتـاج إلـى تغذيـة روحـه كمـا يحتـاج إلـى تغذيـة جسـمه، فـالعلوم المعنويـة تخـدم الإنسـان روحيـا، والعلـوم الماديـة تخدمـه جسـميا، والحكمـة فـي التـوازن بينهمـا وعـدم تغليـب جانـب علـى آخـر، لـذلك القرآن الكـريم يدعو إلى الوسطية والاعتدال في كل شـئ، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[سورة البقرة:143].
وأولى خطوات تحصيل العلوم القراءة والكتابة، فالقراءة والكتابة بالقلم واجب على كل إنسان تعلمهما لينال كماله، فالإنسان الأمي ناقص بالضروة، والقراءة والكتابة يتعلم الإنسان، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ،الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[سورة العلق:3-4-5].
والتعليم والكتابة هما من طبيعة المدينة، فلما أنشأ الإنسان المدينة وجمع إليها الصناع والحرفين، ولتسهيل التواصل فيما بينهم قاموا باختراع الكتابة وطوروها حتى أصبحت أداة للمراسلات والمكاتبات، وكتابة الأعمال التجارية، وتقييد العلوم، وتأريخ الأحداث.
أكبر عائق لتحقيق المجتمع الكامل والمدينة الكاملة هو الجهل، فلن يتحقق الكمال إلا بالقضاء على الجهل، وذلك بالاهتمام بجانب العلم والمعرفة، وخلق مناهج تعليمية صحيحة لذلك، فمجتمعاتنا تعاني من عدم وجود المنهج التعلمي الصحيح الذي يمكن من خلاله تحصيل المعرفة المفيدة.
والمدينة التي يكثر فيها العلم والمعرفة يكون أهلها متنورين، وأبناؤها مهذبين متعلمين مثقفين، إذ أن العلوم والمعارف يوجه الإنسان نحو الصلاح والإصلاح، وبالتالي ينعكس ذلك على السلوك الإنساني، الفردي والجماعي، وعلى الممارسات الاجتماعية الثقافية والاقتصادية والإدارية، وكل ما من شأنه أن يحقق الكمال للمجتمع، وبذلك تحصل لهم السعادة، فالمدينة السعيدة مدينة عالمة. بخلاف المدن الجاهلة التي تقل فيها المعارف، ويكون أهلها أقرب إلى التوحش منهم إلى التحضر، لذلك العلم يسمو بالأمم، والجهل يحط من قدرها، والعلم لا يستفاد إلا بالتعليم والتربية لتنشئة الإنسان الصالح، وبناء المجتمع الكامل، وتحصيل المدينة السعيدة.

4. العمل :
لكـي تستقيم الحياة لا بـد مـن العمـل وتقوية فرص الشغل في المدينة، وتحريـك عجلـة الاقتصـاد والتنميـة فـي المجتمـع، وهــذا مـن الســنن الاجتماعيــة الضـرورية لبقــاء الحيــاة علـى الارض، والعمل مطلوب عقلا وشرعا، قــال االله سبحانه وتعــالى : ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾[سورة التوبة:105].
وعـن المقـداد رضـي االله عنـه، عـن رسـول االله صـلى االله عليـه وسـلم قـال: (عَنِ الْمِقْدَامِ رَضِي اللَّهم عَنْهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ).[39]
فتوجيه العمل هو الذي يُسْهم في تنمية المجتمع وازدهار المدينة، ولا يكـون ذلـك إلا بإيجـاد الوظـائف، وخلق الأوراش ليكون لبنة أوليـة للتنمية الاقتصادية، ولن تكون التنمية صحيحة والاقتصاد سليم؛ إلا إذا وجِّه وجهة أخلاقية، بدون استغلال العمال والموظفين، وتملك مهاراتهم، وبخس حقوقهم، وأكل أموالهم، فلا بد من مراعاة الجانب الأخلاقي في العمل؛ لينال الإنسان كماله ويحصل سعادته، ويكون الإنسان صـالحا في مجتمـعه، وفـاعلا فـي بنـاء حضـارته الماديـة والمعنويـة، وقد أنزل الله للناس الرزق في الأرض، ووجب أن يوزع عليهم بطرق عادلة ومشروعة، وألا يستغني البعض دون الآخر؛ فكلهم شركاء فيما رزقهم الله من خيرات أخرجها لهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾[سورة الروم:37].
وما دام الإنسان في الحياة على هذه الأرض؛ فلا بد له من ممارسة العمل لتوفير ضرورياته، من مأكل ومشرب ومسكن، وحاجياته الأخرى المكملة له، مما يسهل له هذه الحياة، ولا ينال الانسان كماله إلى بتوفير ضرورياته وحاجياته وتحسينياته
فلكي يستقر الإنسان ويطمئن في مدينته؛ عليه أن يحقق مورد عيش يؤمن له حياته وحياة ذويه، وقد تطور الإنسان عبر الزمان وتطورت معه مستلزماته كلها، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومركب واتصال، وقد أقام مجتمعه وبنى مدينته من أجل المنفعة وتسهيل الحياة، فلا بد من العمل لجلب منفعته، ودفع الضرر والفاقة والحاجة عنه، وفي المجتمع المدني لا يمكن توفير هذا إلى بممارسة عمل يوافق الهيئة الاجتماعية التي عليها المدينة، ويوافق حِرفها وصناعاتها ووظائفها التي عليها أهلها، ومنها اليدوية والتعليمية والإدارية والخدماتية، وغيرها مما تحتاجه الهيئة الاجتماعية وطبيعة المدينة.
والعمل يحرك عجلة الإنتاج، ويزيد من دخل الفرد، ويُسْهم في نماء المجتمع، مما يجعل الانتفاع على المستوى البدني، والاستقرار على المستوى النفسي، والعمل يجلب الرزق ويمنع الفقر الذي من شأنه أن يشقي الإنسان، وبتوفير الضروريات والحاجيات والتحسينيات ينال الإنسان كماله ويحصل سعادته المنشودة.
ودوام المدينة بدوام العمل، وخرابها بانقطاعه؛ كالفتن الحاصلة في البلدان العربية اليوم، فقد خرِّبت المدن وأحرِقت، بسبب تفشي البطالة، وغياب مصدر العيش للناس، وخاصة الشباب منهم؛ الذين يبحثون عن تأمين حياتهم وإنقاذ أنفسهم من كل ما من شأنه أن يوقعهم في التهلكة، فإذا قلَّت في الناس الأعمال؛ كسدت المدينة ماديا ومعنويا، فيكثر فيهم انتحال السرقة واللصوصية والخداع والتزوير، وتنعدم فيهم الفضائل، فيحصل الشقاء في المدينة والاحتجاجات والصراعات وربما الحروب، وعلى أهل المدينة جميعا أن يُسْهموا في توفير العمل وخلق فرص الشغل لجميع الساكنة، وينال الخير جميعا، وبذلك يينالون كمالهم، ويحصلون سعادتهم، فالعمل يجلب الرزق والتيسير ويدفع إلى تحقيق المدينة السعيدة.

5. التعاون و التدافع :
الناس محتاجون دائما إلى بعضهم البعض، ويسعى كل منهم إلى الآخر ليقضي حاجاته ويكمل نقصه، وبذلك تكمل حياتهم، ولولا الاحتياج لما أقاموا إجتماعاتهم وأسسوا مدنهم، وهم مَجبولون على التعاون دائما وأبدا، ومأمورون كذلك بالتعاون فيما بينهم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[سورة المائدة:2]
ولتكن أخلاقهم الرحمة والمحبة والخير لكل الناس، وفي الحديث الشريف، عن النعمان بن بشير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).[44]
والناس يحتاج بعضهم إلى بعض، وعليهم أن يقيموا مجتمعهم على التعاون والتضامن والتدافع لتسهيل حياتهم، فكل منهم يكمل الآخر، والإجتماع أمر ضروري، وأنه فطرة في الإنسان. وكذلك الناس مفطورون على الاحتياج لبعضهم البعض، والناس يأنس بعضهم بعضا مما يفيد في اجتماعهم، وتحقيق التعاون فيما بينهم، وتحصيل المنافع الضرورية لإقامة مجتمعاتهم.
وهذا ما تدعو إليه سنة الحياة في التعاون والتدافع بين الناس، فالناس يدافع بعضعهم عن بعض ويدفع بعضهم بعضا لتصلح الحياة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾[سورة البقرة:251]
وإذا كان التعاون قد يفهم منه بعضهم على أنه خاص بالملة، فإنه يفهم بالتدافع على أنه لجميع الناس؛ باختلافاتهم الملية والعرقية، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾[سورة الحج:40] فحماية الأقليات والمختلفين في المدينة أمر إلهي؛ حتى يقع التعاون بين الناس، وينتهوا عن الصراع فيما بينهم، ولكي تستقيم حياتهم. فإذا كانت الضرورة ألجاتهم إلى الاجتماع والتعاون والتدافع والتضامن فيما بينهم؛ فلا بد وأن يسود جو من الحرية وأن يحترم كل رأي الآخر ومعتقده وخصوصياته، لينال كل كماله ويحقق غاياته النبيلة وفق وسائل مشروعة داخل المدينة.

6. الحرية المسؤولة :
الإنسان وُلد حرا، وكونه وُلد كذلك؛ فلا يمكنه أن يعيش بلا حرية، ولا يحق لأحد –أيا كان- سلب حريته، لأنها شئ له، ومصادرتها بخس لحقه، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾[سورة الأعراف:85]. وهي حرية طبيعية يولد الناس عليها جميعا.
ويُقصد بالحرية؛ قدرة الإنسان على فعل الشئ أو تركه بإرادته دون أن يمنعه أحد أو يصادر فعله.
وهذا على مستوى الحرية الطبيعية، أما الحرية المدنية، فالإنسان حر في مجتمعه، وعليه أن يمارس حريته بلا مضايقات، وعلى كل أفراد المجتمع أن يدافعوا عن حقهم في الحرية؛ سواء الشخصية أوالجماعية، وعن حقهم في التملك والتفكير والتعبير والاعتقاد والعمل والتنقل، وكل ما من شأنه أن يحقق لهم الكمال، ويُحصِّل لهم السعادة.
وإذا كان الإنسان ولد حرا؛ وحريته طبيعية، وله غريزة جسمانية جُبِلَ عليها، ورغبات وميولات نفسانية تكفلها له حريته الطبيعية تلك؛ فإنه يخسر هذه الحرية الطبيعية عندما يدخل المجتمع ويتعاقد مع جميع أفراده على تحديد معنى الحرية، واختيار الأفعال الإرادية المسؤولة التي يمكن أن يمارسها داخل المجتمع، وكل ما من شأنه أن لا يخل بنظام ومجتمع المدينة، أو ينتهك حقوق الآخرين، أو ينقض أمنهم وسلامتهم، وكل ما يخل بنظام العدالة الاجتماعية، فالحرية المدنية حرية مسؤولة تعمل في نسق واحد مع حريات أفراد وجماعات المدينة.
وإذا كان الإنسان مدني بطبعه؛ فلا بد له من نظام ينظم مجتمعه والمدينة التي يقيم فيها، ويبعدها عن التسيب والتفلت، ويحصنها من كل التجاوزات، ومن كل ما من شأنه أن يخل بالنظام الذي اتفقت عليه الجماعة بموجب عقد اجتماعي، فالحرية لا تعني أبدا التفلت من المسؤولية، واتباع الأهواء، فتلك ضلالة وظلم في الممارسة، قال الله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[سورة القصص:50]. فلا بد إذن من تـأطير هذه الحرية وتنظيمها وفق إطار محدد؛ لا ينبغي تجاوزه.
و الحرية المسؤولة ليست تقييدا للحرية كما يُتصور؛ وإنما هي تحديد وضبط الممارسات والسلوكات وجميع الأفعال وفق ما ألزم به العقد الاجتماعي لأهل المدينة، وتكون هذه نابعة من الأفعال الإرادية الحرة والاختيار المسؤول، وتنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين.
ومن أسباب تحول جماعة الناس والمدينة إلى الشقاء، هو الإفراط في الحرية والممارسات المغلوطة للحرية مما يؤدي إلى اللأفعال اللامسؤولة وعموم الفوضى، وشيوع التهتك والتسلطـ، وانتهاك حقوق الآخرين ومقدراتهم الحسية والمعنوية، وذلك بسبب إطلاق الحرية حتى لا يكون لها حدود، والإخلال بالعقد الاجتماعي، فتتحول المدينة إلى فوضى بين الناس، وعدم الانتظام والانضباط؛ مما يتسبب في نقصان المدينة وتحولها إلى الشقاء.
المجتمع للجميع، والمدينة وما فيها من مرافق فضاء مشترك بين الناس، ولا يعني أبدا أن لكل إنسان داخل مجتمع المدينة يفعل ما يشاء؛ بل لا بد من ممارسة الحرية المسؤولة والسلوكات المقبولة؛ حتى ينتظم المجتمع ويحافظ على تماسكه وكماله، ويساهم بذلك الناس جميعا في تحصيل سعادتهم.
والحرية وسيلة للوصول إلى غاية وليست غاية في حد ذاتها، بها يصل الإنسان إلى غايته النبيلة، ولذلك فإن الحرية الحقة هي التي تسمو بالإنسان إلى كماله، وليست الحرية التي تسفل به إلى مصاف الكائن البهيمي من جانب الشهوة، والسبعي من جانب الغضب، والإنسان يحصل على سعادته ويدركها بالقوة العاقلة وليس بالقوة الشهوية أو الغضبية التي فيه، فالإنسان وحده الذي يعرف معنى السعادة باعتباره كائنا عاقلا مفكرا، ولأن السعادة لا تدرك إلا بالتفكير السليم، والأفعال الجميلة، فإنه يدرك السعادة عندما تكون أفعاله جميلة ويشقى عندما تكون أفعاله قبيحة، وبالتفكير السليم والأفعال الجميلة تكون الفضيلة، فينال الإنسان كماله ويحصل سعادته.

7. النظام والانضباط :
كل شئ في الكون بني على نظام دقيق، وكل حركة النجوم والكواكب والأقمار التي فيه إنما تكون على هيئة منتظمة، وسير منضبط، لا يعرف العشوائية والفوضى، وكل يؤدي دوره في الكون بقانون سار وحساب مقدر دقيق. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾[سورة الفرقان:2]. فكل يقوم بدوره ويلتزم بحركته المقدرة له في سباحته في الفضاء، قال جل جلاله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[سورة يس: 38-39-40].
فالنظام أمر أساسي في حركة الأفلاك، وكذلك يجب أن كون في حركة المجتمع والمدينة وسعي الناس فيها، كل يزاول عمله ويذهب إلى أغراضه بانتظام وممارسة منضبطة؛ لكي لا يختل توازن المجتمع ويفسد نظام المدينة، فالمدينة بمثال الكون والناس هم الكواكب والنجوم والأقمار، وعليهم أن يحاكوا نظام السماء كي يتحقق سموهم. و ضرب الله لنا مثلا بالسماوات وكيف صورها لنا، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾[سورة الرحمن:7-8-9]. وأمرنا أن نقيم الميزان في الأرض وبين الناس، حتى تستقيم الحياة.
ولذلك يجب تحقيق مبدأ النظام في المجتمع وفي المدينة، والتحلي بالانضباط في كل سلوكيات الإنسان وممارساته، وكل ما من شئنه أن يحقق النظام، ونبذ التلقائية والابتعاد عن العشوائية، وكل ما يخل بنظام المجتمع، ويشيع الفوضى فيه، ويقض مضجع الناس ويمنع عنهم راحتهم.
إن النظام أو الفوضى هما نتاج الثقافة، ثقافة المجتمع والمدينة، فكيفما تكون ثقافتهم يكون مجتمعهم وتكون مدينتهم، ولذلك على الناس أن يهذبوا ثقافتهم ويجعلوها ثقافة راشدة موجِّهة نحو النظام والانضباط لكي يحسن سلوكهم، ويحققوا بذلك كمالهم ويُحَصِّلوا سعادتهم.
وعلى الإنسان أن ينظم نفسه وسلوكه داخل المجتمع والمدينة، وألا يبخس الناس حقوقهم فيما يتعلق بالقيام بالواجب، في كل الخدمات الاجتماعية؛ من تطبيب وتدريس وإدارة وتصنيع، وفي الممارسات اليومية من تنقل وتسوق، وكل التحركات التي يقوم بها الناس داخل المدينة،
ولا يمكن أن يحصل التقدم والتطور والتحضر، ويحقق الناس كمالاتهم، ويحصلوا سعادتهم ما لم يغيروا سلوكهم، ويحافظوا على نظامهم وانضباطهم.
والإنسان مسؤول تجاه جميع سلوكياته باعتباره كائنا عاقلا مختارا بالإرادة والنزوع إلى الفعل، جميلا كان الفعل أو قبيحا، ولا بد من الروية في تحديد السلوك والفعل المناسب، فعندما ننظر إلى مجتمع ما، أو مدينة ما، ونرى فيها ظاهرة سلوكية معينة –سلبا أو إيجابا- فإننا نعرف أن ذلك نتاج ثقافة ذلك المجتمع، أو تلك المدينة.
ولذلك يجب خلق التوازن والانسجام داخل المجتمع، وضبط حركة العمران المدني والسلوك الاجتماعي وممارسات الناس اليومية، واتقانهم العمل والتزامهم بالمواعيد، واستشعارهم بالمسؤولية تجاه الآخرين، واحساسهم بالتقصير إذا ما أخلوا بواجباتهم تجاح الإنسان والمجتمع والمدينة.
وكذلك يجب تنظيم وضبط كل ما من شأنه الإساءة والإخلال بالمرافق العامة، والممتلكات الخاصة للناس، وذلك على أهل المدينة أن ينشئوا مؤسسات وجمعيات ومراكز إجتماعية مدنية تسهر على التربية والتثقيف ونشر الوعي بين الناس، وثنيهم عن كل ما من شأنه الإخلال بحقوق المجتمع الفردية والجمعية، والحفاظ على عمران المدينة، وتنشئة الأجيال على ضرورة الاحترام والتقدير؛ للوصول إلى الكمال وتحصيل السعادة، لكي تستقيم الحياة في المدينة، ويعيش الناس في جو من الأمن والسلام.
وعلى هذا يقوم العلم المدني وسياسة المدن، فإذا كانت سياسة المدن لتحسين وتسهيل حياة الإنسان؛ فلا بد لهذه السياسة أن تعمل على التنظيم والضبط، ويصير الناس منتظَّمين ومنضبطين في حياتهم ومجتماعاتهم، لينالوا كمالهم ويحصلوا سعادتهم التي يبحثون عنها.
وفلكي يصل الناس إلى المدينة السعيدة لا بد من ضرورة الوعي بتنظيم المجتمع، وضبط سلوكه، وتجنيبه كل ما من شأنه أن يدفع به إلى العشوائية والفوضى والاضطرابات التي تلقي بالإنسان في الشقاوة، وكل ما يعكر صفو حياة الإنسان ويمنعه عنه الكمال والحياة السعيدة.

8. الأخلاق و القيم :
الأخلاق مطمح الناس جميعا، وبانعدام الأخلاق ينعدم كل شئ، فالأخلاق والقيم أساس المجتمعات وبدونها لن تستقيم الحياة ولن تَسلمَ المجتمعات، وفي الحديث الشريف، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ).[67]
وقد تكلَّم الحكماء قديما في الأخلاق، وأفرد لها فلاسفة الأخلاق المعاصرين علما خاصا يُبحَث فيه عن معنى الأخلاق وكيفية حصولها، وعلم الأخلاق هو علم يُعنى بدراسة السلوك البشري، وما يتعلق به من حسن الأفعال وقبحها، على اعتبار أن الحسن والقبح عقليين، وبذالك يكون الإنسان مسؤولا تجاه أفعاله في المجتمع وداخل المدينة.
والأخلاق تستفاد من الحكمة العملية، وهي تعلّم الفضائل وكيفية اقتنائها وتعلّم الرذائل وكيفية اجتنابها. ولكي يكون المجتمع فاضلا لا بد من تفعيل دور الأخلاق، والإرشاد إليها، لتُعِين الناس على تحصيل الفضائل في المدينة.
وبما أن الأخلاق منشؤها نفسي، وأن حصول الفضائل في المجتمع لا يكون إلا بالأخلاق الحميدة، فإن صلاح المجتمع في حسن الأخلاق مجمال، وفساده في سوء الأخلاق وقبح الأعمال، وإذا كانت الغاية من إحداث المدينة هي قيام الناس على الفضائل للوصول إلى الكمال وتحصيل السعادة، فلا يمكن تحصيلها إلا بوجود تلك الأخلاق، التي تجعل الإنسان فاضلا، واجتماع الناس لا يمكن أن يكون إلا بالفضيلة.
ومدن الخسة الجاهلة تنعدم فيها الفضائل بانعدام الأخلاق، وذلك بسيطرة جانب القوة الشهوية والقوة الغضبية عليهم، وغياب القوة العاقلة المفكرة عندهم، فيكون مجتمعا خسيسا، ولذلك فإن ساكنة هذه المدن تكون هيئاتهم النفسانية رديئة، وذلك لتبعية الهيئات للأفعال، ومواظبتهم دائما على تلك الأفعال الرديئة؛ تزيل عن أنفسهم كراهيتها واستعفافها حتى تصير الأفعال القبيحة مستلذة عندهم، وذلك بسبب فساد خيالهم بالإرادات والعادات السيئة.
ولذلك فإن المدينة السعيدة تكتسب سعادتها بطبيعة الفكر السليم والأفعال الجميلة المنعكسة على المدينة من جانب الإنسان، فإذا كان الإنسان ينهج نهج الحكمة والرَّوية في الأفعال؛ تحقق لهم بذلك الكمال، وتحصلت لهم السعادة، وإذا غابت الحكمة والرَّوِية عن الإنسان؛ ظلوا ناقصين وحل بهم الشقاء.

9. الجمال والنظافة والبيئة :
نسمع كثيرا مقولات: "الله جميل يحب الجمال" و "النظافة من الإيمان"... ولكن كثيرا من الناس لا يطبقون هذه المقولات، وأن ذلك مجرد شعارات فاقدة التطبيق، بسبب أنهم لم يتربوا على إدراك معنى الجمال ومعنى النظافة، ولذلك فإنك حيث ما ذهبت في المدينة تجد النفايات والمناظر السيئة والعمران الشائه، وذاك ما ينم عن سوء ساكنتها الذين يفتقدون الإحساس بقيمة الجمال والعناية بالنظافة، ولن يعرف أحد الجمال والنظافة إلا إذا كان على قدر من الإنسانية.
وقد تكلم العلماء والفلاسفة في الجمال وأفردوا له علما خاصا أسموه علم الجمال أو فلسفة الجمال، يتناول دراسة وتحليل علاقة الإنسان بالجمال والألوان والبيئة من حوله وكيفية التعبير عن ذلك. والإنسان السوي من طبعه أنه يعشق الطبيعة والألوان والمناظر الجميلة، وقديما لما انتقل إلى العيش في المدينة؛ جلب معه الأشجار والزهور ووضعها في وسط مدينته، وداخل بيته لتذكره بأصله الطبيعي الذي كان يعيش فيه، فتوارثت الأجيال من بعده هذه العادة الجميلة، ولحاجتهم إليها أيضا لتلطيف أجواء المدينة وخلق متنفس لها.
لكن نجد في المجتمعات المدنية الجاهلة اليوم فقدانا للجمال، وعزوفا عن المناظر التي تذكر بالطبيعة والبيئة، وإن وُجدت بعض المناظر الجميلة التي تحاكي الطبيعية فسرعان ما تتسلط عليها أيادي الناس فيصيبها التلف والدمار، وذلك بانعدام الإحساس الجمالي فيهم.
والجمال والنظافة قبل أن يتحققا في الخارج فإنه يجب أن يتحققا في داخل الإنسان أولا، وذلك بتحصيل معنى الجمال والنظافة في العقل والقلب والنفس، وتحصيل ذلك إنما يكون بالتفكير السليم، وتعليم الصغار على الإحساس بقيمة الجمال، وفائدة النظافة، وقيمة البيئة، فالتفكير السليم ينتج بيئة جميلة والتفكير السقيم ينتج بيئة شائهة، والحسن والقبح من ادراك العقول، والتعليم الصحيح يوجه الإرادات نحو النزوع إلى الأفعال الجميلة، وإدراك معنى الجمال والنظافة وقيمة البيئة فيما يحيط بالإنسان.
ولما كان التفكير السيئ ينتج بيئة سيئة؛ فإنك تجد الأطفال والشباب المراهق يعبثون بالأشجار ويقطعون زهور الحدائق العامة ويتلفونها، ويكسرن كراسيها؛ لأنهم لم يربوا على تعلم معنى الجمال والنظافة والعناية بالبيئة والمحافظة عليها، وتجد الناس كبارا وصغارا يلقون بالنفايات في شوارع المدينة وأزقتها، وترى القمامة على جوانب الطرقات وفي المرافق العامة مما يسيئ إلى جمالية المدينة.
والحق أن النظافة نظافة التفكير قبل أن تكون نظافة النفس والبدن والمدينة، فعندما يكون الفكر نظيفا تكون النفس نظيفة، وتعشق النظافة فتنزع إلى تحقيقها في الواقع الخارجي للإنسان.
ولذلك على المجتمع قبل أن يعتني ببيئة وجمال المدينة ونظافتها؛ يعتني أولا بالعقول، فيستثمر الناسُ في التنمية البشرية من أجل تحسين جودة عقولهم لتنتج لهم فكرا نظيفا مما ينعكس إيجابا على حياتهم؛ فينالون كمالهم ويحصلون سعادتهم، ويستثمرون في التدريس والتهذيب العقلاني المنطقي؛ وليس بالتلقين الطاعوي البدائي، كحال تربية وثقافة مجتماعاتنا ومدارسنا ومراكزنا اليوم.
ومن الجمال أيضا جمال المسموعات، فالإنسان يدرك الكون والعالم من حوله من خلال حواسه، ويستمتع بهذه المدرَكات الحسية والمعنوية، ومنها حاسة السمع، وبها يدرك المسموعات، ويستمع إلى الأصوات المختلفة الجميلة والقبيحة، فيختار جميلها ويعرض عن قبيحها، ومن هذه المسموعات الموسيقى، فهي تطرب الأسماع، وتحسن المزاج، وتهدئ النفس وتعالجها، وتحركها نحو قيم الجمال والخير والفضيلة، وليست الموسيقى التي تشيع بين الناس اليوم؛ خاصة في أوساط الشباب المراهق، فهي خطرة على النفوس لما فيها من اخلال بالذوق والفن، سواء على مستوى السمع و البصر أو المزاج والوجدان، وليست مبنية على العلم أصلا، وهم يعتقدونها جمالا؛ وهي في الحقيقة ليست كذلك، فتجد موسيقى أقرب إلى الضجيج والفوضى والهستيريا، ودعوتها إلى انتهاك القيم أكثر مما دعوتها إلى الخير والجمال، وذلك بسبب سوء أذواق الناس وفساد مزاجهم.
ولقد كُرّم الإنسان وفُضل على كثير من الكائنات، فقد خلقه الله وصوره فأحسه صوره، وشق سمعه وبصره، ووهب له عقلا به يدرك جمال الله في الكون، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[سورة الإسراء:70] فُضِّل بنعمة العقل الذي به يدرك سر الجمال، ويتوق إلى الكمال، والوصول إلى السعادة، ولم يعرف معنى السعادة إلا لما عرف الجمال، لأن السعادة شئ يُدرك ولا يُلمس، فلا تُنال إلا بتفعيل دور الحس والشعور الداخلي إزاء الموجودات الخارجية التي تعكس جمالها على قلب الإنسان؛ فينشرح صدره وتبتهج نفسه، وإذا كانت البيئة والمحيط والأمكنة رديئة انعكست رداءتها على الإنسان؛ فيستقبح مناظرها ويسوء مزاج المجتمع وتشفى المدينة.
الله جعل للإنسان حواسه الخمس ليتفاعل بها مع الطبيعة بشكل أفضل، وحتى يصل إلى كماله لا بد من تفعيل الحس بأدواته الخمس؛ فيُفعِّل سمعه لالتقاط المسموعات الجميلة من لحن الطبيعة وأصوات الطيور وخرير المياه والموسقى الجيدة، ويُفعِّل بصره في مشاهدة الحُسن والجمال وما يحيط به من مناظر الطبيعة والمعمار، ويُفعِّل الشم لتزكية النفس بروائح الورود والزهور، ويفعِّل الذوق بالمطعومات والمشروبات الطيبة، واللمس في تلمّس ما نعم ولطف، كل هذا يبعث في النفس انشراحا وإرادة لبلوغ الكمال وتحصيل السعادة.

• كلمة ختامية :
للوصول إلى ما سبق ذِكره لا بد من الإصلاح، والإصلاح يبدأ بإرادة التغيير والرغبة في الوصول إلى الهدف المنشود ألا وهو الوصول إلى الكمال وتحصيل السعادة، فبغير إرادة التغيير لن يكون هناك إصلاح، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[سورة الرعد:11]
وللوصول إلى المجتمع الكامل والمدينة السعيدة، لا بد من تغيير ما بالأنفس وما بالعقول، وتحقيق شروط السعادة، ولكي تتحقق شروط السعادة لا بد من تفعيل دور العقل وتهذيبه بالعلم والمعرفة المفيدة ليعطي ثماره.
وذلك من أجل سلامة التفكير، وتحقيق التهذيب العقلي والسمو المعرفي؛ حتى يعلم الإنسان سبب وجوده ويعرف مبدأه ومنتهاه، فتستقيم بذلك حياته؛ ويقيم عمارة الأرض ويحقق استخلافه فيها وفق مراد الله، فينال كماله ويحصل سعادته في الدنيا، ويطمئن إلى سعادته في الأخرى.


محمد احميمد
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف