الأخبار
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

التحدي رؤية ثقافية لمجابهة التطرف والعنف بقلم إسماعيل سراج الدين

تاريخ النشر : 2015-01-21
التحدي رؤية ثقافية لمجابهة التطرف والعنف

بقلم
إسماعيل سراج الدين

ديسمبر 2014

المحتويات
استهلال
التفكير فيما لا يتصوره الفكر

الجزء الأول
الثقافة في مصر والعالم العربي
1-     اختلافات
فكرة الهوية
-    اختلافات وتشابهات
-    الظروف المأساوية للعالم العربي
-    هويات متعددة، أمة واحدة
-    الهويات: دوائر متحدة المركز ومتداخلة
-    أهمية الهويات المحلية
-    الهوية العربية والمساواة بين الرجل والمرأة

2-    الشباب
ظهور الشباب كقوة ثقافية
-    الإفلاس الفكري للعديد من الأنظمة
-    عودة ظهور الإسلام السياسي مرة أخرى
-    الغزو الأمريكي للعراق
-    استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية
-    ظهور بيروقراطية استبدادية قوية

3-    الثقافات
أوجه الضعف والقوة الثقافية
-    المشهد الثقافي في العالم العربي اليوم
-    أبعاد التعبيرات الثقافية
-    الشعر
-    الأدب
-    كتب وبرامج الأطفال
-    التراث الشعبي (الفلكلور)
-    المسرح
-    السينما
-    الموسيقى
-    الرسم والنحت والفنون التصويرية
-    العمارة
-    إعادة استغلال المباني التاريخية
-    الخلاصة

4-    قوة الفن
تجليات التاريخ ودور الفنانين/المبدعين
-    الفن والتاريخ
-    المرايا والنوافذ
-    مرايا
-    أهمية النوافذ

5-    الانفصام
سياق التحول الثوري لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات
-    أزمنة متغيرة
-    البيانات كبرى
-    الخصوصية
-    الأمان
-    التواصل الاجتماعي
-    عودة الانفصام إلى العالم العربي ومصر
-    الخلاصة
الجزء الثاني
حول التطرف والعنف
6-    حول التطرف
-    التطرف
-    علامات وأعراض: ظهور قوة التطرف
-    التجنيد والعقائدية
-    المجنَّدون

7-    حول العنف


8-     إشعال الفتيل
كيف ينتج التطرف العنف؟
-    غرس بذور التطرف
-    فيما وراء الظلم الفادح: البيروقراطية
-    الخلاصة
الجزء الثالث
ديناميكية التحول الثقافي
9-    الاعتبارات في المفهومية والعملية

10-    المستويات المتعددة للثقافة القومية

11-    التفاعلات الثقافية: نموذج للسلوك الاجتماعي

12-    مهام النخب المثقفة
الجزء الرابع
عناصر الاستراتيجية الثقافية
13-    المحاذير السياقية
سياق مزدوج بين العمل الفني أو الإنتاج الثقافي

14-    أفكار عامة
المشروع الثقافي العربي من حيث السياق والمحتوى

15-    على المدى البعيد
التربية والتعليم وتكوين رؤية مستقبلية قومية:
-    الثقافة العلمية
-    قيم العلوم
-    الثقافتان ونظرة أخرى
-     ما نوع التعليم المطلوب

16-    كيف نحقق أهدافنا؟
السياسات والوسائل الثقافية التي تناسب أمة في تحول مستمر
-    تكوين رؤية مستقبلية
-    ترجمة الأعمال الأجنبية
-    التبادل الثقافي
-    دور وسائل الإعلام
-    دور الأسرة
-    صلاة الجمعة
-    الأزهر الشريف
-    الآثار
-    الطقوس الاجتماعية
-    وسائل التواصل الاجتماعي
-    الإبداع وحرية التعبير

17-    البُعد السياسي
عن الحوكمة والمشاركة والتعددية
-    الحاجة إلى الحكم الرشيد
-    المجتمع المدني
-    حول التوازن
-    الديمقراطية وعيوبها
-    من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية
-    تغيير الخطاب السياسي
-    الاستنتاجات
-    السياق المزدوج للعمل الفني
-    الواقع المركب للهوية الثقافية
-    عودة إلى الرسم التوضيحي ثلاثيِّ المحاور
الجزء الخامس
البرامج الخاصة
18-     برنامج متنوع وشامل

19-    تقديم الجديد
برامج تمثلها الأسهم المتجهة إلى داخل الرسم التوضيحي
-    المجال الفكري
•    أفكار جديدة
-    المجال الإدراكي
•    وسائل الإعلام
•    منظومة التعليم
-    المجال المادي
•    تأثيرات التحديث
•    التغيرات المادية

20-    الارتقاء بالتراث المحلي
حول البرامج التي تمثلها الأسهم الداخلية بالرسم التوضيحي:
-    منظومة متكاملة ومتداخلة
-    ما تقوم به مكتبة الإسكندرية: أمثلة من بعض البرامج ذات الصلة
-    إعادة إصدار كتب التراث الإسلامي النهضوي
-    دراسات مع المفتي والأزهر
-    برامج عامة

21-    ثقافة العلم وقيم البحث العلمي
الارتقاء بالخطاب العقلاني والتميز الأكاديمي
-    للجمهور عمومًا
-    للأطفال
-    بناء قدرات البحث العلمي القومي
-    طلاب الجامعة، والخريجون، وطلاب الدراسات العليا

22-    بذور الأمل- الفنون
برنامج لرعاية أجيال جديدة من الفنانين
-    الفنون، والمسابقات، وقواعد البيانات
-    منظومة قومية مترابطة للفنون التشكيلية
-    المنشآت الثقافية الكبرى: الأوبرا، المسرح، الأوركسترا السيمفونية
-    المكتبات العامة بوصفها مراكز ثقافية قومية

23-    السينما والمسرح
حيث يلتقي الفن والسوق:
-    السينما القومية والإنتاج السمعي البصري
-    تشجيع صناعة السينما القومية
-    المسرح
-    مستقبل الترفيه السمعي البصري
-    دمج الأجهزة والتقنيات

24-    حول البيئة المادية
مدخل إنساني نحو العمارة والعمران
-    البناء السليم، والنمو الفكري
-    إحياء التراث العمراني
-    إحياء الصناعات الحرفية
-    إعادة طلاء واجهات المباني

25-    البحث عن التمويل
إجراءات تمويل الأنشطة الثقافية
-    المجالات التي تتطلب دعمًا أساسيًّا
-    المجالات التي تتطلب دعما ثانويا
-    سياسات الاختيار
-    آليات التمويل الخاص
-    الشركات القابضة
-    ضمانات القروض للمشروعات الثقافية
-    الأستديوهات الحكومية

26-    الاستثمار في الثقافة
العائد الاقتصادي الكبير للاستثمار في الأنشطة الثقافية

الخاتمة



استهلال
التفكير فيما لا يتصوره الفكر
"إذا بدا أن بعض الأفعال المرتكبة ضد الإنسانية تضع مقترفيها خارج دائرة الحوار، فيتعين علينا مع ذلك أن نتبنى مبدأ المساءلة، ونعني بذلك مساءلة الذات على وجه الخصوص. كيف أسهمنا نحن بدورنا في حدوث تلك اللحظة؟ إن الفشل في تفحص ذاتنا يقلل من قوة تأثير استجابتنا على المدى البعيد، كما أن هذا الفشل يحصرنا في عقلية المتعصب، فالمتعصب شخص لا يسعى مطلقًا للشفاء من دائه، بل قد يكون غير قادر على التعافي، وتتلاشى أمامه لحظة شك ساورته، أو خيارات ممكنة كانت متاحة له، أو الإمكانات المفقودة مع طريق لم يسلكه"
 وول سوينكا
 مناخ الخوف: البحث عن الكرامة في عالم فقد إنسانيته (محاضرات ريث لعام 2004)، راندوم هاوس،
 نيو يورك 2005، ص 141.

تتناول الدراسة التالية كيف يمكننا تحدي التيارات المتطرفة بيننا، كيف نتحداها فكرياً، وكيف نستطيع استعادة تراثنا الثقافي من براثن أولئك الذين يسعون لاستغلاله، ويحاولون تسخيره لأغراضهم السياسية الخاصة بهم. وحتى نحقق ذلك، سوف يكون من المحتم علينا أن نسائل أنفسنا كما اقترح وول سوينكا بكل حصافة في استهلال الفصل أعلاه. كما ينبغي علينا أيضاً أن نراجع الطريقة التي ننظر بها إلى ثقافاتنا وتراثنا، والأدوات التي نستخدمها في نشر تلك الثقافة.
وتمثل هذا الدراسة تأملاتي حول تلك القضايا وبعض الموضوعات الأخرى المتصلة، وحول الدور الذي يمكن أن تؤديه مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع جميع المؤسسات الثقافية بمجتمعنا في مواجهة التطرف والعنف، وتتكون الدراسة من خمسة أجزاء رئيسية هي:
الثقافة في مصر والعالم العربي، حول التطرف والعنف، ديناميكية التحول الثقافي، عناصر الاستراتيجية الثقافية، برامج محددة.
 
الجزء الأول
الثقافة في مصر والعالم العربي
1-    اختلافات
فكرة الهوية
-    اختلافات  وتشابهات
يتسم العالم العربي– شأنه في الواقع شأن العالم الإسلامي– بتنوع ملحوظ في مستويات التعليم وتحصيل العلم، وفي التنمية الاجتماعية-الاقتصادية، وفي شكل المؤسسات السياسية المنوط بها إدارة الحكم، وفي ثروات المواطنين ومستوى دخولهم. ومن ثم ينبغي لنا أن نتعامل بكل حذر وحيطة مع أية محاولة تزعم أنها تتناول "العالم العربي" أو "العالم الإسلامي" ككل. فتلك تعريفات نابعة من الاستسهال، حيث إنها تتجاهل عن عمدٍ وبغرضٍ واضح العديدَ من الاختلافات، لكي تبرز عاملًا مشتركًا مفترضًا يبرر استخدام هذا التوصيف. ومع ذلك فيمكن إلى حدٍّ ما تبرير استخدام تسمية العالم العربي من حيث وجود لغة مشتركة وبعض السمات المشتركة لعناصر في تاريخنا، فتلك العناصر المشتركة قد تبرر التسمية التي تعتبر تسمية سياسية في المقام الأكبر، حيث إن تلك الدول كلها أعضاء في الجامعة العربية. ومع ذلك فالجامعة العربية تجمع تحت مظلتها دولاً مثل الصومال ودولة الإمارات العربية المتحدة واليمن وقطر ومصر والبحرين والمملكة العربية السعودية وتونس وغيرها، وهي دول تتباين تباينًا هائلاً فيما بينها، مما يثير تساؤلاتنا الفكرية بلا أدنى شك. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن مواطني الدول العربية يشعرون في الحقيقة بتعاطف واضح تجاه ما يحدث لقرنائهم في الدول العربية الأخرى.
وحيث إننا قد أشرنا في مستهل المقال إلى مواطن الحذر، فمن الواجب علينا أن نتناول لب التحديات التي تواجهها تلك الدول
-    الظروف المأساوية في العالم العربي
يعاني العالم العربي من ظروف سياسية يصعب تخيل الأسوأ منها، من الانعزال الثقافي، إلى الدول الفاشلة، إلى الحروب الأهلية، ووصولاً إلى الأشكال الجديدة من الهمجية، فالعنف منتشر في كل البقاع، والإرهاب والتطرف يتحديان بكل صفاقة بعض الحكومات القائمة التي لا تمتلك سوى شرعية محدودة، وأصبح الملايين من اللاجئين بلا مأوى سواءً داخل بلادهم أو بعد عبورهم حدود الدول المجاورة. وتتواصل الأزمات الإنسانية، إذ نشهد كارثة ذات أبعاد تاريخية. فما السبب في ذلك؟ وهل من الإنصاف أن نشير إلى عالم عربي واحد؟ أم أن لدى كل دولة تاريخها المنفرد الذي أدى إلى تدهورها؟
تقوم الهوية بالنسبة للغالبية العظمى من العالم العربي على الثقافة، وبوجه محدد، على اللغة المشتركة. كانت تلك هي الرؤية الثاقبة والأساسية لصانعي النهضة في القرن التاسع عشر على غرار جورجي زيدان. لقد أدركوا في الواقع أن الإسلام أدى دورًا بارزًا في المحتوى التاريخي للقومية العربية، ولكنهم وجدوا تناقضًا بين المشروع القومي العربي الشامل والواقع الملموس للمشروع الإسلامي العثماني في العديد من الأمم والثقافات تحت المظلة الكبرى للإسلام. وفي المشروع الخاص بهم أدركوا أن العرب شعب ذو هوية واضحة، حيث إنه ليس كل عربي يدين بالإسلام، وليس كل مسلم عربيًا.
-    هويات متعددة، أمة واحدة
القومية العربية إذن ارتكزت على مفهوم عريض للهوية يقوم على فكرة الانتماء المفتوح: فكل من يحتضن ثقافتنا ولغتنا وخطابنا يصبح منتمياً إلى مجتمعنا، وهي فكرة تنبذ التمييز على أساس الجنس أو الدين أو العرق الأصلي وأي عنصر آخر يناقض فكرة الانتماء المفتوح، فالدول العربية المختلفة تمتلك تاريخًا مختلفًا ومن ثم فلها هويات متباينة، ولكنها تمتلك هوية عربية كبرى تضمها جميعاً.
تتمتع مصر بهوية فريدة بحق، فمنذ أن قام نارمر (أو مينا) بتوحيد القطرين الشمالي والجنوبي لمصر في 3100 قبل الميلاد، أي منذ ما يزيد على 5000 عام مضت، أصبح لمصر حكومة مركزية تحكم دولة مصرية تقع داخل نفس الحدود تقريبًا. وتركز المصريون في وادي النيل. ومن ثم نشأت هوية مصرية حقة ترتبط بالأرض وبالنيل، هوية قادرة على استيعاب كل الموجات المتعاقبة من المهاجرين والغزاة الذين تعاقبوا عليها طوال تاريخها.
ومع قدوم المسلمين العرب في القرن السابع الميلادي مرت البلاد بتحولات عميقة الأثر، حيث أخذ الإسلام مكان المسيحية بوصفه الديانة التي تدين بها الأغلبية، كما أصبحت العربية لغة كل من الحكام والمحكومين. وعلى الرغم من الصلات الوثيقة التي تربط بين المصريين والعرب الآخرين، فإنهم يظلون مصريين أولًا وعربًا ثانية. يعتبر الإسلام- إلى جانب مكونات أخرى- جزءًا مهمًا من الهوية المصرية، ولكن الإسلام– كما تتصوره حركات الإسلام السياسي– لا يمثل المكون المهيمن والأول سوى لأقلية من المصريين، حتى وإن كانت الغالبية العظمى من الشعب تتسم بالتدين الشديد. ويفتقر الكثيرون من العرب الآخرين إلى مثل ذلك الحس بالهوية الأولية التي تدخل ضمن هوية أوسع، ومن ثم فلديهم هويات تتسم في المقام الأول بصفتها المحلية أو قلة انتشارها والتي يلعب فيها الدين دورًا مهمًّا، ومن هنا فالمواطنون العراقيون يعرّفون أنفسهم بوصفهم في المقام الأول من الأكراد السنة، أو العرب السنة، أو العرب الشيعة، ثم كعراقيين ثانية. ويعتبر ذلك سردًا قوميًا ينعكس صداه على المستوى الأضيق في أماكن أخرى، مثل لبنان مثلًا.
وحتى يتسنى للديمقراطية أن تنجح وترسخ فمن المهم أن تكون الهوية السائدة هي هوية الدولة ذات السيادة التي ننتمي إليها كمواطنين. وحتى يصبح الجميع سواسية أمام القانون فإن أحد الأعمدة الأساسية للمواطنة يتطلب أن تكون الحكومة التي ننتمي إليها على نفس تلك الشاكلة. ويمكن لوحدات أخرى (مثل المقاطعات، الأقاليم، المناطق، فضلا عن الانتماءات مثل الديانة والتوجه السياسي وغيرها) أن تصبح محددات ممكنة ولكن بدون اجتثاث للهوية السائدة. ومن هذا المنطلق ففي سويسرا توجد هويات محلية قوية، ولكن السويسريين المتحدثين بالألمانية لا يرغبون في الانفصال عن سويسرا والانضمام لألمانيا، كما أن السويسريين المتحدثين بالفرنسية لا يودون الانضمام إلى فرنسا، فالهوية السويسرية تحافظ على تماسكهم ووحدتهم.
-    الهويات: دوائر متحدة المركز ومتداخلة
في حقيقة الأمر؛ نحن جميعنا نعيش بهويات عديدة تتكون عبر المولد والتنشئة (النوع، والجنس، والعرقية، والأسرة، والأصل القومي) وغالبًا ما نكتسب لغة الوسط المحيط بنا ونقبل الديانة التي يعتنقها آباؤنا. فالأطفال غالبًا ما يعتنقون ديانة والديهم، ولا يتحول منهم إلى ديانة أخرى في مرحلة لاحقة من عمرهم، ولا يشذ عن ذلك سوى عدد قليل. وكثيرًا ما نكتسب بعض الهويات الأخرى مثل الانتماءات لمجموعة مهنية أو أحزاب سياسية أو غيرها. ويتمنى المتعصبون أن يختصروا هوياتهم إلى هوية واحدة مهيمنة سواءً كانت دينية أو عرقية أو سياسية، وهو أمر لا يتحقق سوى على حساب الانتماءات المتعددة والواقع متعدد الأطياف للمجتمع العصري. ولقد عرض تلك الفكرة بكل قوة أمارتيا سين (انظر: أمارتيا سين، الهوية والعنف: خداع المصير (قضايا زمننا)، الناشر: و.و.نورتون اند كومباني، وأعيد النشر في 17 فبراير، 2007)، وقدم الفكرة ذاتها أمين معلوف (انظر: أمين معلوف، الهويات القاتلة).
-    أهمية الهويات المحلية
من الأهمية بمكان تنمية الهويات المحلية، مثل الإحساس بالروابط مع جيراننا وأبناء حينا، فذلك شرط أساسي لخلق إحساس جمعي وشعور بالمسئولية تجاه هذا المجتمع وصيانته، وتحسين ظروفه، والدفاع عنه ضد اعتداءات الآخرين من خارجه، على أن يكون هذا في إطار الانتماء الأكبر للدولة وهويتها.
ولنأخذ في حسباننا أن الاعتراضات الأساسية للقرويين الفقراء الذين يعيشون في قرى نائية فيما يخص العناصر الأكثر تطرفاً لا تكمن في مقدار ابتعاد تلك العناصر عن مقاييس المجتمعات الغربية أو بسبب اعتبارات حقوق الإنسان الدولية، وإنما تكمن في الواقع في وجودهم كدخلاء أجانب يأتون لكي يفرضوا إرادتهم عليهم. وكثيرا ما تكون الهويات العرقية والمحلية والدينية أشد قوة من المبادئ الأخلاقية. وعلى نفس المنوال ذاته، فإن هؤلاء الأفراد ذاتهم عندما يطالبون بالقيام بخيارات انتخابية فإنهم يفضلون اختيار فرد من عشيرتهم– أو أقرب ما يكون إليهم– عن اختيار مرشح يكون من الواضح أنه الأفضل، وإن كان لا يشاركهم هويتهم الأساسية.
ولكن لن يصبح بالإمكان تصميم نظام حكم لدولة عربية عصرية اليوم على أساس مزيج متجانس من الوحدات المتضائلة والنظيفة عرقيًا ودينيا، فالمثال السويسري لا يقبل التطبيق بسهولة في ظروفنا، حيث إنه يعمل بشكل كبير من خلال فرض قيود صارمة على السلطة المركزية (الفيدرالية)، وهو ما سيحد من كفاءة أية دولة عربية تطبق النموذج السويسري في خضم الأمم اليوم. وقد تستطيع لبنان القيام بمحاولة مماثلة، وإن كانت خبرتها في مجال التوزيع الطائفي قد أنتجت الحرب الأهلية في 1975-1990 بكل ما أحدثته من خسائر. وبالنسبة لبلدان كثيرة أخرى، فسيتعين عليها التعامل مع ميراث العالم العربي من الحدود السياسية الحالية والتي يعود عمر أغلبيتها للماضي القريب، حيث تم ترسيم الكثير منها بدون أخذ رغبات السكان في الاعتبار، مما سيدفع بها للانتصار للهويات المحلية على مستوى المقاطعات بدلاً من الهوية القومية على المستوى القومي أو الفيدرالي. وسينجم عن ذلك نزاعات متواصلة عند المقاطعات الحدودية عندما تنفصل عن دولة قومية وتنضم لأخرى مما يعيد ترسيم الخريطة على حساب السلطات القومية المعنية.
-    الهوية العربية والمساواة بين الرجل والمرأة
لا ينبغي أن نساند مزاعم الخصوصية الثقافية التي تهدر الحقوق الإنسانية الأساسية للمرأة وتبتر إمكاناتها باسم التقاليد، ولا ينبغي أن يفعل ذلك على وجه الخصوص أولئك الذين يفخرون– مثلي تمامًا– بهويتهم العربية الإسلامية، ولا يودون رؤية جوهر تراثهم يهان بسبب تلك المزاعم. لعلنا ندرك أن المجتمعات لا تحرز النجاح بدون القيام بمجهودات ضخمة من أجل تمكين نسائها عن طريق تعليمهن ووضع حد للتمييز ضدهن.
ولكن حتى في الدول التي لم تقع فريسة للمتعصبين الإسلاميين المسلحين، ونتيجة لأسباب عديدة، فإن معظم الدول العربية تميل إلى تفسير تراثها الثقافي بشكل محافظ ومعادٍ للنساء، مما كان له أسوأ الأثر في حال المرأة، فعلى الرغم من أن المرأة في تلك المجتمعات قد أدت دورًا مركزيًا في التطورات الثورية التي شهدناها في العقد الماضي، وخاصة منذ الربيع العربي، فإن الكثير لم يتحقق بعد. ويظل تمكين المرأة في مجتمعاتنا العربية ذات الأغلبية المسلمة حجر الزاوية في عملية الإصلاح المُجدي. وهو الاختبار الحقيقي للتقدم الفعلي، وسوف يكون محورياً من أجل الحفاظ على المكتسبات التي تحققت في التنمية الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في تلك الدول.
2-    الشباب
ظهور الشباب كقوة ثقافية
إن حالة جديدة من الفوران الشبابي تنتشر في كل مكان، ولقد ظهر التعبير السياسي للحركات الشبابية خلال ثورات الربيع العربي في 2011 وما بعدها. وسيطرت القوى الدينية المنظمة على الكثير من تلك الثورات، وأدت الانقسامات في العديد من المجتمعات إلى فوضى وحروب أهلية، وظهرت الأشكال الأكثر تطرفاً من الإرهاب الهمجي الذي طفا على السطح على أيدي القوى التي تلقب نفسها باسم "الدولة الإسلامية" في العراق والشام (داعش)، كل ذلك كان نتيجة لمزيج من عدة تيارات تاريخية ومجتمعية عريضة، ومنها:
-    الإفلاس الفكري للعديد من الأنظمة العربية على مدى فترات طويلة من الحكم سابقة على ثورات الربيع العربي، حيث عجزت تلك الأنظمة عن تجديد العقد الاجتماعي بشكل حقيقي، والاحتكار المستمر للسلطة من قبل نخبة متواضعة الفكر، نخبة كبحت مواهب الشباب وفرضت نظاماً من الهيمنة على الترقي السياسي والاجتماعي.
-    عودة ظهور الإسلام السياسي مرة أخرى، بعد أن استمر قمعه لمدة طويلة من قبل الخطاب السياسي القومي والعلماني، ولكنه اكتسب زخمًا جديدًا من خلال الثورة الإيرانية، والتمويل من جانب بعض الدول النفطية وأثرياء العرب، وظهور حزب الله في لبنان أثناء الحرب الأهلية الطويلة هناك ودوره في المقاومة أثناء الحرب الإسرائيلية في لبنان. ولقد "تفاقمت" تلك الأوضاع وغيرها بعد عودة "العرب الأفغان" الذين تحالفوا مع المجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفيتي لأفغانستان، مما أدى إلى اعتلاء طالبان سدة الحكم هناك.
-    الغزو الأمريكي للعراق في 2003، وما تبعه من فشل في إدارة الانقسامات العرقية والدينية الشديدة في ذلك المجتمع، بالإضافة إلى الحرب الطويلة التي شنتها أمريكا وحلفاؤها في أفغانستان، وبعدها أعمال القتل الممنهجة للمدنيين باستخدام الطائرات بدون طيار في باكستان وأفغانستان واليمن وغيرها، كل ذلك ساهم في تأجيج مشاعر الظلم التي غذت الاستعداد النفسي لدى الأغلبية المسلمة لقبول مواقف أكثر تطرفًا من شأنها استعادة القليل من احترام الذات والكرامة في مواجهة ما يرونه إهانة متواصلة لكرامتهم.
-    استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وضعف القيادة الفلسطينية مما أدى إلى ظهور (حماس) في غزة.
-    ظهور بيروقراطية استبدادية قوية، وخاصة في مصر، حيث قامت تلك البيروقراطية بخنق وإثارة حنق كل من تعامل معها. ويُعَدُّ ذلك النمط من البيروقراطية المستبدة مسؤولًا عن حركة تمرد الشباب في الستينيات في جميع أرجاء العالم الغربي.
ومن ثم فإن بزوغ التعصب والتطرف يمثل نبذًا لواقع متشابك ومعقد، واقع يتسم بالتعدد في مستوياته وهوياته. وهو محاولة لرفض المساواة في النوع والديانة والسعي لفرض الإرادة بالقوة، كما أنه يستمد قوته من الحميَّة الدينية، ومن الهويات المحلية المجروحة لشعوب تشعر بالظلم من أجل حشد قواه ضد الآخرين، مثل العرب السنة في العراق في العقد الأخير. ولا يخفى على أحدٍ طاقات الشباب التي تهدر بسبب مظاهر العنف الشديدة ورفض كل حوار، ولسوف تتركز المعركة الثقافية القادمة في التأكيد على التعددية وتعظيم جوانبها الإيجابية في الوقت الذي تنمى فيه مجموعة مركبة من الهويات التي يمتلكها كل فرد فينا.
وقد يكون من المفيد لنا في معركتنا تلك أن نستعرض أرض المعركة: المشهد الثقافي في العالم العربي اليوم، بكل ما يعاني منه من ضعفٍ، وكل ما يتسم به من قوة.
3-    الثقافات
أوجه الضعف وأوجه القوة

-    المشهد الثقافي في العالم العربي اليوم
نشهد في الوقت الراهن، وعلى معظم الأصعدة، تزايدًا ملحوظًا في أعداد الأعمال الجديدة المنتجة، سواءً في الرسم أو الكتب أو الأفلام أو التليفزيون أو الموسيقى، ونجد أن الشباب المهضوم حقه يحمل مشعل الفن والثقافة العربية، في حين أن الأعمال التجارية ذات المستوى المتواضع تستمر في السيطرة على الأسواق، ويمكننا تتبع هذا التوجه منذ السبعينيات وحتى الوقت الراهن. إن مصر التي كانت تسيطر على السوق الثقافي في العالم العربي (وتتبعها لبنان بقوة في أعقابها مباشرة) قد أصبحت اليوم واحدة من العديد من منتجي الفن والثقافة بعد أن أصبح الإنتاج أكثر تنوعًا عن ذي قبل، ولقد انفتحت دول الخليج بما تملكه من مصادر ثروة هائلة أمام الأفكار الجديدة وأصبحت مراكز عالمية للإنتاج الإعلامي والمؤسسات الثقافية. وفضلًا عن ذلك بدأت الواردات من تركيا والهند في السنوات الأخيرة تجد رواجًا في شبكات التليفزيون العربية وشاشات السينما، بالإضافة إلى الأفلام الغربية التي معظمها أمريكي.
وفضلًا عن ذلك، وعلى الرغم من تدهور الحال اجتماعيًا واقتصاديًا في العالم العربي حاليًا تدهورًا غير مسبوق؛ فإننا نجد ارتفاعًا ملحوظًا بوجه عام في النشاط الثقافي، فالأدب والسينما والمسرح والموسيقى تشهد كلها ازدهارًا عجيبًا يشير إلى حالة فصامية. ففي معظم البلدان باستثناءات قليلة واضحة، فإن النخبة القديمة المسيطرة على المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية ترفض إفساح المجال لازدهار المواهب الشابة، ولقد أدى ذلك إلى مناخ لم يشجع إلا المواهب المتواضعة، وكبح قدرة الشباب على المبادرة، كما خلق فجوة واضحة بين الأجيال تفصل بين النظام من جهة والجيل الشاب من الفنانين والمثقفين والقادة السياسيين المحتملين من جهة أخرى. مما زاد من الانفصام الذي حدث نتيجة لتبني الجيل الشاب التقنيات الجديدة الخاصة بثورة المعلومات والاتصالات التي حولت شكل الحياة جذريًا، تلك الثورة التي لا يكاد آباؤهم يفهمونها، بله أن يتمكنوا من أدواتها.
كيف يتسنى لهذا العنفوان الشاب أن يتعايش مع الكوارث السياسية والاجتماعية- الاقتصادية التي نشهدها في معظم أرجاء العالم العربي؟ قد يكون من العجيب أن يوجد هذا الازدواج الغريب في مجتمعاتنا، حيث يقوم الفنانون والكتاب الشباب بإعادة صياغة الساحة الثقافية لبلدانهم في الوقت الذي يتهاوى فيه العالم من حولهم، ولكن كل ذلك لا ينبغي أن يثير دهشة أي شخص يحاول إمعان الفكر في تاريخ الغرب خلال القرن المنصرم.
لقد حدث تحول واضح في الفن والأدب الغربي في الفترة بين نهاية القرن التاسع عشر ونهاية الحرب العالمية الثانية، فتلك كانت فترة تهاوت فيها الإمبراطوريات، وحدثت فيها ثورات، وتركت حقبة الركود الاقتصادي الكبرى أثرًا لا يمحى في أجيال في أمريكا، وشهدت ألمانيا تضخمًا شديدًا، وولدت أنظمة فاشية ونازية وشيوعية. قلما عانى المشهد السياسي من ظروف أسوأ، ولكن التحولات الثقافية التي طرأت في الغرب لم تدفعها قدمًا النخب والمؤسسات الثقافية بل الشباب المتمرد والحركات الثقافية المضادة. وظهرت أعمال في الرسم تنتمي إلى مدارس ما بعد الانطباعية، والتكعيبية، والدادية والعبثية إلى التعبيرية المجردة، ومن صعود الفن السينمائي والأفلام القوية على غرار مولد أمة والتعصب لجريفيث، وبوتمكين لأيزنشتاين، إلى روايات مثل عناقيد الغضب لستاينبك، ومصير الإنسان لمالرو، إلى العالم المستقبلي المرير في رواية 1984 لأورويل، ورواية نحن لزامياتان، لقصة التحول ورواية المحاكمة لكافكا، وعالم جديد شجاع لهاكسلي، للكتاب الذين سجلوا نهاية الإمبراطورية أو ظهور الطبقة البرجوازية، أو الذين شهدوا الحرب، على غرار كابوت لكورزيو مالابارت، جميع تلك الأعمال الفنية والأدبية كانت في قلب المناهضة لسلطة النخب السياسية والاقتصادية المهيمنة والمجتمعات الفاشلة التي أنتجتها تلك النخب، ومشاهد الفوضى العارمة والدمار الشديد التي أحدثتها. ويظهر صدى كل ذلك في حركات الشباب في الستينيات، ولقد عبرت عنها تحليليًا وفكريًا أعمال مثل روح العصر لإدجار موران وأعمال أخرى من قبل محللين وكُتَّاب آخرين.
إنني على قناعة بأننا نشهد تطورًا مماثلًا في ثنائية المشهد "الثقافي/الاجتماعي- السياسي" العربي، إلا أنني ما زلت أتوق لأجد بعض الفنانين وذوي العقول الخلاقة الذين يضاهون في رفعة مكانتهم الشخصيات الهامة في حركة التحول الغربية التي أصفها هنا، ولكن دعونا الآن نراجع التوجهات الأساسية في أهم المجالات الثقافية في مصر والعالم العربي.
-    أبعاد التعبيرات الثقافية:
عندما نتحدث عن المشهد الثقافي فنحن نشير إلى حيز عريض من الأنشطة: الأدب (ويشمل الشعر، والرواية، والقصة القصيرة)، والفنون البصرية (وتشمل فنون التصوير، والرسم، والنحت)، والموسيقى، والرقص، والمسرح، والسينما، والعمارة، والبيئة العمرانية. ويضم المشهد الثقافي أيضًا الصحافة، والتليفزيون، ووسائل الإعلام، إلى جانب الكتب والمطبوعات، والمجالات الجديدة للفضاء الإلكتروني والواقع الافتراضي. وتتطلب الأعمال الفنية والثقافية أيضًا وجود منظومة تعليمية ونقدية، والمطبوعات والقاعات المطلوبة لها. ولكن الثقافة تنطوي أيضاً على نشر ثقافة العلم التي لا تروج فقط للقيم العلمية. وإنما تشجع أيضًا الفكر المتزن والمنطق والأساليب القائمة على الدليل في تحكيم المنازعات والارتقاء بطريقة تنظيم الحكومة للأنشطة، كما أنها تعزز التعددية والإنصات إلى الآراء المعارضة، وتشجع الحلول متعددة الأطراف للمشاكل المجتمعية المعقدة، وهي حلول سوف تربط بين المعرفة التي توفرها العلوم الطبيعية واكتشافات العلوم الاجتماعية وحكمة الدراسات الإنسانية. وتتطلب مشاركة النظام التعليمي وحماية التراث، بما في ذلك التراث غير المادي والثقافة الشعبية، فضلًا عن الاجتهادات الفنية المعاصرة. جميع تلك الوسائل تتطلب حرية التعبير من أجل الارتقاء بالإبداع والموهبة.
ومن الواضح أن الإسهاب وتقديم نظرة شاملة عن الموضوعات المذكورة أعلاه قد تدفعنا خارج إطار هذا المقال، ولكننا سوف نسعى لإلقاء الضوء على بعض الجوانب التي تتعلق بأكثر من زاوية واحدة أو قطاع واحد من الأنشطة، وخاصة أننا انطلقنا منذ البداية بمقدمة مفادها ضرورة تعزيز التعددية في جميع المجالات الثقافية.
-    الشعر:
لقد احتل الشعر دومًا مكانة مهمة في تاريخ الأدب العربي، بل إنه في الواقع احتفظ بأرقى منزلة منذ العصر الجاهلي وحتى القرن العشرين، وفي منتصف القرن العشرين حدث تحولان مهمان، أولهما أن الرواية أزاحت الشعر واحتلت مكانه بصفتها الشكل الأدبي الفني المركزي، وثانيهما أن القصيدة الشعرية الكلاسيكية (بأوزانها وقافيتها) والتي وصلت إلى أوجها على يد أحمد شوقي واستمرت حتى نهاية القرن العشرين مع شعراء على شاكلة أبي القاسم الشابي (تونس) وبدر شاكر السياب (العراق) ونزار قباني (سوريا) ومحمود درويش (فلسطين) وجددها أدونيس (سوريا) تم الالتزام بها ثم التخلي عنها تمامًا في الأعمال الشعرية للشاعر صلاح عبد الصبور، الذي يعتبر رائدًا من رواد الشعر العربي الحر، وفي الأعمال المكتوبة باللهجة العامية لشعراء مثل صلاح جاهين، وأحمد فؤاد نجم، وسيد حجاب.
ومع بدء القرن الواحد والعشرين وكما حدث في مناطق أخرى كثيرة فإن الدور الكلاسيكي للشعر لم يعد أساسيًا في المشهد الأدبي، أما القصائد المهمة التي نجحت في الوصول إلى الجماهير وهزت مشاعرهم فلقد نجحت من خلال الأغاني التي كانت أحيانًا سياسية كما حدث مع الشيخ إمام الذي تغنى بكلمات أحمد نجم، وفي معظم الأحيان من خلال موسيقى البوب، أما الآن فعلى هيئة الراب والهيب هوب. أو في صورة اجتماعات شعرية حيث يُلقَى الشعر على الشباب مثل هشام الجخ الذي ذاع صيته منذ ثورة 2011.
لقد أطلق شيلي على الشعر لقب "المشرِّع غير المعترف به" (برسي ب. شيلي، في الدفاع عن الشعر، 1821) ولكن الشعر بهذا المعنى الكلاسيكي والذي كان قادرًا على تغيير رأي الجماهير بنفس قوة الكتاب أو المقال السياسي أو العمل الصحفي المعاصر قد اختفى تمامًا، ويرجع ذلك لأسباب عديدة من بينها سبب وحيد واضح: أن نخبتنا الاجتماعية، المتعلمون بيننا، الذين كانوا وما يزالون إلى الآن يمثلون العاملين في الدولة وقطاع الأعمال ليسوا على نفس الدرجة من الدراية بالتراث الثقافي الكلاسيكي مثل أقرانهم في بداية القرن العشرين، وفي الحقيقة حتى الخمسينيات. ففي العصور الفائتة عندما كان ناقد مثل عباس محمود العقاد يخاطب قارئيه كان يتوقع منهم أن يفهموا الشعر العربي القديم ويهتموا به، أما اليوم فعندما يكتب علماء متخصصون على شاكلة جابر عصفور أو صلاح فضل حول الأدب فليس بالإمكان افتراض وجود مثل تلك المعرفة لدى القارئ، فالمتخصصون فقط على دراية بالشعر القديم والحديث. وعندما يشاءون استخدام النقد الأدبي كوسيلة للكتابة حول المجتمع والسياسة فمن الأجدى لهم تناول الرواية بدلا من الشعر.

-    الأدب:
منذ منتصف القرن العشرين كانت الرواية العربية هي باستمرار الدعامة الأساسية في أسواق الأدب، من الروايات الأكثر رواجًا لإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، ويحيى حقي. وحتى أعمال أحمد عبد الحليم عبد الله، ولكن منذ أن حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأدب حدث تحول هائل في الوعي العربي العام تجاه تذوق الرواية كشكل أدبي، مما أحدث نهضة أدبية من نوع ما، فالرواية لم تعد تهدف إلى مجرد التسلية بل أصبحت عملًا أدبيًا ومعرفيًا رصينًا.
وبمحاولة استكشاف واقع الرواية العربية نجد اتجاها لدى كل من النقاد والجمهور العام للبحث عن الروايات الأكثر رواجاً، ومع ذلك لا تُعَدُّ المعلومات الخاصة بمبيعات أسواق النشر العربي بيانات يوثق بها، حيث توجد أسئلة تطرح نتيجة لغياب آليات واضحة ومحددة لمراقبة كيفية إنتاج تلك البيانات.
ولكن بمقدورنا مناقشة بعض أكثر الكتب أهميةً في العالم العربي ومعظمها يتمتع بشعبية كبيرة، وفي الوقت الراهن تضم الأنواع الأكثر شعبية روايات الرعب والخيال العلمي وقصص المغامرات، وفي هذا المضمار يُعَدُّ د. أحمد خالد توفيق واحدًا من أكثر كتاب عصره تأثيرًا حيث يبدو أنه يتمتع بمتابعة الكثيرين ويقدم طيفًا عريضًا من الموضوعات التي تناسب القارئين العرب من صغار السن حتى سلسلة رواياته التي تصنف بوصفها واقعية أو رعب/خيال علمي. وربما كان د. نبيل فاروق يتمتع بالشعبية الأوسع بعد د. توفيق في هذا النوع الأدبي الخاص.
ويُعَدُّ الأدب المهموم بتصوير الأحداث الجارية على درجة كبيرة من الأهمية، حيث يقدمها من خلال عدسة الأحداث التي تقع في المجتمع، وأحد أهم الأسماء اللامعة هو علاء الأسواني بروايته عمارة يعقوبيان، وأحيانًا ما يشار إلى مثل تلك الروايات بوصفها أدب النميمة، حيث تستخدم قائمة من الأسماء المستعارة في رواية تسرد أحداثًا حقيقية بشخصيات من وحي الخيال.‎
مثل هذا النوع الأدبي يحقق عادة نجاحًا فوريًا هائلًا، ولقد انتشرت تلك الظاهرة انتشارًا كبيرًا في العالم العربي حيث ينشر معظم الروائيين رواية واحدة تحقق أعلى المبيعات، ليحتفلوا بعدها بنجاحهم غير المتوقع، وقد تثير بعض تلك الروايات جدلًا مجتمعيًا واسعًا وقد تهاجم أيضًا عادات وتقاليد راسخة في المجتمع، مثل رواية رجاء الصانع (بنات الرياض) التي تم منعها فورًا في المجتمع السعودي نظرًا لمحتواها المثير للجدل. ولكن رواية بنات الرياض متوفرة علنًا على أرفف أكبر المكتبات في المملكة العربية السعودية. وردًا على هذه الرواية المثيرة للجدل قام الروائي إبراهيم صقر بنشر روايته بنات الرياض: الصورة الكاملة.
ويمكننا رؤية انتقادات المجتمعات العربية في أفضل أعمالنا الأدبية التي تحصل على الجائزة الدولية للرواية العربية المعروفة باسم جائزة بوكر العربية، فلقد حازت رواية ساق البامبو لسعود السنوسي الجائزة لعام 2013، وهي رواية تصف حياة شاب كويتي فليبيني، ولد لأم فليبينية وأب كويتي، ووقع في الحب وتزوج. تقع أحداث الرواية جزئيًا في الفليبين وجزئيًا في الكويت، وتثير تساؤلات حائرة حول الهوية القومية والعرقية والدينية، ورفض المجتمع الكويتي لمثل تلك الزيجات.
وتتبنَّى بعض الروايات أسلوبًا واقعيًا ونقديًا إلى حد كبير في تصوير الواقع في المجتمعات العربية، على غرار روايات واسيني الأعرج من الجزائر، وبهاء طاهر من مصر، وبنسالم حميش من المغرب. أهم الأعمال الأدبية لواسيني الأعرج مثل رواية البيت الأندلسي ورواية الأمير عبد القادر تستدعي التاريخ لكي تتناول المشاكل الحالية في المجتمع بشكل غير مباشر، بينما يستلهم بهاء طاهر التراث الشعبي والقيم الاجتماعية الثقافية في أعماله الأدبية مثل خالتي صفية والدير، وبالأمس حلمتُ بكِ. وثمة أدباء مهمون حاولوا تقديم النقد الذاتي أو تصوير التغيرات الثقافية والسياسية التي طرأت على هذه المجتمعات، ومن هذه الأعمال الناجحة الزيني بركات لجمال الغيطاني، والحرب في بر مصر ليوسف القعيد، وذات لصنع الله إبراهيم، وطيور العنبر لإبراهيم عبد المجيد، ويوم غائم في البر الغربي لمحمد المنسي قنديل.
وهناك أيضًا بعض الروائيات اللاتي أخذن على عاتقهن مناقشة أحوال المرأة في المجتمعات العربية وجهادها نحو تحقيق المساواة: ففي مصر نجد لطيفة الزيات، ونوال السعداوي، وسلوى بكر، وإقبال بركة، وأليفة رفعت، وميرال الطخاوي، وسحر الموجي. وفي الجزائر آسيا جيار، وأحلام مستغانمي، وفاطمة مرنيسي، وليلى أبو زيد من المغرب، وهن المعروفات لدى القراء العرب والغربيين. وكذلك سحر خليفة وفدوى طوقان من فلسطين، وغادة السمان من سوريا، وحنان الشيخ من لبنان، وكلهن من الأسماء المعروفة أدبيًّا في الوطن العربي.
وبالنظر فيما وراء هذا النوع الأدبي نجد محمد المخزنجي يحقق قفزة كبرى في تاريخ أدب القصة العربية القصيرة، ولأنه طبيب نفسي فإن قصصه القصيرة تعكس فهما شعرياً غير مسبوق للظروف الإنسانية وعمقًا فلسفيًا، فنجده يغوص مباشرة في أعماق النفس البشرية، فترسي أعماله مقاييس القصة القصيرة كما فعلت أعمال يوسف إدريس في جيل سابق، وفي مقالاته ابتعد المخزنجي عن الأسلوب التقليدي في الكتابة، واستخدم على سبيل المثال صفات حيوانية ونباتية بغرض التعامل مع القضايا والمشاكل الاجتماعية.
وفي الوقت الحالي تحدى العديد من الكتاب الشبان استخدام اللغة العربية الفصحى، مفضلين التعبير عن ذواتهم عن طريق اللغة المصرية العامية، كما أن رواياتهم الكوميدية تتخلى أحيانًا عن الشكل التقليدي للسرد والبنية السردية المعروفة. ومن أمثلة هذا النوع من الكتابة رواية خالد الخميسي تاكسي المكتوبة باللغة العامية وتصور حياة المدينة من خلال صوت سائقي التاكسي. وتضم المجموعة الصاعدة من جيل الكتاب الشبان عمر طاهر مؤلف كمين القصر العيني، وكذلك عصام يوسف المعروف بروايته ربع جرام، وأسامة غريب مؤلف مصر ليست أمي دي مرات أبويا. ونجد اللغة المصرية العامية مستخدمة في أشكال أدبية كثيرة مثل المقال والقصة القصيرة والسرد الحر، وتعتبر كلها من الأشكال التي يقرأها جمهور القراء بنهمٍ شديد.
ومن الواضح أنه خلال السنوات العشر الماضية ازدهرت الرواية الأدبية بالتوازي مع ازدهار حركة النقد الأدبي في مصر والمغرب والسعودية، ومع ذلك فالعديد من الأعمال الأدبية تثير قضايا أو تطرح موضوعات تواجه مشاكل على غرار:
•    مكانة المرأة في المجتمع في الأعمال الأدبية لأحلام مستغانمي.
•    المدخل النقدي نحو الثقافة البدوية والمجتمع التقليدي والثروة في خماسية عبد الرحمن منيف (مدن الملح).
•    الإحالات والإشارات المتمردة ضد الأنظمة الحاكمة في (سقوط الصمت) لعمار علي.
•    المدخل النقدي نحو التيارات الدينية في (المرشد) لأشرف عشماوي.
وعلى الجانب المقابل للقضايا الخلافية نلاحظ أيضاً ظهورًا للجنس الأدبي الإسلامي، وهو نوع أدبي يحافظ على الأفكار التقليدية، ويتمسك برسم شخصيات محافظة، ويتبع أسلوبًا كلاسيكيًا في الكتابة، ومما لا شك فيه أن هناك ثروة من الأعمال الأدبية العربية سواءً على هيئة روايات طويلة أو قصص قصيرة، أو سواءً كانت أعمالًا كلاسيكية أم معاصرة، أو كانت مكتوبة باللغة العامية أم باللغة العربية الفصحى، وكلها أعمال تستحق التحليل والفحص (انظر ضمن أعمال أخرى كتاب جابر عصفور: القص في هذا الزمان، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2014).
وبالنظر إلى هذا المشهد الثري المتنوع ينبغي لنا في الوقت ذاته أن نضع الأمور في نصابها الحقيقي. فإذا كان يتعين علينا أن نقيس المنتج الثقافي لـ 350 مليون عربيّ مقارنةً بما تنتجه الولايات المتحدة الأمريكية التي يسكنها عدد مقارب لذلك، فإن إنتاجنا وأسواقنا تبدو شديدة الضآلة، ولا نكاد نُقارَن مع فرنسا أو المملكة المتحدة واللتين لا يزيد عدد سكان كل منهما على خُمس مجموع السكان في العالم العربي.
-    كتب وبرامج الأطفال:
من المعروف والمقبول فكرة أن تشكيل العقول يبدأ في مرحلة مبكرة من العمر ويستمر في نموه عبر فترة المراهقة وصولًا إلى مرحلة النضوج، ومن هذا المنطلق فإن أدب الأطفال والبرامج التليفزيونية الخاصة بهم تؤدي دورًا مهمًا في هذا النمو. فمثلًا برامج التليفزيون مثل عالم سمسم وجدت قبولًا شبه عالمي، ولكن لا يستطيع تحقيق مثل ذلك النجاح سوى القليل من البرامج.
وتُعَدُّ الكتب المصورة من أنجح أنواع الأدب الموجه للأطفال والمراهقين، فلقد تطورت تلك الكتب في جميع أرجاء العالم على مدار القرن العشرين، ففي فرنسا وبلجيكا أصبح "تنتن" لهرجي و"سبيرو" لفرانكوان شخصيات محبوبة وظهرت معهما صناعة تطورت حتى وصلت إلى الناضجين، وفي اليابان تضم (مانجا) أعمالًا لجميع الأعمار في كل الأجناس الأدبية: الخيال العلمي والخيال، الدراما والمغامرات، الرياضة والألعاب، القصص الرومانسية والتاريخية، القصص البوليسية والغموض، الإثارة والرعب، الجنس والكوميديا. وتُعَدُّ (مانجا) جزءًا أساسيًا في صناعة النشر اليابانية فهي تمثل مليارات الدولارات في المبيعات المحلية ومئات الملايين في التصدير.
وفي الولايات المتحدة تنامت شخصيات ديزني الشهيرة من ميكي ماوس حتى شخصيات الطفولة الأخرى، وأصبحت تمثل إمبراطورية للترفيه والمتعة، وفي الوقت ذاته فإن أعمال الحركة والإثارة التي تبناها سيجل وشوستر في "سوبرمان" ولاحقًا "باتمان" قدمت نوعًا جديدًا هو البطل الأقوى، وفي الوقت الراهن نجحت مجموعة مارفل في الوصول إلى جماهير العالم من خلال سلسلة أفلامها ذات الرواج الهائل من هوليوود.
وفي مصر في الخمسينيات ظهر كل من سمير وميكي ولكن تأثيرهما على الأطفال كان محدودًا، فالأعمال المستوردة سيطرت على هذا المجال وانتقلت إلى الأفلام والتليفزيون.
ولكن البعض قد أشار إلى بعض السمات الثقافية الخفية في هذه الحكايات المستوردة، فالأساطير المؤسسة للحكايات الغربية بدءًا من الأخوان جريم والقصص الخيالية الأخرى وصولًا إلى الكتب المصورة الحديثة كلها تبرز قصة الابن المبذر، واليتيم الوحيد الذي يتحول إلى بطل (سوبرمان وباتمان). بدأ نايف المطوع من الكويت سلسلة الـ99 لشخصيات الكتب المصورة (الكارتون) لمقاومة ذلك التوجه ولكي يخلق أساطير عربية إسلامية مؤسسة مستخدمًا أسماء الله الحسنى كمصدر للإلهام ومؤكدًا أن تلك الشخصيات (كل شخصية منها تمثل فضيلة معينة) تستخدم تلك الفضائل وتدعو لها من خلال العمل الجمعي، وفي السنوات الأخيرة تبنى آخرون هذا الأسلوب، ولكنه ما يزال محدودًا بشدة وليس له تأثير كبير في المشهد الثقافي العام في العالم العربي. ومع ذلك يظل شكلًا يحمل إمكانات هائلة.
وفضلًا عن ذلك، من المهم أن نلاحظ أن كتب الأطفال المصورة وأفلام الكارتون قد تصبح وسيلة ترفيهية تعلم الأطفال التاريخ وتعرفهم بجوانب مهمة من جوانب ثقافتهم، مثلما حدث في سلسلة لاروس عن تاريخ فرنسا على سبيل المثال.
-    التراث الشعبي (الفلكلور):
يختلف الفن الشعبي عن الحكايات الخيالية الغربية وعن كتب الأطفال الحديثة، وإن كان يتميز بثراء كبير في محتواه بدءًا من أساطير العصور الوسطى وحتى الأمثال المعاصرة، ولقد كان الفن الشعبي واحدًا من جوانب تراثنا التي حرصت مكتبة الإسكندرية على توثيقه منذ العمل العظيم الذي قام به أحمد تيمور عن الأمثال الشعبية، ولكن كان هناك افتقار للأعمال الجادة حول الفلكلور وأسلوب التعبير الذي يغلب عليه الطابع الشفاهي والعامي الذي يمثله. ويتعين علينا أن نضم إلى كل ذلك موسوعة المفردات التي أنتجها قسم توثيق التراث بالمكتبة، وأعمال أحمد مرسي، وحديثًا العمل المثير الذي قام به سعيد المصري إعادة إنتاج التراث الشعبي المصري.
-    المسرح
تعود جذور المسرح في مصر والعالم العربي إلى القرن التاسع عشر، وفي النصف الأول من القرن العشرين قدم الرواد المصريون على شاكلة يوسف وهبي الأعمال الكلاسيكية العالمية على المسرح المصري، كما استخدم نجيب الريحاني فن الكوميديا كمرآة عاكسة لكثير من المشاكل الاجتماعية في عصره، فازدهر المسرح بقوة في النصف الثاني من القرن العشرين.
وخلال خمسينيات القرن العشرين ظهر جيل جديد من كتاب المسرح والمخرجين على عكس من سبقوهم، وبدأوا حقبة رائدة في تاريخ المسرح المصري، فعرضوا أعمالًا لصلاح عبد الصبور وألفريد فرج ولسعد الدين وهبة ولطفي الخولي ونعمان عاشور ويوسف إدريس ومخرجين مثل نبيل الألفي وسعد أردش وعبد الرحمن الزرقاني. وفي الستينيات تبلور تيار مسرحي جديد يسعى إلى صياغة هوية مسرحية تختلف عن الأنماط المسرحية الغربية التقليدية، تحت قيادة توفيق الحكيم ويوسف إدريس وغيرهم.
وعقب هزيمة 1967 أصبح المسرح وخاصة الأعمال التي تزخر بالكوميديا الساخرة واللاذعة قوة كبرى في نقد الأنظمة السياسية القائمة، والهجوم على تسيب الحكومة وفسادها، فقدمت مسرحيات على مسرح تحية كاريوكا في مصر على غرار البغل في الإبريق والقنطرة؛ فضلًا عن أعمال دريد لحام في لبنان مثل العمل الكلاسيكي كاسك يا وطن في 1979، وفيلم الحدود في 1982. كل تلك الأعمال عبرت عن رؤية نقدية قاسية هاجمت المؤسسات السياسية وقادة العالم العربي والظروف الصعبة التي تعيشها مجتمعاتنا. وكانت بمثابة طليعة الأعمال السياسية الساخرة التي قدمها التليفزيون حديثًا على غرار برنامج باسم يوسف الذي حظي بشعبية هائلة في مصر عقب الربيع العربي في 2011.
وطوال السبعينيات واصل رواد المسرح انتقاداتهم الفنية، في الوقت الذي استمر فيه المسرح الترفيهي التقليدي في تحقيق النجاحات التجارية، وعليه ففي عام 1972، قدم المسرح القومي المصري عرضين مسرحيين مستوحيين من مسرحيتين مرموقتين وهما: الأيدي الناعمة لتوفيق الحكيم، والجنس الثالث ليوسف إدريس، بالإضافة إلى أن ألفريد فرج قدم مسرحيته النار والزيتون، وظهر جيل جديد من أساتذة الجامعة على شاكلة سمير سرحان، ومحمد عناني، وفوزي فهمي.
كان من أهم الثنائيات المتعاونة معًا في السبعينيات الشراكة المتميزة بين الكاتب المسرحي لنين الرملي والممثل والمخرج محمد صبحي، فلقد قدمت تجربة غير مسبوقة في مسارح القطاع الخاص، وفي أوائل الثمانينيات، أسسا شركة مسرحية خاصة بهما، عرفت باسم استوديو 80، طرحت تساؤلات اجتماعية وسياسية ملحة من خلال مسرحيات متميزة وبأسلوب راق. لقد حققت مسارح القطاع الخاص، والمسارح الكوميدية على وجه الخصوص، نجاحًا مبهرًا في التسعينيات، حيث قام بالتمثيل فيها ممثلو الكوميديا مثل نجم المسرح والسينما عادل إمام، الذي ورث عباءة أسلافه المحبوبين مثل نجيب الريحاني وفؤاد المهندس، ولكن الضغوط التجارية إلى جانب الرقابة أدت لاحقًا إلى تدهور المسرح الجاد في مصر. فقد قمعت الرقابة الإبداع المسرحي في العديد من الدول العربية والتي كانت تنعم بدعم مادي سخي، أما مهمة الانتقاد فلقد انتقلت إلى العديد من القنوات التليفزيونية المستقلة وظهرت على شاشاتها السخرية السياسية.
ولكن على الرغم من ظهور بعض الأعمال الاستثنائية المتميزة مثل ليالي الحلمية لأسامة أنور عكاشة، فإن الأغلبية العظمى من المسرحيات اليوم متوسطة القيمة والمستوى، واختفى إلى حد كبير المسرح بوصفه شكلًا من الأعمال الفنية الجادة ذات القيمة الباقية في معظم العالم العربي.
-    السينما:
تُعَدُّ السينما الشكل الفني الأصيل الذي يميز الجزء الأخير من القرن العشرين، وحتى إن تغلبت عليها أشكال متعددة من الفنون الرقمية، إلا أنها تظل في هذا العصر في بداية القرن الواحد والعشرين شكلًا فنيًا مهمًّا، والسينما المصرية التي بدأت في 1907 كانت السينما المهيمنة على العالم العربي ولها مكانة مرموقة في تراث السينما العالمية. ولا شك أن الأعمال التي أنتجتها السينما المصرية الكلاسيكية في العقد الأول من القرن وحتى السبعينيات قد جعلت من الممثلين والممثلات المصريين شخصيات معروفة ومحبوبة في جميع أرجاء العالم العربي.
وفي مصر أُنتجتْ أفلام ذات فكر عميق تحدت التيار التجاري السائد ووقفت له بالمرصاد، ونرى ذلك بدءًا من العصفور الذي يتناول هزيمة 1967، وسلسة أفلام الإسكندرية، والأرض، وباب الحديد ليوسف شاهين، وفيلم المومياء لشادي عبد السلام، والزوجة الثانية لصلاح أبوسيف، والطوق والأسورة لخيري بشارة، وشيء من الخوف لحسين كمال، إلى أفلام خالد يوسف على غرار حين ميسرة، و678 لمحمد دياب، واحكي يا شهرزاد ليسري نصر الله، وهليوبليس وميكروفون لأحمد عبد الله، إلى الميدان لجيهان نجيم الذي يدور حول مظاهرات ميدان التحرير في 2011 و2013، والذي رشح لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم وثائقي لعام 2013. وكذلك المشروع الجريء فيلم 18 يوم، وهو فيلم سينمائي مكون من عدة أفلام قصيرة لعشرة مخرجين مختلفين عن الثورة المصرية، وقد عرض في مهرجان كان السنيمائي عام 2011.
 واليوم، على الرغم من أن الكثير من الفنانين الشباب لا يستطيعون تحقيق النجاح التجاري، فإن أعمالهم هي التي سوف تشكل وعي الجيل القادم وتحدد الإطار الثقافي لعشرينيات القرن الحالي، ولذا فمن الحتمي إذن تبني سياسة ثقافية تطمح إلى دحر التطرف في المجتمع واكتشاف الوسائل لتعزيز التجارب السينمائية، وخاصة التي تقوم بها المواهب الشابة المغمورة.
-    الموسيقى:
ظهرت الموسيقى المصرية الحديثة في القرن العشرين على أيدي مؤلفين موسيقيين متميزين مثل الموسيقي الشهير سيد درويش، ومطربين بارزين على شاكلة منيرة المهدية وعبده الحمولي. ولقد ازدهرت الموسيقى في الثلث الأوسط من هذا القرن من خلال وسائط عديدة. تضمنت أغنياتُ أم كلثوم، والتي تُعَدُّ أعظم صوت نسائي عربي في القرن العشرين، بعضَ روائع الشعر العربي القديم إلى جانب أشعار معاصرة متميزة، وقام بتلحين تلك الأغاني موسيقيون مثل رياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب الذي يعد واحدًا من أعظم أصوات الرجال في ذلك العصر. وكانت الأغاني المصرية تؤدى أيضاً داخل الأفلام المصرية في الوقت الذي تطورت فيه السينما المصرية تطورًا كبيرًا وانتشرت الأفلام المصرية في كل أرجاء العالم العربي حتى الربع الأخير من القرن، وعمل في مصر العديد من المطربين المرموقين من غير المصريين مثل وردة الجزائرية، وهي من أصل جزائري. وبعد أم كلثوم ظهرت العظيمة فيروز من مسارح واستوديوهات بيروت، وأصبحت أكثر مطربة ذات شعبية في العالم العربي. ثم أثارت الثروة النفطية التي حدثت لاحقًا رياحًا صحراوية عاتية على عالم الفن في مصر والعالم العربي كله، فتضاءلت أهمية ساحة الموسيقى المصرية.
وقد خلقت الموسيقى المحبوبة المتمثلة في فيديوهات الموسيقى المعاصرة والفرق الموسيقية الشبابية الصاعدة طرازًا مختلفًا تمامًا في مجال الفن والترفيه، أشبه بفرق الروك الغربية والجاز وموسيقى البوب، وذلك بعد ظهور قناة إم تي في. وهناك بعض الأمثلة المثيرة للمزج والتلاحم. ومن الواضح أن تلك الفرق جذبت جماهير عريضة من الشباب في كل مكان. ويجب علينا أيضاً أن نلاحظ ظهور ما أطلق عليه بشكل غير دقيق "مهرجانات الموسيقى" والتوسع في استخدام الراب والهيب هوب لتوصيل رسائل سياسية صادمة من الشباب، وخاصة بعد أحداث الربيع العربي في 2011، فتلك هي التجليات المعاصرة للغناء المتمرد للشيخ إمام الذي تغنى بكلمات أحمد فؤاد نجم في جيل سابق.
أما التراث الغربي للموسيقى الكلاسيكية مثل الأوبرا والباليه والأوركسترا السيمفونية، والذي بدأ في القرن التاسع عشر؛ فما زال مستمرًا إلى الآن، حيث دعمته الدولة وما زالت تدعمه، وهو مُوَجَّة لنخبةٍ ذات ثقافة غربية أكثر منه لجموع الشعب.
وعلى التوازي، نلاحظ ظهور محمود رضا وهو من رواد الرقص الشعبي ومشجعيه الأوائل، وقد نجح نجاحًا باهرًا في تكوين حركة كاملة في مصر أصبحت بعدها كل محافظة تقريبًا تمتلك فرقة محلية للرقص الشعبي، وما زالت الحركة تجتذب الجمهور على الرغم من موقف اليمين الديني المحافظ ورفضه للرقص بجميع أنواعه، بدءًا من الراقصات الشرقيات مثل تحية كاريوكا وسامية جمال، إلى الباليه والراقصات الشعبيات وموسيقى البوب الحديثة والمعجبين بها.
-    الرسم والنحت والفنون التصويرية:
أسهمت أربع مناسبات في ظهور الفن الحديث في مصر: أولًا، في القرن التاسع عشر، اتخذ الشيخ محمد عبده، ولاحقًا مفتي مصر، موقفًا جريئًا يحلل التماثيل والرسومات ويسمح بها، مما كان له أثر محوري في تشجيع الفنون التصويرية (الرسم والنحت) وانتشارها على الرغم من اعتراضات أتباع التيار الديني المحافظ الذين كانوا يرغبون في منع وتجريم الفنون التصويرية، وظهر الفن المصري المعاصر بقوة ليؤكد تاريخنا وتراثنا وثقافتنا القومية بلغة عصرية.
وفي 1870-1871 تم وضع تمثال محمد على ممتطيًا ظهر الحصان في ميدان عام بالإسكندرية، وكان أول تمثال من نوعه في مدينة أغلبيتها من المسلمين، وفي عام 1908 أقام الأمير يوسف كمال مدرسة الفنون، وفي عام 1927 أقام محمد محمود خليل متحفًا للفن الحديث (قبل أن تقيم آبي ألدريتش روكفلر وأصدقاؤها متحف الفن الحديث في نيويورك بعامين). وسمحت مدرسة الفنون للطلاب بالتعرض للحركات الفنية الدولية (الأوروبية) المتنامية التي تحدت التراث الأكاديمي من الانطباعيين إلى ما بعد الانطباعية. إن رواد الفن الحديث في مصر الذي ظهروا بشكل أساسي في القاهرة والإسكندرية تأثروا تأثرًا كبيرًا بالأساليب والتقنيات الأوروبية، ولكنهم مالوا إلى استخدام موضوعات قومية بتأثير ثورة 1919.
إن أعمال النحت التي أبدعها محمود مختار (1891-1934) هي التعبير الخالص لهذا العصر الليبرالي، وعلى وجه الخصوص التمثال الذي يمثل نهضة مصر، واستمرت تقاليد النحت مع أعمال السجيني، وآدم حنين، وأحمد عبد الوهاب، وآخرين، وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا.
وفي مجال الرسم، ضم الرواد شخصيات مثل محمد ناجي، ورامي أسعد، وراغب عياد (1892-1982) يتبعهم محمود سعيد، وآدم وانلي، وسيف وانلي، ومارجريت نخلة. ويعتبر محمود سعيد أكثر فناني مصر شهرة، وتحظى أعماله بأعلى التقديرات في المزادات الفنية حول العالم. وتظهر الموضوعات النسوية في بعض أعمال فنانات مثل مارجريت نخلة التي رسمت مناظر من حفلات الزفاف الكنسية والحمامات العامة فارتفعت بالمشاهد اليومية إلى مرتبة الفن العظيم. ولاحقًا، أصبحت إنجي أفلاطون (1924-1989) شخصية مهمة في الساحة الفنية وواصلت التقاليد النسوية. كان عبد الهادي الجزار (1925-1966) وكمال أمين (1923-1979) من الشخصيات المهمة أيضاً في المشهد الفني بعد 1952. وبعد 1970، حدثت صحوة لفن الخطوط بوصفه عنصرًا هامًا في الفن العربي المعاصر، بدءًا من بعض رسومات كمال بُلاطة وحتى الأعمال المعاصرة المذهلة لأحمد مصطفى (مصري مقيم في المملكة المتحدة).
وقد أطلقت الثورة المصرية في 2011 تجليات فنية جديدة، وأصبحت الرسومات على الحوائط والجداريات العامة (الجرافيتي) على درجة كبيرة من الأهمية، وظهرت أشكال جديدة من الفن مثل مسرح الشارع، وفن الشارع، والموسيقى، وحتى ما يطلق عليه اسم "إلكتروشعبي" و"تكنوشعبي". فالفنانون يسعون للتعبير عن جوهر الثورة بينما يحاولون الحفاظ على استمرار توهجها، عن طريق توزيع أعمالهم من خلال شبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. ولكن حتى هذه اللحظة لم تظهر أعمال عظيمة يمكن التعرف عليها بمفردها، وأعني بذلك أعمالًا تشابه لوحة جرنيكا لبيكاسو أو حتى تمثال نهضة مصر لمختار.
-    العمارة:
مر تاريخ العمارة في مصر الحديثة بثلاث مراحل عظيمة بدءًا من النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى النصف الثاني من القرن العشرين. فمع وصول محمد علي إلى الحكم وبدء برنامجه الضخم لتحديث مصر شيدت الكثير من المباني، وظهرت الجاليات الأجنبية في الإسكندرية مما حول هذه العاصمة القديمة مرة أخرى إلى مدينة كوزموبوليتانية حديثة، وأقيمت العديد من المباني الجديدة على طراز يغلب عليه الطابع الغربي، وحتى قصر الباشا في رأس التين يعود بتاريخه إلى ذلك العصر. ولقد تفوقت القاهرة لاحقًا في روعة الطرز المعمارية منذ عصر الخديوي إسماعيل الذي أراد أن تصبح مصر جزءًا من أوروبا، وبدأ شكل جديد يسود العمارة والمعمار فيما عرف بعدها بلقب "القاهرة الخديوية". ولقد استمر ذلك- وإن كان على استحياء وببذخ أقل– لفترة ليست بالقصيرة بعد بداية القرن العشرين.
وفي النصف الأول من القرن العشرين، بدأ المعماريون المصريون في الظهور على الساحة، ثم سيطروا تدريجيًا على السوق المحلي. وأصبحت أعمال مصطفى فهمي، وعلي لبيب جابر، والأخوان الشافعي، وأنيس سراج الدين، وسيد كريم؛ أعمالًا سائدة في المجال حتى نهاية الخمسينيات، وكان أبو بكر خيرت معماريًا ومؤلفًا موسيقيًا مرموقًا في الآن ذاته.
وبحلول الستينيات، قامت الحكومة الاشتراكية بترسيخ المركزية وجعل جميع القرارات تنبع من المركز، وأصبحت العمارة أقل تألقًا وجرأة. وسيطر على مدارس العمارة حواريو الحركة الحديثة، وفي وقت لاحق انتقلوا إلى ما بعد الحداثة، ولكن لم تظهر تصميمات كثيرة ذات أهمية في ذلك العصر.
ومع ازدهار الحداثة في القرن العشرين، يظهر حسن فتحي ورمسيس ويصا واصف كشخصيتين وحيدتين يتبعان أسلوبًا مختلفًا تمامًا.
ولكن بحلول أواخر السبعينيات، وعلى الرغم من الأعمال المرموقة لمعماريين على شاكلة مصطفى شوقي، وصلاح زيتون، وصلاح حجاب، وعلي رأفت؛ تلاشت حيوية الحركة المعمارية في مصر إلى حد كبير، في حين ازدهرت مدارس معمارية محلية متميزة في المغرب وظهر معماريون مرموقون مثل راسم بدران في الأردن. ولكن العمارة الجديدة في الخليج جلبت أشهر المعماريين في العالم للعمل، وبهذا حولت بؤرة الاهتمام المعماري بعيدًا عن مصر والمغرب إلى الخليج، ولقد تصاعد هذا الاتجاه في القرن الواحد والعشرين وتوج حديثًا بتشييد برج خليفة في دبي، وهو أعلى مبنى في العالم حتى الآن.
وتسعى المواهب المصرية والعربية للظهور من خلال الحصول على تعاقدات في الخليج أكثر من مصر، والكثيرون من المعنيين بتلك الموضوعات يسعون لإعادة إحياء شعلة العمارة في مصر، وهناك ومضات من الموهبة هنا وهناك في جيل جديد ما زال يطمح إلى تحقيق آماله.
-    إعادة استغلال المباني التاريخية
ما الثقافة كلها إلا تراكمات تعود جذورها إلى التقاليد القديمة، حيث تستغل الأعمال الخلاقة الجديدة الماضي لكي تبدع الجديد عن طريق مزجه مع الأفكار الوافدة من ناحية ومع الإبداع المحلي من ناحية أخرى، وداخل تلك المنظومة المتصلة مع التجديد تقع المباني التاريخية ومكانتها في المجتمع في موضع فريد. ومع وجود سياق حيوي خلاق سوف ينحاز المجتمع لفكرة إعادة استغلال مثل تلك المباني وحمايتها من التدهور بدلًا من تجاهلها وتركها بدون استخدام أو حتى تدميرها. وتُعَدُّ بعض البنايات أمثلة فريدة جديرة بالحماية وتستحق أن تتحول إلى متاحف في حد ذاتها، ولكن العدد الأكبر يمكن إعادة استغلالها لتصبح جزءًا من النسيج الحي للعمران المأهول بالسكان.
ولقد بدأت المسيرة في مصر منذ زمن طويل، فنجاح "عروض الصوت والضوء" في الأهرامات في 1960 أدى إلى تشييد مسرح أبي الهول المفتوح، وفيه عرضت فرقة "أولد فيك" الإنجليزية الشهيرة مسرحيتين ذات شهرة عالمية: مسرحية روميو وجولييت لشكسبير، ومسرحية القديسة جون لبرنارد شو في أغسطس 1961. وبهذا تم تقديم فكرة إعادة تأهيل المباني التاريخية واستغلالها من جديد من خلال تنظيم عروض مسرحية فيها، وتبع ذلك تجليات أخرى لإعادة استخدام تلك المباني. ويُعَدُّ برنامج إعادة إحياء شارع المعز علامة بارزة في التعامل مع مناطق القاهرة التاريخية، وكذلك قاعدة القلعة والمناطق المفتوحة حولها، كما تبنى صندوق الأغا خان مشروعًا رائعًا في حديقة الأزهر، وفي وقت ليس ببعيد أعادت مكتبة الإسكندرية استغلال بيت السناري بوصفه مركزًا ثقافيًا في قلب القاهرة القديمة.
-    الخلاصة:
هذه النظرة العامة السريعة إلى حد ما للمشهد الثقافي في العالم العربي توضح نموًّا قويًّا في العديد من الصناعات الثقافية، ولقد تسارع هذا النمو بفضل جيل شاب من الفنانين، وخاصة عقب الربيع العربي، ولكن تلك الجوانب تتوازى مع تنامي التعصب الذي تظهره الأنظمة الشمولية، وتصاعد التشدد من جانب مجموعات تستخدم السلاح لتحقيق أشكال متطرفة من الإسلام السياسي، حتى إن بعضها قد تخطى حدود السلوك الإنساني المتحضر مثل داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ولم يعد يتبقى سوى جزر متفرقة من الانفتاح منثورة داخل الأراضي الشاسعة للعالم العربي الممتد من المحيط الأطلنطي وحتى الخليج.
ويتحتم علينا أن نواجه ظاهرة التطرف والعنف في مجتمعاتنا بوصفها ظاهرة ثقافية، وينبغي علينا فهم الآليات المسببة لنموها وتمددها، كما يجب علينا أيضًا، وكما ذكر وول سوينكا في كلماته المقتبسة في استهلال هذا البحث أن نسأل أنفسنا عما إذا نجح فنانونا في التأثير في المجتمع كما أملنا وأملوا.


4-    قوة الفن
تجليات التاريخ ودور الفنانين/المبدعين
-    الفن والتاريخ
على الرغم من وجود هذا العدد الهائل من الأعمال المتميزة والكتاب الموهوبين المذكورين أعلاه، فإنني أعتقد أن الرواية في بلادنا لم تنجح بعد في تشكيل تيار يسمح للمجتمع برؤية ذاته من خلال الأعمال الأدبية لكبار مؤلفي السرد القصصي، ولكن نجيب محفوظ قد أحرز نجاهًا باهرًا، وتظل ثلاثيته تتمتع بالقوة والجاذبية، وفي الواقع فإن روايته المرايا (1972) تقدم شخصية عبد الوهاب إسماعيل كتجسيد للشخصية الحقيقية لسيد قطب (انظر جابر عصفور، مواجهة الإرهاب: قراءات في الأدب المعاصر، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2003، ص 74)، ومن المرجح أن يوسف إدريس نجح في إنتاج أعمال بارعة أيضًا. هؤلاء العمالقة ومثلهم آخرون استطاعوا إنتاج أعمال أدبية على أرقى مستوى، كما أن بعض صانعي السينما في الوقت الراهن نجحوا أيضاً في إنتاج أعمال لو كان منها المزيد لخلقت تيارًا مماثلًا للتراث العظيم للرواية الفرنسية الاجتماعية-الواقعية، بدءًا من بلزاك وفلوبير وحتى زولا وبروست، وأنا أقصد بهذا إنتاج السرد الأدبي الذي يتميز بحيويته ويقوم على التوثيق والبحث، ويركز على المواقف والمؤسسات والاتجاهات النفسية لكل من المجتمعين الريفي والحضري، ومجتمعي النخبة والبرجوازية التجارية، هذا إلى جانب الطبقات المعدمة التي تحيا في فقر مدقع على هامش المجتمع في عشوائيات ضخمة، ولكن لا أحد يرى تلك العشوائيات سوى المهتمين بدراستها  كظاهرة. وفي فرنسا نجد أن هذا التراث الأدبي يتوازى مع عمل المؤرخين العباقرة على شاكلة فرناند برودل ويغذيه ويكمله.
لقد كان عظماء المؤرخين من المصريين والعرب وفيري الإنتاج منذ أواخر القرن التاسع عشر: مثل جورجي زيدان بكتابه تاريخ التمدين الإسلامي، والكتاب اللاحقين على غرار أحمد أمين بسلسلته الطويلة من تاريخ الثقافة الإسلامية، وعبد الرحمن الرافعي بكتابه الضخم عن تاريخ مصر، هذا إلى جانب أعمال السير العظيمة التي ألفها كتاب لامعون مثل طه حسين وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل الذي تعد أعماله من التحف الأدبية الرائعة، أو جواد علي بكتابه عن تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام، وجميعهم أسهموا في تشكيل وعي الذات العربية المتجذرة في سرد تاريخي طويل ومتميز، ويمكننا استخلاص الكثير حول تاريخ المجتمع المصري والعربي من أعمال ظهرت حديثًا ووجهت كثيرًا من الانتقادات في النصف الثاني من القرن العشرين، ومنها أعمال عبد العظيم رمضان ويونان لبيب رزق، ومن المعاصرين مثل محمد عفيفي وخالد فهمي.
ومع ذلك فلم تتفاعل تلك المحاولات السردية للتاريخ بشكل كاف مع التعبير الفني المعاصر، ولم تخلق تيارًا فكريًا قويًا يستطيع أن يسيطر على الحياة السياسية، هذا على الرغم من ظهور مثل ذلك التيار القومي لدى حزب البعث، والذي بلغ ذروته في سنوات عبد الناصر. ولكن عقب 1967لم تكن تلك التيارات قادرة على القيام بنقد الذات أو المجتمع، مما نجم عنه فراغ ما لبث أن ملأه السرد المضاد للحركة الإسلامية الصاعدة. وتعود جذور هذا السرد المضاد للحركة الإسلامية إلى الأفغاني ومحمد عبده ثم رشيد رضا وحسن البنا وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين فور انتهاء الخلافة على يد أتاتورك في العشرينيات، ويتحول التيار إلى حركة متطرفة على يد سيد قطب الذي تم إعدامه في محبسه من قبل ناصر في 1966، ويكتسب زخمًا جديدًا من الثورة الإسلامية في إيران، وما تبعها من رؤى سياسية محدودة للأنظمة العربية في الجزء الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
واليوم، نجد أنفسنا في مواجهة مع الكوارث في كل مكان، فأمامنا تحديات كبيرة يفرضها إحساس حقيقي وشامل بالضياع في أجزاء كثيرة من المجتمع العربي الحالي، ونتطلع إلى مثقفينا، وإلى كتابنا المبدعين، آملين أن ينتجوا أعمالًا ثقافية رائعة عن الإنسان العربي، ذلك الإنسان الذي يسعى بكل جهده لكي يجد هويته. ونحن ننظر إلى كل المتورطين في الهوس الأيديولوجي لعصرنا لكي نعثر على ما أشار إليه ستاينر بقوله:
". . خلاص العقل والروح من الهوس، حيث أصبح الصياد فريسة لضحيته، حكاية تتخللها دائمًا تأملات طويلة حول السمات المأساوية الفريدة للإنسان (المعاصر)"
                                               (انظر: ستاينر في النيويوركر، ص 147)

لقد كانت رواية موبي ديك لملفيل بطبيعة الحال هي الرواية الأمريكية العظيمة التي أرست معايير هذا النوع من الروايات، ولكن رواية زن وفن صيانة الدراجات البخارية لمؤلفها روبرت بيرسيج والتي صدرت في الستينيات تطمح أيضًا إلى الوصول إلى المنزلة ذاتها.
أين توجد تلك المعايير إذن في رواياتنا العربية المعاصرة؟ إنني أرى أعمالا فردية مبهرة، ولكنني لا أجدها تتحد في تيار واحد يجرف المجتمع ويشكل هوية ثقافية جديدة، إن الجدل العنيف الذي يشغل الفنانين في البرامج الحوارية على التليفزيون والمقالات المنشورة في الجرائد اليومية هي موضوع آخر تمامًا، ولا شك أنها مهمة بالنسبة للمشهد السياسي في بلادنا، ونتمنى أن تكون مفيدة أيضًا لمجتمعاتنا، ولكنها مؤقتة ولحظية وتفتقر إلى حد كبير إلى القدرة على إحداث تأثير عميق.
وربما أثيرت تساؤلات حول غياب كتابات الطوبائيات في الأدب العربي والإسلامي، فلم تزدهر كنوع أدبي مهم على الرغم من وجود استياء مؤكد لدى أجيال من الكتاب تجاه حكامهم وتجاه الظروف السائدة في مجتمعاتهم. هؤلاء الكتاب لم يحلموا بالمجهول، أو بقوة التكنولوجيا القادرة على تحرير الفرد (أو استعباده)، ولم يخترعوا تصورات مستقبلية بديلة يمكن تفسيرها مقارنة بالواقع المعاصر لتحديد طموحات جيل كامل، وفي الماضي القريب ظهر الخيال العلمي في أعمال الكتاب العرب بوصفه نوعًا أدبيًا منفصلًا، ولكنه كان يهدف إلى الترفيه أكثر منه إلى تقديم سرد يتطلب الاهتمام والتأمل حول ما يصوره لنا عن مجتمعاتنا المعاصرة والفرص الضائعة والإمكانات المهدرة التي لم تتحقق نتيجة لتطورنا الاجتماعي والثقافي والسياسي في الماضي والحاضر.
ولكن مثل تلك الروايات التي انطوت على نقد مجتمعي في الغرب، سواءً كانت أعمالًا حول مدينة فاضلة أم مدينة المستقبل المرعب؛ ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بترسيخ الحرية والحفاظ عليها في تلك المجتمعات، وفي واقع الأمر، يعتبر الكثيرون أن هذا النوع من الأدب يؤدي دورًا مهمًا بالدرجة التي جعلت بورخيس يكتب ليقول بأن الرقابة التي تفرضها الحكومات لا تخدم سوى فن المؤلف. فالأدباء، أي الأدباء الحقيقيون من وجهة نظر بورخيس، هم هؤلاء الذين يستخدمون الإشارات والاستعارات، وعليه فهم مجبرون بسبب وجود الرقابة أن يتمكنوا من الأدوات الأساسية المتوفرة في ترسانة الكاتب الفنية والتعامل معها بحرفية أكبر. ويعلق ستاينر على كتابة بورخيس حول هذا النقطة قائلا بأنه عند بورخيس:
". . . [لا توجد] حرية حقيقية في الرسومات الزاعقة بالتحرر الجنسي والسياسي والتي تعامل في الوقت الحالي بوصفها عملًا روائيًا أو شعريًا. إن وظيفة الفن التحررية تكمن في قدرة الفن الفريدة على "الحلم ضد العالم" وتشييد عوالم تكون مختلفة تمامًا".
    بورخيس،
         اقتبسها ستاينر في النيويوركر، 174.

منذ فترة تقارب نصف قرن، كنت طالب دراسات عليا في جامعة هارفارد، حينها كتبتُ بحثًا طرح التساؤل الآتي: "لماذا لا توجد طوبائيات إسلامية؟" وجادلت بأنه باستثناء كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي لم أجد أعمالًا ذائعة الصيت تقابل التراث الغربي للمدن الفاضلة ونقيضها من روايات المستقبل المرير، ووصلتُ حينها لخلاصة ما زلت مقتنعًا بها حتى الآن مفادها أن السبب وراء ذلك أن معظم المفكرين المسلمين يعتقدون بأن أفضل العوالم إطلاقًا قد جاء وعبر، وهو متمثل في قيادة الرسول محمد (ص) للأمة في المدينة، وربما امتد إلى الخلفاء الأربعة الذين أتوا من بعده. تلك الفترة التي استمرت حوالي ثلاثين عامًا حصلت على اهتمام مفرط في المناقشات والتحليلات، فلقد كان العصر أيضًا الذي ظهر فيه الإسلام كإمبراطورية وتشكلت قواعد الدولة المسلمة وطبقت على أيدي عدد صغير من الرجال الذين كانوا المقربين للرسول، ولكن تسبب هذا الرأي في توجيه الاهتمام توجيها منهجيًا نحو النظر إلى الوراء في التاريخ بدلًا من التطلع إلى العالم الجديد المجهول الذي يتجلى أمام أعيننا ويدعونا لكي نترك العنان لخيالنا.
أما اليوم، فمن تطلق عليهم الصحافة الغربية لقبَ الجهاديين (وإن كان استخدام مثل ذلك اللفظ يثير استيائي وحفيظتي، حيث إنني أعُدُّ أن إرهابهم لا يعبر مطلقًا عن فكرة "الجهاد" في الإسلام) فهم يتوجهون بكل كيانهم إلى الوراء، ويتوقون إلى ماضٍ أسطوري يفسرونه على هواهم لكي يبرروا أفعالهم، ويفتقدون أي فهم حقيقي للتاريخ، وحتى إذا كانوا على درجة معقولة من الفهم الدقيق للتاريخ– وهو أمر غير وارد– فإنهم مرتبطون بالماضي . . ولا يحاولون تخيل كيف تستطيع الشريعة أن تتعايش مع القرن الواحد والعشرين، ولا يتصورون كيف يكون شكل المجتمع الحديث القائم على قيم أخلاقية رفيعة في عصر الإنترنت وحقوق الإنسان والعولمة.
موقفهم إذن لا يختلف كثيرًا عن استخدام التاريخ بوصفه "مصباحًا فوق مؤخرة السفينة" كما يقول كولردج:
"إذا كان بإمكان البشر أن يتعلموا من التاريخ، فأي دروس تلك التي يتعلمونها! ولكن العاطفة والهوى تعمي عيوننا، والضوء الذي توفره الخبرة لا يعدو أن يكون بمثابة مصباح وضع فوق مؤخرة السفينة، فهو يلقي بضوئه على الأمواج خلفنا."
                                                             صمويل تايلر كولردج.

ولكن منذ ما يقرب من نصف قرن كتبت مقالًا ما زلت مقتنعًا بوجهة النظر التي يعبر عنها، وكان عنوان المقال "مرايا ونوافذ: إعادة تحديد حدود العقل"، وربما استحق هذا المقال تلخيصًا سريعًا هنا.
-    المرايا والنوافذ:
قد تظهرنا المرايا بوصفنا شعب الله المختار على الأرض، إذ نتبع أوامره الإلهية في عملنا كفرض من فروضه، أو قد تظهرنا على هيئة المستضعفين والمساكين والضحايا. وقد تظهرنا المرايا أيضًا بوصفنا ورثة لتراث عظيم لسنا جديرين به، أو بوصفنا أفرادًا للأسرة العادية المعاصرة.
أما النوافذ فقد تفتح أمامنا عالما يموج بالفرص وبالأمل، أو قد تظهر لنا عالما من الأخطار والعداوات التي تتربص بنا في كل خطوة، وفي نهاية الأمر، وجود كل من المرايا والنوافذ هو الذي يشكل الحدود الفاصلة داخل عقل كل شخص منا، ومن خلال تداخل المرايا والنوافذ نحدد علاقتنا بالذات وبالآخر، وينطبق هذا التعريف على مجموعة محددة من القضايا، حيث تنتهي "نحن" وتبدأ "هم"، وعلى الرغم من وجود تنوعات تتعلق بالقضايا المطروحة، فإن هناك شكلًا عامًا يظهر من الإقصاء الضيق للآخرين أو القبول الواسع لهم.

-    مرايا:
لا ينبغي للمرايا أن تشوه الواقع، بل ينبغي أن تعكس بصدق صورة المجتمع، بكل ما فيه من مثالب وعيوب، ولكن أي صورة حقيقية للمجتمع سوف تعكس أيضاً عمقه، وطبقاته العديدة، وقوته الكامنة، إلى جانب مواطن ضعفه وفساده.
ونحن لسنا بحاجة لإمعان فكرنا التحليلي، ولا نتطلب دقة في الملاحظة، ولا وضوحًا في الجدل حول قضايانا؛ للصياح حول تدهور المجتمع، أو استشراء داء الفساد فيه، أو عدم نزاهة السياسيين، ثم تقديم توصيات سطحية لا تتعدى أن تكون مطالبات انفعالية لتطبيق المزيد من الديموقراطية والحرية السياسية وحرية الإبداع.
هذا النوع من المقالات تسهل كتابته، كما تسهل قراءته، وإلى جانب كل ذلك فهي تتملق الكاتب والقارئ، ولكنها تفتقر إلى الجوهر الذي يوفره التحليل الأكثر عمقًا والمقترحات المستمدة من الفكر السليم.
ونحن إذا قارنَّا بين أدبنا الحالي أو مقالات كتابنا وبين أعمال توكفيل، أو هنري آدامز، أو جورج ستاينر، أو توني جود، لاكتشفنا تباينا هائلًا، فما يسوقه أولئك الكتاب من آراء تقوم على موضوعات تم بحثها بكل دقة، ولم يكتف الكاتب بمجرد الكلمات الرنانة الانفعالية، وفي كل مرحلة من مراحل التقديم أو الوصف نشعر بوجود سياق منطقي يقوم على قاعدة من القراءة المفصلة للأدلة التاريخية بطبيعتها المركبة والمتناقضة، بالإضافة إلى المصاعب المؤسسية التي ينبغي للإصلاح الاجتماعي التعامل معها، وكما وصف ستاينر الكتاب المذكورين أعلاه:
"إن الشكوك التي يعبر عنها كل هؤلاء المفكرين، والمساعي التي يبذلونها من أجل إقناع القارئ هي بمثابة تكريم له، فهم لا يطالبون القارئ بالاستسلام لآرائهم أو بالموافقة عليها تلقائيًا، وإنما بإعادة التفكير فيها ونقدها."
                                                    جورج ستاينر
         في النيويوركر، ص 245

نحن نعيش في عصر من تاريخ المجتمعات العربية والمسلمة يتحتم فيه على الرجال والنساء أن يشهدوا شهادة حق، وأن يقدموا أعمالًا مستمدة من ذاتيتهم وتجربتهم، وأن يسجلوا ويفندوا ويفسروا الدلالات الكبرى للعصر، فالمجتمعات لا تتحرك سوى من خلال مثل تلك الأعمال، فهي التي تضع المرآة لكي تعكس صور المجتمع بكل أشكال النفاق والضلال فيه فتصبح واضحة وجلية للعيان.
-    أهمية النوافذ:
جميع المجتمعات تحتاج إلى مستقبل ترنو إليه وتتطلع لتحقيقه، وقدرة النخبة المجتمعية والقادة السياسيين على التعبير عن تلك الرؤية المستقبلية هو أمر محوري يمكِّن الأمة من تجنيد كل طاقات شعبها الكامنة وخلق إحساس بوجود هدف قومي مشترك، عندها لن يوجد هدف صعب المنال، ولن توجد عقبة لا يمكن تخطيها، فهذا الحشد المعنوي قادر حرفيًا على تحريك الجبال! وكما قالت إلينور روزفلت في حديثها الشهير: "لا يمتلك المستقبلَ سوى من يؤمنون بروعة أحلامهم". ولكن أي مجتمع يسعى لفهم مكانته في العالم ينبغي أن يظل منفتحًا أمام جميع ثقافات العالم، وكما قال غاندي:
"لا أود أن أغلق منزلي بجدران تحيطه من كل جانب ولا أن أسد كل نوافذي، بل إنني أريد أن تهب ثقافات كل البلاد بكل حرية ممكنة داخل مسكني. إلا أنني أرفض أن أصبح ريشة في مهب رياح أحد، وأرفض أن أعيش داخل منازل الآخرين سواءً كدخيل أو كمتسول أو كعبد."-
     مهاتما غاندي.

ولكن الرياح العاتية قد تدخل من خلال النوافذ أيضًا، على هيئة إعصارات التكنولوجيا التي تضرب كل جزء من مناطق العالم، من أغناها إلى أفقرها، فالسرعة التي تم بها تبني ثورة المعلومات والاتصالات من قبل أشخاص في كل مكان في الأرض تثير الحيرة وتذهل العقل. وفي العالم العربي الذي يعاني من اضطراب الهوية واهتزاز رؤية الذات والآخر، نجد انفصامًا عميقًا بأبعاد غير مسبوقة يتشكل ويترسخ بين الأجيال.
5-    الانفصام
سياق التحول الثوري لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات
-    أزمنة متغيرة
الكتاب سوف يستمر . . ليس بوصفه شكلًا ماديًا مطبوعًا نعرفه جيدًا ونولع به ولكن بصفته مجموعة من الكلمات التي تحتل حيزا معينًا فتعلِّم القارئ وتسليه وتخاطب عقله من خلال سحر النص وجاذبيته، وكما صرحتُ قائلًا في حفل افتتاح القمة الدولية الأولى للكتاب بواشنطن دي سي في ديسمبر 2012: "فالكتاب– بهذا المعنى– سوف يستمر إلى الأبد .. واليوم، إنني على قناعة بأن بالإمكان للشكل الإلكتروني والورقي أن يتعايشا جنبًا إلى جنب لفترة طويلة قادمة، مثلما تعايشت المخطوطات والكتب المطبوعة لعدة قرون قبل أن يزيح الكتاب المطبوع المخطوطة تمامًا، ولكن دور الناشرين كوسيط بين الكاتب والقارئ سوف يتأثر تأثرًا عميقًا بالتقنيات الجديدة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات."
وسوف ينشر عدد متزايد من "المؤلفين" مؤلفاتهم ذاتيا في السنوات القادمة، وسوف تظهر أشكال جديدة من الوساطة والتوزيع بينما ستستمر الأشكال الإلكترونية في التفوق على الأعمال المطبوعة ورقيًا، وفي حين يستمر استبدال أجهزة الكمبيوتر المحمولة بالأجهزة الشخصية المحمولة باليد، فإن سرعة الأجهزة الجديدة وقوتها سوف توفر إمكانات هائلة جديدة.
ولقد ذكرت آنفًا كيف أن التقنيات الرائدة الجديدة قد جعلت– ومازالت تجعل- بالإمكان تحقيق ما كنا لا نجرؤ على الحلم به، ولقد أصبح ممكنا بشكل متزايد ومن خلال شبكات تعاونية من المؤسسات ومن خلال سحر الرقمنة أن نبني متاحف عالمية تنقل المعروضات على هيئة أشكال ثلاثية الأبعاد، وأن نتيح زيارات افتراضية عن بعد، بينما يمكن قراءة النصوص بأكملها أو باتصالها بالصور والموسيقى والفيديو من كل أرجاء العالم. ولكن كل ذلك يتركنا في مواجهة بعض التحديات المحددة التي تفرض علينا التعامل معها مثل: البيانات الضخمة، الخصوصية، الأمان، التواصل الاجتماعي.
-    البيانات الكبرى
الإنترنت والهاتف المحمول اتحدا معًا في رباط وثيق ومذهل، مما يحتم علينا إعادة التفكير في كل الأمور تقريبًا التي نعرفها حول كيفية تنظيم مجتمعاتنا.
لا يوجد جانب من جوانب حياتنا كلها تقريبا لم يتفاعل معه الإنترنت ويغيره، من الاتصالات إلى التجارة والعلوم والشبكات الاجتماعية، وحتى توفير المعلومات الموجودة في العالم بأسره ووضعها تحت طلب كل إنسان. وبينما يتغير مكان التفاعل مع الإنترنت من أجهزة الكمبيوتر الثابتة إلى الهواتف الذكية المحمولة، فإن سحر وجود خدمة متوفرة طوال الوقت وبلا انقطاع تجعل كل شيء ممكنًا، وهو أمر يتعامل معه المليارات من البشر بوصفه أمرًا مسلمًا به.
•    طبقًا لاتحاد الاتصالات الدولية فإن عدد حسابات الهاتف المحمول العاملة سوف يتخطى عدد سكان العالم في 2014.
•     سوف يصل عدد مستخدمي الهواتف الذكية المحمولة في العالم إلى 1.75 مليار في 2014 . . .
•     يزيد عدد مستضيفي خدمة الإنترنت عن مليار، والعدد مرشح للازدياد. في حين كان عددهم لا يزيد عن بضع مئات في بداية الثمانينيات ارتفع ليصبح 1 مليار في 2012 وما زال العدد ينمو بمعدلاتٍ من رقمين!
فأين إذن نحن ذاهبون بكل هذا التواصل؟
دعونا نتأمل في الأبعاد المذهلة لثورة المعلومات:
طبقاً لتقديرات عام 2007 من جامعة كاليفورنيا أنتجت الإنسانية في تاريخها سجلات يصل حجمها إلى 256 إيكسابايت، هذا هو ما خلفه لنا كل تاريخنا المسجل.
ولكن منذ 2007 شهدنا نموًّا متفجرًّا في استخدام الإنترنت:
•    ارتفع استخدام الإنترنت في الفترة من 2010-2013 بما يوازي 20 مرة.
•    المعدل الحالي للنمو بدءًا من العام الماضي زاد عن إيكسابايت واحدة في اليوم على الإنترنت
•    المملكة العربية السعودية بمفردها سوف تضيف إيكسابايت واحدة أخرى في اليوم!

ولكن ما ذا تمثل إيكسابايت واحدة؟ مليار المليار من البايتات! هذا يعني:
•    000 100 مرة كمية المعلومات المطبوعة في مكتبة الكونجرس كل يوم! أو
•    من 500 إلى 3000 مرة محتوى مكتبة الكونجرس. كل يوم!
ويزعم أن جوجل تمتلك حوالي 10 إيكسابايت على أجهزتها الخادمة إضافة إلى 5 إيكسابايت أخرى على شرائطها الاحتياطية.
ويمثل تنظيم تلك المعلومات وحمايتها مشاكل عديدة، منها القِدم والتهالك الفني والمادي، فبينما يستمر هذا الكم الهائل من المعلومات في النمو، فإن التحدي في الحفاظ على كل شيء يستمر في التنامي أيضًا، ومن ثم، يتحتم علينا أن نتساءل عما سيحدث إذا لم نستطع الحفاظ على كل المعلومات المتنامية باستمرار التي يحتوي عليها الإنترنت وتنظيمها؟ هل نحن نتوجه نحو شكل من أشكال فقدان الذاكرة الرقمي؟
قد لا يحدث ذلك. وربما سيقوم الإنترنت ذاتيًّا بإجراء تنقية يحدث من خلالها الحفاظ على بعض المعلومات في مواقع للمستقبل، في حين يتم تسجيل المادة ذات القيمة العالية بشكلها الرقمي مرات متكررة، وبعضها سوف يختفي بدون قصد. وسوف تكون لدينا رغبة منطقية في الحفاظ على كل شيء وحمايته، ولكننا سنكون محددين بعوامل مادية سوف تجعل من الضروري إجراء عملية انتقاء شاملة، وليس ذلك نتيجة مرغوبة ولكنه أمر يمكننا التعايش معه، حيث إن الأعمال الرائعة من الأجيال الفائتة سوف تمر خلال اختبار جديد لقوة تحملها. وقد يتحتم معاملة الأرشيفات بشكل مختلف، فليس من الضروري الاحتفاظ بالفاتورة التي سددناها في عشاء الأمس لكي يتفحصها أحفاد أحفادي.
ولكن بغض النظر عن تطور ذلك الأمر، فإنه من الواضح أن علينا أن نكون على وعي متزايد بمشاكل القِدم والتهالك الفني والمادي، وأن نتعامل بكل جدية معها، من هنا تبزغ بطبيعة الحال قوة الكتاب المطبوع، بكل الراحة والبساطة التي يوفرها والتي لا مثيل لها، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي تحدو بنا لكي نحتفظ بنسخ من كل كتب العالم في الشكل الجديد لمكتبة الإسكندرية القديمة في الوقت الذي نسعد فيه بالإضافة إلى المحتوى "الذي ولد رقميًا" وتنظيمه في مجموعات من أجهزة كمبيوتر تزداد ضخامة، وهي الأجهزة التي نشير إليها باسم "السحب". ويطرح ذلك قضيتين أخريين: الخصوصية، والأمان.
-    الخصوصية
مع وجود هذا الكم الهائل من المعلومات على الإنترنت إلى جانب المعلومات التي ننشرها بأنفسنا، وكل ما تقوم الحكومات وبائعو التجزئة والبنوك وتقريبًا كل المؤسسات التي نتفاعل معها بتجميعه وتحليله واستخدامه في الوقت الحقيقي، فماذا حدث لقضية الخصوصية؟
لقد أصبح الأفراد أكثر تقبلًا لانتهاك خصوصيتهم، ويكون ذلك أحيانًا بسبب سهولة حصولهم على خدمة ما، وأحيانًا بحثًا عن شهرة يسعون لها ويمكنهم تحقيقها من خلال فيسبوك أو تويتر أو يوتيوب حتى وإن كان لفترة وجيزة، فالشهرة عادة ما يمنحها المجتمع لشخصٍ ما قام بعمل يجعله جديرًا بتلك الشهرة، مثل تأليف كتاب عظيم، أو إنتاج فيلم رائع، أو عمل اكتشاف علميًّ، أو تحقيق رقم عالمي قياسي في الرياضة، أو إنجاز أعمال عظيمة في مجال الأعمال أو في الحكومة. هذا النوع من الشهرة لا يكون عادة وقتيًّا حيث يقوم على أساس متين، ولكن ثقافتنا الجديدة في التواصل قد أنتجت ظاهرة الشهرة، فالشخص الشهير هو شخص يشتهر بأنه مشهور، والمشاهير يتغيرون دومًا، ويظهرون بكثافة على غلاف المجلات اللامعة، ويقطنون في مواقع التواصل الاجتماعي حيث يتم تبادل أخبارهم "بشكل مكثف" ثم سرعان ما يختفون لكي يظهر مكانهم أشخاص آخرون.


-    الأمان:
الجانب المقابل للخصوصية هو الأمان، وسواءً تحدثنا حول سجلنا الطبي أو حول أسرار الحكومة أو حول المعلومات التجارية، فإن الأمان أصبح من الأولويات المهمة. وفيما يلي مثالان وقعا حديثًا:
•    يُزعم أن سنودين قد حصل على 1.77 مليون وثيقة.
•    إن التكنولوجيا التي جعلت من الممكن إنجاز عملية تجسس بهذه الضخامة هي التكنولوجيا ذاتها التي جعلت من الممكن أن يكشفها شخص واحد . . . هذان وجهان لعملة واحدة.
•    ليس بإمكان سنودين مطلقاُ تصوير 1.77 مليون ورقة من الوثائق!
•    منذ فترة وجيزة، كتبت النيويورك تايمز عن أضخم اختراق في التاريخ لمؤسسة مالية . . . وكان ذلك هو الهجوم في الفضاء الإلكتروني على جي بي مورجان تشيس، والذي أثر في أكثر من 83 مليون أسرة وعمل تجاري، ويُعَدُّ واحدًا من أخطر الاختراقات الكمبيوترية لشركة أمريكية.
ينبغي لمجتمعاتنا وهي تندفع في عجلة لكي تضع المزيد من المعلومات على الإنترنت أن تخصِّص قليلًا من الوقت لمناقشة قضية الأمان فيما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
والآن دعوني أتجه لأمرٍ مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالخصوصية والأمان . . .


-    التواصل الاجتماعي:
سواءً كنا نرسل مليار دولار عبر كوكب الأرض بنقرة واحدة من الماوس باندفاع الإشارات الإلكترونية، أو نرسل رسالة غرام لمحبوبنا عبر الشارع في تويتة واحدة . . فإن تدفق المعلومات أمر هائل، وحجم ظاهرة التواصل الاجتماعي مذهل.
لقد جعل الإنترنت من التواصل الاجتماعي أمرًا ممكنًا، وانطلق ذلك التواصل بسرعة مذهلة وصلت الآن إلى حدود صاعقة. ولنتأمل قليلًا حقيقة أن ثورة المعلومات والاتصالات المنتشرة في كل مكان لم تولد إلا منذ فترة وجيزة جدًّا:
•    2004 فيسبوك
•    2005 يوتيوب
•    2007 آيفون، أول هاتف ذكي
ومدى انتشارها:
•    الشبكات الاجتماعية تصل واحدًا من بين أربعة أشخاص تقريبًا في العالم
•    في هذا العام >2/3 من مستخدمي الإنترنت حول العالم سوف يستخدمون شبكة اجتماعية (مرة واحدة في الشهر على الأقل)
•    سوف يرتفع هذا الرقم إلى أكثر من 75% من مستخدمي الإنترنت بحلول 2016.
وتخضع الجوانب الاجتماعية والنفسية للتفاعل الاجتماعي الافتراضي لكثير من النقاش والجدل بوصف هذا التفاعل مخالفًا تمامًا لما يحدث في الواقع الفعلي. وفضلًا عن ذلك، فإن التوسع الهائل في التواصل وخاصة الانتشار الكبير للشبكات الحساسة سوف تستطيع توسيع قدرات الجهاز العصبي للإنسان بشكل غير مسبوق من قبل. ويعني ذلك أن الخبرات الافتراضية يمكن توسيعها في السنوات القادمة، مما سوف يطرح تساؤلات كثيرة يفضل أن نتركها إلى سياق آخر.
-    عودة الانفصام إلى العالم العربي ومصر
من المذهل أن نرى إلى أي حد يظهر الانفصام الناتج عن ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الدول العربية، بما فيها مصر، فالأجيال القديمة لديها خوف كبير من التكنولوجيا، في حين تحتضنها الأجيال الشابة بكل سهولة ويسر، مما يخلق فجوة هائلة بين الأجيال وتأثيرًا ضخمًا في طريقة استخدام اللغة العربية العامية والتعبير بها في الرسائل النصية القصيرة حيث تكتب جزئيًا بحروف لاتينية وجزئًّا بأرقام للتعبير صوتيًّا عن بعض الجمل والتعبيرات العربية الدارجة. خاصة أن بعض الكتاب المعاصرين لا يستخدمون سوى العربية العامية مما سوف يتسبب في تدمير اللغة الفصحى الحديثة، إلى جانب تدمير التعبيرات الفصحى الأدبية في كتابات بعض الكتاب المرموقين.
والسؤال الذي يطفر هو: إلى أين سيصل بنا كل ذلك خلال جيل قادم؟ الأمر ليس واضحًا. ولكن الأمر الأكيد هو أن الشباب لن يعود إلى الوراء، وسوف يجدون وسائل التعبير الفني الخاصة بهم سواءً في الموسيقى أو الفنون أو الأدب، وفي هذا المجال الأخير يهددنا الانفصام تهديدًا حقيقيًا، حتى على الرغم من وجود الزجل وهو شعر باللغة العربية الدارجة ووجود مسرحيات ومسلسلات تليفزيونية على مدى فترة طويلة امتدت لجيل كامل. وعلى المنوال ذاته، ليس من الواضح كيف ستؤثر مواقع التواصل الاجتماعي بانتشارها الواسع وتأثيرها القوي في أفكارنا التقليدية حول ارتياد المسرح والسينما، فضلا عن طريقة قراءتنا للروايات وتفاعلنا معها، ومع بعضنا البعض ومع الجمهور. سوف يحدث تحول أيضاً في المؤسسات الثقافية المساندة مثل المكتبات والمتاحف والأرشيفات لتصبح كيانات مختلطة، ماديًا وافتراضيًا، وذلك عن طريق توسيع ما تقدمه ليس فقط في الواقع المحلي ولكن أيضاً عن بعد من خلال أجهزة كثيرة . . . إنه عالم جديد تمامًا.
-    الخلاصة:
فيما يخص الكثيرين، فإن هذا الفيض من البيانات والتقنيات القادرة على إحداث تحولات والآتية إلينا بسرعة البرق، والعالم الجديد الذي يتشكل أمام أعيننا؛ لهو أمر يدعو للقلق، فهو يثير صورًا لعوالم مستقبلية مرعبة ومجتمعات فقدت كل إنسانيتها. وهي تعكس الأسئلة العميقة التي طرحها ت. س. إليوت منذ قرن مضى عندما تساءل:
أين هي الحياة التي فقدنا في العيش؟
أين هي الحكمة التي فقدناها في المعرفة؟
أين هي المعرفة التي فقدناها في المعلومات؟
ولكنني أجد تلك التطورات مثيرة للبهجة، فهي تفتح آفاقًا جديدة يتعامل معها الشباب كأمر مسلم به، وبهذا فإنني أدعو جميع مديري المؤسسات الثقافية والعلمية أن يشركوا الشباب معهم، ليس كمتدربين أو متمرنين، ولكن كزملاء ومتعاونين. إنني أشعر بما قاله روبرت فروست في قصيدته:
الآن وأنا عجوز يعلمني الشباب
ما لا يمكن تشكيله ينكسر أو يلتوي
أجاهد في دروسي فأحدث جرحا
وأذهب إلى المدرسة إلى الشباب لأعرف عن المستقبل.
ولكن بسبب ذلك الانفصام، وبسبب وفرة الشباب في التركيبة السكانية العربية، فإن هؤلاء الشباب سيكون منوطًا بهم التعامل مع مشكلتي التطرف والعنف، ولهذا وقبل أن نتحول إلى مناقشة التحديات والفرص الثقافية التي يتعين عليهم التعامل معها عن طريق تسخير التكنولوجيا لخدمتهم، دعونا نقدم رؤية أكثر تفصيلًا للتطرف والعنف.





الجزء الثاني:
حول التطرف والعنف
6-    حول التطرف
-    التطرف
التطرف هو موقف سياسي يرفض معتنقوه أي فرصة للحوار، كما يرفضون أي تلميح حول وجود قصور أو خطأ في فهمهم، ويذهبون في جدلهم إلى أبعد مدى ممكن. وكل مدرسة من مدارس الفكر السياسي لديها متطرفوها، ولكن المتطرفين من جميع الأطياف في نهاية الأمر يرفضون أي تسوية أو حل وسط مع الآخرين الذين لا يشاركونهم آراءهم.
-    علامات وأعراض: ظهور قوة التطرف
يهددنا دائمًا خطر العودة إلى نظام حكم فاشي أو شمولي، ولقد حذر من ذلك العديد من المثقفين والفلاسفة والفنانين مرارًا وتكرارًا، فالفكر المتطرف يطرح شعارات شديدة التبسيط لحل مشاكل معقدة، ويمثل هذا الفكر خطرًا محققًا في جميع المجتمعات والأزمنة، ولكن مثل أي مرض فإن له علامات وأعراضًا نستطيع أن نحتاط منها باستخدام قوى التعددية الثقافية من أجل مقاومته. ومن
ضمن تلك العلامات والأعراض التي تشير إلى تصاعد الفكر المتطرف ما يأتي:
•    ظهور الشعارات الساذجة والعبارات الطنانة حول تسيب المجتمع، وضياع الهدف فيه، وضرورة اتخاذ مواقف صارمة للتعامل مع هذا الوضع.
•    إظهار المتطرفين بوصفهم ينتمون إلى فئة الحق، بينما ينتمي الآخرون– كل الآخرين– إلى فئة الضلال.
•    توجيه هجوم ضد أي شخص يتحدى آراء الجماعة المتطرفة.
•    ظهور خطاب الكراهية ضد الأقليات في المجتمع، ورفض اعتبارهم جزءًا من النظام الاجتماعي القومي، أو إنكار أنهم يشاركونهم هويتهم القومية، ومن ثَمَّ وصفهم بأنهم عملاء أجانب لا يستحقون التعاطف.
وحتى هذه النقطة، ما زال بالإمكان اعتبار ذلك كله لا يخرج عن كونه خطاب جماعة ما في المجتمع، ويمكن مقاومة ذلك الخطاب باستجابة فكرية فعالة ومناظرات واسعة النطاق في محافل عامة ملائمة. ولكن علامات الخطر تظهر عندما تسيطر تلك الجماعات على السلطة السياسية أو يحتل المتعاطفون مع أفكارهم مناصب مهمة مؤثرة، فيصبح الفكر المتطرف نوعًا من الأيديولوجية الصاعدة، ثم يترجم كل ذلك إلى العلامات والأعراض الأشد خطورة، وهي:
•    البدء في تمييز منهجي ضد الأقليات.
•    استبعاد كل من يعارض الأيديولوجية الجديدة.
•    الإرهاب المنهجي للمعارضين والمنشقين.

•    الاستبعاد التدريجي للمعارضين.
•    استبعاد أو تهميش المؤسسات السياسية التي كان منوطًا بها القيام بالضوابط والتوازنات.
عندئذٍ لا ننتظر سوى ظهور نظام شمولي يعتنق أيديولوجية متطرفة ويجرف المجتمع نحو هاوية من الجرائم النكراء، بل ربما إلى المجازر الجماعية. وفيما يأتي ذكر لعلامات الخطر التي تنبئ بوقوع مجازر جماعية معروفة جيدًا من الأمثلة التاريخية الماضية:
•    استبعاد الحقوق.
•    استبعاد الشهود.
•    الفشل في حماية المدنيين.
•    صمت المعارضة السياسية.
•    القهر العسكري.
•    زيادة حالات الهجرة للأقليات المهددة.
عادةً ما يبدو المجتمع في هذا السيناريو على هيئة مريض استشرى فيه المرض، بحيث لا يستطيع تجنب النتائج الكارثية للسرطان الذي انتشر في جميع أرجاء جسده، وغالبًا ما ينتهي الأمر بمجزرة هائلة أو حرب أهلية أو الاثنين معًا، وسيظل المجتمع يعاني طويلًا حتى يحدث توافق وطني وتبدأ صفحة جديدة.
ومع ذلك فهناك احتمال وجود سيناريو آخر مختلف قليلًا إذا ضرب التطرف بجذوره في أقلية تعارضها الدولة القوية المتماسكة، فمن المرجَّح أن الدولة ستصبح حينئذٍ أكثر استبدادًا، بينما تتورط المجموعة المتطرفة في أعمال إرهابية.
ويتضح من تلك المناقشات أنه ينبغي لنا أن نقدر قيمة الإطار الثقافي حق قدره ، حيث إنه يشجع التعددية والهويات المختلفة داخل الكيان القومي، أو حتى داخل الكيان فوق القومي كما يحدث في أوروبا. وسوف يسهل مثل ذلك الإطار الثقافي أيضاً عملية التغيير المنظم من خلال المناقشات والحوارات ووسائل المشاركة السلمية للمواطنين. كل هذه السمات توفر الشرعية للنظام الاجتماعي والسياسي القائم، وتشجعه على الاستجابة لآراء المواطنين واحتياجاتهم. وفي المقابل، سوف تقلل كل هذه الصفات حدة التوتر المحتمل، وبهذا تجعل من الصعب على التطرف أن يضرب بجذوره عميقًا، أو أن تتحول المعارضة إلى غضب عارم، أو أن يتحول الغضب إلى العنف.
-    التجنيد والعقائدية
منذ الصغر: من المهم أن ندرك أن إعداد الأرض الخصبة التي ينمو فيها التطرف يبدأ مبكرًا، وهناك مقولة منسوبة للجزويت تقول:
"أعطني طفلًا أقل من السابعة، ولن يهمني من يتعامل معه بعدها."
 ويبدو أن العلم الحديث يؤكد أن تأثير مرحلة ما قبل المدرسة وتأثير الأسرة في الطفل له كل الأثر في تشكيل فكر الطفل والعقيدة الراسخة في ذهنه، وقد تتداخل العقيدة مع التوجهات الأخرى في فترة لاحقة، ولكنها قد تظهر مرة أخرى فيما بعد. ولهذا فكثيرًا ما يتحول الأطفال الذين تعرضوا أنفسهم للانتهاكات إلى أشخاص يؤذون الآخرين، وتشمل أشكال الانتهاك الأذى الجسدي والنفسي والإهمال، كما لا ينبغي لنا أن نستخف بقيمة تأثير الناضجين في تكوين الطفل. وعليه، فمن الضروري أن تتخذ الأسرة مواقف سليمة من الآراء المتطرفة التي تعارض التعددية والتسامح، فإذا مالت الأسرة لتبني الآراء المتطرفة فسيؤهل ذلك الطفل للالتحاق بالجماعات المتطرفة فيما بعد، أما إذا ساندت الأسرة التسامح والتعددية فسيكون ذلك بمثابة أول خط للدفاع ضد الانجراف نحو التطرف والجريمة.
يُعَدُّ المعلمون داخل النظام المدرسي عنصرًا على درجة هائلة من الأهمية، إلى جانب المادة العلمية التي يدرًّسونها. والسؤال هو، هل يتعرض أطفالنا لرؤية الذات والآخر، ورؤية المجتمع والتاريخ؛ بما يساهم في صياغة هوية قومية متعددة المستويات؟ أم هل يتم استمالتهم فكريًا لقبول عقيدة الكراهية؟
أما العامل الثالث المكون للمؤثرات، وربما كان الأهم– خاصة أنه الأقوى في فترة المراهقة التي تتسم بالتمرد– فهو تأثير الأقران، واليوم، نتيجة لانتشار الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي فإن مجموعات الأقران موجودة في الفضاء الإلكتروني إلى جانب التواجد المادي، وكثيرًا ما يتواصل الأطفال والمراهقون من خلال مدارسهم والمعسكرات الصيفية والأنشطة؛ مثل الجوالة التي تشكل أيضًا مجموعات قرناء مختلفة. ويميل الأطفال إلى تكوين مجموعات القرناء الخاصة بهم، وأحيانًا ينجرفون إلى الانضمام إلى عصابات وعادة ما ينتهي بهم الأمر تحت قيادة طفل أكبر أو شخصية تقودهم على غرار شخصية (فيجن).
ومن مراجعة تلك النقاط يتضح أن العديد من الأطفال الأكثر فقرًا في المجتمع مثل أطفال دور الأيتام وأطفال الشوارع هم من أكثر الفئات تعرضًا للانحراف، حيث إنهم لا يتمتعون بالرعاية التي يوفرها وجود الوالدين أو بالإرشاد الذي يقدمه التعليم المدرسي الملائم، وهم لذلك مرشحون للانجراف نحو العصابات أو التجنيد داخل الحركات التي تنمي التطرف وتغذيه.
من الغضب إلى الحنق الشديد: يُعَدُّ الغضب من ظلم نشعر بقسوته بداية عملية التحول من النقد المنطقي إلى التطرف السياسي، ولذا فهو لا يبتعد كثيرًا عن مرحلة السخط والحنق الشديد والتعصب والعنف المبرر ذاتيًّا. وعندما تضاف العقيدة الدينية ويُزعم أن اقتراف العنف هو جزء لا يتجزأ من أوامر الله، فإن الخلطة تصبح مدمرة، وكما ذكر باسكال:
"الناس لا يقترفون الأعمال الشريرة بشكل كامل مثلما يفعلونها   مدفوعين بالعقيدة الدينية"
عندما نواجه ظروفًا تصدم قيمنا وحِسَّنا الفطري بالعدل، فإننا نشعر بلا شك بالاستياء، ويمكن للاستياء أن يتحول إلى غضب، كما يمكن للغضب أن يصبح حنقًا جارفًا، ويمكن للحنق أن يكون عرضًا مرضيا غير عقلاني، ولكن جميع المشاعر الإنسانية الأخرى لها نفس الأعراض، وإن كان الحنق الجارف شعورًا خاصًا فنحن جميعنا ندرك أن العنف كثيرًا ما ينبع من الحنق والسخط الشديدين.
دور الزعماء المؤثرين: مما لا شك فيه أن القادة الذين يتمتعون بجاذبية وسحر يستطيعون التعبير عن رسالة متطرفة والوصول إلى الجماهير العريضة بطريقة مقنعة، ولقد رأينا ذلك في زعماء مثل هتلر وموسوليني وماو– الذي قال بكل صراحة ووضوح إن: "كل القوة تنبع من فوهة السلاح"– وهناك أمثلة كثيرة أخرى. واليوم، نحن نرى أن لهم أيضًا مريدين وأتباعًا من خلال وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصالات الجديدة.
ولكن الرسائل المتطرفة تتخذ شكلًا مختلفًا من ناحية الكيف، وخاصة بعد أن تتبلور تلك الرسائل في حركة تتجه بعدها نحو العنف في حرب مفتوحة تشنها محليًّا وقوميًّا وإقليميًّا وعالميًّا ضد النظام القائم، وعليه فمن الخطأ الاعتقاد بأن اغتيال زعيم حركة متطرفة سوف يضع حدًا لوجودها، بل على العكس سوف يظهر زعماء جدد، فبمجرد أن تتحول الفكرة إلى حركة فإن الرسالة السياسية المتطرفة تخلق ديناميكية مختلفة تجعلها قادرة على تجنيد عناصر جديدة وقادة جدد حتى يتغير السياق الذي أنتجها بطرق أخرى، عندها سوف تصبح مهمشة. ولذا فإن نهاية الجماعات العنيفة المتطرفة إذن لا تأتي بالهزيمة في ساحات القتال مثل الجيوش النظامية، ولكن عندما تفقد أهميتها وارتباطها الفعال بطموحات الجزء الأكبر من الشعب.
-    المجندون:
يشعر الشخص الذي تم تجنيده بأن القائد، أو الفكر، أو الانتماء للجماعة– وهو الأمر الأكثر شيوعًا– يزوده بقوة تجعله يترقًّى إلى ما هو أعلى من قدراته الشخصية في رأيه، ولهذا فإن كسر قيود الأسرة التقليدية أو النظام الاجتماعي يصبح فكرة تحررية تمنحه سلطة وقوة، ويتخللها إحساس بالانتماء للجماعة الجديدة التي تتبع ذلك القائد أو تتبنى تلك الأيديولوجية. إن هذا الشعور بالتحرر وبالتمكن الجديد الذي يحس به المجند نتيجة لخضوعه لهذه الأيديولوجية هو الذي يجعله يشعر أنه لم يبتعد عن ذاته، وإنما على العكس، فمن خلال القائد أو الأيديولوجية أو الجماعة يكون قد نجح في أن يجد هوية سامية لأول مرة في حياته.
وكما نعلم فإن المراهقين يصلون إلى مرحلة في نموهم من الناحية البيولوجية والاجتماعية يحتاجون فيها لإعلان استقلالهم عن أسرتهم وآبائهم الطبيعيين من أجل إرساء هوياتهم الخاصة بهم، وفضلًا عن الخلل الهرموني الذي يمرون به جسمانيًّا، فإنهم يكونون أكثر عرضة للضغوط من أقرانهم ومن القوى الخارجية في هذه المرحلة الانتقالية من حياتهم.
وفور تجنيد الشباب داخل جماعة متطرفة يتم تشجيعهم على الانفصال عن أسرتهم وعن أصدقائهم السابقين، وتصبح الجماعة عامل التغيير المسيطر في حياتهم، ويتم تقوية تمسكهم بالأيديولوجية السائدة في الحركة المتطرفة بشكل منهجي، والتنديد بجميع الآراء البديلة حول الواقع، وإبعاد تلك الآراء عن ناظرهم.
وما لا يدركه الكثيرون من المجندين، ولا يستطيعون الاعتراف به علنًا؛ أن خبرة هذه الجماعات المتطرفة تترك الجماعة والمنتمين إليها في حالة من قصور شديد في الرؤية والخبرة، سواءً كانت تلك الجماعات تدار بواسطة شخصية مهيمنة واحدة داخل منظومة هرمية كما يحدث في بعض الخلايا الشيوعية في الماضي، أو الخلايا الإسلامية في الحاضر، أم كانت تدار بشكل جمعي في بعض أشكال الحكم الذاتي، فالمنتمون لها لا يكتسبون المزيد من الخبرات أو المزيد من التسامح نحو الآخرين. وفي واقع الأمر، فإنهم يميلون إلى اكتساب غرور شديد، واستهانة بكل من لا ينتمي للجماعة، وبهذا فهي تقوي أسوأ أنواع الأنانية العرقية، وباللغة الدارجة يعاني هؤلاء الأشخاص من "غسل الدماغ". وتتم هذه العملية بشكل شامل وعميق بالدرجة التي تجعل الكثيرين منهم مستعدين للإقدام على الانتحار من أجل القضية، والأشد خطورة من ذلك، إقدامهم على قتل كثير من الأبرياء الذين يعتبرونهم مذنبين لمجرد أنهم لا ينتمون لنفس الجماعة.
إن الشباب ينجذب دومًا لفكرة القضية . . فهناك تركيز شديد على فكرة أن يجنِّد الشخص نفسه لقضية أكبر منه، بل أكبر من الحياة ذاتها، وأن يضحي بنفسه من أجل خير أشمل وأعم، فإن ذلك يعطي هدفًا وقيمة لحياة شابة تكون ضائعة وبلا هدف. فلا ينبغي لنا أن نندهش أن الشباب الذي نشأ في ترف، وليس فقط الذين ولدوا في الفقر والعوز، كثيرًا ما تجذبهم تلك الجماعات والمواقف السياسية المتطرفة، فنُبل القضية تؤكدها الدعوة إلى التضحية، وليس المكسب المادي؛ التضحية من أجل التخلص من حاكم جائر أو نخبة فاسدة في عصرنا الحالي، وعندما تتأكد تلك المواقف من خلال احتجاجات ضد فساد الطبقات الحاكمة وقلة ذات اليد– وهو أمر يسهل رؤيته في العالم العربي والإسلامي اليوم– فإنك على بعد خطوة واحدة من تبرير العنف. ويبدأ من هنا منحدر الاقتناع بفكرة أن "الغاية تبرر الوسيلة" ومنها لا نبتعد قيد أنملة عن استدعاء الطموحات النبيلة التي تبرر للعقل أسوأ وأشرس ممارسات العنف والوحشية.
ويتحتم علينا أن نضعف تأثير جاذبيتهم، وأن ندرك السبب الذي يجعل لآرائهم ومعتقداتهم سحرًا مؤثرًا في الكثيرين، وأن نعالج تلك المشاكل من جذورها.

7-    حول العنف
ليس العنف هو مجرد الأفعال السياسية العنيفة التي يقوم بها المراهقون والناضجون في الشوارع، ولكنه أيضًا العنف المتغلغل في المجتمع ذاته، ويشمل العنف ضد المرأة، وانتهاك الطفولة، بالإضافة إلى عنف الجريمة، والعنف السياسي، وعنف الدولة، وعنف الإرهاب.
يَعُدُّ كثير من المُنظَّرين السياسيين، إن لم يكن كلهم، العنفَ هو التجلِّي الأكثر تطرفًا للقوة والسيطرة، ولكن المجتمع ليس غابة، ولهذا فإن العقد الاجتماعي يعطي القوة والسلطة للحكومة التي تحتكر حق استخدام العنف في مقابل توفير الأمان والأمن للجميع، في نظام متشابك من الحوكمة يضمن أن القوة لا تستخدم في استعباد المواطنين، ولكنها مستمدة من قبولهم، وتمارس فقط بموافقتهم.
وقد عارضت "هانا آرندت" وجهة النظر تلك حول العنف، وجادلت بأن السلطة الحقيقية في واقع الأمر تمارس في معظم الأوقات بدون اللجوء إلى العنف، وذلك لأنها مستمدة من الشرعية والقبول، فالحكومات القوية بحق لا تستخدم العنف من أجل ممارسة سلطتها، والسلطة هنا هي القدرة على إقناع الآخرين بالقيام بما نريدهم أن يفعلوه، حيث إن في الأنظمة الديمقراطية يطالب المنتخبون باستخدام قوة الحكومة من أجل تنفيذ رغبات المحكومين، أو على الأقل البرامج التي توافق عليها الأغلبية، ولتحقيق ذلك تحت العيون اليقظة للمعارضة التي يساور أعضاءها الشك حول تلك الحكومة، ولكنهم يظلون ملتزمين التزامًا كاملًا بشرعية عملية الحوكمة التي يمثلون هم جزءًا منها.
وطبقًا لذلك النظام الديمقراطي القائم على أساس العقد الاجتماعي، فإن العنف المشروع للدولة لا يستخدم إلا ضد العناصر الإجرامية أو الهامشية التي ترفض فكرة العقد الاجتماعي ذاتها ومشروعية الإجراءات التي تتخذها الحكومة.
هذا النوع من الطاعة الاختيارية ليس خضوعًا فقط للحكام القائمين، بل في المقام الأول للقوانين والمؤسسات في المجتمع، ولهذا فهو مظهر من مظاهر المساندة والموافقة، مما يجعله إذن تعبيرًا عن السلطة الحقيقية المشروعة. ولهذا فإن من الخطأ الخلط بين الطاعة الناتجة عن العنف والإجبار أو التهديد باستخدام مثل ذلك العنف والإجبار، وبين الدعم الذي يظهره المواطنون للسلطة المشروعة بكامل إرادتهم، نتيجة لاقتناع المحكومين وموافقتهم، حتى إذا كانت المظاهر الخارجية في الحالتين تبدو مساندة لقرارات الحكومة. وفي كل مجتمع سياسي يوجد شكل ما من السلطة والقوة، بدءًا من العشائر في القرى إلى الأمم الحديثة الضخمة، وتظهر تلك السلطة في قدرة المواطنين على العمل الجماعي، ولكن ذلك العمل الجماعي قد يكون نتيجة الطاعة التي يدفعها الخوف من السلطات القائمة، أو الطاعة لنظام يشكل الناس جزءًا منه. ويكمن الفرق بين الطاعة والدعم في شرعية النظام والأشخاص الذين يمارسون السلطة فيه.
متى ينتج التطرف العنف إذن؟ سوف أجادل بأن التطرف هو الحاضنة الطبيعية للعنف السياسي، فالتطرف يهيئ المناخ الذي يجعل يقين الشخص أمرًا مطلقًا لا يناقش، ويزيل من نفسه البغض الإنساني الفطري للقتل، وذلك عن طريق الإصرار على سلامة الموقف السياسي الذي يدافع عنه المتطرفون وضرورة تطبيق رؤيتهم بأية وسيلة ممكنة. هذا التطرف غاب إلى حد كبير من معظم مؤلفات فقهاء المسلمين العظماء في العصر الذهبي للدولة الإسلامية المتسامحة في العصور الوسطى، عندما كانت آراؤهم وتوصياتهم تنتهي بتصريح كله تواضع يعلن أن "تلك آراؤنا ولكن الله أعلم" . . إذ كان عنصر الشك في الذات هو الهامش الفاصل بين الاختلاف في الرأي والحكم بقتل من اختلف معك. ولكن المزاج العام السائد في عصرنا بين المنتمين للإسلام السياسي ليس كذلك، فما هو السبب؟
أحد الأسباب هو أن الإسلام السياسي اضطر إلى الدخول في صراع مع العلمانية المتنامية خلال القرون الأربعة الماضية، وظهرت بدائل للأشكال التقليدية للحكم في الدول ذات الأغلبية المسلمة في الألف عام الماضية. وحيث إن العلمانية ازدهرت وتطورت في الغرب فإن ذلك قد فاقم من صعوبة تقبلها في الدول ذات الأغلبية المسلمة– وكلها تقريبًا احتلت من قبل دول غربية– وخاصة في الدول العربية التي شعرت أن الغرب خانها مرارًا وتكرارًا منذ الاحتلال وحتى القضية الفلسطينية.
ولفترة معينة أصبح التيار القومي أكثر قوة: أولًا سعد زغلول ثم عبد الناصر في مصر، وبورقيبة في تونس، وسوكارنو في إندونيسيا، كلهم كانوا يعبرون عن الموقف القومي، ولهذا تمت هزيمة الإسلام السياسي في عصورهم، ولكنهم كثيرًا ما استخدموا العنف عندما شعروا أن سلطتهم مهددة، وحتى في حالة الزعيم محمد علي جناح المعروف بثقافته الغربية فلقد استطاع أن يصبح زعيمًا بلا منازع للهنود المسلمين، على الرغم من وجود المتطرف (أبو الأعلى المودودي)، ويمكننا فهم تلك الحالة عندما ندرك أن خطابه كان قوميًّا وليس دينيًّا، وذلك لأن (جناح) تحدث عن خلق أمة جديدة يصبح فيها المسلمون أغلبية، ومن ثم أسهم في تكوين دولة باكستان وليس العودة إلى خلافة العصور الوسطى.
فماذا حدث؟ باءت المشروعات القومية كلها تقريبًا بالفشل، ولهذا عاد التيار الديني إلى المقدمة مرة أخرى.
وكذلك فإن الأشخاص الذي خلفوا قادة الحركات القومية افتقروا إلى مصداقية المؤسسين الأوائل، حيث إن هؤلاء الزعماء اكتسبوا شرعيتهم من مواقفهم نحو قضية التحرر الوطني وصراعهم مع قوى الاحتلال.
وباسم التنمية حدثت بعض الأمور الطيبة والكثير من الأشياء السيئة، فالفساد استشرى وانتشرت الصفقات المشبوهة، ولكن المشكلة الأصعب تمثلت في اختفاء الرؤية القادرة على حث وتحفيز قطاعات واسعة من المجتمع.
وأصبحت المعايير التي يقدرها المجتمع أكبر تقدير هي: تكوين الثروات، والبذخ في الانفاق، والنجاح المادي. وأصبح الملايين من الشباب يعانون من البطالة وفقد الأمل في أي شيء سوى العيش على الفتات، وغير قادرين على الزواج وتكوين أسرة، بينما أسقط في يد آبائهم وهم يشاهدون في يأس نخب المجتمع تستولي على الدولة وتحرم الأغلبية العظمى من الشعب من أية مشاركة حقيقية، ولقد أدى هذا الإحساس العميق بالاغتراب، إلى جانب غياب رؤية تستطيع تجميع الشباب وتحفيزهم؛ إلى أن بدأت النخبة في فقدان الشرعية التي تمتعت بها في يوم من الأيام، ونجم عن ضعف السلطة الشرعية العودة إلى العنف ضد المنشقين من جميع الأطياف، وظهور العنف في الشارع، وضياع الهدف بالنسبة لشبابنا، والتوتر والقلق بالنسبة لشيوخنا. وهكذا أصبحت الأرض خصبة للحوارات المتطرفة كما أصبح منطق الانفصال الثوري عن الماضي ومظاهره المستمرة أمرًا أكيدًا لا يرقى إليه شك.
وعلى الرغم من أننا جميعًا نتفق أننا لا يمكننا تدمير العالم لكي نثبت سمو دين ما أو عدالة قضية ما، فإن الخطاب المتطرف يتمتع بجاذبية كبيرة. وكما قال جولدووتر:
"التطرف في الدفاع عن الحرية ليس رذيلة، والموقف الوسطي في محاولة تطبيق العدل ليس فضيلة"-
     باري جولدووتر 1964.

التطرف والتعصب يولِّدان العنف بالضرورة، حيث إن المتعصبين لديهم قناعة راسخة بعدالة قضيتهم، ويتصرفون من منطلق إحساسهم بالتفوق ويقينهم الذاتي بأنهم مختلفون عن الآخرين، ويكنون الاحتقار لمجتمعهم الصغير والكبير.
ولتلاحظوا أنني لا أفرق هنا بين المتعصبين الدينيين والمتعصبين للقضايا العلمانية، وكما صرح وول سوينكا:
"عالم المتعصبين واحد ويتداخل مع جميع الأديان والأيديولوجيات والطموحات، فالروافد التي تغذي مستنقع التعصب قد تأتي من مصادر مختلفة، وقد يفصل بينها التاريخ، والظروف المناخية، والجنس، أو أشكال الظلم والحرمان المتعددة، ولكنها تلتقي في نفس المصب– موقع اليقين المطلق الذي لا يناقش– ويدفعها دافع يسمح لكل شخص بأن يعلن نقاء ذاته ونصوع بياضها في مجتمع فاسد ملوث".-
 وول سوينكا،   
 مناخ الخوف: البحث عن الكرامة في عالم فقد إنسانيته
 (محاضرات ريث لعام 2004)، راندوم هاوس، نيو يورك 2005، ص 134.
ولهذا ففي غياب القدرة على الشك بالنفس يولد من اليقين المطلق إحساس بالتفوق، وهو ما يميز مواقف المتطرفين، ويسمح لهم باقتراف أفعال عنيفة ضد المجتمع الذي يحتقرونه وكلهم صلف وغرور، لمجرد أن المجتمع لا يؤمن بنفس مجموعة الآراء التي يعتنقونها هم.



8-    إشعال الفتيل:
كيف يُنتج التطرفُ العنفَ؟
-    غرس بذور التطرف:
هناك خطأ شائع يرى أن التطرف ينجم عن ظروف الفقر وغياب المساواة في المجتمع، وهذا صحيح جزئيًّا فقط، فهناك تجنيد كبير للأشخاص المهمشين في المجتمع مثل الأيتام وأطفال الشوارع والمحتاجين ليس فقط بسبب فقرهم، ولكن لغياب إطار الحماية الذي توفره التربية السليمة داخل الأسرة، والذهاب بانتظام للمدرسة، والمشاركة في حياة المجتمع. ولنتذكر فقط ضعف الأيتام، وطبيعة التعامل مع أطفال الشوارع، وفشل برامج المساعدة العامة، بالإضافة إلى وجود تناقض كبير بين اهتمام العناصر المتطرفة بهؤلاء المهمشين والأساليب التي يستخدمونها، وبين الأداء العام المترهل واللامبالي لموظفي الدولة، ولهذا فإن التجنيد للجماعات المتطرفة موجود وقوي بالفعل بين الأكثر فقرًا.
ولقد اخترقت الكوادر المتطرفة مهنة التدريس، وفيها يتمتعون بالطبع بموقع سلطة ويكتسبون إعجاب الطلاب، ولهذا فإن التجنيد ممكن أيضًا في المدارس، وينبغي لنا أن نأخذ في اعتبارنا انتشار الأفكار المتطرفة من خلال المدرسين والإداريين.
ونحن ندرك أيضًا أن المراهقين هم أكثر فئة معرضة للغضب العارم من الظروف التي تقهرهم، ومن هنا فإن الإطار النفسي لتبني الآراء المتمردة المتطرفة يصبح أكثر ترجيحًا، ويمكن للشباب أن ينضم تدريجيًّا للحركات المتطرفة، وبعضهم– تحت رعاية آخرين– سوف يصنعون العنف من أجل تغيير تلك الظروف، حيث يؤمنون أنها لن تتغير بأية وسيلة أخرى.
وتتم استمالة كل مجند إلى أيديولوجية الجماعة المتطرفة عن طريق تسكينه داخل مجموعة توفر له الأمان والدعم، على شريطة أن يتخلص المجند من هويته القديمة ويتبنى هوية الجماعة، ومن الضغوط التي تمارسها الجماعة على المجند تبزغ بذور الخطوات التالية، وأهمها أن يصبح جزءًا من جماعة الشهداء الذين يربطهم رباط الأخوة ويضحون بحياتهم سويًّا من أجل قضية نبيلة.
ولكن بما أننا نفهم تلك العملية، فيمكننا تعطيلها عند كل خطوة على الطريق من خلال إطار ثقافي عقلاني وسياسات تُصاغ بكل عناية للتعامل مع تلك التحديات. إلا أنه لا يوجد شيء كامل أو مطلق. فالمجتمع الناجح الذي يخلو من الظلم الفادح، الظلم الذي يجأر بتطبيق العدل، يقلل من مستوى السخط عندما يطفو على السطح، وينطبق ذلك أيضًا على سهولة تغيير الأوضاع من خلال نظام مستقر ومعترف بشرعيته عن طريق تعديلات ديمقراطية منظمة، وأن تكون التغييرات ذات مصداقية ولا ينتهكها "الأغنياء والأقوياء"، أو "الفاسقون الفاجرون". إننا لا نعترض بغضب لا يلبث أن يتحول إلى سخط حانق إلا عندما يُنتهك إحساسنا بالعدل، أو عندما نشعر أن مؤسسات الدولة الشرعية مزيفة، ويتلاعب بها قلة قليلة من أجل الحصول على المكاسب على حساب الكثيرين.
وجميع البشر تقريبًا لديهم خوف غريزي من الموت، ولكن الجيوش تعرف منذ أزمنة بعيدة أن بالإمكان تدريب الرجال لمواجهة الخطر والاستمرار في التقدم تحت النيران، وبشكل عام، فإننا عندما نواجه الموت في ساحة القتال ونكون ضمن مجموعة فإن شكل الموت يصبح مختلفًا، فالقلق على إخواننا الحاملين للسلاح الذين يحاربون لنصرة قضيةٍ ما يجعل الكثيرين يقومون بأعمال بطولية فريدة. وقد يرى الآخرون قضيتنا بوصفها مضللة، ولكن في لحظات المعركة الحرجة ما يهم أكثر من أي شيء آخر هو كيف يرى المتحاربون القضية، ولا يمكن إنكار شجاعة الجنود على جانبيْ الصراع حتى عندما تساورنا الشكوك حول سلامة القضية السياسية التي يدافعون عنها، كما أن قربنا من الموت يرفع من حيويتنا والتزامنا بحماية زملائنا، حيث تستدعي القضية في أذهاننا فكرة التضحية والفداء. وإذا كان المتحاربون قد مروا بعملية إقناع عقائدي– وهو ما يحدث غالبًا– فإن كل تلك العوامل تزداد حدة وقوة.
ونرى تلك العوامل نفسها حتى في الحالات التي لا يكون فيها المتحاربون ضمن جيش نظامي لدولة معروفة، وإنما يكونون جزءًا من عشيرة أو فرقة أو جماعة متمردة سياسيًّا، فإذا كانت الأخيرة جزءًا من حركة متطرفة ذات غطاء ديني، فإن استشهاد المحارب ذاته قد يجلب الخلود للأعضاء الآخرين المنتمين لنفس الجماعة مثله، فالجماعة تتغذى إذن على فناء أفرادها، ويعدون ذلك الموت استشهادًا، وكل من الشهداء والباقين على قيد الحياة يعتقدون أن الجماعة، والحركة التي تتبعها، تسمو عاليًا ويصبح وجودها متحققًا من خلال ممارسة العنف.
ولكن على الرغم من عمق مشاعر هؤلاء الأفراد، من حيث استعدادهم لتفجير أنفسهم في عمليات انتحارية، وعلى الرغم من التماسك الشديد للجماعة، فإن تلك الجماعات لا تستطيع إقامة مجتمع قابل للتطبيق، فوجود الأفراد أثناء المعارك يخلق ترابطًا يستمر طوال العمر، ولكن تلك الروابط لا تترجم بشكل فعال إلى تعبير مؤسسي أو سياسي، فلم يوجد نظام سياسي في التاريخ يقوم فقط على روابط المساواة أمام الموت وتحققها من خلال ممارسة العنف، وفضلًا عن ذلك، فإن "التأثير المطهر" المفترض لهذا العنف لا يساهم مطلقًا في بناء مجتمع جديد أو "إنسان جديد". فلم يستطع رعب الثورة الفرنسية أو عمليات التطهير التي قام بها "ستالين" أو العنف الذي صاحب الثورة الثقافية في الصين خلال الستينيات أن يحقق هذا العصر الجديد المفترض، وكما علقت حَنَّا آرندت:
"ولكننا لا نستطيع إنكار حقيقة أن المشاعر الأخوية القوية الناجمة عن العنف الجماعي قد ضللت الكثيرين من ذوي النية الطيبة للاعتقاد بأن تلك المشاعر قادرة على إنتاج مجتمع جديد و"إنسان جديد". ولكن ذلك الأمل ليس إلا وهمًا للسبب البسيط أن هذا النوع من الأخوة هو علاقة إنسانية وقتية زائلة على خلاف العلاقات الإنسانية المستقرة، حيث إنها لا تتحقق سوى في حالات الخطر المباشر."
-    فيما وراء الظلم الفادح: البيروقراطية
تحدثنا سابقًا عن الغضب من الظلم الفادح الذي يهمل ولا يتم إصلاحه، وهو غضب ما يلبث أن يصبح سخطًا عارمًا، ويتحول إلى تطرف وعنف، ولكن الطريق الآخر نحو العنف هو الإحباط، الإحباط من عدم تحقق طموحاتنا، ومن تأجيل أفعالنا، ومن أننا لا نستطيع أن نحرك البيروقراطية لكي تستجيب لرغبات المواطنين.
لقد كان ذلك في الواقع سمة مشتركة في تمرد الطلاب في الستينيات، حيث تظاهر في الشوارع الطلاب في دول الستار الحديدي وفي الدول الغربية الديمقراطية وفي كثير من الدول النامية مثل مصر؛ رافضين الأنظمة التي تحكمهم والتي اعتبروا أنها لا تلبي طموحاتهم، ولكن بينما أتى تمرد الطلاب في مصر كرد فعل لكابوس هزيمة العرب من إسرائيل في 1967، فإن ثورة الطلاب على جانبي "الستار الحديدي" أبرزت قضية مختلفة، فالطلاب في الشرق طالبوا بالحقوق الإنسانية الأساسية مثل حرية التعبير والاجتماع والحق في المشاركة في اختيار زعمائهم، أما في الغرب حيث كانوا يتمتعون فعليًّا بتلك الحقوق، فسخروا منها بوصفها "حقوقًا برجوازية" حيث شعروا بأن امتلاك تلك الحقوق والمشاركة في الإطار القانوني السياسي لبلدانهم لم يؤد إلى تغير ملحوظ في حياتهم، وأن إحباطهم زاد بسبب عجزهم عن التأثير في مجريات الأمور في مجتمعاتهم.
وكما علقت "حَنَّا آرندت" على حركات التمرد هذه، فإن البيروقراطية القوية وآلات الحزبية الضخمة قد نجحت في إسكات صوت المواطنين في كل مكان، حتى في الدول التي تتمتع بحرية التعبير والاجتماع بضمان من الدستور.
وعلى الرغم أن العالم شهد تصاعدًا واضحًا في مجال الحريات الشخصية منذ وقت حركات التمرد في الستينيات، واتسع حيز الديمقراطية في أمريكا اللاتينية في الثمانينيات وفي أوروبا الشرقية في التسعينيات، فإن مسيرة انتصار الديمقراطية كانت تحفها مشاعر قلق، فبشكل خفي، منذ الحرب العالمية الثانية، شهدنا أيضًا تحول الحكومة إلى إدارة، وتحول الجمهوريات إلى بيروقراطيات، كما شهدنا تقلصًا كارثيًّا في المجال العام صاحب تلك التحولات. هذا التاريخ المؤسسي الطويل والمعقد لم يتم استيعابه وفهمه؛ لأنه حدث في ظل انتصارات الديمقراطية التمثيلية والتي اعتبرت– بحق– السمة المهمة لتاريخنا عبر العصر الحديث.
"وأخيرًا، فكلما زادت البيروقراطية في الحياة العامة، اشتدت جاذبية العنف وسحره، ففي النظام البيروقراطي المتقدم لم يعد هناك شخص يمكننا مجادلته، أو يمكننا أن نعبر له عن شكوانا، أو نستطيع أن نضغط عليه، فالبيروقراطية هي شكل من أشكال الحكم التي يُحرم فيها جميع الأشخاص من الحرية السياسية، ومن القدرة على الفعل، حيث إن حكم الاشخاص ليس غيابًا للحكم، وحيث نصبح جميعنا متساويين في أننا مسلوبو الإرادة، فلدينا ديكتاتورية بدون ديكتاتور".
 آرندت، ص 24.

وفضلًا عن ذلك، فإن الظهور حديثًا للقوميات الصغيرة، سواءً كانت عرقية أم دينية أم لغوية أم جغرافية، قد أحدث تصدعات في البناء القانوني للدولة القومية، وتبنت القضية أحزاب أو جماعات تتحالف عادة مع أيديولوجيات اليمين السياسي المتطرف المناهض لتدخل الدولة في حياة المواطنين، والآن نستطيع أن نرى الشقوق تكبر وتتمدد في البناء السلطوي لجميع الدول باستثناء الدول الصغرى. وإذا كانت البيروقراطيات عاجزة عن التعامل مع تلك المشاكل، فينبغي لنا أن نتوقع أن تلك التطورات سوف تؤدي إلى انخفاض في القوة الشرعية المركزية، وارتفاع في الإحباط والغضب لدى المواطنين مما سيؤدي بدوره إلى العنف. وفي الدول العربية، حيث تهيمن الحكومات على السلطة ولكنها غير قادرة على مواجهة هذه التحديات؛ نتوقع أيضًا أن تتجه الحكومات إلى العنف للحفاظ على قوتها، حيث إن الكثيرين الذين يمسكون بالسلطة واقعون في براثن إغرائها، وعندما يشعرون أنها تنزلق من بين أيديهم فإنهم دائمًا ما يجدون صعوبة في مقاومة استخدام العنف للمحافظة عليها، ولهذا فمن جانب المواطنين ومن جانب الحكومات ستوجد قوى شديدة تدفع نحو الاستقطاب والتطرف واستخدام العنف.
-    الخلاصة:
إن تصميم استراتيجية للعمل الثقافي من أجل نبذ العنف وتشجيع التعددية ليس عملًا هندسيًّا دقيقًّا، ولكنه تصميم لرؤية جماعية، رؤية ينظر إليها الكثيرون بشكل مختلف ومن زوايا مختلفة، فيبرزون جانبًا أو آخر تبعًا لدورهم في المجتمع، ولمواهبهم، ولأذواقهم. ولكن هناك عناصر مشتركة كافية لكي تجعل كل فرد منهم يدرك أنها الرؤية ذاتها– إلى حد ما– التي نتمسك بها جميعًا. تلك الصورة ليست صورة ثابتة، فهي مستمدة من العالم كما نبصره حولنا، وتصور واقع مجتمعنا وأوجه القصور فيه، وتحدد القوى التي تدفعه وتحركه، فتوجه لها النقد وتقدم اقتراحات من وجهات نظر متعددة. وبهذا نخلق رؤيتنا، وهو عمل ينمو ويتطور دومًا ولا يكتمل مطلقًا، والاستراتيجية التي ترشد خطانا هي بوصلة للاتجاهات أكثر منها خريطة للطريق.
أمامنا نجد الحلم الذي يبعث فينا الحيوية والطاقة، ووراءنا نجد ذكرى الماضي. وينبغي لنا أن نتعامل بإبداع مع الحاضر الذي يتجلى أمامنا، فنعيد بناء القطع المتناثرة من أجل الارتقاء بظروفنا، فنخطو بذلك خطوة جديدة نحو تحقيق رؤيتنا الكاملة، ونحو إدراك أن الغايات والأهداف التي نسعى لتحقيقها يجب أن تحدد من خلال الوعد الكامن في واقع الأشياء.
 

الجزء الثالث
ديناميكية التغيير الثقـافـي
9-    الاعتبارات المفهومية والعملية
لا يوجد مجتمع دون ثقافة، ولا توجد ثقافة دون مجتمع. إذ تهب الثقافة المشتركة أعضاء المجتمع المعايير الاجتماعية للسلوك البشري، وفي المقابل تحكم السلوك البشري في إطار الجماعة. في هذا السياق، فإن السلوك البشري عندما يتخذ الطابع الجماعي، فإنه يتحول من "سلوك فردي" إلى "سلوك جماعة"، ويشكل التفاعلات بين أنماط السلوك مظاهر المجتمع الحي.
لك أن تتخيل حال مجتمع يعيش الناس فيه في ظل إطار ثقافي متماسك قادر على إنتاج الجديد، هو بالتأكيد مجتمع صحي، يدير الاختلافات بين الناس المختلفين بطبيعتهم، حيث يضطر الناس إلى التكيف مع الجديد، والتعامل مع التغيرات الحتمية التي يحملها الزمن للفرد، وكذا البيئة المادية والاجتماعية التي تحيط به.
والمجتمعات التي تستند إلى صيغة من الحكم تتمتع بالقبول والرضا، وينُظر إليها على أنها "شرعية"، وتمارس أنظمة الحكم فيها سلطاتها برضاء من المحكومين؛ هي ليست بحاجة إلى اللجوء إلى العنف أو غيره من الصيغ الإكراهية في علاقتها بمواطنيها. ولكن أحيانا يحدث أن تظهر مجموعة ترفض المسار الذي تمضي فيه غالبية المجتمع، وتدريجيا تصبح أكثر تطرفًا في موقفها المعارض. وفي هذا الصدد، فإن التطرف الذي يولد، يمكن أن يستمر في النمو إلى الحد الذي يصبح فيه مثل مرض "السرطان" الذي يتفشى في الجسد السياسي برمته. عندئذٍ، فإن نمو التطرف يؤدي عادة إلى العنف.
وكما أن المجتمعات تنشأ، وتتطور بمرور الزمن، فإن الثقافات تنشأ وتتطور كذلك من خلال عملية ممتدة: ترث الماضي، وتتكيف مع الحاضر، وتنتج المستقبل. المهم في هذا السياق هو فصل "الآلية" التي من خلالها ينشأ المجتمع، ويتكيف باستمرار مع الجديد، ويطور هويته تبعا لذلك. إنها عملية صحية من التغيير لا تترك مساحة للتطرف الذي يمكن أن ينشأ، والعنف الذي يفصح عن ذاته.. عملية ممتدة لا تتضمن نهاية أو منتجًا نهائيًا، ولا تشمل تنظيمًا مثاليًّا.
الهوية الفرنسية- على سبيل المثال- تطورت، على نحو جعلها تعيد إنتاج نفسها. إذ أن نحو خمسة ملايين مسلم ينحدرون من دول شمال إفريقيا يعيشون فيها ويشكلون تحديا ثقافيا واجتماعيا، أيا كان موقفهم من الثقافة الفرنسية؛ اندماجا، أو انعزالا، وهو ما يتضمن أشكالا من التفاعل الثقافي تشمل ما نطلق عليه المجتمع ذي الهويتين على غرار النموذج السويسري.
 نخلص مما سبق أن التغيير الثقافي عملية ممتدة، وأن البحث فيها عن حل نهائي أو إجابة نهائية عن سؤال الهوية هو محض "وهم".


10-    القومية متراكمة المستويات
على الصعيد العملي، هناك حقيقة اجتماعية ناشئة في المجتمعات الإسلامية من المغرب إلى إندونيسيا، لا يمكن أن يتغافل عنها الباحثون أولا، وهي أن الحقائق في المجتمعين مختلفة، وينجم عنها سمات ثقافية مختلفة.
عندما تصدى "كليفورد جيرتز" Clifford Geertz بالدراسة لهذين المجتمعين خلص إلى أن هناك اختلافات واضحة في المناخ الروحي. ففي المغرب، المفهوم الإسلامي للحياة ينحو نحو الفعالية، الأخلاق، والفردية المفرطة. في حين أن المفهوم ذاته في إندونيسيا يتضمن قيما مختلفة: التصوف، الجمال، اللاذاتية.
ولذا فإن دراسة الثقافة- بالمظاهر التي تفصح بها عن نفسها للمراقب- ينبغي أن يتضمن نظرة متعمقة لطبقات الثقافة المتعددة التي تتفاعل بعضها مع بعض. هذه حقيقة يمكن استجلاؤها بوضوح عند النظر إلى إندونيسيا والمغرب، اللتين يجمعهما معتقد ديني واحد هو الإسلام، وبالرغم من ذلك فإن الثقافة في هذين البلدين تحمل طبقات متعددة تتفاعل بعضها مع بعض- يشكل الإسلام أحدها.
ويمكن رصد التفاعل بين الطبقات الثقافية في المجتمع الواحد في الشكل البياني الآتي:

شكل (1) المنظور التراكمي (متعدد الطبقات) في التنمية الثقافية

في الشكل الموضح أعلاه نقدم مجتمعين، يقدمان نموذجين مختلفين، كل منهما وضع في عمود يحوى أشكالا على هيئة  ثلاثة مربعات وضعت في شكل رأسي.
إذا نظرنا إلى الشكل البياني أفقيا سنجد حال مجتمعين مختلفين من حيث الشروط الأساسية لكل منهما، يجسد ذلك مربعان يحويان داخلهما رسوما مختلفة، ينبئان بحال مجتمعين مختلفين. ولكن بالانتقال إلى المربعين الآخرين اللذين ينتظمان أفقيا نجد أنهما متشابهان، وهو ما يعني أن كلا المجتمعين- المختلفين في الأوضاع الأساسية- تعرَّضَا لنفس المؤثرات، والمتغيرات، والتحولات. وشكلت عوامل التغيير طبقة إضافية لما سبقتها من الأوضاع الأساسية، تتفاعل معها، نتج عنه في كلا المجتمعين الصف الأفقي الثالث، الذي يضم مربعين يحويان رسومات مختلفة للوهلة الأولى- أو عند النظر إليهما ظاهريا- مما يحول دون تبيان العنصر المشترك في المجتمعين. يعني ذلك أن تحليل الظواهر الثقافية لا ينبغي أن يقف عند حد المشهد الظاهري، بل يتعين أن يغوص في أعماق التفاعل الذي يحدث بين الطبقات الثقافية.
ولنأخذ مثالا على ذلك حال مجتمعين مختلفين في التكوين الثقافي، مثل المغرب وإندونيسيا، يتعرضان للمؤثر نفسه- أي الإسلام- مما ينتج عبر سلسلة من التفاعل الثقافي في كل منهما ثقافة جديدة بها، تتشابه وتختلف بعض عناصرها في المجتمعين من جراء عملية التفاعل مع الطبقات الثقافية التي سبقتها من ناحية، والتي لحقتها من ناحية ثانية.
في هذا السياق لا تجدي النظرة السطحية أو غير المتعمقة للظواهر الثقافية، خاصة عند النظر إلى قضايا معقدة مثل "الهوية"، التي تتشكل، ويعاد تشكيلها عبر تفاعل معقد بين موروث ووافد، ماضٍ وحاضر في امتداده إلى المستقبل.
ويعود اختلاف الأوضاع الثقافية في المجتمعات إلى متغيراتٍ؛ منها: السياق الذي توجد فيه، الاتصالات، الحراك الاجتماعي، التكنولوجيا، والتحولات الديمغرافية التي تشهدها كل المجتمعات. وتسفر جميعا في تحديد "حجم التغير"، و"معدل التغير". عندما يواجه الأفراد هذه المتغيرات يلجؤون إلى التكيف معها، من خلال: حماية بعض جوانب ثقافتهم، الاستغناء عن البعض الآخر، وتبني بعض المظاهر الجديدة، وذلك دون الانشغال بما يهم الباحثين من البحث عن التماسك الثقافي. هذه العملية المستمرة من التكيف، وإعادة التكيف مع المؤثرات الثقافية تؤدي إلى التغير السريع في المجتمعات، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنها تعد جوهر أي تفسير لتغيير القيم الاجتماعية. وهنا ينبغي أن نسجل ملاحظة مهمة وهي أن: القيم الاجتماعية لا تحدث في فراغ، كما أنها لا يمكن أن تكتسب هذه الخاصية- أي تصبح بمثابة قيم اجتماعية- إلا إذا أصبحت حاكمة للسلوك الفردي لغالبية عريضة من السكان.
في توضيح العلاقة بين عمل الباحثين ونشوء الحقائق الاجتماعية في الواقع، والتي يعد الباحثين أنفسهم جزءًا منها؛ نأتي إلى قلب العلاقة مزدوجة المسار بين عملية تعريف الحدود الذهنية، أي حدود العمل البحثي من ناحية، ووجود وعمل هذه الحدود في واقع الحياة من ناحية أخرى.
11-    التفاعلات الثقافية: نموذج للسلوك الاجتماعي
تنصبُّ الإطلالة الثقافية على المفاهيم والسلوك الاجتماعي بالتوافق مع القيم المستقرة في المجتمع. ولكن الثقافة تنشأ وتتطور، ببطء في حالات كثيرة، ولكن أحيانًا بشكل متسارع في حالات التغيرات السياسية والاجتماعية التي تحدث على نحو درامي، وكذلك الأزمات الاقتصادية مثلما حدث في ألمانيا في التضخم الكبير في العشرينيات من القرن العشرين، أو الكساد الكبير في الثلاثينيات من ذات القرن، أو نتيجة العمل "الهادئ" بعيدا عن الصخب الذي قام بها فنانون، وعلماء، ومثقفون، وأسهم التراكم الذي حققه في تغيير مؤثر في النظرة العامة، والإطلالة على المجتمع، وهو ما يُطلق عليه الباحثون: التغيير في المنظور الكلي للنظر إلى المجتمع. ومن الأعمال المهمة الشهيرة التي رصدت هذه التحولات كتاب "توماس كيون" "بنية الثورة العلمية"، الذي أصبح من المراجع الكلاسيكية التي أسهمت في إحداث تغييرات أخرى لدى الباحثين الذين تصدوا إلى هذا النمط من التغيير في المنظور الكلي في جوانب ثقافية أخرى مثل "ريمي كلينت" في كتاب "بنية الثورات الفنية" الصادر عن جامعة بنسلفانيا في نوفمبر عام 1985م.
من هنا ينشأ ويتغير الإطار الثقافي، ويتغير السلوك الاجتماعي أيضا تبعا لذلك. وهكذا، فإنني أقدم وجهة نظري في نموذج للسلوك الاجتماعي ثلاثي الأبعاد، من المهم طرحها الآن لارتباطها الوثيق بالأطروحة الأساسية التي أقدمها حول ضرورة التغيير الاجتماعي الجاد في المجتمعات العربية والإسلامية، وفي الفكر الإسلامي في الوقت الراهن، وأيضا لمعرفة كيف يعمل هذا التغيير، سواء كان محدودًا أو راديكاليًّا.
شكل (2) النموذج النظري في التغيير الاجتماعي
 
في النموذج الموضح أعلاه نجد ثلاثة مستويات أساسية: الفكري، المفهومي، العملي.
يعني المستوى الفكري عالم النظريات، الفلسفة، الفهم، صناعة الفكر والثقافة، دنيا المثقفين والإبداع. أما المصادر الأساسية فهي: القرآن الكريم، السنة النبوية، الإنتاج الفكري للعلماء والفقهاء المسلمين، المؤثرات الثقافية من حضارات وثقافات ما قبل الإسلام، والإنتاج الثقافي الغربي الراهن. ويمكن أن نطلق على هذا المستوى عالم "ما ينبغي أن يكون"، عالم المثل، والقيم، والنقاش الراقي.
ولكن غالبية السكان، وهو ما ينقلنا إلى المستوى الثاني- لا يدركون "الغايات المثالية" من وراء الأخلاقيات النظرية، ولا يعون الرؤى المعمقة، ولكن يصل إليهم فهم، وتفسير، ورأي مشوه، لا يتماشى مع المستوى الأول- (نطاق المثل والقيم).
إن التفسير الذي يستقر في عقول وأفئدة الناس عن الدين- هذا هو المستوى الثالث- يحكم سلوكهم، وما قد يظهر عليه من عنف وتطرف، وتعصب وكراهية؛ لا يعبر عن فهم ديني صحيح، ولا يعي الآية القرآنية الكريمة "لا إكراه في الدين".
بالتأكيد فإن ممارسات بعض المسلمين، ممن يعرجون في اتجاه العنف والكراهية، مرفوضة من الإسلام، ولا تعبر عن فهم صحيح لأي المدارس الفقهية الأربعة. وبالرغم من ذلك نجد انتشارا للممارسات الخاطئة، ويَعُدُّ من يرتكبها نفسه مسلمًا حقًّا.
في هذا الصدد يقوم الفهم الشعبوي للإسلام بصياغة القيم الاجتماعية. وعندما يتخذ السلوك الفردي طابعًا جماعيًّا، يتحول التطرف إلى ممارسات اجتماعية أو ما يقوم به المجتمع كل يوم.
ويمكن للتغير أن يلج إلى هذا السياق عبر عدة طرق:
الأول: أكثر عمومية، على المستوى الاجتماعي الشعبي من خلال قوى التحديث أو التغيرات المادية الكبرى. مثال ذلك تأثير الزيادة الكبرى في العوائد النفطية في المملكة العربية السعودية في منتصف السبعينيات من القرن العشرين على شمال اليمن، ليس فقط في صورة تدفق العمالة اليمنية بكثافة للعمل في السعودية بحثًا عن الثراء، واكتسابًا لأنماط استهلاكية مغايرة، ولكن أيضًا في تغيير طبيعية الحياة ذاتها في اليمن، بما في ذلك الأساليب المعمارية. وفي القرى التي فُرَّغت تقريبا من القوى العاملة الذكورية، وهذه نقطة مهمة، بدأت النساء في لعب أدوار مغايرة عن الأدوار التي كانت تقوم بها في السابق. هذه التغيرات أصبحت "مقبولة" أخلاقيا على الصعيد الشعبوي، وكذلك القيم الاجتماعية. هنا اختلف مسار التغيير، وبدلا من أن يتدفق من أعلى إلى أسفل، أصبح يندفع من أسفل- أي الممارسات الشعبوية على أرض الواقع- إلى المستوى الثاني المتعلق بإدراك الناس، وثقافتهم، وما يعتقدون فيه من تفسيرات.
في نفس السياق، فإن تعرض قطاعات من المجتمع في موريتانيا- فئة الرعاة تحديدًا- إلى الجفاف لمدة أربعة عشرة عامًا، أدى إلى ظهور أنماط جديدة من السلوك وسط هذه الفئة، للتكيف مع معيشة صعبة فيما يشبه مخيمات اللاجئين حول العاصمة نواكشوط، ورسو. وهكذا مرة ً أخرى نتبين أن التغييرات التي تحدث على المستوى الاجتماعي قاعديا، تجد طريقها إلى أعلى- حيث إدراك وفهم الناس للدين والقيم الاجتماعية- حتى يتسنى مساندة أو فرض التغييرات الضرورية في السلوك الإنساني.
وفي حالة استمرار التغيرات على الصعيد الاجتماعي الشعبي، ثم قبولها على نطاق واسع من المستوى الأعلى- أي ما يدركه الناس عن الدين، وما يمارسونه من قيم اجتماعية- فإن ذلك سوف يشكل عنصرًا ضاغطًا على علماء الدين، والدارسين والنخب المثقفة؛ لتفسير أو قبول أو الاستجابة إلى التحديات التي تواجهها. مثال ذلك الانتشار الواسع للبنوك التي تقوم على نظام الفائدة أصبحت الآن  رغم اعتراضات من بعض الاتجاهات  مقبولة، ومبررة من المؤسسات الإسلامية الفاعلة في شتى الدول العربية والإسلامية.
ثانيا: يمكن للتغيير أن يتدفق أيضًا من أعلى إلى أسفل، أي من المجال الفكري إلى إدراك الناس ثم إلى الممارسة العملية، وذلك عندما تظهر أفكار جديدة، يجري التصدي لها بالنقاش والتفنيد، والتحليل والتكيف، وتبنِّيها في النهاية مثلما هي حالة الفلسفة اليونانية إبَّان زمن الفارابي، وكما يحدث الآن مع العديد من الأفكار المعاصرة.
ثالثا: يمكن للتغيير أن يجد مستقرا له في أيضًا المستوى الثاني- أي ما يصل إلى الناس من تفسيرات، وأفكار، ورؤى، وتحيزات وقيم- وذلك من خلال مسارين: الأول الإعلام الجماهيري، والثاني نظام التعليم، كلاهما لديهما القدرة على صياغة تصورات غالبية الناس تجاه الذات والمجتمع، حتى إن كان بصورة غير كافية أو غير كاملة.
من ناحية أخرى يمكن القول بأنه إلى الحد الذي يمكن للتغيرات أن تلج إلى المجالات الثلاثة، خاصة الوسيط- الذي يحوي القناعات والتفكير والقيم الاجتماعية التي يؤمن بها الناس- يمكن الحديث عن إمكانية الحفاظ على الإطار العام للهوية الثقافية للمجتمع.
ويمكن القول بأن هناك إطارًا ثقافيًّا ينشأ، ويتطور أحيانا بسرعة، يكون استيعابيًّا، وقابلًا لاستيعاب المتغيرات كذلك: استيعابيًّا في تماسك وانسجام الإطار الثقافي الذي يجعل الناس تشعر بالاتساق مع أنفسهم، ومع مجتمعهم، وقابلًا للاستيعاب عندما تكون لديه المقدرة على استلهام أفكار، وقيم جديدة، والتكيف مع التحديات الجديدة وخلق فرص جديدة. هذا النمط من الإطار الثقافي الاستيعابي والقابل لاستيعاب الجديد صحيٌّ، يسمح للفنانين والنخب المثقفة بالتصدي للتحديات التي تحدث في الطبيعة، والمجتمع، وداخل الإنسان، فيفتحون النوافذ، ويدشنون المرايا أمام المواطن للإطلال على مجتمعه، فضلًا عن وضع الحدود التي يتحرك فيه الشخص بحرية.
في المجتمع الإسلامي اليوم، تحدث غالبية التغيير على المستوى القاعدي الاجتماعي، وبعضه يحدث على مستوى إدراك الناس للمفاهيم الدينية وذلك من خلال وسائل الإعلام، التي أصبحت لها سطوة عالمية في التأثير في عقلية الأفراد، بالطبع يقبع الثقل الإعلامي في "الغرب"، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة، ولكن في الفترة الأخيرة تشكلت مراكز إقليمية في الخليج العربي، وبالأخص أبو ظبي والإمارات العربية المتحدة، تقدم مساحة مهمة لجذب الشباب العربي.
واليوم، هناك قليل، لو أن هناك بالفعل شيئًا يحدث، على صعيد الفكر، أي المستوى الأول، خاصة في ضوء تصاعد الرفض تجاه العلماء والفقهاء الذي تمارسه الحركات المتطرفة قاعديا. ويستوعب السياق الثقافي الذي يتبنونه استيعاب الأفكار، والنظريات، والمفاهيم الأساسية، لكنه غير منفتح ولا يستطيع استيعاب الجديد. ونتيجة لضعف الأسس الثقافية، يخشون تعديل الحلول القديمة أو وضع حلول جديدة، من أجل الحفاظ على تماسك واندماج الإطار الثقافي القديم.
يعود الضعف النسبي للاتجاهات الإصلاحية وأصحاب الآراء المبدعة في التيار الرئيسي للفكر الإسلامي إلى عدم كفاية عدد وعمق المخرجات الثقافية التي لا تزال محدودة بعدد قليل من المثقفين الذين يتبنون الفكر الإصلاحي، بالرغم من أنها تمتاز بالرصانة. هذه الظاهرة تعود أيضًا إلى اليأس الذي يعتمل في نفوس مثقفين ينبغي أن يكونوا في خانة المُصلِحين، لكنهم آثروا الخيار السهل (الذي أراه غير كافٍ) في المساواة بين "الحداثة" و"التغريب".

12-    مهام النخب المثقفة
بناءً على ما سبق، يمكن القول بأنه ينبغي أن يكون هناك عمل ثقافي مكثف حتى يتسنى للمسلمين استعادة الشعور بالاتساق مع أنفسهم، ومع السياق الثقافي المحيط بها؛ مستوعبا للأصول، منفتحا على المؤثرات والمستجدات الثقافية. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب الأمر إظهار التداخل بين الهوية الوطنية والهويات العرقية؛ خاصة بالنسبة للعرب من جانب، والهويات الإسلامية التي ينتمون إليها من جانب آخر.
هذا العمل، لا يمكن القيام به دون وجود مساحة من الحرية للنخب المثقفة التي تجتهد في تحديد معنى ومحتوى الأصالة الثقافية في عالم شديد التغير، بحيث لم يعد "الانعزال" أو "الانفصال" من الخيارات المطروحة، مثلما لم تكن كذلك في أي مرحلة. وكلٌّ من الفنانين والمثقفين، لديهم مسئولية كبيرة ملقاة على عاتقهم، نظرا لأنهم هم من يصنعون المرايا التي يرى فيها الناس أنفسهم، ويفتحون أمامهم النوافذ التي تمكنهم من رؤية العالم. فمن خلال ما يقوم به المثقفون تُرسم الحدود التي يجري بين ثناياها تعريف الهويات التي تتعرض دائمًا لإعادة تشكيل.
إنني أؤمن بأن المثقفين المسلمين لا يستطيعون في الوقت الحاضر الاضطلاع بهذه المهمة. ومن أجل أن تخطو الطبقة المثقفة المسلمة خطوات على طريق التحليل النقدي للقضايا التي تواجه مجمعاتهم، ينبغي القيام بما يأتي:
أولا: ينبغي أن يطور المثقفون أساسًا معرفيا منظمًا لفهم عدد من المفاهيم الرئيسة مثل المجتمع، الثقافة، الإسلام، الجماعة، الهوية، الخرافة، التخيل، والإبداع. ولا يعد ذلك عملا نظريا أو استعراضيًّا أو مجرد محاولات للتفرقة بين مفاهيم، لكنه في الأساس مهمة ضرورية لوضع أسس معرفية للنظرية والممارسة للنقد الثقافي والنقد الفني في العالم الإسلامي اليوم. بدون فهم المفاهيم، والمصطلحات، والمنهجية، والخطابات البينية على نحو جديد في هذه القضايا المهمة سوف يظل الفهم السائد غير محكم، غير منظم، غير منتج. وفي الواقع فإن هذه الدعوة أطلقها عدد من المثقفين المعتبرين، في مقدمتهم الراحل محمد أركون.
ثانيا: ينبغي أن يتصدى المثقفون المسلمون بعمق لمشكلة التواصل الثقافي في المجتمعات الإسلامية اليوم، ليس المطلوب عددًا لا ينتهي من الكتابات الوصفية التي قد تكون مهمة بالتأكيد، ولكن المطلوب هو التحليل النقدي للظواهر المعقدة لنشوء الثقافة، والطرائق التي تظهر بها، حتى يتسنى تموضع النخب المثقفة بوصفهم وكلاء للتغير، ومعبرين عن سياقاته.
وبينما أولى هذه المهام تبدو صعبة، فإنها تعد شرطا ضروريا من أجل القيام بالثانية.
إذا أخذنا في الاعتبار سرعة التحول في البيئات المادية والتكنولوجية والاقتصادية الاجتماعية، فإن أمام المثقفين المسلمين واجبًا رئيسيًا لو أرادوا أن يكون لأفكارهم تواصل مع التغيير المتسارع الذي يحدث في العالم. ينبغي لهم أن يعيدوا طرح الأسئلة الأساسية التي تواجهها كل المجتمعات، ومن ثم فإن فهمهم للذات لن ينحدر إلى مجرد استهلاك المادة والوقت. ففي الوقت الراهن لم يعد بوسع المثقفين المسلمين الانعزال عن مجتمعاتهم.
ينبغي أن يتعلم المثقفون والفنانون المسلمون التعاطي مع الماضي والحاضر. وينبغي أن يشكل التحول التكنولوجي في عالم اليوم، والحقائق الأساسية اقتصاديًّا واجتماعيًّا في مجتمعاتهم؛ عناصر محورية في تشكيل وعيهم الحاضر. إضافة إلى فهم كافٍ لماضيهم الثقافي الذي يتعين أن يكون عنصرا رئيسًا في فهم الذات والمجتمع بالنسبة لهم.
ينبغي أن يتحرك المثقفون والفنانون معًا، ويمتلكوا جرأة التفكير في القضايا المحجوبة عن التفكير، وأن يذهبوا إلى مساحات في الفكر خشي غيرهم الاقتراب منها، وذلك حتى لا يسقطوا هم أنفسهم ضحايا النمط السائد من التفكير الذي هيمن على مظاهر الثقافة الإسلامية، من حيث غياب التفكير النقدي، والأساس النظري للحوار، والامتناع عن نقد الثقافات الشعبوية، بل أحيانا تبريرها والدفاع عنها.
وأخيرا هناك ثلاث قضايا معاصرة، متداخلة، تطرح تحديًا جمًّا أمام العديد من المثقفين المسلمين المعاصرين: حقوق الإنسان، الديمقراطية، ودور المرأة. في النهاية، تشكل هذه تجليات مفاهيم حقوق الإنسان، والمساواة بين الرجل والمرأة، وحق المجتمعات اليوم في انتهاج الحلول المعاصرة التي تعتبر ملائمة للسياق الاجتماعي الذي توجد فيه. وبالتأكيد سوف يتطلب ذلك فهمًا مناسبًا للتاريخ، خاصة في المجتمعات التي تعنى كثيرا بتِركة التاريخ . . حقا للتاريخ دورٌ لا يُنكر.
 

الجزء الرابع
عناصر الاستراتيجية الثقافية
  بالنظر إلى الرسم التوضيحي في القسم السابق ومناقشة الديناميكيات المحيطة بالتغير الثقافي التي يهدف الرسم بدوره إلى تبسيطها، يتضح أن جميع الأسهم الممثلة على الجانب الأيسر من الرسم البياني تشير إلى الطريقة التي يتم بها إدخال التغيير في المخطط. بدءًا من أعلى الرسم، ومع طرح أفكار جديدة، مثل استعراض شامل لقضايا مهمة مثل وضع المرأة، وحقوق الإنسان الأساسية المتعلقة بمفهوم المواطنة وضرورة المساواة أمام القانون، سيكون من الضروري إزالة العوائق أمام الأسهم داخل الرسم لضمان استيعاب هذه الأفكار على مستويات أخرى من المجالات الإدراكية والمادية. إذ تؤثر هذه الأفكار في حد ذاتها على الأسهم الأخرى من محتوى وسائل الإعلام المتغير، ونحن هنا نشمل العروض الفنية مهما كانت الرسالة التي تحملها إلى الجمهور من خلال النشر أو المعارض الفنية أو الحفلات الموسيقية أو التليفزيون أو الإنترنت، وكذلك مراجعة المناهج والوسائل التعليمية، بالإضافة إلى المقررات التعليمية. وأخيًرا، يجب تعديل جميع الممارسات التعليمية الاجتماعية، سواء من حيث الطقوس المنتشرة في المجتمع أو أنواع المباني أو البيئات التي نعيش فيها ونعمل ونتعامل بها؛ لتعكس أنماط الحياة المتغيرة للجيل الجديد، وتقديرًا مُعَزِّزًا لقيمة الجماليات والبيئة المبنية.
 لذا فإن المحتوى اللازم لتزويد تلك الأسهم الممثلة على اليسار، وسبل تعزيز تدفقات الأسهم خلال المنظومة يوضح الهيكل الأساسي المطلوب لوضع سياسة ثقافية تدعم التعددية مع الحفاظ على الهوية، وتشجيع الإبداع مع رفض التطرف، وتعزيز التغيير مع نبذ العنف.
 ولكي يُنتج المحتوى من قبل فنانين وعلماء يستغرقون كثيرًا من وقتهم في تحقيق ذلك، ويتأثرون بالسياق الذي يعملون فيه. وهنا يجدر ذكر كلمة واحدة عن سياق التعبير الثقافي والإنتاج الفني. 
13-    : المحاذير السياقية:
سياق مزدوج للعمل الفني أو الإنتاج الثقافي

 

 
 أدرك كثير من العلماء أهمية السياق في تقدير الأعمال الفنية والصور المختلفة للتعبير الثقافي. ومن بين الكثيرين، عرّف ريمي كلينييه سياقًا مزدوجًا لكل عمل فني، والذي أشاركه الرأي فيه، بحيث لا تقع جميع الأعمال الفنية، وأشكال التعبير الثقافي في سياقٍ واحدٍ فحسب بل في سياقين.
تقع في البدء في السياق المتعلق بالإطار الثقافي السائد في ذلك الوقت، في تدفق خطاب شريحة المثقفين والفنانين، إما عن طريق الاتفاق مع النمط أو الخطاب السائد، أو الخروج عن السائد والمألوف، فتشغل بذلك موقعًا أو آخر؛ حيث إنه لا يمكن إنتاج أعمال فنية من دون الإشارة إلى ما يسبقها وما يلازمها، أو كتابة أعمال أدبية من دون قراءة أعمال الآخرين، أو تأليف مقطوعات موسيقية من دون الاستماع إلى الموسيقى مُسَبَّقًا. هذا هو السياق المباشر، الذي يعد أولى الدائرتين اللتين تهيئان السياق للأعمال الفنية.
تعد الدائرة الثانية أوسع؛ حيث تشير إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي يعمل فيه الفنان وينتج من خلاله. إن مستويات التكنولوجيا العلمية، وأنواع الأنشطة الاقتصادية، والأعراف الاجتماعية السائدة، والمناظر الطبيعية المادية، ومستوى التفاعل مع الجمهور الفوري أو العريض، جميعها توفر نقاط المجتمع المرجعية التي تؤثر بدورها في وعي الفنان. وذلك يشكل سياقًا أوسع، وهو السياق الذي يمكن أن يتجاوز الأمة وصولًا إلى المنطقة بأكملها أو حتى المجتمع العالمي بأسره. وتعطي الحدود الخارجية للسياق قيمة للشكل الذي يأخذه التعبير الفني أو الثقافي. وهكذا سينتج أي فنان محلي يعمل في قرية صغيرة على سفوح جبال نائية في أفغانستان أعمالًا تختلف عن تلك التي ينتجها فنان يعمل في نيويورك.
 لذلك يجب فهم جميع أشكال التعبير الثقافي والأعمال الفنية والحكم عليها في سياقها، بالمعنى المزدوج الموضح أعلاه، مع مراعاة السياق الزمني الذي أُنتجت فيه. كما يعد البعد الزمني ضروريًّا للغاية وذلك لتطور السياقات مع مرور الوقت، فلا تعد روائع الماضي معالم هامة في تاريخنا وتراثنا فحسب، بل تعد أيضًا مصدرًا للإلهام، كما تضع الأساس لكل ما هو جديد.
14-    أفكار عامة
المشروع الثقافي العربي من حيث السياق والمحتوى
 في غير موضعٍ، لقد اقترحت توحيد الجهود العربية من أجل تفعيل حركة التجديد الثقافي. (انظر: سراج الدين، إسماعيل. المشروع الحضاري العربي. الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، أكتوبر 2010). وجاءت هذه المبادرة البارزة في أكتوبر 2010، والتي أصبحت فيما بعد أحد مواضع النقاش التي أثارتها ثورات الربيع العربي عام 2011. ففي الأساس، أوصى المشروع بالتركيز على ثلاث ركائز عريضة لإصلاح سياق الثقافة العربية اليوم وتعزيز ثقافة التعددية، وحرية التعبير، والثقافة الكونية التي تحتفي بالتنوع وتستوعب سياسيًّا، ولا تقتصر على التعايش بل التفاعل والإثراء المتبادل كذلك، فتصبح النتيجة البديهية لجميع ما يلي حماية الحق في حرية التعبير وتعزيز الإبداع الثقافي. وتتلخص الركائز الثلاث في:
  أولًا: يجب أن يستند هذا المشروع بعيد المدى على القوانين والسياسات والمؤسسات. وبعبارة أخرى، ينبغي أن يشمل (1) تطور سيادة القانون؛ (2) الحكم الرشيد؛ و(3) إضفاء الطابع المؤسسي على التغييرات المقترحة. وبمعنى آخر، ينبغي أن تؤثر الإصلاحات الثقافية المقترحة في المؤسسات الاجتماعية السائدة في المجتمع، وتعيد التأكيد على سيادة القانون وتقلل الاعتماد على القادة المستقلين المؤقتين في نهاية الأمر.
ثانيًا: ينبغي أن تصبح عملية إصلاح الإطار الثقافي في أي مجتمع إلى حدٍّ كبير شأنًا تصاعديًّا، يتم تعزيزه من أعلى القمة، بدلاً من كونه شأنًا تنازليًّا. فلندع ألف زهرة تتفتح، ولنسمح لكل ما هو جديد بالدخول في الأطر الثقافية لمجتمعاتنا.
 ثالثًا: الاعتراف بتنوع المجتمعات العربية. وبعبارة أخرى، لا يوجد خطة واحدة تناسب جميع المجتمعات فيما يتعلق بالاستراتيجيات والبرامج. ويتلخص المشروع الثقافي الذي اقترحته في الإحاطة علمًا بالتنوع الثقافي الهائل في العالم العربي، بالإضافة إلى تعدد العناصر المتنوعة من الهويات المركبة لفئات مختلفة ينبغي أن تتعايش معًا في العالم العربي. فيجري تحديد هذا العالم العربي سياسيًّا من قبل الجامعة العربية، وثقافيًّا من قبل اللغة المشتركة والتاريخ المشترك.
 ومن ثم، كان يهدف هذا المشروع العربي المشترك إلى إقرار جانبين رئيسيين بالسياق المقرر تنفيذهما به:
 يحدث هذا التعبير الثقافي، وبشكل متزايد، في سياق التوسع العلمي الهائل، مع تخلل ثقافة علمية واسعة إلى المجتمع على نحو متزايد، واندلاع ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي تتجلى من خلال التواصل الاجتماعي والبيانات الضخمة، والأمن السيبراني والاحترام الزائف للخصوصية. فسرعة تطبيق تلك العناصر، والتوسع السريع في الاختراقات التكنولوجية وطريقة التفاعل معها بداية من الهواتف المحمولة إلى شبكة الإنترنت، ومن التواصل الاجتماعي إلى سهولة السفر، جميعها عوامل تفضي إلى تمزق حقيقي في أبرز المراحل التقليدية والمعتادة للتطور الذي يطرأ على الثقافة والتعبير الثقافي ما بين الأجيال.
 ولكن أبعد من ذلك، هناك تحول عميق في المعرفة ذاتها، وفي كيفية تنظيمها وعرضها، والتعبير عنها واستيعابها. ففي الوقت الحالي، تحدث ثورة معرفية حقيقية تدور حول "سبعة أركان" تشمل:
•    التحليل، والحياة وتنظيم المعرفة؛
•    الصورة والنص؛
•    البشر والآلات؛
•    التعقيد والفوضى؛
•    الحوسبة والبحث؛
•    التقارب والتحول؛
•    تعدد التخصصات والسياسات.
 ومن الواضح أن الشرح سيطول في كلٍّ من هذه الأركان، لذا يكفي هنا مجرد إدراجها لتكون بمثابة رسالة تذكرنا بمدى تعقد المشهد في غضون العقد المقبل وما يتبعه، وذلك بسبب ظهور قضايا الهوية، والعولمة، والتوطين داخل تلك السياقات المتغيرة.
 وبخلاف تلك الخلفية، أود أيضًا أن أبدي إيماني المطلق بحرية التعبير باعتبارها المبدأ الأساسي الذي سيشجع الإبداع، ويعزز التعددية، وهو بعينه ما ينافي دور التطرف المهيمن في المجتمع. وقد ناقشت بإسهاب- في سياقات كثيرة- قضايا حرية التعبير وتعقيداتها.
 وتمنحنا هذه الأفكار العامة العديد من السياقات المختلفة والسمات الأساسية التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في استراتيجيات التحول الثقافي المقترحة في هذا المقالة.
ولكن في نهاية المطاف إذا أردنا أن يكون للإنتاج الثقافي الذي يعمل عليه الفنانون والمثقفون أثر، وأن يتم تطبيقه في المنظومة، فنحن بحاجة أيضًا إلى السياق الذي سيُنتج فيه تلك الأعمال وستوجه من خلاله إلى المجتمع المستهدف. وهكذا تحتاج قضايا الحوكمة، والتمثيل الديمقراطي، والشمولية إلى إعادة النظر فيها ومعالجتها بالاستعانة بأية جهود إصلاحية. سيصل الحال بالحكومات الاستبدادية، حتى لو كانت قد حققت الاستقرار والأمن على المدى القصير، إلى حد استعداء أولئك المستبعدين من عمليات صنع القرار، وكذلك الذين يشعرون بأنه ليس لديهم مستقبل في ذلك المجتمع. ولا شك أن إشراك الجمهور في المجال العام يعد أمرًا ضروريًّا. فلا يمكن أن يكون الوضع كما كان في أجورا وأريوباجوس، أي يقتصر على كونه للنخبة أو الفنانين أو المثقفين المتسامحين، إذا انحصر أملنا في التغيير المجتمعي العميق؛ حيث يُهَمش المجتمع من خلاله المتطرفين وينبذ العنف ويحتفي بالتنوع ويناقش بشكل عقلاني القضايا المعنية بمستقبل الدولة.
ومن أجل خلق مناخ تسود فيه التعددية؛ حيث تتخلل ثقافة العلم طريقة تفكيرنا، وحيث تعد حقوق الإنسان أهم الكنوز في حوزتنا كمجتمع، مع الإقرار بأن الانتقاص من حقوق واحد منا يعد انتقاصًا في حقوقنا جميعًا؛ علينا أن نبني إطارًا اجتماعيًّا ثقافيًّا يعزز الأمن وحرية التعبير على حدٍّ سواء. وكما لاحظ كارل بوبر ببصيرة منذ أكثر من نصف قرن:
"الصدام المزعوم بين الحرية والأمن . . . تبين أنه وهمي. لأنه ليس هناك حرية إذا لم يتم تأمينها من قبل الدولة. وعلى النقيض، الدولة التي يتحكم بها المواطنون الأحرار هي فقط التي يمكنها أن تقدم لهم الأمن المطلوب".—
   كارل بوبر (عبارة مقتبسة من حَنَّا آرندت)

 لذلك تركز هذه المناقشة على التحول الثقافي بمجتمعاتنا، ولكنها تفترض أيضًا أن هذا التحول سيتفاعل ويكفل تلك التغيرات المطلوبة في النظام السياسي لتحقيق المزيد من الديمقراطية التشاركية (في مقابل الديمقراطية التمثيلية فحسب). ومع ذلك، سيتم مناقشة القضايا السياسية والحوكمة في مقالة أخرى مخصَّصة لعرض أشكال وسمات المؤسسات السياسية، وكيف يجب أن تكون قادرة (ليس فقط الإطار الثقافي) على استيعاب التغيير بوسائل سلمية ومنظمة، مع الوضع في الحسبان أن الديمقراطية لا تتمثل في حكم الأغلبية وإنما في حماية حقوق الأقلية، في التعبير عن رأيهم والمشاركة ضد طغيان الأغلبية المحتمل. فلنذكر أن جميع الحقوق التي نسلم بها جدلاً اليوم، بداية ًمن حدود السلطة السيادية، واحترام حقوق الإنسان، والمساواة أمام القانون، حتى نبذ التمييز العنصري أو الديني أو العرقي أو الجنسي، كلها كانت سالِفًا مواقف تنتمي إلى الأقلية التي اكتسبت تدريجيًّا قبول الأغلبية على مدى فترات طويلة من النقاش. فبمجرد أن تنال قبول الأغلبية، تصبح جزءًا من منظومة القيم الثقافية السائدة في المجتمع.
وتنتقل تلك القيم عن طريق الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام وأمثلة عامة يحتذى بها. لذا فإن حجر الأساس في أية عملية تحوُّل في الإطار الثقافي لأي مجتمع يجب أن يشمل منظومة التعليم كأداة أساسية، دون الاقتصار على تكوين المهارات، بل يجب أن يتضمن التنشئة الاجتماعية لأطفالنا الصغار وشبابنا الناشئ.
15-    على المدى البعيد
التربية والتعليم وتكوين رؤية مستقبلية قومية
يعد الإصلاح الجذري للمنظومة التعليمية حجر الأساس اللازم لإنجاح أية محاولة لإصلاح الإطار الثقافي بمصر والمجتمعات العربية الأخرى إرساءً لمبدأ التعددية كقيمة أساسية، وتعزيزًا لنظرية العقلانية، وتغييرًا لخطاب الأمة السياسي والاجتماعي والديني والثقافي. لقد ناقشت العديد من هذه الإصلاحات في مواضع أخرى، ولا أبتغي أن أكرر تقاريري وكتاباتي الأخرى في هذا السياق، ولكني أود أن أكرر التأكيد على أمر– قد نغفل عنه في الإطار السياسي العام في حدود قضايا التطرف التي تلقي بظلها على أية مناقشة حول الثقافة– وهو ضرورة زرع ثقافة العلوم على نطاق واسع في المجتمع.
لا يقتصر مفهوم ثقافة العلوم على دراسة مادتي الرياضيات والعلوم، وهما جزآن لا يتجزآن من أية منظومة تعليمية، لكن لابد من الأخذ في الاعتبار طبيعة العلوم بوصفها طريقة للتفكير ونظرة على العالم بأسره وضرورة نشر قيمها التي تدعم المشروعات العلمية على نطاق واسع في المجتمع. وهو الدور الذي يجب أن تتكاتف من أجله العديد من المؤسسات، بدايةً من المؤسسات الثقافية حتى وسائل الإعلام، ولكن ستظل منظومة التعليم بمثابة العمود الفقري لمثل هذه المشروعات.
-    الثقافة العلمية
لا يقتصر تأسيس ثقافة العلوم على مجرد تداول معرفة الحقائق العلمية والأرقام على نطاق واسع، بل تتلخص في اكتساب نظرة تحليلية، والتمسك بأسس العقلانية والبرهان عند التحكيم في النزاعات فضلًا عن تعزيز قواعد قائمة على الأدلة التي تحكم الأنشطة والتفاعلات الاجتماعية والإنسانية. فالمجتمع الذي تتخلله ثقافة العلوم تُعزز فيه المنظومة المدرسية ووسائل الإعلام هذه الصفات، التي تبرز بدورها في الخطاب العام، وذلك يتحقق بمساندة ما أُطلق عليها قيم العلوم.
تلعب أكاديميات العلوم والمؤسسات الثقافية دورًا محوريًّا في انتشار الثقافة العلمية؛ فهم ليسوا مجرد ملتقى لأفضل نخبة، بل أيضًا رعاة للتميز حتى إنهم يؤسسون شراكات مع مؤسسات أخرى لتعزيز التواصل مع المجتمع. وتساعد المؤسسات الثقافية في إنتاج الأفلام لوسائل الإعلام؛ (مثل الجمعية الجغرافية الوطنية بالولايات المتحدة)، والمساهمة في تطوير برامج تعليمية أفضل لتدريس العلوم في المدارس؛ (مثل الأكاديمية الفرنسية للعلوم، وبرنامج "اليد في العجين"). كما تتواصل المتاحف والقبب السماوية والمؤسسات الخاصة؛ مثل حديقة ألعاب "إيبكوت"، ومدينة العلوم "لا فيليت" مباشرة مع الجمهور.
-    قيم العلوم
 يعتبر العلم أكثر من مجرد مهنة يشغلها العلماء والباحثين؛ فهو يشمل التعايش مع قيم العلوم، وتعزيز النظرة على العالم بأسره بين الممارسين.
 في الواقع، وعلى الرغم من أن العلم يبلغ من العمر آلاف السنين، فإن مفهوم "العالم" حديث نسبيًّا، حيث ظهرت الكلمة لأول مرة باللغة الإنجليزية عام 1840! "نحن في أمس الحاجة إلى اسم نصف به طالب العلم بوجه عام. وأفضِّل أن نطلق عليه كلمة عالم"، هكذا قال الفيلسوف وعالم الرياضيات الإنجليزي وليام هيويل (1794-1866). وثمة علاقة وطيدة بين العلم والتكنولوجيا، أو ما أصبحنا نطلق عليه البحث والتطوير، وهو المصطلح الذي ظهر للمرة الأولى في عام 1923 عندما بدأ القطاع الخاص بالدخول في شراكات مع الحكومة والمؤسسات التعليمية سعيا وراء المعرفة الجديدة من أجل تسخيرها في إنتاج التكنولوجيات الحديثة ذات القيمة التجارية. ومنذ ذلك الوقت، حدث تضخم في مدى معرفتنا وامتداد تطبيقاتنا. واليوم، يتم تمويل ما يقرب من ثلثي جميع الأبحاث من قبل القطاع الخاص، وبعض الدول الصناعية المتقدمة، وما أكثر ذلك.
 ولكن سواءً كان مصدر التمويل من القطاع الخاص، أو القطاع العام، أو الجامعات، أو المختبرات المستقلة؛ تخضع ممارسة العلوم لقيم معينة. فقيم العلوم يلتزم بها ممارسوها بصرامة لدرجة تستحي منها المهن الأخرى.
 تعزِّز العلوم، التي  يُقال إنها أعظم المشروعات في تاريخ الإنسانية، القيمَ العلمية؛ وهي الحقيقة، والشرف، والعمل الجماعي، والهدم البنَّاء، والتفاعل مع الآخر، وآليات التحكيم في المنازعات.
  الحقيقة: العالم الذي يختلق بياناته منبوذ إلى الأبد من المجتمع العلمي. ففي الآونة الأخيرة، شهدنا أبرز العلماء في كوريا الجنوبية، يجبر على الاستقالة من جميع مناصبه لأنه اختلق بياناته، إلا أن أحد زملائه بالمجتمع العلمي كشف القناع عن الحقيقة. ففي العلم، دائمًا تظهر الحقيقة، ويكفل مجتمع العلماء التزام جميع أعضائه بشكل صارم بالمعايير التي وضعها.
 الشرف: إعطاء كل ذي حق حقه هو مبدأ آخر لممارسة العلوم. وانتحال الملكية الفكرية هي ثاني أبشع الجرائم التي ترتكب في حق العلم. وتستخدم مجموعة كاملة من الآليات، بدايةً من الحواشي حتى المراجع، لنسب الأعمال إلى مؤلفيها. ولعل مقولة إسحاق نيوتن هي العبارة الأكثر بلاغة: "إذا كانت رؤيتي أبعد من الآخرين، فذلك لأني قد وقفت على أكتاف العمالقة".
 العمل الجماعي: لقد أصبح العمل الجماعي ضروريًّا في معظم مجالات العلوم. فالصورة النمطية للعالم المتفرد الذي يتحدى النظام القائم بفرض رؤى فريدة من نوعها ونابغة، التي تجسدت في نيوتن وأينشتاين، تظهر فقط في مجالات قليلة من العلم المعاصر. وعلى نحو متزايد، يرجع الفضل لمجموعات الباحثين في مختبرات في ابتكار أحدث الاختراعات، وخاصة في مجال العلوم التجريبية. يجب أن نعلم شبابنا من علماء المستقبل أهمية العمل الجماعي، والهدف من ذلك أن نضمن لجميع أعضاء الفريق أن يحظوا بما يستحقونه.
العلم يتقدم عن طريق الإطاحة بالأنماط والنماذج القائمة، أو على الأقل توسعها أو تعديلها إلى حد كبير. ومن ثم، يوجد مذهب معين يعرف بالهدم البنَّاء تتبعه المشروعات العلمية؛ حيث يشارك جيل جديد من العلماء بإسهاماته العلمية. وهكذا يجب أن يكون الحال. ودون ذلك، لن يكون هناك أي تقدم علمي؛ فإن احترامنا وتقديرنا لنيوتن، لا يقلل من إسهامات أينشتاين. يمكننا أن نعجب بالاثنين على حد سواء، وهو ما نقوم به بالفعل.
التعامل مع الآراء المناقضة: يعد ذلك التجديد والتطور في الفهم العلمي على نحو مستمر إحدى سمات المشروعات العلمية؛ والتي تفضي نتيجتها الطبيعية إلى وجوب تعامل العلماء مع كل الآراء— والتي غالبًا ما تأتي من أشخاص أصغر سنًّا— مهما كان الأمر يبدو غريبًا للوهلة الأولى؛ وهي تلك الآراء التي تخضع لعملية تأكيد المزاعم القائمة على تحكيم الأدلة.
التحكيم في النزاعات على أسس العقلانية والبرهان: هو المبدأ الأخير والأساسي لممارسة العلوم؛ ففي العلم، يوجد عملية ومنهج، وهما قائمان على العقلانية والبرهان التي تستند بدورها إلى الملاحظة والتجربة؛ وبهذا يُمَهَّد الطريق إلى التحكيم في النزاعات، وهو الأمر الذي يُعظم من شأن العلم. فلم يكن لأحد أن يعرف نظرية آينشتاين عن انحناء الضوء بالقرب من الأجرام السماوية إلى أن أقرتها الملاحظات التجريبية التي تم إجراؤها عام 1919 عن مواقع النجوم أثناء الكسوف الكلي للشمس. وبالمقابل، رُفضت مزاعم الأساتذة الأكاديميين، ستانلي بونز ومارتن فليشمان، في اكتشاف الانصهار النووي البارد لصعوبة إعادة تجربتها في مختبرات أخرى. لذا في العلم، لا تقع السلطة العليا في نهاية المطاف على عاتق فرد واحد، بل على عملية الاستدلال والاستنتاج ومنهج الملاحظة التجريبية.
فمن الواضح أنه يوجد قيم مجتمعية جديرة بالدفاع عنها، ليس فقط بهدف ممارسة العلوم، بل من أجل تعزيز قيم الانفتاح والتسامح في المجتمع.
  ومن الناحية الأخرى، تؤدي المشروعات العلمية نوعًا آخر من إدراك الحقيقة يختلف عن أنظمة العقائد الدينية. فالعلم يسفر عن فهم الواقع بشكل جزئي واحتمالي، الذي طالما يكون في حالة ترقب لمزيد من التفسيرات التي تقربنا بدورها إلى فهم أنفسنا وعالمنا. ولا يزعم العلم أنه مطلق للأبد. وحتى في علم الرياضيات، وبعد ظهور نظرية كورت غودل، نُسلم بوجود "معادلات غير معينة" في هيكل الرياضيات يصعب حلها الآن.
ولكن لماذا في أغلب الأحيان يتم افتعال دور عدائي للدين إزاء العلم؟ نسترجع محاكمة غاليليو غاليلي، والهجوم على نظرية داروين للتطور، فتلك الوقائع ترجع إلى حد كبير إلى وجود خطأٍ ما في محاولة توحيد ودمج النظامين أو السلطتين التعليميتين؛ حيث إن كلًا منهما لديها بنية سلطوية خاصة بها. وفي الواقع، كما كتب ستيفن جاي جولد باقتدار في كتابه (انظر: صخرة العصور "The Rock of Ages")، تلك هي الاختصاصات غير المتداخلة (NOMA) !
 تكمن حقيقة الوعي الإنساني في محاولتنا العثور على أجوبة لبعض الأسئلة المتعلقة بالمشروعات العلمية، مثل ما هو . . . ؟ ومع ذلك فإن العلم لا يمكنه معالجة قضايا مثل ماذا ينبغي أن نكون، أو ماذا علينا أن نفعل فيما يتعلق بأمر ما أو غيره من الأمور. فتلك سلطة أخرى تدور حول الدين والفلسفة، لكن لا تقتصر السلطات على هاتين فحسب، فعلى سبيل المثال، تذوق الجمال في الفن لا يحكمه أي علم أو معتقدات أخلاقية أو دينية، وما يعظم من شأن الموسيقى أو تكوينات الألوان يعتبر جزءًا لا يتجزأ من سلطة تعليمية أخرى.
ففيما يخص أولئك القلقين بشأن التقدم العلمي خوفًا من تعارضه مع منظومة المعتقدات الدينية، يمكننا طمأنتهم؛ فلا يوجد صراع بين العلم والدين بل يلعبان دورين مستقلين على مستويات مختلفة، إنما مكمّلتان لبعضهما.
-     الثقافتان ونظرة أخرى
في كتابه "الثقافتان" الذي صدر منذ أكثر من نصف قرن، تحسر سي بي سنو على مدى الجهل الذي وصل إلى درجة زيادة العداء بين ثقافة العلوم وثقافة الإنسانيات. فيعد جهل كل جانب بالجانب الآخر ملفتًا للنظر في ذلك الوقت، الذي أصبح في زيادة مستمرة منذ ذلك الحين. واليوم، تحولت الثقافة غير العلمية إلى مجموعة متنوعة من الفئات، جميعها تتقاسم نفس مستوى الجهل بأساسيات العلم. فالبعض يأخذ موقفًا جوهريًّا مناهضًا للعلم، في حين ينكر الكثيرون أن العلم ليس أكثر من مجرد خطاب آخر يعكس العلاقات بين مراكز القوة في المجتمع، وأن ممارسيه والعلماء ليسوا أكثر من مجرد مجموعة اجتماعية أخرى تتنافس للحصول على الموارد والسلطة، فهم يسيِّسون النقاش ويرفضون الأدلة.
ولكنَّ العلم يختلف عن ما سبق، ونحن نغفل عن هذا الاختلاف بكامل إرادتنا. ففي العلم، لا توجد سلطة فردية ومستقلة، ولا كتاب ينص على الحق أو الباطل، ولا كبار كهنة يفسرون النصوص المقدسة، بل يخضع العلم لمنهج، يقوم على مبدأ العقلانية والاعتماد على الأدلة. وتشجع العلوم على الفهم والتعامل مع وجهات النظر المخالفة، حثًّا على الإطاحة بالنماذج السائدة والمفاهيم القائمة كوسيلة لتحقيق التقدم العلمي. فمعظم المبدعين في مجال العلوم صغار جدًا في السن، فعلى سبيل المثال أينشتاين كان يبلغ من العمر 26 عامًا عندما نشر أوراقه البحثية الثورية عام 1905، وواتسون كان في ال25 من عمره عندما شارك في اكتشاف بنية اللولب المزدوج للأحماض النووية، جميع اكتشافاتهما أشاد بها الجميع ليصبحا ضمن أعظم العلماء في تاريخ البشرية.
 ورغم قوة المنهج العلمي التجريبي، فإنه لا يكفي لحل العديد من مشكلاتنا، التي لا تقتصر على كونها فردية أو نظامية فحسب، بل أيضًا اجتماعية وبيئية، ومحلية وعالمية. فنحن بحاجة إلى المزج بين التعقل في العلوم الاجتماعية والحكمة في العلوم الإنسانية، وكذلك سد الفجوة بين الثقافتين أكثر من أي وقت مضى.
قد تختلف أساليب العلوم الاجتماعية السائدة عن تلك المتبعة في مجال العلوم الطبيعية، ولكن إدراكها ليس موضع شك. فالعلوم الاجتماعية عادةً ما تكون نوعية أكثر منها كمّية؛ حيث تميل إلى التوصيف والتوضيح بدلاً من تقديم الحلول، وتجنب التعميمات عبر المجتمعات، مع وجود استثناءات واضحة للدراسات الاقتصادية المقطعية.
تلجأ العلوم الاجتماعية إلى أساليب كثيرة تختلف عن العلوم الطبيعية، وذلك بهدف جمع أشكال معرفية مختلفة تمكن بدورها من تطوير الرؤى. وتشمل تلك الأساليب السرد، وهو أحد الأدوات شديدة الفعالية. فعلى سبيل المثال، يصعب التعامل مع الصراعات داخل أو بين المجتمعات بدون فهم النصوص التاريخية المختلفة المرتبط بها. فمن المستحيل حل القضية الفلسطينية الإسرائيلية دون التعرف على النصوص التاريخية المتباينة (تمامًا) ، أو فهم قضية العنصرية في الولايات المتحدة، أو سياق ما بعد الاستعمار في كثير من المناطق.
يفترض التطرف رواية تاريخية تختلف عن تلك السائدة في المجتمع. كما تستخدم المرايا المشوِّهة لإبراز مجتمع تفشى فيه مشكلات الظلم والفساد التي تخطت حدود الإصلاح وفتح أبواب لا تكشف سوى المؤامرات الهائلة ضد أعضاء تلك الجماعات المتطرفة، ولهذا يُصنف التطرف الآخرين كأعداء أو سذَّج.
 تتطلب قيم العلوم تطبيق مبادئ العقلانية والبرهان في أية مناقشة، وكذلك احترام التعددية، لما تحققه تلك القيم من سد الفجوة بين الثقافتين. فيسهل تطبيقها على حدٍّ سواء عند السعي وصياغة كل ما هو يتعلق بمعرفة العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية وحتى ممارسة العلوم والأبحاث والطب والهندسة والزراعة، مما سيفضي إلى تقويض التطرف وما يفضي إليه من عنف.
ولكن بينما تسعى برامجنا إلى نشر ثقافة العلوم وتعزيز قيمها، يجب ألا يحتل العلماء مرتبة رفيعة منفصلة عن المجتمع. ففي الوقت الحاضر، وفي ظل العديد من المشاكل في عصرنا، بدءًا من المساواة بين الجنسين حتى المشكلات الطبية، ومن انتشار التكنولوجيا حتى القضايا البيئية، والتماسك الاجتماعي حتى السلام الدولي؛ جميعها تركز الاهتمام على الأفراد والمجتمعات بنفس قدر التشديد على العالم الطبيعي الذي نعيش فيه. فالبشر كائنات اجتماعية يحركها الدوافع والنوايا والمعايير والقيم؛ التي تنتمي بدورها إلى مؤسسات اجتماعية تخضع للرموز والطقوس والثقافات.. جميعها لا يمكن قياسه مباشرة، ولكن لابد من استنتاجها من خلال الملاحظات الحية. تنسب هذه الاستنتاجات إلى مساهمات علماء الاجتماع. فمن أجل الإنسانية في هذا القرن الجديد، يجب علينا سد الهوة بين الثقافتين. كما يجب أن نكون قادرين على تقريب وجهات نظرهم المتباينة والمتكاملة ذات الصلة بالمشكلات الكبرى السائدة في عصرنا. وبالإضافة إلى رؤى هؤلاء المثقفين، يجب أن نركز على إبداع الفنانين وحكمة العلوم الإنسانية. وهكذا نكون قد نجحنا في تحويل الخطاب السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في مجتمعنا بهدف تهميش التطرف وتبني التعددية.
-    ما نوع التعليم المطلوب؟
ومن ضمن القضايا الحساسة التي ينبغي معالجتها قضية استمرار وجود منظومة تعليمية مزدوجة في مصر: الأولى تابعة لوزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي، والثانية تابعة للأزهر الشريف. ومن الواضح الآن أن الأيديولوجية الإسلامية المتشددة قد ارتكبت تجاوزات جسيمة في منظومة الأزهر، نأمل أن تعمل القيادة الحالية للأزهر على إعادة إحياء روح التسامح والانفتاح والرؤية الإسلامية المستقبلية ذات الطابع المعتدل التي طالما اشتهر بها الأزهر. ومع ذلك، يبقى السؤال عما إذا كان ينبغي تأسيس نظامين منفصلين يبدآن من مرحلة ما قبل الروضة (الحضانة) حتى الدراسات العليا.
يقتضي مفهوم التعددية نشر التسامح بين المدارس والمناهج المتعددة لدرجة أن تحظى المناهج الدراسية الأساسية باحترام الجميع، بما في ذلك نظام الأزهر المدرسي ومدارس اللغات الأجنبية والجامعات الخاصة. ولكن حيث إن يوجد أطراف خارجية لها مصالح واضحة ومعلنة في ترسيخ التطرف، يصبح الأمر موضع تساؤل عما إذا كان ينبغي أن نسمح بهذا دون وضع حدود. وإذا كان هناك تلقين مستمر في بعض المدارس أو الجامعات، فإلى أي مدى ينبغي أن نسمح باستمرار غرس معتقدات خاطئة في أذهان أطفالنا بشكل غير المباشر؟ ومع ذلك، يكاد لا يوجد بديل أنسب من فرض الرقابة الحكومية على جميع الأنشطة التعليمية.
ويكمن الحل المرجح والأقل سوءًا في إنشاء وكالة اعتماد الحكم الذاتي التي بدورها تراقب جميع المدارس والمؤسسات التعليمية، بما في ذلك تلك التابعة للحكومة، بالإضافة إلى مراجعة محتوى المناهج التعليمية، وتقييم جودته.

16-    كيف نحقق أهدافنا؟
السياسات والوسائل الثقافية التي تناسب أمة في تحول مستمر 
-    تكوين رؤية مستقبلية
يكمن ذلك في تكوين  رؤية مستقبلية ذات مصداقية تمهد الطريق لمستقبل نحقق فيه تقدمًا أفضل على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. يجب أن تسعى تلك الرؤية، والتي يشير إليها الفرنسيون بمشروع المجتمع"Projet de société "، إلى مستقبل واقعي يمكن تحقيقه لا التطلع إلى مدينة فاضلة يوتوبية؛ ولا تعني إمكانية تحقيق هذه الرؤية أنها سهلة المنال، بل في الواقع، من المحتمل أن يستلزم تحقيقها جهود وتضحيات الأفراد وغيرهم. أعتقد أنه من الضروري تكوين مثل هذه الرؤية، كما تناولها ريتشارد تيتموس باقتدار في عبارته المقتبسة:
 "دون معرفة اتجاه الرياح وتيارات المياه، دون وجود هدف لرحلة الحياة، لن يصمد الرجال والمجتمعات طويلًا سواءً أخلاقيًّا أو اقتصاديًّا.."
        ريتشارد تيتموس
        مقولة مقتبسة من كتاب السوء يعيث في الأرض"
        Ill Fares the Land"   بقلم توني جدت، ص. 167)

انطلاقًا من تلك الرؤية، فمن الضروري أن نفكر في طرق جديدة لوضع استراتيجية ثقافية شاملة لإطار العمل الاجتماعي والثقافي على نحو متكامل، والتي تنطوي على العديد من الإجراءات في مجالات عديدة، ويمكن وضعها بتفصيل داخل الرسم البياني ثلاثي المحاور الذي استعنت به في شرح الديناميكيات والتغيرات الثقافية في السلوك الاجتماعي. ولكن من أجل إرساء مبدأ التعددية، يجب أن تسود ثقافة قبول الآخر، وهكذا فإن السعي وراء وضع بعض سياسات واضحة في بعض المجالات يعد شرطًا واجبًا. وفيما يلي سنتناول بعض الاحتياجات الأكثر وضوحًا.
-    ترجمة الأعمال الأجنبية
من المهم أن لا تصبح الثقافات منغلقة على نفسها، فلا يقتصر التفاعل مع المجتمعات الأخرى على التبادل التجاري، ولا يهدف تبادل الأفكار والأعمال الفنية إلى ترسيخ الإثراء الثقافي فحسب، بل يفضي أيضًا إلى تعزيز التغيير في مجتمعنا. فجميع الثقافات نتيجة ذكريات الماضي وتفاعلها مع الأحداث الجديدة في سياق الحاضر.
تعد الرياضيات والموسيقى فحسب  من العلوم  لغاتٌ عالميةٌ لا تحتاج إلى ترجمة أو التعليق. ويمكن للفنون البصرية أيضا أن تخاطب روح المشاهدين بطريقة لا تقارن مع كافة أشكال الاتصال الأخرى، ولكن في واقع هذه التفاعلات، سيحجب خيال المثقفين والعين الناقدة– لا ذوي الأذواق البسيطة– جمال الأعمال الفنية ويبخس قيمتها. ولذا يصبح تذوق النقد الفني القائم على الدراسة في جميع أشكاله جزءًا لا يتجزأ من المشهد الثقافي ليثري بدوره تجربة كل ما هو جديد، سواءً كانت محلية أو مستوردة من الخارج.
 ولكن على النطاق العالمي، تعد اللغة الوسيلة الأساسية للاتصال، إلى حد أن أصبحت الآلات تقوم بمهمة الترجمة بمستوى معين من التميز، يجب علينا أن نتوقع من جميع الحكومات الحصيفة أن تبذل جهودًا مضنية في إحياء حركة الترجمة إلى العربية. فالأمر لا يقتصر على العلوم حتى تتمكن قاعدة أعرض من الجمهور من الوصول إلى الاكتشافات العلمية، بل يشمل أيضًا الإنتاج الفني الذي يتجسد في الأدب والشعر والمسرح. يجب أن نوسع نطاق الجهود المبذولة التي من شأنها تعزيز ترجمة الكتب والمجلات والصحف، فضلاً عن ترجمة الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية سواءً بالدبلجة أو بوضعها أسفل الصورة بهدف وصول تلك المنتجات الثقافية لجمهور أوسع، مما يفضي بدوره إلى تعريض الجمهور العريض لنطاق أوسع من الأعمال والمنتجات الفنية والثقافية، إلا أنه يمكن أن تكون عمليات ترجمة أو دبلجة الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية  إلى حد كبير ضمن مساعي القطاع الخاص التي تتطلب الحد الأدنى من الدعم الحكومي. ففي الواقع، ولأن هذا النوع من المنتجات الفنية يعد مكلفًا للغاية بالنسبة لبعض طبقات المجتمع، فهو يؤدي دورا خاصًّا في تطوير البنية الثقافية.
 ومع الأسف لا تزال الجهود المبذولة في مجال الترجمة إلى العربية غير كافية بالمرة؛ لذا يجب علينا تعزيز هذه الجهود والتوسع في نشر الكتب والمسرحيات والمجلات المترجمة، وكذلك سن القوانين التي بدورها تشجع مثل هذه الجهود.
-    التبادل الثقافي:
 واللافت للنظر نفور جميع الاتجاهات المتطرفة تقريبًا من الانفتاح على "الآخر" وميلهم الدائم إلى الانغلاق على ذواتهم وعلى تعريفهم الخاص لمفهوم "النقاء" الذي يتجسد في أيه صورة من صور الثقافة العرقية أو الدينية. وهكذا تعمل الجماعات المتطرفة السائدة في مجتمعاتنا على "صون نفسها" من التلوث الناجم عن البدع والاتجاهات الأجنبية، كما يهدفون إلى فرض الرقابة الصارمة ومظاهر التقوى على المجتمع. وتعارض الجماعات المتطرفة التابعة للتيار اليميني الجديد في أوروبا والولايات المتحدة الهجرة وكل ما تصنفه  تلك الجماعات بوصفه تخريبًا ثقافيًا، سعيًا إلى المساس بسيادة الدولة كأداة لتعزيز رؤيتهم للمجتمع النقي مع استبعاد جميع الأقليات المعارضة والجماعات المنشقة. ومن ثم يعد تعزيز التبادلات الثقافية واحدة من أهم وسائل تعزيز ثقافة التعددية وتأسيس مجتمع يسوده مبادئ الانفتاح والتغيير.
 ولذا أعتقد أنه ينبغي تشجيع التواجد الأجنبي، سواء المتمثل في المكاتب الثقافية في الخارج أو تلك التابعة لدول أخرى في بلدنا. كما ينبغي للحكومة تسهيل هذه التبادلات الثقافية وترويج أعمال الفنانين والمثقفين خارج حدودهم السياسية في كلا الاتجاهين.
وكذلك ينبغي تسهيل الإجراءات المتعلقة برعاية الفعاليات والمهرجانات، وخاصة تلك التي تدعو المواهب الأجنبية بالإضافة إلى تشجيع الفنانين المحليين، وتشجيع تنمية المواهب ورعاية الفنانين عبر جميع الشرائح الثقافية للمجتمع والتي تعد مهمة ضرورية ومثمرة. في إطار هذه العملية، تدعم هذه الفعاليات أيضًا تثقيف الجمهور وتوعيته بالسمات التي يتميز بها الفنانون المبدعون وأعمالهم الفنية المتميزة.


-    دور وسائل الإعلام
تتراوح وسائل الإعلام اليوم، ما بين الصحافة المطبوعة أو الإلكترونية، وظاهرة التواصل الاجتماعي أو القنوات التليفزيونية الكابلية أو الإذاعية، والتي أصبحت بدورها واسعة الانتشار ولحظية، وبدورها تُحدد اتجاه الخطاب العام، وكذلك جدول الأعمال السياسي الخاص بالدولة. وفي استطاعة تلك الوسائل الإعلامية إثارة الأمة أو تهدئتها، لذا في من شأنها أن تحدد نبرة خطاب للأمة.
وعلى الرغم أن الصحافة الحرة لا تزال هي الضامن الأساسي لمصداقية السلطة عند الشعب، فإنها تتطلب معايير السلوك المهني التي تضع على عاتقهم مسئولية مشكلات تتعلق بالمستويات الدنيا من الدقة والاحترافية. كما ينبغي فرض القوانين الرادعة التي تجرم التشهير بالمواطنين على وجه السرعة، وبشكل فعال. لكن هذه المسألة لا تدعو بأي حال من الأحوال إلى فرض الرقابة على وسائل الإعلام، فمهما بلغت عيوب الإعلام الحر فهو أقل وطأةً من عيوب سيطرة الحكومة على وسائل الإعلام. فالتجاوزات الصحفية هي الثمن الذي لابد أن ندفعه في مقابل الحفاظ على الحق في حرية التعبير.
ولكن ماذا عن خطاب الكراهية؟ هل ينبغي أن نضع حدودًا لهذا الخطاب؟ مما لا شك فيه أنه ينبغي أن نكون على دراية بمؤشرات الخطر عندما تتحول الحرية إلى رخصة للدعوة إلى العنف والهجوم على فئات كاملة من المجتمع. وقد وضعت هذه الحدود في جميع المجتمعات لتناسب خصائصها، ولذا من الأفضل تناول كل حالة على حدة.
ففي حالتنا، قد تؤدي بعض المبادئ التوجيهية إلى توجيه وسائل إعلام أكثر استجابةً وأكثر حساسيةً لأهمية إرساء مبدأ التعددية، ويمكن تحقيق هذا إذا اتفقت وسائل الإعلام على معايير السلوكيات الأخلاقية التي سيتم اعتمادها من قبل جميع الصحافيين للتأكيد على قيمة الدقة والحقيقة في التقارير الإخبارية، وكذلك وضع قيود على التجاوزات الصحفية. كل هذا يمكن تحقيقه جزئيًّا من خلال اتباع التدابير التالية التي من شأنها:
•    تسهيل الإجراءات الخاصة بالتشهير.
•    سريع إصدار الأحكام القضائية وتشديد وفرض الغرامات.
•    التأكيد على تطبيق مبدأ التعددية من خلال توفير الحد الأدنى المطلوب من قنوات التواصل مع أولئك الذين يصعب عليهم التعبير عن وجهات نظرهم عبر وسائل الإعلام، لضمان التنوع الثقافي.
•    التأكيد على نبذ ترسيخ ثقافة التفكك والتمزق في الأمة، أو التطهير العرقي أو الديني أو خطاب الكراهية التي تسعى إلى تشويه صورة فئات من المجتمع، وتدفع إلى العنف.
•    فرض الحيادية المطلقة.
-    دور الأسرة
تعد وحدة الأسرة هي اللبنة الأساسية للمجتمع، التي تتطلب بذل جهود مضنية للحفاظ عليها وتعزيزها. إذ يقع أطفال الشوارع والأطفال غير الشرعيين ضحايا على نحو متكرر لجميع صور الاستغلال، وكذلك يصبحون فريسة سهلة لأولئك الذين يريدون إقناعهم للتواطؤ معهم في تنفيذ الجرائم. فلا يوجد بدائل لدور الأسرة في تنشئة الأطفال، وهي أكثر أهمية بكثير من دور المدارس في تطوير شخصياتهم وتوجهاتهم، وينجم عن إهمال هذا الدور دفعهم نحو الإجرام والتطرف السياسي.
فاليوم يمكن الوصول إلى شريحة كبيرة من المجتمع من خلال وسائل الإعلام، وتشكل المؤسسات الدينية عنصرًا أساسيًّا يعمل على تكوين معتقدات الآباء وسلوكهم، مما يؤثر بدوره في الأطفال على جميع المستويات.
-    صلاة الجمعة
تعد صلاة الجمعة واحدة من أكثر أدوات التواصل فعالية. يذهب من أجلها ملايين المسلمين إلى المساجد طوعًا، وأذهانهم في أهبة الاستعداد للاستماع وتلقي الخطبة التي يلقيها الأئمة المحليون. لذا، يمثل محتوى هذه الخطب أهمية كبيرة. لكنه ليس من قبيل الصدفة أن الكثير من الحركات الإسلامية المتطرفة نشأت داخل مساجد صغيرة وزوايا بالمناطق المجاورة، على يد أئمة مسيَّسين حماسيين لهم حضور متميز، هدفهم الأساسي حشد وتجنيد المنشقين لنشر الكراهية والحقد.
وتحت رعاية الأزهر الشريف؛ المعروف باعتدال وإنسانية آرائه حول الإسلام، تتولى وزارة الأوقاف توجيه خُطب الجمعة في مصر بفعالية كبيرة. ويُحظر الآن على الأئمة المحليين الخطابة بالزوايا في الأحياء السكنية، أو إعداد صلوات للجمعة خاصة بهم منفصلة خارج المساجد. على أن يساهم ذلك في الحد من توسع طابع الحقد لخطب الجهاديين الحماسية التي تأتي على الأخضر واليابِس في جميع المجتمعات الإسلامية عبر العالم، وتدعو لقتل من يخالف نظرتهم للإسلام.
-    الأزهر الشريف
الأزهر الشريف هو الحصن الواقي الذي يستشرف به الكثيرون للارتقاء بأفكار الوسطية الإسلامية ونبذ موجات التطرف. ولابد أن يسعى لتحقيق أقصى استفادة من أحدث مناهج التدريس وتقنيات التواصل، وذلك نظرًا لدوره وتأثيره في تشكيل الأئمة والمنظومة التعلمية الكبيرة التابعة له. ومما لا شك فيه أن إصلاح منظومة التعليم الأزهرية سيكون له عائد كبير على تشكيل مسار العمل الدعوي وتأهيل أئمة المستقبل تحت رعايته.
وتحت قيادة الدكتور أحمد الطيب؛ شيخ الأزهر الحالي، وبفضل جهوده الدافعة، استطاع الأزهر الشريف بالفعل تحقيق خطوات كبيرة في مسار الارتقاء "ببيت العائلة"، والتعاون الفعال والحوار البنَّاء بين الكنيسة والأزهر، إضافة إلى المؤتمر الذي تم تنظيمه مؤخرًا، وشهد حضورًا كبيرًا من الطوائف التي أجمعت على نبذ الأفعال البشعة لتنظيم (داعش) وما شاكله من المجموعات المتطرفة.
ويقوم الأزهر الشريف بدور كبير وفعَّال لنبذ التطرف والعنف في مجتمعاتنا، وتقبُّل التعددية والحوار. كما أن له دورًا عالميًّا أيضًا فيما يتعلق بالحوار بين الحضارات والثقافات.
-    الآثار
تلعب الآثار دورًا خاصًّا؛ فهي ليست فقط تراثًا قيمًا ونموذجًا لإنجازات الماضي، بل هي أيضًا تجسيد ملموس لذكرياتنا ومنبع لخيالنا الإبداعي. نحن نوثق ماضينا ونحميه، ونحتفي بحاضرنا، ونأمل أن نؤثر في المستقبل بما نخلفه من تراث دائم، ماديًّا كان أو معنويًّا.
وليست بمفاجأة أن الكثير من الأنظمة الاستبدادية ترغب في تدمير إرثنا من تراث الماضي، أملًا في بناء آثار تخضع لرؤيتهم الخاصة وتبجِّل عهد ولايتهم.
والفن المعماري هو تعريف بالعصور الاجتماعية والمجتمع المعاصر على حدٍّ سواء. وهو ليس مجرد انعكاس للذوق السائد للنخبة الحاكمة، سواءً كانت سياسية أو اقتصادية، بل هو أيضًا تجسيد ملموس لذكرياتنا ومنبع لخيالنا الإبداعي.
ينقل الفن المعماري حس المكان الذي نعيش فيه، والشوارع التي نتنقل فيها، والشواهد التي نستدل بها في المدن. فهي ملاذنا وأماكن تعبدنا وتأملنا. قد تكون جميلة أو قبيحة، وتحيا مرة أخرى بالتفاعل مع مستخدميها.
وفي هذا السياق، يعد استخدام المباني في حد ذاته ظاهرة تجريبية عليك أن تخوضها وتستكشف الفراغات بداخلها. قد تكون جاذبة أو متهالكة، دافئة أو تذكارية، ملهمة أو جامدة. تكمن بها المهارة الفنية والحرفية، وعلم البناء. وفي بلد الأهرامات، لدينا إرث رائع يجب أن نرقى إليه.
-    الطقوس الاجتماعية
وهذا يؤدي بنا إلى ظاهرة أخرى تتعلق بالتجليات الثقافية، وهي الطقوس الاجتماعية التي تتفاوت ما بين الميلاد والمراهقة والبلوغ والزواج، وحتى الموت. لكل مجتمع طقوسه الخاصة التي تحكم هذه المراحل المختلفة من حياة الإنسان، إلا أنها ليست بريئة؛ فهي تعزز الأنماط التراثية التقليدية المتوارثة مثل اختلاف النوع واحترام الكبير، بدلًا من تحرير المواهب الإبداعية وتحفيز الشباب على اكتشاف العالم.
ولكن تدمير هذه الطقوس الحالية بدون إحلالها لن يؤدي إلى شيء. فالمجتمع بحاجة إلى طقوسه بقدر حاجتنا نحن لأن نكون جزءًا من مجموعات اجتماعية أكبر بدلًا من أنفسنا.
-    وسائل التواصل الاجتماعي
تلعب ثورة تكنولوﭼـيا المعلومات والاتصالات الجديدة دورًا أساسيًّا في التشغيل والإعلان وترسيخ العقائد؛ فهي الآن في قبضة المتطرفين في مجتمعاتنا ومن يساندونهم. لكن يتوجب علينا أن نثق بأنفسنا. وهذا التزايد في الوسائط الاجتماعية، واقتحام الإنترنت، والهواتف المحمولة وانتشارها يخلق أسبابًا للتعددية والاعتدال، ويساهم بشكل كبير في الارتقاء بكثافة الحوارات والنقاشات. وهناك مهام قصيرة المدى، إلا أنها عظيمة الفوائد على المدى المتوسط. ولا توجد استراتيجية ثقافية مستقبلية خالية من الوسائط الاجتماعية.
-    الإبداع وحرية التعبير
أين تقع حدود حرية التعبير؟ هذا سؤال مهم تحدثت عنه من قبل، ولن أعيده مرة أخرى هنا. إلا أنه لابد من وجود بعض الحدود (مثل قوانين الادعاء الإلزامية)؛ لأنها في الحقيقة "قيود حكيمة تجعل الناس أحرارًا". ويلزم التوازن لهذه الحدود الصغرى من أجل الاحتفاظ بالتماسك المجتمعي، وحرية التعبير اللازمة لرعاية الإبداع والتجديد داخل المجتمع. وهذه هي مهمة النظام السياسي الحاكم.
17-    البعد السياسي
الحوكمة والمشاركة والتعددية
-    الحاجة إلى الحكم الرشيد
التغيير أمر مهم لأي مجتمع؛ فالمجتمع الذي يحدث فيه التغيير بشكل سريع ويسمح بالتغيير السياسي السلمي من خلال وسائل ديمقراطية، يسلب مؤيدي العنف أقوى حججهم.
هؤلاء المؤيدون للعنف يؤسسون لعمليات مستمرة تجري على نفس هذه الشاكلة أو أقرب، ما لم يكن هناك عنف في صورة حروب أو ثورات تعطل مثل هذه الأحداث. إلا أنه يتوجب علينا أن نشير إلى أن الفرق بين العنف واللاعنف في مواجهة الوضع الراهن أو الاتجاه الحالي للأحداث، هو أن العنف حقًّا تدميرٌ للقديم، في حين أن اللاعنف هو الخطاب اللازم من أجل بناء الجديد والذي سينتفع من دعم الأغلبية له، دون فرضه بالقوة على الناس بشكل عام. 
-    المجتمع المدني
يمثل الإطار القانوني الذي تتشكل فيه منظمات المجتمع المدني وتعمل بداخله، جزءًا ضروريًّا من المناخ السياسي والممارسة الفعالة للديمقراطية. نحن نحتاج إلى مجتمع متعدد الأوجه يمتاز بالتغير والحيوية والديناميكية؛ مجتمع مدعوم دعمًا سياسيًّا يعتز بالتعددية وحرية التعبير. وهذا سيكون بداية الدفاع في مواجهة التطرف والعنف الناشئ.
إلا أنه ينبغي علينا تحليل الآراء السائدة؛ فمن خلال تحقيق التعددية السياسية وحرية التعبير، سوف ننجح تلقائيًّا في الحد من أعمال التطرف والعنف. قد تبدو تونس، التي انطلقت منها بوادر الربيع العربي وحققت فيها مؤسسات الحريات تقدمًا واضحًا، أكبر الدول المساهمة بشبابها في جيوش تنظيم داعش.
-    حول التوازن
نحن لسنا بغافلين عن سوء استخدام هذه الوسائل من قبل هؤلاء الداعمين لترويج الكراهية والتطرف والعنف، سواءً كانوا من داخل البلاد أو تدفعهم جهات دولية خارجية. لذا، هناك حاجة إلى إطار عمل تنظيمي يضمن الدور البناء الذي تقوم به هذه المؤسسات، وعدم انحرافها اتجاه غسل العقول وتحولها إلى حاضنات للإرهاب.
وتحقيق هذا التوازن هو مهمة النظام السياسي الحاكم، وحتى الآن لا تزال الديمقراطية المرتبطة بشرعية الحكومة المبنية على دعم الشعب، هي أفضل ضامن لحرياتنا وأفضل الطرق للوصول إلى حكومة تمتاز بالشفافية والمسئولية.



