الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

المرأة بكل تجلياتها في "الوطن في العينين" لحميدة نعناع بقلم:رائد الحواري

تاريخ النشر : 2014-02-28
المرأة بكل تجلياتها في رواية "الوطن في العينين"
حميدة نعناع

هذه الرواية الصادرة عام 1979، عن دار الآداب في بيروت، تعد ثورة فكرية وسلوكية للمرأة العربية، فمن خلال الرواية قدمت لنا حميدة نعناع، أنموذج للمرأة العربية، إن كانت في حالة التمرد، أم في حالة الانكسار والردة، أم ما بعد الردة، امرأة كاملة ناضجة، تتمرد على كل ما هو في المجتمع، حتى أداة التغير ـ الحزب، أو الفصيل المسلح ـ تتجاوزها، منتقدة وبشدة الأخطاء التي تمارس.
اللغة الأدبية والصور الفنية، التمكن والسيطرة على سرد الأحداث الروائية، الجمل المختزلة والمكثفة التي قدمتها لنا الكاتبة، كخلاصة لتجربتها ـ كامرأة عادية أو ثورية ـ تجعلنا ننذهل من قدرتها الأدبية والفكرية في آنا واحد، ولا ندري لماذا لم تأخذ الروائية مكانتها في عالم الأدب كما هو حال الأخريين، علما بأنها متمكنة من أدوات النص الروائي وتمتلك القدرة على التلاعب بالزمن، وتستطيع أن ترسم الواقع بكلمات موجزة ومكثفة.
على صعيد شخصي هذا العمل الروائي قرأته قبل أكثر من ثلاثين عاما، ولا ادري ما دفعني إلى التقدم إليه مرة أخرى، هل ما تركه في نفسي من تأثير ـ في حينها ـ ؟، أم إننا كفلسطينيين ما زلنا نعيش تلك الحالة؟، أم لأن الواقع العربي برمته، يموت الآن تحت جبروت الفكر الديني المتخلف، هو من جعلني أتقدم إليها أكثر؟
سنحاول الإشارة إلى المعاني الفكرية والأدبية والفنية، والأحداث التاريخية التي مرت بها بطلة الرواية "نادية" وكيف استطاعت ان تبقى حية، وتثير فينا مشاعر الحنين، رغم مرور هذا الزمن البعيد نسبيا بيننا وبين كتابتها.

المرأة العربية

من خلال الواقع انطلقت "نادية" لمواجهة واقع المجتمع العربي، فهي ابنة بيئتها، إن كانت النظرة إليها مختزلة في الإنجاب، أم كحرمة، يجب ان تبقى ضمن هيمنة الرجل السيد، أم نظرة الحزب التقدمي والفصيل الثوري، فهي تشارك في جبهتين، جبهة المجتمع، وجبهة الثورة، وفي كلاهما كانت ثورية ومتمردة، وبعد الردة والانتكاسة، رجعت إلى ثوريتها، ولكن بعد ان حسمت بعض المسائل الفكرية، معتمدة على تجربتها، "ـ كنت إنسانة تبحث عن دمها هناك، ونسيت البحث عن دمي هنا... تقاعدت في عالم رجل، وها أنذا أعود من جديد إلى العالم لأبحث عم مجتمع أكثر عدالة.
أطرقت برأسي إلى إسفلت الشارع وتذكرت ان المرأة العربية ستظل لفترة طويلة تحمل رأس زوجها وأولادها على كفها باحثة عن الثأر" ص22، إذن الواقع الذي يرسمه المجتمع للمرأة غير مقبول منها، وتعمل على تجاوزه والتمرد عليه، فهي لا تريد ان تكون امرأة ضمن مفهوم العادي، إنها ترى شيئا آخر، وتريد ان تكون هذا الشيء.
من هنا تنطلق "نادية" للدراسة في فرنسا متجاوزة العائلة التي ترى في سفرها خروجا وانتهاكا للعرف والعادة،"يصرخ أبي في وجهي:
ـ إلى أين أنت ماضية؟ ستضعين رأسنا في التراب. البنت خلقت للزواج... يصرخ إخوتي الذكور: هذه مجنونة، ستكون فضيحة لنا... تمتد يد احدهم إلى شعري الطويل وتمسك به... يضرب برأسي الحائط حتى يسيل دمي، أرى دمي احمر ونقيا" ص32، المشهد السابق يؤكد لنا قساوة العائلة اتجاه المرأة، فهي قساوة مركبة، التفكير السلبي، والسلوك العنيف، تكامل دور الأب والإخوة معا ضد المرأة. مسألة تعليم المرأة في الخارج كانت وما زالت تعتبر من المحرمات في المجتمع العربي، هي خلقت للبيت، للزوج، للأولاد، فكرة المجتمع عنها تؤثر عليها سلبيا، وتنعكس في شراسة وقساوة العائلة ضدها، فهي من خلال قرارها التعليم في الخارج، لا تتمرد علي عائلتها وحسب، بل أيضا تتمرد على المجتمع وأفكاره، فهي تقوم بتمرد ين معا. عندما قالت " يسيل دمي، أرى دمي احمر ونقيا" كانت تشير بطريقة رمزية إلى الحالة الثورية التي تأكدت لديها، وعلى حالة الإصرار والتمرد التي تقدمت أكثر، ودماء المرأة في المجتمع لها مدلول الشرف والعفة، فبدون دماء ـ ليلة الدخلة ـ تفقد المرأة طهارتها، والكاتبة من خلال الحديث عن "شرف العائلة" في نفس الصفحة التي تحدثت بها عن الدماء التي سالت، كانت توحي للقارئ بأنها كانت تحمل العفة، وما زالت بكرا، منها هنا سال دمها "احمر نقيا" ولم يعد يهمها الدم الآخر، فهي أثبتت أنها بكر، وسال دمها، في أول مواجهة مع العائلة التي تمثل المجتمع، "رسائل أبي تطالب إلي ان أعود عذراء وأتجنب الرجال... الزيارات المتفرقة لإخوتي رغبة بالاطمئنان على شرفهم"ص32، إذن التمرد الثالث الذي قامت به "نادية" يتمثل في تحررها من فكرة العذرية المجتمعية العربية، وكأنها بهذا الأمر تكون قد خرجت تماما من واقعها إلى العالم الذي تريد، فلم يعد يهمها أية أفكار اجتماعية عربية، هي الآن كاملة الثورة.
من هنا تقرر "نادية" ان تكون ـ خارج السرب ـ فهي ترفض ان تكون ضمن مفهوم المرأة العادية، وتسعى بكل قوة إلى ان تكون شيء آخر غير عادي "ولكن الموت كف عن ترهيبي منذ فترة. منذ اكتشفت أنني لا اطمح ان أكون واسطة بين أبي وأبنائي" ص59، الرفض لكي تكون المرأة أما، يعد ثورة مركبة وتمرد مزدوج، فطبيعتها تدفعها لكي تكون أما، جمالية الأولاد، ودورهم المحفز على التشبث بالعطاء، والتقدم بهم ومعهم إلى الأمام، تجعل أيا من الرجل أو المرأة ان يكون له أولاد، لكنها ترفض وتتجاوز هذا الإغراء والترغيب.
من خلال هذا الفكر المتمرد على ذاته قبل ان يكون متمردا على المجتمع، تنطلق"نادية" إلى الحياة، فبعد أن تتزوج من رجل ثوري، يترك في رحمها بذرة حية، تجهض، فتحدثنا عن مشاعرها، وأفكارها، فهي تريد ـ في ألا وعي ـ ان تكون أما، لكن الواقع البائس والهزيل، يجعلها تتجاوز هذه الحادثة وكأنها حادثة تتناسب مع ثوريتها وتمردها، "وتذكر بقهر ـ بل بحقد ـ رغبتي بان أكون أما. لماذا تلك الرغبة المجنونة، لماذا؟ ان أكون أما في اللحظة التي يقتلون فيها وتتشرد أطفالهم؟ .. ان القي للعالم العربي بمشرد جديد... لماذا لم اخجل من ذلك في الماضي؟ فجأة هاجمتني الرغبة بالتخلي عن الجنين.. شعرت بان العار يسكنني وعلي ان أتخلص منه، وفهمت ان العلاقات الطبيعية في جو غير طبيعي تجعلنا نبدو مضحكين بطبيعتنا" ص147، اعتقد بأننا أمام حالة من الصراع مع الذات، رغبة في الحياة الطبيعية، ورغبة في تجاوز الحالة غير الطبيعة، والعيش كأي إنسان بسلام، لكن الإرث الفكري الذي تحمله "نادية" والواقع، يجعلاها تتجاوز حالة الإجهاض، وتتعامل معه كحالة طبيعية، من هنا كان حديثها عن الطبيعي، والواقع غير الطبيعي، يؤكد على حالة الصراع داخلها، ويمكن ان يفهم من حديثها أيضا، تبريرا وإقناعا لذاتها، لكي لا يؤثر عليها الإجهاض سلبيا، وهنا نجد غريزة الأمومة خلف هذا الكلام.
ما يثير الدهشة هو النفسية المركبة، ومتعددة الأوجه "لنادية" فهي تحمل كل هذه الأفكار والمشاعر وتتعرض للعديد من الصعاب، كأنثى، وتستمر في الدرب، بكل شموخ وثقة، فأي كائنا هذا؟
وهنا تعود الكاتبة إلى الجمع بين الواقع والرمزية، فهي بعد الإجهاض تعود إلى ثوريتها، وأيضا بعد ان تستقيل من العمل الثوري تعود إليه، فهل أرادة الكاتبة ان تجمع في روايتها بين الفعل الواقعي والمفهوم الرمزي؟

نشاط المرأة الثورية والمتمردة

الأعمال التي تقوم بها "نادية" متعددة ومتنوعة، وفي عدة مجالات، تتباين بين العمل السري في الحزب إلى العمل العسكري المسلح في التنظيم الفلسطيني، إلى الكاتبة والشاعرة والعمل الصحافي، فهي تمارس عدد من الأنشطة لا يمكن لفرد واحد ان يجمع بينها،"أذكر اللقاء الأسبوعي برفيقاتي، كنا نحول الكلمات إلى بقع مضيئة، نعيد ترديد الشعارات وكفنا ترتجف. إحساس غامض دفع بي لان اخفي أخبار لقاءاتنا الأسبوعية عن أبي وأمي... كنت أحيا إحساسا مدهشا امنعه ان يرى الأيام العادية...اقرأ ليلا النشرات السرية... ألخصها... أحفظها ... وفي عتمة الصبح اخرج إلى الطرقات لأوزعها سرا على بيوت الرفاق، تحت المطر... تحت الثلج والعاصفة.. تحت الصيف والشمس الحاقة كنت انتقل من بيت إلى بيت... من شارع إلى شارع وخطر اكتشاف أمري ليس بعيدا. البلاد كلها تعيش فترة مخاض في ظل حكم دكتاتوري ... عيون الشرطة في كل مكان... وأنا أعيش مغامرتي" ص30، "نادية" هنا تتجاوز العديد من الذكور، اللذين يقبعون في بيوتهم، فهي أكثر جرأة وشجاعة وفاعلية، تقدم على عمل خطير جدا، الرجال يحسبون له ألف حساب، فما بالنا بالمرأة؟ التي ستكون نتائجه ـ في حال كشف أمرها ـ العقاب من النظام والمجتمع في ذات الوقت، ومع هذا هي تستمتع وتجد ذاتها في هذا التمرد، لذة تصاحبها هواجس الخوف، العديد من الأعمال الخطرة، توزيع النشرات، الاجتماعات الحزبية، كل هذا وعيون الشرطة مفتوحة وقادرة على رصد أي حركة، كل هذا يعد أمرا خارقا بالنسبة ل"نادية"
لا تكتفي "نادية" بهذا الأمر، فهي المتمردة والثائرة التي تأبى ان تكون تابع مجرور حتى لهذا التنظيم السري، تقوم بالعمل الثوري داخل الحزب، فتوجه له العديد من الانتقادات البناءة والصريحة، وكأنها تقول لنا (لم أكن في الحزب مجرد منفذ فقط) بل كنت أمارس النقد الذاتي، النقد البناء، "تضعني"ارم" شاعرة تصرخ بحقدها التاريخي، بالظلم الذي لحق بشعبها.. تضعني امرأة تعشق وتنتظر رجلها. التقي الرفاق في الحزب وأحدثهم عن الواقع الذي يحياه الشعب... أقول لهم: تحولتم إلى مجموعة حكام تحلمون بالمناصب والسيارات الفارهة... أقول لهم: الحزب الذي رسمناه في مخيلتنا لا علاقة له بكم... أقول لهم: لا تتحدثوا عن الشعب، الشعب بعيد عنكم. يهزأون بي ويمضون... يصدرون البيانات، يملأون جداران المدينة أكاذيب... أرى الهوة تفتح فمها لابتلاعنا، اكتب عن عزلتهم... عن شكهم بالجماهير... عن الأخطاء التي ترتكب كل يوم. تنتصب الجدران بيننا... يضيق بي الرفاق وأضيق بهم" ص33، هذه الفاعلية وهذا النشاط يؤكد على إننا أمام كائن فريد، غير عادي، خارق للواقع، يستطيع ان بتغير ويغير، يخرج من كل بيئة لا تتناسب وأفكاره، قادر على النقد ومواجهة الأشخاص في القيادة، يواجهها بالأخطاء، يستطيع المحاورة والنقاش الفكري، وعندما لا يجدي هذا، تبحث "نادية" عن البديل، تترك الحزب إلى تنظيم، تراه ينسجم مع ثوريتها وتمردها.
"يوم ودعتهم"مهاجرة" كطيور الصيف وجسدي ينزف ألما وخيبة قال لي الأمين العام: "عبثا حاولنا ان نجعل منك مناضلة حزبية جيدة"
أجبته والنيران تجتاح رأسي ودمي وأعصابي:
"لكنني كنت بقرة طيبة غبية... غبية جدا.ستعيشون دهرا أخر لتفتحوا عيونكم على الواقع الذي ولدته الحرب، المعركة الآن قومية، ومع عدو يجهد للقضاء علينا. لنلجأ إلى السلاح. واذكر انه اتكأ بعجز على مقولة لينين في كتابه "الدروس المستخلفة من حركة موسكو ـ1916": "يجب عدم اللجوء إلى السلاح"
ذكرته بالجزء الثاني من المقولة:
" بالعكس، عليكم باللجوء له بشكل أكثر جدية وحيوية، ضمن تصور أكثر حماسا. عليكم ان تشرحوا للجماهير اللاجدوى من ألجوء إلى الإضرابات السلمية، بل ضرورة حرب متطرفة وعنيفة وذلك كهدف مباشر للنضال المستقبلي، وإذا ما جهلتم فإنكم تغشون أنفسكم وتغشونها" ص64، هذا الحوار يؤكد بان "نادية" أكثر فهما للماركسية من الأمين العام، فهو يحفظ مقولات ضمن قالب جامد، وهي تفهم الماركسية ضمن متغيرات في الواقع، الحزب بالمجمل لم يفهم المتغيرات بعد هزيمة1967، هي بمفردها فهمتها وواجهت الحزب وقيادته بها، المعرفة بالتاريخ، فهم النظرية، قدرة على التحليل والربط بين الأحداث، مقدرة على المواجهة والنقاش، الشجاعة على الرد بالحجة، كلها تجتمع في شخصية "نادية"
فإذا كانت قيادة الحزب تخاف من استخدام المواجهة المسلحة لما تسببه من قتلى وجرحى، فان "نادية" استطاعت ان تضع فلسفة بهذا الأمر، "تذكرت ان المرء ثوري لأنه يحب الحياة، ولأنه يحب الحياة يتعرض للموت، ولأنه يتعرض للموت فان الموجودات تأخذ عنده أشكالا متجسدة تبعده عن الرهبة الجسدية" ص91، استخلاص الحالة الثورية بهذه الكلمات يعد أمرا عبقريا، ينم على الذكاء والقدرة على تشكيل الأفكار الجديدة.
الصياغة التي وضعت فيها الفكرة متماسكة ومترابطة، تنقلنا من مرحلة إلى أخرى دون الوقوع في متاهة النظريات، الاختزال يعد احد السمات التي تقربنا إلى المضمون، إذن "نادية" ليست مناضلة وحسب بل مفكرة ثورية أيضا.
هناك امرأة أخرى تسمى "أم العبد" تتناولها الرواية، فتصورها لنا كما صورت "نادية" المرأة الخارقة، التي تستطيع ان تفعل ما يعجز عنه الأشخاص العاديين، هذه المرأة التي عاشت الهزيمة، وشاهدت المحتل، وتعلمت بطريقة بسيطة بعيدة النظريات الكبيرة والمعقدة، تستطيع أن تنهي نزاعا ـ كاد ان يكون دمويا ـ فهي تتحلى بالشجاعة وعلى استعداد دائم لان تكون في مواقع الخطر،وكأنها وجدت لتلتقي به، تدخل بين فصليين مسلحين،"اذكر ليلة حوصر رفاقنا في بيت إبراهيم من قبل منظمة فدائية أخرى نتيجة شجار حاد حصل في إحدى القواعد. أتيتها راكضة اخبرها بالنبأ حملت مسدسها وذهبت وحيدة باتجاه بيت إبراهيم.. لحقت بها وأمسكتها من كتفها!.
ـ ماذا حصل لك يا أم العبد، إنهم مسلحون وعددهم لا يقل عن خمسة عشر رجلا!.
لم تعر صراخي انتباها ومضت.. بعد نصف ساعة تفرق أعضاء الفريق المسلح دون ان تضطر لإطلاق رصاصة واحدة" ص43، إذن أعمال البطولة لم تكن مقتصرة على "نادية" وحسب بل ان "أم العبد" تقوم بعمل لا يمكن ان تقوم به "نادية" وكأن الكاتبة تريد ان تخبرنا، بان المرأة قادرة على حقن الدماء والحفاظ على الأرواح أكثر من الرجال، كما أنها مصلحة بينهم، من هنا هي أفضل منهم، فالمرأة في الرواية هي السيدة المحترمة. والتي دائما تقوم بالدور الايجابي.


المرأة المتطرفة

لا تكتفي "نادية" بالحديث عن المرأة المناضلة والشجاعة، بل تتحدث بتمرد متطرف عنها أيضا، وكأنها تريد ان تصفع المجتمع الذي يعتبرها (حرمة) فها هي تذكر حالة يصعب علينا تمريرها مرور الكرام "اقترب من طرف سريرك... قرب جبيني من وجهك... أقبلك ثم اتجه إلى مكتبك ... أبدأ رسالة طويلة إلى أمي واسمع صوتك مرة أخرى:
ـ هل نسيت زوجك؟
ـ فرانك! كف عن الأسئلة! لقد نسيت كل شيء! لقد صادفت رجلا بالأمس في "الكوبول" وحاولت ان أتذكر أين تعرفت إلى وجهه... أخيرا عرفت: في السرير .. كان زوجي السابق!"ص97، إذا عدنا إلى أدب الرواية والقصة بين العقد الرابع والثامن من القرن الماضي، نجد بان تحرر الجسد يتماثل مع الدعوة للتحرر من الاستعمار الغربي والتحرر الاجتماعي والاقتصادي، فالعديد من الكتاب
استخدموا الجنس كحالة تمرد على المجتمع والواقع في آنا واحد، لكن قل استخدامه من قبل الكاتبات، فهن أكثر محافظة من الرجال في هذا الأمر، وإذا استثنينا عالية ممدوح، التي تحدثت في مجموعتها القصصية "هوامش السيدة ب" عن التحرر الجسدي للمرأة العربية، نكاد نجزم بان مثل هذا الطرح المتمرد على الواقع والمجتمع والنظام الرسمي، وأيضا على الحزب، ثم على التنظيم المسلح، ثم على طبيعة المرأة، يشكل حالة فريدة لا يمكن ان تجتمع عند امرأة، فهي بكافة المقاييس متمردة، ثورية ناضجة، منجبة للفكر.

الصمود أمام الجلاد

لم تكن "نادية" قوية فقط في النضال وحسب، بل كانت صلبة تحت التعذيب، فأثبتت بذلك أنها تستحق ان تكون في مصاف القادة الكبار، "أمضيت ثلاثة أشهر تحت التعذيب... تسري الكهرباء في جسدي فتضيء عيني... يمسكون بجديلتي الطويلة ويضربون رأسي إلى الحائط في محاولة لإجباري على الاعتراف باسم منظم العمليات التي أقوم بها" ص94، الثبات والصمود في المعتقل احد أهم ميزات المناضل الصلب، هذا عدى عن تمكنها من الإقدام على العمل العسكري رغم أنوثتها، من هنا كانت "نادية" تشكل حالة فريدة في واقعها.

مشاعر "نادية" الأنثوية

قد تبدو "نادية" امرأة من فولاذ، فلا تثير فينا شيئا من الاستغراب، ويمكن ان يقول قائل، بان هناك العديد من الأبطال الخارقين، كما هوا لحال في (سوبرمان ورجل الوطواط) لكن حميدة نعناع مصرا على انسنة بطلتها، فبين الحين والآخر، تكلمنا عن مشاعرها الإنسانية، تحدثنا عن كونها امرأة وتحمل مشاعر الأنثى، " الليل في أخره، وأنا مشدودة إلى مقعدي في زاوية المقهى، على جسدي آثار الريح وصقيع هذه المدينة الرهيبة، وفي رأسي أنت... وجوه رفاقي جميعا... عنتاب التي تحترق وتشتعل نورا. كم أنا بحاجة لكفيك... لعينك... لصدرك، كم أنا بحاجة إليك يا بقايا الثورات والسجون وقلاع النسيان، كلنا نحاول ان ننسى ولكنني منذ الأمس أقاتل النسيان في جسدي وفي رأسي... لقد استيقظت المرأة ـ الشجرة ولم يعد من خطر... علي بالمواجهة... علي بالمواجهة" ص60، هنا تكمن عظمة الإنسان، وأي إنسان؟ المرأة، الأنثى، الناعمة الهادئة، الحاضنة، فتشعرنا بان هناك مشاعر وأحاسيس تواكب الإنسان، وتأثر عليه أكثر من أية أمور أخرى، مشاعر يحسها وتغالبه، تجبره على ان يكون صادقا مع نفسه، يتألم داخليا، يتوجع وبحرقة، لكن يستطيع ان ينتصر على كل هذه الأحاسيس والمشاعر، وان يتجاوزها سائرا إلى الأمام ليكمل دربه.
البكاء فعل أنساني لا يعيب أحدا، وأيا يصدر عنه، وها هي "نادية" تعتبره ميزة إنسانية لا تعطى إلا لمن يرحمهم القدر "فرأيت عين نتشه في كفي تبكي بألم غريب وسمعت نحيبها، شعرت بحقد جارف على الذين يستطيعون البكاء... لا شك أنهم يشعرون براحة غريبة بعد تفريغ دموعهم" ص152، هذا الوصف يعطي حقيقة الأنثى، فرغم ما تبديه من مظاهر القوة والسيطرة على مشاعرها، لا ان داخلها شيء مغاير، تبقى أنثى، إنسانة، فالماضي بشراسته، الرفاق الذي قضوا، مشاهد الدماء وهي تنزف، كلها تركت أثرها في "نادية" من هنا كان لا بد لها من العلاج، التخفيف من حدة الألم النفسي الذي تعاني منه، من هنا كانت لابد من "اتجهت إلى النسيان شيئا فشيئا، وبفضل حقن "الفاليوم" المضاعفة وجدت القليل من الراحة، راحة دفعتني إلى الحياة الطبيعية ـ هكذا يسمونها ـ مرة أخرى ابتدأت أقرأ ـ ربما التهم ـ الكتاب وأشعارهم ... استقبل رفاقي عندما يأتون للاطمئنان على صحتي، أساعد أمي في إعداد وجبات الطعام" ص152، ما أجمل ان يمارس الإنسان حياة طبيعية، بدون دماء أو اعتقال أو أموت، يأكل وينام، ينجب الأطفال، يتعامل مع الآخرين بطريقة طبيعية، وليس على أنهم أعداء، هذه المسائل تعتبرها "نادية" من المحظورات عليها، فالدرب الذي اختارته، الواقع الذي تعيشه، المجتمع، الأمة، العدو، الرفاق، لكلهم يعملون على زجها في أتون الحريق، في نار مقدسية، تتعذب فيها وتشعر باللذة في ذات الوقت، كل هذا يشير إلى انسنة "نادية" حبها إلى ممارسة الحياة التي تمارس من قبل أي إنسان.


صورة الرجل العربي

المرأة في حديثها لا بد لها أن تتناول الرجل، ففي مجتمع ذكوري، أبوي، سادي، كان له الدور الأكبر في الحالة التي تعيشها "نادية" ان كانت مواطنة عادية، أم مناضلة، ففي كلتا الحالتين الرجل هو من أوصلها إلى ما هي عليه، من هنا نجد نظرتها السلبية للرجل العربي، وتعتبره المسؤول الأول عن كل ما جرى ويجري، " الرجال في الشرق...كنت أريده ذكرا لان الرجال فليلون في عصرنا، وأنا مصرة على خلق رجل أو إيجاده، وعند كل وجه كنت أقف آملة أو متأملة، لكنني كنت اخلص أبدا إلى ان الرجال بعد الخامس من حزيران سقطوا في قاع وادي النار حيث كانت تحولهم "ميدوزا" إلى صخور سوداء غير قادرة على الحركة أو الحب." ص156
هكذا هم أهل الشرق العربي في نظر "نادية" كلهم ذكورا وليسوا رجالا، لم يعد هناك أحدا من الرجال بعد أن سقطت الأرض بيد العدو.
لكن هناك شخص كان رجلا حقيقية وليس ذكرا، استطاع ان يثبت ل"نادية" بأنه يستحق ان يكون زوجا لها، رجل يحمل خصائص مميزة، فريدة، غير موجودة عند الآخرين، " مرة أخرى لجأت إلى صورة صديقي ورفيقي "أبو مشهور"، حاولت ان اعزي نفسي وألومها لأنها أنكرت ـ في غمرة الاندفاع ـ ان "أبو مشهور" كان سيد الرجال جميعا، ولذلك حمل أوراقه وسافر إلى الموت.
... يعشق موسيقى شتراوس وأشعار سان بيرس يعيش حياته بإيقاع عجيب من السكينة وكأن الأحداث التي تقتلعنا جميعا لا تعنيه " ص156، المرأة تحن إلى زوجها، خاصة ان كان يحل صفات فريدة، يعيش بطريقة مميزة، يتجاوز الواقع ويتكيف معه، لا يعرف السليبة، بل قمة الايجابية، رغم ما يسببه ذلك من الم، خاصة إذا كان الإنسان يحمل أفكارا المتمردة "أبو مشهور" شارك في العديد من العمليات العسكرية، إلى ان سقط على ارض فلسطين شهيدا، هذا الرجل كان على يقين بان عمليات خطف الطائرات، والعمليات الموسمية المتسرعة، ذات الأهداف الشخصية لن تجدي ولا تفيد، ومع هذا أقدم على التنفيذ لأنه لا يرد الخروج على قرارات القيادة، فكان الثمن حياته.

نظرة "نادية" للرجل
"نادية" التي أصبحت تشكل حالة استثنائية في الساحة العربية، تركت لدى الرجال أثرا واضحا لديهم، فهي اكبر من أن تكون جسدا لامرأة، وهي اكبر من النظريات الثورية، هي من جسد النظرية على ارض الواقع، إذن هي والنظرية والتطبيق، من هنا تعامل معها محمد على أنها شيء مغاير لطبيعتها، وكأنها الماء الشافي من كل الأمراض، المخلص من كال حالا البؤس والكآبة والقهر، كانت كشيء مقدس، يتبرك منه وبه، "هل ستجدي ارض تتسع لبقايا جثث الفلاسفة الذين ذبحهم هذا المساء؟ انظر إلى وجهه في تلك الساعة وأتذكر أني ضائعة وخائبة، وعلي أن انتقم، أنا التي اعتقدت في غمرة قهرها أن الثورة فعل حضاري، ونحن شعوب القات والحشيش غير قادرين على صنعها وهي لكم... يوم ضاجعتك للمرة الأولى لم أكن أضاجع دما ولحما، كنت أضاجع حديدا ورصاصا وغابات.. ويوم قبلتني للمرة الأولى لم اقبل شفاها بل كتبا ونظريات ويومها كنت ساذجة وأحب الكتب" ص109، التداخل الحديث بين "نادية" ومحمد، يجعل هناك بعض الصعوبة في تحديث من المتحدث، لكن نستدل من الكلام بان البطلة"نادية" كانت بمثابة المثل الأعلى الذي يسعى اله الجميع، ورغم التعامل معها كامرأة إلا أن طبيعيتها ـ المناضلة ـ تغلبت على أنوثتها، من هنا يتحدث محمد عن الحديد والرصاص ونظريات ثورية، وهذا التماهي والتوحد في "نادية" يرفعها إلى مصاف إلى المقدس، الذي يفرض ذاته على الآخر

"نادية" بعد الإحباط

مسالة الصراع النفسي طرحت وبقوة في الرواية، دائما حميدة نعناع، تذكرنا بإنسانية بطلتها "نادية" فهي تمثل واقع المرأة في زمن الردة والهزائم، تمثل الثورة في عالم الامبريالية والرجعية، تمثل المرأة في المجتمع الأبوي، وها هي تتحدث عما يجول في نفسها من أفكار كافرة بكل شيء، "لماذا صدقت كل ما قيل لي في المدارس والأحزاب ومنظمات العمل السري؟ لماذا اعتقدت أن البطولة تنام في صدور رجل في هذا العلم؟... كل شيء باطل وقيض الريح ... البطولة كذبة كبيرة نحن بحاجة لتصديقها ...الشجاعة كذبة اقل خطر نمحو بها جبننا وضعفنا... والحب هو الجريمة التي نستر به عورة التملك والأنانية والرغبة بالاستعباد.. كل شيء سقط وانتهى في تلك اللحظة، ما زلت اصدق ما قيل أي؟ أما زلت اعتقد بصلاحية هذا العالم للمضاجعة والفرح والغناء؟" ص106، حالة التفكير بسلوك الناس العاديين يجعل المتمرد ـ أحيانا، ويمكن لفترة طويلة ـ أن يعيد حسابه مع ذاته، مقارن نفسه بالعاديين، أيها اصح؟ لماذا العيش في حالة من العذاب والقسوة؟، هل المشكلة في الأفكار التي يحملها أم في سلوك التنظيم؟ هل المجتمع العادي يمكن أن يتقبله الفكر المتمرد؟ أسئلة كلها تثير الفكر، وتوجع الرأس وبشكل شبهة مستمر، من هنا نجد الكفر أو اليأس من العمل السياسي عند أعداد كبيرة في المجتمع العربي، ويمكن أن تكون هذه الحالة قد أصابت العدد الأكبر من الفلسطينيين تحديدا، خاصة بعد قدوم السلطة.
لم تقتصر حالة اليأس على الفكر وحسب بل طالت السلوك أيضا، وتغير العادات، المعاملة، السلوك، انقلاب كلي يصيب الإنسان اليائس، " ـ منذ متى وأنت تتعاطين الكحول في ساعات الأولى من النهار؟ هل تحولت إلى سكيرة ممتازة مثلي؟
أوه لو يدري احمد إنني تحولت إلى رصاصة لا قدرة لها على الفعل... لو يدري إنني املك الآن كل شيء.. املك العالم ووطني وجسدي... اذبح العالم ووطني وجسدي... أنا خائبة، وانتهى كل شيء.
ارفع كأسي إلى أعلى واصرخ كمجنونة
ـ في صحتك يا احمد، سنذبح صديقنا ماركس، ولكن على طريقتنا" ص 108، مشاهد يحمل صورة الانتقام من كل شيء، الأنا، الجسد، المجتمع، التنظيم، النظام، العدو، كلها تدفعها وأوصلتها إلى هذه الحالة، تعاطي الخمر، جاءت كرد فعل على السلوك السوي للإنسان الثوري، التصرف بجسدها دون حسبان أي حساب للأخلاق ـ الحزبية أو الاجتماعية ـ الانتقام من الوطن البائس، من الفكر العاجز، ومن الرجال المخنثين، ومن الثورة في زمن القرود، هي إنسانية، مشاعرها تحمل كل ما جرى ويجري لها ولرفاقها ولوطنها، تفتقد أنوثتها، أليس لها عليها حق؟ أليس من حق المرأة في داخلها أن تكون أما؟ أليس في هذه الوضعية، تقدم جسدها للهلاك والموت البطيء؟ اعتقد بأننا أمام صورة من أروع الصور التي تعبر عما يجول في نفس الإنسان المقهور والمخذول من هواجس وأفكار متطرفة.
ها هي "نادية" تستمر في ثورتها على ذاتها، ثورة على المجتمع والنظام الرسمي العربي، ثورة على الغرب الامبريالي، ثورة على التنظيم ومن قبلة الحزب، ثورة على ذاتها، " أغلقت النوافذ والأبواب...تعريت أمام المرآة وتفقدت أعضاء جسدي عضوا عضوا... أخافني الزمن الذي بدأ زحفه على وجهي... رأيت الزمن حول العينين ... سمعت صوت الحشرة يهزأ مني: "ستموتين أيتها السيدة الجميلة، ستموتين دون أن تجدي لك وطن؟"
زعقت كالمجنونة وأسرعت أحطم المرآة التي ترسمني .. رأيت نفسي شعبا ممزقا... بقايا رماد.."ص113 و114، يضاف هذا المشهد إلى سابقه، فالإنسانية داخل المرأة الفولاذية تتمرد على تمردها، تريدها أن تفكر بذاتها، كأنثى كامرأة، لهذا الجسد متطلبات، يريد أن يتلذذ يستمتع، فجماله يتراجع ويتقهقر كما هو حال التنظيم، يجب أن تنقذه قبل أن تفقده، ولا يعود صالح للفعل، هي الآن كائن بشري بامتياز، تفكر، بالواقع، بكل ما فيه، كل من يسبب لها ألما ووجعا وقهرا، تريد أن تكون إنسانيا طبيعيا، لكنها لا تستطيع، لا تجد الطريق، كل السبل كانت مغلقة في وجهها.
مرة أخرى تعود حميدة نعناع إلى استخدام الحدث الواقعي كرمز في الرواية، فبعد أن تم تحطيم المرآة نجد بطلتها "نادية" قد عادة إلى هواجس الوطن الموجوع ".. رأيت نفسي شعبا ممزقا." إذن حالة من ازدواجية الأفكار، ازدواجية الدوافع، هل تريد الثورة على الذات أم على الواقع؟ أم على كل شيء؟
تتوغل "نادية" أكثر بالثورة على جسدها، تنتقم منه، تنتقم من مجتمعها، من العائلة التي تريدها أن تحافظ على شرفها، هي هنا كاملة الإرادة متحررة من كل شيء، من الفكر الثوري قبل الفكر المحافظ، "يمر الصمت بيننا، نقاتل اللحظة لننسى، يا أساطير النسيان... يا حاجتنا للأساطير! آه يا فراك.. كم شعرت في تلك اللحظة بقذارتنا... أحسست أن أجسادنا لا تستحق حمل رؤوسنا... لم أسألك عن موضوع روايتك، أنا اعرف تماما ماذا يدور في رأسك.. نهرب معا إلى الحب... نهرب معا وكالعادة إلى جسدينا: جثتان نتنتان" ص136
ذروة التمرد تكمن هنا، مضاجعة إنسان غربي، وليس شرقي، وكأنها هنا تخبرنا بأنها تمارس كافة المحرمات، فلم يعد يهمها شيء، هي الآن فاقدة بوصلتها، فلا تشعر إلا باللحظة التي تعيشها، تتهرب من التفكير، تترك رأسها بعيدا، وتتجه إلى جسدها، وكأنها تتعامل من مسألتين مختلفتين، الرأس اخذ كفايته من التمرد والثورة، والآن جاء دور الجسد، عليه أن يتمرد ويحصل على ما يرد.

المسألة القومية والوطنية
تناول الجذور القومية كان يشكل في حد ذاته حالة من التمرد، فنادية التي عملت في بداية حياتها مع الحزب الشيوعي، لم يكن لتهتم للمسألة القومية أو للجذور الوطنية، فقد تعلمت في الحزب بان الصراع ضد الظلم والظلام لوحدة يكفي أن يجمع كافة المظلومين في صف واحد، ومن خلال هذا المنطلق ترفض "نادية" الحديث عن جذورها القومية وترد على ذلك "ـ أنا من أصل كردي، بل والدي
ـ وكيف قررت اللحاق بهم؟ اقصد...
ردني سؤاله إلى طفولتي، إلى يوم اكتشافي الأول لكوني انتمي لأمة غير تلك التي أقاتل من اجلها... تذكرت وجه جدتي ولغتها الغربية... كلمات أبي وهو يمازحني بعد أن انتميت إلى أكثر الأحزاب القومية العربية تعصبا... اكتشافي شعر سليمان لعيسى...
ـ ما الفرق أن أكون من أصل عربي أو غير عربي؟ لقد عشت بينكم ولا اعرف لي انتماء آخر، اللغة ... التاريخ...الوجوه التي رافقت طفولتي
ـ يقولون انك أمير كردية، أهذا صحيح" ص141، البعد النضالي يتجاوز العرق أو الجنس، فهي لا تهتم لهما، فتربيتها الماركسية تجعلها تغالب الاممي على الوطني، هكذا حال كل من يتربى ماركسيا، وهناك جانب آخر، فهما للأحداث وطبيعة الصراع، وتمردها على الفكر الجامد لقيادة الحزب، جعلها تتجه إلى المنظمات الفلسطينية، التي تتحدث عنها وكأنها فلسطينية خالصة وكاملة.

فلسطين وحضور الفلسطيني
عند الحديث عن التنظيم الفلسطيني، فهذا يعني الحديث عن فلسطين والشعب الفلسطيني، من هنا كان حضور الفلسطيني وفلسطين بكل جلاء، فالرواية تتناول احد أشكال المقاومة الفلسطينية، وكيف عملت على إثبات وجودها، فعندما تحدث عن أم العبد وهي في القدس، وعندما تحدث عن التشرد "لم اذهب بأسئلتي بعيدا... تذكرت أن المليون ونصف المليون من اللاجئين يموتون من الجوع أحيانا وليس من الحرب... يرتجفون تحت الخيام في الليالي الماطرة وتلد نساؤهم خوفا من الموت، تذكرت معنى أن تكون فلسطينيا.. مسألة في غاية التعقيد لأن ذلك يعني: أن تعيش مشردا، أوان تضطر للقتل" ص86، اعتقد هنا بأننا أمام حالة انسجام وتوحد مع الهم الفلسطيني، فهذا الوصف الموضوعي يدعم فكرة تجاوز القوميات، هم الإنسان المشرد الممنوع من دخول وطنه، هذا الكم الكبير من المعاناة لا بد أن يترك أثارا واضحة وراسخة عند كل إنسان.

الطرح الطبقي
في القرن الماضي كان الأدب العربي يلقي بالا للمسألة الطبقية والصراع الطبي، الفكر الماركسي، بطريقة أو بأخرى كان له تأثيرا واضحا على فكرة العدالة الاجتماعية، من هنا العديد من الكتاب اخذوا على عاتقهم المسألة الطبقية وطرحوها في أعمالهم الأدبية، فكان هناك حديث "لأم العبد" المرأة البسيطة حول مفهومها للماركسية "شرحت لي تلك المرأة البسيطة النظرية الماركسية بجملتين: الفقراء يقاتلون فليس لديهم ما يخسرونه، الأغنياء يخافون على أموالهم... اخترت هذه المنظمة لأنهم يتكلمون باسم الفقراء" ص42، تفسير بسيط وسهل الفهم عن فكرة الماركسية للصراع، و"نادية" كانت منخرطة في هذا التنظيم وبقوة، وتعمل على أكثر من جبهة، في العمل الصحفي، في العمليات العسكرية، إن كانت داخل الأرض المحتلة أم أهداف للعدو في الخارج.

فكرة الموت
الموت يشكل حالة من الرهبة لكل إنسان، أو يجعله يقف أمامه منذهلا ـ مستسلما، أو متمردا عليه، لكن بلا تغير في مجراه ـ هناك العديد من الرفاق الذين فقدتهم "نادية" وكان أكثرهم قربا منها، زوجها ورفيقها وحبيبها ورجلها الأول، المثل للصورة الرجل الحقيقي "أبو مشهور"، الذي فقدته وهما على ارض فلسطين، عندما قاما بخطف طائر واجبروا طاقمها على التوجه إلى فلسطين، كان أكثر حديثها عن الموت، أثناء خطف الطائرة، وكـأن "نادية" بحاستها السادسة استطاعت أن تشعر بالموت القريب منهنا ومن رفاقها، "يا إلهي! ما افضع أن نكون عاشقين في لحظات الموت... حياتنا في تلك الدقائق الرهيبة كانت رهينة أي خطأ نرتكبه نحن أو الطيارون أو الركاب... أين الآباء والقادة والمنظرون ليعيشوا هذه اللحظات الرهيبة ويضربوا عن خطبهم الرنانة؟ أبائي السابقون... إن قادتي آباء عاقرون وعاجزون عن الإنجاب، تذكرت أن الموت ليس ما ننتظره، لكن الموت ما نعيشه بانتظار الموت"ص87، طبيعة الماركسية المادية تجعلها لا تلقي بالا للأحوال بعد الموت، فعندما يموت الإنسان يذهب إلى العدم، فلا شيء بعد الموت يخافه الإنسان.
المشهد السابق يشير إلى اعلي درجات الخطورة، فالأمر ليس متعلق بالمنفذين وحسب بل هناك أشخاص أبرياء، يمكن أن يذهبوا إلى الجحيم في حالة اقتراف أي خطأ من أي جهة، الحديث عن الهوة التي تفصل النظرية عن التطبيق، يؤكد على شدة الموقف وصعوبته واستحالة حسمه لصالح طرف بعينه، فلموت لم يكن يعني أكثر من الحالة ـ انتظار القادم ـ التي يعيشها الفدائيون.


سلبية العمليات العسكري

عندما انتقلت "نادية" من الحزب إلى المنظمة الفلسطينية، كانت تسعى إلى تطوير نهجها الثوري، فهي وجدت في الحزب مجرد أشكالا للعمل الجامد، بعيد عن روح الماركسية التي تعرفها وتفهمها، فهي ترفض أن تكون مجرد أداة أو آلة، هي مع العمل الثوري عندما يكون في مكانه وفي وقته، وليس العمل من اجل تحقيق مكاسب شخصية أو حزبية، في كلتا الحالتين، هي ترفض أن تكون أداة لمثل هذه الأهداف، فالعمل العسكري يجب أن يهدف في الأساس إلى إيقاع الخسائر في صفوف العدو، وما دون ذلك لا يعد ذات قيمة، وعندما ينحرف العمل عن أهدافه تكون نتائجه كارثة، ليس على التنظيم وحسب بل يطال تأثيره السلبي الأفراد والشعب، وهذا ما حصل فعلا، "ضرب نادي ضباط في احد المدن القريبة من الحدود، أما الهدف السياسي فإجبار المنظمات الفدائية الأخرى على الاعتراف بنا كقوة عسكرية وتمثيلنا في المجلس الوطني الذي كان معقودا في القاهرة، سهرنا الليل بطوله نتدارس إمكانية التنفيذ، ولاحظت أن الاستطلاع لم يكن كافيا... الأمر الذي يسبب تأخير العملية يوما أو يومين، وإلا فتكون مخاطرة عسكرية غير مأمونة العواقب، لا سيما وأن الشهر في منتصفه، والقمر يرسل بأشعته فيكشف حتى الصخور الصغيرة المختبئة في حضن الأعشاب. أعترض "فرحان" على فكرة التأجيل لان ذلك يفوت علينا أمكانية فرض وجودنا في المجلس الوطني، وبعد ساعتين، تلقينا هاتفا من القيادة في "حران" يطلب إلينا التنفيذ الفوري لان اجتماعات القاهرة قد بدأت مبكرة والانتخابات ستكون في اليوم التالي" ص122و 123، القيادة الانتهازية لا تفكر إلا بذاتها، يذهب خيرة الشباب للموت، لا يهم، كل همها الوصول إلى كرسي المجلس الوطني، المنصب، عملية كانت أشبه بالانتحارية، لكن المنتحرون فيها ليسوا من القيادة ولكن من خير الشباب، "ما الفرق بيننا وبين الحكام؟ السمك الصغير لصالح السمك الكبير، وقذف خمسة عشر مقاتلا مرة واحدة إلى الموت من اجل كسب أصوات في المجلس الوطني جريمة، لكنها جريمة مبررة باسم التكتيك والإستراتيجية، والنتيجة واحدة" ص 133، هذه إحدى السلبيات التي مورست وبكثرة من قبل الفصائل الفلسطينية، فكان في مواسم معينة ترسل المقاتل للموت، ليس لهدف عسكري، بل لهدف يحقق مكسبا سياسيا لأحد عناصر القيادة، هذا المرض كان مستشريا، ولو تم اخذ رأي "نادية" به لحقنت دماء كثيرة، وأمن العديد من المقاتلين الوقوع في الأسر.
الحيوانات رمز القذارة والشؤم
هناك العديد من الكتاب الذي تعاموا مع صور الحيوانات والحشرات بصورة سلبية، مثل عبد الرحمن منيف، وراشد عيس، وشكسبير، وها هي حميد نعناع، تقدم لقدم لنا أنموذج جديد لهذا الاستخدام، "أسمع رنين الهاتف كنباح جرو جائع" ص 101، صورة الامتعاض والتنغيص.
"أرى حشرة كبيرة سوداء قد بدأت بقرض الجدار" ص112، صورة اختراق القبح والردة إلى الذات الصلبة والنقية.
"الحشرة ترسل بأزيزها وأنا سجينة أوراقي ورغبتي بالهرب إلى مكان ما على وجه الأرض، حيث لا حشرات ولا وطن ولا ذكريات"ص135، صورة المتعب والمنهك من كل شيء

الأقوال البليغة وخلاصة التجربة
الرواية فيها العديد من المقولات التي تختزل التجربة النضالية ل"نادية" ورؤيتها للحياة وللواقع، فهي صاحبة تجربة فريدة، تستحق أن نقف عندها، لكي نأخذ العبر والدروس منها، "ما أنبل أن يعيش الإنسان من اجل قضية! علينا أن نخاطر بجلدنا لننقذ حياتنا، كنت أخشى أن أموت رني أخشى أن أعيش، والآن لا يبدو لي الموت موتا: انه مخاطرة جميلة تخاض" ص66 نجد هنا حكمة المقاتل الذي يضع روحه على كفه، ويسر إلى المعركة، فلا يبالي إن سقط شهيدا، ويتمنى أن يعود منتصرا، لكي يكمل طريقه.
"قاسا أن يضطر الإنسان للقتل! ولكن كم هو مذل ومهين أن يقتل" ص86، اعتقد هنا الكاتبة اختزلت فكرة رواية "الرعب والجرأة" ووفرت على القارئ الوقت، فعمليا رواية عدد صفحاتها يتجاوز ثلاثمائة صفحة يتم استخلاص فكرتها، بهذه الفقرة فقط، يشكل أمرا استثنائيا.
"يا إلهي! ما افضع أن نكون عاشقين في لحظات الموت... أتذكر أن الموت ليس ما ننتظره، لكن ما نعيشه بانتظار الموت" ص87، فكرة عن الموت وما يعني للمقاتل، فالموت بحد ذاته لا يعني شيئا، لكن اللحظات التي تسبق عملية الموت هي الصعبة وهي الموت بعينه.
"لا يمكن أن نخلق رجلا في عشر سنوات، لكننا نقتل رجلا برصاصة" ص99، كناية عن صعوبة إيجاد الرجال، من هنا يجب المحافظة عليهم وعدم سجهم للموت.
"يا إلهي كم هو صعب أن نعشق مقاتلا!" ص134، تكملة لما قالته سابقة عن خلق الرجال، فالمقاتل يمكن أن يسقط في أي مكان وأي وقت، من هنا سيكون خبر سقوطه حزنا وألما على أحبابه.
"لا احد يستطيع أن يكون مكانك في حسم مسائلك الشخصية" ص167، فكرة شاملة وعامة لكل الأفراد، بان عليهم حل مشاكلهم الشخصية.
"أوه ما اشد وجع الذين يملكون ذاكرة وتاريخا" ص170، كناية عن الإنسان المتمرد الذي لا يستطيع جسده أن يحمل رأسه، فهو في حالة صراع دائم مع الذات قبل الآخرين.
رائد الحواري
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف