فلنعد الاعتبار للطبقة الوسطى في المجتمع
بقلم:رائد محمد الدبعي
نائب رئيس الاتحاد العالمي للشباب الاشتراكي
يشكل اتساع قاعدة الطبقة الوسطى أحد أهم ركائز استقرار المجتمعات، وأحد مقومات تقدمها، لما تشكله هذه الطبقة من جسر بين طبقتي الفقراء والأثرياء، ولما تضطلع به من دور أساسي في تحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي، بسبب ما تمتلكه من قدرات ديناميكية على المشاركة الحقيقية في الحراك الاجتماعي والسياسي، وذلك كونها متحررة من غول العوز الذي ينهش الفقراء، ويفرض عليهم أولويات قاسية ظالمة، تتمثل بالسعي وراء لقمة العيش، وتوفير الدواء والمسكن، والماء النظيف، بدلا من الكتاب، والقلم، وحرية الرأي، والنقد البنَاء، فيما تبقى طبقة الأثرياء، ورأس المال العابر للقارات رهائن لمصالحهم وأطماعهم، وأسرى الحفاظ على ثرواتهم وممتلكاتهم، ورغباتهم غير المحدودة لتعظيمها في ظل نظام رأسمالي ظالم.
يتباين تعريف الطبقة الوسطى باختلاف المدارس التي تدرس الطبقات الاجتماعية، ففي حين تقوم المدرسة الأمريكية على معيار الإستهلاك ومستوى الدخول، فإن المدرسة الماركسية تقوم على عدد من المعايير، من أبرزها المستوى التعليمي والثقافي لأفراد المجتمع، وعدد أفراد الأسرة، ونوعية السكن والعمل، وطبيعة التنظيمات الاجتماعية، ومستوى المشاركة في مؤسسات المجتمع المدني، والانخراط في العمل العام، والمساهمة في القرار السياسي، كما أن الطبقة الوسطى نفسها تنقسم إلى فئات، فهناك الطبقة الوسطى المتنفذة، والمستقرة، والدنيا.
يشكل سكان الطبقة الوسطى 11% من سكان العالم، إلا أن هذه الطبقة تتسع لتصل إلى 90% في دول متقدمة كالنرويج والدنمارك، لتتقلص إلى ما يقارب الصفر في الدول النامية، مقابل طبقة الفقراء التي تشكل غالبية السكان، وأقلية رأسمالية حاكمة، تسيطر على المجتمع وتوجهه نحو مصالحها وتعظيم أرباحها.
عربيا، شكلت الطبقة الوسطى تاريخيا البنية الأساسية لحركات التحرر ضد الاستعمار، وضمت المثقفين وموجهي الرأي العام، كما أنها شكلت القاعدة الأساسية للقوى والحركات السياسية على اختلاف أيدلوجياتها، ومن صفوفها انطلقت البرامج الفكرية لمختلف القوى السياسية، وفي فلسطين، انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة ووضعت مبادئها وبرامجها الفكرية من قبل الطبقة الوسطى الفلسطينية، التي استطاعت النفوذ إلى تلك الطبقة بفعل التعليم ونوعية العمل، كما أن الدور العظيم الذي لعبته الطبقة الوسطى إبان الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وما تبقى من القدس وقطاع غزة عام 1967، ولا سيما رؤساء عدد من البلديات الذين تحلوا بنظرة ثاقبة للأحداث، وحكمة وشجاعة، وبعد نظر، كان مؤثرا واستراتيجيا في تثبيت المواطنين على أرضهم، إذ استطاعت جهود الطبقة الوسطى في ذاك الوقت أن تحافظ على وجودنا في الوطن، وان تنقذ جيل بأكمله من غول التجهيل الممنهج، و يكفي أن نذكر الموقف التاريخي لبلدية نابلس برئاسة حمدي كنعان، بإنقاذ العام الدراسي، وإعادة افتتاح المدارس، ليس في نابلس فقط، إنما في كل الوطن، وهو الأمر الذي أعاد آلاف من الأسر إلى الوطن، بعد أن غادروه قسرا، وأنقذ جيل بأكمله من التجهيل والضياع، كما أن الموقف الوطني المسؤول، برفض مغادرة المدن كما حدث عام 1948، والإصرار على عودة مواطني قلقيلية إلى بيوتهم التي هجروا منها بقوة الاحتلال، بعد أن دمر المحتل معظمها، بهدف ضمها لدولته، يشكل درسا حقيقيا للدور الممكن أن تلعبه الطبقة الوسطى في المجتمع، فقد كان المجتمع الفلسطيني في ذلك الوقت يقاد من قبل طبقة وسطى مستقرة، تعاملت بروح القلعة المحاصرة، وضمير المواطن الصالح مع التهديدات التي حيكت للوطن، واستطاعت أن تنجو بالمجتمع من وحش التهجير القسري مرة أخرى.
ما يمر مجتمعنا الفلسطيني من تآكل للطبقة الوسطى، وتوسع لطبقة الفقراء من جهة، وتقلص هوامش دور تلك الطبقة اقتصاديا واجتماعيا، لصالح طبقة رأس المال العابر للحدود والقارات، والباحث دوما عن مصالحه وتعظيم دوره في المجتمع، دون إغفال لدور رأس المال الفلسطيني الوطني الملتزم، في رفد الوطن بفرص عمل ودعم مشاريع تنموية وإنسانية، يدق كل نواقيس الخطر، ويذهب بوطننا وقضيتنا ومستقبل أجيالنا إلى دوائر مجهولة، بينما يفتح إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى آفاقا جديدة في المجتمع، ويحقق الاستقرار اللازم في مسيرة التنمية المستدامة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى وجود سياسات حكومية ثاقبة، ورؤى إستراتيجية لمؤسسات المجتمع المدني والقوى والأحزاب السياسية، وصانعي الرأي العام في المجتمع، فدون إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى في فلسطين يبقى عقد التنمية مفروطا ومنقوصا، ويبقى حلم الوطن المنشود القائم على مشاركة المواطن في رسم مستقبله بعيدا.
بقلم:رائد محمد الدبعي
نائب رئيس الاتحاد العالمي للشباب الاشتراكي
يشكل اتساع قاعدة الطبقة الوسطى أحد أهم ركائز استقرار المجتمعات، وأحد مقومات تقدمها، لما تشكله هذه الطبقة من جسر بين طبقتي الفقراء والأثرياء، ولما تضطلع به من دور أساسي في تحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي، بسبب ما تمتلكه من قدرات ديناميكية على المشاركة الحقيقية في الحراك الاجتماعي والسياسي، وذلك كونها متحررة من غول العوز الذي ينهش الفقراء، ويفرض عليهم أولويات قاسية ظالمة، تتمثل بالسعي وراء لقمة العيش، وتوفير الدواء والمسكن، والماء النظيف، بدلا من الكتاب، والقلم، وحرية الرأي، والنقد البنَاء، فيما تبقى طبقة الأثرياء، ورأس المال العابر للقارات رهائن لمصالحهم وأطماعهم، وأسرى الحفاظ على ثرواتهم وممتلكاتهم، ورغباتهم غير المحدودة لتعظيمها في ظل نظام رأسمالي ظالم.
يتباين تعريف الطبقة الوسطى باختلاف المدارس التي تدرس الطبقات الاجتماعية، ففي حين تقوم المدرسة الأمريكية على معيار الإستهلاك ومستوى الدخول، فإن المدرسة الماركسية تقوم على عدد من المعايير، من أبرزها المستوى التعليمي والثقافي لأفراد المجتمع، وعدد أفراد الأسرة، ونوعية السكن والعمل، وطبيعة التنظيمات الاجتماعية، ومستوى المشاركة في مؤسسات المجتمع المدني، والانخراط في العمل العام، والمساهمة في القرار السياسي، كما أن الطبقة الوسطى نفسها تنقسم إلى فئات، فهناك الطبقة الوسطى المتنفذة، والمستقرة، والدنيا.
يشكل سكان الطبقة الوسطى 11% من سكان العالم، إلا أن هذه الطبقة تتسع لتصل إلى 90% في دول متقدمة كالنرويج والدنمارك، لتتقلص إلى ما يقارب الصفر في الدول النامية، مقابل طبقة الفقراء التي تشكل غالبية السكان، وأقلية رأسمالية حاكمة، تسيطر على المجتمع وتوجهه نحو مصالحها وتعظيم أرباحها.
عربيا، شكلت الطبقة الوسطى تاريخيا البنية الأساسية لحركات التحرر ضد الاستعمار، وضمت المثقفين وموجهي الرأي العام، كما أنها شكلت القاعدة الأساسية للقوى والحركات السياسية على اختلاف أيدلوجياتها، ومن صفوفها انطلقت البرامج الفكرية لمختلف القوى السياسية، وفي فلسطين، انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة ووضعت مبادئها وبرامجها الفكرية من قبل الطبقة الوسطى الفلسطينية، التي استطاعت النفوذ إلى تلك الطبقة بفعل التعليم ونوعية العمل، كما أن الدور العظيم الذي لعبته الطبقة الوسطى إبان الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وما تبقى من القدس وقطاع غزة عام 1967، ولا سيما رؤساء عدد من البلديات الذين تحلوا بنظرة ثاقبة للأحداث، وحكمة وشجاعة، وبعد نظر، كان مؤثرا واستراتيجيا في تثبيت المواطنين على أرضهم، إذ استطاعت جهود الطبقة الوسطى في ذاك الوقت أن تحافظ على وجودنا في الوطن، وان تنقذ جيل بأكمله من غول التجهيل الممنهج، و يكفي أن نذكر الموقف التاريخي لبلدية نابلس برئاسة حمدي كنعان، بإنقاذ العام الدراسي، وإعادة افتتاح المدارس، ليس في نابلس فقط، إنما في كل الوطن، وهو الأمر الذي أعاد آلاف من الأسر إلى الوطن، بعد أن غادروه قسرا، وأنقذ جيل بأكمله من التجهيل والضياع، كما أن الموقف الوطني المسؤول، برفض مغادرة المدن كما حدث عام 1948، والإصرار على عودة مواطني قلقيلية إلى بيوتهم التي هجروا منها بقوة الاحتلال، بعد أن دمر المحتل معظمها، بهدف ضمها لدولته، يشكل درسا حقيقيا للدور الممكن أن تلعبه الطبقة الوسطى في المجتمع، فقد كان المجتمع الفلسطيني في ذلك الوقت يقاد من قبل طبقة وسطى مستقرة، تعاملت بروح القلعة المحاصرة، وضمير المواطن الصالح مع التهديدات التي حيكت للوطن، واستطاعت أن تنجو بالمجتمع من وحش التهجير القسري مرة أخرى.
ما يمر مجتمعنا الفلسطيني من تآكل للطبقة الوسطى، وتوسع لطبقة الفقراء من جهة، وتقلص هوامش دور تلك الطبقة اقتصاديا واجتماعيا، لصالح طبقة رأس المال العابر للحدود والقارات، والباحث دوما عن مصالحه وتعظيم دوره في المجتمع، دون إغفال لدور رأس المال الفلسطيني الوطني الملتزم، في رفد الوطن بفرص عمل ودعم مشاريع تنموية وإنسانية، يدق كل نواقيس الخطر، ويذهب بوطننا وقضيتنا ومستقبل أجيالنا إلى دوائر مجهولة، بينما يفتح إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى آفاقا جديدة في المجتمع، ويحقق الاستقرار اللازم في مسيرة التنمية المستدامة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى وجود سياسات حكومية ثاقبة، ورؤى إستراتيجية لمؤسسات المجتمع المدني والقوى والأحزاب السياسية، وصانعي الرأي العام في المجتمع، فدون إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى في فلسطين يبقى عقد التنمية مفروطا ومنقوصا، ويبقى حلم الوطن المنشود القائم على مشاركة المواطن في رسم مستقبله بعيدا.