-    الديمقراطية وعيوبها
حققت الديمقراطية قبولًا واسعًا باعتبارها النظام الحكومي الوحيد، أو على الأقل الأفضل، لضمان حقوق المواطنين والمساواة أمام القانون، ولحماية حق الأقلية أمام استبداد الأغلبية بما يسمح للأقلية بسماع آرائهم قبل اتخاد القرارات.
لكن على الرغم من هذه المميزات المعتمدة، تبدو حالة من الاستياء السائد تجاه طريقة ممارسة الديمقراطية المعاصرة في أغلب الدول. وفي ديمقراطيات الغرب المعترف بها، يعتبر المواطنون بأغلب هذه الدول هذا النظام معيبًا؛ لأن الساسة المنتخبين واقعون تحت تأثير كبير لمصالح القوى، بالإضافة إلى أن قوانين تمويل الدوائر الانتخابية تؤدي إلى العديد من الانحرافات، ما لم يكن فسادًا تامًا. وبعد قرنين من حق الانتخاب، لم تؤدِّ النتائج إلى النظام الذي يسعون إليه. فقد تم استبعادهم، ليحل محلهم "آخرون" يمثلون مصالح رأس مالية قوية "ليسيطروا على النظام".
هذا الشعور بنزع حق الانتخاب يبدو سائدًا؛ فقد خرجت الشعوب للشوارع للتعبير عن مطالبهم، ولم يقتصر ذلك على الشرق الأوسط فقط بوضع ثورات الربيع العربي معايير جديدة لممارسة سلطة الشعوب، بل امتد لدول أخرى أيضًا بدءًا من أوروبا حتى هونج كونج.
وربما يكون قد آن الأوان لاستقراء الاتجاهات السائدة بدقة ضد تشابك الدلائل التجريبية، حتى ينجلي أمام أعيننا الواقع الذي نعيشه. نعم، نحتاج أن نفصل ما بين الخرافة وواقع ما حدث بالفعل خلال القرون الثلاثة الماضية؛ حيث طورت المجتمعات الإنسانية بمختلف مستوياتها من أنظمة حكمها نحو المزيد من الديمقراطية.
-    من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية
ليس هناك بديل لوجوب تأسيس شرعية النظام على قبول المحكومين. لكن على الرغم من نظام الديمقراطية التمثيلية (أو الديمقراطية المباشرة داخل نطاق صغير)، فيمكننا بوضوح مناقشة أفضل الطرق التي يمكن من خلالها أن يتجلى قبول المحكومين. إلا أن هذا سيكون موضوع مقالة أخرى. وما يتوجب علينا ذكره هنا ببساطة هو أننا في حاجة للحكم الرشيد الذي يرتقي بمبادئ الاندماج والمشاركة وشرعية الحكومة المبنية على قبول المحكومين. علاوة على ذلك، أن تكون المشاركة- خاصة مشاركة الأقليات المنشقة- والتغيير القانوني والسلمي؛ أمرًا ممكنًا.
-    تغيير الخطاب السياسي
يجب تغيير خطابنا السياسي من وضعه المنغلق والسطحي وغير الموضوعي، إلى خطاب ترتبط فيه النوايا بالأفعال ويسود به الشعور بالمسئولية السياسية. والسياسة بجميع أنواعها تقوم على الخطاب العام الذي بدونه ستضعف كلٌّ من السياسة والنسيج القومي لمجتمعاتنا معًا.
وما لا يمكن تصوره أن يظل السياق الأوسع للتعبير الثقافي (الدائرة الخارجية) بعيدًا عن طبيعة النظام السياسي وطابع الخطاب السياسي السائد. وتعد كلٌّ من ممارسات التضليل والإغواء والكلام الخادع، وفشل ذوي القوى في الاعتراف بأخطائهم مهما كانت الظروف، دلائل على فقد الشرعية والثقة بالنفس، والذي سيعود بدوره على القدرات الإبداعية وتنمية المواهب.
-    الاستنتاجات
وكما نستنتج في هذا القسم، نحن ننادي بالرسم التوضيحي ثلاثي المحاور الذي قمنا باستخدامه في هذا المقال لتوضيح بعض أهم المبادئ التالية.
-    السياق المزدوج للعمل الفني
في القسم الثامن السابق، ناقشنا الدائرتين اللتين تمنحان عامل "السياق" للعمل الفني بجانب الزمن. والحكم الرشيد ضروريّ للدائرة الخارجية. فنحن بحاجة إلى الاندماج والمشاركة الفعالة، وإلى حوكمة واضحة ومسئولة. فالشعب الواثق بنفسه وبالقيم التي ينتمي إليها، يصعب انسياقه وراء زعماء الغوغائية أصحاب الحضور، أو الخضوع إلى شخصيات أخرى أو لحدث عام. إلا أنهم قد يلجأون إلى إحداث ظرف خاص لتدارك وتصحيح المظالم الواقعة التي لا تستطيع القوى الأخرى مواجهتها. ويجب أن يسمح النظام السياسي لذلك بأن يكون جزءًا من الممارسة العامة للسياسة وتوفير الوسائل الشرعية والقانونية التي ينبغي اتباعها لتنفيذ ذلك.
-    الواقع المركب للهوية الثقافية
يوضح الرسم التوضيحي متعدد الطبقات، الذي قمنا بطرحه في القسم الخامس بالجزء الثالث في هذه الدراسة، كيف أن عامة الشعب يمكنهم التعايش مع الاختلاف داخل واقع مركب متعدد الطبقات. وتتطلب التعددية أن نسمح لهذه الاختلافات بأن تثري مجتمعنا، إلى جانب تأكيدنا على وجود طبقة مشتركة للهوية القومية تربط جميع المواطنين بسيادة الدولة القومية من خلال حق المواطنة والمساواة أمام القانون وبقية الحريات والحقوق الإنسانية الأخرى. فهذا كله يمكن تحقيقه.
لذا، نحن نسعى نحو مجتمع متصالح مع نفسه يطبق حوكمته الخاصة التي ترحب بالتعددية والتواصل ما بين الأمم والثقافات الأخرى؛ مجتمع يسوده العقلانية والتحضر ويشجع التغيير السياسي والفعالية الاجتماعية بشكل قانوني؛ مجتمع تُدرَّس وتُمارس فيه قيم العلوم ويقدر الفنون والإنسانيات؛ منظومة تعليمية تساعد على ترسيخ هذه القيم وتنمية المواهب والإبداع؛ مجتمع ينشأ فيه الشباب على هذه القيم، في حين يستخدمها البالغون في حياتهم اليومية. كما أن "الوفاء بالوعد" لازم؛ فمن أجل الوصول لمثل هذا المجتمع، يتوجب علينا اتباع منهج منظم للارتقاء بالجديد، وتكامله مع الإطار الثقافي للأمة.
-    عودة إلى الرسم التوضيحي ثلاثي المحاور
يتطلب تحقيق مثل هذا النظام والوصول إليه، شبكة كبيرة من السياسات الثقافية التي تدعم بعضها وتدعم قدرة الدولة على الاعتراف بالهويات المحلية والثانوية، ومن ناحية أخرى الارتقاء بشعور الوطنية القومية المتماسكة.
تم تصميم مجموعة مماثلة من السياسات والبرامج الثقافية ووضعها بأفضل مكان حول الرسم التوضيحي ثلاثي المحاور لتوضيح المحركات الثقافية كما هو موضح سابقًا (القسم السادس بالجزء الثالث أعلاه). وهذا يعني أن السياسات والبرامج التي سنقوم بتطويرها في الجزء التالي من هذه المقالة، مصممة لتعزيز الأسهم المرسومة على الجانب الأيسر للرسم التوضيحي (نقاط إدخال الجديد)، ولتعزيز وتسريع الحركة عبر الأسهم داخل الرسم لضمان سرعة تكامل هذا الجزء الجديد الذي يتناسب مع مجتمعنا، ويضيف إليه الثراء والحيوية.
وفي إطار هذه الخلفية التي تعرِّف عناصر الاستراتيجية الثقافية، يمكننا الانتقال إلى تعريف المشروعات الخاصة، لتوضيح المكان الأنسب لكلٍّ منها داخل هذه اللوحة الفنية التي نحاول رسمها بمختلف الرسومات؛ حتى نكتشف كيفية الارتقاء بالتحول الثقافي في مجتمعاتنا، وذلك في طريقنا نحو نبذ التطرف والعنف.



الجزء الخامس
البرامج الخاصة
18-    برنامج متنوع وشامل
لابد أن ندرك أهمية تناول البرنامج الذي نود تدشينه لقطاع عريض من الأنشطة الثقافية؛ فهو يستهدف جميع أوجه الظاهرة التي قمنا بدراستها، والتي تستوجب متابعتها بجدية على مدار فترة زمنية طويلة. أما ما دون ذلك المستوى فلن يكون مُجديًا. وتمتاز العناصر المتفاوتة والمتعددة بتكاملها في النهاية ودعمها المتبادل لبعضها البعض.
لذا نحن في حاجة لأن نتخيل أن هذا البرنامج يجسد سلسلة من السياسات والبرامج والمشروعات، التي تعبر عنها جميع الأسهم المرسومة على يسار الرسم التوضيحي السابق، ويسمح بإضافة مدخلات جديدة. وعلينا أيضًا أن نعزز هذه الأسهم بما يسمح للأفكار بالتدفق بانسيابيّة عبر المستويات المختلفة، لتربط بين المحاور الثلاثة للرسم التوضيحي في إطار منظومة متكاملة ومتداخلة تتطور فيها الثقافة بصورة ديناميكية، وتجدد من نفسها دوريًّا دون أي تمزقات أو عقبات، وما يتبعها من أمراض اجتماعية.
وفيما يتعلق بالسياق، تأتي السياسات والبرامج الشاملة لتسع الإطار الثقافي المتغير وما يرافقه من خطابات متغيرة، اجتماعية وثقافية ودينية وإعلامية، وذلك في ظل مناخ يرحب بالتعددية، ويساعد على الابتكار وقدرة التعبير عن النفس بإبداع؛ من خلال خطاب نقدي تأملي ذي طابع تشككي، مما سيؤدي إلى حدة الآراء والنقاشات بين أفراد المجتمع، ودفعهم إلى الإنصات والنقاش بصورة متحضرة. إن تحكيم البرنامج لهذه النزاعات يقوم على أسس العقلانية والبرهان، فهو يمزج ما بين المعرفة من العلوم الطبيعية، والتعقُّل من العلوم الاجتماعية، والحكمة من العلوم الإنسانية. إضافة إلى ذلك، يهتم البرنامج بمواكبة ثورة تكنولوﭼيا المعلومات والاتصالات، والتأقلم مع سرعة تطورها الفائق والدائم؛ حيث يستعين بجميع وسائل هذه الثورة، بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي. إن ما نسعى إليه لا يقل عن تحول اجتماعي جذري للمجتمع يقلل احتمالية حدوث أي تفاقم للتطرف الذي نشهده وما يُفضي إليه من عنف.
وبما أن الارتقاء بالعلوم ومبادئها يؤكد توسع النقاشات والقرارات التي تؤسَّس على العقلانية والبرهان، ينبغي على الفنانين الاستمرار في ازدهارهم. فلا حياة بدون فن، ولا ثقافة لشعب بدون الموسيقى والفنون التشكيلية والأعمال الأدبية. كما أنه يمكن تشبيك هذه المنتجات الفنية والأدبية مع الهويات المحلية ضمن نسيج كوزموبوليتاني يجمع الهويات المختلطة؛ حيث يساهم في تشكيل الهوية القومية للشعوب.
ولتأكيد وضوح طريقة العرض، سنقوم بمناقشة عناصر البرنامج وفقًا لثلاث مراحل، هي:
•    برامج يمثلها سهم واحد أو أكثر من الأسهم الموضحة على يسار الرسم التوضيحي.
•    برامج تمثلها الروابط التي تجمع بين الأجزاء المختلفة للرسم التوضيحي.
•    برامج يمثلها قطاع معين، والتي قد تتسع لتسود أغلب أجزاء الرسم التوضيحي.
بالطبع توجد تقاطعات، إلا أننا سنلتزم في العرض بهذا الترتيب للبرامج المقترحة من أجل المزيد من السهولة والوضوح.
19-    تقديم الجديد
برامج تمثلها الأسهم المتجهة إلى داخل الرسم التوضيحي
ومن بين المحاور الثلاثة للرسم التوضيحي، لدينا خمسة أسهم ممثلة على اليسار، وكلها نقاط إدخال لإضافة الجديد.
-    المجال الفكري
•     أفكار جديدة
لابد من بدء حوار وطني مكثف غير قاصر على قضايا السياسات الاجتماعية والاقتصادية وبدائل التنمية فقط، بل يشمل أيضًا قضايا الهوية القومية والالتفاف وحقوق الإنسان وحرية التعبير. ومن أجل تطوير جميع الأفكار الجديدة وتوسيعها ومناقشتها ونشرها، يتعين توافر الأدوات اللازمة لمناقشة القضايا المنبثقة التي تتعلق بالاحتياجات الآنية، كما يجب أيضًا تحفيز الابتكار والإبداع. وهنا يبرز الدور الأساسي للمؤسسات الثقافية في تصدي أفرادها لحماية مبتكري الأفكار الجديدة، وبصفة خاصة تنظيمهم مسابقات للأفكار الجديدة بين الشباب. ومن ناحية أخرى، يجب أن تحرص هذه المنظمات نفسها على اتصال المجتمع بأحدث مشروعات التنمية فيما يتعلق بالأفكار والتكنولوﭼـيا. وسيكون هناك تشجيع لمضاعفة أعداد المنتديات التي تشبه منتدى تيد إكس TEDx، أو مؤتمرات الإبداع التي تُعقد في العديد من المدن الأوروبية.
لكن وجود المؤسسات الثقافية القوية والنشطة لا يكفي وحده؛ حيث يستلزم تأصيل مثل هذه الأفكار في المجتمع- أو على الأقل أية أفكار أخرى قد تعم بالنفع- وجود إدارات جامعية قوية، وكلاهما في حاجة إلى وسائل تمكنهما من الوصول إلى قاعدة عريضة من الجمهور. ومن هنا تأتي حاجتنا إلى قنوات تليفزيونية قوية وثقافية، وغيرها من وسائل الإعلام التي تؤمن بأهمية الاستثمار في القيمة الإنتاجية للأفلام الوثائقية والمسلسلات العلمية. أما بالنسبة للمناقشات الإعلامية إلى جانب الدوريات العامة والمتخصصة- سواءً كانت دوريات أدبية أو مجلات علمية- والمقالات النقدية والآراء التبادليّة، فكلها ضرورية لخلق بيئة نقدية وثقافية تسمح للفنون والعلوم وجميع المنتجات الثقافية بالتفاعل والازدهار.
وعلى الرغم من أن هذا كله وثيق الصلة بوسائل الإعلام ومنظومة التعليم، فإنني ذكرته هنا لأنه يعزز أهم الروابط الواصلة بين الأخلاق النظرية والأخلاق العملية؛ بحيث تصل الأخيرة إلى أقل درجة تحريف للأولى عند تطبيقها.



-    المجال الإدراكي
•     وسائل الإعلام
تشمل وسائل الإعلام جميع أنواع الاتصال المباشر مع الجمهور. والمحتوى الذي نناقشه هنا يغطي الأمور كلها؛ بدءًا من الفنون حتى العلوم والإنسانيات. وينبغي الانتباه إلى أهمية ثقل المحتوى ومداه؛ فما جدوى الجوهرة التي تغوص وسط رمال الصحراء؟!
واعترافًا بأهمية ثورة تكنولوﭼـيا المعلومات والاتصالات والتوسع الفائق للأجهزة الشخصية الحديثة بدءًا من الحاسبات اللوحية حتى الهواتف المحمولة، لابد أن نكفل جودة المحتوى الخاص بهذه الأجهزة؛ حيث إن تطبيقات الهواتف المحمولة تختلف عن المواقع الإلكترونية التقليدية التي يمكن الولوج إلى صفحاتها من خلال الحاسبات المحمولة أو المكتبية.
لذا من المهم للغاية أن نجمع ما بين سرعة اكتساح الإنترنت، ومدى توسع المحتوى المتاح ذي الجودة.
تثير قضية المحتوى عبر وسائل الإعلام قضايا أخرى تتعلق بالإبداع وحرية التعبير وخطاب الكراهية والتحريض على العنف. وقد سبق أن ناقشتُ مطولًا قضايا التعبير عن الرأي؛ إلا أنني لن أكررها هنا مرة أخرى. ويكفي القول إنه من الأفضل بشكل عام التمتع بالمزيد من الحرية ومواجهة الرسائل البذيئة بأخرى أفضل منها بدلًا من المحاولة للحد منها، باستثناء الافتراءات الكاذبة وخطابات الكراهية والتحريض على العنف. لابد من وضع ضوابط أخلاقية خاصة لمثل هذه التجاوزات، وبعض الحدود التشريعية  إن أمكن  دون أن يتعارض هذا كله مع القاعدة العامة، والهدف المرجو دائمًا، وهو المزيد من حرية التعبير؛ لأنه بدون هذه الحرية تتعطل الديمقراطية وتستحيل المساءلة ويَصعب الإبداع.
كما توفر وسائل الإعلام البيئة الداعمة للإنتاج الثقافي؛ فهي تساعد على الوصول إلى عامة الجمهور وإخبارهم بالإنتاج الثقافي الجديد.
•    منظومة التعليم
سبق أن كتبت مطولًا عن إصلاح المنظومة التعليمية، وما يتضمنه من استراتيجيات لأهم عمليات التطوير بدءًا من مرحلة ما قبل الدراسة إلى ما بعد الدكتوراه؛ إلا أنني سأكتفي هنا بذكر الآتي:
•    يبدأ التعليم من المنزل، ولابد من إشراك الآباء في الأنشطة المدرسية من خلال روابط المعلمين وأولياء الأمور PTA.
•    أهمية التعليم وبرامج القراءة أثناء مرحلة ما قبل المدرسة.
•    لابد من تعزيز تعليم البنات بجميع المراحل الدراسية وفي جميع المجالات، بالإضافة إلى الرياضة البدنية.
•    لابد من المراجعة الشاملة لجميع الكتب المدرسية لمختلف الصفوف، وتركيز الانتباه على كتب أدب الأطفال والنشء. وهناك أيضًا حاجة إلى التعريف بالمواد العملية، بدءًا من الحقائب العلمية حتى الأدوات الفنية.
•    المناهج الدراسية الحالية في أشد الحاجة إلى المراجعة والتطوير، خصوصًا مواد التاريخ والتربية الدينية والتربية الوطنية.
•    لابد من تدريب المعلمين على المناهج التربوية التفاعلية، بعيدًا عن الحفظ والتلقين.
•    إدخال برنامج "ستيم" لمهارات العلوم والتكنولوﭼـيا والهندسة والرياضيات STEM إلى جميع الصفوف الدراسية داخل المنظومة التعليمية؛ مع التركيز على مهارات حل المشكلات.
•     تدريس اللغة الإنجليزية ضرورة؛ فهي لغة 55٪ من المواد المتاحة على الإنترنت، بغض النظر عن جودتها.
•    إقامة الأنشطة اللاصفيّة مثل نوادي العلوم، والرحلات الترفيهية، والألعاب، ومجموعات النقاش، وغيرها من الأنشطة الأخرى التي تتفاوت ما بين فنية وموسيقية ونوادٍ للقراءة.
•    أهمية دور الفنون في المناهج الدراسية، ولابد من الرعاية المبكرة لمواهب الشباب التي باتت في أمس الحاجة للاحتواء والتطوير.
•    التركيز على تحفيز الطلاب بالجوائز وتكريمهم، عوضًا عن الرهبة من الامتحانات والنتائج.
•    إعداد برامج للإرشاد والتوجيه، ودمجها مع برامج احتواء المواهب.
كما أنني ذكرت سابقًا الحاجة إلى تعددية المؤسسات داخل منظوماتنا بدءًا من مرحلة الروضة إلى ما بعد الدكتوراه، وتوافر الجامعات الخاصة مع الاهتمام بجودة وكفاءة المؤسسات المدعومة حكوميًّا، بما فيها المؤسسات التي يديرها الأزهر الشريف. ولذا، طرحت أن أقل ما يمكن تقديمه هو إنشاء وكالة مستقلة لاعتماد المعاهد مهمتها مراقبة جودة التعليم بجميع المؤسسات، بما فيها المؤسسات التابعة للأزهر والمؤسسات الحكومية.
والأكثر من ذلك، لابد من إرسال المزيد من الخريجين المتفوقين للدراسة بالخارج، وهو ما سيتطلب دعمًا ماديًّا للجامعات والمعاهد، وإقامة برامج تبادل خاصة مع المعاهد الفنية والإبداعية، مثل مدرسة تيش العليا للفنون. ومن البرامج ذات الصلة التي يمكن إنشاؤها هنا، التقنيات الحديثة للتعلم عن بعد، مثل البرنامج المشترك بين جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتقنية MIT القائم على المساق الهائل المفتوح عبر الإنترنت MOOC، أو غيره من البرامج التي تستعين بالتقنيات الحديثة لثورة تكنولوﭼـيا المعلومات والاتصالات من أجل أغراض تعليمية.
-    الجانب المادي
•    تأثيرات التحديث
إن التعرض للآخر وإثراء تجربة التعددية أمر مهم لجميع المجتمعات؛ إلا أنه في ظل سرعة تغير هذا العالم واتصال المجتمع بالإنترنت، فمن الضروري الاستعانة بمحتوى برمجي من الخارج لوسائل الإعلام، والاختلاط بالموهبة الأجنبية من خلال فعاليات مثل المهرجانات، والحفلات العامة، والمعارض، والثقافة السياحية المصاحبة لها. وبذلك تتوسع الفكرة إلى ما هو مجرد من العرض، إلى إثراء تجربة الاختلاط بين الموهبة الخارجية والفنانين المحليين.
•    التغيرات المادية
ومن الأرجح أن العوامل المادية التي تحيط بنا، ومعايير الصحة والنظافة، وكفاءة المساكن، وجماليات الطابع الحضري جميعها تؤثر في منظورنا للحياة بشكل عام، ومدى انسجامنا مع المجتمع، وإحساس الشمولية الذي نشعره. لذلك ينبغي لنا الانتباه إلى الطرز المعمارية والعمرانية بالفضاء المتحضر، بالإضافة إلى استخدامها كأماكن جاذبة تروي قصص الماضي وتعزز اتصالها بالحاضر. ولابد أيضًا من وضع لويحات على التماثيل بالميادين العامة والمباني التاريخية توضح قيمتها وتاريخها. وإذا تكامل القديم مع الحديث بشكل جيد، فسيُسهم هذا في تعزيز البيئة العمرانية.
ولكلٍّ من المباني الأيقونة مغزاها المحدد، فبرج خليفة بدبي يعكس واقع الإمارات نفسها دون شك، مثل حال الكثير من المباني الأخرى الموجهة إلى نفس الغرض عبر مختلف أنحاء العالم العربي، خاصة عندما يكون دورها موجهًا للأغراض العامة، مثل المتاحف والمعارض الفنية والمكتبات. وإذا كانت هذه المباني مزارات تتمتع بمظهر جاذب ومتاح للجميع، كواقع مكتبة الإسكندرية، فإنها بالتأكيد تضيف إلى المشهد العمراني، ولها تأثيرات تحديثية على المجتمع بأسره. وتعد حدائق الأزهر واحدة من أهم النجاحات العظيمة فيما يتعلق بذلك؛ فهي تجمع ما بين الترفيه والثقافة وإحياء الحي التاريخي والدور المجتمعي، بالإضافة إلى حديقة العائلة الجديدة بشرق القاهرة؛ فهي مثال آخر يقوم بنفس الدور.
وتساهم أعمال الترميم وإعادة الاستخدام التكيفيّة لبعض المباني التاريخية، مثل بيت السناري، في تأصيل شعور الانتماء بالمجتمع، وتطبيق هذا على أحياء تاريخية بأكملها - مثل شارع المعز بالقاهرة - له دلالة عظيمة. (انظر إلى قسم xxx أدناه للحصول على برنامج أكثر تفصيلاً يتناول البيئة المادية).


20-    الارتقاء بالتراث المحلي
حول البرامج التي تمثلها الأسهم الداخلية بالرسم التوضيحي
-    منظومة متكاملة ومتداخلة
لابد أن تتدفق الأسهم الكثيرة داخل الرسم التوضيحي ثلاثي المحاور بسلاسة تسمح للمنظومة أن تتكامل وتتداخل ثقافيًّا.
التكامل يعني عدم وجود انقسامات بين المجالين الفكري والإدراكي (على سبيل المثال يجب على الأفراد التعرف أكثر على التعاليم الحقيقية للدين الإسلامي، واستيعاب ثقافتهم وتاريخهم بصورة أدق)، أو بين المجالين الإدراكي والمادي (بحيث تتسق أفعال الأفراد مع الأخلاق والقيم التي يعترفون بالإيمان بها). أما التداخل، فهو يقتضي سعة المنظومة لإفراز الجديد وهضمه، مع الاحتفاظ ببعضه، إن لم يكن أغلبه، وإدخاله ضمن المنظومة المتكاملة.
أي بمعنى آخر، يجب دعم حركة الأفكار بشكل أكبر بين المجالات المختلفة وترسيخ الروابط فيما بينها، والذي بدوره سيعمل على تيسير التدفق الداخلي وتطور الثقافة والسلوك الاجتماعي.
-    ما تقوم به مكتبة الإسكندرية: أمثلة لبعض البرامج ذات الصلة
وفي إطار تعزيز السهم الخارج من المجال الفكري إلى المجال الإدراكي، تعقد مكتبة الإسكندرية كثيرًا من المؤتمرات والبرامج التي تهدف إلى تعريف قاعدة كبيرة من الجمهور ببعض المفاهيم المركبة، بل والأكثر من ذلك، تلك التي تتعلق بالإسلام مباشرة؛ حيث تتبنى المكتبة برنامجين؛ البرنامج الأول يؤثر في السهم المتجه إلى الأسفل من الأخلاق النظرية إلى الأخلاق العملية (من خلال مشروع "إعادة إصدار كتب التراث الإسلامي الحديث"، وما يتبعه من مؤتمرات وإصدارات)، والبرنامج الثاني يؤثر في السهم المتجه إلى أعلى (من خلال "الدراسات مع المفتي"). وهذا بالطبع بالإضافة إلى المجهودات التي نبذلها بصدد كثيرٍ من المشروعات الأخرى التي تتخلل باقي أجزاء الرسم التوضيحي المختلفة. وفيما يلي بعض التفاصيل بخصوص هذين البرنامجين تحديدًا.
-    إعادة إصدار كتب التراث الإسلامي النهضوي
بعد سنوات قليلة من افتتاح مكتبة الإسكندرية في أكتوبر 2002، نشأت رغبتنا في إعادة إصدار كتب تراث الفكر الإسلامي الإنساني والإصلاحي خلال القرنين الماضيين، وذلك ضمن سلسلة من الطبعات التعريفية لهذه الأعمال العظيمة. وهو المشروع الذي حشدنا من أجله فريقًا عالميًّا متميزًا من الخبراء بدءًا من المغرب حتى إندونيسيا. يهدف المشروع إلى تعريف هذه الأعمال على يد باحثين شباب أكثر معاصرة مقارنة بالمؤلف أو بالقضايا المطروحة، والذي يشمل التعريف بالمؤلف وأعماله، وعلاقة العمل المطروح بباقي أعماله، ونبذة مختصرة عن هذا العمل، والتساؤلات التي طرحها هذا الكتاب عند نشره في ذلك الوقت، وأخيرًا علاقته بالحاضر كما نراها. أما النص الأصلي بأكمله، فسيرفق بحواشٍ شارحة أسفل كل صفحة لتسهل قراءة الشباب المعاصرين له. وستطرح الإصدارات التي ما زالت جميعها باللغة العربية، إلكترونيًّا وورقيًّا ليقوم الناشر بتوزيعها عبر العالم العربي بأكمله، ويصاحب مراحل إصدار هذه السلسلة محاضرات وندوات ذات صلة، والتي من خلالها أيضًا نخلق شبكة بين المثقفين الشباب، ونعزز الروابط بينهم وبين الجيل السابق، ومن واقع 150 مجلدًا مخططًا نشرهم، انتهينا بالفعل من إصدار 50 مجلدًا حتى الآن، وتوزيعهم على كثير من منافذ السلطات الدينية بمختلف الدول العربية.
وبما أن كثيرًا من هذه الأعمال توقف تداولها لبعض الوقت، فإن مكانتها تتأكد ضمن الأخلاق النظرية، ومن خلال الاتصال بأجيال من شباب المثقفين الأكثر معاصرة، ويؤكد المشروع الحاجة إلى تفعيلهم ضمن الأخلاق العملية.
هذه الأعمال التي امتدحها شيخ الأزهر تتطلب منا أن نعيرها اهتمامنا؛ فهي توضِّح أن المرء لا يجب أن يتنازل عن كونه مسلمًا لينعم بالحكم الرشيد، أو التعلم بالمؤسسات المتقدمة، أو مساواة الحقوق أمام القانون. كما أنها، مجمعةً، تعطي القراء رؤيةً مختلفة عن الإسلام ومجرد تداول مختصراتها يدعم الجهود التنظيمية لإحياء وإصلاح الفكر الإسلامي في القرن الواحد والعشرين. وتهدف الأعمال بشكل عام إلى نشر رسالة إنسانية متعمقة، وتستهدف "القضايا الشائكة" مثل وضع المرأة، موضحة دور الرجال أمثال قاسم أمين الذي تحدث عن حرية المرأة عام 1898، ومحمد عبده الذي طالب بالحد من تعدد الزوجات في القرن التاسع عشر. كما أنها توضح أنه هناك قاعدة مشتركة بين إحياء الإسلام وممارسة الديمقراطية، وبذلك تبرز أنه لا حاجة للتضارب السياسي الذي يدفع به المقاتلون المتأسلمون إلى أغلب مجتمعاتنا، وأن هذه المناقشة الفكرية المعتدلة ليست وليدة التوافق السياسي، لكنها تمثل أفكارًا لها خلفية متميزة من الفكر الرفيع الذي دام على مدار مائتي عام.

-    دراسات مع المفتي والأزهر
يأتي التعبير الرسمي للأخلاق النظرية على لسان المختصين بهذا المجال. إلا أنه بالنسبة للإسلام، تأتي أكثر الأحكام الرسمية في هيئة "فتاوى" يصدرها رجال الدين أو "المفتون" (أو مجموعات مثل المجلس الأعلى للدراسات الإسلامية). لكن يقوم بعض رجال الدين المشهورين بإصدار فتاوى غير رسمية تعكس فهمهم للأحكام الدينية الخاصة ببعض الأحكام القضائية أو التشريعية، أو لتوجيه السلوك الفردي. وبالإضافة إلى مناقشات العامة للمثقفين التي تنظمها مكتبة الإسكندرية حول مختلف الموضوعات، كان لازمًا عليها أن تُشرك مفتي جمهورية مصر العربية في العديد من القضايا الشائكة التي تحير الإعلام والعامة والكثير من المسلمين. ومن ضمن هذه القضايا، الجهاد والرِّدّة والميراث والمرأة والديمقراطية وغيرها. وكانت البداية بموضوعي الجهاد والرِّدّة.
وسعينا أيضًا إلى نشر دراسات رسمية مطولة بالتعاون مع دار الإفتاء. وهي دراسات توضح أن كثيرًا من المفاهيم السائدة عن هذه الأمور، خاطئة وتحتاج إلى تصويبها. ومازالت استنتاجات هذه الدراسات مطروحة للمناقشة المتسعة؛ لأننا نطمح إلى الوصول إلى اتفاق جماعي ذي وزن ثقيل، دون النظر إليها كآراء شخصية مغايرة، بل لها قيمة كافية لتكون أوسع تأثيرًا.
وإلى جانب ذلك، ننظم بالتعاون مع الأزهر الشريف مجموعة من الأنشطة من ضمنها ندوات تتعلق بوضع المرأة، وهي قضية ملازمة لكثير من المجتمعات الإسلامية، والتي يقتضي تناولها وفقًا لمختلف المناهج، على أن يكون الشق الديني جزءًا منها فقط.
وفي حال نجاحنا في تعزيز الوسطية الإسلامية فيما يتعلق بالكثير من مثل هذه القضايا، سيساعد ذلك في تقوية الأسهم المتجهة من الأخلاق النظرية إلى الأخلاق العملية، وهي خطوة إيجابية مؤكدة نحو تحقيق إطار ثقافي متكامل ومنسجم داخل المجتمعات الإسلامية المليئة بالالتباسات، والتي يدفع بها بعض الشخصيات الهامشية المحلية من القيادات السياسية الإسلامية البارزة نحو التطرف.
-    برامج عامة
يمكننا بالطبع أن نتحدث عن الكثير من البرامج التي قامت المكتبة بتصميمها، وتقوم جاهدة على تنفيذها. على سبيل المثال، البرامج التوثيقية والأعمال الأرشيفية التي نقوم بها، وما تتضمنه من الأرشفة الإلكترونية، تمثل أهمية كبيرة فيما يتعلق بقضايا الهوية الوطنية، وتساعد الباحثين على التعرف على أهم ما يميز تاريخيهم. وتساهم برامجنا الممتدة وترويجنا لقيم العلوم وغيرها من الأنشطة المشابهة بشكل كبير في تلبية الكثير من الاحتياجات المختلفة للمجتمع. لكن المكتبة لديها الكثير من البرامج ذات الصلة التي ينبغي وضعها ضمن سياق ما يلزم على الدولة فعله وما تقوم به بالفعل. وبناءً على ذلك، سيتناول القسمان التاليان البرامج العامة التي تهتم باحتواء المواهب وتشجيع الابتكار وتعزيز التعددية.
لابد أن يسود مناخ عام من الانفتاح والتعددية لتجنب عدم قبول الجديد، ولتمكين المجتمع من التطور والتجديد مع الاحتفاظ باعتزازه بهويته. كما يجب أيضًا أن تكون هناك نظرة ثقافية عامة وشاملة ترتقي بقيم العلوم وتدعم حرية التعبير والإبداع والخيال. والبرامج التالية الموضحة بالأسفل تسعى إلى تحقيق هذا الهدف.
21-    ثقافة العلم وقيم البحث العلمي
الارتقاء بالخطاب العقلاني والامتياز الأكاديمي
يمكن تحقيق هذا البرنامج من خلال عدة طرق؛ هي:
-    للجمهور عمومًا
•    دور المؤسسات الثقافية وأكاديميات العلوم وغيرها من المؤسسات في تعريف أكبر قدر من الجمهور بأهمية المشروعات العلمية وثمارها، من خلال أنشطتها المكثفة.
•    إعداد برامج تليفزيونية متخصصة تتناول قضايا العلوم، موجهة للجمهور بشكل عام؛ وخاصة المهتمين منهم. إضافة إلى التشجيع على إصدار أصول علمية باللغة العربية، وترجمة المواد العلمية الأجنبية سواءً بالدبلجة أو بإدخالها أسفل الصورة.
•    إقامة ورش تدريبية في الصحافة العلمية بكبرى الصحف، والتي من خلالها يتعرف المتدربون على كيفية إعداد تقارير خبرية علمية.
•    تشجيع كبرى الصحف على إنشاء صفحات إلكترونية خاصة بها.
•    الحث على توزيع مجلات وصحف العلوم والطب والهندسة (مثل المجلة العلمية الأمريكية، ومجلة ناشونال ﭼيوجرافيك، وغيرها).
•    إنشاء برامج ضخمة لترجمة المحتوى العلمي الهائل المتاح باللغة الإنجليزية، وبلغات أخرى.
•    تنفيذ مشروع إنشاء المتحف العلمي "مدينة العلوم"، ومضاعفة عدد المراكز العلمية في المدن الكبرى وعبر مختلف أنحاء الدولة.
•    تنظيم معارض علمية كبيرة تتعلق بمختلف الموضوعات العلمية.

•    التركيز على الفعاليات التي تكرم كبار العلماء القوميين.
•    إشراك المؤسسات والأكاديميات العلمية في وضع سياسات قومية حقيقية تتعلق بالعلوم.
-    الأطفال
•    مراجعة المناهج الدراسية في المدارس الابتدائية والثانوية.
•    إعادة تأهيل معلمي العلوم.
•    تزويد المعلمين بالموارد اللازمة لتطوير خبراتهم العلمية (مثل برنامج "اليد في العجين"، والحقائب العلمية، والتجارب المعدة مسبقًا، وغيرها).
•    إقامة نوادٍ علمية بالمدارس.
•    تأسيس فريق للنقاش لدعم الأدلة العلمية والفنية من خلال استعراض بعض القضايا الجدلية.
•    عقد مسابقات داخلية للفرق العلمية، وتوزيع الجوائز على الفائزين، وتغطية فعاليات المسابقة على شاشة التليفزيون.
•    اكتشاف المواهب من خلال مسابقات قومية للعلوم والرياضيات.
•    توزيع الجوائز والمنح على الفائزين.
•    إنشاء مدارس خاصة للموهوبين.
-    بناء قدرات البحث العلمي القومي
ربما يعتقد البعض في عدم وجود علاقة وطيدة بين تحسين البحث العلمي والثقافة السائدة، إلا أن هذا الأمر غير صحيح. وترويج الإنجازات العلمية الفعالة عبر المنظومة التعليمية، ووسائل الإعلام، والاعتزاز الوطني، يترجمها إلى رغبات تجتاح أرجاء المجتمع. كما تساهم نزعة الأفراد إلى اختيار المهن العلمية والطبية والهندسية، وتوفُّر العلماء القوميين على الساحة، في التواجد الراسخ لثقافة العلوم كإحدى دعائم الثقافة الوطنية.
وينبغي بناء القدرات الوطنية من خلال:
•    وضع استراتيجية قومية واضحة يمكن الاعتماد عليها.
•    دعم الروابط مع العالم الخارجي (من خلال المؤتمرات وبرامج التبادل والمهرجانات).
•    تعزيز التواصل بين العلوم وصنّاع القرار.
•    تعزيز التواصل بين العلماء ووسائل الإعلام.
•    تحسين الموارد البشرية من خلال تطبيق برنامج "ستيم" لمهارات العلوم والتكنولوﭼـيا والهندسة والرياضيات STEM بداية من مرحلة الروضة إلى مرحلة ما بعد الدكتوراه.
•    تأهيل المراكز البحثية إداريًّا وفنيًّا لتصبح مراكز للتميز قائمة بذاتها.
•    وضع استراتيـﭼية للعمل بين القطاعات الخاصة على المستويين القومي والعالمي، وما تتضمنه من إجراء أبحاث مشتركة وتسهيل إجراءات براءات الاختراع.
•    توفير الموارد في أطر تنافسية؛ على سبيل المثال، يمكن تقديم هذه الموارد في هيئة صناديق خاصة للمشروعات والمؤسسات، وصناديق أخرى قطاعية بالتعاون مع الحكومة، فقط بالمساهمة بجزء فيها.

-    طلاب الجامعة، والخريجون، وطلاب الدراسات العليا
يجب تدريس قيم العلوم، إلى جانب المحتوى العلمي، من خلال نموذج المعلم نفسه وممارسة الطالب. والركيزة الأساسية لذلك هي خبرة الطلاب أثناء فترة الدراسة الجامعية بجميع المجالات المختلفة؛ بما فيها العلوم الاجتماعية والإنسانية، إلى جانب البرامج التعليمية التقليدية.
22-    بذور الأمل– الفنون
برنامج لرعاية الأجيال الجديدة من الفنانين
-    الفنون والمسابقات وقواعد البيانات
الفنانون هم شريان الحياة للمشهد الثقافي بأية دولة. ولابد من الاكتشاف المبكر للمواهب، ومساعدة براعم الموهوبين على بلوغ أقصى طاقاتهم من خلال التدريب، والإرشاد والتوجيه، والمنح الدراسية المناسبة. أما بالنسبة إلى المنح الدراسية المبنية على استحقاق المتقدمين من الأطفال بمختلف أعمارهم على جميع المستويات المحلية والإقليمية حتى الدولية؛ فهي طريقة مجدية لتفاعل المتدربين مع المواهب الواعدة ووضعهم على الطريق السليم لتنمية مواهبهم. إلا أن هذا المنهج التقليدي بمعنى الكلمة الذي تتبناه الكثير من الدول ينقصه الكثير من الأمور عند تطبيقه في مصر والعديد من الدول العربية الأخرى. لذا، يجب إضافة هذه النقاط الإضافية بانتظام للحصول على أعلى عائد من هذه البرامج، وتحقيق أكبر استفادة منها.
ومن أجل التنظيم المنهجي لهذا الاتجاه على الصعيد القومي، يجب علينا اتباع الآتي:
•    عقد فعاليات سنوية.
•    ترويج الفعاليات من خلال تنظيم معارض محلية وإقليمية للفائزين.
•    إصدار كتالوجات لأعمال الفائزين، وأبرز الأعمال الواعدة الأخرى.
•    مساعدة شباب الفنانين في إحياء أولى حفلاتهم أو ترويج أولى أعمالهم الفنية، مثل معرض "أول مرة" التابع لمكتبة الإسكندرية.
•    الحرص على التوثيق الدقيق للمشروع بأكمله، بالإضافة إلى سجلات رقمية لجميع الأعمال الفنية المحفوظة لديه وغير المحفوظة.
•    فتح ملفات جديدة بأسماء الفائزين في كل مقاطعة، وغيرهم أيضًا من أصحاب المراكز المتقدمة والذين لم يحالفهم الحظ، إيمانًا بإمكانية ازدهار مواهبهم فيما بعد.
•    إشراك فنانين محليين أكثر خبرة من كل مقاطعة في مراحل الترشيح والتنقيح التي تؤدي إلى الترشيحات القومية النهائية.
•    حفظ سجلات جميع هؤلاء الفنانين ضمن قاعدة موازية للبيانات.
•    حفظ قاعدة بيانات لشباب الفنانين للاطلاع على تخصصاتهم وتطوير برامج تدريبية مناسبة من ناحية، وبناء شبكة تواصل فيما بينهم من ناحية أخرى.
•    بناء هذه الشبكة يتطلب التحديث الدائم لجهات الاتصال، والتحقق من صلاحية البيانات ربما بإرسال نشرة إخبارية إلكترونية مختصرة، والإبقاء على غرف للمحادثة الإلكترونية خاضعة للمراقبة.
•    بناء شبكة بين الفنانين الأكثر خبرة عبر جميع أنحاء البلاد، ممن لديهم خبرات متشابهة ذات صلة بمثل هذه البرامج على مدار عام أو أكثر. على أن تصبح هذه شبكة المدربين لبراعم الموهوبين فيما بعد.
•    إقامة فعاليات ومهرجانات ومنتديات يجتمع فيها عدد كبير من هؤلاء الفنانين، إن لم يكن جميعهم، مرة سنويًّا على الأقل.
•    يجب ألا يقتصر هذا النوع من البرامج على الفنون التشكيلية فقط، بل يجب أن يشمل أيضًا ألوان الموسيقى والغناء والرقص.
•    يسهل تمويل هذه النوعية من البرامج، بنفس طريقة تمويل المكتبات المحلية باعتبارها مراكز للثقافة. (انظر البرنامج الخاص بالمكتبات المحلية والمراكز الثقافية).
-    منظومة قومية مترابطة للفنون التشكيلية
ينمو شباب الفنانين وسط بيئة مترابطة من المثقفين تقدِّر الفن وتدعم ازدهار ذوي الخبرة أيضًا. هذه البيئة لن تتأسس دون وجود العديد من المؤسسات ذات الصلة، مثل المعارض الفنية، وشركات المزادات، والمتاحف، والإصدارات المتخصصة؛ إضافة إلى أصحاب المهن ذات الصلة مثل خبراء التثمين، ومديري المعارض، والمرممين، والنقاد، وغيرهم.
إضافةً إلى ذلك، لابد من إدراج البرامج الحكومية الداعمة لهذه المؤسسات، وقد يأتي هذا الدعم في صورة مباشرة أو غير مباشرة.
الدعم المباشر هو دعم الحكومة ماديًّا لهذه المحاولات الجادة، لكن ليست بالضرورة أن تقتص من ميزانيتها بشكل مباشر. قد يأتي هذا الدعم في صورة ضمانات قروض، أو غيرها من الأدوات المالية مثل السندات طويلة الأجل، أو بالمساهمة في رأس مال الشركات الناشئة لمساعدتها على البدء ومنحها الغطاء التشريعي اللازم.
أما الدعم غير المباشر، فهو بأن تكون الحكومة أحد أبرز المشترين للأعمال الفنية، لعرضها بمتاحفنا، وسفاراتنا بالخارج، وغيرها من المقرات الحكومية والمنشآت الحيوية في مصر. يساهم هذا الدعم في الارتقاء بأسواق الأعمال الفنية، وما يتعلق بها من مهن ومؤسسات داخل البيئة الثقافية والفنية. وتستطيع الحكومة بالفعل تفعيل المنظومات الفنية العالمية من خلال هذه النوعية من البرامج الفعّالة التي تهدف إلى شراء الأعمال الفنية لأغراض دبلوماسية أو لضمها بالمتاحف. كما يمكن تمويل عمليات الشراء هذه بالتنظيم المشترك بين كبرى مؤسسات القطاع الخاص ضمن أعمالها الخيرية، على أن يدوَّن ذلك على لويحات ترافق العمل أينما عُرِض.
-    المنشآت الثقافية الكبيرة: الأوبرا والمسرح والأوركسترا السمفونية
تتطلب بعض الأنشطة الثقافية الكبرى مرافق ذات معايير خاصة وعددًا كبيرًا من العاملين المهرة، على أن يقوم بخدماتها عدد أكبر من المتخصصين والتقنيين. ومن ثم، ستتطلب تمويلًا حكوميًّا وتعيينات قومية أو ربما دوليّة؛ حيث إن أنشطة الأوبرا، والباليه، والأوركسترا السمفونية، والمسرح القومي، وما يشبهها من أنشطة، لا تستطيع أن تتحمل نفقاتها الخاصة. في حين أن المرافق أيضًا لا تقوى على الوفاء بديونها، وتحتاج دائمًا إلى إعانات مالية تغطي المصروفات الجارية. لكنها على الرغم من ذلك، تستطيع وتقوم بالفعل بأدوار فعّالة في الدول والمدن الكائنة بها. ومن أمثلة هذه المرافق، مسرح البولشوي للبالية في روسيا؛ ودار أوبرا سيدني، وهو أيقونة معمارية صارت رمزًا للمدينة؛ ودار أوبرا ڤيينا؛ ودار الأوبرا بباريس؛ ومسرح لا سكالا بميلان؛ ومتحف المتروبوليتان للفنون بنيويورك؛ ومركز كيندي للفنون الأدائية بواشنطن. والعالم شاهد على النفع المعنوي الهائل الذي أعادته هذه المرافق على مدنها ومجتمعاتها.
ولا تقل كبرى المكتبات والمتاحف عن ذلك أهمية. فيجب عليها أن تطور من نفسها في ضوء التقنيات الحديثة والتغييرات الثورية التي طرأت وأثرت في الجيل الجديد بأكمله. (وقد سبق أن ناقشت ذلك مطولًا؛ إلا أنني لن أكرر هذه النقاشات والاقتراحات هنا مرة أخرى).
-    المكتبات العامة بوصفها مراكز ثقافية قومية
تخيل معي أن أمة بها مكتبات عامة بكل مدينة صغيرة بها وبكل ناحية من نواحي مدنها الكبرى؛ بحيث تعمل كل منها بوصفها مركزًا مجتمعيًا، إضافةً إلى كونها مستودعات للكتب. والآن أيضًا، يمكن إتاحة مجموعات الكتب المتنوعة إلكترونيًّا وتحديثها دوريًّا لتصل إلى أبعد المناطق. يجب أن ينمو محتوانا العربي بنفس المعدل من خلال الترجمات والاقتباسات، أو الإصدارات الجديدة. إلا أن هذه المكتبات العامة يمكنها، ويجب أن تكون، ساحات تسع الفعاليات الثقافية المختلفة.
تغير كهذا ليس مستحيلاً؛ ويمكن تحقيق أقصى استفادة من التمويلات المحدودة كما هو موضح بالأسفل.

23-     السينما والمسرح
حيث يلتقي الفن بالتسويق
-    السينما القومية والإنتاج السمعي والبصري
تمتاز السينما المصرية بتراث عريق ومتفرد ينبغي حمايته والحفاظ عليه، وهناك جهود معاصرة لذلك لابد من دعمها. وهذا يتطلب إنشاء مستودع لجميع الأفلام المسموعة والمرئية، يديره مكتبيّون متخصصون في الأرشفة وحفظ هذه المواد. نأمل أن يحاكي هذا المستودع مؤسسة مثل المعهد الوطني الفرنسي للسمعيات والبصريات (INA)، على أن ينبعث من المعهد القومي للسينما الموجود حاليًّا بموارده المحدودة. وبديهيًّا، هذا يتطلب تعزيز المعهد القومي للسينما، وإعداد برامج تدريبية للجامعات هدفها تأهيل مواهب مستقبلية.
ومن المقترح أن يحاكي المعهد الجديد المعهد الوطني الفرنسي للسمعيات والبصريات ليصبح المستودع الرسمي للمواد السمعية البصرية، بما فيها مواد الإذاعة والتليفزيون، والأفلام السنيمائية. ويتعين عليه حفظ أرشيفات هذه المواد السمعية البصرية، والارتقاء بالدراسات البحثية ذات الصلة، وتوفير تدريبات احترافية.
ويقدم هذه الخدمات ثلاث مؤسسات منفصلة؛ الأولى تختص بإنتاج الأفلام وما يتعلق بها من دراسة ونقد، والثانية تتعلق بالقنوات التليفزيونية الفضائية والكبلية والتقارير الإخبارية، أما الثالثة فهي تتعلق بالموسيقى والصوتيات وغيرها من المواد السمعية.
ينبغي أن تكون المكتبة القومية للأفلام السنيمائية هي العين الحارسة للتراث السنيمائي المصري بأسره وإنتاجه الحديث، وذلك بهدف الحفاظ على مقتنياتها وإتاحتها للطلاب والباحثين. لذا، يجب أن تحتوي أيضًا على مسارح وغرف للعرض، وقاعات للندوات والمحاضرات، إلى جانب مقتنياتها الملحقة بمكتبة متخصصة (أغلبها مواد رقمية).
أما بالنسبة إلى المرفقين الآخرين، فهما يختصان بالمجموعات السمعية (من موسيقى، وصوتيات، ومواد تاريخية). وسيتم تزويد المؤسسة الثالثة التي تختص ببقية المواد السمعية البصرية بمرفق واحد فقط لاحتواء هذه الأرشيفات، على الرغم من أن الراغبين في الرجوع إلى هذه الأرشيفات يمكنهم استخدام معامل الصوت ومواد العرض المرئي بالتوازي.
-    تشجيع الارتقاء بصناعة السينما القومية
على الرغم أن صناعة الأفلام السينمائية والبرامج التليفزيونية تجارة يستحوذ عليها القطاع الخاص بشكل كبير، فإنه لابد من التدخل الحكومي لسببين. تعد هذه الصناعة إحدى الصناعات الأساسية، فيما يتعلق بتأثير "القوة الناعمة" سواءً داخل الدولة نفسها، أو على المستوى الإقليمي. كما أنه يجب ألا تعتمد هذه الصناعات على الجانب التجاري فحسب. ففي بعض الأحيان، تحتاج الأفلام الوثائقية وغيرها إلى الدعم الحكومي؛ على سبيل المثال، تحتاج دول بحجم فرنسا إلى إعانات أثناء صناعة الأفلام القومية من ناحية، وإلى ترويج السينما الفرنكوفونية عبر إفريقيا وغيرها. لذا يجب على الحكومة المصرية ألا ترتاب حول هذا النوع من الدعم لصناعة الأفلام القومية من خلال الكثير من الإجراءات، منها:
•    إزالة العوائق التي تعطل سريان العمل وتخنقه بالتعقيدات الروتينية وعجز الميزانية.
•    تسهيل تواجد صناعة الأفلام العالمية في مصر، وذلك بتسهيل دخول وخروج المعدات وفريق العمل إلى أماكن التصوير، وتصريحات الدخول، وتزويد العمل بأجود الاستديوهات والمرافق الداعمة.
•    تسهيل ترويج الخدمات الإضافية التي تتطلبها الشركات المحلية بهدف الانتفاع من الميزة السعرية، بالإضافة إلى دعم الشركات الناشئة المحلية، وذلك بتزويدهم بجميع اللوازم بدءًا من التزويد بالأطعمة والأشربة وتعيين فريق العمل ومعالجة العوائق، حتى تصوير CGI، ودمج الصوت.
•    دعم الإنتاج المشترك مع شركات عالمية، و/ أو توقيع تعاقدات محلية من الباطن لإنتاج جزء من الأفلام العالمية الكبرى.
•    تسهيل الدعم للإنتاج القومي والعالمي، إلى جانب تسويق الشركات الناشئة والمتوسطة.
•    توفير الدورات التدريبية وفترات للتمرين المهني أثناء العمل، وذلك من خلال دفع الأجور الأساسية للمتدربين المبتدئين في عامهم الأول من التعيين.
•    السماح بوضع خطة قومية للتمويل الجزئي، أو تقديم ضمانات قروض للأفلام القيمة و/أو الأفلام القومية (مثل الدراما التاريخية والمسلسلات التليفزيونية). والذي سنتناوله بالتفصيل في الجزء الخاص بإجراءات وآليات التمويل.
-    المسرح
تختلف التجربة المسرحية عن صناعة الأفلام السينمائية والبرامج التليفزيونية، وهي تتطلب دعمًا خاصًا لإحياء التراث المسرحي داخل الدولة. قد تنال المسارح القومية وفرقها الخاصة الدعم الحكومي والإعانات، فيما يتعلق بسهولة دخول المسارح أو قد تحصل الشركات المنوط إليها إحياء المسرحيات البارزة على ضمان إضافي لأدنى حد من الإيرادات (بما يعادل 20٪ من عدد المقاعد تقريبًا).
-    مستقبل الترفيه الذي تقدمه المواد السمعية البصرية
ساهمت ثورة تكنولوﭼـيا المعلومات والاتصالات (كما هو مذكور في الفصل الخامس "التمزق") في تحول مفهوم وسائل الترفيه وأدوات الاتصالات والتواصل الاجتماعي.
لذلك، ما هي وسائل الترفيه التي ستبرز في عصر الإنترنت؟ ستكون الوسائل أكثر فاعلية ولها طابع أكثر خصوصية، مقارنة بوسائل الترفيه التقليدية مثل التليفزيون الذي فرض هيمنته في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن فنون الجرافيك والرسوم المتحركة ستتصدر أحدث وسائل الترفيه المستخدمة، وستسود الحقيقة المدمجة والمجسمات ثلاثية الأبعاد.
-    دمج الأجهزة والتقنيات
نحن الآن نشهد أجهزة تدمج بين الحواسب والهواتف المحمولة، والحواسب اللوحية؛ بالإضافة إلى التجربة التعابريَّة بين ألعاب الـﭬيديو وطريقة عرض الأفلام السينمائية، وما يصاحبها من انطلاق القنوات الكبلية وتدفق البيانات المرئية عبر النت وتحميلها. وقد يشير هذا كله إلى انتهاء الطريقة الفائتة لصناعة السينما (والتي سأفتقدها كثيرًا)، وظهور جيل جديد من الشباب يجيد استخدام هذه التقنيات الحديثة، التي تفتح آفاقًا وفرصًا جديدة للابتكار والإبداع، كما تساعد على ظهور مواهب جديدة. إلا أنها تدل أيضًا على احتمالية حدوث تغيرات دراماتيكية في عالم الأسواق، بما فيها أسواق المنتجات الثقافية. وهناك جدل حول الإمكانات الجديدة المتاحة أمام منتجات "الأسواق المتخصصة" (وذلك وفقًا لنظرية الذيل الطويل المتعلقة بتوزيع الطلب). لكن حتى الآن توجهت أكبر الاستديوهات بهوليوود فقط إلى صناعة عدد أقل من الأفلام الكبيرة المسيطرة على الأسواق، بدلاً من إنتاج أفلام إبداعية تناسب الأسواق المتخصصة الأصغر حجمًا، ويرجع ذلك إلى الاعتبارات المالية التي أثرت في هذه الاستديوهات في اتخاذ قراراتها. لذا، يبدو أنه ستكون هناك إعادة تشريع لطبيعة المواجهة ما بين الإبداع وتقديم السلعة، وهنا ستكون البرامج الحكومية بمدخلاتها القليلة نسبيًّا قادرة على تعزيز سواعد أبطال المبدعين.
بالإضافة إلى ذلك، يشير مفهوم "البيانات الضخمة" وبرمجياته التحليلية الجديدة التي تتطور على نحو متزايد ويستعين بها القطاع الخاص، إلى حدوث انقلاب بمناهج التسويق عبر العالم كله.




24-    حول بيئتنا المادية
مدخل إنساني نحو العمارة والعمران
-    البناء السليم والنمو الفكري
نحن جميعًا نعيش وسط الطرز المعمارية والتمدُّن؛ نسكن المنازل، ونعمل في المباني، ونتنقل وسط الشوارع بين المباني، ونستمتع بغيرها أو بالفراغات المتخللة ومناظرها الطبيعية. تخلق هذه الفراغات الجاذبة والمباني المصممة والمصونة جيّدًا بيئة أكثر آدمية. لكن ربما يقلل من قيمة حياتنا اليومية الطابع القبيح المجرد من الإنسانية لبعض الطرز المعمارية والعمرانية، والتي إذا تم تطويرها، ستكون بطبيعتها موصلًا أفضل للموهبة الفنية والحياة الطبيعية بشكل عام.
لكنه لن يكفي تعزيز سلطة إدارة "التنسيق الحضاري"، أو التخطيط لأفعال ومنع الأخرى؛ لأن هذه الأفعال استجابة للحاجات التي يشعر بها قاطنو الأحياء التاريخية والمناطق القديمة المجاورة لها. كما أنها تعطي دافعًا يحفز هؤلاء الذين يسعون لتغيير الحال نحو الأفضل. لذا، لابد من وجود منهج ديناميكي يعترف بقيمة هذه المدن والمواطن، ويعتبرها كائنات حية لها الحق أن تتغير عبر الزمان لمواءمة متطلبات الأجيال المتتابعة. إلا أن هذا النمو يمكن أن يتم بصورة تحمي التراث، وتحرص على إبقاء روح المكان التي تعد جزءًا من الموقع نفسه.
ويذهب هذا المنهج إلى ما هو أبعد من مجرد حماية الآثار؛ حيث يحرص على إحياء التراث المعماري من خلال "إعادة الاستخدام التكيفي". ويخلق دافعًا يحفِّز الممثلين ذوي الخبرة والمستثمرين على تقديم عناصر جديدة تتناسب مع السياق الثقافي، بل وتضيف إليه بشكل ملحوظ.
-    إحياء التراث المعماري
تعد مصر واحدة من أغنى دول العالم بالآثار والتراث الأثري، بالإضافة إلى "تراثها الحديث" الضخم لما تحتويه من مبانٍ وفراغات. وعلى الرغم أن هذا التراث الحديث لم يُدرج حتى الآن ضمن الآثار القومية، فإنه يستمد أهميته من الأسماء البارزة التي يقترن بها، أو من طابعه المدني الذي يستوجب الاهتمام بالحفاظ عليه وعلى روح بعض الأماكن والمناطق المجاورة. ولن يكفي إنشاء مؤسسة تهدف إلى حماية الطابع والسياق المدني لهذه المباني، بل يجب أيضًا وضع استراتيجيات وبرامج وآليات لتنفيذ هذا الهدف.
يعد التوظيف الدقيق "لإعادة الاستخدام التكيفي" هو أهم وسائل الحفاظ على الطابع القديم ضمن سياق الجديد. فلابد من إدخال أدوار جديدة إلى سياق المجتمع الحديث، على أن تقوم التراكيب الموروثة باحتوائها بما يساعد على استعادة الموقع والشعور بنفس "روح المكان". ومن أمثلة ذلك، إحياء شارع المعز بالقاهرة، وتحويل بيت السناري في حي السيدة إلى مركز ثقافي حيوي، بالإضافة إلى تحويل بعض القصور القديمة إلى فنادق، ومنازل أخرى قديمة مثل تجربة "تياترو الإسكندرية". ويتعين إنشاء صندوق تمويل خاص لمثل هذه المشروعات (انظر إجراءات التمويل أدناه).

-    إحياء الصناعات الحرَفية
علاوة على البرنامج الضخم لترميم وصيانة القديم وإعادة الاستخدام التكيفي للمباني، لابد من إحياء الصناعات الحرَفية القديمة في البناء وصناعة الأثاث. مصر الآن تفتقر إلى حرفييها الحقيقيين منقطعي النظير، الذين كانوا يومًا مصدر غبطة للدولة العثمانية. وما يقدمه الحرفيون حاليًّا للسياح هو مجرد تقليد رخيص يبرأ منه أسلافهم القدامى. ولن يكفي إنشاء مدرسة لتدريب الحرفيين، بل لابد من دعمهم بأسواق تعرض فيها أعمالهم. مثال على ذلك، البرنامج المتنوع الذي أقامه ملك المغرب الراحل حسن الثاني من أجل إنشاء مبانٍ جديدة وإحياء القديم، وجعل الحرفيين المغاربة ضمن أمهر الحرفيين بالمنطقة العربية. وهو المستوى الذي لا يجب أن تقل عنه مصر بتراثها الثقافي الهائل.
قد يتساءل البعض عن أهمية البيئة المعمارية وتاريخها لبرنامج يتعلق بالأنشطة الثقافية الحديثة، ومكافحة الإرهاب. أعتقد أن تفسير ذلك هو الأهمية التي تكمن في مساعدته للدولة في إنشاء علاقات سليمة مع ماضيها؛ فهي بيئة تعتز بالماضي وتساعد شعبها على استيعاب أهميته وعلى استخدامه في حياتهم اليومية. ومن أهم أمثلة ذلك، دول مثل فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة، ومدى اهتمامهم بالماضي واعتزازهم به، وحفاظهم على استمراريته في المجتمعات المعاصرة حتى اليوم.
-    إعادة طلاء واجهات المباني
المظهر الذي تبدو به مصر صادم؛ حيث إن العديد من المباني القديمة القائمة والمصونة جيدًا ألوانها باهتة، ولم يقم أحد بتنظيفها منذ عقود. لذا، يجب وجود برنامج كبير لطلاء واجهات المباني وإعادة رصف الطرق، والذي سيساعد في رفع روح الاعتزاز لدى السكان، وسيساهم في الارتقاء بالمظهر العام للمدن. ومن أمثلة ذلك، التجربة التي قامت بها إحدى المؤسسات الأهلية، مؤسسة "جدران".
ولابد أن تشارك الحكومة وفقًا لنموذج معد بعناية يقوم على تقاسم التكاليف، والذي تتعاون من خلاله مع أصحاب العقارات والمباني والمنظمات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني المختصة بإدارة العمل. وضمن هذا الإطار، يتعين على الحكومة تزويدهم بالمواد اللازمة، ودفع نصف الحد الأدنى لأجور العاملين الشباب المشاركين في هذا المشروع من الأحياء المجاورة. وهذا سيساهم قليلًا في توفير فرص عمل محلية لشباب المناطق المجاورة، بالإضافة إلى إضفاء روح التجديد على المكان.
ومن الضروري أن يتم ذلك بالطريقة المناسبة؛ فلا يصح أن تحل هذه الجهود محل الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والتي ما زالت مفتقَدة أو غير لائقة.
واعترافًا بدورها في توطيد الروابط مع المجتمع المحلي، وإشراك أفراده في تطوير وضعهم الحالي، تعد هذه البرامج بمثابة الدواء الشافي لمناخ الانفصال والإحباط السائد، وهو أرض خصبة لانتشار التطرف.


25-    البحث عن التمويل
إجراءات تمويل الأنشطة الثقافية
يجب أن يكون لكل حكومة برنامج لدعم الأنشطة الثقافية، إذا أرادت الارتقاء بمجتمع سليم يرحب بالتعددية. ولابد أن توحد مصر، بما لديها من أصول ثقافية متفردة، ما بين اهتمامها بالماضي واهتمامها بالجديد. إلا أنني لن أتطرق إلى التعليم في هذه المناقشة، وسأكتفي بذكر طرق الإنفاق على الآثار والمتاحف التي يجب الاهتمام بتمويلها. وتتناول هذه المناقشة كيفية إدارة التمويلات المحدودة وتحقيق أقصى حد من الانتفاع بها لمواكبة النشاط الثقافي المعاصر فيما يتعلق بالمجالات التالية، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض المجالات تتطلب دعمًا أكبر من غيرها.
ويأتي تشكيل توزيع النفقات والدعم كالآتي:
-    المجالات التي تتطلب دعمًا أساسيًّا
•    السينما والأفلام السينمائية.
•    المسرح.
•    التليفزيون.
•    الموسيقى (الكلاسيكية).
•    الكتب (الترجمة، والنشر، والرقمنة).
•    الأرشيفات.
•    ثورة تكنولوﭼيا المعلومات.

•    المتاحف.
•    الآثار والمباني ذات القيمة التاريخية.
-    المجالات التي تتطلب دعمًا ثانويًّا (فيما يتعلق بالنسب المطلوبة لدعم هذه المجالات)
•    فن التصوير.
•    فن النحت.
•    فنون الجرافيك.
•    الفن المعماري.
•    الفنون والحرف.

•    الأدب.
•    الشعر.
-    سياسات الاختيار
في جميع الدول، تتقاسم الوزارات هذه السلطة فيما بينها، إلا أنها تخضع لضغوط سياسية تفرضها مصالح المجموعات المختلفة.
-    آليات التمويل الخاص
يخلق تمويل الأنشطة الثقافية تحديات خاصة؛ فمن ناحية، توجد السوق الحرة التي يجب أن تسمح لأصحاب الأفكار والمواهب بدعم أنشطتهم، على أن تتدخل الحكومة من خلال التعقيدات الروتينية أو بالرقابة المطلقة. ومن ناحية أخرى، مخاطرة السوق الحرة بعقد مقارنات دقيقة لتحديد قدر الفائدة التي ستعود من العمل، والتي قد لا تجد مخرجًا في النهاية. لذا، هناك حاجة إلى دعم غير تجاري؛ سواء بتدخل الجمعيات الخيرية الميسورة أو بتدخل الحكومة.
قد تقدم الحكومة دعمها المادي باقتصاصه مباشرة من الميزانية، أو من خلال إنشاء أسواق للمنتجات الثقافية بشراء الأعمال الفنية لعرضها بالمتاحف أو السفارات، أو عن طريق تعيين حرفيين وفنانين بالمشروعات الحكومية. وقد قمنا بذكر هذه الآليات فيما يتعلق بالبرامج المذكورة أعلاه بالأجزاء السابقة. وهنا نستكمل مناقشة أنواع إضافية من آليات التمويل المباشر وغير المباشر.
-    الشركات القابضة
ترعى الحكومة الشركات القابضة برسملة إجمالية تبلغ تقريبًا بليوني جنيه مصري، ورأس مال مدفوعة تبلغ تقريبًا 200 مليون جنيه مصري، وذلك لتنفيذ الآتي:
•    إنشاء مشروعات جديدة لإنتاج بعض الأفلام ذات القيمة وغيرها من المنتجات، بما يساعد على استقطاب الممولين.
•    مشاركة الموهوبين في مشروعات مشتركة لتنفيذ رؤاهم الخاصة.
•    المشاركة في رفع رأس مال المشروعات الثقافية دوليًّا.

-    ضمانات القروض للمشروعات الثقافية
يمكن أن تبادر الحكومة بتوفير هذا التسهيل بأن تحمل على عاتقها السلطة التامة والاعتبار الكامل في هيئة ضمانات قروض تساهم في زيادة التمويل المتاح عبر البنوك إلى أقصى حد. وبعد نجاح المشروع، يتم استرداد قيمة ضمانات القروض، قد تكون في صورة نصيب من فوائد العائدة في حالة تحقيق المشروع لجزء من عائد الاستثمار.
-    الاستديوهات الحكومية
تبدأ الاستديوهات الحكومية بدعم كامل من الحكومة، لكن سرعان ما تكون هناك نزعة إلى الحصول على ريع احتكاري، بدلًا من المخاطرة في المشروعات الكبرى.
ومن المقترح أن تقوم وزارة الثقافة؛ وهي الجهة الحكومية الرسمية التي تقوم بمراقبة المكتبات، بإنشاء صندوق دعم مركزي تقوم من خلاله بتوجيه مساهماتها، على أن تكون حوكمة هذا الصندوق عملاً منفصلاً عن الأعمال الإدارية التقليدية للوزارة.
وستقوم الوزارة أيضًا بإنشاء برنامج خاص للدعم الفني، بالتعاون مع كبرى المكتبات المستقلة في مصر (مثل مكتبة القاهرة، ومكتبة الإسكندرية، وغيرها)؛ وذلك لتدريب المكتبيين وتوفير الدعم الفني لهم، على أن تُسند حوكمة هذا البرنامج إلى لجنة تترأسها وزارة الثقافة.


وللمزيد من التوضيح، نتناول فيما يلي التمويل والدعم الفني بصورة منفصلة:
التمويل: يتم إنشاء صندوق تمويل مركزي؛ وبالإضافة إلى مساهمة وزارة الثقافة، تشارك كلٌّ من وزارة الإسكان والمرافق والتنمية المحلية (المختصة بالمباني والأراضي)، وأبرز المنظمات الأهلية المحلية والقومية (كحلقة وصل مع المجتمعات المحلية)، والقطاع الخاص. على أن يتم ذلك التعاون في إطار نموذج تمويل مماثل يحفز المتبرعين الدوليين والقطاعات الخاصة على المستوى الدولي حيث تسعى لرفع عائدها المالي من هذه المساهمات. وبذلك تزيد قيمة التمويل الأصلي لوزارة الثقافة بما يساوي ثلاثة أضعافها، وذلك من خلال تمويلات منظمات المجتمع المدني (نقدًا أو عينيًّا)، والقطاع الخاص، ومساهمات المجتمع الدولي.
وتستخدم أموال صندوق التمويل المركزي مرة أخرى ضمن برنامج تمويل مماثل مع المحافظات المحلية التي بدورها تساهم بتمويلها بعد أن تقوم المجتمعات المحلية بالمساهمة نقدًا أو عينيًّا لإدارة المكتبة. لذا، على المستوى المحلي أيضًا، تأتي قيمة أموال صندوق التمويل مجمعة من عدة مصادر مبنية على منهج التمويل المماثل.
الدعم الفني: يمكن إعداد تدريب منتظم للمكتبين، يتكون من مجموعة من الزيارات المنتظمة وخدمات الدعم عند الطلب (تشبه خطوط المساعدة التي يقدمها مختصو دعم البرامج الحاسوبية). ويدير هذا البرنامج مركزيًّا تشكيل مستقل تنظمه مكتبة الإسكندرية.
 أما بالنسبة لخدمات الحوسبة، فتدعمها مبادرات أخرى منفصلة ترعاها وزارة الاتصالات وتكنولوﭼيا المعلومات بالتعاون مع رعاة دوليين آخرين.
تقوم الهيئة القومية للكتاب بتزويد المكتبات بالكتب الأساسية، إلى جانب المكتبة الإلكترونية وغيرها من المصادر الإلكترونية. وتمثل هذه المنح الجزء الأكبر من إجمالي المواد غير المطبوعة والتي يمكن الرجوع إليها من خلال الإنترنت. وهي بالفعل أكثر توفيرًا من حيث التكلفة، مقارنة بتوفير الكتب محليًّا في المناطق النائية. ومن خلال دائرة تواصل واحدة، يسهل الوصول إلى كمية هائلة من المعلومات التي يتم تحديثها باستمرار. بالإضافة إلى ذلك، هذا الدعم له أهداف قومية أخرى، من حيث زيادة التواصل، وزيادة ثقافة الحاسب الآلي عبر جميع أنحاء الدولة. كما يمكن توفير خدمة الطباعة عند الطلب كخيار إضافي (مثل مشروع الكتاب المحمول الذي تقدمه مكتبة الإسكندرية).
26-    الاستثمار في الثقافة
العائد الاقتصادي الكبير من الاستثمار في الأنشطة الثقافية
إذا كان هناك الكثير لقوله حول دعم كلٍّ من هذه الأنشطة الثقافة، فالعائدات الاقتصادية وغير المالية لا يمكن المبالغة في تقديرها. ولابد بالطبع من دراسة وتقييم تكلفة كل مقترح فردي بشكل جيد، كما هو الحال بجميع البرامج والمشروعات القومية. إلا أنه من أجل إتمام ذلك بشكل جيد، لابد أن تكون مجموعة البرامج تتبادل التعزيز فيما بينها، وتتعاون جميعها من أجل إنشاء بيئة إبداعية ديناميكية متميزة ترحب بالتعددية. كما أن التنفيذ الفعّال والجيد لهذه البرامج سيعود بالنفع الكبير على مصر والدول العربية.
ومن الجدير بالملاحظة أن عددًا كبيرًا من الدول العربية يقوم بتنفيذ بعض هذه البرامج القومية، بدءًا من المغرب حتى دبي. وتستطيع مصر بريادتها للمشهد الثقافي العربي بكل صوره أن تقدم نفس المستوى، تلبيةً للحاجة لمثل هذا الإحياء الثقافي الضخم .. فهو تحول ثقافي حقيقي!
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف