الأخبار
بلومبرغ: إسرائيل تطلب المزيد من المركبات القتالية وقذائف الدبابات من الولايات المتحدةانفجارات ضخمة جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب بغدادالإمارات تطلق عملية إغاثة واسعة في ثاني أكبر مدن قطاع غزةوفاة الفنان صلاح السعدني عمدة الدراما المصريةشهداء في عدوان إسرائيلي مستمر على مخيم نور شمس بطولكرمجمهورية بربادوس تعترف رسمياً بدولة فلسطينإسرائيل تبحث عن طوق نجاة لنتنياهو من تهمة ارتكاب جرائم حرب بغزةصحيفة أمريكية: حماس تبحث نقل قيادتها السياسية إلى خارج قطرعشرة شهداء بينهم أطفال في عدة استهدافات بمدينة رفح"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيران
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

غاب نهار جرت في مخيم البريج أثناء الانتفاضة الأولى بقلم:نصر جبر

تاريخ النشر : 2014-10-09
أحداث قصة غاب نهار جرت في مخيم البريج أثناء الانتفاضة الأولى .. ليس هناك بطل محوري ..بل المخيم وأبناؤه ونساؤه جميعا هم أبطال هذه القصة التي تصور يوم واحد من أيام المخيم يتخلله منع تجوال في المخيم ..تبدأ من الساعة الثانية صباحا حتى الساعة الثانية عشر ليلا
نصر جبر

(غاب نهار ) قصة لنصر جبر مسجلة في وزارة الاعلام حقوق الطبع والنشر محفوظة.
الثانية والنصف صباحا
الحركة تدب في المخيم رويدا رويدا ..أصوات منبعثة من المطابخ توحي بيقظة أصحابها العمال لإعداد الطعام الذي يصطحبونه معهم الى العمل داخل الخط الأخضر ..وأضواء سيارات في الشوارع تلتقط العمال المبكرين إلى عملهم من المخيم ..ورذاذ خفيف متقطع من المطر بدأ يتساقط على المخيم الغارق في الفقر والظلمة ..وفوانيس الكهرباء بدت كالرؤوس المعلقة على المشانق معظمها بدون إضاءة ..وريح خفيفة بدأت تهب من الناحية الشرقية باردة قاسية ..سرعان ما زادت سرعتها لتقترب من الزوابع .
- صباح الخير يابو محمد..
حدق في اتجاه الصوت ليتبين صاحبه لكنه لم يستطع فأجاب :
- صباح النور ياخال..
- مالك على هالصبح طالع فوق الأسبست ؟
- ياعمي اتركني في حالي ..قال في نفسه ثم أجاب :
- بأحط شوية حجار فوق الأسبست لا يطيروا..
- يعطيك العافية ..
- الله يعافيك .. الله يسهل عليك ..
تزداد الرياح قوة وعنفوانا .. لف ابو محمد رأسه جيدا بالكوفية .. أسرع في عمله لكي ينهيه قبل أن تقذف به الرياح الى الأسفل..هتف بحنق :
- الله يقطع المخيمات واليوم اللي شفناهن فيه ..كنا في أرضنا مرتاحين
هتفت أم محمد من داخل الدار :
- انزل يا زلمة لتقع ..كنت حطيت الحجار من المغرب بدل لعب الشدة ..
ازداد حنقه وانفجر غاضبا :
- علي الطلاق ماانتي شاطرة إلا في الكلام ..طول عمرك إنتي واولادك مسودين عيشتي ..يخرب بيتك وبيت اولادك ..
هتفت أم محمد بصوت خافت :
- انزل يا زلمة فضحتنا على هالصبح ..إيش الناس يقولوا ؟
أشاح أبو محمد بوجهه وهو يتمتم :
- هاملة هم الناس ومش هاملة همي في هالبرد والريح ..الله يقطع النسوان واللي قانيهن..
سمعته أم محمد وهي تدخل المطبخ فقالت متهكمة :
- لو إنك شاطر في الشغل زي ماإنت شاطر في البهدلة والكلام ..
لوح ابو محمد بيده محذرا :
- علي الطلاق لأكسر راسك إذا نزلت وما سكتي..
إندفع محمد من غرفته متسائلا :
-إيش فيه ياحاجة ..مال صوت ابوي طالع على هالصبح ؟
صرخ به ابو محمد :
- كل هالدوشة وانت لابد جنب مرتك ..كنت طلعت بدالي تحط الحجار ..
قال محمد محاولا تهدئة والده :
- الله يصبحك بالخير يابا .. هو انت قلت لي وما طلعت ؟
نزل ابو محمد من أعلى ..هتف بزوجته :
إعملي شاي يا مرة ..وشوفلك سيجارة يا محمد .. دخاني خلص
أجابه محمد بتودد :
- حاضر يا حاج .. بس انت روق واهدا ..وانا راح اشرب معك شاي
ذهبت أم محمد للمطبخ لعمل الشاي .. بينما دخل ابو محمد غرفته يتبعه محمد ..تربع ابو محمد على فراشه أرضا ..ثم ضرب بيده جانبا داعيا محمدا للجلوس بجانبه قائلا :
- اقعد يا محمد ..بدي اياك في كلمتين ..
جلس محمد بجانب أبيه ..ثم مد له سيجارة ..وأخذ هو سيجارة أخرى من علبته ..وأشعل سيجارة أبيه وسيجارته ثم قال :
- خير يابا ..؟ شايفك منرفز على الحاجة ..
أجاب ابو محمد بصوت يملؤه الضيق :
- من هم الدنيا ..اذا ما فشيت خلقي فيها في مين يعني بدي أفش خلقي ؟
همس محمد بصوت حنون فيه استرضاء لوالده :
-بس برضه يا حاج شوية شوية عليها .. مااسمها إلا الحاجة ..أكثر واحدة مستحملاك ..
فتل ابو محمد شاربه ثم قال :إيش قصدك يا ولد ؟
-لا ولا حاجة .. قل لي ..خير ..؟ ايش فيه ؟
همس ابو محمد :
- دار ابو اسماعين ..ثم أخذ نفسا من السيجارة
تساءل محمد : مالهم ؟
أجاب ابو محمد وقد نفخ الدخان الى أعلى :
- طالبين ايد سوسن أختك..
أجاب محمد وقد تظاهر بعدم المبالاة :
- والله الشور شورك .. والكلمة كلمتك .. لمين طالبينها ؟
صرخ ابو محمد : وين الشاي يا حاجة .. هاتي متكة السجاير معك.. ثم أضاف : لأحمد ..
نظر إليه محمد متفحصا ثم قال :
- وايش رأيك انت ..؟
نظر أبو محمد الى إبنه بغضب ثم قال :
- أنا بأقولك ايش رأيك علشان تقولي ايش رأيك انت ؟ أنا بدي رأيك ..ايش قلت ؟
- اذا على أحمد ..فهو شاب كويس وزميلي في التدريس .. مهذب وأخلاقه عالية ..
مال ابو محمد على محمد وقال بصوت خافت :
-بس أنا سمعت انه اخوه عميل ..
ابتسم محمد ابتسامة خفيفة ثم قال :
- انت راح اتجوز أحمد والا أخوه ؟
أمسك ابو محمد بيد محمد وضغطها بشدة هامسا بصوت خافت :
- ولك إفهم ..إيش موقفنا راح يكون لو أخوه إنقمع وإلا انقتل ؟
ربت محمد بيده على يد والده بلطف قائلا :
-يابا الراجل مالو ذنب وكل واحد متعلق من عرقوبه..
- طيب اسكت .. أمك أجت..
الرابعة صباحا
المسجد مضاء .. وبعض الرجال في المتوضأ ..واخرون يقرأون القران في الداخل ..بينما بدأ المصلون يتوافدون تباعا .. يؤدون صلاة تحية المسجد وبعضهم يداعبون حبات المسبحة بأصابعهم وهم يتمتمون بالتسابيح والذكر ..القادمون يلقون السلام على الجالسين ..الريح تصفر من ثقب النافذة العلوية ..الأمطار بدأت تنهمر .. المؤذن يرفع الأذان ..اتجه الإمام الى أحد المصلين وهمس في اذنه ثم جلس في المقدمة يقرأ القران ..يونس ابن الإمام يدخل المسجد ..يقيم الصلاة .. ينهره والده ..يونس يصلي وحده بصوت جهوري ..يبتسم الحاضرون ابتسامة خجولة بينما تمتم الإمام ..إنا لله وإنا اليه راجعون ..لا حول ولا قوة إلا بالله..
أنهى يونس صلاته .. هتف بصوت عال :
- بدي أصلي لحالي وبديش صلاتك يابو يونس ..أصلا الصلاة وراك حرام..
هتف به أحد الحاضرين :
- بس يا يونس عيب عليك..
أشار يونس بيده إلى والده وهو يصرخ :
- إمامكم حرامي وبيقول عني أهبل .. واللي بيصلي وراه بيكون زيه
تمتم ابو يونس بحزن وحسرة :
- الله يهديك ياابني ..مالي بركة إلا انت ..
خرج يونس من المسجد يتمتم بكلمات غير مفهومة ..في الثلاثين من عمره ..أعزب طويل القامة ذو لحية كثة طويلة .. يلبس معطفا ثقيلا وكوفية ..حذاؤه ذو رقبة طويلة ..يمشي في الشارع تحت الأمطار ..تبتلعه العتمة ..يقيم المؤذن الصلاة ..يصطف المصلون في صف واحد لم يكتمل ..الأمطار منعت الكثيرين من الحضور ..
لا زال يونس يمشي في الشوارع وقد علا صوته بأغنيته ( يا مطرة رخي رخي ..الحكاية قلبت مخي ) ثم بصوت عال جهوري : يلعن د...يابو يونس ..يلعن د..يارابين يا خول ياابن الزنا ..كل العالم ابن كلب .. اصحوا يا عالم روحوا على الجامع ..مش سامعين الأذان ..وإلا عاملين حالكم طرشان ..بدكم اياها على الجاهز ..هاي دقني إذا حدا فيكو راح يخش الجنة .. الجنة ما بتحوا أنجاس زيكم ..إنتم واليهود زي بعض ..يلعن أبو اليهود..
إستوقفته دورية جيش مارة في المخيم ..طلبوا منه إبراز هويته ..
نظر إليهم يونس بغضب ثم قال :
انت مش عارف بتكلم مين ؟
أحد الجنود شك في سلامة قواه العقلية .. نزل من الجيب ..اقترب منه بحذر ..سأله الجندي :
- شو اسمك ؟
أجابه يونس وقد ثنى ساعديه إلى أعلى ليظهر عضلاته :
- أنا هرقل ..ملك العالم ..
ضحك الجندي الذي يفهم العربية ..هتف به الجنود :
- ما هو أومير ( ماذا يقول ) ؟
- هو أومير شي هو هرقل ..
ضحك الجنود ونزلوا من الجيب والتفوا حوله ..
نظر إليهم يونس بتحد ثم قال :
-إسمع ..أنا مش خايف منكم ولا من رابين ولا شامير ..
سحب الجندي سلاحه .. صوبه ناحيته ..ثم قال ضاحكا :
- إرفع إيديك يا هرقل ..
رفع يونس يديه قائلا :
- مش رافع ..
نظر الجندي إلى زملائه .. ثم انفجر ضاحكا وقال :
- نكاح أوتو لمحنيه ( نأخذه للمعسكر )
هتف الجنود الاخرون بسرور :
- بسيدر ..توف ميؤود..
حمله الجنود وألقوه في الجيب بقوة .. بينما تعالت صرخات يونس :
- يلعن أبوك يا كلب ..يا خول ..أنا راح أطخك ..أنا نابليون ..أنا رمسيس الثاني ..لازم أتصل بالأمم المتحدة ..
ابتعدت السيارة العسكرية حتى غابت عن الأنظار متجهة إلى معسكر الجيش في مدخل المخيم ..وأخذت صرخات يونس بالتلاشي في العتمة تدريجيا
-------
الخامسة والنصف صباحا
محلات البقالة تفتح أبوابها ..يجهز ابو العبد صاج الفلافل .. ينتظر حول الصاج بعض التلاميذ ..يأمرهم بالابتعاد عن الصاج حرصا على سلامتهم .. تتعالى أصوات التلاميذ مطالبة بسرعة الانجاز حتى يتسنى لهم الذهاب إلى مدارسهم ..اللعنات تتعالى من أبى العبد لاعنا حظه التعيس الذي أجبره على فتح هذا الدكان ..فقد كان صاحب مصنعا للخياطه قبل أن يقع ضحية أحد أصدقائه النصابين ..حيث أخذ منه ما جهزه في المصنع طوال شهر كامل مقابل شيكات مؤجلة .. ثم باعها النصاب في الضفة الغربية ولم يرجع ..فطالب تجار القماش أبا العبد بثمن القماش ..كما طالبه الخياطون بأجرتهم ..فباع ما أمامه وما خلفه ليسدد التزاماته المالية ولم يستطع تحصيل الشيكات من صديقه حيث أعلن النصاب إفلاسه ..واضطر ابو العبد لفتح هذا الدكان حتى يجد لقمة العيش ..ويسدد ما يستطيع من ديونه.
هتف ابو العبد فاهتز كرشه المتدلي أمامه :
- واحد واحد .. ما بدي فوضى ..يلعن ابو هيك شغلة
وصل الاستاذ أحمد ..المدرس في منطقة رفح ..رفع يده محييا أبا العبد :
- صباح الخير يابو العبد .. جهزي ساندويتش لو سمحت ..
رد ابو العبد بابتسامة خفيفة :
- صباح النور .. على عيني يا استاذ..
إعترض أحد التلاميذ قائلا :
- أنا قبله يابو العبد ..
نهره أبو العبد بحزم :
- إحترم أستاذك يا حمار ..
صرخ التلميذ بغضب :
- هذا مش استاذي ..وبعدين أنا قبله في الدور..
هتف ابو العبد وهو يلقي بأقراص الفلافل في الزيت الساخن :
- عيب يا ولد .. أما جيل أبالسة صحيح ..وإحنا في جيلكم كنا نشوف الأستاذ نتخبى منه
تدخل أحمد محاولا فض الإشكال :
-معلش يابو العبد .. أعطيه قبلي ..عصر الاحترام راح ..
لوح التلميذ بيده قائلا :
- والله ماني شاري ..أنا قبله في الدور ..
صرخ ابو العبد وقد نفذ صبره :
- إن شاالله ما شريت ..أما قلة أدب صحيح ..
إبتسم أحمد قائلا :
- يا عمي ما تزعل ..أنا مستعد أستنى..
ذهب التلميذ غاضبا ..بينما هتف ابو العبد :
- ولا يهمك يا أستاذ ..سيبك منه .. اتفضل الساندويتش
وصل محمد في هذه اللحظة ..طلب من أبي العبد ساندويتش بعد أن ألقى التحية عليه وعلى أحمد ..تعالت أصوات التلاميذ محتجة .. هتف أبو العبد :
- ولا يهمكوا ..الكل راح ياخذ ..بس صبركو شوية..
أخذ محمد الساندويتش ومشى بجانب أحمد متجهان إلى الشارع العام ( صلاح الدين ) المؤدي إلى رفح ..ينتظران الحافلة التي تقلهما يوميا ألى المدرسة التابعة للأنوروا ..بينما بدأ التلاميذ يلتفون حول صاج الفلافل .. الكل يطالب أبا العبد بتلبية طلبه ..فيما بدأت أفواج التلاميذ المتجهة إلى مدارسهم يملأون الشوارع بصخبهم وحركتهم المليئة بالنشاط والحيوية..
-------
السادسة والنصف صباحا
ثلاثة شبان ملثمون ..يحملون البلطات ..بيد كل واحد منهم علبة ألوان يكتبون على حائط المدرسة ..( الانتفاضة مستمرة حتى التحرير ) .. ( غدا إضراب بمناسبة الذكرى الأولى للانتفاضة ) إمضاء ..( قاوم ) القيادة الوطنية الموحدة
سيارة جيب عسكرية تخترق شوارع المخيم بسرعة ..تنهال عليها الحجارة من كل جانب ..يقفز إثنان من الملثمين من فوق السور داخل المدرسة ..يطلق الجنود النار على الثالث فيردونه قتيلا .. يقتحم الجنود المدرسة ويطلبون باللاسلكي قوات إضافية ..يحتج مدير المدرسة على اقتحام المدرسة التابعة للأونوروا .. لا يأبه الجنود لاعتراضه ويتعرض للضرب ..يثور التلاميذ في الفصول ..يخرجون لإلقاء الحجارة على الجنود ..يطلق الجنود النار والغاز المسيل للدموع على التلاميذ ..يهرب الملثمان داخل بيارة برتقال مجاورة ويختفون عن الأنظار .. تصل القوات الإضافية ويأخذون جثة الشهيد معهم .. تنطلق مكبرات الصوت منادية ( ممنوع التجول ..ممنوع التجول .. كل من يخالف الأوامر يعرض نفسه لإطلاق النار ) ..يحدث هرج ومرج وينطلق التلاميذ مسرعين إلى بيوتهم بعد أن احمرت عيونهم وسالت دموعهم من أثر الغاز المسيل للدموع ..يشرع أصحاب الحوانيت بإقفال محلاتهم .. بينما تسرع النسوة إلى الحوانيت محاولات شراء ما ينقص بيوتهن من المواد الغذائية .
- إستنا شوية يابو حسين .. لا تسكر الدكان .. بدي شوية رز
-إنت مش شايفة الجيش مالي الدنيا ..
- أي هم بدهم يقطعوا راسنا ؟ بدي كيلو رز وعلبة سمنة وسجلهن على الدفتر
- كمان دين .. والله استفدنا كتير
يهتف ابو علي من المنزل المقابل :
-بالله ابعت لي علبة سجاير امبريال ..
يصرخ ابو حسين منزعجا :
- ابعت واحد من اولادك .. مش فاضي ..
-يا زلمة ارميها من الشباك بعدين بتاخد حقها ..
- حتى السجاير دين وسجل على الدفتر ..شو هالعالم هادي..
---------
السابعة صباحا ..
سعيد ومحمود يمشيان في الأزقة الضيقة .. يحاولان الوصول إلى بيت أبي بسام ..يراقبان الشارع الرئيسي في المخيم .. يقطعانه بسرعة للوصول الى الجهة الأخرى من المخيم ..
دق سعيد الباب .. أته صوت من الداخل :
-مين على الباب ؟
هتف سعيد بصوت خافت وأنفاس لاهثة متقطعة :
- افتح يا عمي ابو بسام .. أنا سعيد عبد الله
فتح ابو بسام الباب وهو يقول :
-خير يابني ..عساك بخير ؟
أجاب سعيد بصوت مرتعش ومتهدج بالبكاء : فايز ..
تساءل ابو بسام بلهفة :
-فايز ابني ..ماله ..وين هو ؟
كان محمود لا يزال يراقب الشارع .. بينما قال سعيد وقد خنقت العبرات صوته :
- فايز كان معانا ..هو تصاوب واحنا شردنا ..
تحول تساؤله الى قلق فهتف ابو بسام :
كان معاكو وين .. وايش كنتو بتعملو ..ووين تركتوه ..وليش سيبتوه ؟
- حسينا بالجيش .. نطينا في المدرسة وهو ما لحقنا .. سمعنا صوت طخ ..وبعد هيك سمعنا من الناس انه في واحد تصاوب والجيش أخده
هتف ابو بسام وقد ارتسمت على وجهه تعابير مليئة بالجزع والقلق :
- تصاوب والا مات ..؟ قل لي ..لا تخبي علي ..؟
قال سعيد : احنا سمعنا انه تصاوب .. حبيت أخبرك علشان تروحوا تشوفوه ..
هز أبو بسام كتف سعيد بشدة ثم سأله :
- وهو وين هالحين..؟
-يمكن في مخيم الجيش .. غرب المخيم..
هتف ابو بسام :
ياأم بسام أنا طالع ..راح أشوف فايز شو صار له ..
هرعت أم بسام من الداخل مستفسرة عما حدث بقلق :
- شو صار له ..؟ أنا سامعكم بتقولوا فايز .. ايش صار له..؟
هتف ابو بسام محاولا تهدئتها :
خشي جوة وانا راح أشوف ايش صار ..
إزداد قلق أم بسام فهتفت :
- مش راح أسيبك .. رجلي على رجلك .. الدنيا منع تجول .. والبلد مليانة جيش ..بدي أشوف ابني ..
انطلق محمود وسعيد مخترقين أزقة المخيم ..بينما طلب ابو بسام من أم بسام قائلا :
- هاتي هالعباية أنا رايح للمختار ..أروح أنا وهو لمعسكر الجيش ..
تناولت أم بسام العباءة من الداخل ثم عادت وهي تقول في هلع :
- رجلي على رجلك ..بدي أشوف ابني شو اللي صارله..
إنطلقا سوية إلى بيت المختار .. الشوارع مليئة بالشباب الغاضب .. تساءل في نفسه :
-الدنيا منع تجول ..شو بيعملوا هالأولاد في الشارع ؟
حاويات الزبالة قلبت في وسط الشوارع ..وهياكل السيارات القديمة والاطارات المشتعلة تقفل الشوارع تماما .. غيوم سوداء تحلق فوق سماء المخيم ..( لا بد أن فايز استشهد .. والا ليش كل هذا ) ..اسبعد هذا الاحتمال من خاطره ..أراد أن يكذب إحساسه .. أكيد الولد استشهد ..الله بيعوض ..تماسك حتى لا تلاحظه أم بسام ..من الأفضل أن تعود إالى المنزل..
- اسمعي ..أنا شايف الوضع متوتر ..ارجعي للبيت وخليكي جنب الأولاد ..لما أشوف أنا والمختار شو اللي صار ..
هتفت أم بسام بإصرار :
-لازم أشوف ابني مهما صار ..
وصلا بيت المختار .. دق الباب بقوة ..لم يجب أحد ..لا بد أنهم في الداخل قد ظنوا أن الجيش هو من يطرق الباب ..رفع صوته مناديا :
افتح يا مختار ..أنا ابو بسام ..
بعد قليل فتح ابن المختار الباب ..هتف متسائلا :
-خير يا عمي ابو بسام ..؟
رد ابو بسام بلهفة :
- المختار موجود ..؟
- أيوة ..تفضلوا ..
- ما في وقت ..بدي إياه في مشوار ..
صاح ابن المختار من الخارج :
- يا حاج ..يابا ..عمي ابو بسام بدو إياك ..
- خليه يتفضل ..هتف المختار من الداخل ..
- ما بدي..مستعجل ..
حضر المختار بسرعة بملابسه الداخلية وقد بدا عليه الجزع ..
- خير يابو بسام ..؟
-البس بسرعة ..بدنا اياك في مشوار..
عاد المختار الى غرفته لارتداء ملابسه وهو يحادث نفسه :
-اللهم اجعله خير ..وين هالمشوار في منع التجول ..؟ لازم في اشي ..
- اتفضل ياعمي ابو بسام .. تفضلي يا عمتي ام بسام ..تريحوا لمل يلبس ابوي
-من وين هالراحة يا عمي وهالكلاب عندنا .. هتف ابو بسام..
- بيعين الله يا عمي ..خليني أعمل شاي ..
رفض ابو بسام قائلا :
ما في نفس للشاي ولا للقهوة ..خلينا نقضي مشوارنا ..
حضر المختار وهو يقول :
-توكل على الله يابو بسام ..على وين ان شاء الله ..؟
خرج الرجلان يخترقان أزقة المخيم تتبعهما المرأة متجهون جميعا إلى خارج المخيم حيث مخيم الجيش والذي حولوا جزءا منه ألى معتقل مؤقت في الخيام .. ينقل بعد ذلك المعتقلون منه إلى السجن المركزي أو مخيم أنصار في غزة ..أو إلى المعتقل في خانيونس..فيما أخذ ابو بسام يشرح للمختار همسا عن مخاوفه..
------
السابعة والنصف صباحا
سعيد يقفز من فوق سور المنزل ..لا يريد أن يحس به والده ..أبو محمد يجوس خلال الدار منشغلا بأمور تافهة .. يلمح سعيد وهو يقفز داخل المنزل .. صرخ بغضب :
- وين كنت يا سبع على هالصبح ..؟
إرتبك سعيد قليلا ثم قال بهدوء :
- كنت رايح على الشغل وصار منع تجول والجيش لحقنا ..
تأمله أبو محمد ثم قال مرتابا في الأمر :
-هو اللي بيروح على الشغل ايده ما بتتوسخ ..؟ ولابس اللي على الحبل كمان ..؟ وين كنت ؟
قال سعيد وقد خفض بصره مداريا اضطرابه :
-هو إحنا لحقنا نبدل أواعينا ..ثم أضاف قائلا في محاولة لتغيير سير الحديث :
-حتى بيقولوا إنه في شهيد ..
هتف ابو محمد بجزع :
- شهيد ..؟ الله يستر ..شوفت أخوك يا ولد ؟
- لا تخاف ..محمد وأحمد شفتهم رايحين على الموقف ..وبعدين الشهيد كان ملثم ..وانت عارف محمد ما بيتلثم ..
تساءل ابو محمد وهو ينظر الى قدمي سعيد :
-وإيش هالطين اللي في رجليك ..؟
قال سعيد وقد بدا عليه الارتباك قليلا :
- ما هو إحنا شردنا في البيارة ..وكلها طين في الشتا..
هتف به ابو محمد رافعا سبابته :
خليك عند اخوتك وما تطلع برة..وخلي أمك تحضر الفطور..
أجاب سعيد وقد أحس بالارتياح بعد ذلك الاستجواب :
-حاضر يا حاج ..ثم اتجه ناحية الباب ليفتحه..
صرخ به ابو محمد قائلا :
-على وين ..؟ ما قلت لك خليك جوة ..
قال سعيد بتودد وقد فتح الباب :
في واحد صاحبي شرد معي ..وبيتهم في اخر المخيم ..
هتف ابو محمد باهتمام ورقة :
- اه ومالو ياابني ..خليه يتفضل..
أطل سعيد برأسه من الباب ونادى بصوت خافت :
- محمود ..محمود ..تفضل ..
إندفع محمود داخل المنزل بسرعة ..رأى أبا محمد ..حياه قائلا :
- صباح الخير يا حاج ..
- صباح الخير يابني ..اتفضل ..عساك بخير ؟
- خير يا حاج ..بس الجيش مالي البلد ..ومش عارف أصل بيتنا ..
قال ابو محمد مرحبا :
-أهلا وسهلا ..تفضل ..
دخلا غرفة سعيد ..أقفلا الباب ..ألقى محمود بنفسه على سرير متهالك منهكا ..قال سعيد وقد جلس على كرسي مقابل محمود :
-أكيد فايز استشهد..
إنفجر محمود باكيا ثم قال بعصبية :
-الحق علينا ..كان لازم نساعده..
- لا تجلد نفسك ..كل واحد فينا معرض للاستشهاد..
هتف محمود وهو يضم قبضة يده ويهزها بقوة :
كان لازم نساعده
أجاب سعيد محاولا تهدئة محمود :
-مفش مجال للمساعدة ..الهجوم علينا كان مفاجئ .. ثم أردف قائلا :
- خلينا نستعد للجنازة ..
- ما أظن تصير جنازة في منع التجول .. ويمكن ما يسلموا الجثة ..
همس سعيد وهو يضغط على أسنانه :
- راح تصير غصبا عنهم ..حتى لو جنازة وهمية..
أصوات الأقدام الثقيلة تدب في الزقاق الصغير المجاور للغرفة ..واتصالات اللاسلكي تسمع بوضوح ..لا بد أنهم يطاردون الشباب المخترقين لمنع التجول ..طرقات على الأبواب المجاورة ..أوامر بفتح الباب ..يكسرون باب المنزل المجاور ..ترفع أم محمد يديها للسماء داعية الله أن يسترهم ..أوامر للجميع بالخروج من المنزل المجاور ..تتعالى أصوات النساء ..يعتلي الجميع أسطح المنازل ..أصوات التكبير تتعالى ..الله أكبر ..الله أكبر..تسقط الحجارة كالسيل الجارف فوق رؤوس الجنود الواقفين في الخارج ..الطلقات النارية تنطلق من الرشاشات في الهواء كالمطر ..الهرج والمرج يسودان الموقف ..ينسحب الجنود وهم يحاولون تفادي الحجارة مصطحبين معهم أحد الشباب الى سيارة الجيب ..تهاجمهم النساء محاولات تخليص الشاب من بين أيديهم .. يخلع الشاب قميصه بين أيدي الجنود ..ينطلق هاربا لا يلوي على شيء ..يطارده الجنود ..بينما يندفع هو في الأزقة الضيقة مبتعدا عن المكان بسرعة وخفة ورشاقة..يعود الجنود إلى سياراتهم العسكرية .. لا يزال مكبر الصوت يأمر الجميع بالالتزام ببيوتهم وعدم الخروج ..( ممنوع التجول حتى إشعار اخر )
صوت جهوري يأتي من بيت في وسط المربع :
- حمور ..بن زنا ..يا هومو ..بيعو وتريح منه ..
ينفجر الجميع ضاحكا ..بينما يشعر محمود بالقلق ..يطلب من سعيد أن يأذن له بالخروج ..يرافقه سعيد متسللا إلى الخارج ..تبتلعهما الأزقة الضيقة ..بينما يصرخ ابو محمد :
-إنتو لسه جوة .. ما بدكو تفطروا..؟
------
الثامنة صباحا
ابو خالد يستلقي على فراشه البسيط ..يلقي على نفسه غطاء صوفيا وفي يده مسبحة يداعب حباتها بكسل..ينظر الى ابنائه الصغار المستغرقين في النوم ..بينما انشغل ابناؤه الاخرون ببعض امورهم في الفناء الصغير ..فيما دخلت ام خالد المطبخ محاولة تدبير طعام الفطور مما يتيسر من موجودات البيت القليلة.
البيت يتكون من غرفتين صغيرتين يعلوهما سقف من ألواح الاسبست القديم المتاكل بفعل الشمس والامطار المليء بالثقوب من اثار الحجارة التي يقذفها الشبان على الدوريات ..وهناك اثار لثقوب اكبر في المساحة سدت بطريقة سيئة مما جعل المياه تتسرب من تلك الثقوب..فتحيل حياة ابي خالد الى جحيم عند نزول الأمطار..
تذكر ابو خالد العاصفة الثلجية التي عصفت بالمنطقة قبل عدة سنوات ..والتي غطت منطقة المخيمات الوسطى في القطاع ..حيث سقطت قطع الثلج كبيرة الحجم بسرعة كبيرة على أسقف الاسبست مما سبب في ثقبها جميعا ..هتف ابو خالد يومها : حتى الطبيعة تعمل ضدنا ..ثم استدرك قائلا : استغفر الله العظيم .. استغفر الله العظيم .
في ركن اخر من المنزل يقع المطبخ والحمام في نفس المكان ..بينما في الركن الاخر من الفناء يقع المرحاض البلدي..والتي تنبعث منه رائحة كريهة على الدوام .
أفاق من شروده على صوت وقوع انية ..فهتف قائلا :
-شوفي ايش وقع وهاتي الفطور..
رائحة البول المنبعثة من الغرفة تمتزج برائحة الرطوبة المزمنة فيها ..سعل قليلا ..
- لعنة الله على الربو..
هتف وهو لا يزال يسعل بينما فتش في جيبه عن سيجارة فلم يجد ..صرخ بإبنه الأكبر :
- خالد..خالد..
حضر الفتى مسرعا من الفناء قائلا :
- نعم يابا..
- روح شوفلك سيجارة من ابو توفيق..
تردد خالد قليلا ثم قال :
- خلي نادر يروح احسن ..بلاش الجيش يكون برة..
- نادر صغير وما بيعرف يدبر حاله..
قال خالد وقد اقترب من ابيه وفي صوته رجاء :
-يابا اذا مسكني الجيش راح يكسرني..
وصلت الام حاملة صينية كبيرة عليها طعام الفطور المكون من الخبز الجاف المسخن وقليلا من زيت الزيتون وبعض حبات الزيتون الاخضر ..وصحن صغير فيه قليلا من الزعتر ..
نادت الام بصوت مرتفع:
- يالله يااولاد تعالوا افطروا ..
وضعت الصينية امام ابي خالد ..ثم اتجهت الى الاطفال النائمين توقظهم حتى ينالهم نصيبهم من الطعام قبل وصول الاخرين وقضائهم عليه ..
- جيب هالراديو تنسمع الاخبار ..
هتف ابو خالد بينما امسك رغيفا وقطعه قطعتين .. وضع احداهما على الصينية وامسك الاخرى بيده ..تناول حبة زيتون قذفها في فمه واتبعها بقطعة من الخبز ..
التف حول الصينية جميع الابناء ..بدأت المناوشات بينهم على المكان ..
-لز لهناك ..ماليش وسع ..
- وين بدي اروح يعني ..دير حالك واقعد بالجنب..
صرخ بهم ابو خالد :
-بس ولك انت وهو ..كل وانت ساكت..
- كيف بدي اكل ..؟ خليه يوسع ..الاكل خلص ولسه ما قدرت أقعد..
غضب أحدهم فانتفض واقفا وفي يده طبق الزيتون وقال مبتعدا عنهم :
-طيب والله لاخذ الزيتون وما بدي اكل غيره..
صرخ ابو خالد وفمه مملوء بالطعام :
- حط الصحن يخرب بيتك .. اقعد كل زيك زي اخوتك ..
أجاب الولد متذمرا :
-مانت شايف فيش الى وسع ..
هتفت الام وهي واقفة تنظر اليهم بحنان وشفقة :
-وسعوا لخوكو يااولاد ..وانت يا خالد ضم رجليك شوية
نظر ابو خالد الى الام وقال بحدة وعصبية :
- من اليوم وطالع حطي الاكل على مرتين .
أجابت الام وقد ذهبت الى المطبخ :
-أي هو في اكل لمرة واحدة علشان اعمل مرتين .. خليها على الله ..
تسابقت الأيدي المتشابكة في التقاط ما تبقى من طعام ..بينما نهض ابو خالد متجها الى باب الدار ..رأته زوجته فهتفت به :
- على وين يا زلمة ..؟ ليمسكك الجيش ..
أجاب وهو يفتح الباب بعصبية:
- إن شاءالله مارديت .. روحي طلعت من هالاولاد ..شاطرة في الخلفة والولادة ..شو بدي اسوي في كل هالجيش اللي عندي..؟
إندفع ابو خالد خارج البيت ..تفاجأ بوجود كيس ملقى على الأرض بجانب الباب ..نظر الى باب ابي صالح المجاور لبيتهم ..رأى كيس اخر أمامه..اتجه الى بيت ابي صالح ..دق الباب بخفة ..جاءه صوت من الداخل : مين ؟
هتف بصوت خافت :
افتح يابو صالح ..انا ابو خالد ..
فتح ابو صالح الباب وهو يقول :
-خير يابو خالد ..؟ تفضل ..
أشار ابو خالد بيده الى الكيس الملقى امام الباب قائلا :
-شفت الكيس هذا ..؟
- لا ..بس يظهر هذه معونات ..
قفل ابو خالد الى بيته عائدا وهو يقول :
- تأروح أدخل الكيس بتاعنا .. والله أجا في وقته..
توقف كمن تذكر شيئا ..التفت خلفه وسأل ابا صالح :
- في معك سجاير يابو صالح ؟
أخرج ابو صالح سيجارة من جيبه ..أراد أن يشعلها لأبي خالد الذي قال :
-لا..لا تشعلها هالحين ..راح أشربها على كاسة شاي ..
دخل ابو خالد بيته وهو يحمل كيس المعونات ..ثم هتف بأم خالد قائلا :
- تعالي يا مرة شوفي ..يظهر فرجت ..
حضرت ام خالد مسرعة ويدها مبلولة من اثار جلي الاواني في المطبخ ..جففتها بثوبها ثم قالت :
- خير يابو خالد..؟
أفرغ ابو خالد محتويات الكيس أرضا فتناثرت المعلبات في أرجاء الغرفة ..شرعت أم خالد في جمعها وهي تقول مندهشة :
-من وين كل هالإشي يابو خالد ..؟
قال وهو يتفحص المحتويات :
- أولاد الحلال كتار ..يظهر في حملة معونات في المخيم..
هتفت ام خالد رافعة يديها الى السماء :
- الله يجزيهم كل خير ..الحمد لله يارب..الله اعلم بالحال..
- الله ما بيقطع حدا يا بنت الحلال..روحي اعملي كاسة شاي .. بدي أشرب سيجارة..
------
الثامنة والربع صباحاً ....
وصلوا إلى معسكر الجيش ... طلب المختار من الجندي أن يقابل الضابط المسؤول ... أمرهم بالانتظار قليلاً في الخارج ... كان أبو بسام يلهث ... والعرق يتصبب منه رغم برودة الجو ... جلست أم بسام أرضاً واضعة يدها على خدها .. قال المختار :-
- ياخوفي لا ياخذوه على المشرحة في أبو كبير ...
هتف أبو بسام برجاء :
- اعمل معروف يا مختار ... لا تخليهم ياخذوه
- وأنا ايش طالع في ايدي يا أبو بسام ... هدول ناس ما في قلبهم رحمة
- الله أكبر منهم ... الله ياخذهم
استعادت أم بسام شريط ذكرياتها مع ابنها فايز ... لم تتصور يوماً أن هذا الشاب الهادئ الخلوق ... المجتهد في دروسه أن يكون بين الملثمين ونشيطي الانتفاضة ... كان باراً بوالده ... عطوفاً على والدته ... يحب الجميع ... ويحبه الجميع...
هتفت في نفسها :
- دائماً يختار الله الأبرار مبكراً ... ثم انفجرت في بكاء صامت فسالت الدموع على خديها ساخنة متدفقة... مسحتها بغطاء رأسها وهي تتمتم ... إنا لله وإنا اليه لراجعون ...
كانت تدخل المعسكر بين الفينة والأخرى سيارة عسكرية تحمل الأشخاص المعتقلين من المخيم والمخيم المقابل ...جميعهم معصوبي الأرجل ... ومربوطي اليدين إلى الخلف ... أصوات التعذيب للمعتقلين تصل إلى مسامعهم ... فأثارت في نفوسهم غضباً وحنقاً ... زادهما طول الانتظار في الباب ... فهتف المختار بالجندي :
- أنا طلبت منك مقابلة الضابط ... إحنا بقالنا ربع ساعة على الباب ... بدنا اياه ضروري ...
حضر الضابط بعد قليل ... طلب مقابلة المختار وحده ... لا يريد أي إزعاجاً داخل المعسكر ... تحدث إليه المختار وهو يشير الى أبي بسام وأم بسام ... عاد المختار بعد قليل ... استقبله أبو بسام هاتفاً :
- ها يا مختار ... وين الولد ... ؟
أجاب المختار بلهجة فيها خيبة أمل وعزاء :
- الولد تعيش انت ..
انهار أبو بسام وجلس أرضاً ... انتبهت أم بسام ... أدركت الموقف ... نهضت متسائلة :
- وين الولد يا مختار ... ايش صار له ؟
- فايز استشهد ...
صرخت أم بسام عالياً .. اتجهت الي بوابة المعسكر محاولة الدخول ... منعها المختار وأبو بسام ...هتف بها أبو بسام:---
- الله يعوض علينا ... احنا مش في الصراخ هلحين ... خلينا نشوف شو بدنا نعمل ...
أصرت أم بسام على الدخول قائلة :
- بدي أشوف ابني ... مش بيكفي قتلوه ... تمنعوني من شوفته كمان ...
أمسك بها المختار محاولاً تهدئتها قائلاً :
- يا اختي أم بسام ... الولد في المشرحة في أبو كبير ... يمكن العصر يسلمونا إياه ...
عادو الى المخيم ... لازال المخيم في حالة غليان ... تجمع الناس حول منزل أبي بسام كل يريد معرفة مصير فايز ...
وإن كانو يشكون في أنه قد نجا من الموت ...
-----

التاسعة والنصف صباحا
أفاقت خولة من نومها مرهقة ..اثار الارهاق والتعب بادية عليها ..فقد كانت الليلة السابقة ليلة حنتها ..لا زالت أصوات الموسيقى والطبلة تتردد في أذنيها ..
تثاءبت في كسل ..أزاحت الأغطية الثقيلة عنها ..نزلت عن سريرها ..جمعت شعرها بيديها وربطته بربطة مطاطية..
دقت الأم الباب ..فتحته خولة قائلة :
- صباح الخير يمة ..
ثم استدارت واتجهت الى علاقة الملابس لتلبس الروب قائلة :
-هو فتحي ماجاش ..؟ تأخرنا عن الكوافير ..ميعادي الساعة عشرة ..
ضحكت الأم ثم قالت :
ما في كوافير اليوم ..
أدارت خولة رأسها ثم قالت متعجبة وقليلا من الانزعاج :
-شوبتقولي يمة ..كيف فيش كوافير ..؟
هتفت الام بمزاح :
- بطلنا الجيزة ..خلص ..
بهتت خولة وهي تستمع لامها .. فتحت فمها دهشة .. وسرعان ما ضحكت الأم وقالت
-بعد الشر ياحبيبتي ..بس الدنيا منع تجول ..
منع تجول ..ماسمعت الميكروفون بيزعق ..
- من تعبك يا حبيبتي ما حسيتي بشيء
هتفت خولة بجزع :
-وايش بدي اعمل هالحين ..؟
العمل عمل ربنا ..تنشوف ايش بيصير ..
خلعت خولة الروب وألقته على السرير ثم عادت لتتمدد على سريرها قائلة :
-أجت الحزينة تفرح مالقتلهاش مطرح..يعني يوم فرحي يصير منع تجول ..؟
جلست الأم بجانبها ..ربتت على كتفها بحنان قائلة :
- لعله خير ياحبيبتي ..اليوم والا بكرة كله واحد ..
أجابت خولة بضيق :
- لا مش كله واحد .. الفرح انفقس ..
-وايش يعني ..انت في الاخر رايحة بيت زوجك ..
هتفت خولة وقد ترقرقت عيناها بالدموع :
- حتى فرحة العمر ما بتهنى فيها ..هي ليلة واحدة ياربي..
-استغفري ربك .. هذه قسمتك ..
اندفع سامح داخل الغرفة قائلا :
- في أمبالانس واقف في الشارع .. أبصر مين صاير له حاجة ..؟
أشارت الأم بيدها قائلة :
-روح شوف على مين جاي وتعال قلنا ..خليني قاعدة مع أختك ..
لم تكد تنهي جملتها تلك حتى سمعوا طرقات على الباب ..نظرت الأم إلى خولة بتعجب ثم صرخت على سامح قائلة :
-شوف يا سامح مين على الباب ..
فتح سامح الباب ..كان سائق سيارة الاسعاف واقفا بالباب ..هتف بسرعة :
- ممكن أدخل ..؟
خرجت الأم وقد أغلقت خلفها باب الغرفة ..قالت متسائلة
خير يا خوي ..ايش في كفا الله الشر ..؟
هتف بسرعة :
- خلي خولة تجهز حالها وتجيب شنطة واحدة بس ..راح أرجع علشان اخدها على الكوافير .. أنا بعتني فتحي ..
هتفت الأم وهي تدعوه للدخول :
- تفضل ياخوي ..بس ايش هالكلام اللي بتقوله ..؟ معقول أزوج بنتي في منع التجول .؟
استدار السائق ليخرج وهو يقول :
-يأختي الراجل جهز نفسه ..وعزم الناس ..وذبح العجل من الصبح ..مش معقول يخرب العرس ..جهزي نفسك معاها .. باقي القرايب بيجوا على الصباحية بعد ما يفك منع التجول ..
- حاضر ياخوي ..
- أنا راح أرجع بعد نص ساعة ..كونوا جاهزين..
أغلقت الباب خلفه ..اتجهت ناحية غرفة خولة ..بينما وقفت خولة بالباب وهي مستغربة من حديث السائق ..
سألتها أمها وهي تبتسم :
-إيش يا عروس ..بدهم يوخدوكي بالأمبالانس..
ضحكت خولة وهي غير مصدقة ..ثم قالت :
-يا فرحتي والناس شايفاني في بدلة الفرح في الأمبالانس ..
- مش راح تلبسيها هالحين ..تلبسيها في الكوافير ..واحنا مالنا ومال الناس ..عريسك مجهز حاله ..ومش ممكن التأخير ..
عضت خولة على اصبعها برفق وهي تفكر ..ثم قالت :
- تأروح أجهز حالي ..وانت كمان جهزي حالك .. وبناخد سامح معانا ..
ثم أردفت قائلة :
-بس لازم تصيري ممثلة مدة دقائق بس ..
- ايش قصدك يا بنت ..؟
- لازم تعملي حالك عيانة .. وعند الحاجز لازم تتوجعي ..
- حاضر يا سيادة المخرج ..بلكي نطلع في التلفزيون ..
جهزت خولة شنطة صغيرة ..ووضعت علبة الماكياج وبدلة الزفاف فيها ..وبعض الملابس الضرورية ..أبقت باقي ملابسها في الدولاب ..لبس سامح ملابس جديدة ..هتفت الأم مخاطبة جارتها قائلة :
-ياأم العبد ..ياأم العبد ..
أجابها صوت أم العبد القادم من بيتها :
-خير ياأم سامح ..؟ الله يصبحك بالخير ..
- الله يسعدلي هالصباح ..بدي اياكي تديري بالك على الدار ..
على وين يا مسهل في منع التجول ..؟
هتفت الأم ضاحكة :
- أعراس اخر زمن ..من بعد الفرس والهودج صاروا ياخدوا العروس في الأمبالانس..
- والله بنتي كانت تقول ايش بدها تعمل خولة في الفرح ..؟
- معلش ياأم العبد ..مش راح تقدروا تحضروا ..بتيجوا على الصباحية ان شاء الله..
أحكمت الأم إغلاق الغرف جيدا ..جمعت حاجاتها منتظرة سيارة الاسعاف .. توقفت السيارة مقابل منزلهم ..فتحت الباب وخرج الجميع الى الشارع بينما هتفت أم العبد :
- مع السلامة ياأم سامح ..
فتح الجيران نوافذهم ..الكل يودعهم بحسرة .. امتلأت الماقي بالدموع ..
- والله كان نفسنا نحضر عرسك يا خولة ..
- يالله ايش بدنا نعمل ..
انطلقت السيارة بهم مسرعة لتغادر المخيم إلى مدينة غزة ..بينما أغلق الجيران نوافذهم ..وانشغل كل منهم بأموره الخاصة ..
-----
الحادية عشر صباحا
خرجت الحاجة عائشة من الغرفة وفي يدها وعاء مملوءا بمخلفات طعام الفطور ..وبعض الخبز الجاف الدقوق بعناية حتى أصبح قطعا صغيرة جدا تسهل ابتلاعها من قبل الدواجن ..نادت بصوت مرتفع فيه لحن جميل :
- تيعه - تيعه - تيعه
ثم قبضت بيدها من الوعاء قبضة من الطعام ونثرته على الأرض الرطبة ..فتسارعت الدجاجات لالتقاط الطعام بهمة ونشاط حتى اختفى ..فعاودت الحاجة رمي الطعام مرات ومرات وهي تتأمل تلك الطيور وتتفقدها ..
- وين الديك بتاعكن رايح ..
هتفت في نفسها ..ثم نادت بصوت مرتفع :
- يا محمود يا جدة ..تعال شوف الديك وين رايح..
- استني ياجدة بس أخلص المرجيحة ..
قال محمود بينما استمر في ركوب الأرجوحة التي صنعها له والده بربط حبل غليظ على فرع أحد أشجار الجميز المنتشرة بجانب المنزل .
هتفت به بحزم وشدة :
بأقولك انزل شوف الديك وين ..انت ما صدقتك يصير منع تجول علشان تروح من المدرسة تتمرجح..
أبطا من حركة الأرجوحة رويدا رويدا ..ثم قفز منها إلى الأرض ..فسقط على الطين ملوثا ملابسه ..
- وكمان وسخت أواعيك..
قام غاضبا وهو يحاول أن يزيل الطين عن ملابسه فتزداد تلوثا من يديه المتسختين فهتف متبرما :
-كله منك ..يلعن ابو الديك على ابو الفراخ..
قال بغضب وقد وقف أمامها رافعا يديه جانبا..
-هيك يعني خليتيني أقع علشان أمي تضربني ..
اتجهت ناحيته ملوحة بيدها متظاهرة بعزمها على ضربه :
-أنا اللي راح أضربك اذا ما رحت شفت الديك وين ..
هرب داخل بيارة الحمضيات مبديا سخطه وتبرمه برفعه يديه والتلويح بهما وهو يقول :
- كل حاجة محمود ..محمود .. هي في عشرة جوة غيري ..ما شفتي غير أنا ..
نظرت الحاجة عائشة من مكانها الذي يطل على المخيم ..فرأت السماء ملبدة بسحب الدخان المتصاعد إلى أعلى من عدة أماكن في المخيم .. وأصوات طلقات نارية تأتيها من بعيد ..فانقبض صدرها قليلا ..ثم هتفت في نفسها :
- انت وبختك يا سعاد..
كان منزل الحاجة عائشة يقع على ربوة شرقي المخيم ..له فناء واسع في البيارة التي تركها لها زوجها بعد وفاته ..والتي تنتهي حدودها عند وادي غلبة .. الحد الشرقي للمخيم..
تذكرت ذلك اليوم قبل أربعين عاما بعد هجرتها هي وزوجها من المجدل ..حين وصلت الى غزة ..لم يكن أحدا من الأبناء قد ولد بعد ..وفكرت في شراء هذه القطعة من الأرض ..فلاقت معارضة شديدة من زوجها ..إن عمله في النسيج ..الأفضل أن يشتري له نولا يعمل عليه بدلا من ان يتجه للزراعة ..لكنها كانت تعشق الأرض ..وتعمل بها قبل زواجها ..حيث امتلك ابوها أرضا واسعة في قرية حمامة المجاورة للمجدل ..
تذكرت أيضا إصرارها على شراء قطعة الأرض وتهديد أبي عادل زوجها لها بأن تختار بينه وبين الأرض ..فاختارت الأرض ..فرفض أن يأتي معها لصاحب الأرض للمفاوضة على الشراء ..فاصطحبت والدها وأخاها إلى منزل صاحب الأرض ..لكنه لحق بهم بعد قليل وهو يبتسم وكأنه أحس بخطئه..
كان بئر المياه الجوفي هو أول بئر يحفر في تلك المنطقة ..وكان يوزع المياه على الأراضي المجاورة والتي أصبحت تزرع بالخضار بدلا من الزراعة الموسمية للشعير في انتظار المطر ..وكانت أول من غرس أشجار البرتقال والجريب فروت في المنطقة ..فبدت البيارة بعد عدة سنوات كواحة في الصحراء ..سرعان ما تبعها أصحاب الأراضي المجاورة باستصلاح أراضيهم وازالة الحشائش ذات الجذور الضاربة بعمق في الأرض مستغلين العمالة الرخيصة من أبناء المخيم ..وغرسها بأشجار البرتقال والليمون والزيتون ..حتى بدت تلك المنطقة كجنة فيحاء ..فيها ما تشتهي الأنفس من الثمرات ..
قطع عليها شريط الذكريات صوت محمود قادما من البيارة :
-هي اخر مرة أجيب الديك فيها ..المرة الجاية خلي تامر يجيبه..
جاء الديك يجري أمام محمود متهاديا بعرفه الأحمر القاني ..وريشه الأبيض المرقط بالبقع البنية .
-دك ..دك .. تيعة تيعه..
رمت له بقبضة من الوعاء أرضا ..ضحكت في نفسها وقالت بصوت مسموع :
- مشيتك زي مشية ابو عادل الله يرحمه ..
-مين اللي مشيته زي مشية أبوي يا حاجة ؟
فاجأها صوت ابنتها سميرة ..فارتبكت قليلا ثم تمالكت نفسها وقالت بجدية :
- إيش عاملة مرت أخوكي ..؟
تناولت ابنتها وعاء الطعام منها ورمت بقليل من الطعام وهي واقفة إلى جانبها ثم قالت :
- كويسة ..ايش بدنا نطبخ اليوم ؟
أشارت بيدها الى الدجاجات قائلة :
- ادبحي فرختين بلدي .. واذبحي ارنب علشان مرت أخوكي ..أنا شايفها راح تلد الليلة .
لم تكد تنهي جملتها تلك حتى حضر حفيدها تامر من الداخل وهو يصرخ بصوت عال :
- يا جدة ..يا جدة ..أمي بدها إياكي جوة ..بطنها بيوجعها..
ابتسمت الجدة وهي تنظر إلى حفيدها بحنان ..فمسحت بيدها على رأسه قائلة :
- لا تخاف يا جدة ..راح ييجيلك أخو ..
ثم أردفت قائلة :
-وين ابوك يا تامر ..؟
- أروح أشوفه في بيت ابو سلمان ..بيلعبوا شدة ..
دخلت الحاجة البيت وهي تشير لحفيدها بيدها :
- روح ناديه وخليه يشد الحصان على الكارة..
دخلت الحاجة غرفة عادل فوجدت سعاد تعاني الام المخاض ..فسألتها بحنان :
- في معك وسع ؟
ردت سعاد بضعف وصوت واهن :
-باين الشيء استوى يا عمتي..لازم أروح على العيادة ..
-على الله يابنيتي ..على الله..شدي حيلك وامسكي حالك لغاية ما نوصلك ..
ثم اردفت في نفسها :
- يا خوفي ليمنعونا ندخل المخيم ..شو بدي أعمل ..؟
كانت الطريق الوحيدة التي تربطهم في العالم الخارجي تمر من وسط المخيم ..ورغم عدم سريان منع التجول عليهم فهم يعتبرون معزولون عن العالم تماما ..فالمخيم من غربهم ..والحدود الدولية من شرقهم ..كما أن مياه الأمطار المتدفقة في وادي غلبة تقطع الطريق عليهم ولا تستطيع السيارات قطع الوادي فيضطرون الى استخدام العربات التي تجرها الخيول أو الحمير..
-جهزي حالك وخدي أواعي للولد .
-جاهزة يا عمتي ..
ردت سعاد بصوت خافت وهي تضع يدها على بطنها ..
-وين جوزك راح ..؟ طول النهار يلعب شدة ..
-مالك يا حاجة ..خير ان شاء الله ؟
هتف عادل وهو يدخل غرفته بسرعة ..
- مرتك راح تولد ..جهز الكارة بسرعة ..
-حاضر يا حاجة ..ثواني والكارة تكون جاهزة ..
حملت سميرة بقجة متوسطة الحجم بيد وساعدت باليد الأخرى زوجة أخيها ..بينما أمسكت الحاجة باليد الأخرى لسعاد وهي تقول :
- على مهلك ..شوية شوية ..يا عادل جهز المشمع ..أنا شايف المطرة راح تزرنا في الطريق..
فرش عادل أرضية الكارة الخشبية بمفرش ..ثم صعدت سعاد بمساعدة الحاجة وعادل الى ظهر الكارة ..بينما وضعت سميرة البقجة بجانب سعاد وقبلتها وهي تقول :
- تقومي بالسلامة ان شاء الله ..
صعدت الحاجة إلى الكارة ..ثم مشى عادل أمام الكارة ممسكا باللجام حتى وصل باب الحوش الكبير ..ففتحه واخرج من الكارة ثم قفز ألى ركن من الكارة وهو يقول :
- سكر الباب يا محمود ودير بالك على اخوتك..
انطلقت الكارة بحذر هابطة المنحدر المؤدي الى المخيم ..وصل وادي غلبة ..اجتازت الكارة جدول المياه المنساب في قاع الوادي والذي لم يتحول بعد إلى سيل جارف ..وصل إلى طرف المخيم الشرقي ..
- يا ساتر يارب .. الله لا يجيبكوا ..ايش بتعملوا هان ؟
هتف في نفسه ..بينما رفع الجندي يده امرا بالتوقف ثم سأله :
- على وين ..؟
أشار عادل بيده إلى ناحية المخيم قائلا :
-رايح العيادة .. بيت حوليم ..في ييلد ..
رد الجندي ببرود قاتل :
-ممنوع ..منع تجول ..
هتفت الحاجة بغضب وهي فوق العربة :
- ايش يعني منع تجول ..؟ المرة بدها تولد يا خواجة ..وانت تقول منع تجول ..؟
-ممنوع يا خبيبي ..
أجاب الجندي وقد أشار بيده امرا إياهم بالعودة ..
- حبك برص ..المرة بدها تموت وانت بتقول ممنوع يا خبيبي
-شو بتقول ..؟
سأل الجندي عادلا بهزة من رأسه ..
-بتقول المرة وضعها خطير ولازم تروح العيادة..
تدخل جندي اخر قائلا :
- إنت بتروح البيت والا اخدك على الحبس..
- هي الدنيا فوضى ..؟ انت ما عندك رحمة ..فيش انسانية ..
هتفت الحاجة بالجندي بغضب وثورة ..بينما ازداد طلق الولادة لدى سعاد فصرخت دون وعي :
-إلحقيني يا عمتي ..وينك يامة ..
- الله يخرب بيتكوا ..المرة بدها تروح منا ..وانتوا قاعدين تتفرجوا علينا ..
صرخت الحاجة وهي تترجل من العربة مقتربة من الجندي ملوحة بيديها ..دفعها الجندي بعيدا فسقطت أرضا ..ساعدها عادل على النهوض وقد امتلأ غضبا ..لكنه تمالك نفسه ثم قال :
-مفيش فايدة يا حاجة ..لازم نشوف حل ..
صرخت سعاد ثم عضت على منديل في يدها وبدأت تأن ..
ركبت الحاجة العربة ثم أمرت عادل بالعودة قائلة :
-إرجع قبل ما تعملها في الشارع ..راح أولدها أنا ..ايش بدي اعمل ..ربنا يستر ..
إخترقت صرخات سعاد الفضاء الفسيح ..فبدت كضحية يفترسها القهر والظلم والعدوان ..
إتخذت الحاجة القرار الحاسم ..لا وقت للعودة الى البيت ..
- إركن هالكارة ..وحط المفرش على الأرض ..وظلل علينا بالمشمع ..لازم أولدها هالحين
إبتعد عادل عن مرأى الجنود ..وضع طرف المشمع على العربة وثبته بقليل من الحجارة وصنع ما يشبه الخيمة فوق زوجته وأمه ..بينما باشرت الحاجة عملية التوليد تحت المشمع ..فيما وقف عادل حائرا يملأه شعور بالغضب والعجز ..
- ناولني شوية شرايط قماش من البقجة يا عادل ..وانت ياسعاد ادفعي معي ..لمل تيجي الطلقة ساعديني وادفعي بقوة ..
الصرخات تتعالى ..والحاجة تعمل جاهدة ..يالله ..الراس بينت ..شدي حيلك معي ..ياالله يا حبيبتي ..أيوة ..كمان شوية ..هاداهو ..
إنطلقت صرخة حادة ..تبعتها صرخات صغيرة من المولود ..تنهدت سعاد وقد غطاها العرق ..فيما هتفت الحاجة :
- الحمد لله على سلامتك ..مبروك يابني ..ولد ..
أشعل عادل سيجارة ..نظر إلى ناحية المخيم ..إحساسه بالضعف والعجز والظلم كاد أن يمزقه ..نفخ دخان سيجارته وبدأ في لف المشمع ..وضعه على العربة ..ساعد زوجته على الصعود إلى العربة ..أمسك بالوليد من بين يدي الحاجة وقبله ..صعدت الحاجة إلى العربة ..ناولها الطفل ..قفز إلى العربة ..
- حا ..
- مبروك يابني ايش بدك تسميه ..؟
- غضب..
-----
الثانية عشر والنصف
فتحت خضرة باب الدار بهدوء...بعدما نظرت من ثقب الباب الموجود في الصاج المغطي لإطار الخشب ليكون بابا لا يصمد امام الركلات الوحشية...تأكدت من خلو المكان من الجنود حين اطلت برأسها والتفتت يمينا ويسارا...اندفعت الى الخارج وبين ذراعيها سلة بلاستيك مليئة بالغسيل ...سألت سهيل الواقف على رأس الشارع وهي تضع سلتها ارضا:
_في قبالك جيش..؟
اجابها وهو يخفي نفسه بالجدار:
_الجيش عند المدرسة...
_الجيب ...والإ الرجلية...
_لا...رجلية...قاعدين جنب حيط المدرسة...
_يظهر عليهم زهقانين حالهم امرّ منا...
كانت حبال الغسيل امام المنزل مثبة في دارهم... والطرف الآخر في المنزل المقابل...فيلجأ المرء الى الانحناء حتى يستطيع المرور من الشارع الفرعي... لكنه يضطر لإزاحة الغسيل جانبا عندما يكون الغسيل معلقا على الحبال...دون ان يكون له الحق في الاحتجاج او الاعتراض...فالمنزل ضيق... لا تدخله الشمس... والفرصة جيدة للاستفادة بهذه الشمس الساطعة والعمودية...حتى يجف الغسيل بسرعة... كما انها فرصة للخروج هروبا من الازدحام الشديد في الداخل.
شرعت خضرة في نشر غسيلها على الحبال... وسرعان ما بدأت الابواب تتفتح ويخرج منها النساء للقيام بنفس العمل امام بيوتهن... او ربما استمدوا شيئا من الامان من رؤيتهن لأحد السكان في الخارج ... فهذا يعني خلو المكان من الجنود ... وربما اتخذت بعض النسوة نشر الغسيل كذريعة للخروج خارج المنزل ...والتحدث للجارات رغم انهن لا يجتمعن في الاحوال العادية...
هتفت زينب بخضرة... فيما حملت الاولى طبقا من الطعام وهي تدق منزل ابي طلال:
_شايفك غاسلة اليوم ... مش لاقية إلا هاليوم تغسلي فيه...؟
اجابتها خضرة وهي مستمرة في نشر الغسيل :
_والله يا اختي قمت من الصبح وغسلت ... واذا بقي الغسيل فوق بعضه بمكمس...
ثم التفتت اليها خضرة سائلة:
_ايش طابخين اليوم؟؟
اجابتها زينب وهي تدق باب ابي طلال :
_شوية خبيزة...كنت لقطتها امبارح من البيارة...
عادت زينب الى نشر الغسيل قائلة :
_ابعثي لي صحن ... والله عاطف بحبها...
_ولا يهمك...
_والله اليوم ما فضيت اطبخ... باعمل شوية مقالي مع صحن الخبيزة ونمشي حالنا...
كان شارعهم عموديا على الشارع العام ليمتد الى منزل ابي سهيل ,وكان بعض الشباب يقفون على رأس الشارع... وبعض الاطفال يلعبون في الشارع الفرعي... كادت خضرة ان تنهي نشر غسيلها ,وفجأة... انتفض الجميع من اماكنهم ... واسرعت النساء تحمل اطفالهن وتدخلهم البيوت بسرعة ...فيما وقف الشبان وبأيديهم الحجارة في الازقة ...واسرع بعضهم الذين تبتعد بيوتهم من الشارع الى بيوتهم ...
نظرت خضرة حواليها فرأت الشارع قد خلا تماما من الناس ... ما عدا رؤوسا تطل من زاوية الازقة...
كانت السيارة العسكرية قادمة بسرعة جنونية...حتى ان خضرة لم تستطع انهاء مهمتها في نشر الغسيل ...ودخول المنزل...وربما اعتمدت على كونها امرأة وظنت ان الجنود لن يعاقبوها على مخالفتها العسكرية...او ربما احست في نفسها بشيء من التمرد والتحدي...
كانت السيارة العسكرية في تلك اللحظة تقطع الشارع بسرعة ...فانهالت عليها سيول من الحجارة...حتى ان بعض الحجارة القادمة من الطرف الاخر للشارع قد اصابت قدم خضرة فآلمتها.
خرج الشبان من اماكنهم حتى انهم وصلوا الى بعد امتار معدودة من السيارة وهم يقذفونها بالحجارة ويلاحقونها الى الشارع الكبير دون خوف او وجل بل بعزيمة وإصرار...
توقفت السيارة فجأة...هبط منها الجنود مسرعين بخوذاتهم الحديدية واغطية الوجه البلاستيكية... تراجع الشبان الى زاوية الازقة...انتشر الجنود يطاردون الشبان الذين فروا بين الازقة بسرعة كبيرة...تراجعت خضرة عن تحديها ودخلت المنزل بسرعة..
كان باب منزل عاطف في تلك اللحظة مشرعا...وقد نسيت خضرة اغلاقه..
دخل الجنود فجأة الى المنزل...عيونهم تبحث في المكان كوحش كاسر يبحث عن فريسته...اتجهوا الى الغرف المغلقة كسروا الأبواب... كان عاطف يستلقي على سريره متظاهرا بالنوم...هزه الجندي بقوة من رقبته ...نهض وهو يصرخ:ايش فيه يا خواجة...؟امسكه الجندي من رقبته ...دفعه الى الخارج فيما تحاول خضرة ان تنزعه من بين ايديهم لكنهم دفعوها بقوة ووحشية فسقطت ارضا وبكى الاطفال الجالسون في زوايا المنزل بخوف وفزع.
فتش الجنود الباقين الغرف...فتحواخزانة الملابس ... اسقطوا كل ما فيها ارضا...مزقوا الفرشات القطنية...بعثروا محتوياتها أرضا...رأى جندي دبلة الزواج على طرف السرير...وضعها في جيبه...رأته إحدى البنات الصغيرات فسكتت خوفا...دخلو المطبخ...سكبوا زيت الطعام في برميل الدقيق افرغوا محتويات العلب من الشاي والملح والسكر ارضا...
في الخارج....وقف عاطف بين الجنود كفريسة وقعت بين أنياب الوحوش...بدأوا بضربه جزافا...كانت الضربات تنهال على كتفه وهو يحاول ان يتلقاها بيديه...
كان صراخه يغطي على صوت عظامه وهي تنكسر...ركز ظهره على الحائط ...بدأت مقاومته تتلاشى...سقط رويدا رويدا بجانب الجدار الضربات والصرخات مستمرة...وكأنهم ينتقمون من المخيم في شخص عاطف ...صرخات خضرة من الداخل تتعالى...كان الجنود في الداخل يضربونها بقوة...اختلطت صرخات الأطفال ...مع هتافات الله اكبر من البيوت المجاورة...بدأت الحجارة تنهال عليهم مرة اخرى...حاول الجنود تفادي الحجارة...اسرعواالى السيارة...فروا بها وهم يطلقون النار على كل من رأوه خارجا...
كان عاطف يصرخ من شدة الألم...هتف ابو طلال:
_يا جماعة شوفولنا سيارة توديه على المستوصف...الراجل مكسر
_شوية يا أبو طلال...بس تهدأ الحكاية...
----

الساعة الواحدة والنصف ظهرا
سيارات عسكرية تقف في المدخل الشمالي ..جمهور كبير من الشبان يقفون بالقرب من مسجد الصفاء ..بعضهم يحتمي بجدران المحلات ..واّخرون يصرخون ويلوحون بأيديهم بحركات مثيرة لأعصاب الجنود ..بينما وضعت المتاريس من هياكل السيارات القديمة والإطارات المشتعلة في عرض الشارع فأقفل تماما ..
تقدمت اليارات ببطء ناحية المسجد ..فيما سار بجانبيها عدد كبير من الجنود..
تحفز الشبان لملاقاتهم ..بعض النسوة يحملن الحجارة في السلال ..والأخريات يحملن ثمار البصل لمقاومة الغازات المسيلة للدموع ..
اندفع الشبان ناحية الجنود ..تمركزوا بجانب محطة قمعورة للبترول ( محطة صغيرة كانت موجودة داخل المخيم قبل أن تقوم قوات الاحتلال بتدميرها بعد حادثة أمنون ) ..
تعالت صرخات الشبان :
- بيعه ..بيعه واتريح منه ..
سرعان ما أصبحت نغما يردد من قبل الجميع ..كانت كلمة بيعه واتريح منه تعني أن سلاحك أيها الجندي لا ينفعك ولا يفيدك ..وبالتالي بعه واسرح منه .
لم يفهم كثيرا من الجنود معنى الكلمة حرفيا ..ولكنهم اعتبروها نوعا من الشتائم .
أراد الشبان استدراج الجنود إلى داخل المخيم ..إلى النقطة التي يريدونها ..كانت الخطة هي سحب الجنود إلى المسجد الكبير ..فهناك في الانتظار ما يقارب ثلاثمائة شاب ..وكثير منهم قد اعتلوا سطح المسجد ..مجهزين بزجاجات المولوتوف وقطع الزجاج المكسورة وأطنان من الحجارة ..
بدأ الشبان برشق الجنود بالحجارة عن بعد ..تهشم كثيرا من زجاج النوافذ العلوية ..أخذ الجنود باطلاق الأعيرة المطاطية وقنابل الغاز المسيل للدموع ..تراجع الشبان وهم يهتفون :
- على الجامع الكبير يا شباب..
إنطلقت السيارات العسكرية مطاردة فلول الشبان ..فيما اتجهت النواة الصلبة من الشبان إلى المسجد الكبير ليلحقوا بزملائهم المنتظرين هناك ..
كان الجميع مصرين على كسر منع التجول استعدادا لجنازة الشهيد..
ضرب الجيش حصارا حول المسجد الكبير ..بدأت قنابل الغاز المسيل للدموع تنهمر فوق سطح المسجد كالمطر ..فيما رد الشبان عليهم بإلقاء الزجاجات الحارقة والحجارة وقطع الزجاج المكسور ..
تجمهر كثير من الناس حول مكان الجيش مختبئين بين الأزقة وهم يقذفون الجنود بالحجارة ..أصبح موقف الجيش صعبا ..وقعت إصابات بين الطرفين ..قوات إضافية دخلت المخيم ..تكاد تجزم أنها معركة حقيقية ..للحجر مزودا بالإرادة والإيمان بما تفعله مفعول السحر والقوة العسكرية ..
الهرج والمرج يسودان الموقف ..الشبان في الأعلى مصممون على المقاومة ..كانوا يتحصنون جيدا بالمسجد ..فالباب الحديدي القوي مقفل جيدا ..وسور المنشر على السطح بارتفاع المتر تقريبا يحميهم من رصاص الجنود الذين أصيبوا بالذعر والخوف الشديد من محاصرتهم ..فأطلقوا النار بصورة عشوائية تغطية لانسحابهم ونقل اصاباتهم لمعسكر الجيش ..فيما استمر الشبان بقذفهم بالحجارة بعما استمدوا من انسحاب الجيش طاقة وحماسة واندفاعا مفعمين باحساس النصر في تلك الموقعة ..كانوا يقذفون الحجارة بغضب وتمرد ..رافضين واقعهم المرير ..أحسوا أنهم أمراء الساحة ..لا أحد يستطيع أن يكبت حرياتهم ..لا شيء هناك يخسرونه سوى الفقر والكبت والحرمان والمهانة ..كانوا ينشدون حريتهم وكرامتهم ..كان هناك هدف مشترك ..إزاحة الاحتلال البغيض ..وازالة القمامة ..
أطلق الجميع بعد ذلك على هذه المواجهة ..معركة الجامع الكبير..
-------
الثالثة والنصف عصرا
محمد فجلة ..يجلس فوق عربة الحمار المحملة بالخضار ..يجوب شوارع المخيم لبيع الخضار كاسرا الأوامر بمنع التجوال ..يعرفه الجميع في المخيم ..فهو يسدي للجميع خدمات مراقبة الجيش وتحركاته ..يستطيع الأهالي في منطقة تواجده الاعتماد عليه في إرشادهم لأماكن تواجد الجيش أثناء منع التجوال .
محمد أصيب في صغره بشلل الأطفال إضافة إلى اضطرابات في إفرازات الغدد مما سبب له مشكلة في الكلام بسبب اللعاب الذي يسيل لااراديا من فمه .. وقد عرضه ذلك لمضايقات الأطفال له ..لكنه كان ينهرهم بشدة وحزم ..وقد ساعد على حمايته من مضايقة الأطفال والناس مكانة عائلته الكبيرة في المخيم .
كان محمدا في بداية حياته لا يستطيع المشي .. وكان يجوب الشوارع زحفا على رجليه بمساعدة يديه ..وقد كان يساعد والده قبل وفاته في بيع الخضار في دكانهم في السوق ..مما أكسبه مهارة في البيع والشراء .
-محمد ..محمد ..
التفت محمد ناحية الصوت ..كان هناك ابو عامر من خلف النافذة ..
- كيف حال ابو عامر ؟
رمى ابو عامر بقطعة من النقود فسقطت أرضا ..
- هات لي رطل بندورة ..ورطل خيار..
نزل محمد من العربة بصعوبة ..كان يمشي مترنحا دون ثمالة ..يساعده على المشي عكازه الصغير ..وأحيانا يفقد توازنه فيقع أرضا ..ثم يعاود النهوض مجددا.
أمسك بقطعة النقود ..تفحصها ..ثم أردف قائلا :
- ما بتكفي ..كمان خمسة شيكل ..
أخرج ابو عامر قطعة أخرى متبرما ثم ألقاها لمحمد قائلا :
-يعني علشان منع التجول تستغلنا يا محمد .. الرطل في السوق بثلاثة شيكل ..وانت بتبيعه بخمسة ..حرام عليك يا شيخ ..
هتف محمد بصوت عال وهو يضع قطعة النقود في كيسه ويتجه ناحية الميزان الموضوع فوق العربة :
والله الإشي غالي علينا يابو عامر ..
- مش غالي ولا حاجة ..بس علشان منه التجول ماخد راحتك ..
قال وقد بدا عليه الغضب :
- حرام عليك يا شيخ ..الله يضر اللى بيضر..
أنهى وزن الخيار والطماطم ..ثم ناولها بصعوبة لأبي عامر وهو يقول :
-والله العظيم بعتك زي الناس ..
تناول ابو عامر الخضار من محمد ثم سأله :
-اسمع يا محمد ..بدي شوية حاجات من السوق ..بأقدر أروح على السوق وإلا تجيبهن انت معاك ..؟
مد محمد يده لأبي عامر قائلا :
- هات المصاري وخليك هان ..الجيش عند دار دعابس ..والناس بتحضر حالها للجنازة ..ويمكن الدنيا تولع ..
كان محمد معروفا لدى الجيش بسبب عاهته الواضحة ..أطلقوا عليه النار مرة لم يميزوه فيها وكاد أن يقتل لولا أن سقط فورا عن ظهر العربة أرضا وهو يصرخ ويكيل اللعنات عليهم ..أعتقل مرة بسبب تشابه اسمه مع اسم قريب له في المخيم ..يومها اعتقلوا أخاه معه ليقوم بخدمته في المعتقل ..أصبحت حادثة اعتقاله نادرة يتفكه بها أهل المخيم ويسألونه عن تجربته في المعتقل في كل مرة يقف بعربته لبيع الخضار .
وضع النقود في جيبه ..وودع أبا عامر ..صرخ بالحمار أمرا إياه بالمشي ..حا ..ثم أتبع أمره بضربه بعصاه الصغيرة وشد اللجام وأرخاه ليسرع في اتجاه السوق ..لكن امرأة استوقفته في الطريق ..
- محمد ..محمد ..هات لي رطل بندورة..
- هيش ..
هتف محمد بحماره ..ثم شد اللجام وهو يرمي بثقله الى الخلف ليوقف العربة المندفعة:
-ما أنا كنت واقف عند ابو عامر ..لازم تغلبوني يعني ..
أجابت المرأة بصوت فيه رجاء :
- مالي بركة إلا إنت ..أنا هالوقت شفتك ..مفيش بندورة في الدار ..
ترجل محمد عن العربة ..ملأ كفة الميزان بالبندورة ..ووضعها في كيس من النايلون ..ناولها للمرأة قائلا ..
-خمسة شيكل ..
ناولته المرأة النقود وهي تقول :
-إن شاءالله لقيت عروس يا محمد ؟
وضع النقود في كيس القماش الصغير وهو يقول :
- والله ياأم علي مالقيت..فيه حواليكي عروس كويسة ؟
ضحكت أم علي وقالت :
-إذا دليتك على عروس بتجيب الحلوان ؟
قال ضاحكا وهو يتجه إلى العربة :
-حلت البركة ياأم علي ..بس ما تكون زي اللي قبلها ..
تزوج محمد ثلاث مرات ..في كل مرة يقع ضحية لعملية نصب من أهل العروس للاستيلاء على مدخراته التي ربحها من التجارة ..لم يرزق من الثلاث زيجات سوى بطفل واحد عاش ثلاثة أشهر ثم مات بسبب ترك أمه له بدون رضاعة ..حيث كانت الزوجة الثالثة تعاني من مرض نفسي ..لكنه في المرات الثلاثة كان يسترد جزءا كبيرا من المهر الذي دفعه بسبب طلب أهل العروس للطلاق ..وهذا جعله حريصا جدا في التعامل في الأمور المادية مع الاخرين ..
-وين يا معلم فجلة ..؟
نظر محمد إلى مصدر الصوت ..شخص المنادي ..صرخ فيه شاتما إياه :
-يا كلب ..والله لأقول لأبوك خليه يربيك ..
أطلق الناس عليه لقب المعلم فجلة بسبب بيعه الفجل في السوق ..لكن لا أحد يستطيع أن يناديه بهذا الأسم دون أن يناله شيء من الشتائم والتعزير من محمد ..كان الناس يتوددون إليه باسم ( ابو اسماعيل ) عندها تنفرج أساريره ويصبح بشوشا مسليا.
إنطلق بعربته ناحية السوق وهو يلعن ويشتم :
- عالم ما بتستاهل الخدمة ..الله ياخدكوا ..نروح نحضر الجنازة أحسن ..
------

الساعة السادسة مساءً
بدأت حركة الشبان تخف في المخيم...فقد تناقل الناس انباء عدم تسليم جثة الشهيد فايز لأهله...وبدأت الأمطار تنهمر بغزارة...ولجأ معظم الشبان إلى بيوتهم...فيما بقي بعضهم يجوس المخيم غير آبهين بغزارة الأمطار...وبرودة الجو.
في الطرف الغربي الجنوبي للمخيم ...كانت هناك عيوناً تراقب سيارة الجيش التي توقفت مقابل حقل القمح المجاور للمدخل الجنوبي للمخيم.
نزل منها بعض الجنود يحملون فيما بينهم شيئ غير محدد...ألقوه في حقل القمح ...ثم تابعوا سيرهم بسرعة.
بعد قليل...توقفت الأمطار...كان هناك خمسة أشخاص يتسللون من المخيم بإتجاه حقل القمح ...بدأوا بالبحث في المنطقة ...كانت هناك شكوك في ان الجنود قد القوا بأحد الشباب الذين ألقى القبض عليهم...ثم ضربوه...ضرباً مبرحاً وألقوه قي الحقل ...فقد وقعت حوادث كثيرة مشابهة قبل ذلك حيث وجدوا شاباً مقيد اليدين والرجلين قبل مدة ملقى على الطريق الترابي الذي يصل بين مخيم البريج...ومخيم المغازي الواقع جنوبي مخيم البريج.
أرادوا أن يتأكدوا من شكوكهم ...ووصلوا أخيراً إلى المكان المقصود ...وجدوا هناك فتى مقيد اليدين وملقى على وجهه بين سنابل القمح ...حمل سعيد الفتى على كتفه...إتجه الجميع إلى المخيم...دخلوا أقرب منزل... مددوا الفتى على السرير...أحضروا بصلة أدنوها من أنفه ...لا حراك ...إستدعوا طبيباً من الجوار... أصدر حكمه القاطع ...لقد فارق الحياة .
تعرف عليه البعض ...إنه إياد عقل ... فتى في الرابعة عشرة من عمره نحيف الجسم ...ذو وجه بريء...طويل القامة آثار الكدمات بادية عليه...دم غزير نزف من رأسه وأنفه...تهشم في الجمجمة...كسور في الأطراف...بدا لون الجثة مائلاً إلى الزرقة ...خرجت آهة حزينة من عجوز وقالت بحسرة :
_يا حسرتي عليك يا بنية...كسروا لك عظامك ...الله يصبر امك..
هتف باسل بجزم:
_يا الله يا شباب ...لازم نوصله لأهله...
_كيف بدنا نوصله...؟؟!!
_شوفوا أي سيارة نأخذه فيها..
_بلاش سيارات...في كارة برة...خلي أبو وادي يطلع الحصان
_طيب يالله وبسرعة...
دخلت أم حسين بيتها لاهثة باكية وقد إبتلت ثيابها من مياه الأمطار...كانت تجوب الشوارع بحثاعن إبنها إياد ...اخبروها بأنهم رأوه آخر مرة وقد أمسكه الجيش وحمله في السيارة العسكرية,قال آخرون انهم رأوا الجيش وهو ينهال عليه ضرباً في إحدى الأزقة ...بينما أكد أحدهم أنه رآه يمشي بعد ذلك متجهاً ناحية المسجد.
إستقبلتها إبنتها مستفسرة عن مصير أخيها:
_إن شاء الله لقيتيه..!!
_لا والله يا بنتي ..
ثم إنفجرت في البكاء قائلة:
_يا حسرتي عليك يا إبني...وين أراضيك هالحين؟
دخل في هذا اللحظة حسين...ملابسه مبللة ويرتجف من البرد , رأته أمه فهتفت به قائلة:
_ما شوفت أخوك يا إبني..؟
أجابها وهو يدخل غرفته لتغير ملابسه:
_سمعت إنهم أخدوه معهم ...وفي ناس بتقول أنهم رموه في القمح في بلوك "9"
إتجهت إليه مسرعة وقالت:
_شو بتستنى...يا الله نروح على بلوك "9"
_شوية يا حجة بس أغير أواعية وألبس السويطر...
توفي أبو حسين وهو في مقتبل عمره...ترك لها ثلاثة أبناء وبنتين كان أكبرهم حسين لا يتجاوز السابعة من عمره...كرست حياتها بعد زوجها لتربية الأبناء ....كانت لا توفر جهداً لإسعاد أبنائها...وتعويضهم حرمانهم من أبيهم ...عملت في مزارع الخضار...وفي مصانع الخياطة...وكانت مصممة أن تهيأ لهم مستقبلاً افضل...
طرق الباب في هذه اللحظة طارق...أحست أم حسين بأن هناك عارض قادم انقبض صدرها...لا بد أن مكروه قد حدث لإبنها...أسرعت إلى الباب تفتحه...كان بالباب جمع غفير يلتف حول العربة التي حملت جثة إياد.. كانت الجثة ممدة فوق العربة تغطيها بطانية .....صرخت أم حسين ثم اغمي عليها ..جاء حسين من الغرفة يجري...يتبعه أخوه الصغير وأختاه ...رأى أمه وقد أغمى عليها...نظر إلى العربة فرأى إياد ممداً عليها...وقد أمسك الشباب بأطرافه لإنزاله من العربة ...صرخ بجنون:
_أخوي ...يا حبيبي يا خوي...
تعاون بعضهم على حمل أم حسين إلى الداخل ...بينما حمل الآخرون جثة إياد وأدخلوه للداخل ...فيما إستمر حسين بالصراخ وشد شعره بقوة...وقف الأطفال مصدومين من هول ما يرون ...إنفجروا في البكاء ...فيما تجمع الناس أمام المنزل زرافات وفرادي...إنتشر الخبر في المخيم ...هناك شهيدآخر...ضرب حتى الموت...
بعد قليل ...كانت الهتافات تهز سماء المخيم ...تكبير ...الله أكبر...تكبير ...الله أكبر...إنتشر التكبير من مخيم البريج ...إلى مخيم النصيرات ...آلاف الحناجر تكبر...يقودهم صوت جمهوري يقول تكبير ...فيرد الجميع عليه ...الله أكبر...
في الظلمة ...كان هناك شباب في المقبرة يحفرون القبر ...وآخرون يحضرون الحمالة الخشب من المسجد ...
لم تكد تقضي نصف ساعة ...حتى بدأت جنازة الشهيد تجوب أرجاء المخيم والحناجر القوية تردد هتافات كالرعد ...تكبير...الله أكبر...بالروح بالدم نفديك يا شهيد ....بالروح بالدم نفديك يا شهيد...
إندفع الناس كالسيل العارم في شوارع المخيم ...يلوحون بقبضاتهم ...والغضب والحقد يملآن العيون و الصدور...بدأت المشاعل والفوانيس تصل تباعاً تتقدم الجنازة ...وصلوا شارع المقبرة ...كان الجيش هناك في الإنتظار ..الجو ينذر بحدوث مذبحة كبيرة...إستمر زحف المظاهرة إلى المقبرة وإن تباطأت حركتها قليلاً...المخاتير والوجهاء يتقدمون المظاهرة ...والغضب و والإصرار على التقدم كان واضحاً في وجوه المتظاهرين ...كانوا متخوفين من أخذ الجثة للتشريح...
جاء صوت الحاكم العسكري في مكبر الصوت هاتفاً:
_خلي الناس تروح يا مختار...فيه منع تجول ...هذا مش في صالحكم...
تقدم المخاتير والوجهاء من الحاكم العسكري بعدما أمروا الناس بالتوقف ..تحادثوا قليلاً فيما تعالت الهتافات:
_بالروح... بالدم ...نفديك يا شهيد
عاد المختار والوجهاء إلى الناس ...هتف المختار فيما بدأت السيارات العسكرية بالتحرك:
_يا جماعة معنا نص ساعة ندفن الشهيد وبعد هيك كل واحد يروح على بيته.

الساعة العاشرة مساءً
لبس حسن معطفه الثقيل...لف رأسه بالكوفية جيداً...فتح باب الدار برفق حتى لا يصدر صوتاً تسمعه والدته من داخل الغرفة لكي لا يشعرها بالقلق ...تسلل خارجاً متجهاً إلى البيارة المجاورة...
أزقة المخيم معتمة وضيقة .... الصمت المطبق يبعث في نفسه شياً من الرهبة لكي يصل إلى المكان المتفق عليه داخل البيارة لابد له أن يجتاز حقل القمح الفاصل بين البيارة والمخيم بعرض ثلاثمائة متر...إنها أخطر مرحلة في المشوار حيث إرتفاع القمح حوالي نصف متر...والمنطقة مكشوفة والسير فيها يجعله فريسة سهلة لرصاص الجنود.
راقب المكان جيداً من أحد الأزقة ...تأكد من خلو المكان من الجنود...إعتمد في ذلك على حاسة السمع الجيدة والمدربة لديه...إنه يستطيع تمييز الأصوات جيداً وخصوصاً تجهيز السلاح وتعميره...
دخل حقل القمح بسرعة ...إلتفت خلفه مرات عديدة وهو يجري مسرعاً...وصل إلى سياج البيارة ...دخل من الفتحة المخصصة لذلك ...أشجار البرتقال تبدو كأشباح منتصبة...غاص في الطين...حدد إتجاهه جيداً...بدأ بعد الأشجار والأسطر...وصل إلى النقطة المتفق عليها ...وجد أمجد وسفيان و هاني في الإنتظار ...الجميع يعمل بهمة ونشاط بتعبئة المواد الغذائية التي أنزلتها سيارة قدمت من غزة قبل حوالي ساعتين إلى تلك النقطة المتفق عليها وهي معونات جمعت من الأهالي في منطقة غزة ونقلت إلى مخيم البريج ... كانوا يعبئون المواد الغذائية في أكياس لتوزيعها على الأهالي في المخيم حيث يضعون بعض المعلبات والمواد الغذائية وعلب حليب جاف للأطفال.
هتف حسن بصوت خافت ,وقد خلع معطفه ووضعه جانباً:
_على العافية يا شباب...
رد عليه الجميع بصوت واحد :الله يعافيك
_سأل حسن وهو يلتقط أنفاسه :
_كم طرد عبيتوا؟؟
أجاب محمد وهو يعبأ في الأكياس ...بينما حمل هاني أحد الطرود ليضعها جانباً بجانب الطرود الجاهزة:
_حوالي خمسين...يا الله شد حيلك معنا...
سأل هاني وقد عاد لآخذ طرد آخر:
_إيش اللي أخرك...؟
_ولا تأخير ولا حاجة ...لما هدي الجو طلعت...
_خليني أولع شوية نار نتدفأ عليها...
هتف حسن بحزم:
_ناوي تحبسنا...خلينا في الظلمة ساترانا..
_يا الله يا شباب ...شدوا حيلكم خلينا نخلص...
إنهمك الجميع في تعبئة الأكياس...محاولين أن ينجزوا ما بأيديهم من عمل في اسرع وقت ممكن .-----
العاشرة والنصف مساء
طريق المدخل الرئيسي يؤدي في نهايته إلى معسكراً للجيش الإسرائيلي,بجانب هذا الطريق وفي مواجهة المقبرة ...بين أشجار الزيتون...وصمت القبور يلقي على المنطقة وحشة ورهبة...كانت همسات تتبادل تحت شجرة الزيتون .
كانت مجموعة أيمن المكونة من ثلاثة عناصر أيمن _ماجد _عبد الكريم تخطط لعمل ما ضد أي سيارة عسكرية مارة في تلك المنطقة...زجاجات المولوتوف جاهزة ...والسواعد الفتية ...والأذان تسترق السمع وتصغي لكل دبة نمل. هدف العملية الإنقضاض على أي سيارة عسكرية بزجاجات المولوتوف ثم الفرار سريعاً من موقع الحدث ...لا مجال للمقاومة...إضرب وإهرب.
مزق أحشاء الصمت أصوات سيارات عسكرية كثيرة...لم يكن ذلك في الحسبان ...يبدوا أن في الأمر شيء. كتموا أنفاسهم ...تبادلوا فيما بينهم النظرات..إنهم لا يستطيعون تنفيذ العملية وإلا كان ذلك إنتحارا..أفضل شيء الانتظار ومراقبة ما يجري..
وصلت السيارات العسكرية إلى المدخل الشرقي للمخيم المتعامد على الدخل الجنوبي والمواجه للمقبرة ...أطفأت السيارات أنوارها ومحركاتها...نزل منها الجنود ما عدا السائقين ...دفع الجنود السيارات بهدوء إلى داخل المخيم يستترون بالعتمة والصمت...يبدوا أن هناك حملة إعتقالات واسعة في المخيم.. تجاوزت السيارات والجنود مكان الكمين ...هتف أيمن لزملائه :
_كل واحد على بيته بسرعة...ما في إمكانية لعمل شيء الليلة.
بعد دقيقة كان كل واحد منهم يجتاز الأزقة الضيقة للوصول إلى بيته يساعدهم في ذلك معرفتهم الجيدة لأزقة المخيم الضيقة وتجنبهم المرور في الشوارع الواسعة.
قفز أيمن من فوق سور منزله بسرعة وخفة...دخل غرفته المشتركة مع إخوته الصغار ...في لحظات كان قد بدل ملابسه وغطى نفسه بالأغطية الشتوية الثقيلة ...حاول التحكم في إضطراب أنفاسه ...كان الوالد نائماً في غرفته مع زوجته ...لم يشعر بشيء...لكن أيمن شعر بأن هناك حركة وهمسات حول الدار...تأكد شعوره من الطرقات العنيفة على باب الدار ...تظاهر بالنوم قام الوالد فزعاً إلى باب الدار ليفتحه ...لم يسأل عن الطارق فقد عرف الجواب من وجود بعض الجنود فوق السور في وضع إستعداد...فتح الباب وهو يقول :
_حاضر...حاضر
كان أبو الديب_ضابط المخابرات للمنطقة_ واقفا بالباب ...أزاح الوالد جانباً ...دخل وتبعه الجنود.
أصبحوا في منتصف البيت ...طلب منه ضابط المخابرات أن يرى إبنه أيمن .
هتف الوالد بجزع:
_أيمن ...!! أيمن صغير يا خواجة..
أجاب ضابط المخابرات وهو يجوس البيت بنظراته:
_سبعتاشر سنة صغير يا حج...؟ بدنا أيمن .
أعطى ضابط المخابرات أمراً للجنود بالتفتيش في المنزل ....نهض أيمن متثاقلاً كمن كان في النوم.
سأله ضابط المخابرات وهو يتفحصه جيداً:
_إنت أيمن ..؟
أجاب أيمن وهو يتظاهر بالنعاس:
_نعم _أنا أيمن
فاجأه ضابط المخابرات بصفعة قوية على وجهه .
صاح أيمن وقد تطاير من الشر من عينه:
_إيش فيه...؟إيش إلي عملته...؟
_كف صغير علشان تصحصح معي ...وين كنت قبل نصف ساعة..؟
أجاب أيمن وهو يضع يده على خده:
_ما إنت شوفتني وأنا نايم ...أنا من المغرب نايم.
تدخل الوالد محاولاً حماية إبنه:
_يا خواجة الولد نايم...والدنيا منع تجول كيف بدو يطلع برة؟
هدأ ضابط المخابرات الوالد وقال:
_إنتا مش عارف حاجة يا حج...إبنك كان مع مجموعة برة...أنت خش جوه يا حج وإحنا عايزين أيمن نصف ساعة بس عشان أكم من سؤال.
كانت الأم في تلك اللحظات قد إستيقظت ووصلت إلى ساحة الدار وسمعت كلام الضابط وأدركت أنهم سيأخذون أيمن ...هتفت بصوت تملؤه الثقة والحزم:
_لوين مآخذين إبني ...إبني ما بيطلع في هالليل.
_خشي جوا يا حاجة ...عايزينه شوية وبيرجع.
هجمت الأم على إبنها وإحتضنته محاولة تخليصه من أيدي ضابط المخابرات ثم صرخت
_مش ممكن ...إبني ما بيطلع...طخني قبل ما تأخذه..
دفعها ضابط المخابرات بعيداً بقوة ...فسقطت أرضاً...ساد الهرج والمرج في البيت بدأ الجيران بالاستيقاظ...هتف ضابط المخابرات :
_أحسن لأبنكم ولألكم إنكو تهدوا...خشوا جوة وسكروا على حالكم.. ثم جذب أيمن يساعده أحد الجنود خارجاً..وضع الجندي بيده القيود...وضع قطعة قماش على عينه ثم إنهال الجنود عليه ضرباً بينما بدأ الجيران بالصراخ وقذف بعض الحجارة على الجنود الذين أسرعوا عائدين إلى سياراتهم معهم أيمن مقيد اليدين ومعصوب العينين ,مغطين إنسحابهم بزخات كثيفة من الرصاص .
كان هناك في مكان التجمع ينتظر ماجد وعبد الحكيم وقد ألقى الجنود القبض عليهما...ووضعوا الجميع مستلقين على بطونهم في قاع سيارة الشحن العسكرية...ألقوا فوقهم السلالم التي يستعملونها لتسلق الجدران ثم صعد الجنود السيارات ووضعوا أرجلهم فوق ظهورهم...بدأ الجنود بضربهم في السيارة وإطفاء أعقاب السجائر في ظهورهم العارية ,فإنبعثت رائحة شواء من أجسادهم...بينما تعالت صرخاتهم مختلطة مع ضحكات وقهقهات الجنود السكارى بنشوة النصر والحقد الدفين في صدورهم .
إنطلقت السيارة خارجة من المخيم بإتجاه معسكر الجيش في المنطقة الغربية ...فيما أحكمت السيارات الأخرى الطوق على المخيم.

الحادية عشر والنصف
قارب العمل على الإنجاز _لبس حسن معطفه...لف رأسه بالكوفية ثم قال:
_خليني أبدأ في التوصيل والتوزيع علشان أجيب معاي كمان شباب يحملوا الطرود
_ماشي الحال...خذ طرد والله معك
_راح أبدأ بدار أبو عيسى ...طرف المخيم ...حملني يا هاني
أمسك حسن بطرف الكيس ...ساعده هاني في حمل الأكياس على ظهره
_الله معك
بدأ في مسيرة العودة...غاص أكثر في الوحل بفعل زيادة الوزن ...العرق يملأ جسمه...بدأت أنفاسه تتابع.. إختار طريقاً أخرى للوصول لبيت أبي عيسى ...خرج من البيارة ...أصبح في منتصف حقل القمح ...فجأة سمع أصواتاً تأتي من جهة الشارع الفاصل بين المخيم وحقل القمح ...رمى الكيس وسقط أرضاً بحذر ...رفع رأسه ببطئ ...نظر ناحية الصوت ...تأكد من وجود سيارة عسكرية وقد أطفأت أنوارها ...
تحسس مسدسا بجانبه ...أمسكه بيده استعدادا للطوارئ ...ليس من الحكمة أن يطلق النار بإتجاه السيارة ...لا بد من الإنتظار قليلاً...أَضواء الكشاف القوية فوق السيارة العسكرية تمسح حقل القمح جيئةً وذهاباً...بدأ في التراجع زاحفاً إلى الخلف ونظر أمامه ..لا بد أن يصل إلى البيارة ...الطين وبرك المياه الصغيرة المتجمعة من مياه الأمطار تعيق زحفه ...جاهد في ألا يصدر صوتاً أوأن يرفع رأسه ...وصل أخيرأ إلى سياج البيارة ...زحف من تحته توارى بالأشجار ...اتجه مسرعاً إلى مكان الرفاق ...لا بد أن يخبرهم بوجود الجيش على طرف المخيم ...نبضات قلبه بدأت بالإنتظام ...وصل أخيراً إلى المكان ...
هتف أمجد :
_مين ؟؟؟ أبو علي ...خير إنشاء الله !!!
أجاب وهو يلهث قليلاً:
_ديروا بالكو... الجيش مطوق المخيم ...كنت راح أروح فيها
_الحمد الله على سلامتك
_الساعة إتناعش يا جماعة ...الدنيا نص الليل إيش العمل ؟
هتف حسن وهو يتجه ناحية السياج :
_لازم نستنا شوية لغاية ما يروح الجيش...أنا راح أراقب من طرف البيارة.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف