الأخبار
بلومبرغ: إسرائيل تطلب المزيد من المركبات القتالية وقذائف الدبابات من الولايات المتحدةانفجارات ضخمة جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب بغدادالإمارات تطلق عملية إغاثة واسعة في ثاني أكبر مدن قطاع غزةوفاة الفنان صلاح السعدني عمدة الدراما المصريةشهداء في عدوان إسرائيلي مستمر على مخيم نور شمس بطولكرمجمهورية بربادوس تعترف رسمياً بدولة فلسطينإسرائيل تبحث عن طوق نجاة لنتنياهو من تهمة ارتكاب جرائم حرب بغزةصحيفة أمريكية: حماس تبحث نقل قيادتها السياسية إلى خارج قطرعشرة شهداء بينهم أطفال في عدة استهدافات بمدينة رفح"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيران
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

أدب حديث-الجزء الثاني بقلم:حسين علي الهنداوي

تاريخ النشر : 2013-12-23
أدب حديث-الجزء الثاني بقلم:حسين علي الهنداوي
موسوعة تاريخ الأدب والنقد والحكمة لعربية والإسلامية
في العصر الحديث
-2-
المجلد الثاني عشر
النثر وفنونه

حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية





حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية

مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط

ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب



النثر وفنونه

تطور النثر وفنونه
ماذا نعني بالنثر؟
تقيد بأغلال السجع والبديع:
كان خروج الحملة الفرنسية من مصر بدءًا لحياة جديدة في السياسة والعلم والاجتماع، فقد شعر المصريون -كما أسلفنا- بحقوقهم السياسية، وحقًّا لم يُتِحْ محمد علي لهم استخدام هذه الحقوق؛ ولكنها ظلت مكتنَّةً في الصدور، حتى هُيئ لها النماء والإثمار في عهد إسماعيل وما تلاه من عهود. وقد أخذت مصر منذ عهد محمد علي تحاول الاتصال بالحضارة الغربية لا في العلم فقط؛ بل في النواحي المادية والاجتماعية أيضًا؛ إذ عاش الفرنسيون بين أهلها معيشة لم يكونوا يألفونها، وقد رأوهم يلهون فنونًا من اللهو، فيها التمثيل والغناء والرقص، وكانوا ينكرون بعض هذه الفنون؛ ولكنها كانت تدفعهم إلى التفكير في أن وراء البحر عالمًا جديدًا ينبغي أن يتصلوا به، لا في شئونهم المادية فحسب؛ بل أيضًا في شئونهم العلمية والسياسية.
وقد سلَّم المصريون محمد علي مقاليد أمورهم، فاندفع ينظم الجيش على الطريقة الأوربية، وأنشأ لذلك المدرسة الحربية، ثم مدرسة الطب والمدارس الصناعية؛ ليزود الجيش بالضباط والأطباء والصناع والمهندسين. وأقام هذه المدارس المختلفة على نمط أوربي، واستقدم لها العلماء الأوربيين المختلفين، وللتفاهم بينهم وبين المصريين أقام مجموعة من المترجمين، من الأرمن وغيرهم. ثم لم يلبث أن أنشأ مدرسة الألسن، وجَدَّ في إرسال البعوث إلى الغرب؛ ليتقن المصريون اللغات الأجنبية. ومن حينئذ بدأ الاتصال المنظم بين العقل المصري الخالص والعقل الغربي الحديث.
ولكن هذا الاتصال ظل قاصرًا في أول الأمر على النواحي العلمية والفنية التطبيقية. أما النواحي الأدبية فظل فيها الاتصال معدومًا أو كالمعدوم؛ إذ لم تحدث عَلاقة حقيقية بيننا وبين الآداب الغربية. ومن المعروف أن أدب أمة لا يتأثر بآداب أمة أخرى بمجرد التقاء الأمتين؛ بل لا بد من وقت أو أوقات حتى تستطيع الأمة أن تأخذ عن غيرها وتهضم ما تأخذه وتتمثله، ثم تخرجه أدبًا جديدًا له طوابعه وشخصيته.
ولعل في هذا ما يفسر لنا جمود أدبنا في النصف الأول من القرن التاسع عشر وتخلفه وانطواءه على صورته الموروثة، فقد عشنا فيه بعقليتنا القديمة وذوقنا القديم الذي كان يُعْنَى بالسجع والبديع. وقد نشأت عندنا طبقة من كُتاب الدواوين مثل عبد الله فكري، إلا أنها لم تختلف في شيء عن روح كتاب الدواوين المتأخرين مثل القاضي الفاضل وزير صلاح الدين وطبقته، فهي تكتب المنشورات والتقريرات بأسلوب السجع، ولا تكتفي بما فيه من أغلال؛ بل تضيف أغلال الجناس والطباق وغيرهما من أغلال البديع.
وربما كان من أهم أسباب هذا الجمود أن مصر لم تكن تشعر بوجودها شعورًا محققًا؛ بل لقد عُنِي محمد علي بكبت هذا الشعور، وربما كان أهم مظهر لذلك أنه كان يستعين في المناصب الكبرى بطبقة من الأتراك، ولم يكن يسمح للمصريين بتولي هذه المناصب؛ بل لقد كان يحكمهم حكمًا مستبدًّا، ليس فيه شورى ولا ما يشبه الشورى.
فظل الشعب بعيدًا، وظلت لغته معه متخلفة لا تتطور؛ إذ لم يكن هناك بواعث سياسية ولا قومية تدفعها إلى هذا التطور؛ بل لقد كان الحاكم يقدِّم عليها اللغة التركية في دواوينه ومنشوراته وما يطبع من كتب وآثار في مطبعة بولاق؛ بل لقد كان التحدث بها بين طلاب المدارس سُبَّةً حتى عهد عباس الأول، فالشيخ المهدي يقول في مذكرات الأدب التي طبعها لتلامذة القضاء الشرعي في مطلع هذا القرن: "كانت اللغة العربية مضطهدة في عهد عباس الأول إلى حد أن مَن تكلم بها من طلبة المدارس الحربية توضع في فيه العُقْلة التي توضع في فم الحمار حينما يُقَص، ويبقى كذلك نهارًا كاملًا عقوبة له على تحريك لسانه بلغة القرآن في أثناء فسحته".
وطبيعي ألا تنهض لغتنا حينئذ، وأن تظل على عهودها السابقة جامدة راكدة ضيقة مثقلة بالسجع وما يرتبط به من قيود البديع وأغلاله. غير أنه أخذت ناشئة جديدة في الظهور، وهي ناشئة حذقت اللغات الأجنبية، وأخذت تقرأ في آدابها، وتفهم ما تقرأ، وتتذوقه، وتستمتع به.
وخير مَن يمثل هذه الناشئة رفاعة الطهطاوي الذي تعلم في الأزهر وتخرج فيه، ورافق البعثة الكبرى الأولى لمحمد علي إمامًا لها. ولم يكتفِ بعمله؛ بل أقبل على تعلم اللغة الفرنسية، حتى أتقنها. وفي أثناء إقامته بباريس أخذ يصف الحياة الفرنسية من جميع نواحيها المادية والاجتماعية والسياسية في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". وعاد إلى مصر فاشتغل بالترجمة وعين مديرًا لمدرسة الألسن، وأخذ يترجم مع تلاميذه آثارًا مختلفة من اللغة الفرنسية.
وكان ذلك بدء نهضتنا الأدبية المصرية؛ ولكنه كان بدْأً مضطربًا؛ فإن رفاعة وتلاميذه لم يتحرروا من السجع والبديع؛ بل ظلوا يكتبون بهما المعاني الأدبية الأوربية. ومن الغريب أنهم كانوا يقرءونها في لغة سهلة يسيرة، ثم ينقلونها إلى هذه اللغة الصعبة العسيرة المملوءة بضروب التكلف الشديد، فتصبح شيئًا مبهمًا لا يكاد يُفهم إلا بمشقة.
ونحن الآن لا نقرأ ما كتبته هذه المدرسة الأولى في تاريخ أدبنا حتى نشعر بضيق؛ لأنها لا تخاطبنا مباشرة؛ وإنما تخاطبنا من وراء حجاب صفيق، ويظهر أنها لم تكن تستطيع أن تُسقط هذا الحجاب؛ إذ كان شائعًا بين جميع الأدباء المصريين، وكانوا يحرصون عليه، ويتعصبون له؛ بل كانوا لا يستطيعون أن يعبروا عن أي شيء إلا به، وكأنما جمدت ألسنتهم عنده، فهي لا تستطيع أن تتحول عنه.
وعلى هذا النحو مضينا في النصف الأول من القرن الماضي وغير قليل من النصف الثاني لا نملك من وسائل التعبير النثري سوى هذه الوسيلة الضيقة، وسيلة السجع والبديع التي تخنق الكلام، وتحول بيننا وبين التعبير الحر عما نريد، وكأن ما نريد كان لا يزال شيئًا ضيقًا محصورًا، فانحصر نثرنا في هذه الصناعة الراكدة الجامدة، ولم يستطع التيار الغربي أن يحرره ولا أن يخلصه من أثقاله وأغلاله.
حركة تحرر وانطلاق:
لا نمضي طويلًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى تجتمع دوافع حقيقية لتحرر النثر وانفكاكه من قيوده الغليظة؛ فإن أمورًا كثيرة متشابكة جدت، وعملت مع أمور أخرى كانت مختفية وظهرت. وتناولت هذه الأمور أو هذه الأسباب عناصر حياتنا من جميع أنحائها وغيَّرتها تغييرًا تامًّا.
وكان أول ما حدث من ذلك نشوء الرأي العام، وظهور فكرة الوطنية، وشعور المصريين بحقوقهم السياسية المسلوبة، وقد رأيناهم يشعرون بهذه الحقوق في عهد محمد علي، ويحاول جاهدًا أن يميتها في نفوسهم؛ ولكنها لم تمت؛ بل ظلت مختفية إلى حين. وكان مما عمل على بقائها ونمائها دخول المصريين في جيش محمد علي، فكان هذا الجيش حين ينتصر في حرب يشعر المصريون بأنفسهم وبمصريتهم. وليس هذا فقط، فقد أخذوا يتعلمون ويفدون على أوربا في البعوث، فكانوا يرون حياة سياسية تخالف حياتهم، فالناس في فرنسا مثلًا لا يُحْكَمُون بفرد مستبد؛ بل يشتركون معه في الحكم وفي إدارة بلادهم. وقد كشف رفاعة في كتابه "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز" عن الفروق بين الحياة السياسية هناك وبينها في مصر، وأشار إلى أن فرنسا تُحْكم بدستور قائم من وضع الشعب وتصميمه. ومما زاد شعور المصريين بأنفسهم كشف اللغة الهيروغليفية، وتبينهم لتاريخهم القديم، فاستشعروا من ذلك كله عزة وأنفة، وطلبوا الحياة الحرة الكريمة.
ولم يتقدم بهم حكم إسماعيل حتى رأوا رأي العين ضرورة الاشتراك معه في الحكم؛ فإنه يسير في طريق محفوف بالخطر، وإذا تُرك وأهواءه وسياسته المالية السيئة فإن البلاد ستقع حتمًا فريسة في أيدي الغربيين، وقد أخذوا فعلًا يضعون لها الشباك من صندوق دين ومن مراقبة مالية ومستشارين ماليين وغير ذلك من نُذر تنذر بالشر المستطير. وإسماعيل في غَيِّه، وبطانته التركية من حوله لا ترده ولا تهديه سواء السبيل.
وأحس المصريون بخطر هذا كله، وأنهم لا يعيشون معيشة كريمة في بلادهم، وأنه حري بهم أن يلوا شئونها، وأن يعيشوا أحرارًا تحت سمائها، واستقر ذلك في نفوسهم، فلا بد من التحرر أولًا من الحاكم المستبد الذي لا يحسن تصريف الأمور، وثانيًا من الترك الذين يؤلفون حاشيته، والذين يسيطرون على المناصب الكبرى في الجيش وغير الجيش.
ولم يقف تفكير المصريين عند وطنهم، فقد فكروا في دينهم، وما أصاب المسلمين من ضعف وانحلال، فإذا الغرب يستولي على بعض بلدانهم، وإذا الخلافة الإسلامية في تركيا تكاد تنقض لما يدبِّر لها الغرب عامة. ورأى المصريون عن بصيرة أنه يجب الرجوع إلى مصادر الإسلام الأولى، حتى يُنَقَّى الدين مما علق به من أوهام وخرافات، ورجعوا يدرسون كتبه القديمة وما كتبه المسلمون في العصر العباسي. وكان ذلك تحولًا مهمًّا، فإن الأزهر لم يكن يدرس سوى كتب العصور المتأخرة التي التوت أساليبها وتعقدت أشد ما يكون الالتواء والتعقيد.
واقترن هذا الاطلاع على المصادر الأولى في الدين باطلاع آخر على المصادر الأولى في الأدب، فإن المطبعة أخذت في نشر الكتب الأدبية القديمة من مثل كليلة ودمنة لابن المقفع، فرأى المثقفون نماذج جديدة في التعبير تختلف اختلافًا بينًا عما كانوا يعرفونه، فليس فيها التكلف وليس فيها السجع والبديع؛ وإنما فيها الأسلوب المرسل الشفاف الذي لا يخفي شيئًا من المعنى ولا يستر دلالة من الدلالات. فشكوا فيما يألفون، سواء من جهة الأساليب الدينية الملتوية أو من جهة الأساليب الأدبية المقيدة بالسجع والبديع، وطلبوا طرق التعبير القديمة في الدين والأدب جميعًا.
وفي أثناء ذلك كان يشتد الاتصال بالغرب، فقد فُتحت قناة السويس، ونزل في مصر كثير من الأجانب، وأخذ المصريون يطلعون من قرب على الحياة الأوربية المادية. وكان ذلك يزيد من شعور المصريين بقوميتهم، وأن لهم شأنًا في العالم وعلاقاته الاقتصادية، كما كان يؤثر في أذواقهم وعقولهم؛ فإن العلاقات الحضارية يتشابك بعضها ببعض.
وجَدَّ المصريون منذ عصر إسماعيل في دعم اتصالهم بالغرب، فهم يكثرون من المدارس ويفتحون أبواب التعليم العالي على مصاريعها، ويؤسسون الأوبرا ويقيمون دار الكتب للقراءة والاطلاع المنظم. وبعث ذلك كله نهضة واسعة في مصر، نهضة غيرت الأذواق، وهيأتها لتطور واسع في الميادين الأدبية. وكانت تدفع هذه النهضة بقوة روحُ المصريين الجديدة وشعورهم بأن وراء ما يقرءون في الدين والأدب نماذج قديمة جديرة بالاحتذاء والتقليد، فأقبلوا عليها يقرءونها ويتأثرونها.
ولم يكن هذا التيار العربي القديم وحده هو الذي يغير في أذواقهم وعقلياتهم، فقد كان هناك تيار آخر يأتيهم من وراء البحر، لا بالأوربيين الذين يستوطنون ديارهم فحسب؛ بل بالعلم الأوربي والأدب الأوربي، وكان تصالهم بالعلم أسبق من اتصالهم بالأدب؛ ولكنه لم يُحْدث تبدلًا في حياتهم الأدبية؛ إنما حدث هذا التبدل حين أخذوا يتصلون مباشرة بالآثار الأدبية الغربية ويتذوقونها، ولم يكتفوا بذلك؛ فقد أخذوا يترجمونها، وشاركهم في هذه الترجمة عنصر عربي هاجر إلى ديارنا، هو عنصر السوريين واللبنانيين الذين وفدوا علينا فارين من اضطهاد العثمانيين أو لأغراض اقتصادية.
وكان هذا العنصر السوري اللبناني شديد الاتصال بالآداب الأجنبية؛ فإن البعوث الدينية المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية - أو بعبارة أخرى: الفرنسية والأمريكية- وصَلته بآدابها وصلًا محكمًا. فلما نزل بديارنا أخذ يعبر عن هذه الصلة بطريق الترجمة، وبذلك كانت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حَقلًا واسعًا للترجمة ونقل الآداب الغربية، فقد تُرجم كثير من القصص والروايات، وترجمت كتب لا تكاد تحصى في الاجتماع والقانون والاقتصاد وجميع فروع الفكر الغربي .
واضطرت هذه الترجمة الواسعة أصحابها اضطرارًا أن يهجروا الأسلوب الذي ترجم به رفاعة الطهطاوي وتلاميذه، أسلوبَ السجع والبديع، فقد رأوه يفسد المعاني التي يريدون نقلها وأداءها إفسادًا؛ لسبب بسيط وهو أنه لا يتسع لها، ولا يتيح للمترجم أن يعبر عنها إلا تعبيرًا مضطربًا، أو تعبيرًا ممتلئًا بعوائق السجع والبديع.
ولم يلبث هؤلاء المترجمون بعد رفاعة أن عرفوا عن طريق المطابع وما تنشر من آثار الأدب العباسي أن وراء هذا الأسلوب القاصر الذي ترجم به رفاعة أسلوبًا مرسلًا حرًّا آخر، يمكِّنهم من صياغة العبارات بحيث تؤدي المعاني الأوربية أداء سهلًا يسيرًا، فعوَّلوا على هذا الأسلوب، واتخذوه وسيلتهم إلى تصوير معانيهم، وخاصة أنهم رأوه يشبه الأساليب الغربية التي يترجمون منها، فإنها تصاغ في لغة سهلة تخلو خلوًّا تامًّا من أثقال السجع والبديع.
وعلى هذا النحو أخذ المترجمون يؤثرون الأسلوب العتيق الفصيح، وينفكون عن أسلوب رفاعة الثقيل الضيق. ولم يكتفوا بذلك؛ بل أخذوا يمرنون هذا الأسلوب على أداء المعاني الغربية الدقيقة، سواء في الفكر أو في الشعور، وأثبتوا أن لغتنا الفصيحة لا تستعصي على أداء هذه المعاني، فكانوا بذلك عاملًا مهمًّا من عوامل بعثها ونهوضها.
وحتى الآن لم نتحدث عن المطبعة والصحف، وقد كان لهما أثر بالغ في هذا التحرر من أسلوب السجع والبديع، فإن من كان يترجم مثلًا لم يكن يترجم للطبقة المثقفة الممتازة؛ بل كان يترجم للجمهور، ولم يكن هذا شأن المترجمين في العصر العباسي والعصور السابقة، فإنهم كانوا يترجمون لطائفة محدودة من الأمة، وكانوا يقدمون لها ما يترجمون في نسخ خطية قليلة. ومعنى ذلك: أن الأدب والعلم جميعًا كانا أرستقراطيين، وكانا محتكرين في جماعة بعينها من جماعة الأمة، فلما عرفنا المطبعة وانتشر التعليم في طبقات الشعب أصبح الأدب والعلم شعبيين، وأصبح المترجمون يلاحظون أنهم لا يخاطبون الطبقة المثقفة العليا في الأمة؛ بل يخاطبون طبقاتها على اختلافها.
وأحدث ذلك تطورًا واسعًا في أسلوب الترجمة والكتب الأدبية، فقد أخذ المترجمون والأدباء يلائمون بين أسلوبهم وطبقات الشعب، حتى تفهم عنهم ما يريدون أن يقولوه، وحتى لا تجد مشقة في هذا الفهم. ومن هنا أخذت الأساليب الأدبية تجنح إلى البساطة ومراعاة السهولة، فالكاتب يسعى بجهده إلى تبسيطها وتيسيرها، حتى تروج في الجمهور.
فنحن إذن لم نرجع إلى الأسلوب القديم الفصيح أو الأسلوب المرسل الحر فحسب؛ بل أخذ المترجمون والأدباء يبسِّطون أسلوبهم تبسيطًا لا ينزل به إلى مستوى العامة أو إلى الابتذال، وفي الوقت نفسه لا يعلو عليهم؛ بحيث يشعرون بشيء من العسر في قراءته وفهمه، هو أسلوب بسيط سهل؛ ولكنه عربي فصيح.
وما عملته الصحف في هذا الاتجاه كان أوسع وأعمق بحكم أنها تخاطب كل الطبقات في الأمة لا تميز بين طبقة وطبقة؛ بل لعل عنايتها بالطبقات الدنيا تزيد على عنايتها بالطبقات العليا؛ فإنها تريد أن تنتشر في أوسع جمهور ممكن، وأن تغري هذا الجمهور على فَهْمِها والاستمتاع بها حتى يطلبها.
وجمهور الكِتَاب المترجم والمؤلف من هذه الناحية أضيق كثيرًا من جمهور الصحيفة، فالكِتَاب يخاطب الطبقات المثقفة التي تقرأ، عاليها ودانيها، أما الصحيفة فإنها تريد أن تخاطب الكثرة الساحقة في الأمة؛ ومن أجل ذلك يحتاج الصحفي دائمًا إلى التبسيط في الأسلوب والتفكير بأكثر مما يحتاج مؤلف الكتاب، ومهما كانت الفكرة التي يتناولها مرتفعة في نفسها، فإنه لا بد أن يبسِّطها إلى أقصى حد، حتى تكون واضحة أمام القراء، وحتى لا يجدوا أدنى مشقة في فهمها وتصورها، ولا بد أن يُصَفِّي لفظها، ويختار لها لغة سهلة يسيرة، حتى تقترب من الذوق البسيط السهل في الأمة، وحتى يفهم القارئ ما يقرؤه ويعيه وعيًا صحيحًا.
فطبيعي لهذا السبب ولما قدمنا من أسباب وبواعث أن يهجر الأدباء والكُتاب اللغة القديمة التي كان يكتب بها رفاعة الطهطاوي، وأن يهجروا معوقاتها من سجع وبديع، فإن هذا كله لا يلائم المعاني الغربية الكثيرة التي يترجمونها ولا يلائم الذوق الشعبي المتواضع الذي يخاطبونه في الكتب والصحف جميعًا؛ إنما الذي يلائم ذلك هو الأسلوب الحر الطبيعي.
وقد أخذوا يمرنون كلمات هذا الأسلوب على أن تحمل إلينا الآداب والثقافات الغربية من جهة، كما أخذوا يمرنونها على هجر الموضوعات الضيقة، التي كان يُعْنَى بها كتابنا وأدباؤنا في العصور الوسطى، وهي موضوعات شخصية في جملتها لا تكاد تتجاوز موضوعات الشعر من تهنئة بفتح أو ظفر، ومن تعزية أو وصف، ونحو ذلك من موضوعات النثر القديم.
فقد أحلوا محل هذه الموضوعات المحدودة موضوعات عامة، وبعبارة أخرى: أحلوا الأمة محل الأفراد القدماء، فلم يعد الكاتب يتوجه بكتابته إلى شخص معين؛ بل أصبح يتوجه إلى طبقات الأمة على اختلاف درجاتها. ومعنى ذلك: أنه أصبح أديبًا ديمقراطيًّا بعد أن كان أرستقراطيًّا يوجه حديثه إلى أرستقراطيين من أمراء ووزراء وغير أمراء ووزراء؛ لينال مكافآتهم وجوائزهم فيما يعرض له من شئونهم الشخصية، وليمكنوه من المعيشة والحياة.
فقد انتهت هذه الدورة أو الدورات في نثرنا -أو كادت- وأخذ هذا النثر يسعى إلى محيط أوسع، هو محيط الشعب الذي يكسب عيشه منه مباشرة بما ينشر من الكتب وبما يكتب في الصحف. ونتج عن هذا التحول أشياء كثيرة، فإن الكاتب لم يعد عبدًا مسترقًّا لأشخاص بأعينهم، أو لهذا الأمير أو هذا الوزير؛ بل رُدَّتْ إليه حريته، فهو يكتب كما يريد، لا كما كان يريد له الأمراء والوزراء ومن إليهم من الحكام، يكتب آراءه وأفكاره كما أحسَّها وشعر بها دون أن يخضع لفرد من الأفراد مهما كان شأنه.
وشيء آخر أتى من تحول الكاتب إلى الجماعة الكبرى جماعة الأمة، فإنه أخذ يُرضي هذه الجماعة وشعورها وذوقها، مما كان سببًا في نشوء رأي أدبي عام يعلن رضاه وسخطه على حياتنا الأدبية. وتحت تأثير هذا الرأي تطور أسلوب النثر وتحرر من أغلال السجع والبديع كما قلنا آنفًا.
وشيء أعمق من هذا كله وأبعد أثرًا في حياتنا الأدبية في أثناء النصف الثاني من القرن الماضي، فإن أدبنا أخذ يُعْنَى بتصوير الجماعة وتصوير ميولها السياسية وغير السياسية؛ لسبب بسيط؛ وهو أن الأدباء تحولوا إلى الجماعة يخاطبونها ويقدمون أدبهم إليهم، فكان لا بد أن يخاطبوها في شئونها التي تهمها وحياتها التي تعيشها أو تريد أن تعيشها.
ونحن لا نصل إلى عصر إسماعيل حتى يتكامل وَعْيُ هذه الجماعة، وحتى تريد أن تنال حقوقها السياسية المسلوبة، وقد أخذت تنظر في جوانب حياتها المختلفة سياسية وغير سياسية، وتطمح إلى إصلاحها من جميع أنحائها. وكان من أهم ما فكرت فيه الدين نفسه وأممه وخلافته العثمانية التي ترمز إليه، والتي كان لهم سلطان شرعي في مصر وغير مصر من الأقطار الإسلامية.
ولم يلبث الأدباء أن لبوا هذه الغايات الشعبية عند الأمة، فأصدر عبد الله أبو السعود صحيفة "وادي النيل"، وأصدر إبراهيم المويلحي جريدة "نزهة الأفكار". وصدرت جريدة "الوطن". وأخذ السوريون واللبنانيون المهاجرون إلى مصر يشاركون في هذا النشاط الصحفي؛ فأصدر أديب إسحاق وسليم نقاش صحيفة "مصر"، وأصدر سليم وبشارة تقلا "صحيفة الأهرام"، وسليم الحموي "الكوكب الشرقي"، وسليم عنحوري "مرآة الشرق"، وتنحى عنها فتولى تحريرها إبراهيم اللقاني. وبجانب ذلك أصدر يعقوب صنوع صحيفته "أبو نظارة"، كما أصدر عبد الله نديم صحيفته "التنكيت والتبكيت"، وحين اشتد الحماس الوطني قُبيل ثورة عرابي حوَّلها سياسية ثائرة وسماها "الطائف".
وهذه الصحف المختلفة كانت تصور عواطف المصريين السياسية، وتنادي بالإصلاح في الأداة الحكومية قبل أن يستفحل الخطب ويتفاقم الأمر، فإن الأوربيين فرضوا على إسماعيل رقابة مالية، ورقابة المال تؤدي إلى رقابة الحكم. وأخذت صحفنا تنقد الحاكم وتندِّد بسياسته السيئة، وسُرعان ما تحولت ثائرة عليه ثورة غاضبة.
واقترن بهذه العواطف السياسية المتأججة في نفوس المصريين عاطفة دينية قوية تدعو إلى إصلاح الدين وتنقيته مما أَلَمَّ به من خرافات. ولم يلبث الشيخ محمد عبده أن مزج بهذه الدعوة دعوة عامة إلى إنقاذ الإسلام والمسلمين مما حل بهم من تأخر واضمحلال، وفكر في وطنه وما أصابه من جَوْر حكامه وسوء أحواله الاجتماعية.
ومما لا شك فيه أن جمال الدين الأفغاني هو الذي دفع الشيخ محمد عبده دفعًا قويًّا في هذا الاتجاه؛ إذ كان يلزمه في بيته وفي غَدواته وروحاته، وهو يلقي دروسه الدينية والفلسفية، داعيًا إلى الإصلاح السياسي والديني والاجتماعي، ومهيجًا الخواطر ضد الحكام الذين يختانون أمانة أوطانهم الإسلامية بما يُطلقون من أيدي المستعمرين الأوربيين في شئونها المالية وغير المالية. وقد أخذ يمرن تلاميذه -وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده- على الخطابة وإنشاء المقالات في الصحف. وتحولت إلى التلميذ النابغ جميع تعاليم أستاذه في السياسة وغير السياسة، وتأججت في صدره حماسة لاهبة لخدمة دينه ووطنه. وهيئت الفرصة له ليذيع آراءه الإصلاحية في الجمهور؛ إذ تولى تحرير "الوقائع المصرية" لأول عهد توفيق.
واشترك في الثورة العرابية، حتى إذا أخفقت حُكم عليه بالنفي ثلاث سنوات، فذهب إلى بيروت ثم تركها إلى باريس، وكان قد سبقه جمال الدين إليها، وأصدرا هناك صحيفة "العروة الوثقى" يذيعان فيها على مصر والعالم الإسلامي ما يوقد نار الحمية الإسلامية في النفوس، وكانا يؤمنان بوجوب توحُّد المسلمين تحت راية الخلافة العثمانية، حتى يقفوا رجلًا واحدًا أمام الأوربيين وجشعهم الاستعماري البغيض.
وعلى هذا النحو كانت الموضوعات التي يتناولها كُتَّابنا في عصر إسماعيل وقبل الاحتلال الإنجليزي سنة 1882 موضوعات سياسية ودينية واجتماعية، وهي موضوعات عامة، لم يكن يستمدها الكُتاب من عواطف فردية أو شخصية؛ وإنما كانوا يستمدونها من عواطف الشعب، فقد أصبح الشعب هو كل شيء، وأصبحت ميوله الإطار الذي توضع فيه المقالات الصحفية المختلفة.
وتعم الكآبة مصر وتخمد مؤقتًا هذه الجذوة القوية فيها لأول عهد الاحتلال؛ ولكن لا نمضي طويلًا حتى تسترد هذه الجذوة قوتها واشتعالها، فيصدر العفو عن الشيخ محمد عبده وعبد الله نديم اللذين اشتركا في الثورة العرابية، وتصدر صحيفة "المؤيد" يصدرها الشيخ علي يوسف، معبرًا فيها عن نزعتنا الوطنية، ويصدر عبد الله نديم صحيفة "الأستاذ" يناوئ فيها الاستعمار، ويصدر مصطفى كامل صحيفة "اللواء" ويبعثها نارًا ضد الاستعمار والمستعمرين، ويؤلف "الحزب الوطني"، ويصارع الإنجليز صراعًا قويًّا عنيفًا. ويتألف حزب الأمة، ويُصدر صحيفة "الجريدة" ويحررها لطفي السيد، ولم يكن هذا الحزب ثائرًا ثورة الحزب الوطني؛ بل كان يميل إلى الاعتدال في الكفاح، وقد خرج بفكرة أن مصر للمصريين، فينبغي ألا نفكر في الخلافة العثمانية والعثمانيين؛ بل ينبغي أن نقصر تفكيرنا على أنفسنا ومصالحنا. وكان مصطفى كامل يعطف على الخلافة الإسلامية، وهو عطف كان يصور فيه عواطف الشعب المصري الذي كان يعد هذه الخلافة رمزًا لدينه، ولم يكن مصطفى كامل يتعدَّى ذلك، فوجهته وطنه واستقلاله وتخليصه من براثن الاحتلال. وأعلنها حربًا شعواء على الإنجليز لا تضعف ولا تلين كما يلين حزب الأمة وأنصاره، واندفعت الأمة المصرية وراءه غاضبة ناقمة.
وهذه الحركة الوطنية التي كانت تصدر عن روح الأمة وما صحبها من ترجمة أو من التيار الغربي الذي أخذ يعمل في مجرى حياتنا الأدبية، كل ذلك كان مصدر نشاط أدبي خصب، سواء من حيث اللغة التي نعبر بها عن أدبنا، أو من حيث الموضوعات التي كان يتناولها.
أما اللغة، فقد تحررت من عوائق السجع والبديع. على أنه ينبغي ألا نطلق هذا القول إطلاقًا عامًّا، فقد كان لا يزال يوجد محافظون يتأثرون في كتابتهم بالسجع وما يتصل به من البديع، وكانوا قليلين؛ ولكنهم ظلوا قائمين في حياتنا الأدبية منذ ثورتنا اللغوية التي نَحَّت هذه العوائق بعيدًا عن الأسلوب الفصيح، وظلنوا ينتجون آثارًا تخضع لذوقهم المحافظ, لا في القرن الماضي فحسب؛ بل أشواطًا من هذا القرن.
وكان يوجد ثائرون على اللغة العربية، لا في صورتها المعقدة عند أصحاب السجع والبديع فقط؛ بل أيضًا في صورتها السهلة الميسرة عند أصحاب الأسلوب المرسل، وكانوا يرون أن من الخير أن نهجرها جملة ونستخدم مكانها لغتنا العامية. وظهر هذا الاتجاه قويًّا عند من تثقفوا بالآداب الغربية، فقد رأوا أصحاب هذه الآداب يهجرون في عصر النهضة اللغة اللاتينية التي كانوا يعبرون بها عن أفكارهم وعواطفهم، ويتخذون مكانها لغاتهم المحلية، وأنشئوا بهذه اللغات آدابهم المختلفة من فرنسية وإنجليزية وغير فرنسية وإنجليزية. فقالوا: ما لنا وللغة قديمة ليست لغتنا ولا ملكًا لنا، ولا هي أداة طيِّعة للتعبير الحر الطليق عن عواطفنا ومشاعرنا، وها هي يبدو عجزها عن أداء المعاني الغربية الكثيرة التي نريد أن نؤيدها؟ وقالوا أيضًا: إنها ليست اللغة المصرية الصميمة؛ بل هي منا كاللغة اللاتينية من الأوربيين، فلن يقدر لها البقاء، بل لا بد أن تحل محلها اللغات العامية في البلاد العربية المختلفة. وكان ممن يدافع عن هذا الاتجاه محمد عثمان جلال الذي ترجم بعض روايات موليير إلى لغتنا الدارجة، فاتسعت هذه الدعوة، ولا يزال لها أنصار إلى يومنا الحاضر.
ولم تنجح حينئذ لأسباب بعضها سياسي وبعضها ديني وبعضها أدبي خالص، فقد دعا بعض الإنجليز إليها في محاضرات عامة بمصر وفي بعض كتاباتهم، كما دعا إليها بعض المستشرقين، فأحس الشعب وأدباؤه خطرًا فيها، وأنها إن صحت كانت كارثة سياسية يريدها المحتل، حتى تنسى الأمة ماضيها العربي والإسلامي. وأيضًا فإن هذه اللغة العربية التي يدفعها محمد عثمان جلال وإخوانه لغةُ القرآن الكريم، أو بعبارة أخرى: لغةٌ مقدسةٌ يقدسها الشعب. فكان صعبًا إن لم يكن مستحيلًا- على الشعب أن يتحول عنها، وحتى إن كان لا يحسنها فإنه ينبغي أن يسعى إلى إحسانها. وسبب ثالث، ولكنه لا يأتي من قبل السياسة ولا من قبل الدين، وإنما يأتي من قبل الأدباء أنفسهم، فإن كثرتهم رأت ألا تنزل إلى لغة الشعب، حتى يظل لها شيء من التفوق اللغوي الذي يفصل بينها وبين العامة. وربما كان من أهم الأسباب أيضًا أن هؤلاء الأدباء من صحفيين وكُتاب ومترجمين استطاعوا أن يؤدوا باللغة الفصيحة كل ما أرادوه من معانٍ وأفكار، فهي ليست قاصرة ولا عاجزة؛ بل أثبتوا أن فيها قوة لتحمُّل المعاني فضلًا عما فيها من براعة وجمال.
ولهذه الأسباب مجتمعة أخفقت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن الدعوة إلى استخدام العامية في حياتنا الأدبية، واقتصرت على الصحف الفكاهية التي لا تزال تخرج بها إلى اليوم. وبالمثل أخفق الاتجاه المحافظ إلى أسلوب السجع والبديع، وانتصر الأسلوب الجديد، الأسلوب العربي المرسل، ووثب به الكُتاب وثبات واسعة في التعبير والتصوير.
ولا بد أن نذكر هنا "دار العلوم" التي أنشأها علي مبارك؛ لتساعد على تعليم هذا الأسلوب الذي ارتضته مصر؛ إذ لم يكن يعلم العربية سوى الأزهر، ولكن علماءه كانوا محافظين، وكانوا مرتبطين بأسلوب السجع والبديع من جهة، وبكتب النحو المعقدة من جهة ثانية، فرأى علي مبارك أن ينشئ هذه المدرسة؛ لتعلم المصريين العربية بأسلوب يتمشى والنهضة الحديثة، وقامت "دار العلوم" بما أريد منها في هذا الطور من التحرر في اللغة والانطلاق من الأسلوب المسجَّع المعقد، فكانت تُخْرج للمدارس المدنية طائفة من المعلمين ييسرون العربية على الطلاب، ويُعدونهم إعدادًا صالحًا لهذه الدورة الجديدة.
على كل حال، فَكَّ المصريون، أو بعبارة أدق: فكت كثرتهم أنفسها من أغلال أسلوب السجع التقليدي، ورجعت إلى الأسلوب المرسل تعبر به عن ذات نفسها، واكتفت من هذا الأسلوب بإطاره، أما نماذجه فقد نبذتها نبذًا، لا لأنها سيئة في نفسها؛ بل لأنها لا تلائم حياتها؛ إذ كانت نماذج شخصية أو ديوانية، وكانت لا تتصل بالجمهور ولا بعواطفه، ولا تمس حياته السياسية والاجتماعية.
لذلك كان طبيعيًّا ألا يلتمس الكُتاب المصريون في القرن الماضي نماذجهم عند القدماء، فقد أخذوا يوجدون لأنفسهم نماذج تتصل بحياتهم وما اختلف عليها من أحداث وتهيأ لها من ظروف صحفية وغير صحفية. وقد دفعتهم الصحافة التي حاولوا أن يجاروا بها الصحافة الغربية إلى إنشاء فن المقالة، وهو فن لم يعرفه العرب القدماء؛ إنما عرفوا الرسائل التي تتناول بعض الموضوعات في سعة، وهي أشبه ما تكون بكتيب صغير، فلما وُجدت الصحف، وحاول الكُتاب أن يكتبوا في الموضوعات التي تهم الجمهور استحدثوا هذا النموذج الأدبي القصير، وأخضعوه للضرورات الصحفية من حيث القصر ومن حيث تبسيط الفكر حتى يفهمها الناس وتسهيل اللغة حتى لا تكون عسيرة عليهم.
وأخذ الكُتاب يمرنون هذا النموذج الجديد ليصور آراءهم في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، وفي الإصلاح الديني والاجتماعي، وفي كل شأن من شئون الحياة. وكلما تقدمنا مع الزمن قطعنا مرحلة في هذا التمرين، ونحن لا نصل إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حتى يتكون لنا في هذا النموذج طبقة ممتازة من الكُتاب مثل: علي يوسف ومصطفى كامل وفتحي زغلول وقاسم أمين وعبد العزيز محمد وأحمد لطفي السيد ومحمد عبده، وغيرهم ممن كانوا يصارعون الفساد الاجتماعي والفساد السياسي والفساد الديني.
وكان لهذه الطبقة من الكُتاب المفكرين أبعد الأثر وأعمقه في حياتنا المصرية، فهم الذين حملوا راية الإصلاح في كل جانب من جوانب حياتنا العامة، ولا تزال دعواتهم الإصلاحية حية مؤثرة في نفوسنا، فقد أشعرونا بحقوقنا وواجباتنا وما يتعلق بحياتنا من أسباب التأخر والانحطاط، وعلمونا كيف نعيش في وطننا أحرارًا، وكيف ننهض إلى تحقيق استقلالنا وتحقيق حياة كريمة لنا. وبذلك أثاروا فينا العناصر الكامنة من قُوانا، وكان لمصطفى كامل الفضل الأول في دفعنا إلى مصارعة الاحتلال مما جنينا آثاره في ثورة سنة 1919، ثم في ثورتنا الأخيرة المباركة.
وحاول محمد عبده محاولة تجديدية جريئة في الدين، وهو أهم مصلح ديني عرفته مصر الحديثة، وقد أخذ يدعو إلى تخليصه من الأوهام والخرافات، والبحث فيه بحثًا حرًّا على نمط البحث القديم عند المعتزلة، فباب الاجتهاد فيه لم يغلق، ولا ضير أبدًا في أن نبحث فيه وفي أصوله على ضوء الفكر الحديث. وأخذ يثبت في مقالاته وأبحاثه أنه دين عالمي حي، وأنه لا يتعارض مع المدنية الحديثة، ورد ردودًا قوية على من يهاجمونه من المستشرقين والمستعمرين. وقام بتفسير القرآن الكريم تفسيرًا جديدًا يتفق وهذه الروح. وأصلح القضاء الشرعي حين عُهد إليه بالإفتاء في عهد عباس الثاني كما أصلح مناهج التعليم في الجامعة الأزهرية.
وحمل قاسم أمين راية الإصلاح الاجتماعي، وقد رأى أن من أهم أسباب تأخرنا عن الغرب حجابَ المرأة وجهلها وشل هذا الجزء الحي في مجتمعنا وإهدار جميع حقوقه في الزواج بل في الحياة. وكتب في ذلك مجموعة من المقالات نشرها في صحيفة "المؤيد"، ثم جمعها في كتاب بعنوان "تحرير المرأة"، وأتبعه بكتاب آخر سماه "المرأة الجديدة"، وفيه دافع ثانية دفاعًا حارًّا عن حرية المرأة، ورسم خطوط هذه الحرية، وأنه ينبغي أن تخرج إلى حياتنا العامة، وأن تشترك في أعمالها ومسئولياتها المختلفة. وكان ذلك ثورة في أول القرن، وخاصة في البيئات المحافظة، وكُتب لهذه الثورة أن تنجح نجاحًا هائلًا بعد الحرب الأولى حين رُدت إلينا حريتنا، فخلعت المرأة الحجاب وتعلمت، وأصبحت تشارك في الأعمال الحكومية والمهن الحرة من طب وغير طب.
وعلى هذا النحو كانت كانت هذه الطبقة من كُتابنا تجدد حياتنا وعقولنا وتدفعنا خطوات إلى الأمام، وكان كثير من أفرادها قد أتقن اللغات الأجنبية، وأخذ نفسه بقراءة آثار المفكرين الغربيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فاندفع يقتبس من هذا الفكر الغربي الحي النشيط فيما يكتب لقومه من مقالات، وأهم من يوضح هذا الاتجاه فتحي زغلول وأحمد لطفي السيد، وقد ترجم الأول كتاب "سر تقدم الإنجليز السكسونيين"، ونشره مقالات مسلسلة في صحيفة "المؤيد" سنة 1899، أما لطفي السيد فعُنِيَ بترجمة بعض آثار أرسططاليس. فكان الأول باعثًا على البحث في عيوبنا الاجتماعية، وكان الثاني رائدًا لاتصالنا بالفلسفة الغربية وأبحاثها في القديم والحديث. ولكن ليس ذلك هو المهم عندهما، فقد دفعا هما وأمثالهما -ممن تثقفوا في عمق الثقافة الغربية- نموذجنا النثري الجديد -نموذج المقالة- إلى أن يصبح نموذجًا فكريًّا نشيطًا، بما اقتبسوا له من أفكار الغربيين في السياسة والأخلاق والاجتماع.
وفي أثناء ذلك كان ينمو عندنا فن قديم ويتطور، وهو فن الخطابة، ومعروف أن العرب كانت لهم خطابة نشيطة في العصرين الجاهلي والإسلامي، وأنهم عرفوا الخطابة السياسية عند زياد بن أبيه ونظرائه، كما عرفوا الخطابة الدينية عند الحسن البصري وأقرانه. وازدهر هذان اللونان في العصر الأموي، وسرعان ما ذبلا وفقدا النضرة والحياة في العصر العباسي ثم في العصور التالية، فقد ضغط العباسيون على الناس وحرموهم الحديث في شئونهم السياسية. وجمد العقل العربي فلم يتطور الخطباء بالخطابة الدينية في صلاة الجمعة والأعياد؛ بل اكتفوا بنماذج ابن نباتة معاصر سيف الدولة في القرن الرابع الهجري، وأخذوا يبدئون فيها ويعيدون دون تغيير أو تبديل.
جاء عصرنا الحديث إذن والخطابة السياسية ميتة، والخطابة الدينية كأنها الأخرى ميتة، فلما أخذنا نسترد حريتنا وننقل القضاء الغربي إلى ديارنا عادت الخطابة السياسية إلى النشاط، وأنشأنا خطابة جديدة عرفها الأوربيون هي الخطابة القضائية. فوُجد المحامون ووجد المدَّعون، ونبغ في الطرفين مجموعة كبيرة من نابهي الخطباء القضائيين.
وبذلك تنهض مصر بهذين اللونين من الخطابة في الأدب العربي الحديث، فهي التي أتيح لها أن تنشط فيهما؛ إذ كانت الحريات مكبوتة في البلاد العربية الخاضعة لتركيا، ولم يُنْقَلْ إليها النظام القضائي الغربي، فكنا السابقين في هذين اللونين .
مصر إذن هي التي سبقت البلاد العربية إلى إنشاء الخطابة القضائية وإحياء الخطابة السياسية وبَعْث حياة رائعة فيها بما كان يقرأ خطباؤها عن الثورات الغربية ومبادئها في الحرية والإخاء، وبما كانوا يقرءون عند كُتاب الغرب المختلفين في الحقوق الإنسانية.
ومصر هي التي صنعت نموذج المقالة، وحقًّا أسهم في هذه الصناعة إخواننا السوريون واللبنانيون الذين هاجروا إلينا مثل أديب إسحاق؛ ولكن من الحق أيضًا أننا لم نصل إلى فاتحة هذا القرن حتى كان لنا كُتاب متميزون حملوا خير حمل عبء النهوض بالمقالة سياسية وغير سياسية؛ بل لقد دفعوها أشواطًا حتى أصبحت ثرية بالفكر الحي النشيط.
ومن الواجب أن نذكر هنا المنفلوطي، وهو لم يكن يكتب في السياسة؛ إنما كان يكتب في الاجتماع، فكان ينشر في صحيفة "المؤيد" مقالات تتناول بعض جوانب المجتمع بعنوان "النظرات"، ينظر فيها في بعض مساوئنا الاجتماعية، وقد جمعها ونشرها بنفس العنوان. وليس المهم الموضوع فكثيرًا ما طرقه كُتابنا؛ إنما المهم الإطار الذي صاغه فيه، فقد عُني بأسلوبه وأدى معانيه فيه أداء فنيًّا بديعًا، ولم يحاول ذلك في أسلوب السجع الذي أهملناه؛ وإنما حاوله في الأسلوب المرسل الجديد؛ ولكنه عُنِيَ عناية بارعة بهذا الأسلوب، عُنِي باختيار ألفاظه وانتخابها، ووفَّر لها ضروبًا من الموسيقى بحيث تسيغها الآذان وتقبل عليها. وكان شبابنا في أول القرن يعجب بهذا الأسلوب إعجابًا شديدًا، وظل ذلك الإعجاب يرافقنا طويلًا.
ولم تكن المحاولات التي حاولناها في هذه الدورة من حياتنا قبل ثورتنا وقبل نهاية الحرب الأولى تقتصر على المقالة والخطابة، فقد أخذ كُتابنا يحاولون محاولة أخرى في لون جديد لم نكن نعرفه، وكان قد تُرجم إلينا منه آثار غربية كثيرة، وهو لون القصة، وقد صنعنا فيه حينئذ بعض محاولات لعل أهمها "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي و"زينب" لمحمد حسين هيكل.
أما المحاولة الأولى، فتصور كيف كان بعض كُتابنا لا يزالون يستوحون النماذج القديمة. ومن أهم هذه النماذج -كما نعرف- المقامة، وهي قصة قصيرة لأديب متسول، يرويها راوٍ عنه في أسلوب مسجَّع، وقلما زادت عن صحيفتين أو ثلاث. وهذا النموذج القصير تحول عند المويلحي إلى قصة اجتماعية طويلة ليست لأديب متسول؛ وإنما هي لأحمد "باشا" المنيكلي الذي تُوفي في عصر محمد علي، ثم بُعث أو رُدت إليه الحياة في أواخر القرن، فنفض عنه تراب القبر، وخرج فالتقى بعيسى بن هشام راويته، وأخذ يعيش في حياة مصر الجديدة حينئذ، فوجد كل شيء تغير، وأخذ يقارن بين الحاضر والماضي في نظام الشرطة والقضاء وعادات الناس مصورًا ذلك في صورة نقد اجتماعي واسع، وهو نقد صاغه في أسلوب المقامات المسجوع، وكأنه يكتب مقامة طويلة.
وهذه القصة تدل في وضوح على أنه كان لا يزال بين كُتابنا من يكتبون على الطريقة التقليدية؛ ولكنهم كانوا يحاولون أن يلائموا بينها وبين حياتنا الحديثة، على نحو ما يصنع المويلحي في هذه القصة؛ إذ يخوض في الشئون الاجتماعية التي كان يكتب فيها المصلحون من مثل: قاسم أمين وفتحي زغلول. ومن المؤكد أن أمثال المويلحي الذين كانوا يصطنعون الأسلوب المسجوع كانوا يدخلون في الظلال شيئًا فشيئًا؛ ليحل محلهم ذوق جديد.
وخير ما يصور هذا الذوق حينئذ المحاولة الثانية أو القصة الثانية التي ألفها هيكل وهو في باريس سنة 1910، ثم نشرها في صحيفة "الجريدة" وهي محاولة جديدة كل الجدة، فليس فيها شيء من أسلوب المقامات، ليس فيها عيسى بن هشام راوي بديع الزمان، وليس فيها سجع ولا بديع؛ وإنما فيها لغة سهلة قريبة من لغتنا اليومية؛ بل لا بأس عند مؤلفها من اقتراض بعض ألفاظ عامية تدعو إليها ضرورات القصة.
وهي قصة مصرية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، تصور حياة ريفنا المصري وطبقاته الغنية والفقيرة وما يقوم بين هذه الطبقات من عوائق اجتماعية. وتتضح في القصة دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة، كما يتضح فيها ريف مصر، لا بفلاحيه فحسب؛ بل أيضًا بمناظره الطبيعية وما فيها من فتنة وجمال.
وفي أثناء هذه الحقبة من أوائل القرن العشرين كان جرجي زيدان ينشر قصصه التاريخية التي بلغت نحو عشرين قصة، وقد استمد حوادثها من التاريخ الإسلامي، وهي في جملتها لا تستوفي شروط القصة من الحبكة والتسلسل الروائي؛ ولكنها على كل حال تعد عملًا جديدًا. وبجانب ذلك كتَب تاريخ التمدن الإسلامي في خمسة أجزاء كما كتب تاريخ الأدب العربي في أربعة أجزاء استقى فيها من كتابات المستشرقين.
ولا بد أن نذكر هنا أيضًا "ذكرى أبي العلاء" لطه حسين، وهو البحث الذي نال به درجة الدكتوراه من الجامعة القديمة التي أنشأها قاسم أمين وغيره من رجالات الفكر سنة 1908، واستقدموا لها كبار المستشرقين من أوربا، فبعثوا حياة علمية جديدة في دراستنا الأدبية، كانت ثمرتها هذه الرسالة التي حلل فيها كاتبها نفسية أبي العلاء وأثر الوسط المكاني والزماني فيه.
وعلى هذا النحو لم نصل إلى الحرب الأولى في هذا القرن حتى ظفرنا بتقدم واضح في الأدب ونقده. ومن المحقق أن جذوة الفكر المصري استطاعت منذ أوائل القرن أن تتوهج وأن ترسل ضوءها وشررها في مختلف الاتجاهات العقلية والفكرية؛ ولكن من المحقق أيضًا أنها كانت تصنع ذلك في أناة ورَيْث
عصر الانفتاح العربي
بدأت كل من سوريا، ومصر التأثر بمعطيات الحضارة الأدبية في مطلع القرن التاسع عشر، من خلال تبني منهج النظام الرأسمالي، ورافق ذلك نمو في حركات التحرر، وتغير في الحياة الفكرية.
وقد تبنى أصحاب هذا الانفتاح فكرة البعث والإحياء لأمجاد الأمة العربية، وسلكوا سبيل تجاوز التخلف الحضاري، من خلال نشر التعليم والإصلاح الاقتصادي وذلك لسد حاجات العصر.
وقد كان أهل الانفتاح السوريون هم السباقين لصياغة مبادئ الانفتاح ، من خلال المدن السورية وأوروبا وعلى أكتاف المسحيين العرب من أمثال
( جرمانوس فرحات مؤسس المكتبة الماردنية بحلب )
وكانت المدارس التبشيرية عامل إكساب الثقافة الأوربية ومن خلال مبادئ ( جان جاك روسو) في الحرية أسس السوريون ( فلسفة الحرية ) لتحطيم قيود المجتمع المعيقة للتقدم .
وأثبتوا ضرورة تبني أفكار الانفتاح مازجين بين أفكار(روسو وتولستوي ) ‘ وكان على راس هؤلاء ( فراح انطون- جرجي زيدان – أديب اسحق –فرنسيس مراش ) وعلى الرغم من كون الجماهير الشعبية لم تقبل الأفكار التي طرحها المنفتحون الجدد لكونها خارجة عن أطر الإسلام ، فقد رأى قسم من المنفتحين المصريين من أمثال ( رفاعة الطهطاوي ) ( 1801- 1873 ) م إثبات ما أعجب به استنادا إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فعندما زار باريس رأى ( تساوي الناس أمام القانون – وحرية المعتقد – استقلال القضاء – حماية الملكية الخاصة ) ثم جاءت حركة الإصلاح على يد جمال الدين الأفغاني ( 1839- 1897 ) م ومحمد عبده (1849- 1905 ) م رافقه شعار العودة بالإسلام إلى نقائه الأول ، وقد ارتبطت هذه الحركة بالنضال الوطني التحرري الهادف إلى وحدة الشعوب الإسلامية ونشر التعليم ، وخاصة أن مصر هي موطن أعرق جامعة إسلامية في العصر الحديث (جامعة الأزهر الشريف ) ، وانطلقت أسماء جديدة من مثل ( رفاعة الطهطاوي ) و ( حسن العطار ) ( حسين المرصفي ) ، ووجدت هذه الحركة الإصلاحية أنصاراً لها في سورية عند ( عبد الرحمن الكواكبي ) . وهكذا فقد أستندت الثقافة الانفتاحية إلى تيارين اثنين في ذلك العصر ، مراعاة الشكل الديني ، وتيار مراعاة الفلسفة والآراء الاجتماعية ، والسياسية، وكان الاحترام متبادلاً بين أصحاب هذين التيارين حتى إنك لتجد أن بعض أصحاب هذين التيارين يعملان في صحيفة واحدة سيما وأن قسماً من المنفتحين السوريين قد هاجر إلى مصر هرباً من اضطهاد السلطات التركية .




الأدب في عصر الانفتاح
أصر أهل الانفتاح على ضرورة تطوير اللغة والأدب بما يتناسب مع حاجات العصر ، بسبب وجود سبل من المفاهيم السياسية والفلسفية والعلمية التي دخلت لغتنا من خلال الصحافة والاحتكاك بالمستعمر .
وأكدوا على ضرورة المحافظة على اللغة الفصحى في الإبداع الأدبي من خلال بعث التراث العربي فقد طالبوا بتجديد اللغة ، وإن وقف بعضهم موقف المحافظ المتشدد من التجديد .( كناصيف اليازجي ) و ( الأزهريين ) ‘ بينما أدخل( ناصيف اليازجي) الكثير من الكلمات الجديدة إلى نصوصه ، وحارب ( جرجي زيدان ) استخدام الحواشي والمندثر في الكتابة ، ودعا البعض إلى تبسيط قواعد القراءة ، فتولدت أساليب أدبية جديدة في التعبير ، وجرى تغير على وظيفة الأدب في هذا العصر ، وأصبح الجمع بين فنية العمل الأدبي والفكر صفة أساسية لكل عمل أدبي بعيداً عن المحسنات اللفظية التي أثقلت كاهل اللغة والأدب معاً
وبدأ الأدب يتحدث عن الحياة السياسية وبنية الدولة والمجتمع والأسرة والأخلاق، فهذا هو (محمد عبده) يصرح أنه ما ولد إلا ليكون معلماً، وها هو (محمد إبراهيم المويلحي) يلوح ببوارت حكمة وبذور معرفة وجمال أدبي في كتابه (حديث عيسى بن هشام)، وهذا هو سليم البستاني مؤسس الرواية التاريخية العربية يرى أن مهمة الفن عرض الأحداث التاريخية وتثبيت المبادئ الأخلاقية ، وهذا هو (جرجي زيدان) يهمل وظيفة الأدب الجمالية ويؤكد مع (فرح أنطوز) على مهمة الأدب المتمثلة بـ(أن يحسن التأثير في نفوس الجمهور)(1).
وقد تكونت ألوان جديدة من الأدب كالمسرح والرواية والقصة القصيرة والمقالة والخاطرة وظهرت في باب النثر الأدبي مدرستان إحداهما مصرية والأخرى سورية أخذ أصحابهما يؤلفون الروايات ويكتبون القصص، إذ أخذت المدرسة المصرية على عاتقها استخدام تقاليد النثر العربي القديم ضمن مضامين حديثة (المقامات) (ابراهيم المويلحي) (محمد لطفي جمعة) (مصطفى لطفي المنفلوطي) بينما أدخلت المدرسة السورية في أدبنا (الرواية الأدبية والقصة الأدبية) مع تفوت للرواية على القصة متخدة نمط الرواية الإنكليزية الأخلاقية في مطلع القرن الماضي، ثم تطورت الرواية العربية التاريخية في بداية القرن العشرين مذكرة بروايات (والتر سكوت) و(اسكندر دوماس) وقد تزعم مدرسة النثر السورية (سليم البستاني) ذو النشاط (الترجمي والصحافي والقصصي التربوي والروائي) والذي يعد أول من كتب الرواية التاريخية العربية تلاه (جميل المدور – جرجي زيدان – فرح انطوان – يعقوب حروف).
(1)فرح انطون – حياته- أدبه.
ولم يبق جمال العبارة هدفاً أساسياً عندهم فقد طغى على أبناءها تبين المدرسين هم (تربية المتلقين وكشف الحقائق لهم) وكلهم يركز على ضرورة الخروج من القيود القديمة واعتماد (أسس الأسلوب العصري الجديد)
الذي يتطلب من القارئ (توتراً ذهنياً) مع إكساب الرواية الشرطية وتجنيب القارئ وهم الاعتقاد بأن ما يقرؤه حقيقة واقعة، وقد أدى (المنفلوطي) دوراً كبيراً في هذا المجال وانطلق الكتاب السوريون من مبدأ تبسيط العمل الأدبي مع عدم التقيد بقواعد الأسلوب القديم.
ولقد لعبت الصحافة دوراً كبيراً في تطور الأدب والنقد الأدبي، وأصبحت الصحافة قاعدة الأدب الأساسية إذ طورت الصحافة شكل وأسلوب الأدب وازداد عدد القراء بعد أن كان يقتصر على الخاصة وساعدت الترجمة في تطور الأدب وانتشار الأعمال الأدبية من خلال تحرير اسم العمل الأدبي المترجم، أو تعريب محتوى العمل الأدبي المترجم، أو تحميل العمل الأدبي المترجم أفكار المترجم، وترجم المنفتحون كل ما يتعلق بالانفتاح والحضارة ، فانتشرت الروايات العاطفية المترجمة والروايات التاريخية الأدبية، وروايات المغامرات والروايات الغرامية والبولوسية.


الحركة الأدبية في مصر بعد /1194/م
انتهت الثورة العرابية بتخالف الأثرياء في مصر (اقطاعيين – ملاك كبار) مع الاستعمار وسحق هذه الثورة وبقيت الطبقة الوسطى تقود الحركة الوطنية متمثلة بحزب الوفد وتلف حولها الجماهير لكن الأزمة العالمية وتداعياتها في تلك الفترة جعل حزب الوفد ممثل الطبقة الوسطى يبرم معاهدة /1936/م التي أبقت مصر تحت فنون بريطانيا .
ومع أن الثورات المصرية في هذه الفترة وعلى رأسها /ثورة/1919/م سعت للاستقلال والديمقراطية وإظهار الشخصية المصرية وبلورة الأهداف الوطنية فإن هدف الكتاب في تلك الفترة كان إيجار آداب عربية مهمتها الاستقلال والتطور ساعد على ذلك نهضة الصحافة التي زودت الفكر العربي بثمار الثقافة الأدبية الغربية والثقافة الفلسفية والنفسية والدفاع عن حرية المرأة وفرصة تحقيق شخصيتها وكان من أهم هذه الصحف (السياسية الأسبوعية – البلاغ الأسبوعي – الهلال – المقتطف – الجديد – العصور – المجلة الجديدة).
وظهرت مدرسة (لطفي السيد – منصور فهمي – محمد حسين هيكل – طه حسين – محمود عزمي – أحمد ضيف – مصطفى عبد الرزاق) ومدرسه (المازني – علي أدهم – عبد الرحمن صدقي) ومدرسة (أحمد خيري سعيد – محمود تيمور – محمد رشيد – أحمد علام – زكي طليمات – محمود عزمي – فائق رياض – حسين فوزي – إبراهيم حمدي ) واهتم قسم من الأدباء بالأدب الردكي وعدده أدباً صادقاً في التعبير عن الحياة ونشرت جريدة وادي النيل روايات درسية من أمثال (آنا كارينينا – عش النبلاء – الأبله) وهكذا فقد سعى الأدباء في مصر من أجل خلق ثقافة روائية جديدة من جهة ومحاولة عدم المساس بمقومات التراث من جهة ثانية وإبراز الشخصية الأدبية الروائية المصرية على أنها شخصية نامية في فهم معطيات العصر .


الحركةالأدبية في سورية
من منتصف الثلاثينياتحتى الاستقلال
1935- 1946م
تنامت الحركة الإضرابية من جهة ونشوء لجان مكافحة الصهيونية والفاشية من قبل الحركة الشعبية من جهة أخرى ونهضت حركة النضال الوطني في سوريا وانعكست الأمور السياسية والاقتصادية بشكل مباشر على الحياة الاجتماعية ودخل الشعب كله في صراع سياسي مع السلطات الحاكمة وانفتح الباب واسعاً للتأثر بالغرب باتجاهين سلبي وإيجابي مزق الحياة السورية فصرت ترعى الجمل والسيارة في الشارع واحد والجهل والعلم في أسرة واحدة .
وعاش المثقفون السوريون ومن ضمنهم الأدباء حياة القلق في طريقة التفكير فالناس بين تطلع للحياة الغربية من جهة وربط الانتماء بالحياة الشرقية ولم يعير الأدباء في سوريا التعبير المتناسق عن الحياة الاجتماعية ودول استقرار التيارات الثقافية التي أثرت في أدب هذه المرحلة أن ظمأ الكتاب كان شديداً إلى الثقافة الغربية والتي كانت اللغة الفرنسية هي وسيطها وتعلقهم بالثقافة العربية واللغة العربية بشكل قوي مع النظر إلى حركة الأدب العربي في مصر التي قطعت شوطاً كبيراً في الثلاثينيات وخاصة في مجال الرواية والقصة القصيرة وتخلص الأدب من لغة الوعظ المباشر وتحول إلى أدب اجتماعي بمضمونه وإيحاءاته وموضوعاته وخاصة بعد تأثر الكتاب السوريين بالمناذج الفرنسية وكان الحدث المهم والحاسم في العمل الروائي رواية شكيب الجابري (نهم) /1937م/ محددة ميلاد الرواية السورية بمعناها الحديث والتي جسدت التأثير الأوروبي بمفهومه الاستقراطي الفكري والأسلوبية المترفعة



سمات النثر الفنية في العصر الحديث:
أخذ النثر في العصر الحديث يخرج من دائرة الصنعة والجمود وتحجر العقل وموت الفكرة ليبدأ مرحلة جديدة تتسم بسمات مختلفة عن العصر السابق.
مرّ النثر في العصر الحديث بثلاث مراحل متداخلة ، طبعت هذا النثر بميزات خاصة وهذه المراحل:
1- مرحلة التحفز :
وأصحاب هذه المرحلة هم جيل الطليعة الأولى في حياة القرن التاسع عشر . إذ جدّت في حياة الشعوب في هذا العصر بواعث حركت الأدباء وحفزتهم بسبب الاتصال بالحضارة الغربية ، فدعا أصحاب هذه المرحلة إلى تفحص الواقع والدعوة إلى إصلاحه وتطويره ، ومن روادها "اليازجي – الطهطاوي – البستاني"
وقد كتب هؤلاء الكتاب نثرهم معتمدين على أسلوب السجع أحياناً ، ونقل الألفاظ والمصطلحات الفرنسية حرفياً أو تصريفها واشتقاقها أحياناً ، وحملت كتاباتهم بعض الأخطاء الصرفية ، ولكنهم أغنوا الفكر العربي الحديث ، ويسروا اللغة وأمدوها بمصطلحات الحضارة الجديدة . يقول الطهطاوي في تعليم البنات:
( فلا شك أن حصول النساء على ملكة القراءة والكتابة وعلى التخلق بالأخلاق الحميدة ، والاطلاع على المعارف المفيدة ، هو أجمل صفات الكمال ، وهو أشوق للرجال المتربين من الجمال.......).
2- المرحلة الثانية (مرحلة تثبيت الدعوة إلى الإصلاح والتطوير).
ويمثلها أديب اسحق وعبد الرحمن الكواكبي – محمد عبد و قاسم أمين – ولي الدين يكن- ابراهيم اليازجي.
وقد تكون لدى هؤلاء فكر حديث وسّع التعبير عن الحياة الحديثة ، وتفكيرها وقد بدا أسلوب أصحاب هذه المرحلة يحمل متانة في التعبير ، وسلامة في الأسلوب واستخداماًللإنشاء المزدوج والمسّجع ومع بعض التخلص من الصنعة والضعف والركاكة .
يقول الكواكبي في الاستبداد والعلم:
(إن بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة،وطراداً مستمراً يسعى العلماء في نشر العلم ويجتهد المستبد في إطفاء نوره، والطرفان يتجاذبان العوام......).
3- المرحلة الثالثة(مرحلة البناء):
حيث حمل أصحاب هذه المرحلة على عاتقهم مهمة البناء بعد أن فتحت نوافذ الثقافة من الأمم الأخرى ومن كتاب هذه المرحلة:
(المنفلوطي – جبران – جرجي زيدان- الرافعي- طه حسين- أحمد حسن الزيات).
وما زلنا نحن نعيش في امتداد هذا الجيل ، وقد امتاز أسلوب المنفلوطي بسلامة العبارة وجمالها وكثرة الترادف والازدواج والصور والرقة والعاطفة .
وتميز جبران بالتصوير الخيالي الجانح والصور البراقة والألفاظ المجنحة والجمل الشعرية .
وتميز طه حسين بطريقة المراجعة واللف والدوران بأسلوب آسرٍ شائق.
وأهم سمات النثر في هذه المرحلة :
الاتجاه إلى تصوير الحياة الشعبية.
سلامة العبارة وسهولتها وخلوها من الضعف والركاكة .
تجنب الألفاظ الغربية والمهجورة والنادرة .
المساواة بين اللفظ والمعنى .
تأثر النثر بالعلوم الأخرى (علم النفس والاجتماع).
تأثر النثر بالآداب العالمية.
ظهور فنون جديدة كالمقالة والمسرحية والرواية .
يقول طه حسين في مقالة ( حرية الأدب والنقد ):
( صدّقوني أن من الإسراف أن تفرضوا النظام على كلِّ شيء، فدعوا الأدب طليقاً ، كما أراد الله له أن يكون ليكتب من شاء ما يشاء، ولينتقد من شاء كما يشاء ،فلا حياة للأدب إلا بهذا،....).
- اتجاهات النثرفي العصر الحديث:
إذا كان الأدب شعراً أو نثراً يكتب من الإنسان وإلى الإنسان فإن النثر الحديث قد اتجه تبعاً للحياة والثقافة الحديثة الاتجاهات التالية:
1-الاتجاه الاجتماعي:
عالج كتاب النثر الحديثون المشاكل الاجتماعية التي اعترضت حياة المجتمع في عصره فتحدثوا عن المشاكل التالية:
أ- مشكلة الفقر وأسبابه: وقد عالج الكتاب أسباب الفقر وحالوا بواعثه وكشفوا عن أثر الحكومات الفاسدة في تثبيت دعائم الاستغلال . يقول ميخائيل نعيمة:
( ما نام إنسان على الطوى إلا لأن غيره أكل واختزن فوق حاجته خيرات الأرض والسماء ، ولا افتقر رجل إلى ثوب إلا لأن لجاره ثوبين.....).
ب- تفاقم وضع الطبقات الكادحة: التي أخذت تزداد بؤساً وظلماً بسبب استغلال المستغلين ، وقد عالج الكتاب هذه القضية وأشادوا إلى أن الثورة الحقيقية في صفوف الفقراء ضد المترفين هي الحل الحقيقي.
يقول أحد الكتاب في ذلك :
( أليس الرجل منكم كالرجال منّا ؟ فما بالكم لا ترضون بثلاثين صنفاً من الطعام ونرضى بالخبر والملح ولا تقنعون بالألوان ونقنع بالقرش الواحد ؟ أخلقتم من الذهب وخلقتنا من التراب؟...).
جـ- قضية الصراع الطبقي : من خلال التاريخ حيث صوّر الكتاب استغلال بعض فئات المجتمع لتحقيق رغباتهم كما في الصراع بين السادة والعبيد فيما قبل الإسلام وقد مثله الأديب ممدوح عدوان(ليل العبيد) ونادى من خلال هذه المسرحية بالحرية والعدل والمساواة وتطوير المجتمع وضرورة استمرار الكفاح للحفاظ على المكتسبات.
د- قضية الهجرة من الريف إلى المدينة: وذلك بحثاً عن العمل وقد أدى ذلك إلى اكتضاض المدن بالسكان وخلو الريف منهم ، وبالتالي تراجع الحركة الزراعية وقد مثّل ذلك الكاتب الجزائري بشير خلف ( الأرض تنتحب ).
حيث عالج الكاتب آفاق التسول والبطالة والسرقة وقد عالج الكاتب قسوة الحياة في المدن.
هـ- قضية هموم الإنسان المعاصر وتطلعاته إلى المستقبل:
وقد صوّر الأدباء في هذه القضية حبّ الإنسان لوطنه بعد ظهور مفاهيم جديدة في هذا المجتمع وحاربوا المحسوبية والمكتبية والبيروقراطية والروتين.
2- الاتجاه القومي:
وقد عالج الكتاب في هذا الاتجاه مجموعة من المشكلات أهمها:
أ- مشكلة التجزئة: التي صبغت الأمة الواحدة إلى مجموعة دويلات بعضها كحبِّ السمسم ، وقد أدى ذلك إلى حدوث صراع اقليمي – قطري ، شتت جهد الأمة . يقول ساطع الحصري متحدثاً عن حقيقة التجزئة :
(وأما الدول والدويلات القائمة في هذه البلاد ، فإنها وليدة المناورات والمساومات والمقاسمات التي قامت بين الدول المستعمرة......)
ب- الدعوة إلى الوحدة : التي نستطيع بها أن نقف أمةً تدافع عن أبنائها وخيراتها وقد مثّل ذلك أديب اسحق حيث دعا إلى تثبيت روح المحبة عند أولي الأمر في هذه الدويلات:
(ألم يكن في كلّ هذه الأقطار نفر من أولي العزم تبعثهم الغيرة والحمية على جمع الكلمة العربية فيتلافون أحوالهم قبل التلف......)
جـ- الدعوة إلى محاربة الصهيونية ودولتها اسرائيل: التي أصبحت خطراً على الأمة كلّها ، وقد مثّل ذلك أكرم زعيتر الذي فهم هذه الصهيونية وكشف مطامعها:
( إنّ اسرائيل تسخر في سبيل تحقيق مآربها كل وسيلة ، لائذة بعناصرها العلم والنظام والسرعة، معبئة كل قواها البشرية لتقذف بها في معركتها مع العرب ، وهي تتحفز لوثبة تستولي بها على بقية القدس وأماكنها.....
ثم تغزو شرق الأرض منسوريا فلبنان فسائر بلاد العرب).
د- الدعوة إلى محاربة الاستعمار: الذي اشترك مع الصهيونية في جرائهم ضد الشعب العربي.
هـ- تصوير الروح الوطنية: التي شبّت في نفوس الجماهير فاندفعت تقاوم الاحتلال، كما في ثلاثية نجيب محفوظ في مصر ( بين القصرين – قصر الشوك – السكرية).وثلاثية مجد ديب( الدار الكبيرة – الحريق – النول)وثلاثية صدقي اسماعيل (آل عمران – الصديقان – العصبة)
و- استلهام التاريخ للأدب: بعد وقوع نكسة حزيران بحيث يغدو الماضي وسيلة لانتقاد الحاضر ومن المسرحيات التي تمثّل ذلك ( مغامرة رأس المملوك جابر) لسعد الله ونوس-(محاكمة الرجل الذي لم يحارب) لممدوح عدوان ورضا قيصر لعلي عقلة عرسان.
ز- مواجهة أدباء الأرض المحتلة لمحاولات العدو الصهيوني:
في محو الثقافة العربية وذلك بعد حرب (1948) إذ تحولت الحرب مع اليهود إلى حرب استيطانية ثقافية غايتها اقتلاع جذور الثقافة العربية، وقد وقف توفيق فياض واميل جيبي وغسان كنفاني في مواجهة ذلك فكتب اميل جيبي ( سداسيات الأيام الستة) وتوفيق فياض رواية ( التسارع الأصفر).
3- الاتجاه النقدي:
وهو اتجاه تفرع إلى تيارات متعددة أسهمت في نقد الأعمال الأدبية في هذا العصر ، وأهم هذه التيارات :
تيار غربلة الأدب: كما هو عند ميخائيل نعيمة في كتابه ( الغربال) حيث أراد الكاتب تبين مهمة هذا الاتجاه لتصحيحه مسار الأدب . يقول نعيمة:
( إنّ مهمة الناقد الغربلة ، لكنها ليست غربلة الناس بل غربلة ما يدوّنه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول).
ب- تيار مدرسة الديوان: التي تزعمها المازني والعقاد وعبد الرحمن شكري وقد بين العقاد رأيه في الشعر الصحيح قائلاً:
( ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه ، وإنما مزيته أن يقول ما هو ؟ ويكشف عن لبابه وصلة الحياة به).
جـ- تيار الشعر الحر: وقد مثلته نازك الملائكة حينما أرادت أنّ تبين أن هذه الحركة هي اندفاعة اجتماعية وليست منبعثة من الفراغ:
( ولعلّ الدليل على أن حركة الشعر الحر كانت مقودة بضرورة اجتماعية محضة هو أن محاولات وأدها قد فشلت جميعاً....)
د- تيار نقد الشخصيات الأدبية القديمة والحديثة:
حيث كشف نقاد هذا التيار عن سلوك واتجاه وفن شخصيات مختلفة كما صنع طه حسين مع عنترة والمتنبي وأبي العلاء المعري ، وكما صنع العقاد ( ابن الرومي وعبقريات محمد وعمر....
وكما صنعت الدكتورة نعمة فؤاد في(أدب العقاد).
هـ- تيار نقد الأدب المعاصر : من خلال اتجاهاته وفنونه وتطوراته ومدارسه ، كما في كتاب الدكتور عز الدين اسماعيل:
( اتجاهات ومدارس وفنون في الأدب الحديث ) (دارسات في الأدب العربي المعاصر).
وكما في كتاب النقد الأدبي الحديث ( محمد غنيمي هلال).
4- الاتجاه الذاتي:
وهو اتجاه عرض للتجارب الإنسانية ووصف جزئياتها وسجّل انفعالات أصحابها وما تأثر به الكتاب من مظاهر الطبيعة التي أشركوها بأحاسيسهم كما في قول جبران:
أيتها الريح ....إلى أين تتسارعين بأرواحنا وتنهداتنا وأنفاسنا ؟ أين تحملين رسوم ابتساماتنا؟
وكما عند نعيمة في تصويره لمعاناته وهمومه وقلقه:
(ففي جبهة – حنّين – وحده لي معين لا ينضب من الفتنة الخرساء المنهلّة بغير انقطاع).
وكما هو عند المنفلوطي شعرة بيضاء تسللّت إلى رأسه:
(أيتها الشعرة البيضاء .....ليت شعري من أيِّ نافذة
خلصت إلى رأسي؟....وكيف طاب لك المقام في هذه الأرض الموحشة التي لا تجدين فيها أنيساً يسامرك؟.
وكما في قول الرافعي عندما رأى فاتنته أول مرة:
(كلمّا رأيتها أول مرة ، ولمسني الحبّ لمسة ساحر، جلست إليها أتأملها وأحتسي من جمالها).






فنون النثر العربي الحديث النثر
1 ـ المقالة العربية الحديثة
عرف تراثنا لونا أدبيا أطلق عليه اسم ((الرسائل))،والرسائل تشبه المقالة المعروفة اليوم بأنها تتناول موضوعا محددا في صفحات قد تطول،ولكنها لاتصل إلى حجم الكتاب.
ومن أشهر كتاب الرسائل في أدبنا العربي القديم عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتاب ورسالته في الشطرنج،والجاحظ في رسالته المشهورة،و أبو حيان التوحيدي وغيرهم.
وجاء عصر النهضة،فاتّصل العرب بثقافة الغرب وعلومه،,وعملت الترجمة عملها في نقل ألوان المعرفة وفنون الأدب إلى اللغة العربية،فاطّلع العرب في جملة ما اطّلعوا،على فن المقالة ،,ووجد فيه الكتاب وسيلة لبث آرائهم ونشر أفكارهم والتعبير عن خواطرهم ومشاعرهم.
وقد عمل على انتشار فن المقالة وذيوعه أن الصحافة فتحت أبوابها في وجه كتّاب المقالة،واتّسعت صفحاتها لنتاج أقلامهم....وهذا ما أسهم في تطوير المقالة وإنضاجها و تنوعها حتى غدت من الأنواع الكتابية الغالبة الشائعة.
وراح كبار الكتّاب من الأدباء والعلماء يمارسون كتابة المقالة،, حتى إن كثيرا من الكتب المشهورة المعروفة في الأدب و النقد لم تكن إلا مجموعة مقالات كانت قد نشرت في الصحف والمجالات.
ومن أبرز هؤلاء الكتّاب عبد العزيز البشري،,ومصطفى لطفي المنفلوطي،,وأحمد حسن الزيّات،وأحمد أمين ،وعبّاس محمود العقّاد ومصطفى صادق الرافعي، وإبراهيم عبد القادر المازني،وطه حسين،ومحمد مندور، ومارون عبود،وسلامة موسى وغيرهم.

المقالة:
ونحن نعرف الآن أن المقالة قالب قصير قلما تجاوز نهرًا أو نهرين في الصحيفة، ولم يكن العرب يعرفون هذا القالب؛ إنما عرفوا قالبًا أطول منه، يأخذ شكل كتاب صغير، وهو يسمونه الرسالة مثل رسائل الجاحظ. ولم ينشئوه من تلقاء أنفسهم؛ بل أخذوه عن اليونان والفرس، وأدوا فيه بعض الموضوعات الأدبية التي خاطبوا بها الطبقة الممتازة من المثقفين في عصورهم.
أما المقالة فقد أخذناها عن الغربيين، وقد أنشأتها عندهم ضرورات الحياة العصرية والصحفية، فهي لا تخاطب طبقة رفيعة في الأمة؛ وإنما تخاطب طبقات الأمة على اختلافها، وهي لذلك لا تتعمق في التفكير حتى تفهمها الطبقات الدنيا، وهي أيضًا لا تلتمس الزخرف اللفظي، حتى تكون قريبة من الشعب وذوقه الذي لا يتكلف الزينة، والذي يؤثر البساطة والجمال الفطري، ومن أجل ذلك لم يكد أدباؤنا يكثرون من كتابتها بالصحف في أواسط القرن الماضي -أو بعبارة أدق: في ثلثه الأخير- حتى اضطروا إلى أن ينبذوا لفائف البديع وثياب السجع وبهارجه الزائفة، التي كانت تثقل أساليب رفاعة الطهطاوي وتعوقها عن الحركة.
وسُرعان ما وُجدت عندنا المقالة السياسية الطليقة من أغلال السجع والبديع، وأخذت تخاطب الناس من قريب، وتتحدث إليهم في شئونهم الوطنية، وجعلت تؤثر فيهم تأثيرًا قويًّا، كان من نتائجه قيام الثورة العرابية، ومن أجل ذلك حين حوكم زعماء هذه الثورة حوكم معهم كتاب المقالة حينئذ، فاختفى عبد الله نديم، ونُفي محمد عبده، وكان قد أُبعد جمال الدين الأفغاني، ولم يصبهم ما أصابهم من ذلك، إلا بسبب ما كتبوا من مقالات سياسية. وهي تغلب عليها النزعة الخطابية عند النديم؛ إذ كان خطيبًا مفوَّهًا من خطباء الثورة العرابية، وكأنها كانت متنفسًا عنده لثورته وحدة عاطفته الوطنية، وهو يمسح عليها أحيانًا بسخرية مرة. وكان أحيانًا يُجْري مقالاته في جوانب اجتماعية إصلاحية ماسحًا عليها بدعابة حلوة. وكان يسود مقالات محمد عبده ضرب من الانفعال؛ ولكن في وقار ورصانة، وقد شفع مقالاته السياسية بمقالات إصلاحية في الدين والمجتمع الإسلامي، كتبها بقلم البصير الحاذق، محمسًا تارة، ودارسًا فاحصًا تارة ثانية.
وأخذ هذا اللون من المقالات ينمو مع نمو عقلنا ويرقى مع رقيه، وبَوْنٌ واسع بين مقالات هذا الجيل الأول والجيل الذي تلاه في عصر الاحتلال، من مثل مصطفى كامل والشيخ علي يوسف ولطفي السيد، فقد بث هذا الجيل الثاني في المقالة السياسية حياة وقوة. ومما لا شك فيه أن أقوى شيء قاومنا به الاحتلال البريطاني هو مقالات مصطفى كامل في صحيفة "اللواء" التي شحذت عزائمنا لمناهضة الاحتلال ومصارعته، وهو بحق زعيم حركتنا القومية في عصره غير مدافَع؛ إذ كان شعلة وطنية متقدة، وكان خطيبًا مفوهًا وكاتبًا سياسيًّا لا يشق غباره، فانبرى يوقظ فينا وعينا القومي صائحًا في سمعنا وسمع العالم الأوربي كله صيحاته المدوية في الحرية والاستقلال والحياة الكريمة. وكان الشيخ علي يوسف في صحيفة "المؤيد" يدافع دفاعًا حارًّا بقلمه الرصين عن الإسلام والشرق موغرًا صدورنا على الإنجليز الغاشمين، بينما كان لطفي السيد في "الجريدة" يدعو إلى تربية الشعب تربية قويمة حتى ينتزع حقوقه من المعتدين الآثمين. وكان بجانبهم مصطفى لطفي المنفلوطي الذي اشتهر في مقالاته الاجتماعية بأسلوبه العاطفي الفريد، وببث معاني الرحمة والفضيلة ووصف بؤس البائسين.
ولا نصل إلى الدورة الثالثة أو إلى الجيل الثالث الذي خلف هذا الجيل الثاني وهو الجيل الذي نشأ بعد الحرب الأولى في هذا القرن حتى تنشط المقالة السياسية عندنا نشاطًا واسعًا، وكان مما ضاعف هذا النشاط نشوء الأحزاب السياسية بعد تصريح 28 من فبراير 1922 وتعاركها عراكًا عنيفًا، ولعل خير من يمثل هذا الجيل: أمين الرافعي وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل وعبد القادر حمزة وطه حسين وإبراهيم عبد القادر المازني، أولئك الذين كانوا يخلبون قلوبنا بمقالاتهم السياسية، وهي تختلف باختلاف شخصياتهم ومقدراتهم البيانية.
وكانت ترافق هذه المقالة السياسية منذ نشأتها المقالة الأدبية التي تتناول شئون الأدب والثقافة، ولم تلبث أن أُفْردت لها مجلات خاصة أسبوعية أو شهرية مثل: المقتطف والهلال، وعلى طول السنين في هذا القرن تنشأ مجلات مختلفة مثل: السياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي والرسالة والثقافة.
وكان لهذا النوع من المقالة تأثير واسع جدًّا في حياتنا الأدبية في مصر والبلاد العربية. ويمكن أن نلاحظ فيها نفس الدورات الثلاث التي لاحظناها في المقالة السياسية، فهي تنشأ في القرن الماضي نشأة ساذجة، ثم تأخذ في التطور، ولا نصل إلى الجيل الثاني حتى نراه يودع فيها ما قرأه عند الغربيين في الأخلاق والاجتماع وشئون الفكر المختلفة. وقد عُنيت المقتطف منذ ظهورها في أواخر القرن بالحركة العلمية عند الغربيين وتصوير نظرياتها للجمهور المصري الخاص والجمهور العربي العام.
ولا نتقدم إلى الجيل الثالث -جيل هيكل والعقاد وطه حسين والمازني- حتى تصبح المقالة الأدبية أثرًا فنيًّا قيمًا حقًّا، فهي تمس القلوب وتثير العواطف، وقد اتسعوا بها إلى مباحث عميقة في الأدب والنقد والفنون الجميلة والنظريات الفلسفية والاجتماعية، مستهدين في ذلك بالمثل الإنسانية العليا مُثل الخير والحق والجمال. وسار في هذا الطريق غير كاتب من مثل توفيق الحكيم وغيره، ممن نقلوا إلينا في مقالاتهم روح الفكر الغربي ومذاهبه الاجتماعية والأدبية. ولم يدعوا مقالاتهم تفنى مع الصحف؛ بل جمعوها وطبعوها في كتب مختلفة حتى يتيحوا لها شيئًا من البقاء.
ولا بد أن نشير هنا إلى مقالات مصطفى صادق الرافعي وأحمد أمين الاجتماعية، وهي تمتاز عند أولهما باستبطان عقلي واسع ساعد عليه صممه المبكر، بينما تمتاز عند الثاني بمحصول فكري وافر ساعدت عليه ثقافته الواسعة، وهو فيها ينقد أحيانًا بعض جوانب المجتمع؛ ولكنه لا ينقدها في سخط عنيف، شأن الخطيب أو الواعظ، وإنما ينقدها في حديث هادئ ممتع.
2 ـ المسرحية
إذا كنا قد وجدنا للقصة في أدبنا الشعبي صورًا مختلفة، فإن المسرحية لم يكن لها عندنا أصول؛ لسبب بسيط؛ هو أنه لم يوجد عندنا مسرح قديم، ولما نزلت الحملة الفرنسية بلادنا حملت فيما حملت إلينا المسرح الفرنسي، ولكن ما كان يمثَّل عليه من روايات مُثِّلَ بالفرنسية، فلم نتأثر به في حياتنا الأدبية؛ إنما يأتي هذا التأثر فيما بعد حين تنشأ فيما بيننا وبين الغرب العلاقات الأدبية، وهي لم تنشأ إلا منذ أواسط القرن التاسع عشر؛ بل بعد مضي شطر غير قليل من النصف الثاني حين اعتلى أريكة مصر إسماعيل، فقد أخذنا نتأثر الحضارة الغربية ونمعن في هذا التأثر، فأنشئت دار الأوبرا ومُثلت فيها روايات غنائية إيطالية. وفي هذا التاريخ أنشأ يعقوب صنوع مسرحًا بالقاهرة مَثَّل عليه كثيرًا من المسرحيات المترجمة والتي ألفها، وقد أطلق عليه المصريون اسم "موليير مصر" لبراعته في التمثيل الهزلي وما يقترن به من نقد اجتماعي. ولم يكن يمثل باللغة العربية الفصحى؛ إنما كان يمثل بالعامية الدارجة، فمسرحه وتمثيلياته يخرجان عن دائرة أدبنا العربي الحديث ..
ولم تلبث الفِرَق التمثيلية السورية واللبنانية أن وفدت على ديارنا، وأنشأت لها مسارح في الإسكندرية ثم القاهرة. وكانت هذه الفرق تمثل روايات فرنسية مترجمة، بحيث تلائم النظارة، وبعبارة أدق: ممصرة؛ حتى يتذوقها الجمهور ويجد فيها متاعه. والتمصير يقل ويكثر حسب من يقوم به، فتستبدل الأسماء بأسماء مصرية، وقد تستبدل الحوادث نفسها، ولا مانع أحيانًا من استخدام الأسلوب المنمق بالسجع والشعر .
وكأنما كانت الجهود موجهة أولًا لهذه الحركة من التمصير؛ حتى يستطيع هذا النبات الغريب أن يعيش في البيئة الجديدة. ولذلك كان التمصير في المسرحية أوسع جدًّا من التمصير في القصة؛ حتى لتنقطع العلاقة أحيانًا بينها وبين الأصل. وأسرف الممصِّرون في وضع الأشعار التي تُغَنَّى في المسرحيات؛ حتى يرضوا ذوق الجمهور الذي كان يعجب بالغناء وأناشيد الذكر والذي تعود الاستماع إلى الأوبرا الإيطالية. ومن هنا كان مسرحنا في القرن الماضي وشطر كبير من هذا القرن مزيجًا من التمثيل والغناء، وكان أصحاب هذا المسرح ينقلون غالبًا عن المسرح الفرنسي الكلاسيكي عن راسين وكورني وموليير، ومرجع ذلك إلى السوريين واللبنانيين الذين تمصروا وقاموا بيننا بالتمثيل مثل سليم النقاش وأبي خليل القباني وإسكندر فرح؛ لأن ثقافتهم كانت غالبًا فرنسية، وكان المصريون أنفسهم يقبلون على هذه الثقافة منذ أوائل القرن الماضي. .
ولم تمضِ مدة طويلة حتى أخذ المصريون يشاركون في هذا الفن الجديد، فاشتركوا أولًا مع الفرق السورية واللبنانية، ثم استقلوا وأنشئوا فرقًا مختلفة مثل فرقة عبد الله عكاشة وفرقة الشيخ سلامة حجازي المطرب المشهور، وقد وطَّد بقوة المسرح الغنائي، ومثل فرقة عزيز عيد، وقد عُني بالتمثيل الهزلي. ولا نتقدم طويلًا في هذا القرن العشرين حتى يعود جورج أبيض من باريس سنة 1910 بعد دراسته لفن التمثيل دراسة متقنة، وسرعان ما ألف فرقة مسرحية في سنة 1912، وأخذ يمثل على قواعد درامية سليمة .
وفي نفس السنة كوَّن بعض الهواة "جمعية أنصار التمثيل"؛ لغرض إرسائه على أصوله الفنية الصحيحة، وكان ممن انضم إلى هذه الجمعة عبد الرحمن رشدي وإبراهيم رمزي ومحمد تيمور. وينضم الشيخ سلامة حجازي إلى جورج أبيض ويؤلفان فرقة في سنة 1914 ظلت سنتين متواليتين. ونمضي في أثناء الحرب الأولى، فيؤلف عبد الرحمن رشدي فرقة مسرحية وإن لم تظل طويلًا، ويظهر نجيب الريحاني باستعراضاته الغنائية والهزلية ويبتكر شخصية "كشكش بك" عمدة كفر البلاص، ويؤلف حينًا مع عزيز عيد فرقة تُعْنَى بالمغناة القصيرة "الأوبريت ."
وكانت هذه الفرق جميعًا تعتمد على ما يترجم ويمصَّر لها من تمثيليات ومغنيات غربية، وأخذ بعض الهواة والمملثين يؤلفون مسرحيات عربية استمدوا فيها من قصص ألف ليلة وليلة وألوانها الخيالية ومن التاريخ العربي الإسلامي وصوره القومية، ومن الحب والعواطف والوجدانية مصورين مجتمعهم وما فيه من دعوات إصلاحية وحركات وطنية. وأكثر هذه الأعمال كان ضعيفًا؛ ولذلك لم يدخل في تراثنا الأدبي .
على أنه ينبغي أن نقف قليلًا عند ثلاثة، حذقوا -بفضل ثقافتهم الغربية- فن التأليف المسرحي، وهم فرح أنطون وإبراهيم رمزي ومحمد تيمور. وقد ألف أولهم في سنة 1913 "مسرحية مصر الجديدة ومصر القديمة" وهي مسرحية اجتماعية صور فيها عيوب مجتمعنا حينئذ، وما تسرب إليه من مساوئ الحضارةالغربية ومفاسدها، وهي ضعيفة في بنائها المسرحي. غير أنه أتبعها في سنة 1914 بمسرحية تاريخية، هي مسرحية "السلطان صلاح الدين ومملكة أورشليم"، وهي قوية في تصميمها المسرحي وفي رسم شخوصها وتدفق الحوار وحيويته، وقد صوَّر فيها الصراع الحاد بين الشرق الشجاع المسلم والغرب المستعمر الماكر، ناثرًا خلال ذلك آراءه الاجتماعية والوطنية .
أما إبراهيم رمزي، فبدأ منذ سنة 1892 يحاول صنع مسرحيات، غير أنه لم ينضج إلا بعد عودته من البعثة إلى إنجلترا وتوفره على دراسة هذا الفن ونقل بعض درره الأوربية. وربما كانت مسرحية "أبطال المنصورة" التي كتبها في سنة 1915 خير مسرحياته جميعًا، وهي مسرحية تاريخية عرض فيها صورة حية من البطولة المصرية في أثناء الحروب الصليبية عرضًا تمثيليًّا رائعًا. ونمضي فنلتقي بمحمد تيمور الذي تُوفي شابًّا في سنة 1921، وكان قد سافر بعد تخرجه من الحقوق إلى فرنسا فعكف على دراسة التمثيل. وعاد يحاول النهوض به، فكان يكتب فيه وينقد ويمثل، وما لبث أن ألف أربع مسرحيات؛ هي: مسرحية "العصفور في قفص" و"عبد الستار أفندي" و"الهاوية" و"العشرة الطيبة"، وهي وحدها التي اقتبسها عن مسرحية فرنسية، غير أنه مصَّرها، وجعل حوادثها تجري في عصر المماليك، ونقد فيها بعنف تصرفات الطبقة التركية. وقد راعى في مسرحياته أصول الفن التمثيلي مراعاة دقيقة، غير أنه كتبها بالعامية .
وتضع الحرب العالمية الأولى في هذا القرن أوزارها، وينشط التمثيل الهزلي والغنائي، ويعود يوسف وهبي من إيطاليا، وينشئ فرقة استعراضية، ويقنعه عزيز عيد وزكي طليمات بإنشاء فرقة للدراما الرفيعة، وتنشأ فرقة رمسيس وتنشط بجانبها فرقة جورج أبيض، ويأخذ كثير من الكتاب في تأليف المسرحيات الاجتماعية، ويشتهر أنطون يزبك بمسرحياته العنيفة مثل "عاصفة في بيت" ومسرحية "الذبائح"، ويتخصص يوسف وهبي بتمثيل هذا النوع بينما ينشط نجيب الريحاني وعلي الكسار في التمثيل الهزلي. على أننا لا نصل إلى سنة 1928 حتى يصيب كل هذه الفرق ركود قاتل. وتنشئ الدولة في سنة 1934 الفرقة القومية كما تنشئ المعهد العالي للتمثيل، غير أن الركود يظل جاثمًا على مسارحنا بسبب ظهور السينما. إلا ما كان من مسرح نجيب الريحاني. وتحاول ثورتنا المجيدة النهوض بالمسرح، فيعود ثانية إلى النشاط، وبذلك تُرَدُّ إليه قواه .
وإذا تركنا المسرح إلى التأليف المسرحي وجدناه ينهض نهضة رائعة منذ العقد الرابع من هذا القرن؛ إذ ظهر توفيق الحكيم فوثب به وثبة لم يكن يحلم بها كل من سبقوه، فقد أرسى قواعده في النثر، كما أرسى هذه القواعد شوقي في الشعر، يسعفه في ذلك ثقافة إنسانية واسعة وثقافة مسرحية دقيقة، وتتزواج الثقافتان من روحه المصرية العربية، فإذا لمصر كاتب مسرحي من نوع إنساني بديع .
وتَلْقَى مسرحياته رواجًا واسعًا لما تحتفظ به من أصول الفن المسرحي وما تحتوي من عناصره ومقوماته، فهي أعمال مسرحية تامة، لا يقلد فيها توفيق كاتبًا غربيًّا بعينه؛ بل يستمد من مواهبه ومن بيئته وروحه المصرية العربية. وحقًّا أنه يغلب على شخوصه التفكير الفلسفي التجريدي، ولكن هذا مذهبه، وهو يدل دلالة واضحة على رقي حياتنا العقلية، فقد أصبح لكتابنا أو لبعضهم على الأقل فلسفة تستهوي العقول والقلوب. وتعتمد فلسفة توفيق على الإيمان بقصور العقل والاتجاه نحو الروحيات التي تجري في حياة الشرقيين وأعماق نفوسهم .
وأخذ هذا المجال المسرحي يجذب إليه كثيرين من الجيل الجامعي وغيره، ومن أهم من جذبهم إليه محمود تيمور، وكان يكتب مسرحياته أولًا بالعامية كأخيه محمد، ثم نقل من العامية إلى الفصحى بعض مسرحياته وأنشأ أخرى على اللسان الفصيح من أول الأمر، وهو في أكثر مسرحياته مثل قصصه يُعْنَى بالجوانب الاجتماعية في بيئته، ويمد هذه البيئة فتشتمل الريف وحياة الفلاحين. وقد يستمد في مسرحياته من التاريخ العربي. وهو دائمًا يمسح على عمله بتحليلات نفسية يصور فيها الطبيعة الإنسانية، ومن هنا كان صراع مسرحياته غالبًا يدور بين العقل والغريزة الباطنية .






بداية الفن المسرحي عند العرب
عرف الإغريق الفن المسرحي بصورة ناضجة فقد نشأت المسرحية عندهم في أحضان الدين ثم أخذت تبتعد عنه وتخرج إلى حياة المجتمع الذي وفر لها عوامل النضج والنمو .
وإذا تركنا الإغريق و نظرنا إلى تاريخ العرب منذ العصر الجاهلى إلى نهاية القرن السابع عشر الميلادى للبحث فى تراثهم الفنى عن فن المسرحية بالصورة التى عرفها الإغريق لم تظفر بشئ من ذلك.ولكن قد يسعفنا الحال ببعض النماذج التمثيلية التى فيها شبه بعيد من المسرحية. ففى العصر الجاهلى تعثر على بعض الظواهر المسرحية تتمثل في الأسواق و نظمها وما يحدث فيها من أحداث . وفي العصر الأسلامي نجد بعض المظاهر المسرحية عند الشيعة التى تقوم بتمثيل قتل الحسين في معركة كربلاء منذ بداية خروجه من المدينة إلى حين وقت قتله في العراق وكذلك تذكر كتب التراث أن رجلا صوفيا في زمن المهدى يقوم بوعظ الناس و تذكيرهم وكان يستخدم التمثيل لإيصال أفكاره إلى القوم الذين يعظهم.
وكلما تقدم بنا العصر نجد فنونا تمثيلية فيها شبه من الفن المسرحى ففى زمن الدولة الأيوبية انتشر فن خيال الظل بين الناس وهو فن يقوم بتمثيل الروايات عن طريق الحوار ، وكانت الروايات التى تؤدي عن طريقه إما مكتوبة وإما مرتجلة.
وقد بلغ هذا الفن نضجة على يد ابن دانتال الذى له فى ذلك بابات مشهورة كان يقوم بتمثيلها على مشهد من أبناء مجتمعه فيقوم صاحب الخيال بإلقاء الحوار بمفرده مع تلوين صوته وتغيير نغماته تبعا لتغير الشخصيات وأحيانا أخرى يستعين بشخصية ثانية تساعد في إلقاء بعض أجزاء الحوار .
وقد عرف العالم العربي بجانب خيال الظل فنين آخرين وهما فن الكرقرز وهو أقرب إلى التهريج الشعبى من خيال الظل ونصوصه تكون مرتجلة أو محفوظة . والفن الثاني هو ما يطلق عليه اسم صندوق الدنيا وهو عبارة عن صندوق من الخشب فيه فتحات زجاجية يرى المشاهدون من خلالها عدة صور ملونة تتعاقب أمام أعينهم تثير دهشة المشاهد فيعلق عليها صاحب الصندوق تعليقات مثيرة فتثير إععجاب الرأى.
هذه الفنون التمثيلية التى عرفها العرب جعلت بعض الباحثين يقول بوجود الفن المسرحى عند العرب ، يقول الدكتور على الراعى ((أنه ـ أى فن خيال الظل ـ مسرح فى الشكل و المضمون معال لا يفصله عن السرح المعروف إلا أن التمثيل فيه كان يتم بالوساطة )) ويقول أيضا في موضع آخر ((إن ابن دانيال قد أخذ ما تكون في المقامة من دراماـ أيا كان شأنهاـ وجعل منها مسرحا حقيقيا له نظرة واضحة وممارسة أوضح )) (2) ولكن نقول أن هذه الفنون التمثيلية التى عرفها العرب لم تكن مسرحيات تمثيلية بالمعنى الإغريقي الذى عرف فى ذلك العهد والذى لا يزال مستمرا خلال العصور الوسطى إلى وقتنا الحاضر لأن هذه الفنون التمثيلية تفقد أهم صفات المسرحية وهى صفة الصراع الذى هو جوهر المسرحية وهو أساس نشأتها وهناك فارق جوهرى آخر وهو أن هذه الفنون التمثيلية التى عرفها العرب قبل القرن الثامن عشر هى محاكاة لأفعال الناس وعواطفهم وهو ما يبتعد بها من أن تكون فنونا مسرحية إذا أن الفنون المسرحية محاكاة لأشياء إنسانية تدخل فيها محاكاة العواطف والأفعال و الأخلاف والانفعالات ، يقوم بأدائها أشخاص حقيقيون يؤدون الفعل المسرحي كأنه فعل حقيق حادث من واقع الحياة.
وبناء على ذلك فإن الفن المسرحى ((بالنسبة إليتا فن جديد اقتبسناه من الغرب كما اقتبسنا الفنونالادبية الاخرى التى لم تكن معروفة لدينا كالقصة والواية وقد اقتبسناه صورته الاخرى المتكاملة)(!)
ولعل ما سبق يقودنا إلى سؤال مؤداه . ما الاسباب التى منعت ظهور المسرح عند العرب قبل القرن الثامن عشر على الهيئة التى عرف عليهاعند الإغريق ؟ فى الواقع ان الإجابة على هذا السؤال تعددت من قبل الباحثين فى فن المسرحية عند العرب . فبعض الأسباب تعزى إلى طبيعة العرب وبيئتهم وبعضها يعزى إلى الدين وبعضها يعزى إلى طبيعة اللغة العربية . ولكن هذه الأسباب بعضها ما هو مقبول وبعضها ما هو مرفوض . يقول الدكتور محمد مندور ((فإنه منالؤكد أنهم ـ أى العرب ـ لم يعرفوا فن الدراما فى صورته التى خلفها اليونان أو فى أية صورة أخري مشابهة . كما أن السبب لا يمكن التسلم به لأن العبقرية الفنية ونوع الخيال أيا كان لا يمكن أن يكونا كافيين وحدهما لظهور الفن المسرحى عند أي أمة من الأمم فضلا عن العرب ويقول رياض عصمت:
((أماالعرب فقد وجدوا وازعا يمنعهم من تبنى الخلق المسرحى لأن الخلق ـكما كانوا يعتقدون ـ هو من سأن الله وحده وليس من شأن البشر حتى بوسائل مختلفة) وكلام هذا الباحث لا يحمل تبريرا علميا لعدم وجود الفن المسرحى عند العرب فضلا أنه يفتقر إلى النطقية القنعة التى من شأنها أن تهب الرأي القبول.
ومن الأسباب المعقولة فى تعليل عدم ظهور المسرح وأدبه عند العرب ،
فقدان عنصر الصراع الذى به يعلل وجود الفن المسرحى . فالإمة الإغريقية كانت حياتها حافلة بالصراع بين الأنسان والآلهة وبين الإنسان و القد وبين الإنسان والإنسان وبين الإنسان نفسه . أماالأمة العربية ف‘ن حياتها تخاو من هذا الصراع بسبب العقيدة الأسلامية التى جعلت اتباعها يعيشون عيشة هادئة فيها التوافق بين النفس وجميع ما يحيط بها وبينها وبين الله وبين الإنسان وقد سبقنا إلى ذلك الدكتور محمد عزيزة ـإذ يقول ((وبالنسبة للدين الإسلامي
التقليدى فإن مثل هذه الثنائية ليست موجودة فحسب ، بل أنها غير متصورة على الإطلاق)
وسبب آخر كان له كبير الأثر فى عدم معرفة العرب للفن المسرحى وهو كلفهم بالشعر ونظرتهم إليه نظرة ملؤها الإعجاب ةالاعتزاز بهذا الفن من القول وهذه النظرة المثالية للشعر هى التى صرفتهم عن آداب الأمم الأخرى .
ولم تقتصر هذه النظرة على الشعراء العرب بل وجدت كذلك عند نقادهم مثل ابن رشيق القيروان الذي عقد فصلا فى كتابه (العمدة)عنوانه يقول: (باب فى فضل الشعر )) يقول فيه (العرب أفضل الأمم، وحكمتها أشرف الحكم)) (2) وهذه النظرة المبينة على المفاضلة هى التى حالت بينهم وبين ترحمة شيئا من الفنون الأدبية عن الإغريق.
ومنالأسباب التى حالت دون ظهور الفن السرحى عند العرب أن العربي فيى العصر الجاهلي كانت الحياة تحتم عليه أن يأخذ نفسه بالجدية فى الأمور الحياتية مما بعدت به عن اللهو والهزل الذى يحط من شأنه سواء فى مجال القول أو فى مجال الفعل وأضف إلى ذلك نمط الصحراء القاسي والعيش فيها بين عوامل يتنازع فيها البقاء والفناء ولما جاء الإسلام أبقي على هذه النظرة الجادة للحياة، وعمقت آدابه المستوحاة من النصوص القرآنية و السنة النبوية السمات الأخلاقية للشخصية الإسلامية التى أبرزها الجد والاتزان ، ولذا وقف الإسلام من حياة اللهو موقفا متميزا ولم يسمح به إلا فى الحدود الضيقةو نظر إلى الحياة الدنيا على أنها حياة لاهية يتوجب على المسلم أن يبتعد عنها .
ويكشف ذلك قول القرآن (وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة اهى الحيوان لو كانوا يعلمون )د
أما النهضة المسرحية التى يعيشها العالم العربي اليوم تعود بداياتها إلى بداية القرن التاسع عشر الميلادى عندما قدمت الجيوش الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر عام 1798م مع بداية القرن الثامن عشر فاحتلتها وكان من
محاسن هذه الحملة أنها أيقضت الأمة العربية من تخلفها الذى طال أمده بعد أن كانت حيةّ قوية مزدهرة في العصر العباسيوما قبله من العصور . وكثير من الؤرخين العرب للعصر الحاضر يؤرخ بهذه الحملة و يراها نقطة البداية للنهضة العربية الحديث .
وتعد حملة نابليون على مصر أول اتصال الشرق العربي بأروبا وتأثيرها والأخذ منها ولهذا فإن الفن المسرحى الذى عرفه العرب فيما بعد يعدد أثرا من آثار هذا الاتصال . فإن نابليون عندما احتل مصر كان فى جيشه فرقة من الممثلين المسرحين الفرنسين الغرض منها تسلية الجنود والترفيه عنهم ولهذاالغرض أنشأ نابليون أول مسرح فى الشرق العربي فى مصر فى حى الأزبكية لتقدم عليه العروض المسرحية وقد ذكر هذه المسارح الجبرتى فى حوادث الحادى عشر من شهر شعبان 1251ه يقول ((وفيه كمل المكان الذى أنشؤوه بالازبكية عند المكان المعروف بباب الهواء وهو المسمى فى لغتهم بالكمرى وهو عبارة عن محل يجتمعون فيه كل عشر ليال واحدة يتفرجون به على ملاعب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلىواللاهى مقدار أربع ساعات من الليل وذلك بلغتهم ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة (1) ويفهم من كلام الجبرتى أن المسرح المقام فى مصر أنه لتسلية الجنود و أن العروض المسرحية التى يعرضها كانت تؤدي باللغة الفرنسية أى أنه مسرح أوربى علي أرض عربية . وقد أكد ذلك جرجى زيدان بقوله : ((كانت الروايات الفرنساوية بمصر لتسلية الضباط واشتغل الجنرال مينو بتشييد مسرح للتمثل سماه مرسح الجمهورية والفنون))
ولكن هذا المسرح الأوربى الذى أنشأه الفرنسيون فى مصر لم يكتب له النجاح ((ولعل ذلك راجع إلى أنه كان مستقلا بذاته ،ولم تتوفر له الأسباب التى تمده . بما يتيح له التطور .ولذلك فإن هذا المسرح الأوربى لم يكن له أثر في العالم العربي الحديث وانتهى منه بانتهاء حملة نابليون عن مصر عام 1801م
((ويذكر حسين شفيق أن الروايتين اللتين مثلتا بمنزل كريم بك ببولاق هما ((الطمأنينية )) و((زليس فللكور )) أو وبنابرت فى مصر)) ولما رحلت الحملة الفرنسية عن مصر وآلت مقاليد الحكم إلى محمد على الذى انصرف إلى صلاح الداخلى وقد صب معظم هذا الإصلاح على الجيش وتزويده بعوامل القوة فبعث البعوث إلى أوربا وخاصة فرنسا للإطلاع علي كل ما هو جديد و لم يلق فن التمثيل المسرحى عناية من محمد علي كما أنه لم تذكر المراجع التاريخية أى نشاط مسرحى قام فى عهده .وتعد نهاية النصف الأول من القرن الماضي وعلى وجه التحديد عام1847م البداية الفعلية لفن التمثيل المسرحى عند العرب وقد بدأت فى لبنان على يد مارون النقاش الرائد الأول لهذا الفن الذى اطلع عليه أثناء لإيطاليا فراق له هذا الفن وعزم على نقله إلى العربية فلما عاد إلى بلده قام بتأليف أول مسرحية (البخيل) والتى قام بتمثيلها آواخر عام 1847م فى بيته و فى أواخر عام 1849م قدم مسرحيته الثانية و هى بعنوان ((أبو الحسن المغفل )) أو((هارون الرشيد)) وفى عام 1853م قدم مسرحيته الثالثة والأخيرة وهى بعنوان ((الحسود السليط)) ومسرحيات مارون النقاش يمكن عدها من النوع الهزلي الضاحك (الملهاة)
3 ـ القصة :
ليست القصة جديدة على أدبنا كل الجدة، ففي الأدب الجاهلي قَصَصٌ كثير يدور على أيام العرب وحروبهم. وفي القرآن الكريم قصص مختلف عن الأنبياء ومن أرسلوا إليهم، وقد تُرْجم في العصر العباسي كثير من قصص الأمم الأجنبية، ومن أشهر ما ترجم حينئذ كتاب كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة.
ولكن يلاحظ أن القَصص العباسي وما خلفه من قَصَص عند الشعوب الإسلامية اتخذ اللغات العامية غالبًا لسانًا له، ولم يدخل منه في أدبها الكبير: الأدب العربي الفصيح سوى المقامات، وهي قصص قصيرة تصور مغامرات أديب متسول يخلب سامعيه بحضور بديهته وبلاغة عباراته. وفي الحق أن بديع الزمان مخترعها ومَن جاءوا بعده مثل الحريري لم يفكروا في صنع قصة حقيقية أو أقصوصة؛ إنما فكروا في غرض تعليمي هو جمع طوائف من الأساليب المنمقة الموشاة بزخرف السجع والبديع ..
وبذلك انقطع الطريق بين القصة الطويلة وبين العربية الفصيحة، فلم تدخلها؛ إنما دخلت في اللغات الدارجة، وشاركتْ لغتنا العامية في هذا النشاط؛ بل لقد سارعت إليه وحاولت أن تتفوق فيه. ويتضح ذلك من كثرة القصص المصرية في قصصنا الشعبي الوسيط، فقد ألفنا قصة عنترة وقصة الهلالية وقصة الظاهر بيبرس وذات الهمة وسيف بن ذي يزن وفيوز شاه. ومَصَّرنا ألف ليلة وليلة فكتبناها بعاميتنا، أو صُغْناها بها، وأضفنا إليها قصصًا جديدة مثل قصة علي الزيبق وأحمد الدنف.
فكان لنا في العصور الوسطى قَصَصٌ شعبي، ولكن لم يكن لنا قصص فصيح. ولما اتصلنا بأوربا وأخذنا نتأثر بآدابها اتجه أدباؤنا إلى القصص الغربي، وحاولوا أن يترجموه، وكان رفاعة الطهطاوي هو الرائد لهذه الحركة، فترجم "مغامرات تليماك" لفنلون وسماها "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك". ولعل في نفس العنوان وتغييره إلى هذه الصورة المسجوعة ما يدل على عمل رفاعة في ترجمته، فإنه نقل القصة إلى أسلوب السجع والبديع المعروف في المقامات، ولم يتقيد بالأصل الذي ترجمه إلا من حيث روحه العامة، أما بعد ذلك فقد أباح لنفسه التصرف فيه. تَصَرَّفَ في أسماء الأعلام، وتصرف في المعاني، فأدخل فيها آراءه في التربية وفي نظام الحكم، كما أدخل الأمثال الشعبية والحِكَم العربية.
فلم يكن رفاعة مترجمًا فحسب؛ بل كان ممصرًا للقصة، واستمر هذا التمصير طويلًا من بعده، حقًّا أخذ أدباؤنا يتحررون من لغة السجع والبديع، ومعنى ذلك: أنهم ملكوا من وسائل التعبير ما لم يكن يملكه رفاعة ومعاصروه؛ ولكنهم ظلوا يميلون إلى التمصير فيما يترجمون من قصص، حتى تقترب من ذوق القارئين؛ بل إن منهم من آثر التمصير إلى اللغة العامية مثل محمد عثمان جلال. ولكن الممصِّرين من أصحاب الفصحى هم الذين رجحت كفتهم، ومن أشهرهم في أوائل هذا القرن حافظ إبراهيم والمنفلوطي، وقد ترجم أولهما البؤساء لفيكتور هيجو، وبعبارة أدق: مصرها تمصيرًا، فإنه لم يحتفظ منها إلا بالخطوط الأساسية، أما بعد ذلك فقد أباح لنفسه التصرف في الترجمة وإضافة فقرات ليست في الأصل. وربما كان عمل المنفلوطي في التمصير أوسع من عمله، فإنه لم يكن يعرف شيئًا من اللغة الفرنسية؛ وإنما اعتمد على نفر قرءوا له بعض القصص مثل "بول وفرجيني"، وحاول أن يؤدي ما سمعه منهم في اللغة العربية، فكانت قصة "الفضيلة"، ومثلها القصص الأخرى التي نشرها، وكلها تكاد تفقد الصلة بالأصل، كما تفقد حبكته القصصية، فليس الغرض الأول القصص؛ وإنما الغرض تصوير الانفعالات العاطفية والاسترسال في أسلوب بليغ على أننا لا نكاد نتقدم في هذا القرن حتى يستجيب بعض أدبائنا إلى هذا الفن الغربي، ويحاولوا أن يحدثوا فيه نماذج لهم، وسبق أن تحدثنا عن محاولتين: محاولة في إطار المقامة هي حديث عيسى بن هشام، ومحاولة جديدة خالصة هي محاولة زينب لمحمد حسين هيكل، والمحاولة الثانية هي التي تعد بحق أول محاولة كاملة لنا في صنع قصة بالمعنى الغربي الحديث. وتلتها بعد سنوات محاولة محمد تيمور تأليف مجموعة من الأقاصيص باسم "ما تراه العيون"، وهي أقاصيص قصيرة تمتاز بواقعيتها وبما تحمل من إحساس دقيق بالمفارقات، كما تمتاز بحبكتها القصصية. وقد كثر بعد الحرب الأولى من يكتبون الأقصوصة كتابة فنية بارعة، نذكر منهم محمود تيمور، كما نذكر محمود لاشين في مجموعتيه "سخرية الناي" و"يحكى أن"، وهو يمتاز بروحه المصرية الصميمة وقدرته على رسم الشخوص وإحاطتها بإطار من الواقعية والفكاهة.
أما القصة الاجتماعية الطويلة التي بدأها هيكل، فإنها خطت خطوات واسعة مع نهضتنا الأدبية بعد الحرب الأولى من القرن؛ إذ وُجد لها غير كاتب أصيل، وأصبح لكل كاتب فيها أسلوبه ومميزاته الشخصية التي ينفرد بها عن أقرانه. ومن أهم من لمعت أسماؤهم فيها طه حسين والمازني، وامتاز الأول بتصوير حياتنا المصرية في كثير من قصصه مثل: الأيام ودعاء الكروان وشجرة البؤس، وتناول قصة شهر زاد المعروفة في ألف ليلة وليلة . عرضها بأسلوبه البارع عرضًا طريفًا أما المازني، فيُعْنَى في قصصه بالجانب النفسي في الرجل والمرأة، ويستمد من الحياة اليومية المصرية وتجاربها التي تعيها مخيلته، ويشفع ذلك بتحليل واسع لمجتمعنا وعاداته وعلاقات أهله وأمزجتهم وما يضطربون فيه من مشاعر وأحاسيس. وهذا الاتجاه إلى التحليل النفسي يستمده من كُتَّاب الغرب النفسيين، وتشيع عنده كما تشيع عندهم النظريات النفسية المعروفة من عُقَد وتعويض وما إلى ذلك، على نحو ما نرى في قصة "إبراهيم الكاتب" و"عود على بدء .".
وللعقاد قصة تسمى "سارة"، وهي تقترب من ذوق المازني، وإن كانت تمتاز بتحليل عقلي واسع، إلا أنها تمزج هذا التحليل بتحليل نفسي، وتسيطر على التحليلين جميعًا شخصية العقاد التي تبالغ في المنطق وفي إبراز الأسباب والنتائج.
وهذا الاتجاه إلى التحليل النفسي في القصة يكاد يقف عند هذين الكاتبين، فالجيل التالي لهما يسير أكثر ما يسير في اتجاه هيكل وطه حسين الذي يعتمد على التحليل الاجتماعي لا على التحليل النفسي، وفي مقدمة هذا الجيل توفيق الحكيم ومحمود تيمور ونجيب محفوظ.
أما توفيق الحكيم، فاعتمد في قصصه على بعض حوادث وتجارب رآها في حياته كما نرى في "يوميات نائب في الأرياف"، وحاول أن يتناول بعض مشاكلنا القومية الوطنية كما في "عودة الروح". وهو يطبع قصصه بطوابع إنسانية عامة، وإن كان يحاول في الوقت نفسه محاولة جادة أن يصور معالم الروح المصرية الشرقية.
ويُعْنَى محمود تيمور في قصصه بعيوبنا الاجتماعية، وهو يلتقي بطه حسين وتوفيق الحكيم في كثير من قصصه؛ ولكن له أسلوبه وشخصيته المستقلة. أما نجيب محفوظ، فيُعْنَى بتصوير الطبقات الوسطى والشعبية وما تخضع له من الظروف المختلفة في البيئة والمجتمع مما ينتهي بها أحيانًا إلى الانحراف الاجتماعي أو الخلقي.
وبجانب القصة الاجتماعية الطويلة وُجدت عندنا القصة التاريخية منذ مطالع هذا القرن، فقد ألف جورجي زيدان نيفًا وعشرين قصة تصور الأحداث العربية الكبرى، وهي ليست قصصًا بالمعنى الدقيق؛ إنما هي تاريخ قصصي، تدمج فيه حكاية غرامية، وهو تاريخ يحافظ فيه الكاتب على الأحداث دون أي تعديل، ودون أن تحليل للمواقف والعواطف الإنسانية. غير أننا لا نتقدم طويلًا بعد الحرب العالمية الأولى حتى تأخذ هذه القصة عندنا في النضج، وكان أول من أوفى بها على الغاية من الكمال الفني محمد فريد أبو حديد في قصته "زنوبيا"، وقد أتبعها بقصصه الأخرى: الملك الضليل والمهلهل ثم "جحا في جانبولاد". وهو في قصصه جميعًا يتقن البناء القصصي ورسم شخوصه والنفوذ إلى دخائلها وخباياها النفسية. ويلقانا في هذا المجال كثيرون مثل: علي الجارم ومحمد سعيد العريان ومحمد عوض محمد ..
ولا بد أن نشير هنا إلى أن سنوات الحرب الأخيرة أتاحت لفن القصة عندنا ازدهارًا واسعًا، فقد أُغْلق البحر الأبيض أمام أدبائنا، فلم تعد تَرِدُ إليهم القصص الغربية، فعكفوا على أنفسهم أكثر مما كانوا يعكفون، فإذا هذا الفن ينضج على أيديهم نضجًا لا يعتمدون فيه على استيحاء أنماط غربية؛ إنما يعتمدون على أنفسهم وعلى بيئتهم المصرية العربية. وبذلك أصبح فنًّا عربيًّا متوطنًا في بيئتنا لا فنًّا غربيًّا نستورده ونقيس على أمثلته ونماذجه.
وإذا كنا قد استطعنا قبل الحرب الأخيرة أن نسمي طائفة ممن لمعوا فيه، فإننا لا نستطيع الآن أن نحصيهم عدًّا؛ إذ وجد الشباب نفسه بعد ثورتنا المجيدة وأحس حياته وكل ما فيها من وقائع اجتماعية وأخذ يعبر عنها أقوى تعبير وأجمله في قصصه وأقاصيصه.
وتبرز الآن أسماء كثيرة في عالم القصة والأقصوصة جميعًا، فقد أصبحت عندنا قصة مصرية فعلًا، وأصبح لنا قصاصون مصريون مبدعون، ولكل منهم أسلوبه ومنهجه طريقته .
وإذا كنا لاحظنا الميل الشديد إلى تمصير القصص الغربية قبل الحرب الأولى من هذا القرن، فإن هذا الميل انتهى وحل محله ذوق جديد من الترجمة الحرفية الدقيقة، وقد قامت دور نشر كثيرة على هذه الترجمة مثل لجنة التأليف والترجمة والنشر ودار الهلال ودار المعارف وغير ذلك من هيأت ومؤسسات، وتضطلع وزارة التربية والتعليم بجهود خصبة في هذا الاتجاه. ومعنى ذلك: أنه أصبح في لغتنا قصص غربية حقيقية ، وهي تعد بالمئات، كما أصبحت عندنا قصص مصرية حقيقية لا تقل عن السابقة جمالًا وروعة .




4 ـ الرواية التاريخية في عصر الانفتاح
لم يكن لأصحاب مبدأ الانفتاح إن يدرسوا التاريخ ويستلهموا ويبعثون من جديد من أجل توصيل رسالة جديدة لثقافة قديمة تبعث الجيل الجديد تزوده بمعارف وعلوم وهمة عالية من أجل بناء مجد جديد للعرب على غرار أصحاب السابقة، إذا أن مهمة هؤلاء المنفتحين كانت قد تحددت من قبلهم ببعث الجيل الجديد الذي يتخلص من الاستعمار ليبين حياة جديدة مجيدة من جهة على غرار أجدادهم ومعاصرة من جهة أخرى على غرار الحضارة الأدبية، ويعد التاريخ أحد المصادر الكثيرة في سبيل نشر هذه الثقافة وتاريخ المسلمين زاخر بالمقترح والنهضة ليكون نبراساً مضيئاً لمستقبل الأجيال.
يعد الأديب الموسوعي سليم البستاني أول من كتب في الرواية التاريخية مستلهماً أكثر اللحظات الدرامية والبطولية في عصور العرب السالفة حيث كتب لنا رواية (زنوبيا) متحدثاً عن الصراع بين مملكة تدمر والإمبراطورية الرومانية وكتب رواية (الهيام في فتوح الشام) متحدثاً عن فتوح الشام في عصر صدر الإسلام، ورواية (بدور) متحدثاً عن الانقلاب القياس وهجرة الأمويين إلى الأندلس منتهجاً أسلوب معالجة التاريخ معالجة تحقق للقارئ الفائدة مع الحفاظ على المعلومات الصحيحة عن تاريخ العرب المجيد مع بعث الروح الوطنية في الناس ودعم مبادئ الأخلاق القويمة والاعتماد على حبكة قصصية مشوشة.







الرواية العربية الحديثة
الفصل الأول
نشأة الرواية العربية بشكل عام
تُعدُّ الرواية الأدبية الفن الأكثر تعبيراً عن مشاعر وأحاسيس الإنسان ومواقفه من الكون والحياة والإنسان، وقد كان للإنسان على مرّ العصور يعبّر مكنونات نفسه بشكل خيالي يتماهى مع واقع الفن الروائي، ولكن الرواية كفنّ استطاعت أن تستحوذ على خيال المتلقي في واقعنا المعاصر لما لاقته من عناية فائقة في تمثيل صور هذه الرواية ولقد جنح الأدباء الحياة الإنسانية منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا لرسم آرائهم ومذاهبهم من أجل الوصول إلى أدب ثرٍّ يؤثر على مجريات الحياة الإنسانية والأدبية فكتبوا الآراء الإصلاحية والآثار الشعرية ونهجوا فيه منهجاً يدخلون من خلاله إلى قلوب القراء وما يحلم به الناس من أماني وآمال في جميع شؤون الحياة العامة من سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وإنسانياً. وقد دوّت في وطننا العربي الكبير صرخات جريئة تدعو إلى الإصلاح والتغيير وتحث مواكبة الحياة العصرية بعد أن طالت غفوتنا، وبعدت الشقة بين تراجع الحاضر وأمجاد الماضي. وقد توالت الأحداث التاريخية على الأمة العربية بعدما مرت عليها من نكبات وحوادث جعلت أبناءها يلتفتون إلى ضرورة التغيير فاستيقظ الوعي في نفوس الناس شيئاً فشيئاً بفعل الحوادث الخطيرة وعادوا إلى تاريخ الأجداد يحيونه وإلى العالم يقبسون منه وسائل نهضته ويثورون على ما هم فيه من مهاوي الذل وإذا الاتصال بالثقافة الأجنبية تحكم أواصره وتتعدد طرقه (مدارس – كليات أجنبية – دعاة ينتشرون – حركة استشراقية(2) منظمة ترجمت روائع الغرب في الفن والعلم والنقد قذفتها إلى مطالع أسهمت في نشره .
ومن هذا كله نشأت في أدبنا العربي المعاصر هذه الاتجاهات الحديثة التي أغنته وأمدته بعناصر الحياة والقوة فلم يعد أدباً مأجوراً يلقى ابتغاء المكاسب المادية، ولم يعد فناً ذاتياً لا يكاد يتجاوز الحدود الشخصية التي يحياها الأديب في ظل الظروف التي تساعده على أن يدرك ذاته ويعرف حقيقةَ ما حوله.
إن كتاب الرواية قد وعوا رسالة الأدب وأدركوا أن الشعب هو المادة الدسمة والحقيقة الخالدة التي ينبغي أن يهتموا لها، فاتجهوا إليه يصورون ما يعانيه من مشاكل وأحداث فكتبوا لذلك ونظموا من أجل ذلك وتبنوا الآراء الإصلاحية في رواياتهم التي حللوا من خلالها أمراض المجتمع بآماله وأمانيه فكانت آثارهم الأمة بكل ما تختلج (1) به نفوس أبنائها من عواطف وإحساسات وقضايا مصيرية تتعلق بالأمة وضرورة نهضتها وقضايا كونية تتعلق بالوجود، وقضايا شخصية تنعكس على صفحة الحياة الموضوعية حيث تبدد التجربة (الفنية للكاتب) هي التجربة الإنسانية تتفتق منها رموز الحياة الواعدة .
ولو عدنا إلى مقالات الكتّاب ورواياتهم وخطب الخطباء وقصائد الشعراء منذ فجر النهضة حتى اليوم، نجد عواطف الأمة و عنفوانها (2) وثوراتها، وما أحرزته من نصر وما هزها من محن وما ازدهت به من أمل، مسجلة في صفحاتهم الخالدة أسمى صور البطولة وقد عرضوا من خلال ذلك مظاهر الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية والنفسية.
وهذا ما أدى إلى إعطاء صورة جديدة لهذا الأدب الذي التصق بالمجتمع الصادق حيث سار في مواكبه وتطوره من أجل صنع حياة إنسانية فالأدباء قد عرفوا وأيقنوا بأن الحقيقة الخالدة لهذا الأدب هو المتلقي الذي هو الشعب الباحث عن سيرورة جديدة للحياة التي يجب أن يعيشها بكرامة إذاً فالرواية ملتصقة بالإنسان ودونه لا يوجد حركة إنسانية تعبر عن معاني الإحساس بالألم والفرح ويتطلع إلى المستقبل أو تصوير الظلم الإنساني الذي هو صنف من صور الاستبداد الذي عاناه الإنسان على مرّ العصور وما دام الشعب كذلك يبحث عن تطلعاته الواعدة فهو إذن مطاف(1) أعين الأدباء وهو الوحيد الذي يحس بألم الاستبداد ويئن تحت وطأة الظلم والحرمان وهو وحده من يصنع التغيير ويحارب الظلمة والمستبدين ولا شك بأن سياسة التتريك في مطلع القرن الماضي وظلم جمال باشا السفاح جعل الأدباء يصورون أدق التفاصيل التي عاناها الشعب جراء هذه السياسة الظالمة .
وخاصة عندما كان يعلق أبناء هذا الشعب المدافعين عنه على أعواد المشادق لا لشيء إلا أن قالوا "العرب أمة واحدة" فكل ذلك كان حافزاً يدعو إلى رفض الظلم والتحرر من نير(2) الاستعمار وتحطيم القيود والثأر للأبرياء وقد جاءت الثورات العربية المتعاقبة لتنتقم للكبرياء الجريح والعزة المهانة وقد أحسن الأدباء في تصوير ذلك وخاصة ما يملأ نفوس الأمة من غيظ لقد صور الأدباء هذه المرحلة الثائرة في أدبهم وكتاباتهم وقد بدا ذلك بتشكيل الأحزاب التي تهدف إلى الاستقلال و طرد الاستعمار والنهوض بالأمة نحو مستقبل واعد واستجاب الشعب فظهر آنذاك حياة سياسية بدا جلياً في جريدة (اللواء) التي كانت لسان حال (الحزب الوطني) عكست صداها في كافة أرجاء البلاد ولقد كانت هذه الحياة السياسية ترضي عواطف الشباب الوطني المتحمس فمال جمهورهم إلى الحزب الوطني.
واتبعوا سبيل المناوأة والمعارضة هذا هو (العقاد) يطل علينا "بقوله:" وكان كثير من الشبان المصريين قد تفرقوا بين الأحزاب السياسية في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى فمال معظمهم إلى جانب الحزب الوطني لاقتراب السن والتعليم بين مصطفى كامل(2) وطلاب مدرسة الحقوق الذين كانوا أكثر الطلاب اشتغالاً بالسياسة. أما حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية فلم يجنح إليه أحد من الشباب " لأن خطة الحزب كانت إلى الدبلوماسية " أقرب منها إلى السياسة أو الدعوة الوطنية وهكذا أنطبع وجه الحياة السياسية بطابع ( الحزب الوطني ) و ( حزب الحزب ) أو طابع " المعاندة " وطابع " المهادنة " أو طابع " الثورة " وطابع " العقل " أو ما شابه ذلك من مصطلحات ذلك العصر .
وجاءت ثورة عام تسعة عشر وتسعمائة وألف فجمعت بين تيارين سعد زغلول فيلسوف حزب الأمة "وتيار لطفي السيد " بمسالمته وتعلقه مع نفر من شباب الحزب الوطني بحماساتهم وثورتهم ، ليجابه بهؤلاء وهؤلاء أولئك المستعمرين في تفاوضه ومطالبه وثورته جميعاً ونستطيع أن نقول إن عناصرهذا التفكير قد اصطبغت بالصبغة اللبرالية ، ذلك أن مجهودات الرعيل الأول من أمثال فتحي زغلول ولطفي السيد ، وعبد العزيز فهمي ومن إليهم ممن درسوا في فرنسا ، وأعجبوا بأصول التفكير السياسي فيها على ذلك العهد ، قد بدأت تُحدثُ أثارها ، وتزحم الأصول العربية الإسلامية المتواترة في نُظم الحكم إلى حد كبير .
فالنزعة الوطنية التي رأينا المستعمر قد بذر بذورها بما حاوله في ضبط عناصر الجنسية المصرية قد اتخذت عند هؤلاء المفكرين وجهاً آخر ، ففضلاً عما ناطه المستعمر بالجنسية المصرية من حقوق سياسية وإدارية نراهم قد جعلوها ركيزة من ركائز الفكرة السياسية اقتداء بفكرة " الدولة الحديثة " التي تقف منها الرابطة الوطنية موقف الأساس في عرف السياسيين أو علماء السياسة في القرن التاسع عشر مولد " القوميات " كما هو معروف . فالرابطة الأساسية في الدولة الحديثة – عندهم هي وحدة المصلحة المشتركة لا وحدة الدين أو الجنس وقد عبر عن ذلك أشد تعبير المفكر لطفي السيد حين قال " فمن النافع الضروري جعل المنفعة هي الأساس الوحيد للعمل في السياسة دون التخالف في المعتقدات الدنية "
على أن لطفي السيد لم يكن يرى هذا المبدأ خروجاً على فكره " دار الإسلام " أو الجامعة الإسلامية كما سماها الناس في ذلك العهد ، فالمنفعة مبدأ من مبادئ السياسة ، ورابطة من روابط الجماعة لا يأباها الدين الحنيف ، يقول : " إننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن جعل المنفعة أساساً للعمل في السياسة مذهب لا يأباه الدين الحنيف " وسواء صح هذا الاعتقاد أم لم يصح فإن واقع الأمر يدل على أن الوطنية قد بدأت تشيع حتى غلبت على فكرتها على الأفكار .
وهكذا ظهرت مصر في ثوبها الوطني الجديد فكان من مشخصات كيانها وعنصراً أصيلاً من عناصر شخصيتها ومن خلال ذلك ظهر الاتجاه القومي في الدب

وهكذا تصدّر " هيكل " دعاة هذا الاتجاه بقصة زينب " وبغيرها من الكتب ، كما في " أوقات الفراغ ، وثورة الأدب " وبذلك كشف هيكل عن بعض جوانب مصر القديمة وجوانب مصر الحديثة واتجاهاتها القومية .
لقد كان الشعب يشعر بظمأ شديد إلى حاكم يحس فيه بالكرامة وبالقدرة على المشاركة في صنع مصيره ،ى ولكن الحكام كانوا في غفلة عنه يتعامون عن الحقوق التي تردى فيها ، ويتغافلون عن العاقبة الوخيمة التي تردى فيها ، ويتغافلون عن العاقبة الوخيمة التي آل إليها ، ويصمون الأذان عن صرخة المظلوم ، ونداء الملهوف ، وتتجمع في النفوس شيئاً فشيئاً خيوط الثورة ، وتموج الشعوب مهددة متوعدة ويلتفت الأفغاني إلى الخديوي مهدداً إياه بقوة الشعب ومعلناً أن نزول الحاكم على إرادة الشعب هو الذي يصون عرشه : " وإن قبلتم نصح هذا المخلص ، وأسرعتم في إشراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى يكون ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم "
وهذا اللحن الصاخب المزمجر هو الذي ارتفع به صوت الشاعر أحمد محرم حين عبر عن رغبة الشعب بالشورى ، والحكم الصالح واليد الأمينة .
في عصمة ِ الشورى وتحت ظلالها تحـــمى الممالك كُلها وتصان
أما في لبنان فيرتفع صوت غريب اللهجة تنكره الطباع العربية ويشتد احتقار الشعب لأصحابه يدعوا إلى الارتماء في أحضان فرنسا.
أما في سورية كانت الثورة السورية تقدم المئات من أبنائها في كل يوم ثمناً للحرية الحمراء ، وكان الشعب بأجمعه يضع في المعركة نفسه ( والجود بالنفس غاية الجود ) على الرغم من أن نفراً يفزع إلى فرنسا الأم الحنون لتضع البلاد تحت وصايتها ، ولتحميهم من وحشية الثوار الأحرار الأبرار ، ويملأ قلوب الشعب اشمئزاز واحتقار وغضب ويأتي الأدب ليسجل ذلك على لسان إلياس فرحات
بعضُ البنينَ جَنىَ عليكِ وبعضهم ظنَّ الخيانةَ مصدَر الإِنعامِ
زرعوا التفُّرقَ في العبادِ وقطَّعوا ما كان متَّصلاً من الأرحامِ
وتنمو المشاعر القومية في النفس ويرنو الشعب إلى يوم أغر يجمع بين أبناءه تاريخ الوطن العربي الواحد ، فيتغنى الشعر بهذا اليوم مواكباً الرواية في تطلعاتها.
بلاد العربِ أوطاني من الشام لبغــدانِ
ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصرَ فتطوانِ
لسان الضاد يجمعنا بغسَّانٍ وعدنـــــانٍ
وكأن الشعب قد أحس بأن مصالح الملوك تتعارض مع هذه الوحدة ، فقال بلسان " الريحاني " " أيها الملوك والأئمة والرؤساء والسلاطين والأمراء إن في كلمة واحدة حياة هذه الأمة والكلمة لكم فهل أنتم بها ناطقون ؟ الكلمة هي ( الوحدة ) فهل أنتم في أمر واحد متفقون ؟ والوحدة العربية أساس الحُرمة القومية فهل من حُرمةٍ تعزَّزون ؟"







وإذا انتقلت إلى الميادين الاجتماعية رأيت الشعب يئن من الفقر ويتأوه من المرض ويضجر من الجهل ويضيق ذرعاً بهذه الطبقة التي تجعل قيمة الرجل منوطة (1) بما يملك ، فالفقير مُحتقر والعامل مهان والغني مستبد جبار في الأرض والشعب يشكو سوى ذلك عشرات ٍ من الأمراض الاجتماعية الفتاكة التي تقرض أوصاله بمقاريض جارحة ويأتي الأدباء ليرصدوا هذه العواطف وهذه المواقف ولجعلوا منها مادة لإصلاح المجتمع ، فهذا الطنطاوي ينكر الطبقية ويثور على الظلم الاجتماعي المتفشي " فما هذا التفاوت بين البشر"
ما هذا الذي يجعل من الناس واحداً يملك مليوناً ، ومليوناً لا يملكون واحداً ، وإنساناً يظن نفسه من الغنى والكبر إلهاً والعياذ بالله .
وقد استطاعت الرواية العربية في أقل من قرن أن تحدث صدى واسعاً في منظومة الثقافة المعاصرة ورغم حداثة النشأة وصعوبة المراحل الأولى لكنها استطاعت أن تثبت وجودها الأدبي وأصبحت القصة " ديوان العرب " وتحَّول مسار التاريخ الأدبي إلى " موسم الهجرة إلى الرواية " التي استطاع الكتّاب من خلالها أن يطرحوا هموم الواقع العربي .
ومن هنا " تعدُّ السياسة" محوراً هاماً ممن محاور الأدب العربي الحديث تسعى نحو الارتباط القوي بالواقع المعاصر وتصوير أدق تفاصيله وتعكس آلامه وآماله وأحلامه .. والرواية وهي تسعى نحو تحقيق ذلك تقدم موضوعاتها بجرأة وصراحة وتصور قضاياها مختلطة ممزوجة بطين الأرض ومخضّبة بقضايا الواقع .
إن الروائي الغربي المعاصر قد أصبح اليوم هو المؤرخ الحقيقي لكثير من أحداث الأمة وقضاياها يدافع عن القيم النبيلة والإنسانية ويكافح ضد الظلم والاستبداد
وبناء على ذلك فقد ظهر ما يعرف باسم " الرواية السياسية " التي تلعب القضايا والموضوعات السياسية الدور المحوري بشكل صريح أو رمزي على أن كاتب هذه الرواية السياسية ليس بالضرورة أن يكون منتمياً لأي حزب من الأحزاب السياسية " لكنه يفترض فيه أن يكون يريد أن يقنع بها قارئه بشكل صريح أوضمني وهنا يدخل الكاتب مع قارئه في سياق حياتي واحد قوامه تغيير الواقع وتحسينه والكاتب يحاول أن يشكل رواية جيدة فنياً تحمل قيماً ورؤى سياسية تتلائم مع أهداف المجتمع وطموح الشرائح التقدمية من أبنائه ، ونقاد علم اجتماع الأدب يرون أن الرواية قادرة على تقديم رؤية سياسية إلى حد ما ذلك أن الملحمة القديمة تعكس رؤية شمولية للحياة ، في حين أن الرواية الحديثة والتي تعدُّ ( ملحمة البرجوازية ) في العصر الحديث تظهر الفجوة بين الفرد والعالم تفرض واقعاً نثرياً ( مبعثراً ) يظهر أزمة الذّات واغترابها عن المجتمع وهذا أقصى ما تسعى إليه النفس البشرية ويشير الكاتب الألماني " جوته" إلى أن الرواية الحديثة باعتبارها ملحمة ذاتية يطالب فيها الكاتب بتصوير العالم بطريقته وإذا كان لديه طريقة خاصة في رؤية العالم أو وجهة
نظر في السياسة فإن ذلك يأتي من تلقاء نفسه بعد أن يكون قد شكل العناصر الرئيسة لعلمه الأدبي وفي هذا السياق كما يرى جورج لوكاتش فإن بطل الرواية كائن إشكالي وهامشي يواجه واقعا اجتماعيا خاليا من المعنى وعليه (البطل) أن يخترع هذا المعنى المفتقد أو يبحث عنه رغم أن بحثه المثابر عنه قد ينتهي بالفشل .
إن بطل الرواية السياسة (بطل إشكالي) يتحرك فنيا في إطار قضية إيديولوجية يستطيع حلها في أغلب الأحيان وقد يخفق في حلها على الرغم من كونه يناضل عن عقيدته صريعا دونها
والرواية المعاصرة حين تعبر عن قضية سياسية فإنها تضيف إلى وظائفها الفنية وظيفة أخرى جديدة لم تكن ضمن وظائفها السابقة (الإقناع الإيديولوجي) إزاء قضية سياسية قد تكون حادة أو ساخنة,لكن الروائي يحاول أن يقدمها بطريقة فنية هادئة حتى تقرأ من الخصوم والأنصار وتكون مقبولة من كليهما في آن واحد فإذا أخذنا رواية مثل
بيروت..بيروت 1984 للكاتب السياسي صنع الله إبراهيم , نجده يصور فيها موضوعا سياسيا (الحرب الأهلية في لبنان) تعبر عن وجهة نظر كاتب عربي في هذه الحرب الأهلية سنة 1980 مستعينا على ذلك بالوثائق المختلفة
حيث يقدم المؤلف ماضي لبنان من خلال عرض للصور يصفها الراوي بإتقان حتى تكون معبرة عن الماضي الجميل كما يقدم بعض الوثائق من الصحف والإذاعة والتلفزيون بالإضافة إلى ما يشاهده بنفسه عن واقع الحياة اليومية في بيروت
إذاَ كاتب الرواية السياسية يستطيع أن يطرح رؤيا للعالم من خلال أحداث معاصرة أو من خلال تصويره (إطاراً تاريخياً) خادعاً لكي يطرح ايديولوجية السياسة بطريقة غير مباشرة – كما نجد على سبيل المثال في رواية "الزيني بركات" (1974) لجمال الغيطاني والتي تدور أحداثها في نهاية عصر المماليك قبيل الاحتلال العثماني لمصر سنة (1517) حيث تصور الصراع السياسي بين السلطة ممثلة في الوالي الأمير(خير بك) واثنين من معاونيه البصاصين المحتسبين , هما الزيني بركات بن موسى وزكريا بن راضي والقوة الشعبية ممثلة بالشيخ أبو السعود الجارحي وسعيد الجهيني وغيرهما من شيوخ الأزهر وطلبته وبعض الشخصيات الفقيرة المظلومة ويشكل المؤلف (تماثلاً) بين هذا الإطار التاريخي الذي استلمه من كتاب "بدائع الزهور في بدائع الدهور" المؤرخ محمد بن أحمد بن إياس المصري وبين حالة المجتمع المصري بعد نكسة حزيران (1967) ويتضح ذلك من خلال الأبعاد الرمزية والإيحائية للنص الروائي الذي استمده من الإطار التاريخي القائم الذي استوحاه الكاتب في هذه الرواية حيث "يقيم موازنة بين نص بن إياس التاريخي ونص الغيطاني الروائي"
وهذا التوازي يكشف التشابه القائم بين مرحلتين تاريخيتين هما مرحلة هزيمة المماليك أمام العثمانيين ومرحلة نكسة حزيران (1967) وعلى هذا فإن التاريخ القديم والحديث يمكن أن يساعد الكاتب الروائي على تقديم رواية سياسية جيدة تحمل وجهة نظر فكرية مستنيرة .
يقول غسان كنفاني في إحدى قصصه "اليوم مأساه وغداً مغامرة" إذا ليس من مبرر يدعو لليأس , وما يقوله غسان كنفاني يدل على موقف فلسفي من الحياة , مدعم بكم هائل من التفاعل هكذا نجد بطل رواية "النيل" الطعن والرائحة للكاتب الكويتي "إسماعيل فهد إسماعيل" (1988) يكرر مقولة الروائي الفلسطيني غسان كنفاني على أنها حقيقة واقعية فحياة الإنسان المعاصر لن تخلو من مأساة إن لم تكن اليوم فغداً ـ لأننا نعيش مرحلة سياسية صعبة على كافة المستويات وأصعب ما فيها أن يقوم الراوي بتصوير |أبعادها وإقناع القارئ بها .
إن الكاتب السياسي لا يدخل في مغامرة فنةصعبة مع قارئ قد يختلف معه ايديولوجياً فحسب وإنما قد يدخل أيضا في مغامرة غير مأمونة العواقب ـ مع السلطة السياسية الحاكمة التي قد يعارضها في الرأي أو يختلف عنها في المعتقد الحديث في السياسة
فإذا ما حاول الأديب أن يكتب من مقعد (المعارضة ) أو يسبح ضد تيارالفكر السياسي السائد فقد تجر عليه كتاباته مخاطر كثيرة .. وثمة كتاب كثيرون اعتقلوا أو منعوا من النشر أو صودرت بعض أعمالهم على الأقل وما نموذج الشاعر " محمود سامي البارودي " (1838- 1904 ) عنا ببعيد ، فقد عوقب بالإعدام ثم خفف بالنفي إلى جزيرة " سرنديب" (2) في الهند مدة سبعة عشر عاماً – بسب اشتراكه في أحداث الثورة العرابية خلال الفترة من سنة (1883- 1900) وكم تألم في أثناء ذلك النفي وبكى شعراً حزيناً
محا البين ما أبقت عيون المها مني فشبت ُ ولم أقض اللبانة منَ سني
عناء ويأس واشتياق وغربـــــــــة ألا شدَّ ما ألقاه في الدهر من غبن
ويختم القصيدة متضرعاً إلى الله سبحانه وتعالى قائلاً :
وإني _ وإن طال المطال _ لواثق برحمة ربي ذو الطول والمنَّ
وقد تعرض كتاب الرواية المعاصرة للحبس والاعتقال أو الفصل من العمل أو الاغتيال الجسدي أو محاولة الاغتيال والقتل ومن هؤلاء الكتاب على سبيل المثال : " غسان كنفاني ، ونجيب محفوظ ، وعبد الحكيم قاسم ، ويوسف السباعي ، وعبد منيف إلى غير ذلك " وما أشدَ حاجتنا في هذا الوطن العربي إلى الجدل السلمي والحوار الهادئ بالحكمة والموعظة الحسنة
" إن قضية الديمقراطية هي قضية اليوم والغد وهي في أساسها طموح إنساني ومطلب شعبي وقد أصبحت بالإضافة إلى هذا وذاك ـــ توجهاً عالمياً ولكنها لا يمكن أن تكون " وصفة " تُفرض على الحكومات والشعوب
فالديمقراطية فلسفة ونظاماً وممارسة تختلف من بلد إلى أخر ـ كان هناك حتى وقت قريب " ديمقراطية شعبية " سقطت سقوطاً مدوياً في حجر التاريخ وعلى التاريخ أن يفتش فيها لنتبين أسباب سقوطها وعليه فأن الديمقراطية نظام سياسي مرتبط بتركيبة اقتصادية اجتماعية ثقافية ذات جذور تاريخية ،
وإذا كان ثمة قاسم مشترك بين الديمقراطيات الغربية ، فهو أنها تقوم على مبدأ الصراع ، الذي يعني في المجال الاقتصادي المنافسة وفي المجال الاجتماعي الصراع الطبقي وفي المجال الثقافي حق الاختلاف وفي المجال السياسي التعدية الحزبية ، وهذه كلها أشياء يجب أن نتعلمها من الغرب لأن الحياة الإنسانية لا تستقيم بدون صراع . في مناخ الصراع تشحن القوى ويكثر الاختراع ويظهر الجديد القادر على البقاء ، ويختفي العتيق البالي .
بيد أن الصراع الذي نتمناه لشعوبنا العربية صراع يقوم على الحوار الفكري الملتزم بمواريث هذه الأمة ومقدساتها ويعمل من أجل تحقيق العدالة والمساواة لكل أبنائها ، حتى نكون جديرين بوصف الله سبحانه وتعالى لنا بقوله :
" كنتم خير أمةِ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر "
إن الصراع الذي نأمله لتحقيق الديمقراطية في بلادنا صراع (سلمي ) فكري يقوم على الجدل والحوار بالحكمة والموعظة الحسنة ، إنه صراع من أجل التقدم والعدل والبناء والاتفاق على كلمة سواء توحدَّ صفوف الأمة ، وتنشر الأمن والأمان بين كافة أبنائها
إنه صراع يقوم على دفع الناس بعضهم البعض ، حتى تعمر الأرض ، ويعم العدل وتنتشر الحرية في ربوع خير أمة .
ولهذا فالعمل الروائي عمل أدبي ذو طموح فردي لرؤية العالم ، وقراءة النص الأدبي تعني تفسير هذه الرؤية ومحاولة تحديد أبعادها أي أنّ الخطاب النقدي يقرأ الواقع من خلال عمل فني وينظر إلى النص الأدبي
على أساس أنه انعكاس عن وعي جمالي وإيديولوجي للواقع الإنساني الذي ظهر فيه ، " وليست الواقعية سوى حضور الواقع في النص الأدبي على هذه الصورة أو تلك ، أو حضور النص في الواقع أيضاًعلى هذه الصورة أو تلك "
والأنواع السردية المختلفة في الوطن العربي تنضوي في مجملها في إطار عباءة واقعية أدبية رحبة ، تبدو أحياناً بغير ضفاف وهذه النصوص السردية تصد عن رؤية واقعية تحاول من خلال " البطل " الذي يعد أهم عناصر بنائها البحث عن وضع اجتماعي مناسب في مرحلة تحول القيم ، وتغير أنماط السلوك وتعقد العلاقات ، لذلك يرى الناقد الفرنسي " لوسيان جولد مان " أن الرواية مع كونها وثيقة الارتباط بالفردية البرجوازية فأنها تعد نقداً للبرجوازية أكثر منها تعبيراً عن رؤيتها "
ولا ريب في أن الروائي حين يطرح نقداً سياسياً لمجتمعه فأنه في الوقت نفسه ــ يقدم رؤية مستنيرة وهذا يعني أن الرواية بحكم مضمونها الاجتماعي تقدم نقداً للواقع ورؤية مستقبلية في آن واحد تشحذ الهمم وتبصّر النائمين وتبعث الموتى من قبورها
ولا شك أن معظم كتاب الرواية فهي مرحلة تاريخية للتعبير عن وجهة نظر خاصة إزاء الواقع الذي يعيشون فيه ويحمل لنا " الجارم" باعتباره شاعراً ومعلماً للغة والأدب هذا الاستلهام من التاريخ السياسي إلى التاريخ الأدبي ، حيث قام بعملية مزج بين التاريخين السياسي والأدبي ونجد ذلك واضحاً في معظم رواياته مثل شاعر ملك التي تصور لنا حياة الشاعر المعتمد بن عباد و " فارس بني حمدان " التي تصور لنا حياة أبي فراس الحمداني و " الشاعر الطموح" و " خاتمة المطاف " اللتان تصوران سيرة أبي الطيب المتنبي . " هاتف من الأندلس " التي تقدم سيرة ابن زيدون ،كذلك يمكن أن يكون انشغال المؤلف بقضية التعلم والتربية السياسية والأدبية هو الذي حدا به إلى العناية بهذا المزج بين التاريخ والأدب .

فالرؤية السياسية في رواية " هاتف من الأندلس " تصور الحياة الأندلسية في عصرها كمرحلة من أصعب مراحل التاريخ العربي وأسوئها في القرن الخامس الهجري ( الحادي عشر الميلادي ) حيث سادت عناصر الفرقة وشبت نار الفتنة ، وانقسمت الدولة إلى دويلات متناحرة يكيد كل منها للأخرى حتى لو استعانت على ذلك بالأعداء ن وتدور معظم أحداث الرواية في مملكة قرطبة 423 هجري في أثناء " حكم أبي الحزم بن جهور " وولده وما حدث من صراع وتنافس بين هذه المملكة ومملكة أشبيلية تحت حكم المأمون بن ذي النون . هذه الصورة الحزينة للواقع العربي في بلاد الأندلس يقدمها الكاتب من خلال تصويره لحياة ابن زيدون الشاعر العاشق لولادة بنت المستكفي وغيرها من نساء قرطبة ، وهو أيضاً وزير ورجل دولة مشغول بما أصاب بلاده من ضعف ، وابن زيدون ليس بطل الرواية الذي تدور الأحداث السياسية والعاطفية حيث يوجد فحسب ، وإنما هو أيضاً المعبر عن رؤية المؤلف والمتحدث عن إيديولوجية القومية ، وقد وردت هذه الرؤية على لسان ابن زيدون ومن خلال سرد سيرة حياته الروائية في أكثر من موضع . يقول ابن زيدون ذات مرة لصديقه عمار الباجي في مجلس سمر " إن عرب الأندلس لن يعودوا إلى مجدهم حتى تعود إليهم وحدتهم ، وتتألف قلوبهم ثم زفر زفرة طويلة وقال : لقد ضاعت الأندلس وتبدد ملك كان بهجة الدنيا وزينة الدهور
وانفصمت تلك العروة التي جمعت الآراء على رأي ، وجعلت من الزنود المفتولة زنداً واحداً ومن السيوف الصارمة سيفاً واحداً فأصبح العرب بعد انحلالهم في هذه الجزيرة النائية بدداً ن كالشاة التي فتك الذئاب برعاتها ، وهامت في بيداء الخوف والجوع ، لا تسكن إلى ظل ولا تأوي إلى سياج . إن ابن زيدون بطل الرواية والشخصية المحورية فيها ، كما هو الشأن دائماً في معظم الراويات التاريخية ـــ يكرر الحديث عن رغبته في إزاحة الفرقة والخصومة وتحقيق الوحدة والوئام حتى تعود الأندلس إلى ماضيها العربي المشرق يقول ابن زيدون في حديثه إلى الحبيبة ولادة ورابطاً في حواره مها بين رغبته في تحقيق الحلم العاطفي بالزواج والحلم السياسي بالوحدة ذاكراً أن أمله الأسمى الذي يعمل من أجله أو يموت دونه وأنه لن يستحق أن يكون بعلاً لأكرم نساء قرطبة ألا إذا ظفر به هو " أن أعيد الدولة العربية بالأندلس إلى سالف مجدها أيام عبد الرحمن الداخل والناصر والمنصور بن أبي عامر يجب أن يتحد العرب ويجب أن تتجمع دويلات الأندلس في دولة عربية موحدة يخفق فوقها علماً واحداً يصور وحدة القوة ووحدة الغاية " ونظر اً لأن آمال بطل الرواية لم تتحقق في المجال السياسي إذ عجز عن تحقيق الوحدة وإصلاح الحكم في قرطبة وأشبيلية ، فإن المؤلف يقرن هذا الفشل بإخفاق البطل أيضاً في مجال الحب والعاطفة ، لذلك يدخل السجن ثم يهرب من بلاده إلى أشبيلية ، ومعنى هذا أن المؤلف كان على قدر من الوعي والصدق حين ربط بين الفشل في الحلم الجماعي ( الوحدة )
والحلم الفردي ( الحب ) وكان ضياع الأحلام مؤذناً بموت الشخصية ثم يموت ابن زيدون شهيد الوحدة القومية والحب النبيل ، حيث لم يتمكن من لقاء ولادة إلا بعد أن فات الفوت وذهبت بشبابه السنون ولوت قناته كوارث الأيام ينوف سنّه على الثامنة والستين متمنياً أن يرى فلقاً من الصباح فلما رآه عمي ، وعاد ابن زيدون إلى قرطبة هرباً من آلام الأمراض وآلام الخيبة ، لأنه رأى بعد طول التجربة أن المعتمد لا يصلح لما كان يرجى منه من خطيرات الأمور ( توحيد الأندلس ) وهكذا يموت البطل مسلماً بعجزه في نهاية الرواية بعد أن ضاعت أحلامه وهو يقول
ألم يأن أن يبكي الغمام على مثلي ويطلب ثأري البرق منصلت النصل
وهلا أقامت أنجم الليل مأتـــــماً لتندب في الأفاق ما ضاع من فضلي
ودلالة الرواية عند الجارم تكمن في أهمية استلهام التاريخ العربي في إسبانيا وإن سبقه بذلك " جرجي زيدان " في رواية " فتح الأندلس " سنة 1904وأحمد شوقي في مسرحيته النثرية " أميرة الأندلس " سنة 1932.
ولم يكن أيضاً آخر من توقف عنده بل إن ابن زيدون نفسه قد استوحاه فاروق جويدة في مسرحيته الشعرية الوزير العاشق سنة 1988ليجعل من قصته رواية تاريخية تبحث عن تأصيل الشخصية العربية في حاضر مرّ وقاتل
هذه الأعمال الأدبية وغيرها الكثير تؤكد أن الجارم كان على حق حين استلهم هذه المرحلة واتخذ منها قناعاً تاريخياً يعبر عن رؤيته المتشائمة إزاء الواقع العربي وما يعانيه من صراع وفساد وتفكك وتخلف ، هذا يدل أن الرواية التاريخية تعكس رؤية سياسية تلائم طبيعة المرحلة القلقة التي كتبت فيها والجارم من خلال شخصية ابن زيدون ينبه ويحذر من خطورة الوضع العربي الحاضر ، ويركز على العالم العربي والإسلامي إن لم يتحد ويتماسك ويتحرر فسوف يضيع كما ضاعت بلاد الأندلس من قبل و إذا حدث هذا لا قدر الله فلن يكون في مقدورنا إلا البكاء وانتظار الموت كما حدث لابن زيدون بطل الرواية : " هكذا كانت صولتنا وهكذا كان سلطاننا فأين منا ذلك المجد الضائع وذلك السلطان الذي احتسبته أسفار التاريخ حتى لا يظهر للعيان " ولا ننسى في هذا الباب جمالية الروايات التي جاء بها الأديب الكبير نجيب محفوظ ، فهذه روايته " يوم قتل الزعيم " تتحدث عن واقع يعيشه العربي تحت وطأة الفوضى والقتل
وإنها رواية سياسية ذات طبيعة جمالية حيث العلاقة بين الجمال والسياسة علاقة مميزة معقدة إلى درجة كبيرة ، ولا يكفي أن نقول إن الخطاب الروائي السياسي يثير في العادة اهتماما ً غير جمالي في جوهره أو أن السياسة تعتمد على التي سرعان ما تنطفئ جذوتها

لشخص الحاكم تدور أحداثها في ذروة احتدامه الزمن السياسي قبيل مصرع هذا الحاكم – السادات الذي تخلع عليه بمفارقة مدهشة لقب الزعيم وتنفيه عنه في الآن ذاته لأن الزعيم الفعلي يأتي تعبيراً عن إرادة جماعية لاختياره وحمايته ، وهي تقدم الموقف السياسي في جذره الاقتصادي المباشر في الانفتاح وما نجم عنه من اهتزاز الأبنية وتخلخل العلاقات الإنسانية تقدمه كزلزال يحتل صدر الرواية ويشغل عالمها بأكمله وهي تؤثر أن تعرض لشخص الحاكم كعنصر إشاري عبر وعي الشخصيات الرئيسية في النص





وعندما يجرون مفارقة أخرى بارزة بينه وبين الحاكم المضاد له والسابق عليه ( عبد الناصر ) تنتصب دلالة الخيمة السياسية للرواية . لكن المقاربة التي نريد أن نطل منها على التكوين الدرامي لهذه الرواية مضمونية لا وظيفة وإنما هي مقاربة تقنية تنبثق مكوناتها وهذا يتجلى من عناصر مهيمنة في النص وقد برز منها عنصر هام عند تحليل العنوان ذاته ، وهو " المفارقة " أما العنصر الآخر الذي يتعادل معه ويرد عليه فهو " الإيقاع " الذي يفرض وجوده على القارئ منذ الوهلة الأولى كذلك و سنجد أن الضفيرة التقنية المؤلفة من جدل هذين العنصرين هي التي تغطي شبكة العلاقات الروائية في النص وتفسر إلى حد كبير بنيته الدرامية وجهازه الجمالي المؤثر وقد كان نجيب محفوظ يقوم بخلق توازناته الدرامية المدهشة في عالم الرواية – حيث يستحضر عبر وعي هذه الشخصيات المختارة لنظائرها الصامتة بمنطق المفارقة ، فهو علماني متحرر لم تنتصر فيه نزعة التدين مع أنه تقدم في العمر




لكن هذا الانتصار الأخير ليس مطلقا ً و هذه براعة محفوظ في عوالمه ولهذا فأننا وصفنا الرواية بأنها سياسية إذاً لابد من أن نبرز بعض المفارقات السياسية فيها سواء منها ما يرتكز على اللغة أم الموقف وهما طرفا المفارقة الغالبة هنا – قبل أن نشير إلى كيفية التجانس في هذه التقنية وربما كان بوسعنا أن نقول : إن هذه التقنية الخاصة بتقديم العنصر السياسي في صيغته الأدبية هي التي تضمن له البقاء والفعالية والجمالية ، أما مضمونه المباشر فهو غير فني بطبيعة الأمر وقد اجتهد علماء السميلوجيا المحدثون في التمييز بين أنواع الرسائل المختلفة ومدى قابليتها للدوام ، على أساس أن الأعمال الأدبية تصيب من الخلود بقدر ما تستمر فعاليتها المحددة وقانون الأدب العالمي لا يحيله ‘إلى مجرد أرشيف للوثائق التي تعيننا على إعادة بناء الماضي المتخيل
ولهذا فإن الأعمال الأدبية تتضمن جوهرياً نوعاً من الرسائل دون ملابسات محددة ، نوعاً من التواصل الذي لا يستهدف ردود فعل مباشرة بل ينحو إلى تغذية تأمل أفراد الجماعة لإنسانية حول جماع موافقهم الشاملة بهذا التحفظ وحده نستطيع أن نكفف من إعجابنا بالمادة السياسية المباشرة في هذا النص الروائي ونتقدم إلى اختيار بعض تجلياته المحولة تقنياً إلى أدوات فنية عبر مجموعة من المفارقات ذات الطابع السياسي


فالسياسة إذاً أصبحت تمثل أحد الاهتمامات الرئسية التي تشغل بال البشر بصفة عامة والمثقفين منهم خاصة حتى ليسهل تعريف إنسانية هذا العصر بأنه " باحث سياسي " وهذا الاهتمام بالسياسة تفرضه طبيعة الحياة في مجتمعات تناضل من أجل إثبات الوجود ، و نفي الظلم عن الوطن والمواطن ، كما أن عالم اليوم صار- بفضل وسائل الاتصال الحديثة قرية صغيرة ، إذا كان الوعي بقضايا السياسة يفرض مثل هذه الهيمنة على الإنسان المعاصر فإن بحثنا مشغول – ابتداء – بالكشف عن : العلاقة الجدلية بين السياسة والرواية وبيان إلى أي مدى يشكل الروائي العربي مفردات عالم الرواية بوحي من القضايا السياسية الجادة والملتهبة كما يعكسها الواقع العربي ،

أي مدى يشكل الروائي العربي مفردات عالم الرواية بوحي من القضايا السياسية الجادة والملتهبة كما يعكسها الواقع العربي ، ثم تحديد مدة العلاقة بين السياسة والفن داخل بنية الخطاب الروائي وهل هذه العلاقة مثمرة مفيدة أم ضارة ؟
وأخيراً : ما المعايير التي تتيح للناقد وصف عمل روائي وتصنيفه على أنه " رواية سياسية " ؟
الرواية بوصفها جنساً أدبياً صاعداً – تعد أكثر استشفافاً من الحاسة الملهمة ، وأكثر ثورية من الثورة وفي كل مراحلها تطمح لأن تكون ضمير الشعب في نضاله المرير وتطلعه إلى التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي ، وفي سعيه للأفضل والأحسن ، كما أنها مدعوة لأن تلعب دورها لا في رصدها ما هو رماد خامد في أوضاعنا الراهنة ، بل ما هو متوهج متفجر حي في هذه الأوضاع ، وهو كثير لمن يملك درجة كافية من الارتفاع في الملاحظة ، وفي دقتها ونفاذها إلى لب الأشياء إلى الجوهر الذي يصل بك إلى الاتجاه المطلوب . ومن هنا يغدو دور البطل الإيجابي ضرورة تاريخية اجتماعية روائية لابد من أن نشير إلى قضية العلاقة بين السياسة عبر تاريخ الرواية العربية الذي يمتد إلى حوالي قرن من الزمن حيث تعد السياسة مظلة واسعة تكون الإيديولوجية أحد فروعها . فعندما نأتي إلى كلمة سياسية باعتبارها مصطلحاً فيجب أن نشير إلى أن هناك فروقاً واضحة بين علم السياسة والفلسفة السياسية والسياسة ،
فالفلسفة السياسة : تهتم أساسا بدراسة الأفكار مع التأكيد على بعدها الزمني ، أما علم السياسة فإنه يدرس النظم السياسية بهدف الوصول إلى مبادئها العامة مستعيناً قدر الإمكان بشواهد كمية وكيفية ومعنى ذلك أن الفلسفة السياسة بهدف الوصول إلى مبادئها العامة مستعينا قدر الإمكان بشواهد كمية وكيفية ومعنى ذلك أن الفلسفة السياسية تلجأ إلى تأمل الأفكار والقيم (كالحق-العدالة –الحرية)وتثير حولها تساؤلات تتعلق بشرعيتها وملائمتها للطبيعة الإنسانية, أما علم السياسة فإنه يسعى من خلال استخدامه للمناهج العلمية للوصول إلى تعميمات تحكم انتظام عناصر الحياة السياسية بما فيها من نظم وأنماط سلوكية أما السياسة ذاتها فتتمثل في أسلوب الحكم ,وطريقة الإدارة السياسية وكيفية صنع القرار السياسي وتنفيذه من خلال المؤسسات السياسية الحاكمة والمعارضة ,من هنا "يختلف النسق السياسي من وطن إلى أخر "وعلى الرغم من اختلاف علماء الحياة الاجتماعية حول معنى النسق السياسي ,إلا أنهم يبدون اتفاقا عاما حول ثلاث قضايا أساسية :
الأولى :أن النسق السياسي يميل عموما إلى المحافظة على النظام في المجتمع و إذا كانت الأنساق الاجتماعية الأخرى تؤدي هذه الوظيفة نفسها إلا أن النسق السياسي بطبيعته موجه لخدمة قضية النظام أكثر من أي نسق أخر .
الثانية :" فكرة الإقليمية " بمعنى أن النسق السياسي يرتبط بالضرورة بإقليم معين ,يعيش في إطار مجموعة من الأفراد ,فالنسق السياسي لا يقوم في فراغ ,وإنما يقوم في مجتمع له معالمه وخصائصه الواضحة المميزة .
الثالثة: استخدام القوة والتهديد استخداما يحقيق النظام في المجتمع .
"ويميل أصحاب نظرية النسق" إلى اعتبار المجتمع وحدة كلية تعمل في إطار أوسع هو البيئة وتشكل هذه الوحدة الكلية نسقا لأنها تتألف من مجموعة متساندة من العناصر والمتغيرات ونستطيع القول بأن "مفهوم النسق السياسي يشير إلى مجموعة التفاعلات السائدة في أي وحدة سياسية مع إبراز وتأكيد العلاقات المتبادلة بين أطرافها "
وفي إطار هذا النسق السياسي تدخل عناصر ومكونات كثيرة كالدولة والقوة وصنع القرار .والنسق السياسي كما يعرفه " دافيد رستون " هو مجموعة التفاعلات التي من خلالها تتوزع السلطة وتتخذ القرارات الأساسية في أي مجتمع من المجتمعات وقد لاقى هذا التعريف قبولا واسعا من جانب علماء الاجتماع والسياسة , حيث نجدهم يهتمون اهتماما كبيرا بتحديد البناء الداخلي للأنساق السياسية .
ويشير مفهوم البناء هنا إلى أنماط القوة , والسلطة التي تميز علاقات الحكام بالمحكومين وهي علاقات تتصف بقدر معين من الاستمرارية والدوام وبالتالي يمكن وصفها وتحديد أبعادها.
ويمثل مفهوم " الدور " وحدة التحليل الأساسية التي يمكن الاعتماد عليها في دراسة علاقات القوة وهو مفهوم تطور في نطاق دراسات علم النفس الاجتماعي , ثم ما لبث أن انتقل و انتشر في علم الاجتماع وحينما يستخدم علم الاجتماع والسياسة مفهوم " الدور" في المجال السياسي فإنهم يقصدون دراسة الأدوار السياسية المتصلة بعملية اتخاذ القرارات المتصلة بالقضايا الاجتماعية والسياسية المهمة ثم أساليب تنفيذها.
"واقع الأمر أن النسق السياسي بهذا المعنى هو مجموعة الأدوار السياسية ,
التي يقوم بها الفاعلون في إطار بناء سياسي , يحدد العلاقات بين الحكام والمحكومين .
وقد صاحب الاهتمام بتحديد معالم البناء السياسي ووظائفه والعلاقة بين المؤسسات السياسية من ناحية والمجتمعات من ناحية أخرى, في ضوء البناء الكلي للقوة وأساليب توزيعها .
وبالإضافة إلى ذلك ، نجد محاولات نظرية تسعى إلى دراسة أساليب استقرار الأنساق السياسية وتغيرها ، باستخدام بعض المفاهيم التحليلية كالتنشئة والمشاركة والصراع والمنافسة .
هكذا تبدو " السياسة باعتبارها " نسقاً اجتماعيا" : عملية معقدة تقوم على تصورات نظرية أكثر شمولا واتساعا من الفهم التقليدي والعام لها, كما أنها لم تعد تهتم بقضية بعينها , وإنما اتسعت إهابها ليتناول كل مكونات النسق السياسي مثل أسلوب الحكم , وطريقة تشكيل الحكومة , وصنع القرار السياسي وكيفية تنفيذه , وموقف الهيئة الحاكمة من القوى المعارضة ...الخ
كذلك تبدو السياسة على مستوى الممارسة عملية أكثر تعقيدا وشمولا لأن حياة الفرد داخل نسق اجتماعي أصبحت حياة (مسيئة) على المستويات كافة .
على هذا فإن الساسة باعتبارها نسقا اجتماعيا , تبدو ذات (هيمنة) شاملة على كل أنساق الحياة المختلفة .
وهذا يؤكد رؤية جديدة للسياسة, ونتيجة لذلك , فإن الأدب حين يعكس رؤية تقدمية للواقع فإنه يعد (ممارسة) سياسية بمعنى من المعاني , فالأديب العربي يصارع على أكثر من مستوى : إنه يصارع باعتباره داعية سياسيا ومرشدا إنسانيا , كما يصارع من أجل إبداع فن يحمل (هوية ) خاصة لا يقل شأنا عن الآداب العالمية الأخرى .

الرواية الرومانسية والسياسية
"الرواية ملحمة البرجوازية".. كما يقول جورج لوكا تش, أو هي "ملحمة العصر الحديث " كما يقول كوزينوف , لأنها الجنس الأدبي الذي ورث كثيرا من سمات الملحمة , التي كانت تصور شخصيات بطولية , وتقدم أحداثا هائلة وأعمالاً ضخمة ، يجد الناس فيها قدراً من التعويض عن عجزهم البشري ، أي أن العناية بتصوير شخصية (الفرد البطل) تعد أهم سمة متوارثة بين الملحمة القديمة والرواية الحديثة .
وهذه الشخصية تصور بتفصيل متأن كأنها واحدة من البشر الذين نعرف كثيراً من مراحل حياتهم على المستوى الفكري والإنساني والعاطفي .
وإذا كان بطل الملحمة ينتصر دائما للحق المطلق والخير المثال ,فأن بطل الرواية في الغالب بطل ينتصر لمجموعة من القيم الإنسانية المتواضعة
التي تفرضها ظروف الواقع المحلي , مثل الانتصار للحب الشريف , والتفوق على خصومه من الأشرار – أو المخادعين أو إثبات حق أو إظهار حقيقة أو المحافظة على سلامة المسيرة رغم الفقر المادي .
من هنا كانت المحافظة على الجانب الأخلاقي المحدود المثالية إلى حد ما هي أهم ما يميز بطل الرواية الرومانسية في تلك الفترة .ومن المعروف إن الرواية العربية منذ ثبّت معالمها الفنية " محمد حسين هيكل بروايته الرائده " " زينب "مناظر وأخلاق ريفية ( 1914) قد نشأت رومانسية وظلت تنمو وتترعرع في أحضان الرومانسية حوالي ثلاثة أعوام إلى نهاية الحرب العالمية الثانية ( 1944) تقريباً
جورج لوكاتش
محمد حسين هيكل
وإذا كانت الرومانسية مدرسة التعبير عن الذات تُعنى بهموم القلب وقضايا الحب في المقام الأول ، فأنه من المستبعد







وإذا كانت الرومانسية مدرسة التعبير عن الذات تُعنى بهموم القلب وقضايا الحب في المقام الأول، فإنه من المستبعد والحالة هذه أن تُعنى على نحو ما بقضايا السياسة أو غيرها من المشكلات الحقيقية للبشر.
وحين نتأمل رواية تعدُّ من الروايات الرومانسية التي حاولت أن تعبّر عن بعض ملامح سياسية، "عودة الروح" (1933) لتوفيق الحكيم(1) فإننا سوف نجد أن المشاهد السياسية فيها زائدة عن الحاجة إلى حد ما ويمكن الاستغناء عنها.
وهي تبدو في الحوار شبه المسرحي الطويل الذي يدور بين "مسيوفوكيه" عالم الآثار الفرنسي ومستر "بلاك" مستشار الري الإنجليزي حول عظمة مصر وخلودها، وأنها أي مصر في انتظار الزعيم الموحد، كي تعود الروح إليها من جديد، مما يؤكد أن "أمة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام، لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى أو معجزات أخرى.
هذه المشاهد المعدودة في الرواية ليست "مقحمة" فحسب وإنما كتبت بأسلوب شعري وبإنشائية فضفاضة كأنها نشيد في حب الوطن، وقد تجاوزت هذه الشاعرية في الأسلوب مشاهد السياسة إلى وصف بعض الشخصيات وتصوير بعض المواقف في الرواية.
هكذا يمكن القول بصفة عامة – إن الرواية العربية الرومانسية في مختلف الأقطار لم تهتم بأن تعالج قضايا السياسة أو مشكلات الحكم أو الصراع مع الحكومة.
وغياب الوعي الفكري والنضالي في هذه المرحلة كان يحول دون ذلك.
ويمكن القول إذا كان قد غاب عن الرواية الرومانسية ذات الإطار الاجتماعي معالجة قضايا الإيديولوجيا والسياسة، فإن (الرواية التاريخية) في هذه المرحلة كانت غير بعيدة عن بعض تلك القضايا، لأن هذا النوع من الروايات، منذ أن ثبَّت دعائمه جرجي زيدان (1861 – 1914) كان مجالاً خصباً لتعبئة الوجدان العربي بزخم المشاعر القومية، المستمدة من تاريخ الأجداد وتراث السلف الصالح في فترات نقاوة الأصل العربي ومراحل التاريخ الذهبي للأمة .
وقد أسهم في هذا التيار التاريخي كثير من الأدباء مثل:
إبراهيم رمزي– وعلي أحمد باكثير – وطه حسين – ومحمد فريد، وعلي الجارم، ونجيب محفوظ غيرهم كثير من كتّاب الرواية التاريخية والسّير الإسلامية أمثال عباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكلهؤلاء الأدباء، وغيرهم من كتاب الرواية التاريخية كانوا يكتبون، وفي مخيلتهم (إيديولوجية) قومية ويلحون على بعض قضايا السياسة، مثل الدفاع عن الوطن، والاستشهاد في الدفاع عن مقدساته وتجسيد صورة أو شخصية البطل التاريخي المدافع عن دينه ووطنه إزاء الغازي المحتل، ولا تزال هذه الروايات التاريخية الرومانسية مادة خصبة لتربية النشء في بداية مراحل التعليم كافة.
أن لنا، بعد كل ما سبق ذكره، أن نتوقف وقفة (نقدية) نوضح فيها الإطار النظري للكيفية التي ينبغي أن تعالج بها قضية السياسة في الرواية بشكل فني.
فالرواية السياسية: هي الرواية التي تلعب فيها الأفكار السياسية الدور الغالب أو التحكمي، وهذا النوع من الروايات تنفصل فيه الأفكار عن مجرد أعمال المجتمع التي لا يُسأل عنها والتي وصلت إلى لا شعور الشخصيات بكلّ مظاهرها العميقة المثيرة للمشاكل، لدرجة أنها تُلاحظ في تصرفاتهم.
وهذه الشخصيات نفسها دائماً واعية بانتماء أو تماثل أيديولوجي سياسي متناغم، وهي تفكر على أساس تأييد أو مجابهة المجتمع، وتفعل ذلك باسم – وتحت إلحاح الأيديولوجية .
والرواية السياسية في شكلها المثالي – عمل خاص بالمشاعر الداخلية ومن أجل أن تكون الرواية رواية – على أي حال – لا بد أن تحتوي على التمثيل المعتاد للسلوك والشعور البشري، وبرغم ذلك لا بد أن تشمل في تيّار حركتها العناصر الأساسية، التي ربما يكون لها حل في الأيديولوجيا الحديثة والأيديولوجيا – على أية حال- مجردة كما يجب أن تكون، لهذا فمن المحتمل أن تكون متمردة عند أية محاولة لإدخالها في مجرى الانطباع الحسي للرواية والصراع بين التجزئة والإيديولوجيا لا مهرب منه في رواية سياسية.
والروائي السياسي – مثل المجادل المتمرّس – لا بد أن يكون قادراً على تناول الأفكار المختلفة، ليراها في علاقتها البعيدة وأيضاً المتداخلة من أجل الإمساك بالسبيل الذي تتحوّل فيه أفكار الرواية إلى شيء مغاير، عما توجد عليه (هذه الأفكار) في برنامج سياسي.
فالروائي ليست مهمته التعامل مع الأفكار في نطاقها المجرد، أو أن يمتلك قدرة عامة على فعل ذلك.
وبمجرد أن توضح هذه الأفكار للعمل داخل الرواية، فإنها لا تبقى طويلاً مجرد تجريد.
والرواية السياسية – في أحسن حالاتها – توجد مثل هذه الحرارة الشديدة، حتى أن الأفكار التي تقدمها تُصهر في حركتها وتتخلل عواطف شخصياتها.
إنَّ وظيفة الروائي السياسي دائماً هي أن تُظهر العلاقة بين النظرية والتجربة، بين الأيديولوجية والعواطف والعلاقات التي يحاول أن يقدمها.
وعلى هذا، فإن الرواية السياسية تستطيع أن تُخصب إحساسنا بالتجربة الإنسانية بحيث يحتله تفاعلاً مع الحياة ، كما أنها قادرة أيضاً على أن تقوي ارتباطاتنا الإنسانية – والرواية السياسية عندما تفعل ذلك تقوم بمهمة الإقناع، التي ليست هدفها الأصيل أو المميز .
"إن العلاقة الجدلية بين الفن والسياسة كانت وستكون حصيلتها الأساسية إغناء الفن بمضامين وموضوعات جديدة، وبنماذج إبداعية مبتكرة، وتقريب فكرة (حزبية الفن) والإبداع الإنساني عامة. إلا أنه مهما كان هذا التلاحم بين (الفن والسياسة) شديداً، لا يصح عدم تجاهل ضرورة عزل طابع الفن عن القوالب السياسية اليومية المباشرة." ولا شك أن الأدب الجيد – بصفة عامة هو الذي تذوب فيه الرؤية السياسية داخل جزئيات العمل، وتتظافر مع لحمته وسداه وتصبح جزءاً عضوياً من نسيجه ، وأداة متجانسة من أدواته.

وإذا كانت الرومانسية مدرسة التعبير عن الذات تُعنى بهموم القلب وقضايا الحب في المقام الأول، فإنه من المستبعد والحالة هذه أن تُعنى على نحو ما بقضايا السياسة أو غيرها من المشكلات الحقيقية للبشر.
وحين نتأمل رواية تعدُّ من الروايات الرومانسية التي حاولت أن تعبّر عن بعض ملامح سياسية، "عودة الروح" (1933) لتوفيق الحكيم فإننا سوف نجد أن المشاهد السياسية فيها زائدة عن الحاجة إلى حد ما ويمكن الاستغناء عنها.
وهي تبدو في الحوار شبه المسرحي الطويل الذي يدور بين "مسيوفوكيه" عالم الآثار الفرنسي ومستر "بلاك" مستشار الري الإنجليزي حول عظمة مصر وخلودها، وأنها أي مصر في انتظار الزعيم الموحد، كي تعود الروح إليها من جديد، مما يؤكد أن "أمة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام، لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى أو معجزات أخرى.
هذه المشاهد المعدودة في الرواية ليست "مقحمة" فحسب وإنما كتبت بأسلوب شعري وبإنشائية فضفاضة كأنها نشيد في حب الوطن، وقد تجاوزت هذه الشاعرية في الأسلوب مشاهد السياسة إلى وصف بعض الشخصيات وتصوير بعض المواقف في الرواية.
هكذا يمكن القول بصفة عامة – إن الرواية العربية الرومانسية في مختلف الأقطار لم تهتم بأن تعالج قضايا السياسة أو مشكلات الحكم أو الصراع مع الحكومة.
وغياب الوعي الفكري والنضالي في هذه المرحلة كان يحول دون ذلك.
ويمكن القول إذا كان قد غاب عن الرواية الرومانسية ذات الإطار الاجتماعي معالجة قضايا الإيديولوجيا والسياسة، فإن (الرواية التاريخية) في هذه المرحلة كانت غير بعيدة عن بعض تلك القضايا، لأن هذا النوع من الروايات، منذ أن ثبَّت دعائمه جرجي زيدان(1) (1861 – 1914) كان مجالاً خصباً لتعبئة الوجدان العربي بزخم المشاعر القومية، المستمدة من تاريخ الأجداد وتراث السلف الصالح في فترات نقاوة الأصل العربي ومراحل التاريخ الذهبي للأمة .
وقد أسهم في هذا التيار التاريخي كثير من الأدباء مثل:
إبراهيم رمزي – وعلي أحمد باكثير – وطه حسين – ومحمد فريد، وعلي الجارم، ونجيب محفوظ وغيرهم كثير من كتّاب الرواية التاريخية والسّير الإسلامية أمثال عباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل هؤلاء الأدباء، وغيرهم من كتاب الرواية التاريخية كانوا يكتبون، وفي مخيلتهم (إيديولوجية) قومية ويلحون على بعض قضايا السياسة، مثل الدفاع عن الوطن، والاستشهاد في الدفاع عن مقدساته وتجسيد صورة أو شخصية البطل التاريخي المدافع عن دينه ووطنه إزاء الغازي المحتل، ولا تزال هذه الروايات التاريخية الرومانسية مادة خصبة لتربية النشء في بداية مراحل التعليم كافة.
أن لنا، بعد كل ما سبق ذكره، أن نتوقف وقفة (نقدية) نوضح فيها الإطار النظري للكيفية التي ينبغي أن تعالج بها قضية السياسة في الرواية بشكل فني.
فالرواية السياسية: هي الرواية التي تلعب فيها الأفكار السياسية الدور الغالب أو التحكمي، وهذا النوع من الروايات تنفصل فيه الأفكار عن مجرد أعمال المجتمع التي لا يُسأل عنها والتي وصلت إلى لا شعور الشخصيات بكلّ مظاهرها العميقة المثيرة للمشاكل، لدرجة أنها تُلاحظ في تصرفاتهم.
وهذه الشخصيات نفسها دائماً واعية بانتماء أو تماثل أيديولوجي سياسي متناغم، وهي تفكر على أساس تأييد أو مجابهة المجتمع، وتفعل ذلك باسم – وتحت إلحاح الأيديولوجية .
والرواية السياسية في شكلها المثالي – عمل خاص بالمشاعر الداخلية ومن أجل أن تكون الرواية رواية – على أي حال – لا بد أن تحتوي على التمثيل المعتاد للسلوك والشعور البشري، وبرغم ذلك لا بد أن تشمل في تيّار حركتها العناصر الأساسية، التي ربما يكون لها حل في الأيديولوجيا الحديثة والأيديولوجيا – على أية حال- مجردة كما يجب أن تكون، لهذا فمن المحتمل أن تكون متمردة عند أية محاولة لإدخالها في مجرى الانطباع الحسي للرواية والصراع بين التجزئة والإيديولوجيا لا مهرب منه في رواية سياسية.
والروائي السياسي – مثل المجادل المتمرّس – لا بد أن يكون قادراً على تناول الأفكار المختلفة، ليراها في علاقتها البعيدة وأيضاً المتداخلة من أجل الإمساك بالسبيل الذي تتحوّل فيه أفكار الرواية إلى شيء مغاير، عما توجد عليه (هذه الأفكار) في برنامج سياسي.
فالروائي ليست مهمته التعامل مع الأفكار في نطاقها المجرد، أو أن يمتلك قدرة عامة على فعل ذلك.
وبمجرد أن توضح هذه الأفكار للعمل داخل الرواية، فإنها لا تبقى طويلاً مجرد تجريد.
والرواية السياسية – في أحسن حالاتها – توجد مثل هذه الحرارة الشديدة، حتى أن الأفكار التي تقدمها تُصهر في حركتها وتتخلل عواطف شخصياتها.
إنَّ وظيفة الروائي السياسي دائماً هي أن تُظهر العلاقة بين النظرية والتجربة، بين الأيديولوجية والعواطف والعلاقات التي يحاول أن يقدمها.
وعلى هذا، فإن الرواية السياسية تستطيع أن تُخصب إحساسنا بالتجربة الإنسانية بحيث يحتله تفاعلاً مع الحياة ، كما أنها قادرة أيضاً على أن تقوي ارتباطاتنا الإنسانية – والرواية السياسية عندما تفعل ذلك تقوم بمهمة الإقناع، التي ليست هدفها الأصيل أو المميز .
"إن العلاقة الجدلية بين الفن والسياسة كانت وستكون حصيلتها الأساسية إغناء الفن بمضامين وموضوعات جديدة، وبنماذج إبداعية مبتكرة، وتقريب فكرة (حزبية الفن) والإبداع الإنساني عامة. إلا أنه مهما كان هذا التلاحم بين (الفن والسياسة) شديداً، لا يصح عدم تجاهل ضرورة عزل طابع الفن عن القوالب السياسية اليومية المباشرة." ولا شك أن الأدب الجيد – بصفة عامة هو الذي تذوب فيه الرؤية السياسية داخل جزئيات العمل، وتتظافر مع لحمته(1) وسداه(2) وتصبح جزءاً عضوياً من نسيجه ، وأداة متجانسة من أدواته.

واقع الرواية العربية
في أدبنا الحديث
منذ أن فتح العرب أعينهم فجر النهضة على حياة جديدة ممتدة وحضارة غنية خصبة انبثق نور الرواية العربية عبر رحلتها المتعددة المراحل والتي استدعت حقولاً للدراسة تتناولها من كافة جوانبها ،وتركزت الدراسات التي اتخذت موضوعها الرواية العربية تحديداً على الجانب الأيديولوجي ، والاجتماعي ، أو ربما اجترأت موضوعات وشرائح من جسد الرواية أو الروايات ، وألقت عليها الإضاءات التحليلية ، إلى أن تطورت هذه الموضوعات وأصبحت لها قوانين وبيئة تترعرع فيها ، وكانت خير بيئة لهذه الرواية هي البيئات العربية عبر البوابات المشتركة التي قصدها الأدباء في عصر النهضة فكتبوا إلى الشعب الذي هو مصدر الآراء وتطرقوا إلى المذاهب الإصلاحية بشتى وسائل الكتابة التي تروق المجتمع العربي آنذاك ، فكنا نرى أثار هؤلاء الأدباء من شعر ونثر وقصة تحكي حياة الشعوب وآمال وأحلام الأمة في جميع شؤون الحياة العامة من سياسية واجتماع وكان الوطن العربي آنذاك يرزح تحت ظل الاستعمار والقهر والهوان .....
يرزح




وقد دوت في وطننا العربي الكبير صرخات جريئة تدعو إلى الإصلاح ، وتحث على السير مع الزمن ، بعد أن طالت غفوة الشعب العربي وأصبحت الهوة كبيرة بين خنوع الحاضر وذله وأمجاد الماضي وعزه ، فقد أفاق العرب على هدير مدافع نابليون تملأ الأجواء العربية ، ورأوا علماءه ومطابعه ومنشوراته تحاول أن ترفع عن العين غشاوتها استمالة للناس ، وتوطيداً لدعائم الاحتلال .
ثم توالت الأحداث ، فإذا البعثات تغدو وتروح فتحمل زاداً وثورة وانطلاقاً ، وإذا الصحف تنشر ، والأحزاب تنشأ ، والجامعات تحدو هذا التيار المتحرر من التفكير ، والجمعيات والمجامع تصلنا بالعالم وثقافته ، والوعي يستيقظ في نفوسنا شيئاً فشيئاً بفعل الحوادث الخطيرة التي تمر بالبلاد ، فنعود إلى تاريخ الأجداد نحييه ، ونلتفت إلى العالم نقتبس منه وسائل نهضته ونثور على ما نحن فيه من مهاوي الذل ، وإذا الاتصال بالثقافة الأجنبية تحكم أواصره وتتعدد طرقه : مدارس ، كليات أجنبية ، دعاة ينتشرون ، حركة استشراقية منظمة ، ترجمة تنقل روائع الغرب في الفن والعلم والنقد، مطابع تفي بهذه الحاجات كلها ، وتيسر نشرها ، ثم احتلال للبلاد كان منه مزيد من التأثر بأدب الغرب وحضارته وفنه ، ونظرته إلى الحياة ، و إلى تبعة الأديب فيها ، وإلى دوره في التوجيه والإصلاح .
من هذا كله نشأت في أدبنا هذه الاتجاهات الحديثة التي أغنته وأمدته بعناصر الحياة والقوة ، فلم يعد أدباً مأجوراً يلقى ابتغاء الدرهم والدينار ، ولم يعد فناً ذاتياً لا يكاد يتجاوز الحدود الشخصية التي لا ينفعل لها غير الشاعر ، وإنما غدا مرآة صادقة للحياة التي يحياها الأديب في ظل الجماعة ، تساعدها على أن تدرك ذاتها ، وتعرف حقيقتها ومثلها، وتحاول أن تحقق هذا الانسجام الكامل بين الإنسان ومجتمعه ، وتحرك قلبه للمعاني الإنسانية الكبرى .










واقع الرواية العربية
في أدبناالحديث

إن الأدب العربي هو الميزان الفكري لهذه الأمة التي عانت ولا تزال تعاني من النكبات التي حلت بها على مر العصور .
ولا شك مما مر بتاريخنا المعاصر – معشر العرب – من أحداث غيرت من مفهوماتنا الأدبية ، ووضعت الأديب أمام رسالته القومية ، والاجتماعية ، ولفتته إلى حقيقة التبعة الملقاة على عاتقه : فقد ذهبت بعوثنا إلى أوربا ، واطلعت على نظم حياتها ، وعبت من حضارتها ، ثم عادت تنثر بذور التحرر والانعتاق ، والثورة على الخنوع والذل ، وهبت علينا رياح الثورة الفرنسية تؤكد قيمة الفرد ، وحق الشعب في أن يعيش في جو من المساواة والحرية والإخاء وقرأنا دور الأدباء في هذه الثورة .
وطلعت أخبار النضال الهائل الذي خاضته ألمانيا وإيطاليا في سبيل وحدتيهما وقوميتها وبدأ وعينا يستيقظ ، وشعرنا بما فرضته السلطة العثمانية من جور ، وبمخالب المستعمر الغاشم تمزق شرايين الحياة في بلادنا ، وبعض الحكام يبيعون أمتهم بعرش تافه يجلسون عليه أو حكم رخيص يضيعون كرامتهم وحقيقتهم بتسلمه .



كل هذا دفع الأدباء إلى الاتجاه إلى الشعب فلم يكونوا صدى لإحساسات الشعوب فحسب ، بل كانوا يوجهون هذه الإحساسات ،ويغذونها ويرسمون لها طرقها إلى التحقيق ويذكون نار النضال من أجلها








ويلقون على المشاعر الغامضة والعواطف المكتوبة أضواءهم فإذا هي مثل الأمة في حياتها القومية والاجتماعية على حد سواء .
فغنى هؤلاء الأدباء وكتبوا للشعوب ما يروقها ولكنهم كذلك وجهوا هذه الشعوب ، وأثروا فيها بمقدار ما تأثروا بها أن لم يكن أكثر !
فغدا الأديب لسان الأمة ، يعيش حياتها ، ويحس بمشكلاتها ويود في فنه أن يدفع بها إلى الأفضل في حياتها السياسية والاجتماعية على حد سواء .
ولو تعمقنا في ثنايا هذا الأدب لوجدناه ولد من رحم المعاناة ، فهو المنهل الوحيد الذي يستقي منه عطاءه والشعب هو الوحيد الذي يدافع عن حياة الأمة فكانوا بهذه الرؤية قد تحرروا ممن جاء قبلهم . في الأدب القديم الذي ترى فيه الشاعر والأديب يفتخر حتى يملأ الدنيا تيهاً وإعجاباً وكبراً فإذا ما وقف بين يدي ملك أو أمير رأيته يتضاءل حتى ينقلب جبهة تتمرغ على الأعتاب ، أو طائراً ضعيفاً عري من ريشه فلا يستطيع سعياً في الأرض إن لم يتداركه الملك بعطائه متمثلاً بهذا القول :
أغثني يا فداك أبي وأمي
بسيب منك إنك ذو ارتياح
شأشكر إن رددت علي ريشي
وأنبتّ القوادم في جناحي


ويطالعنا في هذا المجال صرخات المتنبي وهو يهدد الزمن ، ويتوعد الأقدار ، ويتذر المنون ولكن هذا الجبروت كله يتحول إلى لسان رطب بالثناء ، وشعر يزخر بالرخاء ، حينما يقف بين يدي كافور وينشد :
أبالمسك هل في الكأس فضل أناله
فإني أغني منذ حين وتشرب
وهذا أمير الشعراء في العصر الحديث يبدأ حياته في نعيم القصور سجين العاطفة ، مأجور الموهبة ، يرى أن الله أنعم عليه فولد بباب الملك :
أ أخون إسماعيل في أبنائه
ولقد ولدت بباب إسماعيلا
وقد تحقق الأمة بعض أهدافها ، وتبذل في سبيل ذلك شبابها الغض ، ودمها المهراف ، ولكن شاعر القصور لا يرى في الدستور ثمرة للكفاح ولا ثمناً للتضحيات وإنما يرى فيه نعمة يتفضل بها المليك على الناس مشكوراً ممجداً :
بشرى البرية قاصيها ودانيها
حاط الخلافة بالدستور حاميها
أسدى إلينا أمير المؤمنين يداً
جلت كما جل في الأملاك مسديها







على أن مفاهيم الحياة قد انقلبت ، وغدا الشعب كما يقول ( مصطفى كامل ) " القوة الوحيدة الحقيقة ، هي السلطان الذي يخضع لإرادته أكبر العظماء ، وأعظم الأقوياء " وآمن المصلحون والقادة أن الخلود الحق يكمن في خدمته ، والحياة الكريمة تسمو بالنضال تحت رايته وفي سبيله ، فهذا شوقي يدعو إلى الشورى ، وينصح للملك أن يشعر الشعب بأنه يشارك في صنع مصيره .








إن سرّك الملك تبنيه على أسس
فاستنهض البانين العلم والأدبا
وارفع له من حبال الحق قاعدة
ومد من سبب الشورى له طنبا
دار النيابة قد صقت أرائكها
لا تجلسوا فوقها الأحجار والخشبا
وقد أصبح الأديب يحس بالغبطة حينما يعمل على إسعاد كادح ، أو رفع الظلامة عن مسكين ، " فولي الدين " الكاتب الشاعر الثائر يمد يد الأخوة إلى العامل المكافح قائلاً : " لبيك أيها المكافح " وجمال الدين يأخذ بيد الفلاح إلى المكانة الكريمة التي يستحقها ، يدعوه إلى الثورة تطيح بالأصنام التي جعلت من نفسها سادة له : " أيها الفلاح المسكين : تشق قلب الأرض لتستنبت منها ما تسد به الرمق فلماذا لا تشق قلب ظالمك ؟ لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك ؟ !..
وهذه المكانة الجديدة التي احتلها الأدب بإيمان وإخلاص وإحساس عميق بالتبعة ، وإن يكون ذلك أثبت لعرشكم ، وأدوم لسلطانكم "
وكأن الملوك لا يزالون يعيشون على أطياف الماضي حينما كانوا يحكمون بسلطة السماء المقدسة ، ويتصرفون بالأمة كما يشاؤون ولكن الشاعر أحمد محرم يعري هؤلاء الملوك ويكشف عن غيهم وجبروتهم .

كتب الملوك ومن يحاول عندهم
شرفاً ويزعم أنهم شرفاء
رتب و ألقاب تغر وما بها
فخر لمحرزها ولا استعلاء
ذنب الملوك رمى الشعوب بنكبة
جلى تنوء بحملها الغبراء
وهكذا نرى الأديب في وسط المعركة ، لا يحجبه عن رسالته رضى أمير أو سخط حاكم ، ولا يبدل من الحقيقة في نظره بريق ذهب ، أو زخرف منصب ، ومن هذه النقطة مضى مرفوع الرأس ، شامخ الأنف ، موفور الكرامة ، يعالج مشكلات أمته في نهضتها القومية والاجتماعية ، فيطالب بالشورى من أجلها و بالقوانين في سبيل رعايتها وحفظ حقوقها ، وبالحريات لتفصح عما تريد ، وبالمساواة ليشعر الجميع بالسكينة والطمأنينة والصفاء ، وبالعلم الصحيح الذي ينير الفعل ، ويفتح القلب ... وهو لا يرمي من وراء ذلك إلا هذا الرضا الوجداني و إحساسه بأنه قام بما للأمة عليه من حق .
فأدبنا العربي متمثلاً بأعلامه المرآة الصادقة التي انعكس عليها تفتح القومية العربية في نفوس العرب فالخلافة الإسلامية بزعامة العرب فالإمبراطورية العربية مرت عبر الزمان بسجل مليء وزاخر بالقوة والعطاء والعدل والأمن والعرفان ، فهي الدرة التي كانت تشع نوراً بهذه الخصال .
ثم نزلت بنا محن الدهر ، فإذا نحن متنابذون مختلفون، والخلافة الممتدة تتصدع وتتهادى ؟


فإذا هي أجزاء متناثرات ، وامتحنا الله بالتتار ، ثم رمانا بالعثمانيين ، ثم بدأ الغرب يستثمر أرضنا ويسرق خيراتنا ويقتل شبابنا ونحن نشهد بعين دامعة ، وقلب يعصره الأسى ويدنا مغلولة لا تقوى على شيء





غير أن الدم العربي يحمل مع التمرد على الهوان شعلة مباركة، فلا بد له من ثورة تحطم القيد وتكشف الظلمة، وقد أحس العرب في فجر نهضتهم المباركة بما حملهم العثمانيين إياه من جور لا يرضي بها إباء العرب، ثم رأوا جشع الغرب ببلاد جبلت بدمائهم، وهي إرث الآباء والأجداد الغالي للأحفاد، وكانوا قد أصابوا من المعرفة باتصالهم بالعالم حظاً كريماً، وأحيوا من تاريخ أيامنا السالفات صفحات مشرقة رائعة، فاستيقظت في نفوسهم نخوة العرب،ودفعوا بأنفسهم من جديد ثمناً للآمال الكبار التي يسعون إليها، وأيقنوا أن قوميتهم هي التي تصنع تاريخهم الجديد، بعد أن يئسوا من صلاح العثمانيين، وصدق الحلفاء.وهكذا ابتدأت المشاعر القومية تتفتح في نفوسهم شيئاً فشيئاً إلى أن غدت عقيدة لها فلسفتها وأسسها، والأدب يرصد هذا التفتح، ويسجل مراحله، ويتغنى بأسسه وروابطه الكريمة ولو رجعنا إلى المرحلة الأخيرة من حياتناـ معشر العرب ـ لوجدنا أننا كنا نود دائماً أن نحيا في بلادنا أعزة أحراراَ، لا يطمع بنا طامع، ولا ينال منا معتد أثيم، وكانت أفكارنا متفقة مع هذه الغاية، فقد خيل إلينا زمناً أن الرابطة العثمانية رمزللكرامة الشرقية، و للإمبراطورية الإسلامية العتيدة فأطريناها، ومدحنا القائمين عليها، حتى غدا السلطان العثماني في نظر الشيخ علي الليثي ملكاً للملوك في نشر الأمن، وبسط العدالة:
ملك الملوك الذي من يمن دولته ظل العدالة في الأفاق ممدود


بل قد ذهب الزعيم الوطني الثائر"مصطفى كامل" أبعد من هذا حينما جعل التقرب من الدولة العثمانية سياسة مبنية على الحكمة والعقل والبصر النافذ" حقاً إن سياسة التقرب من الدولة العلية لأحكم السياسات وأرشدها... فإن العدو واحد، ولا يليق بنا أن نكون في فشل وشقاق" غير أن العرب يروعهم أن يتنكر العثمانيون لروابط الأخوة،ويحسون في العراق ولبنان وسوريا بصوت عميق من التاريخ يدعوهم إلى النضال، ويكشف لهم عن الهمجية التي فطر عليها الأتراك، فينادي الزهاوي:
وما هي إلا دولة همجية تسوس بما يقتضي هواها وتعمل
فترفع بالإعزاز من كان جاهلاً وتخفض بالإذلال من كان يعقل
وقد يشتد سخط الشعوب على العابثين بالحريات، فتنطلق النذر مزمجرة متوعدة، وتسجل الأمة غضبتها على لسان الرصافي:
حكومة شعبنا جارت وصارت علينا تستبد بمــــــــا أشارت
فلا أحداً دعته ولا استشارت وكل حكومة ظلمت وجارت
فبشرها بتمزيق الجلود
وقد أحس العرب في هذه الفترة بضرورة الانفصال إحساساً غامضاً لم يبن على أسس واضحة، وقد يقوي هذا التيار حتى يقول سليم سركيس: لم أجد في حياتي، ولا قرأت في مطالعاتي عن أمة تريد الانتقال من نور الاستقلال إلى ظلمات العبودية، إلا هذا القسم من الأمة الذين يريدون التمسك بأذيال العرش العثماني"





وقد كانت هذه اليقظة أثرا لطغيان العثمانيين وعلى رأسهم عبد الحميد، وتعبيراً صادقاً عن الرغبة العميقة التي كان يحس بها العرب في حياة حرة وكريمة قائمة على العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، فما يكاد الدستور يعلن حتى تهدأ الأصوات الثائرة، وتطمئن المضطربة، ويخيل إلينا أن الدستور يكفل الحياة التي يكافح العرب من أجلها، والتي تربط تاريخ الحاضر بأمجاد الماضي، وتضج بلاد العرب بفرحة يصورها الزهاوي بقوله:
وقفت والعين تبكي من مسرتها أمام شعب من الأفراح عجاج
وتمضي الأيام، وتكشر الدولة العثمانية عن أنيابها، ويأتي الاتحاديون فيكونون شراً من السلاطين، فتنبعث المشاعر القومية حادة عنيفة، ويرى العرب في قوميتهم الحصن الذي يكفل لهم حياة حرة، وتمر بهم أحداث ضخمة تغذي هذه المشاعر القومية، وتوطد أواصر التقارب بين العرب، وتوسع من شقة الخلاف بينهم وبين الغرب، فيسجل الأدب ذلك كله ويغذيه وينسج منه مادة النضال القومي.
فهذه ثورة الحسين تحمل آمال العرب في وحدة تعيد صفحة التاريخ القديم حينما سار الأجداد من هذه البقاع بالذات، فيقول فؤاد الخطيب:
إيه بني العرب الأحرار إن لكم فجراً أطل على الأكوان مبتســـماً
من ذلك البيت من تلك البطاح علـــى تلك الطريق مشت أجدادكم قدمــــا
إلى الشام إلى أرض العراق إلى أقصى الجزيرة سيراً واحملوا العلما
وهذه سوريا تثور في وجه المستعمر الغاشم فيتردد صدى صرختها في الوطن العربي الكبير، وينتصر لها إخواتها في مصر، مستجيبين لنداء الدم والتاريخ واللغة والآمال المشتركة، والإيمان بالله وبالمصير المشترك، وتنعكس هذه العواصف في شعر خير الدين الزركلي نداءقومياً حاراً:
غضبت لسورية الشهيدة أمة في مصر تطفئ غلة الأمصار
ورعت لها ذمم الوفاء فلم يضع عهد تسلسل في دم الإعصار
وتهتز البلاد لإعدام الشهداء، ويثيرها منظر الدم الطاهر يسفك على مذبح الأطماع والاستبداد وتؤمن بأن المشانق لم تنصب لاخذ المذنب بذنبه، وإنما هنالك أمر أعمق أثراً، فهنالك عرب ومغول، وعلى هذا فلم يكن إعدام الشهداء فاجعة سورية ولبنان فحسب، وإنما كانت صرخة الدم العربي على أبنائه في كل مكان يحذرهم غدر الاتراك، ويجمعهم على صعيد الكفاح القومي المشترك فهذا الزهاوي يبكي إخوانه الأحبة الشهداء:
على كل عود صاحب وخليل وفي كل بيت رنة وعويل
بني يعرب لا تأمنوا الترك بعدها بني يعرب إن الذئاب تصول
لعمرك ليس الأمر ذنباً أصابه قصاص، ولكن يعرب ومغول
وهكذا تسير الأمة العربية مناضلة متوثبة تحت لواء القومية الخالدة يشعر أبناؤها بالأخوة البارة فيصور ذلك حافظ إبراهيم بقوله:
أنى التقينا التقى في كل مجتمع أهل بأهل وجيران بجيران
وتتبلور المشاعر القومية في دعوة حارة للوحدة العربية، وإزالة الفوارق المصطنعة، فشجرة العروبة المباركة غرست جذورها في الحجاز وامتدت فروعها الوارفة فظلت أمصار العرب، وحياة الشجرة منوطة باتصالها بعضها مع بعض كما جاء بها الزهاوي بقوله :
أصل العروبة قد رسا
كا لطود في البلد الحرام
والفرع منها في العراق
ومصر يسمو والشآم
وتعلو الأصوات لتنادي إن عزتنا متوقفة على وحدتنا ، وأن الاستعمار يتقلص ظله بالدولة





العربية الواحدة وهذا هو شاعر الشباب أنور العطار يصور إيمان الأمة هذا بقوله :
سنلاقي الهوان والذل حتى
تجمع العرب راية التوحيد
حققوا الوحدة التي تجمع الشمل
ففيها الحياة بعد الخمود
وفي ظلال هذه القومية يثور العرب على التعصب ، ويجتمعون على صعيد الرابطة العربية الكريمة وتغدو للقومية أسسها وفلسفتها ويرسلها العرب عزماً وإرادة وعقيدة يعبر عنها الشاعر القروي بقوله :
إني على دين العروبة واقف
قلبي على سبحاتها ولساني
إنجيلي الحب المقيم لأهلها
والذود عن حرماتها فرقاتي
يا مسلمون ويا نصارى دينكم
دين العروبة واحد لا اثنان

وهكذا يبدو لنا الأدب في العصر الحديث صورة حساسة للحياة العربية ، وما يصيبها من أحداث وما يضطرم في جوانحها من عواطف ، وما يستيقظ في نفوسها من وعي هذا ما جاء من أدب قدمه لنا ثلة من الأدباء والشعراء في عصر النهضة .. نذروا أنفسهم لوجدان الأمة فرأينا الأدباء الذين تفاعلوا مع الشرائح الموجودة في المجتمع ومنهم الشعراء الذين خاطبوا وجدان الأمة بكلماتهم التي تنم عن الوعي والإدراك بما حل بنا في هذه الفترة التي عاصرنا بها الاستعمار الحديث .
ولا شك بأن الأدب لا يأتي إلا بعد المعاناة فكانت كلماتهم وليدة المعاناة والألم الذي اعترى النفوس ، فكان الأدباء هم شعلة الأمة ومنارة التاريخ لنهوض الشعب من نومه العميق – فالأدب وحده هو الذي يسلط الضوء على مشاكل العصر ولاشك بأن هذا العصر مليئاً بالملمات فكان هناك من نذر نفسه فداء لهذا البلد بروحه ودمه ، كتب الكلمات التي هي الإعجاز الذي جاء به الأباء ليهزوا بهذه المقالات ضمير الأمة









فكان الاعتماد على الأدب في تلك المرحلة هو القواعد الأولى التي بناها الأدب لإشادة بناء عال شامخ لا تهتز أركانه مهما كانت الحوادث .
وقد تأثر أدبنا الحديث بالغرب ، فنرى بعض الأدباء قد ترجموا بعض المقالات والقصص الأدبية إلى لغتنا العربية وذلك لإثراء التراث العربي بالجديد وأحكمت أواصر الاتصال بيننا وبين الحضارة الغربية بعد منتصف القرن التاسع عشر بعد أن تهيأت عوامله جميعاً من مدارس وحركات استشراقية منظمة وكتب تنقل أدب الغرب إلى اللغة العربية ، مما أدى إلى إغناء التراث الأدبي فأصبح لدينا مجموعة من الأفكار نقلت وجهة النظر الغربية في الفن والحياة إلى الشرق ، وفي تبني بعض الجماعات لها والدعوة للأخذ بها . من هذا كله نشأت في أدبنا هذه الاتجاهات الحديثة التي أغنته و أخصبته ، فقد كانت المقالات الأدبية عاملاً في انتشار وتطور الأدب وتركت فيه خصائص مميزة من سرعة في البحث وعفوية في الفكرة وسطحية في المعنى وبساطة في الأسلوب ,
ونحن في الواقع نريد أن نبحث في هذا الأدب عن واقع الرواية العربية وكيف وصلت إلى المستوى المطلوب في أدبنا المعاصر ولكن لابد من المرور بمنعطف أدبي يوصلنا إلى ما نريده من مراحل الأدب الحديث إلى ما صار عليه الآن .
ولا شك بأن أدبنا غني جداً بتراث كبير من الفن الأدبي ولكنه كان شعراً محضاً ثم انتقل إلى ما يعرف بالمقالة فالقصة المسرحية ورواية كل ذلك من أنواع الأدب الحديث بسطت يدها على تراثنا وأدت إلى تنوع كبير في غلات واقع الأدب سواء كان شعراً أو نثراً ...
ونخن في الواقع لوعدنا إلى أدبنا القديم نرى فيه فن المقالة بالمعنى الفني الحديث فقد عرفوا المقالة بأنها " قطعة نثرية ذات طول معتدل ، تدور حول موضوع معين أو حول جزء من هذا الموضوع .
وقالوا إن المقالة انطباع سريع سجله الكاتب في خفة وعفوية ، ليعبر بذلك عن وجهة نظره بشكل بسيط ، كبعض الرسائل المقتصرة على موضوع واحد تعالجه في اختصار وسرعة معالجة فيها متعة أدبية وراحة وسهولة كرسالة عبد الحميد في وصف الإخاء ، ورسالته إلى الكتاب ، على أن هذا لم يكن فناً قائماً بذاته يقبل عليه الأدباء ولم تكن هناك صحافة تعين على انتشاره ، و تشجع الكتاب على ممارسة الكتابة فيه .
عبد الحميد













ولن تجد فيه الأقسام الفنية للمقالة كما تعارف عليها الأدباء المحدثون ، وإنما هي ملامح سريعة تتناسب مع أطوار الأدب في تلك الفترة من حياته ، وقد شاعت هذه المقالة على أقلام كتابنا المحدثين وكثرت حتى كان معظم نتاج بعضهم كتباً جمعت مادتها من مقالاتهم ،وقد تأثروا في فهم خصائصها الفنية ومحاكاتها الآداب الأجنبية فكأنها امتداد لكتابة عصر الانحطاط ، فهذا الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي فتح كثيراً من أبواب الثقافة والنور لأمته يقول في مقالة " الوطن " الوطن عش الإنسان الذي فيه درج ، وفيه خرج ومجمع أسرته ومقطع سرته " ثم تحللت المقالة من قيود السجع ، وأخذت تعالج المسائل العامة بأسلوب مرسل حر يصفه أديب اسق بقوله : " النثر هو الكلام المطلق المرسل عفو القريحة ، بلا كلفة ولا صيغة ، إلا ما يكون من وضع الكلام في مواضعه ، وإيثار ما يألفه السمع والطبع منه " فالمقالة إذاً قد نشأت بتأثرنا بحضارة الغرب وانتشرت بفضل الصحافة ، وتطورت بتطورها ، فالصحيفة تميل إلى مسايرة الحياة ، والحياة غدت سريعة لاهثة تتطلب الفائدة العجلة في صورة ميسرة بسيطة ولهذا شجعت الصحافة المقالة تعفي كاتبها من التقصي والتعمق والاستفاضة مما لا يتسع له مجال الصحيفة .
عصر الانحطاط رفاعة الطهطاوي أديب إسحاق




ولو عدنا إلى مقالات كتابنا لوجدناه هذه الطوابع واضحة ونجد ذلك عند المازني الذي كتب مقالة بعنوان
" الجيل الجديد " يتناول فيها الفرق بين القديم والحديث من حيث الإقبال على المطالعة وأخذ الحياة بالجد ، وتحصيل المعرفة بالكد غير أن المازني لا يأخذ نفسه بالجد الحازم ، والإحاطة الصارمة بموضوعه ، فهو بترك نفسه على سجيتها .
ثم ينتقل المازني إلى صورة ثالثة للجيلين تعنى بإبراز الجيل الحديث ملولاً كسولاً لا يطيق الجد ولا يصبر على الدارسة المنظمة .
فالفكرة الأساسية غدت نقطة انطلاق الكاتب في بحث قائم على الملاحظة الواقعية والمنطق السليم ، والتأمل المتعمق المستقصي ، حتى ينتهي الكاتب إلى القانون الذي يطمئن إلى أنه يفسر الوجود ، فيستريح إلى ذلك قلبه وعقله .
ولكتابنا المحدثين مئات المقالات في النقد والأدب والعلم والفن والاجتماع والفلسفة وغيرها فيها تعمق استقصاء ، وفيها إعمال الذهن ، وعلى هذا نستطيع القول : إن المقالة لون من ألوان الأدب الحديث ، كانت الصحافة سبباً في نشوئه وعاملاً في تطوره .
ولكنا نرى بأن القصة في أدبنا العربي الحديث وبشروطها الفنية قد عدت المظهر الرئيسي للأدب المعاصر لما لها من القدرة على التوجيه والتأثير


وقد أقبل القراءة على هذا الفن لطبيعته وقدرته على الإثارة والتوجيه وبسطها للحياة كما نعيشها وقد عدت المظهر الرئيسي للأدب وقد أكد النقاد الذين تداولوا هذا الفن بأن مقياس النجاح لهذا العمل هو توفر الشروط الفنية التي تعطي مكانة أدبية لأدب القصة في أدبنا المعاصر . لقد جعلوا للقصة موضوعاً متميزاً محدداً يمكن أن يكون اجتماعياً أو إنسانياً أو قومياً ، ومسرحاً من الزمان والمكان تدور فيه حوادث القصة ، وأبطالاً مختارين تهيئهم طباعهم وظروفهم لحمل هذه الحوادث والتفاعل معها ، واشترطوا على القاص بعد ذلك أن يعرض هذا التفاعل بين الأبطال والأحداث عرضاً فنياً صادقاً لا ينكره منطق الحياة بأسلوب مثير يستخدم الحوار حيناً ، والتقرير حيناً أخر ، مع تصوير للمشاهد ، وتحليل النفوس الأبطال وأرائهم ونوازعهم ، وتعقيد للأحداث في بعض المواضع ، وتشويق ومماطلة في إعطاء الحل ، ثم هنالك المعنى الأخير الذي يعطيه الكاتب للأحداث والأبطال ، ويبسط فيه وجهة نظره في الحياة على أن يتوفر لهذه العناصر كلها انسجام كامل يجعلها متآزرة في إنجاح القصة ،وصدق فني يجعلها صورة لحياة الناس كما تجري ، أو كما يمكن أن تجري إن تخيلها القاص تخيلاً . ولو رجعنا قليلاً إلى الأدب العربي القديم نبحث فيه عن صورة لهذه القصة الفنية القائمة على التحليل والحبك والصدق لوجدنا عكس ذلك إذ أن العرب في صحرائهم كانوا يلتفون في العشيات حول النار ، ويتناقلون ( الأخبار ) و( الأقاصيص ) و ( النوادر ) و ( الأمثال ) وكلها تخلوا من التسلسل المنطقي والتحليل ، وقد تخلو من الصدق الفني حينما ترفع فوق الواقع .
وقد نجد كثيراً من هذه الملامح القصصية الفنية في بعض الآثار القديمة ، ولكنها لا تتكامل في بناء قصصي محكم ، فكتاب ( كليلة ودمنة ) مجموعة من القصص ، ترمي إلى العظة والعبرة ولكن أحداثها رمزية لا تحفل كثيراً بالتحليل والتسلسل المنطقي .
وكتاب ( البخلاء ) للجاحظ مجموعة من القصص ، تعنى أحياناً بالتصوير وبتحليل نفوس البخلاء ، وقد تستجيب لمنطق الحياة في حوارها الممتع ولكن أحداثها بسيطة لا تمثل عقدة فنية .
وربما وجدت في ( المقامات ) تحليلاً سريعاً ، وأحداث ممتعة وتصويراً للحياة والناس ، ولكن الصنعة اللفظية قتلت هذه الملامح الفنية .
ويمكن أن نقول إن قصصنا الشعبية ( ألف ليلية وليلة ، أو عنترة ) وغيرها هي وحدها تمثل في أدبنا القديم على أننا لن نجد فيها الانسجام المشترط بين عناصر القصة الفنية ، فالتحليل سريع تغلبه حركة الأحداث ، وحوادثها كثيراً ما تكون أسطورية بعيدة عن مجرى الواقع .
وتبين لنا بأن الفن القصصي في أدبنا العربي بمميزاته الفنية الحديثة مستوحى من أدب الغرب حيث ترجم العرب بعض القصص وكتبوا الكثير من القصة وأنواعها ، وإن أدبنا المعاصر يفتخر بآثاره القصصية التي جاءت نموذجاً رائعاً للأدب ، فهذا الأديب الكبير ( ميخائيل نعيمة ) يكتب أقصوصة بعنوان ( العاقر ) فيتخير لها موضوعاً اجتماعياً خطيراً ذا طابع إنساني مثير فمسألة ( العقر ) تمس قلوب الناس جميعاً ، لأنها متصلة بامتداد وجودهم ، وبأعمق غرائزهم ، وقد أثر أن يدير حوادث أقصوصته على مسرح قرية من قرى لبنان ،
لأن هذه المشكلة تبدو أكثر تعقيداً وإثارة في المجتمع القروي المعتز بالتكاثر ، والمهتم بالحوادث مهما صغرت ، فمثل هذه الأوضاع المعقدة كلها ، تتيح للقصة أن تكون حوادثها فنية مثير وقد كان الكاتب موفقاً في اختيار موضوعه ومسرحه الزماني والمكاني وتجري حوادث القصة على الشكل التالي








( عزيز ) شاب قروي وجيه ، يتزوج فتاة مهذبة وفية حساسة هي ( جميلة ) وتمضي حياتها في هناء وسعادة إلى أن يحس عزيز بفراغ بيته من الأولاد ، وتذهب عندئذ والدته إلى الأطباء وتعرض عليهم ( جميلة ) وتلجأ إلى الأديرة والقديسين ، وتتحول علاقتها بكنتها إلى قسوة وعنف وبعد مضي سنوات تحمل ( جميلة ) فجأة وتعود الفرحة إلى البيت ، لكن جميلة كانت تعيش في ألم وحيرة بعد أن تركت بين يدي زوجها سرها الخطير في رسالة كانت أخر نجواها لعزيز : " أنا أحمل في أحشائي روحاً صغيرة وجسماً صغيراً هو الجنين الذي أعاد الابتسامة إلى وجهك ، والنور إلى عينيك ولكن ليس من لحمك ودمك ضحيت بعزة نفسي وطهارة جسمي لأحصل عليه إرضاء لخاطرك ، ولكني أدركت الآن أن ما فعلته ذنب لا يغتفر ، أنا لا أريد أن اشتري حبك بالخداع والزنا ، لكني لما زنيت ، زنيت لأجلك فقط ألا فأعلم يا عزيز أن العاقر أنت لا أنا "
هذا ما حصل مع جميلة التي عاشت بين تيارات نفسية عنيفة فهي تحب زوجها وتناضل من أجل حبه ، وهي متألمة لأن المجتمع يظلمها فيحملها خطيئة غيرها ، وأخيراً أدركت بأنها قد أصبحت كورقة قطعتها الرياح من شجرة ، وحملتها إلى مكان غريب وبعيد .
وقد عرض الكاتب موضوعه وأفكاره في براعة لا نظير لها في التحليل وصدق في تصوير الشخصيات لا مثيل له وتفاعل مع أحداث الحياة وقدرته على استيعاب الواقع بهذا الإطار القصصي الساحر ، دون أن تقيده صنعة لفظية أو وزن شعري أو قافية صارمة مما هي نفوسنا تحس بعمق التأثر
وهذه الأسباب كلها هي التي جعلت القصة من المظاهر الرئيسية في أدبنا المعاصر، فأقبل عليها الكتاب وعالجوا فيها الموضوعات المتنوعة ، من فلسفة وتاريخ ونقد وقومية وغيرها .
ومع هذا فإننا لا نستطيع أن نعدها المظهر الرئيسي للأدب الحديث . هذا ما جاء به رواد الأدب العربي المعاصر في عصر النهضة ولا بد من التطرق إلى هذه الفنون الأدبية ليتعرف القارئ أو المتلقي إلى الكم الهائل من تراثنا الأدبي ، ولا يمكن أن نتصور أدبنا العربي دون هذا التراث وقد انطلقت أيضاً في أوائل القرن العشرين الرواية العربية وذلك لأسباب عديدة كونها فناً أدبياً ديمقراطياً فذاً في أشكاله الأرقى .
فن الخروج عبر الذات إلى العالم الأوسع المتمثل في شرائح أخرى من البشر للعيش بينهم ومعهم ومحاورتهم ، في واقع اجتماعي تاريخي يضمر في جوهره التوق إلى الحرية والتقدم والجمال دون أن يستطيع الجهر بذلك .
فالرواية تعيد التاريخ إلى جوهره ولا شك بأنها كما قيل بشأنها بهذه الآونة " هي ديوان العرب "






ولو أردنا أن نأخذ لمحة دقيقة عن أدب الرواية لوجب علينا التطرق إلى بعض الأدباء الذين عاصروا هذا الفن الجميل ومن هؤلاء الروائي " عبد الرحمن منيف " إن الحديث عن تجربة هذا الروائي سيساعدنا في تأصيل فن الرواية في أدبنا العربي المعاصر وهي مد الجذور للرواية في تراثنا العربي القديم ، وبذلك لا يبدو هذا الفن غريباً عن حياتنا الفنية .
يقول عبد الرحمن منيف : لابد أن هذه الأحداث لا معنى لها ...
فالرواية هي أن تقدم رؤية حياتية في عالم الرواية وممارسة الفهم والثقافة والتغير لتجاوز مظاهر التخلف .
وقد آمن عبد الرحمن منيف بأن الرواية تغير الناس ، وتحمل حياتهم في تطور المجتمع فأديب يمتلك الوعي والحساسية المرهفة لتجاوز الواقع المظلم .... كل ذلك عبر حساسية مرهفة نحو الجمال فنتأثر به حين نقرأ عملاً فنياً وسنرفض الضعف والقبح وكل ما يسئ لمستقبلنا ...
وفي مناسبة أخرى يقول عبد الرحمن منيف إن الرواية هي أداة جميلة للمعرفة والمتعة هي التي تجعلنا أكثر إدراكاً وإحساساً بكل ما حولنا ، فالرواية اليوم " هي ديوان العرب" كما قلنا سابقاً وليست في تضاد مع الشعر ، فهي تتآخى مع الفنون الأخرى كالشعر والموسيقى والفنون التشكيلية لذلك تؤثر في المتلقي .


وعلى الروائي أن يختار التفاصيل التي تخدم الحدث والشخصية ، فهي إحدى الوسائل التي تكشف لنا بؤس هذا الواقع الذي نعيشه ويعبر عنه الفنان الذي يعبر عن رغيتنا في التغيير ، فالرواية اليوم ما هي إلا مرآة يرى فيها العرب أنفسهم وستكون تاريخ من لا تاريخ له فهي على نقيض التاريخ التقليدي .
يرى عبد الرحمن منيف أيضاً بأن الرواية لن تكون فاعلة إلا إذا كانت على صلة وثيقة بالحياة والتجارب المعيشة والظلم الذي يعانيه الناس وكذلك البؤس .
ويبن لنا علاقة الرواية بالسيرة الذاتية ... فكل رواية جزء من السيرة الذاتية للأديب ولا يستطيع الأديب أن يكون بمعزل عن تجارته أو إبداعه ، والإبداع رفض للتكرار والتقليد .
توقف منيف عند عناصر الرواية " الشخصية – الحكاية – الموضوع – اللغة – الحوار "
فالشخصية ليست صوتاً للمؤلف فقد نجد فيها ملامحه ، لكن يجب أن يضع لها ملامح عامة من شخصيات واقعية لتكون الشخصية الروائية ، وليست الشخصية هي البطولة الخارقة مثل " سوبر مان " أو هرقل بل أشخاص من العامة لا تتجاوز الواقع .






أما بالنسبة للحكاية .... وهي وجود خيوط يشد بعضها بعضاًُ لتكون الحكاية .
والموضوع هو الهم الأساسي في الرواية وهو جوهرها ولا رواية دون هم أو قضيةأوموضوع كبير فهم " خماسية مدن الملح " هو البترول وأثره على الحياة الدينية ، فالنفط لم يوجد الحضارة لأننا نستورد كل شيء ، فكان هم الحضارة مبني على أسس واقعية ولذلك كان ضعف " مدن الملح "





بينما كانت اللغة الروائية من أهم عناصر الإبداع عند حقي,لكن منيف يرى أن تكون أكثر جمالا ليتفاعل معها المتلقي – فإذا وصلت بطريقة تقريرية لن يتفاعل معها,وإذا وصلت بطريقة مرهقة زادته حساسية ... فاللغة يجب أن تكون حية بعيدة عن الشواذ والتكرار تحمل شحنات فكرية وجدانية تكون رنانة في أذن المتلقي ليحسن الانسجام مع الرواية . أما الحوار عند منيف فيبدو ذا لغة متوسطة بين العامية والفصحى , ,لأن العامية لها قدرة في تقديم الظلال الحيوية لكنها ليست بقوة الفصحى فيجب أن نكتب بلغة قريبة وسط بين منهجين فهو لا يرفض العامية لكنه يرفض أن تقدم كما هي . وعلى الكاتب أن يجتهد في تقريب العامية من الفصحى , وليست هناك وصفة جاهزة لتقديم اللغة الروائية يجب أن تدخل التجربة والمعاناة لكي لا يغرق الكاتب في عامية الشارع ولغة القواميس .
يحدثنا عن تجربته في هذا المجال يقول " رواية الرجال واغتيال مرزوق " اخترت شخصيات مثقفة لأنني لم أجرؤ على اختيار شخصيات قريبة مني وقد دعا منيف للاستفادة من التراث الشعبي وخلق مناخا شعبيا يربط المتلقي بالرواية لا يحس بغربته عنها .
ويرى منيف أن مشكلة الرواية ما زالت خاضعة للتجريد فهي بحاجة إلى كم من التجريد والتجربة لتصل إلى الإبداع فهي بحاجة إلى تكامل البنى الاجتماعية والاستقرار بحاجة إلى مدينة حقيقية مثل القاهرة ، فالمدن الكبرى تفرض علاقات اجتماعية متشعبة وصراعات هي أساس الفن الروائي .
ومن هذه العوامل التي جاء بها الأدباء كانت روحاً جديدة في تاريخ الأدب نتيجة لعوامل كبيرة يرجع بعضها إلى الاتصال الخصب بالحضارة الغربية ، ويعود بعضها إلى ما في لغتنا نفسها من أصالة وعروبة وقدرة على الاتساع لكل جديد ، وإلى ما في أدبنا من قدرة على التطور .
ولو بحثنا في واقع الرواية العربية لوجدنا أن الرواية العربية السورية كانت تمثل شوطاً جديدا من تقربها إلى الواقع وخصوصاً في تجربة الخمسينيات .
ويطالعنا في هذا المجال بعض الروايات المطلة على هذا الأدب وهي " الحب المحرم |" " لوداد سكاكيني " 1952 ، ثم أحلام الربيع لعماد تركيتي " 1957، ثم باسمة بين الدموع " لعبد السلام العجيلي "1959 ، ثم أيام معه " لكوليت خوري " 1959 .
إنها كلها في الحب وأحواله ، ولكنها مع ذلك جهدت لربط نفسها بالواقع السوري في المدينة أو الريف .








أما بالنسبة للكاتبة وداد سكاكيني في روايتها الحب المحرم / 1952 تقول الكاتبة بأنها كتبت هذه القصة الطويلة قبل الأحداث الأخيرة في سورية ومصر ، أي أنها ترجع إلى أوائل الأربعينيات ... ثم تقول : والقصة الطويلة مسردة أو تحليلية دنيا صغيرة يضعها القصصي بين يدي قرائه ، ليروا فيه صوراً من حياتهم ومزاجهم ، وملامح .. علاقاتهم ودخائلهم ، ساكباً فيها من نفسه وحسه ، ومن تأمله وتجاربه ليوقظ في الطوايا نوازع الإنسانية .
فالرواية بنظرها إذن صورة لحياة الناس يرون منها ملامح من طباعهم ، توقظ النوازع الإنسانية المثلى ، وهي مزيج من خيال وواقع ...




وبرز معنا أيضاً في واقعية الرواية وقوميتها أدباء قدموا للنهضة الأدبية دراسات شيقة في كتاباتهم مثال الروائي ( أديب نحوي) صاحب رواية جومبي 1965 – وعرس فلسطين 1969 هذا الروائي الذي تميز بأدبه القومي الاشتراكي – وأديب نحوي أول من كتب في القضايا الشعبية الاشتراكية ، وكانت روايته ( متى يعود المطر 1958) أول رواية عربية سورية تعالج قضية الفلاح وتعزز حقه بالأرض والعمل .
إن عناية ( أديب نحوي ) برصد جوانب الحياة الشعبية ، ورسم نضاليتها ، وأيضاً طموحاتها كسب حقيقي للأدب القومي وأيضاً الاشتراكي ... ومما يرفع من شأن هذا الراوي بأن روايته " متى يعود المطر ( 1958) أول رواية عربية سورية تتحدث عن الفلاح وحقه في الأرض ، في حين قصصه ورواياته الأخرى بواكير أصلية في الأدب القومي الحديث المعاصر .





( وجومبي ) 0 رواية شعبية قومية تصور النضالية في حي من أحياء حلب الشعبية ... وموضوعها أن التنظيم غداة الانفصال وملاحقة الوحدويين أو عز إلى مختار حي باب المقام ( بكور صايات ) بأن يتظاهر بأنه انفصالي ، ويلهي الشرطة بأن يذهب معهم ليدلهم على الوحدويين إذا طلبوا منه ذلك ، ريثما يتم تهريب رئيس الحلقة أحمد رضوان .

















وبالفعل ينفذ (بكور صايات) الأوامر وينزل علم الوحدة عن دكانه ويرافق الشرطة في تفتيشهم المنازل في حين أعمال الشغب مستمرة في الحي الأمر الذي يضطر أفراد الشرطة إلى إطلاق النار والذي ينتج عنه سقوط إصابتين داميتين يتفرق على أثره المقاومون.....إلخ .
تلك هي الرواية وهي تزخر بوقائع متنوعة عن النضالية الشعبية في الطبقات الشعبية الدنيا والمتوسطة وهذا دليل على أصالته وصدقه مع نفسه ومع القارئ أيضا
ولذلك اختار شخصياته ضمن (نماذج) سقيمة لأفراد الشعب مؤطرهم أطرهم الزمنية والمكانية ويعيشون نضال مجتمعهم في الكفاح للتنظيم ونضال أمنهم في الوحدة العربية..
وكان من فن (الأديب النحوي) أن ألبسها لبوسها في الحياة وحركها وأنطقها لغتها مما يعتبر كسبا في رصد الطبقات الشعبية السورية .
وأما روايته "عرس فلسطين" فهي رواية شعبية قومية رمزية والرمز فيها يهيمن على الرصد الواقعي وهو رمز ذهني ووجداني تارة نجده يمتزج بالوقائع ومجريات الأحداث امتزاجاً كليا وتارة أخرى نجده ينفك عنها ليتركها تسير إلى غايتها في الرواية ولكن المرتكز في ذلك كله هو الحياة الشعبية الفلسطينية وهذا الفن في هذه الرواية شيء من الروح والأصالة والرمز فيها صريح وهو نفسه حديث النفوس حديث الجماعة في واقعها المتناقض أو لنقل في تناقض واقعها وتوقها النضالي البطولي:




حيث إن " الشخصيات " لا زالت تعيش مضامين ذهنية ووجدانية متجاوزة بذلك حرفية تجربتها في عاداتها وتقاليدها وسلوكها ونضالها نفسه ، فقد صارت رموزاً مجسدة . فهي القومية في الواقع عبارة عن رموز شعبية تعيش تناقضات الطموح الثوري الأدبي ، والكرامة القومية المتحفزة ، العاملة أبداً لعدالة قضيتها وحقها في أرضها و وطنها .
ويطالعنا في هذا الجانب الكاتب الروائي ( فارس زرزور ) بروايته " لن تسقط المدينة " 1969 والتي تعود لعام 1965ونشرت عام 1969 وهي رواية تاريخية عن معركة ميسلون ، تسرد قصة المعركة المؤلمة في تاريخنا الحديث ، وتفند ظروفها بين كيد الحلفاء ومطامعهم ، وبين ظروف التخلف الظاهر الذي كانت عليه البلاد وقتها ....
لقد ربط المؤلف عمله الروائي فيها بالزمان والمكان ، فجعله يتسلل بين عامي 1918و 1920 على أرض الوطن السوري كله ، منذ مساومة الحلفاء على اقتسام البلاد ، حتى يصل ذلك الاصطدام المسلح مع الفرنسيين في ميسلون .




وأما العمل الروائي فيها في إطار شعبي نستشف فيه مواقف لورانس ، والأمير فيصل ، وغورو وكليمنصو ، وعبد الرحمن الشهبندر ، ويوسف العظمة ، ومحمد الأشمر ، حتى يندلع الاصطدام المسلح مع الفرنسيين .












والشخصيات في الرواية نوعان ، فمن جهة هناك الشخصيات التاريخية التي سبق التنويه عنها ثم من جهة ثانية هناك الأشخاص المبتكرون ، وهم أبطال شعبيون تظل لهم المكانة الأساسية في العمل الروائي .
أما الشخصيات الروائية تتمثل ببعض الأشخاص ( شفيق صافي ) صيدلاني دمشقي يعمل في السياسة ، وهو عروبي وثوري ومحب للفقراء ، وكان يجعل من دكانه صيدلية للفقراء ، ويجعل منه ملتقى للثوار ، ( ومحمد قاديش ) مساعدة في الصيدلية وهو فلاح من الغوطة ، توفي أبوه في الحرب العظمى يشارك معلمه الصافي في العمل السياسي والثوري ، فيهرب الأسلحة للثوار ، ثم ينخرط في ثورة العلويين ، ثم يتطوع في معركة ميسلون ، و ( مريم بنت إبراهيم ) عاملة في مصنع للحياكة يملكه يهودي ، مات زوجها ثم مات ولدها يحبها قاديش ، وتشارك معه في العمل الثوري ، ونحن نعيش تجربة معركة ميسلون عبر تجارب هذه الشخصيات المختلفة .
( شفيق الصافي ) صيدلاني عائد من الأستانة وهو عروبي ولكنه منذ عام وعد بلفور الذي يقض مضاجع العرب يعيش حالة من اليأس ، وهاهو الجيش التركي ينسحب من السويس ، والجيش العربي يطارد فلول الأتراك ( الشريف حسين ) الآن هو ملك العرب ، وهو يزحف مع الحلفاء ، والأمر له ولقيادته المكونة من الأمراء والباشوات ، ولكن الآمر الحقيقي هو ( الجنرال اللمبي ) قائد جيوش الحلفاء ثم ( لورانس ) الذي كان مع الأمير زيد في جنوب سورية .




والثورات تشتعل في البلاد ... والفرنسيون يساومون ( الأمير فيصل ) على التخلي عن أجزاء من البلاد .
محمد قاديش يزور مريم في بيتها بمناسبة عيد رأس السنة ... وحسن العلي يجمع الأسلحة بمعرفة الصافي وصالح العلي وتستقل الثورة في دير الزور عن الانكليز و ( قاديش وحسين العلي ) يستمر بعد عملية التهريب في طريقها إلى الجبال العلويين حيث معاقل الثوار .
الشيخ صالح العلي ومشاهد الالتحامات الدامية ومعارك مع الفرنسيين ، محمد قاديش يجرح ثم ينجو من الموت ....
ونعود إلى ( الأمير فيصل ) ، ولجنة ويلسون لاستفتاء الأهالي في دمشق ، ونرى سياسية كليمنصو وطمعه في أخذ مكان الانكليز في سورية ولبنان . ( خطاب الأمير فيصل ) عن مؤتمر الصلح والمساومات .
الصافي وضع في السجن لهمسه ضد الخطاب ويتوسط عبد الرحمن الشهبندر ليخلي سبيله بأمر من الأمير فيصل ثم يسافر الشهبندر إلى فلسطين لاستقبال لجنة ( ويلسون ) .
وهنا نعود إلى (محمد قاديش ) الذي عاد من معارك ثورة العلويين ليجد وطاة الحرب قد أ ثقلت الناس ومشاهد القلق الشعبي تبدأ بالغليان وتسهم مريم مع الصافي وقاديش في العمليات الشعبية يوسف العظمة وزيرا للحربية , وسورية لا تستطيع أ ن تقاوم و(غورو) يتحرك من بيروت وأ نذر بحل الجيش , ثم رفض غوروالإنذار ثم قبوله وتسريح الجيش 000
وبعدها تم احتلال حلب , ثم مجدل عنجر والزحف مستمر باتجاه دمشق 0 كل ذلك أدى إلى اندلاع المظاهرات وكذلك دعوة يوسف العظمة المتطوعين وجمع ما تبقى من الجيش إلى ميسلون وانتقل إلى الزبداني ، ثم ميسلون .
محمد قاديش ينقل الأسلحة للمتطوعين ( شفيق الصافي ) مع المتطوعين في ميسلون .
ومشاهد من السلاح والذخيرة والمقاومة فالعملية الاستشهادية والزحف مستمر ، ثم استشهاد يوسف العظمة في المعركة وتقهقر المتطوعين .
ثم نعود إلى دمشق ، تسليم الأسلحة في الربوة ( محمد قاديش ) ومحمد الأشمر لا يسلمان سلاحهما .
المدينة لن تسقط ويسأل قاديش عن أخبار الثورة في حلب والغوطة


ويصمم على الالتحاق بالثوار .
نجد بعد هذا العرض لسلوك أبطال الرواية بأن الشخصيات المبتكرة مثل شفيق الصافي ومحمد قاديش وغيرهما – هما حقاً العمود الفقري للرواية ، وتشف عن المعاناة الشعبية للأحداث فالرواية استلهمت عملها الروائي من حياة الشعب وطبقاته المختلفة ... وخاصة الطبقة الكادحة والمتنورة .. فرسمت لها نماذج بشرية شعبية تعيش قضايا النضال القومي ، والعمل السياسي والثوري ، وقضايا الوطنية والكرامة والتضحية .





إذا وجدنا في هذا الأدب الروائي واقعاً شعبياً من حياتنا المشتركة التي يعيشها كافة الناس على مختلف أجناسهم وطبقاتهم ولهذا كانت الرواية القومية والشعبية هي الامتداد للواقع الذي نحياه وقد بدأها الكتاب العرب السوريين في الخمسينيات ثم راحوا يطورونها أكثر فأكثر في اتجاه الايجابية الشعبية في محاربة الظلم الاجتماعي والتعسف فيه .
فالتراث الأدبي الكبير الذي جاء به الأدباء في العصر هو الشيء الوحيد الذي استطاع أن يغير الواقع من واقع متردي إلى واقع مملوء بالتفاؤل والثقة وهذا يجعلنا نقول بأن الانفتاح اللانهائي على الواقع هو الذي يجعل الرواية تتمتع بحرية الحركة والتعبير أكثر من أي جنس أدبي ويبعدها عن التأطير ويهيئ فرصة وجود التميز و الاختلاف في كل رواية ، وربما هذا هو الذي دعا " فور ستر " أن يقول إنه لو اجتمع عدد من الكتاب حول طاولة مستديرة مثل تلك الطاولة المشهورة في مكتبة المتحف البريطاني وطلب منهم كتابة رواية عن موضوع موحد لخرج الجميع كل برواية مختلفة .



وربما هذا ما دعا " فرجينا " أن تنادي في عهد الحداثة إن أي موضوع يصلح أن يكون مادة الرواية ولا داعي أبداً أن تتكون مادة من تلك الموضوعات التي اتخذتها الرواية التقليدية مادة لها مثل الحب والزواج ، والثورة ، والملهاة ، والمأساة ، وغير ذلك من المواضيع المتكررة وتهدف " فيرجينيا " أن تبين أن الرواية لا تمتلك بل لا تستطيع أن تعطي نفسها الحق في القدرة على تقديم صورة كاملة أو حتى شبه كاملة عن الواقع رغم أنها أقرب الأجناس الأدبية إلى الواقع وأقدرها على التعبير عنه
أصبح الروائي في القرن العشرين ينظر إلى الرواية على أنها شكل مفتوح ولكن دون الادعاء أن لديه القدرة على تقديم صورة نمائية أو متكاملة لواقع اللاحدود.
وهذا خلاف الاعتقاد الذي ساد في القرن التاسع عشر وهو أن الرواية كانت سبيلا للسيطرة على الواقع .




ومجمل القول إن الروائي حديثا ينهج منهجاً مختلفاً عن الواقع ولكن دون أن يأمل مثل زميله قديما أنه يصل الى نهاية .
كل رواية إذن تقدم شيئا مختلفا في خضم واقع اللانهاية ويظل الروائي يروي دون أن يشارف على بداية ونهاية الغموض الذي يكتنف عالم الرواية الرحب





فالرواية في الأدب العربي فن حديث فرض وجوده بين الآداب وقد احتل في كثير من الأحيان مكان الصدارة منذ أن تفتحت عيون الكتاب العرب عليها في الخمسينيات من القرن الماضي وكذلك يمكننا القول إن الرواية الغربية بدأت تفرض حضورها كجنس أدبي متميز السمات في بداية القرن الثامن عشر
فقد ظهرت كشكل فني رئيسي واسع الانتشار وما زال الأمر كذلك إلى يومنا الحاضر وللرواية هيمنة خاصة لما فيها من شمولية الحياة وعنفوانها ليس فقط في مجال محليتها بل أيضا خارج حدود المحلية وتستمد هذه الهيمنة من التفاعل الذي ينشأ عادة بين خصوصية المحلية وعمومية الانسانية (العالمية) ونجد على سبيل المثال شخصية مميزة لكل من الرواية البريطانية والأمريكية والفرنسية والروسية تميزها محلية تاريخية وجغرافية واجتماعية وفي الوقت نفسه نجد أن هذه الروايات كتبت بوعي لشكل عالمي من أشكال الرواية عند أمم أخرى
ومازالت الرواية تشق طريقها بجرأة وتحد واضحين للتقاليد الأدبية المعروفة بما فيها تقاليد الرواية نفسها التي تتجدد وتتطور على يد الروائيين من مختلف الأمم
دراسة تاريخية
في الرواية السوريةالحديثة

منذ فترة زمنية ليست طويلة نشأت الرواية العربية السورية وحملت في ثناياها تداخلاً مع كافة الأجناس الأدبية (1) وبذلك جعلت لنفسها مكانة خاصة – مكنتها من مواكبة أهم الأجناس الأدبية على مر التاريخ وحتى يومنا هذا. وذلك بمراحل مميزة حيث توزعت تجارب الروائيين العرب السوريين ومواقفهم من المذاهب التي أخذت تظهر جلياً في أدبنا الحديث. فكانت الرواية واقعاً راهناً وحساساً لاتصاله الوثيق بالتغيير الاجتماعي والتاريخي والسياسي في وطننا العربي. ولذلك اهتم الأدباء بهذه النشأة لهذا الأدب وتطور الرواية وانتماؤها للأدب العربي المعاصر ليس سهلاً فقد أولاه الأدباء عناية كبيرة وذلك بفضل التطورات الجديدة في عالم الأدب ولقد حقق هذا الفن رغبات واسعة لدى القراء على كافة المستويات ومعروف لدينا بأن أدباء الرواية السورية هم الرواد الذي بذلوا كافة السبل في هذا المجال للوصول بهذا الفن الجميل إلى ساحات الأدب وقد عنيت الرواية العربية منذ نشأتها في الثلاثينات على يد معروف الأرناؤوط (2)، ثم شكيب الجابري (3) بمراحل جديدة أدت إلى عطاءات كبيرة من التقدم الأدبي الذي أدى إلى انتشار هذا المذهب الفني وخصائصه الواقعية الذي ظل يحمل في ثناياها موضوعات وتحليلات جميلة على مستوى الفن الروائي إلى أن
معروف الأرناؤوط روائؤ سوري. شكيب الجابري روائي سوري.
خرج إلى الواقع برواية أدبية تحكي موضوعاً أدبياً هادفاً بشخصياته وملامحه وغرائبه لذا أمسى هذا الفن جنساً أدبياً قادراً على الانفتاح والتطور والتعدد.
وما كان هذا ليتاح لولا خصوصية هذا الجنس الأدبي الذي أفاد من فنون وأجناس وعلوم عديدة مسخراً إياها معطياته وما يصبو إليه .مع أن مؤرخي الأدب قد سعوا لوضع دستوراً لهذا الفن إلا أنه بقي قادراً على التمرد لأخذ أشكال جديدة تخدم جميع أنماطه وأشكاله سواء طريقة المناهج أو المضامين أو التقنيات الحديثة إلى غير ذلك من تطوير هذا الجنس الأدبي. لذلك ونحن نقرأ الأدب الروائي تصادفنا رواية تاريخية أو رواية خيالية أو رواية واقعية وهذا ما يسوقنا إلى التسميات الكثيرة التي تخدم النص وتفيد القارئ وهكذا إلى أن يسمو هذا الفن إلى الرقي الأدبي في تاريخنا المعاصر إلى أعلى درجات الأدب.




أما قبل ذلك فقد الرواية السورية مجرد حكاية طويلة – حكاية مغامرات – أو حكاية صدف غربية أو وعظ اجتماعي. ولكن بعد ذلك ظهرت محاولات أدبية لا تحوي على مادة نفسية يستطيع القارئ دراستها ويطغي عليها السرد (الألف ليلى) و (الواعظ الأخلاقي). كل ذلك يعني بأن الرواية قد عانت وكافحت الكثير في جد وصبر حتى استطاعت أن تدعم كيانها وتثبت وجودها كنوع أدبي كبير ذي فنية واضحة. أما بخصوص نشأة الرواية الفنية في سورية فتطالعنا تجربة معروف الأرناؤوط (1892- 1948) ثم تجربة شكيب الجابري (1912) في الإبداع الروائي. لاننس رواية معروف الأرناؤوط "سيد قريش" (1928) في ثلاثة أجزاء ثم عمر بن الخطابفي جزأين.





ثم طارق بن زياد (1941) ثم فاطمة البتول (1942).
هذه الروايات حلقات من ملحمة واحدة، أعطى لها نفسه وقلمه وهي الملحمة العربية الإسلامية التي ابتعثها ببراعة حية مجلجلة ولولا شطط الخيال في بعضها لما نافسها في الرواية التاريخية العربية منافس.
أما (شكيب الجابري) فكان يصطنع الموضوعات والشخصيات الغربية في رواياته كما نرى ذلك في رواية نهم (1937) وهي تتحدث عن شاب مغامر وماجن (إيفان كوزاروف) له العديد من العلاقات مع النساء وينتهي به الحال إلى التطوع في الحرب الأهلية ثم في عام 1939 أخرج (قدر يلهو) وبعدها عام 1946 (قوس قزح) وهما وجهان لموضوع واحد، يجري في برلين، ثم دمشق وبيروت، وأبطاله طالب طب شرقي ومتشردة برلينية، ثم ابنهما ومعارفهم والرواية الأولى على لسان البطل، والثانية على لسان البطلة وكلتاهما تمجدان الشرق والعروبة والإسلام. وفي عام 1960 أخرج (وداعاً يا أفاميا) (4) وجعل بطليها الرئيسيين عربيين سوريين، إلى جانب أبطال من البعثة البلجيكية للتنقيب عن آثار أفاميا ( نجود) فلااحة جميلة تضطرها ضروب الإثم إلى التشرد عن أهلها، و(سعد) مهندس إقطاعي، وماجن ، يؤويها في كوخه، ويود لو تكون له زوجة، إلا أنها لا تمهله وتهرب.
وهذه الولادة الفنية إذن مرتبطة بألف رباط بالحياة العربية السورية وقتها، في عيشها عروبتها وأيضاً إسلامها، ومع ذلك كانت محاولة أولى، ورائدة في طريق طويلة وشاقة لتوكيد الذات وإيجاد أدب روائي لائق
والأثر الفني الغربي الصريح الذي نجده في هذه المحاولات الفنية هو الرومنطيقية والتي ستمتزج بالواقع .. وهو أثر من فعل الإعجاب بالآداب العالمية الغريبة وقتها، والتي راح هذان الرائدان يصطفيان معاييرها، وأساليبها ليحققا لأدبهما الروائي شروط النوعية، وكان لها ما أرادوا!
وقد ظلت الرواية وقتها تحت تأثير الاتجاه الرومنطي، والرومنطي الواقعي برهة من الزمن، وكانت نظرية (الفن للفن) وقتها هي السائدة في الميدان الأدبي عامة. كانت الساح الأدبية وقتها، أي بين الثلاثينات، والأربعينات يحتلها القصاصون وكتاب المقال وليس الروائيون وكان القصاصون كثيراً وقتها، في طليعتهم فؤاد الشايب (1911-1971) ونسيب الاختيار (1914 – 1972)، و محمد النجار (توفي 1962) وسامي كيالي (1898-1972).
وقد ترك هؤلاء القصاصون قصصاً قصيرة غاية في الجودة والقوة، والجمال الفني ... كما أن بعضهم أصدر مجموعات قصصية لعبت دوراً كبيراً وقتها في الوعي الأدبي والقصص في سورية العربية، مثل (ربيع وخريف – لعلي خلقي، 1931 وقصور دمشق لمحمد النجار 1937، وتاريخ جرح- لفؤاد الشايب 1944 – وغيرها). ثم إنه بفعل الممارسة والإقبال على مثل هذه التجارب المتتالية والمستمرة منذ الخمسينات تقريباً تنفتح (الواقعية) في سورية العربية وينفتح إليها على مصراعيه، لتظهر على لونيات مختلفة طبيعية، وانتقادية، واجتماعية، كانت في معظم الأحيان تدور حول أمور العاطفة و الحب والغرام، ثم صارت تدخلها مسحة(8) ذهنية ظاهرة .



كما أنّ متطلبات البناء القومي بعد الاستقلال، وعلى الخصوص ما آلت إليه الأمور بعد حرب فلسطين عام 1948، هي التي أيقظت الهمم في النفوس، ونبهت الأفلام إلى قضايا المجتمع، وقد شهدت البلاد في الخمسينات سلسلة من الانقلابات حاولت العمل للبناء الاجتماعي والقومي، في اتجاه تقدمي صريح، والأمر الذي كان له أثر حاسم في ربط الأدباء بواقع الحياة السورية بأبعادها الشتى.
هذا الأمر يفسر لنا وجود صورمختلفة للمجتمع العربي السوري الذي خلقت فيه الرواية العربية وجعلت لها فضاءً خاصاً بها عبر التلاقح طوراً والخصوصية والحرص على التعبير عن واقع المجتمع. الذي يضج بالأحداث والأوجاع غير المحددة.
لو حاول المرء تعداد أسماء الأدباء لاستطاع أن يشير إلى عشرات الروائيين الذين كتبوا روايات كثيرة فيها الكثير من التميز وخصوصاً في تلك الفترة، بعد الخمسينات وعلى الخصوص مع الستينات وما تلاها ومن هؤلاء د. عبد السلام العجيلي(1) وروايته باسمة بين الدموع وهي تصور مباذل(2) سياسي فاشل من سياسي الأحزاب القديمة . إذ حاول الدكتور عبد السلام العجيلي (تطويع الفن الروائي لها). محمّلاً روايته جملة من الأفكار الاجتماعية والسياسية إضافة إلى تحميل الرواية نكهة من المشكلات التي توجد في المجتمع الريفي ومجتمع المدينة.
والسياق الروائي يضعنا أمام سليمان بطل الرواية المحامي من طبقة ملاكي الأراضي، القادم من الشمال مهزوماً في انتخابات البرلمان إلى العاصمة باحثاً عن مكان متقدم في زحمة الراغبين عن مكان متقدم فيها فقد كانت السياسة العامل الأساسي لهجرته وليس العامل الاقتصادي.




الذي يحتل مكان الصدارة في هجرة الريف إلى المدينة وترصد الرواية الواقع السوري في الخمسينات من خلال شخوصها والعلاقة التي تقوم بينها، فتلقى حزمة ضوء على العلاقات الاجتماعية في دمشق العاصمة، وفي ريف الشمال وعلى اللعبة البرلمانية، وعلى الصراعات الفكرية والسياسية في الشارع في حقبة الخمسينات في سورية .
إن قارئ رواية (باسمة بين الدموع) يجد العنصر الاجتماعي مثبوتاً في ثنايا العمل بحيث يستطيع تتبعه وربط خيوطه فهي تصور الواقع الاجتماعي في العاصمة من خلال شخصيتي باسمة وسليمان وتلمح إلى المجتمع الريفي عبر شخصية سليمان كما اتكأت على الشخصيات الثانوية. في تصوير اتجاهات أناس منفردين وتصوير اتجاهات اجتماعية ونستطيع أن ندرج الرواية ضمن الروايات التي صوّرت مجتمع المدينة وليس البعد الريفي سوى خليفة للرواية ثم إنه في فترة البناء القومي في الخمسينات يندفع عدد من الأدباء التقدميين إلى رصد الواقع السوري تحت شعار صريح رفعوه وقتها في مقابل شعار (الفن للفن) السائد ذلك الحين وهو الفن للشعب ومن بين هؤلاء: ليان ديراني وحسيب كياليوسعيد حورانية وحنا مينة ومواهب كيالي وشوقي بغداديتجمعوا وقتها في رابطة الكتاب السوريين .




وقد أعطى هؤلاء الأدباء من نفوسهم، وأصالتهم وربحنا في الأدب الروائي في الأساس المصابيح الزرق لحنا مينة 1954. ومكاتيب الغرام لحسيب كيالي 1956 ثم تستمر (الواقعية) في تفتحها، وازدهارها، بعد أن كانت عاطفية في معظمها، وتأتي ثورة البعث العربي الاشتراكي في البلاد ويستفيد الأدب الروائي مشاعر صادقة وأصيلة هادفة سوف تطبع فنيتها كافة على الأهداف الاشتراكية.
وقد أخذت تنشأ عن ذلك التطورات اتجاهات إلى الواقعية الاشتراكية.
لا تزال تغذي السّير، يوماً أثر يوم إلى الكمال إن هذه الاتجاهات إلى الواقعية الاشتراكية تتمة طبيعية للاتجاهات الواقعية والاجتماعية التي صارت تنصب على الموضوعات المتعلقة بالعدالة الإنسانية.
وإن أبرز إنتاج روائي فيها هو الشراع والعاصفة لحنا مينة 1966 وهي تصور لقطاع عمال النقل البحري في ميناء اللاذقية إبّان الحرب العالمية الثانية ثم الحفاة وخفي حنين لفارس زرزور(1) 1971 وهي في العمال الزراعيين الموسميين في سوريا.
وبفعل هذه الاتجاهات صارت تظهر إلى الوجود روايات عربية سورية تؤرخ لسيرة شخص حقيقي مثل رواية "حسن جبل" لفارس زرزور، والتي تعود إلى عام 1965 ونشرت مؤخراً عام 1969، ثم رواية – أبو صابر – لسلامة عبيد(2) وهي تعود أيضاً إلى عام 1965 ونشرت عام 1971.



هذه النظرات التاريخية المطلقة على نافذة أدبنا العربي هي نموذج للتراث الذي يتغلغل في أعماق مقومات الأدب الروائي الذي يعتبر مدخلنا إلى الواقعية وبيان واضح للاتجاهات الروائية في سورية العربية. ولهذا فإن نشوء الرواية في أدبنا العربي خطوة طبيعية لإغناء الثقافة العربية وتطورها لذلك حقق فن الرواية خطوات الكشف عن "الجذور القومية" في الأدب العربي والسعي إلى تركيز خصائص العهود المختلفة العديدة وعملية انتشار الوراثة الحضارية الثقافية الفنية وقد برزت في هذه الآونة روائع من مؤلفات القرون الوسطى مثل "أيام العرب" وسيرة عنترة المكرسة للشاعر البطل كشخصية أسطورية خالدة وقد اجتذبت اهتماماً ملموساً في العالمين العربي والأوروبي.





اتجاهات الروايةالفنية


الرواية هي النوع الأدبي الذي تفتح في سورية في ظل الانتداب الفرنسي على سورية وقد كان يطرق هذا الباب نفر من الأدباء إلى جانب القصة القصيرة والمسرحية وأدب المقال وفي تلك الفترة كانت الدعوة إلى أدب الوجدان شائعة تملأ الساح الأدبية في الوطن العربي والمهجر وقد برز من أدباء المهجر آنذاك جبران خليل جبران(1) ورفاقه المهجريون من شعراء(2) و كتاب ومن مصر عباس محمود العقاد(3) وغيره من الذين تأثروا بمذاهب النقد والآداب الغربية الحديثة.




وكما قلنا كانت كواكب الاتجاه الوجداني العاطفي في الأدب العربي السوري وقتها نظرية (الفن للفن) فأخذت تؤثر على نتاج الأدباء وخاصة القصاصين والروائيين...والرواية الفنية ولدت وجدانية عاطفية بوحي من الرومنطية الغربية وقد أوضح ذلك جلياً (شكيب الجابري) وهو يصطنع الموضوعات والشخصيات الغربية، ثم قنن هذا الاصطناع شيئاً فشيئاً . والرواية التاريخية التي أبدع فيها " معروف الأرناؤوط" غلب عليها هي نفسها الوجدان و الخيال والتحميس فطغت على التقريرية، أو استخلاص العبرة والموعظة حتى رأينا شخصية أساسية مثل شخصية (ليلى) الكندية في "سيد قريش" تقوم بالسحر من أجل إنقاذ أقربائها فتنيّم الجنود وتطفئ الأنوار، وتجنن الملك.
كانت الموضوعات الروائية وقتها وجدانية عاطفية، هي على الغالب الحب وأحواله .. وكان الروائي يستلهم مواقفها وأحداثها من تجربته الشخصية وها هو شكيب الجابري(1) يقول: لا أستطيع أن أخرج في رواياتي عن حياتي ومهما أخذت ففي حياتي الواقعية ما يكفي من المادة لتغذية خيالي وأكسل في التفتيش عن مواضيع خارج حياتي !.. وبالفعل لم يختص الروائيون العرب السوريون للرومنطية وجوها العاطفي الشاعري الهادئ ها هو شكيب الجابري نفسه يعترف بأنه لم يخلص للرومنطية وحدها بل صار إلى المادية نقيضها ، قال: أثر المنفلوطي(2) فيّ وأنا مراهق، فكان أول من سلط علي سحر الأدب قرأته مرات لا تُعد وكم أبكاني ... ثم استهواني روسو(3)، وقد بلغت الثامنة عشرة، قرأت لامارتين(4) ثم غلب علي فولتير(5) بعد أن قرأته في كتاب أنيق وصلني وأنا سجين في حلب، وخرجت من السجن فولتيرياً تماماً .





لقد قلب حياتي من الرومانتيكية المحضة إلى المادية المحضة
وكذلك (خير الدين الأيوبي) نفسه لم يخلص للرومنطية، والتي صدر عنها في روايته الأولى (السلوان الكاذب) عام 1945.
بل تعداها إلى الرومنطية الواقعية إن صح التعبير، في عفاف 1948 ثم في قلوب؟ عام 1950
وأثر هذين الأديبين، أي في الخمسينات تكاد الموجة الرومنطية تكون انحسرت لتظل ذكرى محاولة غبرت، أو يبقى فيها قبس إنساني، كتلك الإنسانية المشبوهة التي نجدها في الحب المحرم – لوداد سكاكيني 1952 وتعود إلى قبل الخمسينات.
إن روايات في الليل لهيام نويلاتي 1958 وأيام معه لكوليت خوري 1959 – والثلوج تحت الشمس لليلى اليافي 1960 روايات حب عفيف فيها عاطفة مشبوهة، كما أن فيها مثالية ظاهرة ولكنها تستلهم الواقع ومشاكله حولها، والتي تظهر في ثناياه .
وهذه الروايات تعتبر رومنطية واقعية هذه الخصائص التي لموضوعها وأسلوبها حيث حديث الحب والوحدة والحزن وأيضاً التضحية والإخلاص والموت


يجري بأسلوب عاطفي مشبوب مرتبط بالواقع زمانه ومكانه، بالبيئة والمحيط ومشاكلها إذا أصبحت الخمسينات مرحلة هامة في التطور التاريخي في سورية وزادت خلالها النهضة السياسية والاقتصادية والثقافية والأدبية على كافة المجالات والأصعدة في بلادنا . فساعدت اهتمامات الكتاب السوريين بالحضارة القومية وإحياء العلاقات مع الغرب ودراسة انجازات وخبرة الأدب الأوربي والغربي على ازدهار الأدب السوري في هذه المرحلة وقد أدى هذا الاهتمام إلى استقرار المذهب الواقعي ولعب دوراً هاماً في تكوين رابطة الكتاب العرب في عام 1954 أثناء المؤتمر وضمت لصفوفها الكتاب السوريين المشهورين والكتاب العرب في البلدان العربية الأخرى الذين انتموا إلى المواقف الواقعية في ذلك العصر وقد دعا أولئك الكتاب لتعزيز العلاقات بين الأدب والحياة السياسية والاجتماعية وتكثيف المسؤولية السياسية للنشاط الفني والأدبي فطرح المؤتمر مسائل هامة منها قضية نقد الأدب العربي، وتوازن النظريتين "الفن للفن والفن للحياة" ونهضة الحضارة الوطنية . وإحياء الوراثة، وقضية النقد الأدبي. مما أدى إلى الحاجة لتنظيم عدة لجان أثناء أعمال مؤتمر الكتاب العرب وكان هدفهم هو تطوير الأدب الوطني للمحافظة على الخصائص الوطنية والكيان القومي الخاص. وأعلن الكتاب الغرض الرئيسي من هذا المؤتمر وهو تنشيط نضال الشعوب ضد الاحتلال والاستعمار الجديد وضد سياسة الامبريالية الثقافية . فانتهت رابطة الكتاب العرب عام 1959 وأثناء هذه المرحلة سيطرت القصة كفن من فنون الأدب في سورية في الخمسينات أما عقود ما بعد هذه الفترة فطورت في البلاد الفنون الفنية والأدبية كلها. فجرى في الوقت نفسه التطور السريع للنثر الكبير. وقد بدأ نضال المذهبين الرئيسين في الأدب العربي السوري في أواخر الخمسينات بين المذهب الواقعي والمذهب التجددي وبلغ قمته في الستينات واستمر في عقود ما بعد هذا.

وجدير بالذكر أن مجابهة المذهبين حدّت حاصته من فن القصة لأن فيها سبح الواقعيون ضد التيار ولذلك كانت أصواتهم غير مسموعة جيداً. أما فن الرواية فنرى فيه سعي أكثرية الكتاب إلى الطريقة الواقعية في تصوير العالم والإنسان وهكذا كرّس نشاطهم الأدبي لواقعية الكتاب الروائيين السوريين وبينهم حنا مينة، و فارس زرزور وصلاح دهني وخيري الذهبي والدكتور عبد السلام العجيلي فكرس بعض الكتاب الروائيين نشاطهم الأدبي للتجددية فقط ومنهم مطاع الصفدي و هاني الراهب. ويطالعنا بذلك الكاتب فارس زرزور وهو أحد الكتاب الذين لا يتوقفون عن الكتابة حتى في أحلك الظروف وأقساها، وإن القارئ يتلمس في قصصه كما في رواياته أفكاراً عميقة يسجل كل ما يدور من وقائع حوله ليرسمها لنا ويجسدها بأدق التعابير لتصل إلى القارئ بأجمل تصوير وبأبسط أدوات الفن القصصي وعلى الرغم من تصنيفات النقاد كلها، تبقى "واقعية" هذا الكاتب أقرب إلى التجسيد الطبيعي والعفوي للظاهرة التي يريد إبرازها أمام جمهوره والمهم عنده جمهوره والمهم عنده أن تتجلى أفكاره للإفهام دونما مواربات فنية وغوامض رمزية إضافة إلى أن معايير الشكل ينبغي في رأيه أن تخضع خضوعاً تاماً لمتطلبات المضمون و ضروراته وعلى اختلاف الأوساط التي استقى منها موضوعاته. تفصح رواياته عن القضية الوطنية والاجتماعية اللتين تكادان تتطابقان مع المرحلتين المعروفتين في حياته المرحلة العسكرية حيث كان ضابطاً في الجيش والمرحلة الثانية لتسريحه من الجيش واهتمامه بالكتابة وهكذا يفرد روايات عدة لوصف النضال ضد المستعمر الفرنسي وينصرف في بقية أعماله القصصية والروائية إلى زوايا حياة البائسين في مدينة دمشق أو في أرياف الشام. إذا ليس من باب المصادفة أن تنحدر شخصياته من الوسط العسكري الذي عمل به، أو من البيئة الفلاحية التي عرف عنها أشياء كثيرة منذ طفولته .

وقد حرص فارس زرزور على صدقه في التعامل مع موضوع روايته "المذنبون" الذي وقعت قصته فعلياً ونقلت إليه فكتبها على نحو ما سمعها بأسلوب مباشر من شأنه الوفاء بالمطلوب فإلى أية درجات وصلت واقعيته؟ والرواية تتلخص بأن هناك قرية اسمها "الصيرة"(1) واقعة في منطقة حوران جنوب دمشق تبدأ الأحداث التي تكون حبكتها بمشاجرة بين جدعان العبد الله ونساء قميه وعمه صالح الذياب فجدعان المتزوج حديثاً من فهدة بنت صالح الذياب لم يقبل في الواقع أن ينفصل عن قرينته ويعيد النعاج والبقرة التي قدمها عمه صالح الذياب مهراً لابنته (ذلك لموازنة هذا المهر مع مهر فرحة أخت جدعان وزوج قاسم). لقد كان الفصل بين الرجلين وزوجيهما ضرورياً، لأن صالح الذياب حاول اغتصاب كنته فرحة ولهذا السبب اعتقدت أم قاسم أن فرحة زانية وفي النهاية سيجلد الدرك (2) جدعان الذي يترك القرية حيث لم يعد له من أمل في عطاء الأرض بعد سنوات عجاف جافة ويتوجه كبقية الفلاحين شطر دمشق ليعمل فيها مع زوجه و ليعش على بقية من رجاء في الرجوع إلى الأرض.وبهذا نتبين أن فارس زرزور قد انطلق من الواقع ومن الظواهر الطبيعية إلى ما يتمخض عنها من نتائج في الحياة الاجتماعية . ولذا نرى بأن الكاتب وصف نفسه بأنه من الكتاب الواقعيين جاعلاً هدفه البحث عن الحقيقة الجديرة بالفن والجميلة دوماً أما الأسلوب والتقنية الروائيان ليس لهما سوى قيمة عاطفية عارضة لا تهم كثيراً في فهم العالم ويقول زرزور موضحاً فكرته المهم توضيح المضمون الذي هو الهدف النهائي ، ربما تمتع القارئ بالشكل الفني لكن المتعة غاية، وهي ليست من ترف لا أهمية له.
وتبين لدينا بأن فارس زرزور أحد الأدباء السوريين الذين كتبوا في النثر التاريخي الفني في مرحلة ما بعد الاستعمار ولذلك درس أعماله الإبداعية عدة نقاد وأدباء سوريين بذلوا لنشاطاته اهتماماً كبيراً.
والمعروف أن فارس زرزور قد ألف أكثر الروايات التاريخية "في حياته الأدبية " وهذا ما يدعونا إلى القول بأنه قدم الحياة في صورة سكونية تبرز تقهقرها وتبين معنا مما سبق بأنه كاتب واقعي نقدي لم يترك في رواياته مجالاً لأنفاس الموهبة وقد تبين معنا من دراستنا لرواية "المذنبون" بأنها من الواقع السوري وأخذت طابعاً انطلق به من الظروف المحيطة وعوامل القحط والجفاف ولهذا تجعلنا هذه الرواية نعاني إحساساً بالحرمان الجمالي.


ولو تمعنا قليلاً في الرواية السورية لوجدنا الكثير من الروايات الواقعية التي استقت موضوعاتها من (الواقع السوري) كما تبين لنا من رواية " وداعاً يا أفاميا" لشكيب الجابري 1960ثم "ذهب بعيداً" لجورجيت حنوش 1961 وأيضاً عشيقة حبيبي 1965 لها ..
هذه الروايات تنوعت موضوعاتها وتنقياتها وأساليبها ولكنها حرصت على أن ترسم الواقع السوري كما هو من حيث خصائصه وألوانه.
ويبين لنا شكيب الجابري بروايته "وداعاً يا أفاميا" درساً جديداً في الواقعية
ويقول بأنها رواية طبيعية واقعية في موضوع عاطفي دنس حسب تعبير المؤلف
الحب الدنس هذا الحب الذي يدفع "نجود" إلى التشرد عن أهلها في قلعة المضيق، وحتى تلتقي "بسعد" المهندس الاقطاعي في كوخه في ريف اللاذقية فيأويها ويهم بها ويود لو يستبغيها ليتخذها زوجة له، ألا إنها لا تمهله وتهرب.
ونجد بأن المؤلف قد نحا فيها نحواً واقعياً طبيعياً جريئاً، فوصف المجتمع العربي السوري في ظل الانتداب الفرنسي وخاصة المجتمع الأرستقراطي ومباذله ، وذكر اسماء بعينها ، و حوادث بعينها.
وأغلب الظن أن المؤلف استقى موضوع روايته من تجربته الشخصية..
حيث إن البطل (سعد) مهندس جيولوجي إقطاعي وميسور، ولكنه يقع في ضائقات مالية تبين له قيمة المال في الحياة.

وهو رجل فاسق له كل يوم علاقة مشبوهة مع النساء، كما أنه يخون صديقه في زوجته، و يجعل من كوخه مكاناً لمباذله .. وعندما تلجأ (نجود) إليه تجد عنده شلة من الأصدقاء، والصديقات فيتحفظ إزاءها بل يغري خادمه بالزواج منها.
ثم يقبل عليها فتستسلم له ولمباذله، فيهيم بها هياماً روحياً وهنا التناقض إذ يريدها زوجة له ولكنها تهرب وتتركه للحسرة.
(نجود) فلاحة من قلعة المضيق، أبوها من وجهاء القرية وأمها بدوية ماتت وهي صغيرة، فرباها أبوها، ثم تزوج (ندى) صديقتها، وندى أنانية ومكارة.
تلك هي الأطر(1) الروائية لشخصية كل من (سعد) الإقطاعي المهندس الماجن، و(نجود) الفلاحة البدوية التي يدفعها الخوف من الفضيحة إلى الهرب من أهلها .. أما الشخصيات الأخرى فعادية.
أما في رواية سلاسل الماضي 1964 للكاتب "نزار مؤيد العظم" (2) والتي نصل بها إلى الرواية الواقعية التي تريد أن تلتحم بالواقع التحاماً، لتنقل عنه وتعيش قضاياه.
وهذه الرواية العاطفية تنقل عن الواقع نقلاً حرفياً تقريباً حول البطلين، والعلاقة الغرامية بينهما لقد ظل (نبيل) مع شرقيته وتقاليده العربية، فأثر راحة نفسه، ورضا والديه، وقطع ذلك الخيط الذي كان يصله بمحبوبته المتحررة والمنساقة في تيار التمدن الزائف.





(نبيل) يكتب مذكراته بعد أن مر بتجربة هصرت(1) روحه ست سنوات أمضى السنوات الثلاث الأولى منها في سعادة، ثم ذاق في السنوات الأخرى منغصات الغيرة، والسلوك والقلق، حتى يتوب إلى رشده، ويبت في أمره.
وهكذا نجد (المذكرات) تربطنا بالوقائع والأحداث فنرى بأن طفولته، أنه ابن بيك في حماة تزمت والده وتزمت مجتمعه الأول قتلا الميوعة(2) في نفسه.
ودراسته المتوسطة ثم شهادة الكفاءة عام 1947، وتوظفه لإعالة بيته حيث كان والده دائم الخسارة في تجارته وقد عمل مراقباً في الأشغال العامة ولا يرى جدوى من التحصيل العالي ولقد عين معلماً في دير الزور، ومع ذلك تطوع في جيش الإنقاذ في فلسطين عام 1948 ولكن قريباً له في الجيش يثنيه عن الاستمرار فيه وينصحه بالعودة فيعود إلى وظيفته في الريف السوري، تل أبيض ثم السلمية، وهذه المشاهد ما هي إلا علاقة مباشرة مع الحياة الريفية و الشعبية آنذاك.
إن (نبيل) يميل إلى الأدب، ويقرض الشعر، ويقيم العروض التحليلية في المدارس، ثم يحضر للبكالوريا، ويقدم الامتحان وينجح ثم يدخل دار المعلمين في حمص .
أما تعرفه بـ(مادلين)، وهي فتاة بيروتية تعمل محررة وتود التخصص في الأدب الإنكليزي، فيكون عن طريق رسالة بعثت بها إليه تعبر له عن إعجابها بمقالاته وتنتقل الرواية هنا إلى الرسائل المتبادلة بينهما.
ونرى فيها إلى تحرر مادلين، وتحفظ نبيل.

ثم عندما يلتقيان في بيروت في بيت مادلين يصطدم بكونها فتاة عادية بل أيضاً غير جميلة ولا ترضي طموحه في الجمال أنه على الخصوص يجدها متحررة لا تقره على سلبيته إزاء شؤون الحياة السياسية والحزبية.
وهكذا تستمر العلاقة بينهما حتى يؤدي خدمة العلم، فيلتقي بها في بيروت وينام معها حيث تراوده (1) فيمتنع، ثم يكون أن تحدث له حادثة تدفعه إلى أن يصطدم معها ، إذ تود السفر لوحدها مع أحد الضباط، ولكنها تقلع عن ذلك ثم تستمر في رحلاتها وهو ينتظر أن ينهي خدمة العلم ليتقدم فيطلب يدها للزواج.
يفاتح أهله، وعلى الخصوص أمه في أمر خطوبتهما، فيترددون، ثم يرفضونها رفضاً قاطعاً لاسيما والده المتزمت ، حتى ترده رسالة منها بعثتها من القاهرة تكلمه فيها عن أمر رعونته(2) معها وتزمته.. هناك يرد عليها بأن يبلغها قطع علاقته معها حتى لا يكون سبباً في نكد عيشها معه و يعود نبيل ليطمئن أهله بذلك ويخبر والده بأنه قطع علاقته مع خطيبته وحافظ على تقاليده، ثم يقرر الاستمرار في خدمة المغاوير الفدائيين.
تلك هي الرواية ... وهي شوط جديد من الواقعية، كأنها قدَّت قداً من الواقع السوري، لا تكلف فيها ولا تعسف وإنما صدق مع النفس والواقع، ورصد وتحليل دقيقان شيقان وأبرز ما فيها هو الانصياع البريء للأعراف والتقاليد الشرقية والعربية، وخروج هذا الشاب الحموي من مأزق طب غير متكافئ معافاً سالماً.



فالرواية إذا صورة صادقة، وصحيحة لجوانب مشرقة ونيرة في المجتمع العربي السوري بعد الاستقلال، وعلى الخصوص توق النفوس وقتها إلى البناء الاجتماعي والقومي .
(أما النموذجية) في شخصياتها فهي تتلاحم فيها المقومات النفسية والاجتماعية تلاحماً ، بحيث يجعلك ترى أن الوصف النفسي هو وصف للاجتماعية أيضاً وبحيث ترى أن اللوحات الواقعية فيها تخدم الجانبين النفسي والاجتماعي معاً .
إن نبيل شخص اجتماعي، إنه محافظ على تقاليده، إنه فاضل، مجاهد، ومناضل، وقد ترك خطيبته لأنها تعيش في عقلية غلب عليها التحرر والانفتاح فآثر قطع علاقته معها.
هذه الاجتماعية الظاهرة، جعلت الغلبة في نفسه للأعراف والتقاليد فانصاع لها في حين يجب عليه أن يسير في تيار الحب.
ولكن هذه الأفعال هي دلالة على (الرجولة) فهو منذ الصغر يعتمد على نفسه ويعيش طموحاته مجتمعة، ووطنه، ثم في يفاعته يعمل لإعالة أهله، ثم يخدم تلاميذه في نواحي الأدب والفن.
وقطع علاقته مع حبيبته المانعة في تحررها الزائف رجولة منه يعيشها.
فتصرفاته سوية وفي طريقها القويم، وحالته شيء حياتي من الواقع وليست نتيجة عقد نفسية أو تعويض لا شعوري – إنها شيء من الحياة وإلى الحياة.

ولذلك كان صدام بين الخطيين، بسبب الاختلاف في الأفكار والأمزجة .
وأما (مادلين) فحوارها مع (نبيل) يوم التقيا في بيتها في بيروت يدل على نظرتها الإيجابية إلى الحياة ومعاناة قضاياها..
ولكن تجربة الحياة أظهرت فساد هذه الإيجابية، وما وراءها من تحرر زائف مما أدى إلى اصطدام بين الخطيبين ثم الفراق.
لقد كان الفراق هو الخطوة الصارمة التي صححت هذه الأوضاع الفاسدة وأنهت هذه العلاقة غير الصالحة .. وهي خطوة سليمة وسوية ذلك أن الوضع الصحيح للأمور أن يكون الإنسان فاضلاً غيوراً يؤدي واجباته التي تجعل منه محبوباً بين أهله ومجتمعه لا أن يرمي بنفسه إلى التهلكة مع فتاة متحررة متهورة تريد أن تفرض آراءها الزائفة، وتسيح(1) بتمدنها الموهوم ولهذا نجد بأن ما يميز الصورة الروائية يستند إلى التصاقها القوي بالإنسان الذي يوشك أن يكون موضوعها الأوحد فهي موقوفة على تصوير كفاحه في هذا الكون العريض، واندماجه فيه ومحاولته في بناء الجسور الأكثر اقتراباً بأمن الحضارة والإنسانية وكذلك من ذاته المهددة بالضياع وسط الصراعات التي يخوضها في محيطه الطبيعي والاجتماعي.


ولهذا نجد بأن الصورة الروائية زمانية، إذا أن القصة المروية تتطور خلال زمن معين ظاهر الإيقاع والحركة، وليس مضمراً كإيقاعات لوحة تصويرية أو تمثال منحوت .
ولئن كان من الصعب جداً فصل الزمانية الروائية عن مكانتيها فالزمن محور مركزي في الرواية ولولا ارتساماته المتعددة الأبعاد لما أمكن أن تحيا الشخصيات، وتقوم بأي فعل يذكر ولما تهيأ للصراع المراد عرضه أن يرى النور. تتشابك هذه الملامح كلها في البنية الكلية للرواية التي تجسد حركة الحياة وتعيد خلقها في علاقات جمالية تنسج داخل النص وليس من عائق يحول بين الكاتب الروائي وإمكانات الفنون الأخرى التقنية والتعبيرية فتعدد الأصوات الملازمة لفن الرواية تتيح له أن يصور الواقع تصويراً فيلمياً كما في السينما وأن يتبنى الحوار المسرحي وهذا ما يعطي للرواية فناً جمالياً واقعياً وهذا ما أثارته الأطروحات الواقعية التي أعادت النظر في العلاقة بين الفنان والواقع المحيط به.
وليس هذا غريباً عن طبيعة الإنسان عندما يشهد تحولات عميقة في علاقاته الاجتماعية تجري وراءها تغييراً في طريقة عيشه، وتذوقه للأشياء، وأخلاقه أيضاً ولا يكون التعبير واضح المعالم في بداياته، فيسهم الجدل حوله في تكوين مفهومه، والكشف عن علاقته بالموروث معاً ولكن بعض رواد الواقعية انطلقوا من نقطة واحدة في تعريفهم للواقعية وهي موقف الفنان من الواقع الذي يصوره، ثم تتباين أراؤهم بدءاً من التساؤل عن مدى وفاء الفن للحقيقة الواقعية، و عن إمكانية هذا الوفاء أساساً.
وعلى هذا تدور الواقعية حول مجموعة مفهومات تحددها عوامل جمالية وتاريخية متعددة طبعت بطابعها النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
فإذا كان المفهوم الأصل لا يمنع الواقعيين من البحث عن بعض أشكال الجمال في الواقع، فإن المفهومات المتفرغة عنه تشعبت في تقويمها للجمال الواقعي حيث ظهر تياران هامان يُسلِّم الأول بجمال الواقع الأكيد، بينما يرى أتباع الثاني أنه غير جميل وغير قبيح.





وترتب على هذين التيارين موقفان خاصان بمهمة العمل الفني الذي يجب أن تكون إعلاناً عن خصوصية الواقع بحسب التيار الأول، وإنكاراً لها بحسب التيار الثاني.
ولقد تمخض التيار الأول من طبيعة عصر التطورات العلمية التي أثرت بسرعة في اعتماد الأذهان في بداية القرن التاسع عشر، فشرع أتباعه في اعتماد المنهج العلمي المحدث للتعامل مع ظواهر الواقع، جاعلين تصور الحقيقة أسمى القيم الواقعية فكل شيء يجب أن يكون ملحوظاً بدقة ليس ظاهرياً فقط، إنما في العمق بغية كشف القوانين التي تحكم حركته واستمراره وفي هذه التربة نمت الفكرة الأولى للمدرسة الطبيعية بقواعدها الجمالية التي سنها (إيميل زولا)(1) داعياً بحميّة إلى حيادية الكاتب حيال الواقع، وضرورة استبعاد العناصر الذاتية عن الإبداع الروائي.
فعلى الروائي، كما على العالم، أن يكتفي بالوقائع الملحوظة وبالدراسة الدقيقة للطبيعة، هذا إذا أراد ألا يضيع في متاهات استنتاجات خادعة.
أما مسألة الاختيار فغائبة غياباً تاماً، إذ أن عليه أن يصور ما يوجد أمامه من ظواهر الطبيعة، وسيكون تصويره متناسباً مع حياديته.




على أن بعض الكتاب عمدوا إلى اختيار الجوانب القاسية للوقائع، مفترضين أنها كلما بدت قبيحة، ظهرت واقعيتهم أكثر.
وقد عُرف هذا الأسلوب (بالواقعية النقدية) التي قدمت صوراً حقيقية للواقع بغية تعرية المجتمع البرجوازي المخيب للآمال دون الالتفات إلى العوامل التي يمكن أن تدفع الحياة إلى ما هو أفضل وعلى حين مثلت الواقعية النقدية بمختلف أساليبها جانباً.
من التيار الثاني بتركيزها على قُبح الواقع وضراوته(1)، انبثقت رؤية جديدة أكثر تفاؤلاً عبرّ عنها بمصطلح الواقعية الاشتراكية الراقية إلى حل جمالي للتناقض بين المثل الأعلى والواقع وكان أن تولدت مقولة البطل الإيجابي المتكلم باسم الجماهير الكادحة القائدة لحركة التاريخ باتجاه بناء المجتمع الاشتراكي.
وتفرعت عن هذه المقولة الملامح العامة لأسلوب الواقعيين الاشتراكيين باعتباره، على حدّ قول ماركس(2) وانجلز(3) "تصوراً نموذجياً، لطباع نموذجية في ظروف نموذجية".
أي أن النمذجة تحديداً للطباع التي يخلقها الكاتب موحياً من خلال خصوصيتها بما هو عام، أو مستحضراً الجماعي عبر الفردي.
وبذلك تصبح المواقف التي تتخذها الشخصيات الواقعية، على عكس مواقف الشخصيات الرومانسية ناضجة بمعاني نفسية وفكرية تعكس معاني وسطها الاجتماعي المولودة و المترعرعة فيه .





ولما كانت النمذجة شاملة لتسلسل الأحداث الذي يخضعه الكاتب لرؤيته الزمنية وفهمه لسيرورة الزمن المتطور في العهد الجديد حيث تؤكد مصائر الأبطال وصيروراتهم حركة الحاضر باتجاه المستقبل الواعد، فإن المفهوم الواقعي ذو قدرة تنبؤية، وما التنبؤ سوى الوجه الآخر الذي يدرك الواقعيون النقديون أبعاده في الواقع، وهو فاعلية القوى الاجتماعية الصاعدة في امتلاك الزمن عبر تطوره الباعث للتفاؤل بميلاد مجتمع جديد بقيم اجتماعية وجمالية جديدة على الفن الواقعي أن يبرزها "فالواقع الاشتراكي في صيرورته الثورية يبدو في الفن تعبيراً كاملاً عن الجمال.
وينفي المنظرون الماركسيون مفهوم الحيادية، ويستخدمون مفهوم موضوعية الكاتب الذي يوحي به إيحاءً فنياً يقوم على المشابهة الاحتمال وليس على الحرفية والمباشرة.
مما يجعل معيار الحقيقة الروائية إمكانية التصديق، وليس التطابق الكامل بين الصورة الروائية والواقع فعماد الموقف الواقعي الاشتراكي أن العالم الروحي للكاتب يستوعب جوهر هذا الكون الواسع وعندما يُفصح عن استيعابه له روائياً تغدو الرواية تفاعلاً بين كونين:
الكون الخارجي والكون الداخلي الذي يشكل امتداداً للأول، وفعلاً مؤثراً فيه في الوقت معاً.

ويمكننا القول إنه أياً كانت الاعتراضات على هذا الفهم لمقولة الواقعية في تطورها الأسلوبي والتاريخي، فنحن نرى أنها جسدت طريقة في إدراك ظواهر الواقع وتقويم مثله الجمالية، و في التعبير عن ذلك كله أيضاً وفق قواعد جمالية هدفت إلى تعدد توجهات أصحابها باتجاه صياغة جديدة للعلاقة بين الفنان والواقع.
وعندما نقيس الرواية الواقعية العربية وكذلك الرواية الواقعية السورية عامة على مقولات الرواية الأوربية إنما ذلك دفعا للصعاب، وتوفيرا للجهد.
غير أن هناك خلافاً يتردد بين نقاد الرواية ويدور حول وجهتي نظر تكاد الأولى تكون مشتركة بين رواد الأدب العربي المعاصر وهي بأن الرواية بمدارسها المختلفة جنس أدبي مستعار من الغرب مرّ قبل نضجه بمراحل متعاقبة بدأت بالترجمة والاقتباس، وانتهت بهوية شعبية مستقلة لروائيين عرب دخلوا ميدان الرواية العالمية.
أما وجهة النظر الثانية فهي تنطلق من دوافع علمية مدعمة بحرص أكيد على عطاءات التراث العربي، وهي أن الرواية نتاج الثقافة العربية التي عرفت أصولاً تصلح لأن تكون منارة للأدب المعاصر.

حيث لجأ فاروق خورشيد(1) للتدليل على ذلك إلى طائفة من الملاحظات المراعية للقياس المنطقي العقلي منها " أن الإنتاج الروائي العربي المعاصر يصل إلى درجة من الأصالة تجعل من المذهل حقاً أن يكون هذا الفن وليد عشرات من السنين وحسب كما نجعل من المتعذر على التفكير.
العلمي أن يقبل ما يردده الكثيرون من أن هذا الفن مستحدث في أدبنا العربي لا جذور له" وأن أمة كالأمة العربية سادت حضارتها العالم حقبة زمنية كبيرة يمكن أن تقتصر في تعبيرها عن نفسها على الشعر وحده.
إنما كان النثر لغة تعبيرية غنية أهمل دراسته الباحثون المنصرفون انصرافاً كلياً إلى دراسة الشعر ثم إن حياة العرب المليئة بالنشاط والحركة، والمحفوفة بخطر الصحراء، و الانتصارات على قوى الطبيعة مرة، وعلى القوى الخارجية مرة، وكذلك الهزائم الفاجعة أمام هذه القوى ... كل ذلك كان كفيلاً بتوليد فن الرواية الذي يصور ذلك.
وهكذا يسخّر خورشيد كتاباً يورد فيه من النماذج القصصية والنثرية منذ الجاهلية حتى القرون الوسطى التي عرفت السير الشعبية ما من شأنه الإفضاء إلى أن الإنسان العربي عرف القصص طوال تاريخه، وأنها جزء من عطائه الأدبي لم يتوقف لحظة واحدة وما دعوى اقتباس الرواية عن الغرب سوى ترويج استشراقي غير مدعّم بالأدلة العلمية والتاريخية.
لكن التسليم بوجود حكايات وقصص قديمة في مصر، وآسيا ، والهند، أو عند العرب، لا يسمح بالقول الجازم "إن الرواية، بمفهومها المعاصر، ليست جديدة على أدبنا.




وأن العرب شحذوا أنفسهم بعيد الاستعمار الغربي، وبعد تحملّ أربعة قرون من العلاقة مع العثمانيين والتي قادتهم في نهايتها إلى الانحطاط لإيجاد صيغة يتواصلون من خلالها مع حضارة العصر المتقدم عليهم فوجدوا أنهم ، وجهاً لوجه، أمام موقف متناقص وجدّ حاد.
فعليهم أن يدفعوا الغزاة الأوربيين عن بلادهم من جانب، وأن يتمثلوا التقدم التقني والاجتماعي لهؤلاء الغزاة من جانب آخر.
ولم تحسم حملة نابليون على مصر هذا الخيار إلا بصورة جزئية، لأنها كشفت النقاب عن المنافسة الإنكليزية الفرنسية للسيطرة على الوطن العربي المجزأ الواهن قبل أن يقطف محمد علي باشا ثمار دولته الوليدة ومن ثمّ بدأت طريق المغامرة المعقدة التي يصفها "محمد كامل الخطيب"(1) في أشكالها الأدبية الثلاثة: الرحلة، والسيرة الذاتية، والرواية.
ولو تعمقنا في البحث عن الدلائل على وجود أصول الرواية في تراثنا العربي ما يكفي لرد دعاوي المستشرقين، فإن تزاوج العوامل الداخلية والخارجية مع تطور المجتمع العربي الحديث أسهم في اقتباس العرب للفن الروائي بصورته المعروفة في الغرب آنذاك، وما لبث العرب أن التفتوا إلى واقعهم يسبرون أعماقه بالوسيلة التعبيرية الجديدة بين أيديهم حتى حققوا للرواية العربية مستوى من الأدبية يتقدم يوماً بعد يوم.


وتماشياً مع التغيرات الاجتماعية في سورية، والبلاد العربية عامة، انفتح الأدب السوري كما انفتح الأدب العربي، على تيارات الثقافة العالمية، وكان ذلك من طبيعة التطوّر في مجتمع عاش ركوداً طويلاً حتى في تعامله مع التراث.
فأين الغضاضة في أن يكون للنهضة العربية الحديثة تطلعان:
يتجه الأول إلى الناهض من تراثنا العربي فيتقوى به ويتجه الثاني إلى الناهض من حضارة العصر فيطعّم به مورثه ، ويعيش العصر بأبعاده الحضارية كلها؟
ولعل النثر العربي هو الأقرب إلى الرواية الحديثة والقصة في جوهرها ولكن لا نستطيع القول بأن هذا النثر أصلاً للرواية .
ولم يكن التأثر بالأدب الغربي وقفاً على الرواية بمفهومها العام، بل امتدّ ليشمل مدارسها المختلفة من انطباعية، وواقعية، ووجودية، وقد ترافقت الواقعية مع ازدهار الصحافة، والتعليم ونضال الأحزاب السياسية المعبّرة عن أفكار الطبقة الوسطى وتطلعاتها، وظهور أحزاب أخرى كالحزب الشيوعي والحزب القومي السوري.
ولعل تعدد المدارس الغربية وغزارة تدفق نظرياتها على الأدب العربي الحديث وضعا مفهوم الواقعية على سبل مختلفة عن تلك التي عرفها في أوربا.

ذلك أن روايات الكتاب الواقعيين السوريين وإن كانت شاهدة على مرحلة ثانية من مراحل تطور الرواية السورية، فهذا يوضح لنا وجود واقعية مفتوحة تتراوح بين الالتزام العقائدي وواقعية الأسلوب.
وهذا أمر طبيعي ما دام السياق الفكري والجمالي للواقعية أوربي الأصل، مما رتب علي الروائيين السوريين من واقعيين وغيرهم، حتى في المرحلة الثالثة لتطوّر الرواية السورية، الاعتماد على المؤثرات الأجنبية اعتماداً انحسرت أمامه إمكانية تبلور نظرية روائية وواقعية خاصة. بهم يقول الدكتور غالي شكري(1) شارحاً ذلك " بقيت الرواية السورية عملاً ذاتياً مبعثراً، وبعيداً عن أن يكوّن تياراً أدبياً واضحاً".
وهذا يعني أن خضوع الروائيين السوريين للمعطيات التقنية الوافدة آخر بناء أسس متماسكة جديرة يخلق مدرسة واقعية أو غير واقعية، مما سيجعل النقد يتعثر بصعوبات كثيرة لا نعتقد أنه سيفلت من تعرّجاتها إلا بوساطة النص وما ينطبق به.




ولما كانت مقولة "الواقعية" تحمل تجربة خاصة بين الواقع ذاته، فإن هذه التجربة تشمل في جانب هام من جوانبها تملكاً جمالياً لظواهر هذا الواقع.
يوضح وعيه الجمالي والمبادئ التي يستضيء بها في تعبيره عن مُثله الجمالية العُليا.
ولكن هذه التجربة الأخرى كالتجربة الخاصة، وهي جمالية بطبيعتها لا تعيش معزولة عن التجارب الأخرى كالتجربة الحسية والذهنية والأخلاقية، والدينية، وغيرها.
فمن هذه التجارب ما يشكل مقدمة من مقدماتها كالتجربة الحسية ومنها ما يكاد يتماهى(1) معها كالتجربة الذهنية على اعتبار أن التأمل الشعوري الذي تثيره الظواهر الجمالية، وتتجلى التجربة الجمالية في أثنائه ليس مجرداً عن الإحساس وفعالية الذهن.
وهذا ما يجعلنا نقيم الحدود بين نشاط معرفي يؤدي بيان الفرق بين المعرفة الجمالية والمعرفة العامة؟
وإن هذه المُثل التي وجدناها ليست مجردة عن العوامل المحيطة بها من طبيعية، واجتماعية، ونفسية وكلما ضاقت دائرة هذه العوامل اتضح تأثيرها في تكوين المُثل الجمالية وتداخلها مع مكونات البنية الثقافية للمجتمع الذي توجد فيه.
فماذا ستصوّر الواقعية الهادفة إلى تجسيد الحقيقة إن لم يضع الواقعيون نُصّبّ أعينهم السياقات العامة والخاصة للمثل الجمالية والمقولات الجمالية التي تمثلها في كل مرحلة من مراحل التطور
.

وإذا أخذنا سياقي الرواية الواقعية السورية المعاصرة: (الجمالي والتاريخي والاجتماعي) لوجدنا أن المقولات المتجسدة فيها تجمع بين مضامين إنسانية عامة، ومضامين خاصة تعكس المثل الجمالية للشعب السوري في مراحل مختلفة من تطور علاقاته الاجتماعية.
ولو قمنا بالبحث في طبيعة المقومات الجمالية للرواية وفق منظور الواقعية الجمالي، وما تعنيه هذه المقومات فسوف نجد بأن التأثير يتبين لنا من خلال التحولات الفنية في النص حتى يتحول الممكن في النص إلى واقع وهذا يتطلب أن ننظر إلى الرواية في علاقتها بكل من الكاتب والقارئ فهي علاقة متبادلة بينهما حيث يتكون لدينا عندئذ عناصر تخيّليّة تعكس الرؤية الحقيقية بين القارئ والكاتب.

ولما كانت الرواية الواقعية السورية قد عرفت خلال الستينات مرحلة مهمة من مراحل تطورها فقد خلقت ترابطاً قوياً بين النص و الواقع وخصوصاً ما لمسناه من خصائص فنية في حياة المجتمع السوري من ذوق وجمال وقد ربط الكتاب في بعض رواياتهم بين الزمن المروي والزمن الواقعي وذلك ليبينوا ملامح المقولات الجمالية التي سادت خلال كل مرحلة من المراحل التاريخية الاجتماعية التي مر بها الشعب السوري ونرى ذلك جلياً في هذه المراحل من خلال وضع الشعب السوري في بداية القرن العشرين، وتحديداً في الثلاثينات قبل الاحتلال التركي للواء اسكدنرونة، كما يبدو في رواية (الياطر) لـ "حنا مينة"(2) المعبرة عن مقولة "البطولي".
وبعد ذلك الاستعمار الفرنسي لسورية خلال السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية المعبر عنه في رواية "الشراع والعاصفة" "لحنا مينة" أيضاً حيث تتجسد مقولة "سامي"
وبعد ذلك التغيرات الاجتماعية في سورية من الإقطاع إلى النظام البرجوازي ، وانبثاق جمال المستقبل الثوري الذي تُفصح عنه رواية "الخيول" لأحمد يوسف داودمن خلال مقولتي "الجميل و الشاعري" ولا ننسى الظروف الاجتماعية للفلاحين تحت نير الاقطاعي في الخمسينات وما تخلّف من قبح جعله الكاتب فارس زرزور موضوعاً لروايته "المذنبون".

ثم حدث الانفصال بين مصر وسورية بعد وحدتهما التي دامت من 1958- 1961 الذي أعلن سقوط المثل الأعلى الوطن للشعب العربي في روايته "قلوب على الأسلاك" لـ"عبد السلام العجيلي".
وأصبح البحث عن الثورة باعتبارها مثلاً أعلى وطنياً واجتماعياً و رافق صعود البرجوازية الصغيرة في سورية وتغير الأحوال الاجتماعية عشية ثورة البعث عام 1963 وبعيدها كما رآها وقوّمها نبيل سليمان(1) في روايته "نيداح الطوفان"(2).
وفي عام 1967 انهزم العرب في حرب حزيران التي برهنت على سقوط المثل العليا للبرجوازية الصغيرة، واستدعت ثورة فدائية عادّ لها هاني الراهب(3) لثورة جمالية في روايته "ألف ليلة وليلتان"
ليس هذا الخط التاريخي الأيدلوجي الرابط بين النصوص أكثر من عامل مساعد في تناول الأبعاد الفكرية والجمالية لتلك الشخصيات.
وهنا قد يقول التباس بين الأيدلوجيا في الرواية، والرواية باعتبارها أيديولوجيا والحال أن الأمرين مختلفان، ذلك أن المنطوق الأيدلوجي في النص ليس إلا عنصراً من عناصر تكوين بنية النص ذاته بينما يتعلق الأمر الثاني بوظيفة الرواية في المجتمع وما قد تخضع له من تأويلات النقاد والدارسين والمكلفين على تشعّب مسالكهم وتنوع مشاربهـم ولا يكفـي هـذا



الفرق الواضح ما قد يحصل من تداخل بين الأمرين ولا سيما في الروايات الواقعية التي تفتح ممراً واسعاً بين فكر الشخصية بما يعرّضها لأخطار الخضوع له، وعدم القدرة على الاندماج في بنية الرواية التي سيعتريها الخلل الجمالي على الأصعدة كافة، إذ أن مثل هذه الروايات تجهر المجال الإبداعي لتفاعل الشخصيات و تصير صدىً مباشراً للموقف الفكري للكاتب، منتهية غالباً إلى ما يسمى بالإخفاق الجمالي.
وسوف نعرض مما ذكره حنا مينة في روايته الياطر والمقولة المعبرة عنها "بالبطولى" وروايته "الشراع والعاصفة" حيث جسدها بمقولة "السامي".
فالبطولي والسامي مقولتان جماليتان مترابطتان والأولى منهما متضمّنة في الثانية وما الاختلاف بينهما سوى اختلاف في الدرجة والتركيز، إذ أن ما يجمع معناهما هو قوّة الفعل وحركته من جانب، وعدم القدرة على التمتع بهما جمالياً إلا من خلال صراع تتطلبانه من جهة ثانية.
وما يوضح الفرق القائم بينهما هو أن الصفات البطولية كالشجاعة والإقدام، وما شابههما، مهما كانت مثالية، تبقى ذات حدود يمكن بلوغها، بينما يوحي "السامي" دائماً بما ليس ميسوراً أن نفكر بتحقيقه، لأنه لا نهائي القدرة والجلال، وهو أقرب إلى المطلق من المُثل العليا التي يحلم بها الإنسان.

على أننا سنترك هاتين المقولتين مفتوحتين لإمكانيات التعبير الروائي الذي جسّدهما في أدائهما مع المثل الأعلى الوطني، وهو شاغل الروائيين الواقعيين السوريين حيث تشكل الحرية الوطنية و الاجتماعية خلفية رواياتهم بصورة عامة، كما أنها محور روايتي حنا مينة "الياطر" و"الشراع والعاصفة" وقد يكرس الكاتب جُلّ رواياته لموضوع النضال الوطني "كفارس زرزور" الذي يصف معارك معروفة خاضها الشعب العربي في سورية ضد الفرنسيين وقد يحصل أن يُقرأ هذا الموضوع ضمنياً عند كتاب آخرين مثل "حنا مينة" الذي تنطبع رواياته بهذا الطابع. فهو يعالج بصورة خاصة، وبأسلوب الموحي. المشكلات الوطنية والسياسية والجمالية ، للشعب السوري، منطلقاً من همّ ذاتي يعود في أغلب الأحيان، إلى الطفولة التي عاشها، و منطلقاً، من بعد نحو آفاق متعددة للطبقة وللكائن البشري.
ويؤكد مينة أنه من كتاب الواقعية الاشتراكية في الوطن العربي، دون أن يتجاوز المفهوم الماركسي بظلاله السياسية التي تدخل في تركيب عقيدته الحزبية الشيوعية.
وهذه المسائل أمدته بمادة إبداعية يقول إنها لا تزال تلهمه حتى الآن.
وتدلنا قراءة رواياته على وفائه لذكريات الثلاثينات والأربعينات كما تخللها من أحداث وتغيرات مرت على الأمة .... فمثلاً الاستعمار الفرنسي لسورية، والحرب العالمية الثانية وآثارها على الصعيدين الوطني والعالمي، كما على الصعيد الاجتماعي، كصعود البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة في سورية ، لهذا السبب نجد الشخصيات التي أبدعها

على الرغم من اختلاف أوساطها الاجتماعية، وأمزجتها النفسية ترمز إلى تلك الفترة.
إلا أن ما يجب عدم إغفاله هو انشغال حنا مينة بهاجسين يخصان الطبيعة الإنسانية عندما لا تساعدها الظروف المحيطة على إثبات وجودها كما ينبغي:
أحد هذين الهاجسين العصامية الطامحة إلى اختصار المسافة بين ما كان يمكن أن يفعل الإنسان المتمتع بما يساعده على الفعل وثانيهما هو الحلم بالبطولة الملحمية يفجرها طموح إنسان عصامي(1).
وسواء أكان الهاجسان شديدي الالتصاق بحياة هذا الكاتب أم لا يظلّ التعبير الروائي عنهما في غاية الصعوبة، ليس لأن إفضاء العصامية إلى البطولة غير متاح بمعزل عن روح الجماعة، إنما لأن الملحمية في الأساس تتطلب شكلاً جمالياً يؤدي عدم إتقانه إلى تداعي بنية الشخصية وما تقوم به من أفعال وقد تبين بأن حنا مينة يستند في التقنية الروائية التقليدية على تجاربه الخاصة، وتستجيب هذه التقنية لغايته في تصوير الحياة.
ويقول إنه كتب الرواية حتى قبل أن يكوّن عنها مفهوماً واضحاً غير أن الشكل التقليدي الذي يعتمده لا يقللّ من شأن رواياته ولا أثرها على القارئ جمالياً ومعرفياً، فقيمة الشكل مرهونة بالقدرة الإبداعية للكاتب ولو تعمقنا في استخدام القرائن المتعلقة بكتابات حنا مينة.




لاستخلصنا معاني في صالحه منها ريادته للرواية الواقعية إن لم يكن في الوطن العربي ، ففي سورية على الأقل.
ذلك أنه مهّد لآفاق جديدة بمجادلته اكتشاف علاقات غنية بين الإنسان العربي ومحيطه الطبيعي والبحر خاصة ولهذه العلاقات أهمية بالغة لا يزيحها استحساننا لكيفية تجسيدها أو استهجاننا له، فلكل بداية ثغراتها وأي حكم غير مستند إلى النص المحّلل بموضوعية، ودقة منهجية لا يدخل أرض النقد ثانياً.
فالتحليل الشامل لنسيج الرواية هو الذي يضعنا على حقيقة المقولات الجمالية التي تتجابه الشخصيات باسمها، موحّدة عناصر البنية الروائية للإيحاء بالفكرة الجمالية، باعتبارها أساس الرواية المتضمن تقويم الكاتب للواقع، وتفسيره لظواهره.
وتنتقل إلى القارئ عبر جملة المشاعر والعواطف التي يثيرها فيه استيعاب الرواية وإدراك علاقاتها.
ونلقي الضوء على رواية "الياطر" لحنا مينة وكيف كانت موهبته في جعل طاقتها التعبيرية تعادل فكرته، ومثله العليا الجمالية على مستوى وحدة الرواية شكلاً ومضموناً.
حيث يحدّد المثل الأعلى للحرية مضمون هذه الرواية حيث تحكي هذه الرواية قصة حوت يدخل ميناء مرسين(1) يخرجه الصياد زكريا المرسنلي ويفرغ جوفه ثم يبيع أحشاءه للخمار اليوناني "زخريادس" واعتقاداً منه أن الأحشاء كانت تحوي مجوهرات.




وأن الخمار خدعه، يقوم الصياد زكريا بشق بطن الخمّار ويهرب إلى غابة على شاطئ المتوسط ويبقى تحت وطأة الرعب وتبكيت الضمير عدة أشهر فيخوض صراعاً متعدد الجوانب ضد الطبيعة، والوحدة، وضد ذاته وهو المتأرجح بين نوازع الخير والشر وبفضل تعلقه بشكيبة الراعية التركية وحبه لها يجد بعض التوازن الداخلي وفي النهاية يعود إلى مدينته مرسين لحمايتها.

من حوت آخر دخل ميناءها بعد الحوت الأول الذي كان سبباً في الجريمة التي ارتكبها.
فنلاحظ في عرض مجريات الرواية بأنها تستند إلى فكرة الصراع الذي يأخذ شكلاً نفسياً يوحي بأعماق البطل المضطربة وتكتسب فكرة الصراع هذه النصيب الأوفر وهذا ما يعطي قصة الرواية سيرورة جمالية ولو أنها لم تسجل الحالة النهائية للقصة في الرواية التي تعلن تغير البطل من حال إلى حال بيد أنه حالما يرى قوة محولة أخرى تؤثر في موقف البطل ويتجلى ذلك في العلاقة بين البطل ومدينته التي هرب منها وفجأة عاد إليها دون تردد أو خوف عندما سمع أن حوتاً آخر دخل ميناءها هكذا الرواية دون أي توضيح لصيرورة البطل ولا لمستقبل الراعية التركية التي أحبها لذا تبقى الحال النهائية مفتوحة تترك إمكانيات عديدة أمام خيال القارئ كي يؤلف وحدة الصور التي تكوّن السيرورة الجمالية للرواية.
تبين لدينا بأن للطبيعة في روايات حنا مينة مكانة هامة، على مستوى الشكل والمضمون، ولا نحسب أن هذه المكانة نابعة من المناظر الطبيعية الفسيحة التي يقدمها الوصف وحسب، إنما على نحو خاص، من القيم الرمزية التي توحي بها الطبيعة أو من وجهة نظر "مينة" عنها وأسلوب تفاعله معها، إذ يتخذ منها وسيلة لعرض مفهومه الماركسي عن العالم والكون.

فالإنسان في صورته الروائية هو كائن الطبيعة والمكافح ضدّها يرفعه الكاتب إلى أقصى درجة من فيض القدرات الإيحائية.
وهكذا يتطابق عنده مفهوم البطولي مع مفهوم الإنسان الشامل الذي يُعرفه الماركسيون بأنه "طبيعة كاملة "، فهو ينطوي على طاقات الطبيعة والحياة جميعاً، وعلى ما في العالم ومستقبله، لكنه يحول الطبيعة إلى إرادة وحرية وبالمقابل نجد الطبيعة في رواية "المذنبون" لفارس زرزور ترمز إلى الاستعباد والقهر، إذ تتضمّن صورتها جملة ما يمزّق الإنسان ويسحقه.
فلماذا هذا الطلاق بين الإنسان والطبيعة عند زرزور وتلك الوحدة المنطوية على المفارقة والتفاعل عند "حنا مينة"؟
إننا هنا، أمام رؤيتين إلى العالم، وأمام موهبتين مختلفتين تتعرضان لموضوع واحد هو الطبيعة، ومن المنطقي أن نقع على تعبيرين تتباين دلالاتهما الذوقية والفكرية بحسب المؤهلات الذاتية لكل من الكاتبين المذكورين، وما الطريقة المتميزة في الإبداع إلا علاقة على تلك المؤهلات، "فالذات تعكس كل تنوع المواهب و ثرائها" من خلال ابتكار الشخصية الروائية النموذجية باعتبارها "فعلاً متفرداً لنشاط الفنان الإبداعي" وفي النهاية لا تعطي الذاتية وحدها ولا الطبيعة وحدها شرحاً موضوعياً كافياً للعوامل التي تتحكم بولادة العمل الذي يترجم في جوهره جدلية العلاقة بين الذات والموضوع مهما حاول الفنان أن يلتزم جانب التجرد و الحيادية.

ربما كان ما بحثناه من ميزات الإبداع الفني وخصائصه، كافياً لإضاءة جوانب المسافة الجمالية كلها لولا مسألة أخيرة كانت مداد جدل نقدي واسع حول هدف الفنان من إبداعه وقد بين لنا النقاد حول هذا الموضوع دائرتين أساسيتين
الأولى: هي نظرية الفن للفن التي لا يرى دعاتها من وظيفة أخرى للعمل الفني غير إنتاج "التقنية المتناغمة" فهي بمثابة القاعدة للشكل.
أما الدائرة الثانية : فقد لاقت من تباين اتجاهاتها في تقويم وظيفة الفن ما لاقته التيارات الفلسفية والاجتماعية، النفسية والجمالية و لا ريب في أن استقصاء هذه الاتجاهات سيبدو أمراً فيه تزوّد مع قلة الجدوى أمام تحليل الافتراضيات الواقعية عن الدور الاجتماعي للفن، إذ يخمّن الماركسيون مثلاً أن لهذا الدور أوجهاً متعددة و يتأتى غناها من أنها لا تعبّر قط على الحاجات الروحية للإنسان إنما تستجيب لها وتُشبعُها أيضاً، فالفن منبع للمتعة الجمالية للإنسان.

ويرى الماركسيون من المنطلق نفسه، أن الإبداع الفني استجابة لحاجة الإنسان إلى اللعب فالفنان يلعب وهو يبدع نماذج تعيد إنتاج الواقع بمشابهته، ويعيد المتلقي بناء هذه النماذج في خياله، ويدرك معنى الوجود عبر متعة المشاركة في العمل الفني والعيش في عالمه, ولا يكون هذا النشاط فارغاً في المعنى أو صرفاً مجانياً للوقت، أو متعة بسيطة بالتمرن على عمل إلا حينما لا يتمخض عن إبداع وتلقِ للإبداع فحينئذٍ يتخذ النص الفنان بُعدين يؤكد أولهما المسافة الجمالية بين عمله والواقع ويوحي ثانيهما بجوهر ما يحكم الواقع ونلقي في هذا الجانب تصريحات الكتاب الواقعيين السوريين ونظرتهم بين الوظيفة الاجتماعية والوظيفة النفسية للفن وإن كانوا أقرب إلى المنهج الماركسي في دعوتهم إلى فن ملتزم بقضايا المجتمع وهمومه فنجد "حنا مينة" المعروف بعقيدته الماركسية يجد في العمل الفني غاية تخصّ الفنان الفرد الذي يُفرغ فيه تجاربه الفائضة، ومن ثم فهو يقوم بوظيفة تصعيدية.
ويعتبر عبد السلام العجيلي الفن هروباً من الحياة الضارية المخيبة للآمال ولا يحاول أن يذهب إلى أبعد من ذلك لنعرف مدى اقترابه من التصعيد غير أن وجهة نظره وتلك التي أولى بها "حنة مينا" متضمناً "بالعقد النفسية".
على أن الأهم في هذا المضمار هو بيان هدف الفن في ضوء التقويم الجمالي الذي ينطوي عليه العمل الفني والذي ينقل لنا ذوق الفنان.

ولما كان الذوق يشمل عنصراً عاطفياً سواء أكان بالرضا أم بالسخط فإن موقف الفناء على الصعيد الجمالي سيتجلى في شكلين. الشكل الأول: ماثل في تقبيح المواقف لإبراز جانبها السلبي بما يوحي بجعل القيم الجمالية للواقع القائم موطناً للشكل فحيثما يشاء الفنان تجسيد قبح العلاقات غير الإنسانية في المجتمع يصور الصراع بين أناس أحياء وظروف حياتهم المجهظة لمعنى وجودهم. وقد اتخذ رفض القبيح مكانة هامة في الرواية الواقعية السورية.
فالآغا والبيك والدركي ليسوا سوى رموز للقبح وما يجرّ وراءه من شرور على الحياة.
لكن من هذه النقطة تتباين نوايا الكتاب أنفسهم، إذ يكتفي بعضهم كفارس زرزور، وعبد السلام العجيلي بتحديد موضع القبح للقارئ.
الشكل الثاني: يظهر في هذا الشكل مقدرة الفنان على البحث فيما وراء القبح عن تجميل المواقف وتغليب جانبها الإيجابي.
وفي هذا الحال يصور الواقع، غالباً على هوى ما ينبغي أن يكون في نظره، وليس كما هو كائن. لذلك يسعى إلى تمجيد جماله عبر شخصية نموذجية، أو موقف نموذجي كذلك.
وقد جاء هذا الجمال المروم(1) في صورة صياد مرة، وفي صورة بحار شجاع مرّة أخرى عند حنا مينة وجسده أحمد يوسف بفلاح وفلاحة ثائرين ونبيل سليمان بعامل شيوعي على حين أن هاني الراهب رآه في صورة فدائي تشرح طريقة إبداع هذين الشكلين طبيعة المسافة الجمالية بين الرواية والواقع فإذا كان الشكل الأول يمثل محاكاة صادقة إلى حدّ ما





فإن الشكل الثاني مُعادل جمالي كما هو مقبَّح ومع ذلك يترابط أحد الشكلين في العمل الفني، ترابطاً جدلياً مع الشكل الثاني وترابطهما في ذاته، قيما جمالية معرفية كبيرة ذلك أن تقبيح الواقع وتجميله سمتان جذريتان من سمات الفن ، ومن أجل إبداع الجمال، ينبغي على الفنان كما يقول "كامي" (1) "أن يرفض الواقع ويعلي شأن بعض سماته في الوقت نفسه".
ويجدر بنا أن نثبت فكرة جوهرية هي أن المقولات الجمالية في الرواية الواقعية السورية شديدة الالتصاق بالمقولات الأخلاقية، ولم ينفرد لشرح ذلك سوى حنا مينة الذي يؤكد متفائلاً أن الصراع بين العدالة والظلم سينتهي بانتصار العدالة ويدقق حكمه قائلاً "سينتصر الخير مع الزمن" تلك هي حال "زكريا المرسلني" بطل "الياطر" الذي انتصرت في داخله الأخلاق والمشاعر الإنسانية على نوازع الشر. إضافة إلى أنه عندما قتل الحوت، رمز الاستعمار، إنما "قتل الشر ليس إلا" وهذا ما أضاف إلى سمات الفن واحدة أخرى تقوم على الترابط بين الجمالي والأخلاقي في العمل الفني، والأدبي خاصة، لأن الأدب أكثر التصاقاً بالإنسان، فحينما تكون القيم الاجتماعية منعكسة عن مصالح فئات اجتماعية متصارعة ومصوّرة في الأدب، فمن المنطقي أن تختلط القيم الأخلاقية والسياسية والدينية بالقيم الجمالية، وقد شرح "سارتر" (2) ذلك ووضحَّه بقوله:
"على الرغم من أن الأخلاق شيء والأدب شيء آخر ففي عمق الوازع الجمالي نحيط بالوازع الأخلاقي" وآية الأمر أنه لما كان الفن تجسيداً تمثيلياً للإنسان وتنوع أصوات نفسه الداخلية، فكل عملّ فني ناجح آيلٌ بالنتيجة إلى تعددية القيم. وما معرفة الإنسان للإنسان إلا قيمة أخلاقية بذاتها

يقول شارل دوبوس(1) "تعريفنا للعمل الأدبي يعني أننا نعرّف الروح التي أبدعته .. فروح الكاتب هي التي تلامس أرواحنا". وهكذا ترتسّم المسافة الجمالية بكل هذه الأبعاد، وربما بغيرها ولكن يبقى الأفق مفتوحاً أمامنا للبحث عنها وإيرادها دليلاً على خصوصية الفن من الكون الكبير والواسع، فالفن لا يقاس بالكون، لأنه أكوان تشمل كوننا وما تعطيه له دلالات كثيرة لا يمكن حصرها عندما ستنصب سيتوقف الفن عن الحياة وسيفقد الإنسان القدرة على استيعاب معاني الجمال في ذاته وفيما حوله.





بعد هذه الدراسة التي تكونت لدينا بهذه المفاهيم الجمالية والأدبية والروائية التي ارتبطت برباط منهجي .. سواء كانت هذه الروابط ذات طابع فلسفي أو أدبي فقد تشكلت لدينا على أساسها عدة علاقات ثنائية ينطلق بنائه من العام إلى الخاص وبفضل المقولات الجمالية من واقعية وفنون جميلة وأدب.
من العام إلى الخاص وبفضل المقولات الجمالية من واقعية وفنون جميلة وأدب ورواية تمكنا من إجلاء العلاقة الأعم "فن واقع" حتى في التأسيس لمفهوم المسافة الجمالية الذي أومأ إليه الدارسون من بعيد دون أن يواجهوا تفصيلاته، ويغوصوا في أعماقه. وعلى الرغم من حجم الصعوبات الكبير الناتج عن اتخاذ المقولات الجمالية أدوات في التحليل المنهجي، فقد وجدنا أنها عامل فعّال في قراءة الرواية على نحو عميق وجديد. إلا أننا ركزنا في كتاباتنا على طبيعة المقولات الجمالية للرواية أو بعبارة أدق على سياقها الجمالي والتاريخي والحفاظ على معالمها ونظرياتها كنظرية الرواية والرواية الواقعية التي تنحدر الرواية الواقعية السورية عنها وكذلك معرفة إلى الحد الذي استطاع الروائيون أن يحققوه .







موسوعة تاريخ الأدب والنقد والحكمة لعربية والإسلامية
في العصر الحديث
-4-
المجلد الثاني عشر
النثر وفنونه

حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية





حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية

مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط

ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب









.
أعلام النثرفي الأدب العربي الحديث


ا ـ عباس محمود العقاد (الناثر )1889-1964م:
أ- حياته وآثاره:
وُلد عباس محمود العقاد بأسوان في سنة 1889 لأسرة مصرية متوسطة، وقد أخذ يختلف -منذ نشأته الأولى- إلى "الكُتَّاب"، ثم إلى المدرسة الابتدائية، وتخرَّج فيها سنة 1903، وكان يلفت معلميه بذكائه ومواهبه الأدبية.
وكأنه رأى أن يختصر الطريق، فرحل عن بلدته وهو في السادسة عشرة من عمره، ولم يُكمل دراسته في المدارس والمعاهد الرسمية؛ بل أخذ يكلمها بنفسه معتمدًا على ذهنه الخصب، والتحق ببعض الوظائف الحكومية، ثم تركها إلى القاهرة وعمل بالصحافة.
ولا نكاد نمضي في الحلقة الثانية من هذا القرن حتى نجده في المدرسة الإعدادية يعلم بها التلاميذ مع صديقه إبراهيم عبد القادر المازني، وارتبط بهذه الصداقة عبد الرحمن شكري، وبذلك تألف هذا الجيل الذي كان يفهم الشعر على طريقة جديدة في ضوء ما يقرأ من الأدب الإنجليزي؛ بل الآداب الغربية المختلفة.
ويخرج شكري الجزء الثاني من ديوانه سنة 1913، فيقدم له العقاد كما يقدم لديوان المازني الذي أخرجه في سنة 1914، وتتم لمصر على أيدي هذا الجيل دورة جديدة في شعرها. وقد أخذ المازني والعقاد يكتبان في النموذج الجديد ويهاجمان النموذج القائم عند حافظ وشوقي. وتصدى المازني لحافظ في مجلة عكاظ سنة 1914، وتصدَّى العقاد لشوقي في كتاب "الديوان" سنة 1921.
وأخرج العقاد أول ديوان من دواوينه سنة 1916، وتعاقبت دواوينه حتى بلغت أربعة، وطُبعت في سنة 1928 مجموعة باسم "ديوان العقاد". ولا تضع الحرب الأولى أوزارها حتى نجد المازني والعقاد جميعًا يتركان التعليم إلى الصحافة، ويتعرف العقاد على سعد زغلول، ويصبح كاتب حزب الوفد ولسانه في الجمهور.
وكان يكتب في جريدة البلاغ الوفدية، فنهض فيها بالمقالة السياسية، مقتبسًا كثيرًا من آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين، وخاصة في مجال الحرية وحقوق الشعب السياسية. وقاد في هذه المقالة معارك مع كُتَّاب الأحزاب الأخرى مثل هيكل كاتب الأحرار الدستوريين، وهي معارك ارتقت بفن الهجاء العربي القديم، فلم يعد هجاء شخصيًّا؛ بل أصبح هجاء حزبيًّا يستمد من المبادئ العامة ومن فكر راقٍ نشيط.
وفي هذه الفترة - أي: في العشرة الثالثة من هذا القرن- رأى العقاد وهيكل وطه حسين والمازني أن ينقلوا إلى قرائهم مباحث الأدب والنقد الغربية، ويشفعوها بنظرات تحليلية في المفكرين الغربيين. وكان ذلك سببًا في ظهور ملاحق أدبية للصحف اليومية، فأخرج هيكل السياسة الأسبوعية، وأخرج العقاد أو أخرجت جريدة البلاغ الوفدية مجلة البلاغ الأسبوعية، ونتج عن ذلك نهضة أدبية واسعة. وأخذ هؤلاء الكُتاب يجمعون مقالاتهم الممتازة في كتب وينشرونها، فنشر العقاد غير كتاب مثل: "مراجعات في الآداب والفنون" و"مطالعات في الكتب والحياة" و"الفصول"، وهي تصور هذا الجهد العقلي الخصب الذي اضطلع به في حياتنا الأدبية، فقد نقل إلينا كثيرًا من الأفكار الأوربية التي لم تكن تعرفها العربية، وسلَّط عليها من شخصيته ما طبعها بطابعه الخاص.
وفي أثناء حكم صدقي "1930-1934" دخلت مصر في ظلال عهد استبدادي أُلغي فيه الدستور والحياة النيابية، فثارت ثائرة كُتاب الأحزاب وعلى رأسهم العقاد، فكتب كتابه "الحكم المطلق في القرن العشرين" وهو أغنية بارعة في الديمقراطية وصلاحيتها للأم الشرقية. وتناول في بعض مقالاته الملك الطاغية فؤادًا، وقُدِّم بسببها إلى المحاكمة، وحُكم عليه بالسجن تسعة أشهر. وقد وصف حياته في السجن بكتابه "عالم السجون والقيود". وبعد خروجه من السجن نشر ديوانه "وحي الأربعين"، كما نشر بحثًا له في "شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي"، ونشر أيضًا بحثًا في ابن الرومي كما نشر قصته "سارة" وديوانه "هدية الكروان"، غير مقالاته المختلفة في المقتطف والهلال.
وتوالت الأحداث فانشق النقراشي وأحمد ماهر على حزب الوفد، فانضم إليهما، وظل يكتب في جريدة الأساس حتى امتنعت عن الظهور. وعُين عضوًا في مجلس الشيوخ وفي مجمع اللغة العربية. والى نشاطه فأخرج دواوينه: "عابر سبيل" و"أعاصير مغرب" و"بعد الأعاصير".
واتجه إلى كتابة التراجم والسير، فكتب في "محمد" و"المسيح" عليهما السلام، وفي أبي بكر الصديق وعمر وعلي، كما كتب في مجالات كثيرة، فتارة يكتب عن الفلاسفة الغربيين والفلاسفة الإسلاميين، وتارة يكتب في موضوعات عامة مثل "عقائد المفكرين في القرن العشرين". ومن طريف كتبه "الله" وله أيضًا "إبليس" و"أبو نواس". وبلغ ما كتبه نحو ستين مؤلفًا كلها تمتاز بحيوية التفكير.
وعباس العقاد بدون ريب عَلَمٌ من أعلام نثرنا الحديث، وقد ظفر نثرنا عنده ببراعة فائقة على أداء المعاني في لفظ جزل رصين، فيه قوة ومتانة، وفيه دقة تشعرك بسيطرة صاحبها على المادة اللغوية، فهو يعرف كيف يصوغ كلمه، وكيف يلائم بينها ملاءمة، يجد فيها قارئوه اللذة والمتعة.
والعقاد يمتاز بهذا الأسلوب الرصين منذ أخذ يكتب مقالاته في أوائل هذا القرن، وهو أسلوب يدل على ما وراءه من ثقافة عميقة بآدابنا العربية، استطاع ن يشتق لنفسه خلال التعمق فيها صياغته البديعة، التي لا ينبو فيها لفظ؛ بل تجري الألفاظ في نسق محكم مطرد.
ولم يتمثل الآداب العربية وحدها، فقد تمثل أيضًا الآداب الغربية تمثلًا دقيقًا، نفذ من خلاله إلى ثراء عريض في معانيه، وهو ثراء لا يستمد فيه من الغرب فحسب؛ بل يطبعه بملكاته، فإذا هو له وإذا هو من صنعه، صنع عقله المشتعل الذي يستقل -رغم محصوله الواسع من الثقافات- بتفكيره وإلحاحه في هذا التفكير إلحاحًا يستحدث في تضاعيفه كثيرًا من الخواطر والآراء.
واقرأه في كل ما يكتب فيه من سياسة وأدب وفلسفة ونقد واجتماع وتحليل للشخصيات فسيروعك عقله الخصب، الذي لا يزال يلح على الفكرة بتوليداته واستنباطاته؛ حتى تتحول من بذرة صغيرة محدودة إلى شجرة باسقة الظلال. وحقًّا قد نجد عنده أحيانًا ضربًا من الصعوبة؛ ولكنها ليست الصعوبة التي تنشأ من الغموض في أفكاره، وإنما الصعوبة التي تنشأ من العمق فيها، فإذا تعمقت معه أصبت لذة لعقلك وشعورك معًا.
فنثره في بعض جوانبه يحتاج منك إلى التمهل والروية، وهما لا يضيعان عبثًا؛ بل تجد فيهما متعة حقًّا، وهي متعة لا تأتي فقط من طرافة تفكيره وعمقه البعيد؛ وإنما تأتي أيضًا مما يشفع به كتاباته من منطق حاد، يأخذ بزمام قارئه، فلا يستطيع منه إفلاتًا؛ بل يذعن ويخضع لأدلته الصارمة. ومن ثم كان إذا ناضل في أي رأي سرعان ما ينتصر؛ بفضل براهينه وأسلحته المنطقية وملاءمته بين هذه البراهين والأسلحة ملاءمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة.
ومن أهم ما يميزه مواقفه الثابتة في الحياة وفي الآراء الأدبية، فهو يقف دائمًا عند رأيه ويثبت ثباتًا، كأنه حصن من حصونه، يعيش فيه، ويعيش له، ويذود عنه ذياد العربي الأصيل عن عِرْضِه. ويروعك عنده دائمًا أنه يؤمن بوطنه وعروبته، وأنه يشعر في أعماقه بأنه يستمد حياته من حياة أمته، فهي دائمًا نصب عينه لا تغيب؛ بل هي دائمًا النبع الروحي لأحاسيسه ومشاعره، بكل ما تموج به من أحداث سياسية وكل ما تُزْهى به من أمجاد ماضية. وقد نال في سنة 1960 جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهًا بأعماله الأدبية. شعره:
يتضح مما قدمنا من حياة العقاد أن عناصر كثيرة تُسهم في تكوين شعره وشخصيته الأدبية، فهو مصري، يستشعر أمجاد المصريين في ضميره وقلبه، وهو عربي، وقد توفر على قراءة الأمهات العربية في النثر والشعر والفلسفة والتصوف، وهو غربي التفكير، تزوَّد من آداب الغرب بكل ما استطاع من غذاء عقلي، فهو مع إيغاله في قراءة الأدب الإنجليزي يتوغل في قراءة الآداب الغربية المختلفة عن طريق اللغة الإنجليزية التي يتقنها، كما يتوغل في قراءة الآثار النقدية.
وعرفنا أنه لم يكمل دراسته العالية؛ ولكنه عوضها بأستاذ صارم من نفسه، دفعه إلى تعهد عقله بالقراءة والتثقيف وشحذ مواهبه بالإدمان الطويل على النظر في آثار الشعراء المختلفين. ونراه في مطالع شبابه يقود مع شكري والمازني معارك التجديد في شعرنا. ومن الغريب أنهما خرجا من الميدان مع الحرب العالمية الأولى، أما هو فثبت فيه إلى اليوم، وكأنه يقوم عنده على دعائم ثابتة، وليست هذه الدعائم إلا روحه القوية التي تؤمن دائمًا بمثل أعلى، ثم تسعى إلى تحقيقه في جهاد متواصل لا يعرف التواني ولا الفتور.
ونحن نلقاه في ديوانه الأول المؤلف من أربعة أجزاء كما نلقاه في ديوانه الأخير "بعد الأعاصير" بنفس الشخصية. ومن يطلع على ديوانه الأول يستطيع أن يلاحظ فيه قصيدة نونية نظمها على نمط قصيدة لابن الرومي وأخرى نظمها خمرية على نمط ابن الفارض؛ ولكن النمط الأول هو الذي كان يتفق مع روح جماعته الأدبية المتشائمة. ولعل ذلك ما جعله يخص ابن الرومي بكتاب، فقد شُغف به منذ فجر حياته الشعرية؛ لأنه وجد عنده نفس الأنغام التي كانت تعجب بها مدرسته، أنغام الحزن والشكوى من الدهر والناس. وليس معنى ذلك أن العقاد كان يُعْنَى بمعارضة ابن الرومي والصب في قوالبه على مثال ما عُنِيَ شوقي بمعارضة البحتري مثلًا. فالعقاد يستقل في شعره وقوالبه عن ابن الرومي وغيره على نحو ما يستقل خليل مطران عن شعراء العرب، فهو مثله يستوعب الصياغة القديمة؛ ولكنه لا يفنى فيها ولا يتحول إلى قوالبها يصب فيها أو يسكب ما في نفسه، فحسبه أن يتمثلها، ثم تصبح ملكًا له يستخدمها كما تشاء ملكته الفنية دون أن يظهر عنده اتباع أو تقليد واضح إلا في القليل النادر.
وهو من هذه الناحية يُعْنَى بأسلوبه عناية واسعة، وهي عناية تقوم على الجزالة والمتانة واستخدام اللفظ الفصيح؛ بل لا بأس أحيانًا من استخدام اللفظ الغريب، ولعل ذلك ما جعله يكثر في هوامش ديوانه الأول من شرح الكلمات؛ ولكنها غرابة في حدود ضيقة؛ إذ يغلب على أساليبه الوضوح، كما تغلب عليها المرونة. ويدخل في هذا الاتجاه محافظته على الأوزان العروضية القديمة، فهو ليس ممن يرون التجديد في الأوزان ولا ممن ينزعون إلى استخدام الموشحات الأندلسية وإن كان يستخدم الشعر الدوري كثيرًا؛ لكنه على كل حال شكل قديم. وكأنما كان يرى التجديد في المعاني دون الألفاظ والعروض، وهذا ما يجعل لشعره الجديد إطاره المستقل، وهو إطار لا يخرج على الأوضاع القديمة؛ بل يستغلها ويوسع في جنباتها لتحتمل تجربته الحديثة.
ومن غير شك هو من هذا الجانب يختلف عن شكري الذي حاول التحلل أحيانًا من القوافي القديمة، كما حاول التحلل أحيانًا من اللغة الجزلة الفصيحة. وهو يختلف عنه من ناحية ثانية، فإنه لا يبلغ مبلغه من البؤس والتشاؤم والحزن العميق؛ بل تتألق أمام عينيه في ظلمات يأسه الآمال، فهو حزين، ولكنه طامح، وهو طموح ينتهي عنده إلى تمرد على الحياة، وسخرية مرة بها وبالناس، بل هو طموح ينتهي عنده في كثير من الأحوال إلى فرح بالحياة وما فيها من متع ونعيم.
ومن أهم ما يميزه استيعابه للفكر الغربي، وهو يعلنه منذ ديوانه الأول ولا يخفيه، فقصيدته الرابعة فيه معربة عن شكسبير وعنوانها "فينوس على جثة أدونيس"، ونمضي في الديوان فنجده يترجم له قطعة من مسرحية "روميو وجولييت"، كما نجده يترجم قطعة عن الشاعر الإنجليزي كوبر بعنوان "الوردة"، ويترجم عن بوب قطعة بعنوان "القدر" .
وهذه القطع المترجمة ليست أكثر من رموز إلى ثقافته بالآداب الغربية، وهي ثقافة تتعمقه، ومع ذلك استطاع أن يتحرر منها كما تحرر من ثقافته العربية؛ ليجد نفسه وشخصيته وروحه المصرية الجديدة. وهي روح تبرز عنده -كما يمثلها ديوانه- في اتجاهين، أما أولهما فالوقوف بآثار الفراعنة وإشادته بحضارتنا القديمة، ومن خير ما يصور ذلك قصيدتاه "أنس الوجود" و"تمثال رمسيس". وأما ثانيهما فوصف عواطفنا السياسية والوطنية، وأروع ما يصور ذلك قصيدته "يوم المعاد" التي نظمها بعد رجوع سعد زغلول من منفاه، وفيها يقول:
ما يبتغ الشعب لا يدفعه مقتدر ... من الطغاة ولا يمنعه مغتصب
فاطلب نصيبك شعب النيل واسم له ... وانظر بعينيك ماذا يفعل الدأب
ما بين أن تطلبوا المجد المعد لكم ... وأن تنالوه إلا العزم والطلب
وهو في الاتجاهين جميعًا يختلف عن زميله شكري الذي لم يكن يُعْنَى بالتغني بأمجادنا القديمة وعواطفنا الوطنية إلا نادرًا؛ إنما كان يُعْنَى قبل كل شيء بنفسه وخواطره الذاتية.
ومما يمتاز به العقاد أيضًا في ديوانه الأول أن الوَحْدَة العضوية للقصيدة تتكامل عنده، فلم تعد أنغامها تتبدد بين موضوعات مختلفة؛ بل أحكم التآلف بينها؛ بحيث أصبح للبيت في القصيدة مكانه الذي لا يعدوه، فهو جزء من كل، أو هو عضو من جسد واحد، ومن الصعب أن ينقل إلى غير مكانه أو ينزع من موضعه.
وليس هذا وحده ما يمتاز به العقاد في تجربة المدرسة الجديدة، فقد نَمَّى بناء القصيدة العام تسعفه في ذلك ثقافته الواسعة بالآداب الغربية، ولسنا نقصد البناء اللفظي؛ وإنما نقصد البناء المعنوي، وما يزخر به شعره من تأملات وتوليدات عقلية يرسلها على كل ما حوله خاضعًا للمنطق خضوعًا شديدًا. وأهم الموضوعات التي تستنفد شعره في ديوانه الأول بأجزائه الأربعة الحب والطبيعة، أما الحب فنراه يعبر فيه تعبيرًا دقيقًا عن المشاعر والإحساسات الدفينة، ومن خير قصائده فيه "نفثة" التي يستهلها بقوله:
ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا ... عذب المدام ولا الأنداء ترويني
وقصيدته التي نظمها في قطعتين بعنوانين متواليين "مولد الحب، وموت الحب"، وفيها قارن بين مولد الحب ونهايته السريعة مقارنة طريفة.
وتحتل الطبيعة الصامتة والمتحركة حيزًا واسعًا في الديوان، وقد خص النيل بقصائد كثيرة لعل أهمها "على النيل". ووقف كثيرًا عند الليل، وله قصيدة بديعة في الصحراء وقصائد مختلفة في البحر، ويحرك القمر ببهائه فيه كثيرًا من العواطف الحية. ونراه يولع بتصوير فصول السنة، كما يولع بعالم الزهور وخاصة بالوردة. ويقف طويلًا أمام عالم الطير تملؤه الرحمة كما يملؤه العطف والشفقة. وهو في كل ذلك يحلق بأفكاره في مدى بعيد من الحس والشعور والتأمل العقلي الواسع. ولا يخلو شعره من الفكاهة على نحو ما في قصيدته "ثقيل" كما لا يخلو من الأفكار الفلسفية الدقيقة على نحو ما نرى في قصيدتيه "الدنيا الميتة" و"الموسيقى".
وهذه الأنغام التي نستقبلها من ديوانه الأول المكوَّن من أربعة أجزاء هي نفس الأنغام التي نستقبلها بعد ذلك في دواوينه التي أخرجها من بعده، أو هي على الأقل أغلب تلك الأنغام. فقد أخرج ديوانًا سماه "وحي الأربعين"، وأكثره تأملات في الحياة وخواطر في الحب والطبيعة. وتلاه بديوان سماه "هدية الكروان"، نظم فيه كثيرًا من القصائد في هذا الطائر المصري الذي يملأ ليالي الوادي بأناشيده العذبة وترتيلاته الشجية، وأمُّ هذه القصائد قصيدته:
هل يسمعون سوى صدى الكرْوان ... صوتًا يُرفرف في الهزيع الثاني
وهي من قصائد ديوانه الأول، جعلها فاتحة قصائده في هذا الديوان والنبع الذي يستمد منه أنغامه وألحانه فيه. ولا نشك في أنه يستلهم في هذه القصيدة وذلك الديوان قصيدة شللي الشاعر الإنجليزي "إلى قبرة"، وهي من روائع هذا الشاعر وبدائعه، وفيها يشبه القبرة بالفرح المجرد. وليس معنى ذلك أن العقاد يقتبس من شللي أو ينقل، فهو يلهمه ويوحي إليه، أما بعد ذلك فمعانيه في قصائده له. وقد نحس نفس الإحساس إزاء كثير من قصائده بدواوينه المختلفة في الطبيعة والحب، ففيها جميعًا أثر قراءاته في الآداب الغربية؛ ولكنها مطبوعة بشخصيته، وتستمد من أفكاره وأحاسيسه ما يجعلها مصرية عربية صميمة.
ورأى في الغرب منزعًا نما بعد الحرب العالمية الأولى؛ إذ انصرف بعض الشعراء عن الحب والطبيعة والميثولوجيا القديمة إلى حياتهم الحاضرة، وحولوا كل ما فيها مما يُعد يوميًّا عاديًّا أو تافهًا إلى شعر لا يقل عن شعر الحب والطبيعة جمالًا وجلالًا. وفي داخل هذا الاتجاه أصدر ديوانه "عابر سبيل"، وفيه نراه يأخذ بعض الموضوعات اليومية ويفيض عليها من تأملاته العقلية والنفسية، على نحو ما نرى في قصيدته "كواء الثياب ليلة الأحد"، وهو يستهلها بقوله:
لا تنم لا تنم ... إنهم ساهرون
ومن قصائده في هذا اللون الجديد التي تؤثر في قارئها حقًّا قصيدة "صورة الحي في الأذن" و"نداء الباعة قبل انصرافهم في الساعة الثامنة". ونجد بجانب هذه القصائد متفرقات لعل أروعها قصيدته التي حيَّا فيها "دار العمال" ونعى ظلم الأغنياء لهم، بينما ينعمون بعرق جبينهم وجهد أيديهم.
وأخرج في الحرب العالمية الثانية ديوانه "أعاصير مغرب"، وسماه هذا الاسم إشارة إلى ظهوره وعالم الدنيا مضطرب بأعاصير الحرب وعالم نفسه مضطرب بأعاصير مختلفة من حب وغير حب. وهو موزع فيه بين العالَمين، وفيه كثير من الرثاء وشعر المناسبات، ولعل أروع قصائده فيه قصيدته في المذياع أو كما سماه "صَدَّاح الأثير"، وهو يفتتحها بقوله:
ملأ الآفاق صداح الأثير ... لا فضاء اليوم بل صوت ونور
وآخر دواوينه "بعد الأعاصير"، وأكثره مراثٍ ومناسبات، وضمنه مرثية ومقالة بديعة في صديقه المازني .



2 ـ عز الدين التنوخي
1889 - 1966
من أعلام اللغة عاش حياته مع المعاجم والكتب ولا سيما كتب الأدب والبلاغة والمخطوطات التي تتصل بعلوم العربية , وقد حقق ونشر أكثر من كتاب واحد .
ولد في عام 1889 في دمشق وبدأ حياته بتعلم القرآن في المدرسة الابتدائية السباهية . ثم درس مبادئ اللغات : العربية والتركية والفارسية والفرنسية في المدرسة الرشيدية الابتدائية والعالية , ثم انتقل إلى مدرسة الفرير الفرنسية ومنها إلى مصر لطلب العلم في الأزهر , وعاد بعد الأزهر إلى فرنسا مع البعثة العلمية الأولى الدمشقية ليدرس الزراعة في إحدى مدارسها فمكث ثلاث سنوات .
ولم يكد يرجع ليتولى التدريس في المركز الزراعي في بيروت حتى تنشب الحرب العالمية الأولى ويدعى لخدمة العلم .
وإذ كان كالكثيرين من شباب العرب يضطرم قلبهم بحب العروبة وببغض الأتراك الذين اضمروا السوء للعرب , فقد فر من الجيش التركي بحلب والتحق بثورة الملك حسين , ولم تكد تنتهي الحرب العالمية ويدخل الجيش العربي سورية حتى عاد إلى دمشق ليساهم مع إخوته الشباب وإذ كان ممن يمتلكون ناصية العربية في تلك الفترة التي كانت اللغة التركية هي الطاغية على لغة الدواوين عين عضوا ً في ( مجلس المعارف ) الذي الفته الوزارة والذي تحول فيما بعد إلى ( المجمع العلمي العربي ) .
ولم يمكث طويلا ً في دمشق , فيعد العدوان الفرنسي عليها واحتلالهم سورية – هاجر إلى العراق فعين أستاذا للأدب العربي في دار المعلمين ثم دار المعلمين العالية في بغداد , وظل سنوات إلى جانب ساطع الحصري عاد بعدها إلى دمشق . ليعين أمينا لسر المجمع العلمي العربي وليتولى التدريس في المدارس الثانوية وفي كلية الآداب , وظل في البيئة التدريسية إلى أن أحيل على التقاعد فعين نائبا ً لرئيس مجمع اللغة العربية . وظل يشغل هذا المركز الذي يوائم ثقافته ونفسيته إلى آخر يوم من حياته .
(( لم يكن الأستاذ التنوخي مرجعا ً في كتبه ومؤلفاته التي أنشأها وحققها وترجمها فحسب . بل كان في حياته في المجمع موئلا ً لأعضائه وموظفيه وزواره , يرجعون إلى ذاكرته فيما يستعصي عليهم معرفته من كلمة لغوية أو نادرة نحوية أو قضية فقهية أو مشكلة تفسيرية , فكان أسرع في الإجابة إلى كل ذلك من الكتاب نفسهم . وكانت إجابته لا يأتيها الباطل أبدا ً لشدة تثبته بما يقول , وتأكده مما يروي .
وكان كل عالم عنده معرض للخطأ لأنه إنسان يخطئ ويصيب . كما كان كل كتاب في رأيه غير خال من العيب لان الكمال لله وحده .واذكر شاهدا ً على هذا إنني شاهدته يراجع الجزء الأول من المعجم الكبير ( تاج العروس ) للزبيدي , وقد ملأ حواشيه بملاحظاته القيمة وتعليقاته الرائعة . وبعد أن قرأ علي شيئا ً من هذا قال : ( إن الزبيدي ذاته لم يسلم من الخطأ في هذا المعجم الرائع ) ودلني على عثرة تاريخية تورط بها هذا العالم الكبير . وقد كان رحمه الله يقرأ لي ثم يقول : ( لا تستغرب أن يقع الزبيدي في الخطأ فقبله وقع في الأخطاء ابن منظور وابن سيده والفيروز اباداي والجوهري والفيومي إلى آخر هذه الأسماء التي خلدت بمجهودها اللغوي وبحثها العلمي والنحوي . )) .
كان ينظم الشعر ويخطب في المناسبات وهو يملك ناصية القول , وقد شهدته في أكثر من مناسبة قومية وفكرية فكان يعتلي المنبر لفترة محددة فلا يكاد يبدأ حتى يسترسل ويسهب إسهابا ً يدخل الملل إلى نفوس المستمعين .. وقد ينبه فلا يسمع ويل يتكلم , ويتكلم إلى أن ينقلب الملل لدى المستمعين سأما ً وضجرا ً .
ومن النكات التي تروى أن ظريفا ً دمشقيا ً شكره عقب حفلة عامة لم يخطب فيها , وفوجئ هو بهذه العاطفة الندية تخرج من هذا الإنسان الذي لا يفلت احد من نكاته اللاذعة , وسرعان ما استدرك وقال له : لكني لم اخطب أيها الأخ , في هذا الحفل ! وأجابه الظريف على الفور : جئت أشكرك لأنك لم تخطب .!!.
على أن هذه النكتة اللاذعة التي يرددها أدباء دمشق لا تنقص من فضل الرجل الذي يعد علم من أعلام اللغة التي صان ذمارها , وقد ترك الكثير من الآثار المطبوعة تأليفا ً وترجمة وتحقيقا ً أثبتها فيما يلي :
1- الفتح المبين في شرح عينية ابن سينا الرئيس .
2- دروس في صناعة الإنشاء .
3- مبادئ الفيزياء – جزءان .
4- قلب الطفل .
5- تحقيق كتاب . المنتقى من أخبار الأصمعي للإمام الربعي .
6- تحقيق ( تكملة إصلاح ما تغلط به العامة ) .
7- تحقيق ( بحر العوام في ما أصاب فيه العوام ) .
8- شرح الإيضاح للقزويني .
9- إحياء العروض .
10- تحقيق كتاب ( الإبدال لأبي الطيب اللغوي – جزءان .
11- تحقيق كتاب المثنى لأبي الطيب اللغوي .
12- تحقيق كتاب ( الإتباع ) .
13- تحقيق كتاب ( مقدمة في النحو ) لخلف الأحمر .
14- شارك في وضع المعجم العسكري بقسميه ( الفرنسي – العربي والانكليزي العربي ) .
وأكثرها مراجع وثيقة للكثيرين من الأدباء وطلاب الأدب .
من شعره : أكابرنا
أكابرنا ما المجد ؟ ما تطعمونه
وجاركم من جوعه , البطن يابس
أكابرنا ما المجد ؟ ما تكتسونه
وهذي اليتامى أعوزتها الملابس
أكابرنا ما المجد ؟ أما فطنتم
تراث أتاكم فجأة ومغارس
وأن تبتنى تلك القصور شوامخا ً
وأن تفتني للفخر فيها الملابس
وأن تنهبوا الفلاح أرض جدوده
وأن تسلبوه غرسه وهو غارس
وأن تأكلوا مال اليتيم وصاية
كما فعلت طلس الذئاب النواهس
وأن ترقدوا والحادثات يواقظ
وأن تضحكوا والكارثات عوابس
وأن تركبوا للسبق خيلا ً سوابقا ً
وخيلكم في المكرمات شوامس
لعمر العلى ما المجد زقا ً وقينة
ولا هو دور تقتني وعرائس
فما المجد إلا العلم يحيي مواتكم
وما المجد كل المجد إلا المدارس










3 ـ معروف الارناؤوط
1892 - 1948صحفي , أديب , روائي
ولد في بيروت سنة 1892 من خريجي الكلية العثمانية الإسلامية التي أنشأها الشيخ احمد عباس الأزهري كان منذ عهد التلمذة ميالا إلى الأدب , وقد عكف على دراسة العربية الفرنسية فتفوق فيهما على أقرانه , بدأ يكتب ويترجم وينشر مقالاته في جرائد ( البلاغ – والرأي العام – والإقبال ) فلفت إليه الأنظار .
اجتذبه الفن الروائي فعكف على مطالعة القصص الفرنسية وأفاد منها كثيرا ً . كان أسلوبه الإنشائي وخياله الجامح من العوامل التي مهدت له أن يلج ميدان القصة , فكتب وترجى أكثر من قصة واحدة , وهي قصص كانت تدور فصولها على المغامرة والبطولة وتستمد وقائعها من هذه الأحداث التي تشغل بال المواطنين العثمانيين .
في سنة 1916 طلب إلى الجندية , ويشير إلى ذلك بقوله :
( في سنة ست عشرة وتسعمائة وألف , ألقت بي حظوظي إلى مغاني استانبول , وأرادني القدر جنديا ً من جنود الحرب الكبرى التي روعت القصى والدني , فارتضيت ما لا يرتضيه العمر الطري الجني ) .
وقد ظل طوال مدة الحرب في الأستانة ينعم بجمال طبيعتها فاستيقظت في نفسه الكثير من الهواجس الأدبية فسجلها بأسلوبه الرائع الجميل .
لم تكد تنتهي الحرب العالمية حتى عاد إلى دمشق ليعمل في الصحافة , فأصدر في عام 1918 جريدة ( الاستقلال العربي ) بالاشتراك مع عثمان قاسم ورشدي ملحس لم تدم طويلا ً , وإذا كان من هواة الصحافة فقد أنشأ في عام 1919 مجلة أدبية باسم (( العلم العربي )) لم تكتب لها الحياة أيضا فتركها واصدر عام 1920 جريدة ( فتى العرب ) فاستمرت تصدر باستمرار مدة ربع قرن وظل يحررها ويكتب مقالها الافتتاحي إلى آخر يوم من أيام مرضه الوبيل . وقد كان للمقال الرئيسي الذي يكتبه صداه القوي في نفوس الساسة والأدباء معا ً , لأنه كان يصوغ الفكرات السياسية والاتجاهات القومية في قوالب من الأدب الرفيع غاية في الجزالة والإيقاع الموسيقي . مع انه كان ينهج في سياسة جريدته نهجا ً حرا ً يخالف أحيانا ً نهج الساسة , ومع ذلك فقد كانوا يجمعون على تقديره وعلى إكبار أدبه لإيمانهم بإخلاصه للقضية العربية ولكل ما يتصل بتاريخ العرب . وقد كان إلى عمله الصحفي , يغذي جريدته بالدراسات والبحوث : يكتب الفصول الأدبية والبحوث التاريخية , ويترجم المقالات السياسية عن الفرنسية وظل سنوات يتولى وحده تحرير الجريدة كلها .
ومع مشاغل الصحافة المتعبة المرهقة فقد انصرف إلى التأليف الروائي الذي بدأ به حياته الأدبية .
وكتابة الرواية هي الظاهرة التي انسجمت مع نفسيته وأدبه فقد امتلأت نفسه بأمجاد العرب وتاريخهم المجيد , ولا سيما تاريخ النبي محمد , فعكف سنوات يعد العدة لهذه الرواية التاريخية فما انبثق عام 1929 حتى كان بين يدي قراء العربية روايته الكبرى ( سيد قريش ) وهي في ثلاثة أجزاء قاربت صفحاتها الألف صفحة , فكان لصدورها دوي كبير في عالم الأدب , وسرعان ما كافأه المجمع العلمي العربي على إنتاجه فانتخبه في سنة 1930 عضوا ً بين أعضائه العاملين , واستمر إنتاجه الأدبي فاصدر سنة 1936 رواية كبيرة عن ( عمر بن الخطاب ) في أربعة أجزاء تناولت بأسلوب روائي شائق حياة العرب الاجتماعية والسياسية وكفاحهم في سبيل حرية الشام والعراق من زمن محمد قريش إلى زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب , ومن المؤسف أن لا يصدر منها غير جزأين فقط بلغت صفحاتهما السبعمائة . ثم اصدر في عام 1941 رواية ثالثة عن ( طارق بن زياد ) وأعقبها برواية رابعة عن ( فاطمة البتول ) ثم هده المرض فتوقف إنتاجه وهو في اكتمال كهولته , فلم يكد يتم العقد السادس من حياته حتى وافاه الأجل في اليوم الثلاثين من شهر كانون الثاني سنة 1948 . وكأنه كان ينتظر مصيره العاجل , ففي مقدمة إحدى رواياته يقول : ( ولئن بقي في الأمل طول , وفي الأجل فسحة , فسأكتب كثيرا ً , وأصور كثيرا ً , وأغنى كثيرا ً ))
ولكن القدر لم يرأف بهذا الأديب ليكتب كثيرا ً ويصور كثيرا ً ويغني كثيرا ً . ولو مد الله في اجله وعمر طويلا ً لترك للأدب العربي ثروة ضخمة ولكتب تاريخ أبطال العرب بأسلوبه الرائع وبيانه المشرق الذي تترقرق الحياة في كلمة من كلماته .
هذا وقد كان معروف الارناؤوط من المؤمنين بفكرة الإمبراطورية العربية فكتب في الدعوة إلى هذه الفكرة مئات المقالات , وقد برزت هذه الفكرة صورا ً حية حتى في رواياته .. ففي رواية ( سيد قريش ) – والمفروض أن تكون ذات إطار ديني – كانت الفكرات القومية اغلب , وما رأيت كاتبا ً استطاع أن يقرب بين وجهة نظر المسلمين والمسيحيين في القومية العربية ويحبها إليهم بل يجعلها عقيدة من العقائد كما فعل الارناؤوط , ومن يقرأ روايته هذه , ورواية ( عمر بن الخطاب ) فانه ينساق إلى هذه الآراء بدون تردد . فقد أبدع أيما إبداع في تصوير الشمائل العربية والنخوة العربية والبطولة العربية والكرامة العربية والاعتزاز بالقومية العربية – كل ذلك بتدليل منطقي وأسلوب شعري أخاذ ينفذ إلى أعماق النفوس – وقد وصف الدكتور سامي الدهان أسلوبه بقوله :
( يكتب على الورق كما ينسكب الربيع على الطبيعة فيورق ويزهو ويسحر ويضحك ويبتسم ويغني وينشد , وتشرق من خلال ذلك ألوان زاهية وأنوار مشرقة , فتقع على حلو اللفظ وضاحك المعنى وعاطر الصور ومجنح الخيال , تتسابق الألفاظ المدوية , والعبارات الضخمة والكلمات المختارة بين السطور كما تستبق الفتيات إلى عرس فتزغرد وتصفق وترقص وتنتشي وتسكر , ثم تخلف هذه الموسيقى التي تبدو للسامع عنيفة حينا ً هادئة حينا ً آخر كالطبيعة نفسها , أو كالموصوفات عينها , يصف المعركة فتسمع القعقعة والدوي , ويرسم الليل الساجي فترى الأشباح تسبح في الظلام , ويصور المحبين فتحس الثغور والصدور والقدود تلتقي وتنفصل , كأن عصا ً سحرية قد حركت المشهد وقادت المنظر فاتصل سحر السماء بالحديث , وانتقل عطر الزهر إلى المرأة , وحملت الملائكة إلى المحبوب فضائل الرجال وخصال الأبطال .
كل ذلك في كلمات جمعت للكاتب وجعلت طوع يديه يصففها ويرصفها في المحل المناسب , وتقع في الموقع الرضي , فلا تكاد تنبو لفظة إلا في القليل , فكأنه يقول الشعر من غير قواف , وكأنه يرصف الدر في السطور من غير أن تحس له تصنيعا ً كثيرا ً أو تكلفا ً ممجوجا ً , والغريب انك لا ترى عليه آثار التعب والإرهاق فهو يكتب الصفحات كما يكتب السطور , يسيل قلمه بالكتب هدارا ً كشلال يرغي ويزبد عند مسقطه , فإذا سار صفا وسكن ,وتقلبت على وجهه صور السماء وظلال الأحياء , ولذلك كتب فنال في الأدباء مرتبة الكاتب المحلق , والأديب المسترسل , وقد امتدحه لذلك شاعر القطرين خليل مطران , وقال فيه العالم الأديب الدكتور منير العجلاني يصف ( روعة إنشائه المشحون بالعطر والصدى واللون ) وكتب فيه صفيه الأستاذ الكبير شفيق جبري عميد الأدب في الشام يرسم ذكرى ثلاثين عاما ً معه يقول : ( كان يجب في فنه الألفاظ الحلوة المرحة الضاحكة , ويحرص على هذا الشكل من اللغة , وما اعرف كاتبا ً اجتمع له من حلاوة الألفاظ ومرح اللغة وبشاشتها ما اجتمع لمعروف الارناؤوط ) .





4 ـ ساطع الحصري 1880
من الأمانة لتاريخنا الأدبي المعاصر أن نؤرخ لهذا الرجل . وقد يقول قائل : ما لك تسلكه في عداد الأدباء وهو غير أديب , وغير شاعر , نعم , قد لا يكون ساطع الحصري أديبا ً من الأدباء الذين عرفوا بإشراق البيان وجزالة الأسلوب ولا سيما وقد عاش حياته العلمية الأولى في بيئة تركية , وأكثر من هذا انه حين تقلص حكم الأتراك عن الديار العربية وجاء إلى سورية سنة 1919 كان لا يحسن العربية ويكتبها بصعوبة فعكف على دراستها بجد واهتمام وما زال حتى استطاع أن يعبر عن أرائه بلغة تسودها العجمة والركاكة أحيانا ً إلى أن حسن بيانه , وأصبح يعبر عن أرائه بكثير من السهولة والوضوح – هذا الباحث الذي تجاوبت حياته , مع حياتنا الفكرية بشتى ظواهرها قد لا تنطبق عليه صفة الأديب بمدلولها العميق , ولا انك راني ترددت في أن اسلكه معهم . ثم قلت إن الرجل قد ساهم مساهمة فعالة في حركاتنا الفكرية ولا سيما التي لها صلة بالناحية القومية : وتاريخنا الأدبي , كما هو معروف , ذو ارتباط وثيق بتاريخنا القومي .. وكلاهما يتمم بعضهما بعضا ً .
ثم انه أوسع من كتب في القومية العربية بل يكاد يكون مؤرخها , وفيلسوفها الذي لم يشغله شيء بقدر ما شغلته هذه القومية التي كتب عنها أكثر من مائة بحث اشتملها أكثر من كتاب واحد من كتبه . وهو إلى ذلك من بناة النهضة التعليمية الكبرى في سورية .
لكل هذا كان من الواجب بل من الأمانة لتاريخنا الأدبي أن نسلكه في عداد من نترجم لهم .
إنه حلبي الأصل , يمني المولد . كان أبوه السيد محمد هلال الحصري من رجال العلم , درس في الأزهر ونال إجازته العلمية , وعقب عودته إلى حلب عين قاضيا ً في الباب , ثم في دير الزور ثم في حماة . ثم عين رئيسا ً لمحكمة الاستئناف في اليمن .. وفي صنعاء اليمن ولد ساطع الحصري .
وقد تنقل مع أبيه وهو طفل من صنعاء إلى آطنة إلى أنقرة ثم إلى طرابلس الغرب ثم عاد إلى اليمن ثانية , ومنها إلى قونية فطرابلس الغرب حيث عين فيها رئيسا ً لمحكمة استئناف الجزاء .
كان ساطع الحصري قد ترعرع ونما خلال هذه الفترات التي تقاذفت طفولته فدخل القسم الإعدادي في المدرسة الملكية في الآستانة وانقطع عن التجوال مع والده . وفي سنة 1316 هـ (1900م) تخرج من المدرسة الملكية وقد اختار سلك التعليم فعين معلما ً لتدريس العلوم الطبيعية في ( يانيا ) التي أصبحت جزءا ً من بلاد اليونان , وقد بقي هناك خمس سنوات , ثم انتقل من التعليم إلى الإدارة فعين قائمقاما ً على قضاء راويشنة التابع لولاية قوصوه . وهي اليوم جزء من بلغاريا ومن هناك إلى قائمقامية فلورينا التابعة لولاية مناستر وهي بالقرب من الحدود الفاصلة بين يوغسلافية واليونان .
وقد عمل وهو في سلك الإدارة مع الشباب الذين أعلنوا نزعاتهم الثورية ضد السلطان عبد الحميد , فكتب وخطب وكانت مناستر مركز الحركة الفعلية لثورة سنة 1908 .
بعد إعلان الدستور ترك السلك الإداري وانتقل إلى سلك التعليم فعين في المدرسة الملكية التي تخرج منها لتدريس ( علم الأقوام ) وتدريس ( فن التربية ) في دار الفنون وفي مدرسة دار الخلافة العلمية . كما تولى مديرية دار المعلمين عقب إخماد الحركة الرجعية وخلع السلطان عبد الحميد سنة 1909 .
ثم تولى تنسيق وإصلاح ( دار الشفقة ) . وفي بداية الحرب العالمية الأولى أسس مدرسة اسماها ( المدرسة الحديثة ) انشأ فيها فرعا ً للأطفال سماه ( عش الطفولة ) وفرعا ً آخر لتخريج معلمات لرياض الأطفال سماه ( دار المربيات ) .
عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى وجلاء الأتراك عن البلاد العربية ترك الآستانة وجاء إلى سورية ليساهم في خدمة وطنه , فعين في مديرية المعارف ثم وزيرا ً للمعارف في عهد الملك فيصل , ولما تقلص الحكم العربي بدخول الفرنسيين سافر مع الملك فيصل إلى أوروبا .
وحين تولى عرش العراق استدعاه فشغل عدة مناصب في سلك التعليم وعمل على النهوض بمعارف العراق , ثم تولى رياسة كلية الحقوق , فمديرية الآثار القديمة حيث عني بآثار العراق والآثار العربية بصورة خاصة . وظل فيها مدة عشرين عاما ً ... ثم جاء سورية فعين فيها مستشارا ً فنيا ً لوزارة المعارف مدة ثلاث سنوات ادخل خلالها تغييرا ً كبيرا ً في مناهج التعليم .
ومن سورية إلى مصر حيث عين أستاذا ً محاضرا ً في معهد التربية العالي للمعلمين .. ثم عهد إليه بمستشارية الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية , وكان ذلك حتى سنة 1951 , ثم مديرا ً لمعهد الدراسات العربية العالمية في مصر . وهو من مؤسسيه , وقد ترك مديرية هذا المعهد واكتفى بالتدريس وإلقاء المحاضرات .
كانت نشأته الدراسية ذات اتصال بالعلوم الطبيعية , وقد اشتغل عدة سنوات بتحنيط الحيوانات وتيبيس النباتات , ثم مال إلى دراسة الفلسجة ولا سيما الأبحاث المتعلقة بأفاعيل الجهاز العصبي , وهذه الدراسات هي التي أوصلته إلى الاهتمام بعلم النفس , وهذا بدوره أوصله إلى فن التربية الذي أصبح شغله الشاغل فيما بعد ..
واهتمامه بعلم التربية هو الذي حمله أيضا على الاهتمام بعلم الاجتماع وبالنقد التاريخي .
عمل في الصحافة العلمية فاصدر وهو في استانبول مجلة باسم ( أنوار العلوم ) وعندما تولى شؤون التربية والتعليم أسس مجلة ( التدريسات الابتدائية ) ثم اصدر مجلة التربية ) .
زار أوروبا أكثر من مرة . وقضى فترات من حياته في سويسرة وفرنسا وانكلترا وبلجيكا وألمانية والنمسا ورومانيا وايطاليا وهولندا للاستطلاع تارة ولدرس احدث مناهج التربية تارة أخرى . وحضور المؤتمرات الدولية أحيانا .
وقد سافر إلى اسبانيا لزيارة معالم الأندلس وكان ذلك سنة 1926 ومن هناك إلى شمال إفريقيا فزار مراكش والجزائر وتونس ثم صقلية لدرس الآثار العربية وكان ذلك سنة 1939 .
هذه خطوات سريعة عن ساطع الحصري , العربي المفكر الباحث الذي تأرجحت حياته بين سلك الإدارة وسلك التعليم . كان في جميع مراحل حياته ينزع نزعات جديدة حرة لتهيئة عقول النشء وصبها في قوالب جديدة لتساير التطور في أوسع معانيه . وقد اقتصرت جهوده في الوطن العربي على النهوض بالمستوى التعليمي وربط أجزاء البلاد العربية عن طريق مناهج التدريس في وحدة شاملة . ووفق في ذلك بعض التوفيق . وله تلامذة ينهجون نهجه ويرون في تحقيق تعاليمه ما يمهد لخلق إمبراطورية عربية كبرى .
اصدر خلال حياته الفكرية أكثر من عشرين كتابا ً تدور كلها حول اتجاهات التعليم وتوحيد المناهج في البلاد العربية , إلى قضايا القومية بمفهومها الشامل ولاسيما القومية العربية التي اولاها الكثير من اهتمامه ودراساته .
وفيما يلي إلماع إلى هذه الكتب :
1- دراسات عن مقدمة ابن خلدون ... وهو في جزأين نيفت صفحاته على الخمسمائة صفحة عرض فيها عرضا ً شاملا ً نظريات ابن خلدون في علم الاجتماع وفلسفة التاريخ على ضوء احدث نظريات رجالات الفكر الأوروبي وفلاسفته ويتميز كتابه هذا بجدة البحث وعمق التفكير , وربما كانت دراساته هذه أوفى دراسة علمية صدرت في العربية عن هذا الفكر العربي الكبير .
20- نقد تقرير لجنة مونرو ( عن معارف العراق ) .
3- الإحصاء ( محاضرات عن علم الإحصاء ) .
4- تقارير عن إصلاح المعارف في سورية .
5- تقارير عن أحوال المعارف في سورية .
6- يوم ميسلون .
7- صفحات من الماضي القريب .
8- أصول التدريس – تدريس اللغة العربية .
9- أصول التدريس – الأصول العامة .
10- حولية الثقافة العربية ( خمس سنوات ) وهي اصدق مرجع عن شؤون التربية والتعليم في جميع البلدان العربية .
11- محاضرات نشوء الفكرة القومية – وقد ألقيت في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية بالقاهرة بدعوة من كلية الآداب بجامعة القاهرة .
12- آراء وأحاديث في التربية والتعليم .
13- آراء وأحاديث في الوطنية والقومية .
14- آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة .
15- آراء في التاريخ والاجتماع .
16-آراء في القومية العربية .
17- العروبة أولا ً .
18- البلاد العربية والدولة العثمانية .
19- دفاع عن العروبة .
20- آراء وأحاديث في اللغة والأدب .
21- العروبة بين دعاتها ومعارضيها .
22- ما هي القومية ؟ .
23- حول القومية العربية .
24- ثقافتنا في جامعة الدول العربية .
25- أبحاث مختارة في القومية العربية .
26 المذكرات .
إلى كتب غيرها في طريقها إلى المطبعة وأكثرها يدور حول القومية العربية الموضوع الذي شغله , بعد شؤون التعليم , أكثر من كل موضوع آخر . فكتب فيه المطولات حتى اعتبر في نظر الكثيرين فيلسوف القومية العربية ومؤرخها الكبير .
ـ محمد عبده 1849-1905م:
حياته وآثاره:
وُلد محمد عبده في سنة 1849 في قرية "حصة شبشير" من قرى مديرية الغربية، ويقال: إن أباه هاجر إليها من بلدته الأصلية "محلة نصر"، وهي إحدى قرى مديرية البحيرة؛ وذلك فرارًا من ظلم الحكام حينئذ، ولم يلبث أن عاد إليها مع زوجته وابنه، وكان له زوجات غيرها وأبناء آخرون.
ويظهر أنه كان من وجهاء قريته، يدل على ذلك مسلكه في تعليم ابنه، فإنه أحضر له معلمين في منزله علموه القراءة والكتابة، وحفظ على أيديهم القرآن الكريم، وفي الوقت نفسه نشَّأه على ركوب الخيل وحب الفروسية. ولما بلغت سنه الثالثة عشرة حمله إلى بلدة طنطا إحدى مراكز التعليم الديني في هذا الوقت، فجود القرآن على بعض القراء المشهورين، ومكث في ذلك عامين، ثم انتظم في المعهد الديني بين طلابه، وظل فيه عامًا ونصف عام لم يفتح الله عليه فيهما بشيء.
ولم يكن ذلك لغباء فيه، فقد كان فطنًا ذكيًّا؛ وإنما كان بسبب عقم التعليم الديني حينئذ في الأزهر وملحقاته بطنطا وغير طنطا، إذا انتهى هذا التعليم إلى طريقة ملتوية شديدة الالتواء، فيها يعقَّد كل شيء. وكان أول ما يدرس في النحو "شرح الكفراوي على متن الآجرومية"، وعبثًا حاول محمد عبده أن يفهم شيئًا مما يقوله شيخه، فقد رآه يبدأ بكلمة "بسم الله الرحمن الرحيم" البسيطة السهلة، فلا يفهمها كما هي؛ بل يثير مع الكفراوي شارح الكتاب بعض المشكلات حولها، فهي تعرب على تسعة أوجه، ويأخذ الشيخ في توجيه هذه الإعرابات قبل أن يعرف الطلاب شيئًا عن النحو وعن تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف.
وضاق محمد عبده بهذه الطريقة العقيمة في التعليم، ورجع إلى قريته، فزوجه أبوه، وحاول أن يرجعه إلى سيرته في التعليم الديني. وصدع لأمر أبيه وأعدَّ عدة الرحيل، ولكن بدلًا من أن يذهب إلى طنطا ذهب إلى أخوال أبيه، وكانوا يقيمون في قرية قريبة من قريته. وتصادف أن كان بينهم شخص يسمى "درويش خضر" تقلب في البلاد حتى وصل إلى ليبيا، وهناك تعرَّف على الشيخ السنوسي وتلقَّى عنه تعاليمه، وهي تلتقي إلى حد كبير مع تعاليم الوهابية. وأنس محمد عبده لهذا الخال المتصوف أو هذا الشيخ، وأخذ يقرأ معه بعض رسائل صوفية، وجد فيها القبس الذي كان يفتقده.
وتبدل محمد عبده بتأثير هذا الشيخ من صبي عابث إلى فتى جاد، يحس إحساسًا عميقًا كأن عليه رسالة في الحياة: أن يَهْدي الناس إلى الطريق المستقيم في الدين. ورحل إلى طنطا، فتلقى على الشيوخ بها بعض الدروس، ولم يلبث أن تحول إلى الأزهر، يعب من علومه الدينية واللغوية. وفي نهاية كل عام كان يعود إلى بلدته، فيجد الشيخ درويش في انتظاره؛ لينفخ في روحه. وكان واسع الأفق، فكان يسأله: هل تعلمت المنطق؟ هل تعلمت الحساب والهندسة؟ وكان في الأزهر عالم عظيم من علمائه يسمى الشيخ حسن الطويل يُعْنَى بإلقاء محاضرات في الفلسفة والهيئة، فانتظم محمد عبده بين تلاميذه.
وتصادف أن نزل مصر سنة 1871 السيد جمال الدين الأفغاني، يحمل في صدره وعلى لسانه دعوته للنهوض بالإسلام والمسلمين ضد الاستعمار والمستعمرين، وكانت مصر قد أخذت تتحرك، وأخذ الرأي العام فيها يتكون، وأخذ الناس يشعرون أن حقوقهم مسلوبة، سلبها إسماعيل وأسرته، وكانت مساوئ السياسة المالية التي سار عليها هذا الحاكم أخذت تتضح للجميع، فقد فُرضت على البلاد الرقابة المالية والمراقبة الثنائية.
لذلك كله بدأت الجذوة الوطنية تتقد في النفوس، وكان جمال الدين من أكبر من أمدوا نارها بالحطب الجزل من الخطب والمحاضرات في المقاهي وفي منزله. وكان يُلقي في هذه المحاضرات دروسًا في الكلام والتصوف والفلسفة الإسلامية، فتعرف عليه محمد عبده، وأعجب به جمال الدين إعجابًا شديدًا، حتى أصبح أهم مريديه. لقد كان مريدًا للشيخ درويش، فدفعه إلى اجتياز العقبات الأولى التي صادفته في أول تعلمه بطنطا، واليوم يصبح مريدًا لفيلسوف إسلامي كبير، يعد من حيث تأثيره في العالم الإسلامي في أثناء القرن الماضي في صف الأحرار العالميين؛ إذ لم يترك بلدًا إسلاميًّا حل فيه إلا ألقى في أرضه البذور لثورات وطنية عارمة على حكامه المستبدين الفاسدين.
ويُعْجَبُ الفيلسوف الكبير -أو بعبارة أدق: الثائر الكبير- بالشيخ الصغير محمد عبده؛ إذ وجد فيه ذكاء نادرًا، وروحًا متحمسة للإصلاح في جميع الميادين السياسية والدينية والاجتماعية التي كان يصول فيها ويجول، ودفعه كغيره من تلاميذه ومريديه إلى الكتابة في هذه الشئون بالصحف؛ حتى يتنبه الناس ويفيقوا من غفلتهم وسباتهم الطويل. وكتب محمد عبده في صحيفة الأهرام، وكانت أسبوعية، فلفت الأنظار إليه وإلى آرائه الإصلاحية.
وتخرج في الأزهر سنة 1877، فكان يلقي فيه بعض الدروس في المنطق والعقائد، وألف حينئذ حاشية على شرح لكتاب يسمى "العقائد العضدية"، وهي تدل على تضلعه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، ووالى مقالاته في الأهرام، وأخذ يدرس لطلابه كتاب "تهذيب الأخلاق" لابن مسكويه، ويقرأ في بيته كتابًا مترجمًا في "تاريخ تمدن الممالك الأوربية". ثم عين مدرسًا للتاريخ في مدرسة دار العلوم وللعربية في مدرسة الألسن، وكان يدرس في الأولى "مقدمة ابن خلدون".
وتطورت الأمور فعُزِلَ إسماعيل، ورأت بطانة توفيق أن يخرج جمال الدين الأفغاني من مصر لما يؤجج من ثورة في النفوس، وأُقيل محمد عبده من وظيفته لاتفاقه مع جمال الدين في مبادئه، وخاصة أنهما كانا يطالبان بالإصلاح السياسي. غير أن مقاليد الحكم تحولت إلى رياض "باشا" وكان يعطف على محمد عبده، فأسند إليه تحرير "الوقائع المصرية" جريدة الحكومة الرسمية، فنهض بها مع طائفة من تلاميذه على رأسهم سعد زغلول، فلم يقف بها عند تقرير الوقائع والأخبار الحكومية؛ بل جعلها صحيفة إصلاحية تتناول بالنقد وزارات الحكومة، وتبث دعوات مختلفة إلى الحرية والبر بالفقراء والأعمال الخيرية وتطهير الإسلام من البدع والخرافات، كما تبث دعوات سياسية تهدف إلى خير الجماعة ومصلحتها الوطنية وقيام حكومة شورية.
ولما قامت الثورة العرابية كان من المناهضين لها في أول الأمر لما كان يخشى من عواقبها؛ ولكنه لم يلبث -حين رأى التدخل الأجنبي لإحباطها- أن انضم إليها وأصبح من زعمائها. ويقال: إنه هو الذي وضع صيغة اليمين التي أقسمها ضباط الجيش على رفض هذا التدخل، وهو الذي تولى حَلِفَهم. ولما أخفقت الثورة حوكم مع زعمائها، فحُكم عليه بالنفي ثلاث سنين خارج القطر، فقصد إلى بيروت، وتصدَّر فيها للتدريس، إلا أن أستاذه جمال الدين استدعاه إلى باريس، فلبَّى دعوته. وهناك أصدرا في مارس سنة 1884 صحيفة "العروة الوثقى" وأخذ محمد عبده يطلق منها قذائفه السياسية والإصلاحية إلى مصر والأقطار الإسلامية، وأقضَّ ذلك مضاجع إنجلترا وفرنسا، فقضتا على الصحيفة بعد صدور بضعة أعداد منها. وعاد إلى بيروت كما عاد إلى التدريس، فشرح "مقامات بديع الزمان الهمذاني" و"نهج البلاغة" وألف رسالته المشهورة في "التوحيد" أو علم الكلام وأصوله، وتفسير جزء "عم" وشرح البصائر في المنطق.
وتولى الوزارة رياض "باشا"، وكان يقدره حق قدره، فعمل على صدور العفو عنه، ويقال: إن الإنجليز عاونوه في ذلك، فعُفِي عنه وعاد إلى وطنه في سنة 1888، وتقلب في مناصب القضاء، حتى أصبح مستشارًا بمحكمة الاستئناف، ثم عين مفتيًا للديار المصرية في سنة 1899، وظل في هذه الوظيفة إلى وفاته.
وأخذ بعد عودته يُعْنَى بالإصلاح الديني والاجتماعي، فكان يكتب في ذلك مقالات مختلفة بالمقتطف والأهرام والمنار "صحيفة تلميذه ومريده الشيخ رشيد رضا"، وكان يدرس للأزهريين وتلاميذه المختلفين كتابي عبد القاهر الجرجاني في البلاغة: "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة". وألقى كثيرًا من المحاضرات في تفسير القرآن الكريم تفسيرًا يتمشى وروح العصر، وأطلق لنفسه في هذا التفسير حريتها، فلم يتقيد فيه بأحد من قبله. ومما يذكر له أنه حاول إصلاح الأزهر وطرق التعليم فيه وعمل على أن يجمع طلابه بين علوم الدين والعلوم العصرية، وأيضًا مما يذكر له عمله على إنشاء الجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية إحياء الكتب العربية. وكانت قد هبَّت في أواخر القرن الماضي عاصفة من الغرب ضد الإسلام وتعاليمه، فوقف كثيرًا من مقالاته على تصحيح آراء القوم والرد عليها، ومقالاته ضد "هانوتو" معروفة.
ولا نبالغ إذا قلنا: إنه أكبر مصلح ديني عرفته الأمم الإسلامية في عصرها الحديث، فقد كان واسع الأفق بصيرًا بتعاليم الإسلام وغاياته السامية، وكان يدعو دعوة جريئة إلى تحرير الفكر من كل تقليد، وأن نفهم الدين على طريقة السلف في عصر الصحابة والتابعين الأولين قبل أن يظهر الخلاف بين المذاهب الإسلامية المختلفة. وكان يعجب بالمعتزلة وآرائهم؛ لأنه رآهم متحررين في أفكارهم. وقد دعا أيضًا إلى العلم الحديث، فالدين الصحيح لا يخالف العلم وحقائقه الثابتة؛ بل إنه يدعو إلى البحث في أسرار الكون واكتشاف قوانينه، وكان ذلك يُعَد في عصره ثورة على الدين ورجاله الذي رانَ عليهم غير قليل من الجمود.
وكان بعد منفاه يهادن الإنجليز، مثله مثل كثير من المصريين الذين يئسوا من خروجهم، وربما كان ذلك زَلته الوحيدة؛ ولكن من غير شك كان ينشد الحرية الفكرية، وظل يجاهد من أجلها طوال حياته، وهو بحق يعد في طليعة زعمائنا المصلحين، وخاصة في الدين، والملاءمة بينه وبين التقدم العقلي الحديث.
مقالاته:
لعل محمد عبده خير مَن يصور لنا تطور نثرنا في القرن الماضي بتأثير الصحف والاطلاع على بعض آثار الغربيين، فإنه تعلم الفرنسية في منفاه، وكان قبل أن يُنْفَى كثير القراءة لما تُرجم في عصره من كتب مختلفة.
وبدأ حياته الأدبية منذ أن كان طالبًا في الأزهر، فقد كتب في صحيفة الأهرام سنة 1876 مجموعة من المقالات. ومن يقرؤها يلاحظ أن دائرة اطلاعه متوسطة؛ بحكم ثقافته المحدودة. وليس ذلك فحسب، فإنه يكتب بلغة السجع المعروفة على نحو ما نرى في هذه القطعة من مقالة له عنوانها "الكتابة والقلم" يقول:
"لما انتشر نوع الإنسان في أقطار الأرض، وبَعُد ما بينهم في الطول والعرض، مع ما بينهم من المعاملات، ومواثيق المعاقدات، احتاجوا إلى التخاطب في شئونهم، مع تنائي أمكنتهم، وتباعد أوطانهم، فكان لسانُ المرسِل إذ ذاك لسانَ البريد، وما يدرك هل حفظ ما يبدئ المرسل وما يعيد، وإن حفظ هل يقدر على تأدية ما يريد، بدون أن ينقص أو يزيد، أو يبعد الغريب أو يقرب البعيد. فكم من رسول أعقبه سيف مسلول، أو عنق مغلول، أو حرب تخمد الأنفالس، وتعمر الأرماس، ومع ذلك كان خلاف المرام، ورمية من غير رام ... فالتجئوا إلى استعمال رقم القلم، ووكلوا الأمر إليه فيما به يتكلم".
وواضح أنه في هذا التاريخ لم يكن يملك وسائل الكتابة الطبيعية للتعبير عما في نفسه؛ لأن هذه الوسائل في ذلك الوقت لم يكن يملكها أحد من المصريين، غير أن اتصاله بالكتب القديمة وبمثل مقدمة ابن خلدون التي كان يدرسها لطلاب دار العلوم نبهه إلى أن وراء هذه اللغة المعقدة الملتوية لغة سهلة مرنة على أداء المعاني بدون صعوبات السجع وما يتصل به. فلما وُكل إليه في سنة 1880 تحرير الوقائع المصرية لجأ مباشرة إلى الأسلوب المرسل الطبيعي الذي يؤدي المعاني بدون عناء.
ولم يكتفِ بذلك؛ بل أخذ يعمل على نشر هذا الأسلوب بين تلاميذه الذين كانوا يكتبون معه من أمثال سعد زغلول، كما أخذ يشجع الصحف على احتذائه والضرب على قوالبه، وفي الوقت نفسه كان ينتقد من يكتبون فيها، ويطلب إلى أصحابها أن يختاروا من يحسن الكتابة بالأسلوب الجديد. وفتَح في الوقائع صفحات أدبية واجتماعية وسياسية، يكتب فيها هو وتلاميذه، وكأنه يريد أن يضع بين الكُتَّاب النموذج الأدبي الجديد الذي ينبغي أن يتوفروا عليه. وقد أخذ يرقى بلغة المخاطبات الرسمية في دواوين الحكومة بما ينشر منها على وجه صحيح، وكانوا في دواوين الحكومة يتخاطبون حينئذ "بضرب من ضروب التأليف بين الكلمات رَثٍّ غير مفهوم، ولا يمكن رده إلى لغة من لغات العالم لا في صورته ولا في مادته".
فتحريره الوقائع كان خطوة كبيرة في سبيل الرقي بلغة المخاطبات الحكومية وبلغة الصحافة، فقد خرج بها من أسلوب السجع والفواصل وأنواع الجناس والبديع إلى أسلوب مرسل حر، لا يضيق بالمعاني، ولا يضيق به القراء.
وكان الإصلاح الاجتماعي هو المحور الذي يدور عليه ما يكتبه في الوقائع، فكان يدعو إلى تأسيس الجمعيات الخيرية، ويبحث في بعض مشاكل التعليم، وينتقد من يأخذون من المدنية الغربية بقشورها الإباحية، ويدعو إلى نبذ الخرافات في الدين والتعاون على مصالح المعيشة. ونراه -مع طلائع الثورة العرابية سنة 1881- يكتب ثلاث مقالات في الشورى ووجوب الأخذ بالنظام النيابي المعروف عند الغربيين، ومن قوله في أولى هذه المقالات:
"معلوم أن الشرع لم يجئ ببيان كيفية مخصوصة لمناصحة الحُكَّام ولا طريقة معروفة للشورى عليهم، كما لم يمنع كيفية من كيفياتها الموجبة لبلوغ المراد منها. فالشورى واجب شرعي، وكيفية إجرائها غير محصورة في طريق معين. فاختيار الطريق المعين باقٍ على الأصل من الإباحة والجواز كما هو القاعدة في كل ما لم يرد نص بنفيه أو إثباته. غير أنا إذا نظرنا إلى الحديث الشريف الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو "كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يُؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يَفْرِقون رءوسهم، فسدل النبي ناصيته، ثم فَرَق بعد" نُدِبَ لنا أن نوافق في كيفية الشورى ومناصحة أولياء الأمر الأمم التي أخذت هذا الواجب نقلًا عنا وأنشأت له نظامًا مخصوصًا، متى رأينا في الموافقة نفعًا ووجدنا منها فائدة تعود على الأمة والدين، وإلا اخترنا من الكيفيات والهيئات ما يلائم مصالحنا ويطابق منافعنا ويثبِّت بيننا قواعد العدل وأركانه؛ بل وجب علينا إذا رأينا شكلًا من الأشكال مجلبة للعدل أن نتخذه ولا نعدل عنه إلى غيره، كيف وقد قال ابن قيم الجوزية ما معناه: إن أمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق كان، فهناك شرع الله ودينه، والله تعالى أحكم من أن يخص طرق العدل بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منه وأبين. فتألف من مجموع هذا أن الشورى واجبة، وأن طريقها مُناط بما يكون أقرب إلى غايات الصواب وأدنى إلى مظان المنافع ومجالبها. على أنها إن كانت في أصل الشرع مندوبة فقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان تجعلها عند مسيس الحاجة إليها واجبة وجوبًا شرعيًّا. ومن هنا تعلم أن نزوع بعض الناس إلى طلب الشورى ونفورهم من الاستبداد ليس واردًا عليهم من طريق التقليد للأجانب ... بل ذلك نزوع إلى ما هو واجب بالشرع، ونفور عما منعه الدين، وقبحه العلماء، وشهدوا من آثاره المشئومة ما عرفوا به قبح سيرته ووخامة عقباه".
وهذه القطعة من المقال تصور لك ما حدث من تطور في أسلوب محمد عبده، فقد أصبح أسلوبًا طبيعيًّا، وهو أسلوب يعتمد على جزالة اللفظ، بالضبط كما كان يعتمد أسلوب البارودي في الشعر على رصانة الكلمات ومتانتها، وكأن ما حدث في الشعر حدث نظيره في النثر، فقد عادت اللغة إلى حريتها وطلاقتها، ولم تعد ترزح تحت معوقات السجع والبديع.
وفي القطعة ما يدل على اتساع أفق محمد عبده، فهو يعرض مسألة الشورى، وأنها نظام عُرف عند الغربيين من المسيحيين عرضًا طريفًا من جهة الإسلام، وما جاء في نصوصه من إباحة الأخذ عن الأمم الأجنبية، ما دام فيما نأخذ مصلحة من مصالح الجماعة. ويقرر قاعدة كبرى هي جواز تغير الأحكام بتغير الزمان. وما يزال يناقش المسألة حتى ينتهي إلى أن الشورى واجبة. وتتردد في المقال اصطلاحات الفقهاء من كلمات الأصل والجواز والندب والوجوب، وهذا طبيعي لكاتب أزهري يبحث المسألة من الوجهة الدينية.
ونلقاه بعد ذلك في باريس على صفحات "العروة الوثقى" وقد اتسع تفكيره واشتعلت روحه، فهو ثائر ثورة عنيفة، يدعو إلى اتحاد المسلمين في بقاع الأرض ضد عدوان المستعمرين، ويحثهم على أن يلتزموا أصول دينهم ويدفعوا قوة الغرب الباطشة بقوة عزيمتهم وبما يتخذون من عُدة وسلاح. وأخذ يثبت أن الإسلام لا يتعارض مع المدنية والفكر العصر الحديث.
وحاول منذ نزوله في فرنسا أن يتعلم اللغة الفرنسية؛ ولكنه لم يتقنها إلا بعد عودته وبعد اشتغاله في مصر بالقضاء. وهو في هذه الفترة من حياته يحقق لنفسه ثقافة واسعة؛ فقد أمعن في قراءة الآداب الفرنسية، كما أمعن في قراءة آثارنا القديمة ذات الأسلوب الحر الطليق، وكوَّن لنفسه أسلوبًا قويًّا جزلًا، كثير المعاني والأفكار. ونراه يكتب مقالات ضافية في الرد على من يتهجمون على الإسلام مثل "هانوتو" الفرنسي وغيره، كما يكتب مقالات ورسائل في دعواته الإصلاحية، وخاصة في شئون الدين وتطيره من الخرافات. وكان يفسر القرآن الكريم فيحاول الوصل بين آياته وبين التقدم العقلي الحديث.
والحق أنه كان مفكرًا من طراز ممتاز، وإليه يرجع الفضل في تأسيس حركة التجديد الديني الذي نرى آثارها اليوم في العالم الإسلامي جميعه؛ إذ كان يرى العودة إلى منابع الدين الأولى، كما كان يرى أن يتخلص رجال الدين من التقليد، فالاجتهاد لم تغلق أبوابه.
وعلى نحو ما كان مصلحًا في الدين كان مصلحًا في الأدب واللغة، فهو الذي أخرج كتاباتنا الصحفية من الدائرة البالية العتيقة دائرة السجع وما يرتبط به من أنواع البديع إلى دائرة الأسلوب الحر السليم. وكان على رأس من طوَّعوا هذا الأسلوب ومرنوه على تحمل المعاني السياسية والاجتماعية الجديدة، فقد بسَّطه حتى يفهمه الجمهور، وافتن في طرق أدائه مبتعدًا عن الصيغ المتكلفة التي لم تكن تقبل سعة. ومعنى ذلك: أنه تطور بنثرنا من حيث الشكل والموضوع، فلم يعد يستخدم أسلوب البديع الضيق المليء بانحرافات الجناس وما يشبهه، وفي الوقت نفسه عبَّر بأسلوبه المرسل الجديد عن معانٍ عصرية، فيها أثر الفكر الغربي، وفيها أثر الفصل الزمني أو الفترة الزمنية التي عاشها في بيئته المصرية.
6 ـ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:
حياته وآثاره:
وُلد مصطفى لطفي المنفلوطي سنة 1876 ببلدة منفلوط إحدى بلدان مديرية أسيوط لأسرة مصرية معروفة بالشرف والحسب. واختلف في أول حياته على عادة أضرابه من أبناء الريف إلى "الكُتَّاب" فحفظ القرآن الكريم، ولما يتجاوز الحادية عشرة من سنه. وأرسله أبوه إلى الأزهر؛ ليتم تعليمه فيه، وظل به عشر سنوات يدرس ويحصِّل، ولم يلبث حين وجد الشيخ محمد عبده يدرس للطلاب تفسير القرآن وكتابي عبد القاهر في البلاغة: "دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة" أن أعجب به، فلزم دروسه، وانصرف عن الأزهر وعلومه ورجاله. ويظهر أنه ضاق بطريقة التعليم فيه، وتحول ذلك عنده إلى يأس، وسرعان ما وجد ما كان يطلبه عند محمد عبده، وقد تأثر تأثرًا قويًّا بتعاليمه.
ولم يكن يطلب التعمق في الدين؛ وإنما كان يطلب الأدب، فأخذ يختلف إلى دروس محمد عبده كما أخذ يختلف إلى كتب القدماء ودواوينهم، فهو يقرأ في ابن المقفع والجاحظ وبديع الزمان الهمذاني كما يقرأ في النقاد: الآمدي والباقلاني وعياض وغيرهم ممن تناولوا وصف الكلام الجيد، وممن وقفوا عند إعجاز القرآن وجمال أساليبه. وله كتاب يسمى "مختارات المنفلوطي" فيه منتخبات لمن سميناهم، ولكبار الشعراء من أمثال أبي تمام وابن الرومي وأبي العلاء.
وكان له ذوق جيد يعرف به كيف ينتخب لنفسه أروع ما في الكتب ودواوين الشعر العباسية من قطع وقصائد أدبية رائعة، فعكف على ذلك كله كما عكف على كتابات أستاذه محمد عبده يعب منها وينهل كما يعب وينهل من آثار معاصريه المترجمة والمؤلفة. وبذلك هيأ نفسه ليكون صحفيًّا بارعًا، ولسنا نقصد صحافة الأخبار؛ وإنما نقصد صحافة المقال.
ويقال: إنه أسف أسفًا شديدًا لموت محمد عبده، فرجع إلى بلدته ومكث بها عامين يكاتب صحيفة المؤيد، ثم عاد. وكان سعد زغلول معجبًا به، وتولى وزارة المعارف أو التربية والتعليم، فعينه محررًا عربيًّا لوزارته، وانتقل سعد إلى وزارة العدل، فنقله معه. ولكنه لم يظل في الوظيفة، فقد فُصل منها بعد خروج سعد من الوزارة، وظل يكتب في الصحف إلى أن قام البرلمان في سنة 1923 فعينه سعد رئيسًا لطائفة من الكُتَّاب في مجلس الشيوخ، ولم يمهله القدر؛ إذ سرعان ما لبَّى نداء ربه.
وهذه هي حياته، وهي ليست حياة هنيئة، فقد كان يشقى في سبيل الحصول على ما يقيم به أوَده، وقد نظم وهو لا يزال طالبًا في الأزهر قصيدة في هجاء عباس، فحكم عليه بالسجن مدة عرف فيها مرارة السجون، وكان لذلك ولعدم توفيقه في حياته أثره في إحساسه بالبؤس والبؤساء وآلامهم.
وكانت مصر حينئذ ترزح تحت كابوس الاحتلال الإنجليزي، الذي كان يضيق الخناق على أبنائها، فكانوا يشعرون بغير قليل من اليأس والبؤس. والتأم في نفس المنفلوطي بؤس أمته ببؤس نفسه، فتحول بوقًا لهذا البؤس يبكي في كتاباته ويَئِن.
ولم يكن يعرف لغة أجنبية، فكانت ثقافته ضيقة؛ ولكنه عكف على المترجمات يقرأ فيها ويوسِّع آماد فكره بكل ما يستطيع من قوة. وكان فيه طموح، فرأى أن يترجم بعض القصص والمسرحيات الغربية، ولكن أنَّى له وهو لا يحسن الفرنسية ولا غيرها من اللغات الأوربية، إلا أن ذلك لم يقف دونه، فقد طلب إلى بعض أصدقائه أن يترجموا له بعض آثار القوم الأدبية، ينقلونها هم أولًا، ثم ينقلها هو إلى أسلوبه الرصين.
ويظهر أنه عرَّفهم ما يريد؛ لأننا نجد ما يُتَرْجَمُ له من آثار المذهب الرومانسي الذي كان يُعْنَى أصحابه بالفضيلة والعدالة والانتصار للفقراء ونقد الأغنياء في أسلوب مليء بالانفعال العاطفي. وكانت طريقة المنفلوطي أن يأخذ ما تُرْجم له، ويمصِّره تمصيرًا، ويعطي لنفسه في ذلك حرية واسعة، حتى لكأنه يعيد كتابته وتأليفه من جديد، وهو تأليف يقوم على الاسترسال الإنشائي والانطلاق الوجداني والوعظ الأخلاقي. ومن القصص التي أعاد تأليفها على هذا النحو قصة بول وفرجيني لبرناردين دي سان بيير وسماها الفضيلة، وقصة ماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون لألفونس كار وقصة الشاعر أوسيرانودي برجراك لأدمون روستان، وفي سبيل التاج لفرنسوا كوبيه. وبهذا الأسلوب من حرية التصرف والتحوير الواسع مصَّر طائفة من القصص القصيرة لبعض الكتاب الفرنسيين، ونشرها في كتابه "العبرات" بعد أن أضاف إليها بعض قصص من تأليفه، وجميعها قصص حزينة باكية.
ومن غير شك أفسد هذه القصص الفرنسية بتمصيره؛ إذ أحالها عن أصلها، وكأنه ظن القصة مجموعة من المقالات في غير حبكة، ومن ثم أدخل في هذه القصص تغييرًا واسعًا وهو تغيير لم يستطع إحكامه؛ إذ كانت تنقصه موهبة القصاصين، ويتضح ذلك في قصصه التي حاول أن يؤلفها إذ ينقصها الخيال والدقة في مراقبة أحداث الحياة وتجارب الأشخاص، كما أنه تنقصها طرافة المفاجأة. وإذا كان في هذه القصص شيء يعجب به القارئ فهو الأسلوب المصفى الذي يتميز به المنفلوطي، والذي أتاح لمقالاته أن تذيع وتنتشر في الناشئة من عصره إلى يومنا الحاضر، وقد جمعها وطبعها باسم النظرات.
النظرات:
تقع النظرات في ثلاثة مجلدات، وهي مجموعة كبيرة من المقالات الاجتماعية نشرها المنفلوطي في أوائل القرن بصحيفة "المؤيد" التي كان يحررها الشيخ علي يوسف. وتمتاز هذه المقالات بميزتين أساسيتين: ميزة تتناول الشكل وميزة تتناول الموضوع، أما من حيث الشكل فإنها كتبت في أسلوب نقي خالص، ليس فيه شيء من العامية ولا من أساليب السجع الملتوية إلا ما يأتي عفوًا. فقد قرأ المنفلوطي واستوعب ما قرأه، ولم يكتفِ بأن يعيش على تقليد كاتب قديم بعينه مثل ابن المقفع أو الجاحظ أو بديع الزمان؛ بل حاول أن يكون له أسلوبه الخاص به، حقًّا تلمع في كتابته آثار القدماء، فقد تحس أحيانًا أنه يحتذي نثر الجاحظ أو نثر بديع الزمان؛ ولكن ما يحتذيه أو ما ينقله يدخل في كيان تعبيره؛ بحيث يصبح كأنه يُعاد خلقه من جديد.
وذلك ما نسميه بشخصية الكاتب، فكل ما يكتبه يُطْبَعُ بطابعه، وكأنه عملة خاصة به، وهي ليست عملة مزيفة؛ وإنما هي عملة صحيحة تنبع من فكره وقلبه، وتعطيه سماته الخاصة به، فتقرؤه، ولا تلبث أن تقبل عليه؛ لأنك تجد عنده ما يحدث لذة فنية في نفسك؛ إذ يقدم لك أثرًا أدبيًّا حقيقيًّا يمس قلبك، ويثير عاطفتك. وهذا من حيث الشكل، أما من حيث الموضوع، فقد اختار الحياة الاجتماعية لبيئته، واتخذها ينبوعًا لأفكاره وتحول فيها بتأثير أستاذه محمد عبده إلى مصلح اجتماعي، فهو يردد آراء المصلحين من حوله، ويؤديها بلغته التي تأسر السامع وتَخْلُب لُبَّه.
وارجع إلى النظرات فستراه يتحدث في عيوب المجتمع وما يشعر به من مساوئ الأخلاق مثل: القمار والرقص والخمر وسقوط الفتيان والفتيات، فيتساءل: أين الشرف وأين الفضيلة؟ ويحس أن بعض ذلك جاءنا من المدنية الغربية، فيصب عليها جام غضبه. ويدور بعينه في بيئته فيرى كثرة المصابين بعاهة الفقر والبؤس فيبكي ويستغيث. ويكتب في الغنى والفقر، ويدعو إلى الإحسان والبر بالضعيف العاجز ويصوِّر أكواخ الفقراء وما هم فيه من مهانة وذلة، ويدعو دعوة حارة إلى التمسك بالفضائل من مثل الوفاء، وينادي: الرحمة الرحمة! ومن قوله في مقال بهذا العنوان:
ارحم الزوجة أمَّ ولدك وقعيدة بيتك ومرآة نفسك وخادمة فراشك؛ لأنها ضعيفة، ولأن الله قد وكل أمرها إليك، وما كان لك أن تكذِّب ثقته بك. ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه، فإنك إلا تفعل قتلته أو أشقيته، فكنت أظلم الظالمين. ارحم الجاهل لا تتحيَّن فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه، فتجمع عليه بين الجهل والظلم، ولا تتخذ عقله متجرًا، تربح فيه ليكون من الخاسرين. ارحم الحيوان لأنه يحس كما تحس ويتألم كما تتألم، ويبكي بغير دموع، ويتوجع ولا يكاد يبين ...
أيها السعداء! أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
وواضح أن المنفلوطي لا يُعْنَى بموضوعه فحسب؛ بل هو يحاول أن يؤديه أداء فنيًّا يتخير فيه اللفظ، ويحاول أن يؤثر به في سمع القارئ ووجدانه. وهو في ذلك يتأثر بطريقة القدماء الذين كانوا يعنون بالجرس الموسيقي للكلام، وانتهت بهم هذه العناية إلى السجع. والمنفلوطي لا يسجع؛ ولكنه يُعْنَى عناية شديدة بموسيقى ألفاظه، وكأن الناس لا يقرءونه بأبصارهم في الصحف؛ بل هم يقرءونه أو يسمعونه بآذانهم على طريقة القدماء قبل أن تتحول القراءة من السمع إلى البصر.
وهو يبدئ ويعيد في معانيه على طريقة الخطباء؛ بل هو يستعير منهم النداء بمثل أيها الإنسان. وترى عنده مثلهم التكرار في الكلمات مثل: ارحم، ارحم، كما ترى عنده كثرة الفواصل بين العبارات؛ إذ كثيرًا ما يقطع المعاني ويستأنفها. وقد يكون ذلك بسبب انفعالاته العاطفية، ونظن ظنًّا أنه يتأثر أسلوب الخطابة في عصره، عند مصطفى كامل وأضرابه.
وقد وقف وقفات طويلة عند الإسلام والمسلمين، فبكى ما هم فيه حينئذ من تأخر وانحطاط وانغماس في الشهوات والملذات، ورماهم بأنهم عطلوا الأحكام وعصوا أوامر الدين ونواهيه، وكأنه تحول إلى خطيب في مسجد .
ومن المحقق أنه لم يكن منوع التفكير بسبب قصور ثقافته؛ إذ لم يطلع على آفاق جديدة، توسع ذهنه ومداركه. ولعل ذلك ما يهبط في عصرنا الحاضر بنظراته، فقد اتسعت معارفنا، ونمت صلتنا بالغرب؛ بل لقد تحول إلينا كثير من عيونه وذخائره النفيسة، وكثر بيننا من يطلعون على آثار القوم في لغتهم كما كثر بيننا من يحسنون التفكير والتغلغل فيه إلى أعماقه وخفياته.
ومن هنا خَفَّت بين أدبائنا الحدة المنفلوطية لإرضاء العاطفة، فقد أصبحوا يطلبون في كتابتهم إرضاء الذهن بغذاء عقلي خصب. وما أشبه أدب المنفلوطي في عباراته الرصينة المنغمة بالآنية المزخرفة؛ ولكنها آنية قلما حملت غذاء للذهن والفكر، ونحن نطلب اليوم الغذاء الفكري بأكثر مما نطلب الوسائل التي تؤديه، ولعل هذا ما جعل المازني يحمل عليه في كتاب "الديوان" غير أنه يقسو في حملته.
ومن الواجب أن نقيس الأديب بمقاييس عصره، وأن نحكم عليه بظروف بيئته، وألا ننتقل به إلى عصر تالٍ نستمد منه مقاييسنا عليه، والمنفلوطي من هذه الناحية أدَّى لمصر في أوائل القرن وإلى الحرب العالمية الأولى آثارًا أدبية بارعة، وكانت هذه الآثار المثل الأعلى للشباب في إنشائهم وفي صَقْل أساليبهم.
وفي النظرات جولات في النقد الأدبي إلا أنها غير عميقة، وليس فيها تحليل واسع لضيق ثقافته، وفيها مراثٍ لطائفة من الأدباء وربما كان خيرها مرثيته لابنه، وفيها يقول متأثرًا لما سقاه من الدواء، والموت يقتطع الحياة من بين جنبيه قطعة قطعة:
"لقد كان خيرًا لي ولك يا بني أن أكِلَ إلى الله أمرك في شفائك ومرضك، وحياتك وموتك، وألا يكون آخر عهدك بي في يوم وداعك لهذه الدنيا تلك الآلام التي كنت أجشمك إياها، فلقد أصبحت أعتقد أنني كنت عونًا للقضاء عليك، وأن كأس المنية التي كان يحملها لك القدر في يده لم تكن أمر مذاقًا في فمك من قارورة الدواء التي كنت أحملها في يدي".
والمقالة جميعها على هذا النحو المؤثر الذي كان المنفلوطي يتقنه. ودائمًا تجد عنده هذا اللفظ الجزل الرصين، الذي كان يحرص فيه على أن تسيغه الأذن بما يحمل من هذه الموسيقى العذبة التي تؤثر في النفس، وتحدث في الذهن تلك اللذة الفنية، التي نطلبها في الآثار الأدبية.
7 ـ محمد المويلحي 1858-1930م:
أ- حياته وآثاره:
وُلد محمد المويلحي في القاهرة سنة 1858 لأسرة ثرية تأخذ بحظها من الثقافة، فهو حفيد سر التجار في عهد محمد علي. وكان أبوه إبراهيم يشتغل بالتجارة، إلا أنه كان يجد في نفسه ميلًا شديدًا إلى الأدب، فعكف على قراءة عيونه، وصحب كبار الأدباء في عصره، وتتلمذ لجمال الدين الأفغاني مع مَن تتلمذوا عليه. وكان يحذق الفرنسية والتركية، كما كان يحذق العربية. ولم يلبث أن اشتغل بالصحافة؛ فأخرج مع محمد عثمان جلال صحيفة "نزهة الأفكار" إلا أنها لم تستمر طويلًا. ونراه بعدها قريبًا من الخديو إسماعيل فيعيَّن عضوًا في مجلس الاستئناف، ولما نُفي الخديو إلى إيطاليا صحبه مدة من الزمن، ثم نزل في الآستانة، فأُكْرم هناك، وجُعل عضوًا في مجلس المعارف. وعاد مع أواخر القرن إلى مصر، فأخرج مجلة "مصباح الشرق" كانت أهم مجلة أدبية عندنا إلى أن تُوفي سنة 1906.
وإنما قدمنا هذه المقدمة لندل على أن محمدًا نشأ في بيت ثراء وأدب، وقد ألحقه أبوه بمدرسة الأنجال التي كان يلتحق بها أبناء الطبقة الأرستقراطية، وكان في الوقت نفسه يدرس في الأزهر ليتقن اللغة العربية، كما كان يختلف إلى دروس جمال الدين ومحمد عبده، ووجد في أبيه أستاذًا أصيلًا تلقى عنه أصول الأدب علمًا وعملًا. ووظفه أبوه في دواوين الحكومة، غير أنه اشترك في ثورة عرابي، ففُصل من وظيفته بعد إخفاق الثورة. ونراه يخرج من مصر إلى أبيه في إيطاليا، ويستدعيه جمال الدين إلى باريس؛ ليساعده في إخراج صحيفة "العروة الوثقى" ويلبِّي دعوته. وتسنح له الفرصة ليتقن الفرنسية ويصادق بعض أدباء فرنسا من مثل "إسكندر ديماس الصغير". ويقال: إنه تعلم -وهو مع أبيه- الإيطالية وبعض مبادئ اللغة اللاتينية.
ويمضي في إيطاليا وفرنسا ثلاث سنوات، ثم يبرحهما إلى الآستانة قبل نزول أبيه بها، ويشتغل بإخراج رسالة الغفران لأبي العلاء وغيرها من الكتب. ويعود إلى القاهرة، فيشترك في تحرير الأهرام والمؤيد والمقطم. ويعود أبوه ويُخرج مجلة "مصباح الشرق" فيعاونه فيها، وينشر بها قصته "حديث عيسى بن هشام" في حلقات متتابعة، ويجمع هذه الحلقات ويذيعها سنة 1906. ونراه يعين مديرًا للأوقاف في سنة 1910، وهو مع ذلك يحرِّر صحيفة "المقطم" ويكتب مقالات مختلفة في شئون السياسة والاجتماع في روح ثائرة ضد الاحتلال، وألف كتابًا سماه "أدب النفس" وهو رسائل في الأخلاق وشئون الحياة، وما زال يتابع هذه الكتابات حتى توفي سنة 1930.
ومع ثقافته الواسعة بالآداب الفرنسية كان محافظًا شديد المحافظة. وتتضح هذه المحافظة في سلسلة مقالات نشرها في "مصباح الشرق" حين أخرج شوقي ديوانه الأول سنة 1898، وزعم في مقدمته أنه سيحاول التجديد على ضوء ما قرأ في الآداب الغربية، وأشاد بشعر الطبيعة عند القوم. وتساءل المويلحي في مقالاته: ما الجديد الذي يريد شوقي إدخاله إلى العربية؟ وقال له: إنك تنظم بهذه اللغة فلا بد أن ترجع في ألفاظك إليها لأنك تتحدث بها، وقد قرأنا مثلك في الآداب الغربية، فلم نجد للقوم معاني يتفوقون بها على الشرقيين؛ بل إننا معشر الشرقيين نفوقهم في المعاني، وحتى موضوعات شعرهم التي تتغنَّى بها مثل "الطبيعة" للعرب فيها كثير، وما على الشاعر المجدد من أمثالك إلا أن يتصفح دواوين القدماء، فيجد فيها -لا في الغرب- ضالته التي ينشدها.
ونظن ظنًّا أن هذا النقد الخاطئ كان له أثر سيئ في شوقي، فإنه شك في الجديد الذي جاء به، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه هو الذي رده إلى معارضة الشعراء القدماء؛ ليثبت تفوقه عليهم، وليقتنع محمد المويلحي وأضرابه من المحافظين بأنه لا يقل عنهم إبداعًا ومهارة.
حديث عيسى بن هشام:
رأينا محمد المويلحي رغم ثقافته بالآداب الغربية محافظًا شديد المحافظة، ومع ذلك حاول أن يدخل القصة المعروفة عند الغربيين في مجال أدبنا الحديث؛ ولكن كيف يدخلها؟ هل يدخلها بصورتها الغربية أو يبحث عن صورة عربية يقدمها فيها؟
ولم نكن حتى هذا التاريخ قد صنعنا محاولات قصصية سوى "علم الدين" لعلي مبارك، وهي رحلة تقع في أربعة أجزاء، قام بها الشيخ علم الدين مع مستشرق إنجليزي، فطافا معًا بجوانب الحياة المصرية ثم رحلا إلى بلاد الإنجليز. وصور علي مبارك مشاهداتهما هنا وهناك. وقد وُضعت الرحلة في شكل مسامرات بلغت خمسًا وعشرين ومائة. وفيها يصف الكاتب حياة الشيخ علم الدين في الأزهر كما يصف حياتنا في حفلات الزواج، وفي المواسم والأعياد، ويلم بحياة الإنجليز. وفي أثناء ذلك تُنْثَر فوائد متفرقة في العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الكون والخليقة. وربما استلهم علي مبارك في هذه الرحلة كتاب "إميل" للكاتب الفرنسي جان جاك روسو؛ إذ أجرى على لسانه آراءه وأفكاره. وقد اختار لرحلته الأسلوب المسجوع.
كان هذا هو المثال الوحيد أمام المويلحي، فرأى أن ينتفع به في قصته؛ ولكن مع هدف جديد، فإن رحلة علي مبارك كُتبت قبل عصر الاحتلال، ولم تكن قد برزت مشاكلنا الاجتماعية على ألسنة المصلحين من مثل: محمد عبده وقاسم أمين، وأيضًا لم نكن قد اندفعنا اندفاعًا شديدًا في تقليد الحضارة الغربية المادية، فقد أخذ الاتصال بيننا وبين أوربا يشتد بعد الاحتلال، وأخذ كثيرون منا يقلدون الغربيين حتى في العادات بدون ملاحظة ما بيننا وبين القوم من أسوار فاصلة في المشارب والأذواق.
وإذن فليتغير هدف القصة، فلا يكون تعليميًّا كما هو الشأن في "علم الدين"؛ بل يكون إصلاحيًّا في ضوء ما يكتبه المصلحون من أمثال: النديم وقاسم أمين ومحمد عبده، وفي ضوء ما يُكْتَب عن تطرفنا في استيراد المدنية الغربية.
ولكن كيف توضع هذه القصة وفي أي إطار؟ إن المويلحي محافظ، وقد رأيناه يأخذ على شوقي محاولته التجديد على أسس النماذج الغربية، فليبحث لقصته عن إطار عربي خالص، حتى لا يخرج على ذوقه ولا على ذوق أمثاله من المحافظين المتعصبين الذين يأبون محاكاة النماذج الأدبية الغربية. وفكر في ذلك طويلًا، وسرعان ما هداه تفكيره إلى إطار المقامة الذي صنعه بديع الزمان، وهو إطار يقوم على راوٍ يسمى عيسى بن هشام، يصف طائفة من الحِيَل لأديب متسول يسمى أبا الفتح الإسكندري، وكل حيلة تسمى مقامة، وفي كل مقامة يظهر هذا الأديب براعته البيانية بما يصوغ من أسلوب مسجوع، كان يعد تُحْفَة التحف في عصورنا الوسطى.
ورأى المويلحي أن يتخذ لقصته هذا الإطار. فراوي قصته هو نفس راوي مقامات بديع الزمان؛ ولذلك سماها حديث عيسى بن هشام؛ ولكن بطل بديع الزمان أديب متسول، فهل يكون بطل المويلحي على نمطه أديبًا متسولًا؟ لقد رأى أنه إن صنع ذلك لن تتاح له الفرصة لكي يُلم بما يريد من موضوعات اجتماعية، وفكَّر، وهداه تفكيره إلى أن يتخذ بطله من جيل سابق لجيله ، مستلهمًا في ذلك قصة أهل الكهف التي وردت في القرآن الكريم، وما تشير إليه من أن سبعة دخلوا أحد الكهوف فماتوا، وظلوا في موتهم ثلاثمائة سنة وازدادو تسعًا، ثم بُعثوا من رقادهم، فكانوا معجزة خارقة في مدينتهم.
فألهمت هذه القصة المويلحي أن يختار بطل قصته أحمد "باشا" المنيكلي ناظر الجهادية الذي تُوفي سنة 1850. فبينما كان عيسى بن هشام يطوف بالمقابر في ليلة قمراء مستعبرًا مفكرًا في سُنَّة الموت والحياة إذا به يخرج عليه من أحد القبور هذا الدفين، ويكون بينهما حوار يعرف منه عيسى بن هشام حقيقته وهويته. ويعود معه إلى القاهرة، ويرافقه في رحلة كبرى بعالم الأحياء المصري في فترة الاحتلال. ويلاحظ المنيكلي أن كل شيء قد تغير في هذا العالم بالقياس إلى ما كان في عصره زمن محمد علي، فقد أصبح المصريون يعيشون في عالم جديد، هو خليط من نظم تقليدية ونظم غربية، وهو عالم مليء بالعيوب الخلقية والاجتماعية.
وتتوالى علينا مشاهد القصة، فمن وصف للمُكارين إلى وصف لرجال الشرطة ووصف للمحاكم على اختلاف أنواعها، ومن وصف لحياة الحكام والتجار والأغنياء ومباذلهم إلى وصف لدور اللهو والتمثيل، وفي أثناء ذلك يوصَف ما في الحياة الحديثة من تقدم في العمران وفي العلم وخاصة الطب. ويكاد الإنسان يظن أن المويلحي لم يترك جانبًا من حياتنا حينئذ إلا تناوله بالوصف والنقد، ويسوق ذلك في سخرية مرة تصور ضعف المصريين وانقيادهم لأهوائهم وملذاتهم.
والمويلحي يرسم في تضاعيف ذلك بعض الشخصيات رسمًا بارعًا، ومن بديع رسومه رسم "العمدة" الذي يُبْرز فيه ثراءه وغفلته حين ينزل القاهرة، فيُلم به بعض السماسرة وبعض القوَّادين، ويُغْوونه، ويخدعونه عن ماله وشرفه، فإذا هو يسقط سقوطًا مزريًا في ملذاته. وبنفس البراعة والمهارة في رسم الشخصيات وتحليل طباعها يرسم "المحامي الشرعي" الذي قصده المنيكلي مع عيسى للمطالبة بوقف له، ويدور الحوار بين المحامي وعيسى على هذا النحو .
ويستمر الحوار على هذا النحو، فنطَّلع منه على طباع المحامين الشرعيين وجشعهم وطرق احتيالهم. ولم يسجع المويلحي في هذه القطعة؛ ولكن هذا إنما يأتي شذوذًا، فالأصل في الكتاب كله السجع على طريقة المقامات. وهو يمضي فيصف المحكمة الشرعية حين وصلها عيسى بن هشام مع صاحبه على هذا النمط:
"ولما وصلنا إلى هذه المحكمة وجدنا ساحتها مزدحمة بالمركبات، تجرها الجياد الصاهلات، وبجانبها الراقصات من البغال والحمير، عليها سُرُج الفضة والحرير، فحسبناها مراكب للعظماء والأمراء، في بعض مواكب الزينة والبهاء، وسألنا: لمن هذي الركاب؟ فقيل لنا: إنها لجماعة الكُتَّاب، فقلنا: سبحان الملك الوهاب، ومن يرزق بغير حساب. ونحونا نَحْوَ الباب، في تلك الرحاب، فوجدنا عليه شبحًا حنتْ ظهرَه السنون، فتخطته رسل المنون، قد اجتمع عليه العمش والصمم، ولَجَّ به الخرف والسقم. وعلمنا أنه حارس بيت القضاء، من نوازل القضاء. ثم صعدنا في السلم فوجدناه مزدحمًا بأناس، مختلفي الأشكال والأجناس، يتسابُّون ويتشاتمون، ويتلاكمون ويتلاطمون، ويُبرقون ويُرعدون، ويتهددون ويتوعدون، وأكثرهم آخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصادمون بالحيطان ويتساقطون على الأرض. وما زلنا نزاحم على الصعود في الدَّرَج، والعمائم تتساقط فوقنا وتتدحرج، حتى منَّ الله علينا بالفرج، ويسر لنا المخرج، في وسط الجمع المتلاصق، والمأزق المتضايق".
وواضح أن هذا الوصف يعتمد إلى حد ما على محاولة الإغراب باللفظ الفصيح والسجع، وكأن المويلحي يحتال للمواقف، حتى يعرض مهارته البيانية على طريقة بديع الزمان والحريري في مقاماتهما، وله في ذلك طرائف كأن يصف روضًا من الرياض أو يصف الأهرام أو يصف الصباح، وفيه يقول:
ترتعد متوكئة على عصا الجوزاء، وتردِّد آخر أنفاس البقاء، فسترها الفجر بملاءته الزرقاء، ودرجها الصبح في أرديته البيضاء، ثم قبرها في جوف الفضاء، وقامت عليها بنات هديل، نائحة بالتسجيع والترتيل، ثم انقلب المأتم في الحال عرس اجتلاء، وتبدَّل النحيبُ بالغناء، لإشراق عروس النهار، وإسفار مليكة البدور والأقمار".
والمويلحي في مثل هذا الوصف إنما يحاول صنع قطعة أدبية على الطريقة القديمة، التي كان يُعْنَى أصحابها بسرد عبارات مختارة دون تحديد ما يصفون، وكأنه يصف كل صباح لا صباحًا بعينه شاهده وأثَّر في نفسه تأثيرًا خاصًّا، فأفرده بالوصف والتصوير.
غير أن هذه القطع تمتد في حوار طويل بين المنيكلي وعيسى بن هشام أو بين أحدهما وبعض شخصيات القصة أو بين الشخصيات نفسها. ومن الحق أنه وسَّع جنبات المقامة القديمة التي كانت تعتمد على مثل هذا السرد اللفظي في قطعة الصباح، وخرج بها إلى حوار واسع؛ تأثر فيه بطريقة الغربيين في قصصهم. فالحوادث تتطور والشخصيات تصوَّر بنزعاتها النفسية في المواقف المختلفة. ومن حين إلى حين نشاهد ضروبًا من الصراع كما نشاهد ضروبًا من السخرية المستمدة من طباع الشخصيات ومن مفارقات الحوادث ومفاجآتها. وهو في حواره وشخصياته وحوادثها يستمد من الواقع المحلِّي ونُظُم بيئته المصرية، إلا أن ذلك كله وُضع في إطار المقامة الضيق بسجعه.
ومع ذلك استطاع المويلحي أن يكتب في هذا الإطار نحو ثلاثمائة وسبعين صحيفة. وفي الطبعة الرابعة للكتاب أضاف إلى رحلة المنيكلي وعيسى بن هشام في عالم الأحياء المصري رحلة ثانية إلى باريس؛ ليشاهد المنيكلي معالم المدنية في الغرب وليرى بعض معارضها. ويعودان إلى مصر وقد اقتنع المنيكلي بأن المدنية الغربية ليست شرًّا خالصًا، وأنه لا بأس من أن نستمد منها؛ ولكن على أن يوافق ما نستمده تقاليدنا وطباعنا وأمزجتنا وروحنا الشرقية، وبعبارة أدق: على أن نمصِّره على نحو ما مصَّر المويلحي القصة الاجتماعية في حديث عيسى بن هشام.
8 ـ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:
أ- حياته وآثاره:
وُلد مصطفى صادق الرافعي في سنة 1880 لأسرة لبنانية الأصل من "طرابلس الشام"، هاجر كثير من أفرادها في القرن الماضي إلى مصر، واشتغلوا فيها بالقضاء الشرعي. وكان والد مصطفى رئيسًا للمحاكم الشرعية في كثير من أقاليمنا المصرية، ويسمى عبد الرزاق. وقد عُين أحد أفراد هذه الأسرة -وهو الشيخ عبد القادر الرافعي- مفتيًا بعد وفاة الشيخ محمد عبده، إلا أن القدر لم يمهله طويلًا. فالجو الذي تنفس فيه مصطفى كان جوًّا إسلاميًّا عربيًّا. وقد عُني به أبوه، فحفَّظه القرآن ولقنه تعاليم الدين الحنيف، ثم ألحقه في سن الثانية عشرة بمدرسة دمنهور الابتدائية؛ حيث كان يتولى عمله القضائي. ونُقل إلى المنصورة فأتم مصطفى دراسته الابتدائية هناك، وهو في السابعة عشرة من عمره. وبمجرد فراغه من هذه الدراسة أصابته حمى عنيفة -لعلها حمى التيفويد- وشفي منها، إلا أنها خلفت وراءها حُبْسة في صوته، ووقرًا في أذنيه، ولم يفد العلاج معه شيئًا؛ بل لقد أخذ سمعه يضعف، حتى انتهى إلى الصمم الخالص في سن الثلاثين.
وكان هذه الصدمة سببًا في أنه لم يتم تعلمه، غير أنه عكف على الكتب ينهل منها ويفيد معتمدًا على ذكائه، وعُين في إبريل سنة 1899 كاتبًا بمحكمة طلخا الشرعية، ونُقل منها إلى محكمة إيتاي البارود ثم محكمة طنطا الشرعية، فالأهلية، وظل في هذه الوظيفة إلى وفاته. ويقال: إن أواصر الصداقة انعقدت بينه وبين الكاظمي، وهو لا يزال بطلخا، ولعله هو الذي شجعه على نظم الشعر في باكورة حياته، كما يقال: إنه عرف الحب في إيتاي البارود.
ونحن نلتقي به في مطالع القرن العشرين شاعرًا ناضجًا من ذوق مدرسة البارودي، وقد قرَّظه وأشاد بفضله حين نشر الجزء الأول من ديوانه سنة 1902 كما نوَّه به المنفلوطي، وفي العام التالي نشر الجزء الثاني من هذا الديوان، فقرظه البارودي ثانية، وحيَّاه الشيخ محمد عبده راجيًا أن يسدي في خدمة الإسلام ما أسداه حسان في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام. ونشر الجزء الثالث من ديوانه سنة 1912، وناب حافظ إبراهيم عن البارودي في تقريظه. وبجانب هذا الديوان نشر ديوانًا ثانيًا بعنوان النظرات سنة 1908، كما نشر قصائد متفرقة في مجلتي فتاة الشرق وأبولو. ويبدو في أشعاره جميعها تمسكه -على شاكلة مدرسة البارودي- بالصياغة القديمة. وقد فسح للغزل في دواوينه كما فسح للتهاني والمراثي والمشاعر الوطنية والإسلامية وأحاسيس المرارة من حالة مصر الاجتماعية حينئذ. ونراه دائمًا يحاول أن يبعث شعور الثقة إلى بني وطنه، كما نراه مهتمًّا بقضية المرأة العربية محذرًا لها من المغالاة في تقليد الأوربيات اللائي لا يعصمهن دين ولا عقيدة. وقد عُني إلى ذلك بوصف الطبيعة ووصف بعض المخترعات الحديثة كالخيالة وآلة التصوير.
ولا نكاد نتقدم في العقد الثاني من هذا القرن حتى نراه يتجه باطراد إلى النثر، وتصادف أن رصدت الجامعة المصرية جائزة لكتاب في "أدبيات اللغة العربية"، فعكف على الأدب العربي يدرسه، ولم يلبث أن نشر الجزء الأول من كتابه "تاريخ آداب العرب" سنة 1911، وهو يدل على إيمانه الشديد بهذه الآداب، وأنها تعلقت قلبه حتى الشغاف. ودار العام، فأصدر الجزء الثاني من هذا التاريخ، وقصره على إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وقد طبعه فيما بعد مستقلًّا باسم إعجاز القرآن، وكتب سعد زغلول تقريظًا له شبَّه فيه أسلوب المؤلف بالتنزيل الحكيم، وهو تشبيه يصور حقيقة كبيرة، فإن الرافعي يتأثر في نثره العبارة القرآنية في بلاغتها وسموها.
ويتراءى الرافعي منذ هذا التاريخ مالكًا لأزمة اللغة والبيان، وكان أول ما جاشت به نفسه من النثر الفني كتابه "حديث القمر" الذي نشره في سنة 1912بعد رحلة طاف بها لبنان، وعرف شاعرة كان بينه وبينها حديث عاطفي طويل في الحب، ومن ثم كان الكتاب فصولًا في الحب والجمال والزواج والطبيعة، تتخللها أشعار متفرقة. وهو فيه يتفنن في معانيه وأساليبه تفننًا رائعًا. ونتقدم معه إلى سنة 1917 فنراه يخرج كتابه "المساكين" معارضًا به كتاب "البؤساء" لفيكتور هيجو، وهو فصول شتى تصف بؤس البائسين وآلامهم، وتعرض آراء مختلفة في الفقر والحظ والحب والجمال والخير والشر.
ونراه بعد ثورتنا في سنة 1919 يُعْنَى بأناشيدنا الوطنية، ونشيده "اسلمي يا مصر" يدور على كل لسان. ويهتم بقضية المرأة، فيؤلف من أجلها كتابه "رسائل الأحزان" الذي نشره في سنة 1924، ويزعم في مطلعه أنه رسائل صديق بعث بها إليه، وهو يقص فيه حكاية حب مصورًا خواطره في العشق والزواج بقلمه البليغ.
وقد مضى ينشر في نفس السنة كتابه "السحاب الأحمر" يتحدث فيه عن فلسفة الغضب وحمق الحب وخبث المرأة. وانطوت ست سنوات فعاد إلى هذا الموضوع ونشر "أوراق الورد" مصورًا آراءه في الحب والجمال. والرافعي في هذه الكتب جميعها يفتنُّ في العبارة وفي توليد المعاني.
ونراه منذ احتدمت المعركة بين القديم والجديد في سنة 1923 يحمل لواء المحافظين مدافعًا بقوة عن مُثله العربية الإسلامية، وقد عرضنا لهذه المعركة وموقفه منها في غير هذا الموضع، إلا أنه ينبغي أن نعود فنشير إلى كتابه "تحت راية القرآن أو المعركة بين القديم والجديد" الذي نشره في سنة 1926 عقب ظهور كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، وفيه صوَّب سهامه إلى كل ما في هذا الكتاب من آراء وأفكار. وتحول إلى المجددين في الشعر ممثَّلين في عباس العقاد يرميهم بأقذع صور الهجاء في كتابه "على السَّفُّود". وظل بقية حياته ثابتًا للمجددين من الشعراء والكتاب جميعًا، ينقدهم نقدًا مرًّا، كما ظل مؤمنًا بالميراث العربي في لغته وآدابه، وأن نهضة العرب لا تقوم إلا على أساس وطيد من الدين وعربيته الفصحى السليمة، وكان يكتب في ذلك المقالات المختلفة في المجلات. ودعاه أحمد حسن الزيات للإسهام في تحرير مجلة الرسالة، فلبَّى الدعوة، وأخذت مقالاته في الإسلام والعروبة تتوالى، حتى وافاه القدر، وقد جُمعت هذه المقالات وطُبعت في لجنة التأليف والترجمة والنشر باسم "وحي القلم" وهي في ثلاثة أجزاء.
"مقالات وحي القلم":
رأينا الرافعي ينشأ نشأة إسلامية عربية، وهي نشأة تغلغلت أصداؤها في فؤاده ونمت مع الزمن، فإذا هي تتحول إلى نثر فني بليغ يفيض بالإخلاص والطهر والإحساس بآلام الجماعة وكوارثها والشعور الدقيق بمآثر العرب ودَوْرهم في التاريخ وبمعاني الإسلام ومُثله الرفيعة. وهو إلى ذلك يصف الحب ومعانيه والجمال وألوانه والطبيعة ومفاتنها وما أودع الله فيها من المعاني التي تبهج الإنسان. وفي كل ذلك يغمس قلمه متأنيًا مترويًا، فالكتابة البيانية ليست شيئًا يسيرًا؛ بل هي شيء عسير، لا بد فيه من تأمل طويل، تأمل في الفكرة واستنباط فيها وتوليد، حتى تستحيل إلى موضوع متشعب كبير، وقد صوَّر ذلك في تقديمه للجزء الأول من وحي القلم، فقال:
"لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها، يقيمها الكاتب على حدود، ويديرها على طريقة، مصيبًا بألفاظه مواقع الشعور، منيرًا بها مكامن الخيال، آخذًا بوزن، تاركًا بوزن؛ لتأخذ النفس كما يشاء وتترك. ونقل حقائق الدنيا نقلًا صحيحًا إلى الكتابة أو الشعر هو انتزاعها من الحياة في أسلوب، وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل، لوضعه كل شيء في خاص معناه، وكشفه حقائق الدنيا كشفة تحت ظاهرها الملتبس. وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة، تستدرك النقص فتتمه، وتتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيد فتطلقه، وتأخذ المطلق فتحدُّه، وتكشف الجمال فتظهره، وترفع الحياة درجة في المعنى، وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلًا يعيش به. فالكاتب الحق لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصورة لهذا الوجود، تصور به شيئًا من أعمالها فنًّا من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسير، تفسير الحقيقة، والخطأ الظاهر يريده على التبيين، تبيين الصواب، والفوضى المائجة تسأله الإقرار، إقرار التناسب، وما وراء الحياة يتخذ من فكره صلة بالحياة، والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلة نفسية لتعلو به أو تنزل. ومن ذلك لا يُخْلق الملهم أبدًا إلا وفيه أعصابه الكهربائية، وله في قلبه الرقيق مواضع مهيأة للاحتراق، تنفذ إليها الأشعة الروحانية، وتتساقط منها بالمعاني. وإذا اختير الكاتب لرسالة ما شعر بقوة تفرض نفسها عليه، منها سناد رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به، فيكون إنسانًا لأعماله وأعمالها جميعًا، له بنفسه وجود، وله بها وجود آخر، ومن ثم يصبح عالمًا بعناصره للخير أو الشر كما يوجَّه، ويُلْقَى فيه مثل السر الذي يلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يُرى سهلًا كل السهل حين يتم، ولكنه صعب أي صعب حين يبدأ. هذه القوة هي التي تجعل اللفظة المفردة في ذهنه معنى تامًّا، وتحوِّل الجملة الصغيرة إلى قصة، وتنتهي باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة ... ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى كالإيمان والجمال والحب والخير والحق سبتقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة".
وهو يشير في أول كلامه إلى معاني المقالة البيانية وما تستلزم من الدقة حتى تؤثر في العاطفة والخيال، ويقول: إنه لا بد لصاحبها من أن تكون له بصيرة نافذة يزيح بها الأستار عن حقائق الدنيا الخارجية، وبذلك ينكشف له عالمها الداخلي وما يموج به من أسرار ويلمع فيه من أفكار، فيعيش فيه هذه المعيشة التي تجعله يحمله إلينا بكل ما فيه من جمال وروعة.
والرافعي حقًّا من كتابنا القلائل الذين عاشوا معيشة داخلية في حقائق دنيانا، متجاوزًا ظاهرها الحسي إلى قواها الروحية الباطنة، وقد أعانه على ذلك صممه المبكر الذي جعله يحيا بين الناس وكأنه غريب عنهم، ويتحدث إليهم وهو لا يسمعهم. فكان طبيعيًّا أن يفضي إلى ذات نفسه، وأن يعيش هذه المعيشة الداخلية التي عكف فيها على عقله، وانطلق به متجولًا في باطن الحقائق الظاهرة، مسلطًا عليها من إشعاعاته العقلية ما جعل معانيها الخفية تتألق أمام عينيه.
واقرأ له في وحي القلم أي مقالة، فستراه يحوِّل أي موضوع اجتماعي أو سياسي أو تاريخي وأي مشهد في الطبيعة أو في حياة الناس وأي خبر من أخبار العرب أو الإسلام إلى ما يشبه ينبوعًا لا تزال تتفجر منه المعاني الخفية التي تروع بدلالاتها، وبما أخرجها فيها من صيغة عربية بديعة. فتملكه لزمام اللغة لا يقل عن تملكه لزمام المعاني، وبصره بجمال أساليبها لا يقل عن بصره بالقوى الكامنة في حقائق الأشياء.
ولمن يكن يتقن لغة أجنبية إلا أطرافًا من الفرنسية ليس فيها غناء؛ ولكنه وجد في موارده الداخلية ما يعوِّض هذا النقص؛ بل ما جعله يتقدم بطرائف فكره كثيرين ممن تعمقوا الآداب الغربية وأفادوا من كنوزها المعنوية. وحقًّا قد يجري الغموض والالتواء في جوانب من كتابته، وهما طبيعيان لمثل هذا الكاتب الذي كان يسرف في التعمق والتغلغل في معانيه إسرافًا تنوء به اللغة، فلا تنهض بما يريد أحيانًا، غير أنها حين تواتيه، يجتمع لتعبيره جلال الإدراك العقلي وجمال الأسلوب اللفظي؛ إذ كان له ذوق مهذب مصفى وحس دقيق مرهف وعقل يقتدر على التجريد والتوليد والنفوذ إلى العلاقات والدلالات البعيدة.
وهو في مقالاته بوحي القلم يستلهم دائمًا مثله الإسلامية مستضيئًا بها في كل ما يكتب، كما يستلهم مثله العربية الرفيعة؛ بحيث يمكن أن نلقبه "كاتب الإسلام والعروبة". واقرأ له مقالاته: "الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام" و"الإنسانية العليا" و"الله أكبر" و"وحي الهجرة" وغير ذلك من مقالات إسلامية فستراها حافلة بمعانٍ تملأ النفس إعجابًا. وحين تراءت محنة فلسطين في الأفق وقف يستصرخ المسلمين للذود عن هذا الوطن المقدس وأهله من العرب أمام اليهود الجشعين، داعيًا إلى جهادهم وجهاد المستعمرين من ورائهم بأسلوب ناري متأجج، وقد جعل عنوان هذا الاستصراخ "أيها المسلمون" وفيه يقول:
"ابتلوهم باليهود يحملون في دمائهم حقيقتين ثابتتين من ذل الماضي وتشريد الحاضر. ويحملون في قلوبهم نقمتين طاغيتين: إحداهما من ذهبهم والأخرى من رذائلهم. ويخبئون في أدمغتهم فكرتين خبيثتين: أن يكون العرب أقلية، ثم أن يكونوا بعد ذلك خدم اليهود. في أنفسهم الحقد وفي خيالهم الجنون، وفي عقولهم المكر، وفي أيديهم الذهب الذي أصبح لئيمًا لأنه في أيديهم ... يقول اليهود: إنهم شعب مضطهد في جميع بلاد العالم، ويزعمون أن من حقهم أن يعيشوا أحرارًا في فلسطين، كأنها ليست من جميع بلاد العالم!
وقد صنعوا للإنجليز أسطولًا عظيمًا لا يسبح في البحار ولكن في الخزائن. وأراد الإنجليز أن يطمئنوا في فلسطين إلى شعب لم يتعود قط أن يقول: أنا. ولكن لماذا كنستكم كل أمة من أرضها بمنكسة أيها اليهود، أجهلتم الإسلام؟ الإسلام قوة كتلك التي توجد الأنياب والمخالب في كل أسد.
ويصرخ بنفس الصوت في شباب العرب ناعيًا عليهم قعودهم عن كفاح المستعمرين وجهادهم وانحصارهم في طعامهم وشرابهم ولذاتهم، يستثير بذلك عزائمهم، حتى يضربوا عدوهم الضربة القاضية، وفي تضاعيف ذلك يقول: "ألا إن المعركة بيننا وبين الاستعمار معركة نفسية، إن لم يقتل فيها الهزل قُتل فيها الواجب، والحقائق التي بيننا وبين هذا الاستعمار إنما تكون فيكم، أنتم بحثها التحليلي، تكذب أو تصدق.
يا شباب العرب! لم يكن العسير يعسر على أسلافكم الأولين، كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها. أتريدون معرفة السر؟ السر أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملًا من أعمال الخالق.
ودائمًا ينفخ في روح الشباب المصري، موقظًا فيه حميته لوطنه، حتى ينقض كالأسد الكاسر على الإنجليز ويذيقهم وبال استعمارهم، إن كل مصري ينبغي أن يتحول شعلة آدمية تأتي عليهم كأن لم يكونوا شيئًا مذكورًا. إنه لم يبقَ لهم إلا لحظات وأنفاسها، فقد اتقدت الشعل، وسيرون عما قريب مسها وتحريقها، ويومها يولون على أعقابهم نادبين مولولين. واقرأ له في ذلك مقالاته: "أجنحة المدافع المصرية" و"الطماطم السياسي" و"المعنى السياسي في العيد" يقول: "ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير ... ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع لا رجال في أيديهم سيوف من خشب".
وتشغله في كثير من مقالاته قضية المرأة، ونراه يقدم لها النضج دائمًا بروح المسلم المحافظ على تقاليده الدينية. واسترعته حياتها الجديدة على شوطئ الإسكندرية صيفًا، فوصف هذه الحياة في مقالين بعنوان "لحوم البحر" و"احذري" أدارهما على أنشودتين لشيطان وملاك، لاعنا للرذيلة وداعيا إلى الفضيلة، ومحذرًا المرأة من أن تُخدع عن نفسها وتتعرى من ثيابها أمام الصقور الجائعة، فتجلب على نفسها العار الذي يزلزل كيان أسرتها زلزالًا عنيفًا.
ويفسح في مقالاته لآلام البؤساء والمشرَّدين وأسقامهم، ويئن بصوت الإنسانية الرحيم، حتى لكأنه المشرد أو البائس الذي يصفه، وتتدفق عليه أنات البشرية وعبراتها من كل صوب. ونراه في بعض مقالاته يصور مُثله الخاصة في الشعر. وأكبر الظن أنه قد اتضحت لنا شخصية الرافعي في مقالاته وأدبه بكل خصائصها الروحية والعقلية واللغوية، فقد كان يؤمن بِمُثُل الإسلام والعروبة والوطنية، وكان يحس كل ما حوله من طبيعة وغير طبيعة. وقد استطاع أن يمتلك ناصية اللغة وأن يصرف ألفاظها في يده كما يشاء. وأعانته على ذلك كله عزلة ضربها الصَّمَم من حوله، فإذا هو يخلص لعالمه الباطني، يغوص فيه على المعاني الدقيقة فيبرزها. وكان لا يزال يتعمقها حتى يحدث فيها ضربًا من الفلسفة المنطقية، وكان ذلك من أهم الأسباب في غموضه والتوائه أحيانًا.
والذي لا شك فيه أنه كان يكتب في حذر شديد، فهو لا يكتب كل ما يفد على ذهنه؛ بل ما زال ينتخب ويختار، ينتخب المعاني ويختار الألفاظ محتاطًا في ذلك أشد الاحتياط. وكأنه لم يكن يريد أن يكون أديبًا فحسب؛ بل كان يريد أن يكون أديبًا ممتازًا بفكره العميق وعبارته الدقيقة، ومن ثم آثر في أدبه ومقالاته الجهد العنيف والعناء الشاق، حتى يصبح حقًّا من راضة المعاني وصاغة الكلام.
9 ـ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:
ب- حياته وآثاره:
في قرية "بَرْقين" من أعمال مركز السنبلاوين بمحافظة المنصورة وُلد أحمد لطفي السيد سنة 1872 لأب مصري ريفي ثري هو "السيد باشا أبو علي"، وكان وقورًا مهيب الشخصية حليمًا عطوفًا، وأنشأ ابنه على غراره. ولما بلغ الرابعة من عمره أدخله على عادة أبناء الريف كُتَّاب القرية، وكانت مقرئته "الشيخة فاطمة" فعُنيت به، وحفَّظته القرآن الكريم، وهو لا يزال في العاشرة.
ولما أتم حفظ القرآن ألحقه أبوه بمدرسة المنصورة الابتدائية، فأمضى بها ثلاث سنوات ظفر في نهايتها بالشهادة الابتدائية سنة 1885. وتحول بعد ذلك إلى المدرسة الخديوية بالقاهرة. فاجتاز بها مرحلة التعليم الثانوي التي انتهى منها سنة 1889، ودل في هذه المرحلة على نبوغ في الدرس، وخاصة درس اللغة العربية. وأقبل على قراءة الكتب المترجمة، وكان مما أعجب به كتاب "أصل الإنسان" لداروين؛ إذ ترجمه شبلي شميل في هذا التاريخ.
وعقب إنهائه لمرحلة التعليم الثانوي التحق بمدرسة الحقوق، وكان من مدرسيها حفني ناصف، وحسونة النواوي الذي تولى بعد ذلك مشيخة الأزهر، وكان يعجب بتلميذه الحقوقي، فكان يدعوه إلى منزله، وما لبث أن اصطفاه ليقرأ له درس الفقه الذي كان يلقيه بالأزهر في الصباح الباكر. وفتح له ذلك بابًا كان مغلقًا أمام أقرانه، وهو باب التزود بالدراسات الدينية. وتصادف أن اشترك محمد عبده في لجنة امتحان العلوم العربية بالحقوق، فلفتته كتابة التلميذ الناضج وهنأه بما كتب.
وكان لذلك أثره في نفس التلميذ، فإنه عُني مع طائفة من رفقائه بإخراج مجلة "التشريع"، وأحس أن فيه مواهب صحفية، فكتب في صحيفة المؤيد، واشتغل فترة في القسم الخاص بنقل رسائل البرق الأجنبية. وسافر وهو لا يزال بالحقوق إلى إستانبول فوجد هناك علي يوسف صاحب صحيفة المؤيد وسعد زغلول، فعرَّفاه بجمال الدين الأفغاني، وكان ينزل حينئذ هناك، فلازمه فترة ونفخ فيه من روحه ودعوته إلى الحرية ونهوض الأمم الإسلامية ضد الاستعمار والمستعمرين.
وأتم دراسته في "الحقوق" سنة 1894 وعُيِّن في سلك النيابة، غير أن تعيينه لم يصرفه عن التفكير في شئون بلده السياسية، فألف مع جماعة من زملائه القانونيين جمعية سرية غرضها تحرير البلاد من الاحتلال الأجنبي. وعرفه مصطفى كامل، فعرض عليه في سنة 1897 أن يؤلف معه ومع محمد فريد وطائفة من أصدقائهما الحزب الوطني، فلبى دعوته، واتفق معه مصطفى أن يعتزل الحكومة ويذهب إلى سويسرا، فيمكث بها سنة لينال حق الجنسية السويسرية، ثم يعود إلى مصر فيحرر صحيفة تقاوم الاحتلال البريطاني، فلا تستطيع بريطانيا أن تحول بينه وبين ما يريد بحكم جنسيته الأجنبية. وصدع لمشيئته، فسافر إلى سويسرا، وتصادف أن سافر إليها أيضًا قاسم أمين ومحمد عبده وسعد زغلول، وأخذ يختلف مع ثانيهما إلى ما يلقي من محاضرات في جامعة جنيف، وكان قاسم أمين يؤلف حينئذ كتابه "تحرير المرأة"، فكان يقرأ منه فصولًا عليهم.
ورجع لطفي إلى مصر فوجد الخديو عباسًا غاضبًا لاتصاله بمحمد عبده، وكان الخديو ناقمًا عليه. ولم ينشئ الجريدة التي أشار بها مصطفى كامل؛ لأنه وقر في نفسه أن سياسته التي كان يمليها عليه الخديو ليست هي السياسة التي تنقذ مصر؛ إذ كان مصطفى ينادي بالجامعة الإسلامية في ظل تركيا، ولم يكن غرض مصطفى أن تعود مصر حقًّا إلى تركيا؛ ولكنه كان يظن أن هذه الدعوة تساعد مصر في التخلص من نير الاحتلال.
ونرى لطفي ينتظم في سلك النيابة ثانية، حتى إذا كانت سنة 1905 تركها مستقيلًا منها لخلاف بينه وبين النائب العمومي واشتغل بالمحاماة. ولم يلبث أن أخرج صحيفة "الجريدة" سنة 1907، وألف مع طائفة من نابهي المصريين حزب الأمة، واختير سكرتيرًا له، واختير محمود سليمان رئيسًا وحسن عبد الرزاق وكيلًا. وكان برنامج هذا الحزب المطالبة بالاستقلال التام وبالدستور وتوسيع اختصاص مجلس شورى القوانين ومجالس المديريات.
وانضم إلى هذا الحزب كثيرون من أعيان البلاد المصرية المختلفة، وأهم من ذلك أنه انضم إليه أكثر المفكرين المصريين الذين كانوا يلتفون حول الشيخ محمد عبده والذين يرجع إليهم أكثر الفضل في وضع أسس نهضتنا المباركة من أمثال: قاسم أمين وفتحي زغلول وعبد العزيز فهمي وعبد الخالق ثروت. وكان هؤلاء المفكرون يؤلفون في أول هذا القرن طبقة ممتازة تشعر بآلام الشعب وآماله، وتصور لنفسها -بفضل ثقافتها الواسعة بآداب الغرب- مُثله العليا غير المحدودة في الحرية والاستقلال والحكم العادل الرشيد، وهي نفسها الطبقة التي عملت على إقامة الجامعة المصرية الأهلية وفتح أبوابها للطلاب منذ سنة 1908. غير أنه يلاحظ على هذه الطبقة أنها لم تكن ثائرة ثورة مصطفى كامل على الإنجليز، هي تدعو إلى التخلص من احتلالهم؛ ولكن في رفق ومع اصطناع الدهاء؛ بل مصانعتهم أحيانًا. وقد يكون من أسباب ذلك أن كثيرًا من أعضاء الحزب كانوا يحتلون المناصب العليا في مرافق البلاد المختلفة، فرأى الحزب أن يعرض للإنجليز في دقة واحتياط حتى لا يقصوهم عن مناصبهم، وكانوا يرون أن العلة الحقيقة في الاحتلال هي القصر وحاكمه التركي، فهاجموه مهاجمة عنيفة.
وعلى العكس من ذلك كان مصطفى كامل وأعضاء الحزب الوطني ثائرين ثورة عنيفة على الإنجليز؛ ولذلك عدهم الشعب رُسُل الوطنية الحقيقيين؛ ولكن ينبغي ألا نتهم حزب الأمة ورجاله في وطنيتهم، فقد كانوا يرون التريث في هذه الحرب السافرة، حتى تتاح الفرصة الحقيقية لها عن طريق النهوض بالشعب في التعليم وغير التعليم، واستقر في نفوسهم أن أعداء مصر ليسوا هم الإنجليز وحدهم؛ بل أيضًا الخديو التركي وبطانته.
وعن هذه المبادئ كان يصدر محرر الجريدة لطفي السيد فيما يكتب من مقالات سياسية واجتماعية، يصور فيها دعوات حزبه الإصلاحية. وظل على ذلك سبع سنوات، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، وأعلنت إنجلترا في ديارنا الأحكام العرفية، فحاول أول الأمر أن يكسب شيئًا لبلده من الإنجليز، حين ترفرف راية السلام، وقابل ممثِّل إنجلترا مع بعض رفاقه يدعوه أن يعرض الأمر على حكومته، فماطله. ويئس لطفي، فاستقال من تحرير الجريدة، وعاد إلى بلدته "برقين" وكأنه رأى أن الجهاد السياسي العلني أصبح مستحيلًا في هذه الظروف.
وتطورت الأمور فأُعلنت الحماية على مصر، وعاد لطفي ولكن لا ليشترك في تحرير الجريدة، وإنما ليتقلد بعض الوظائف، وعُين مديرًا لدار الكتب المصرية، فاعتزل في هذه الركن الثقافي، وأخذ يترجم في "أرسططاليس" وبدأ بكتابه "الأخلاق". حتى إذا وضعت الحرب أوزارها استأنف نشاطه السياسي مع سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وغيرهم، وظل معهم في جهادهم وبلائهم، حتى ظهرت بوادر الخلاف والانشقاق في الصفوف، فاعتزل السياسة ثانية وعاد إلى وظيفته في دار الكتب وإلى أرسططاليس يقرأ فيه ويترجم، حتى انتهى من كتاب الأخلاق وفصوله الخمسة.
وفكرت الحكومة المصرية في تحويل الجامعة الأهلية -وكان وكيلًا لها- إلى جامعة حكومية، ونُفِّذَت الفكرة، فاختير مديرًا للجامعة الجديدة، وفتح أبوابها للفتاة المصرية، فحقق الأمل الذي كان يراود صديقه قاسم أمين في أول القرن، أمل النهوض الحقيقي بالمرأة المصرية. وفي سنة 1928 ترك الجامعة إلى وزارة التربية والتعليم، فنهض بشئونها المختلفة. واستقالت وزارة محمد محمود الذي كان يعمل معه، فلزم بيته وعاد إلى أرسططاليس، وسرعان ما استدعى إلى الجامعة، فلبى الدعوة. وتطورت الأمور فتولى إسماعيل صدقي الوزارة وألغى الدستور ووقف الحياة النيابية، وتدخل في شئون الجامعة، وأقال طه حسين عميد كلية الآداب حينئذ، فغضب لطفي بسبب هذا الاعتداء على استقلال الجامعة، وقدم استقالته، حتى إذا استقالت وزارة صدقي، عاد إلى الجامعة في إبريل سنة 1935.
وأخرج في فترة حكم صدقي كتاب الكون والفساد لأرسططاليس سنة 1932، وتبعه بكتاب الطبيعة سنة 1935، وفي سنة 1940 نشر كتاب السياسة، وهو آخر الكتب التي ترجمها للمعلم الأول. وظل في الجامعة إلى سنة 1941؛ إذ رأى أن يستمتع بنصيب من الراحة، فعُين عضوًا بمجلس الشيوخ، ثم اختير رئيسًا للمجمع اللغوي، وما زال يشغل هذا المنصب حتى وفاته سنة 1964. وقد منح في سنة 1959 جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية؛ اعترافًا بجهوده العقلية.
مقالات الجريدة:
رأينا لطفي ينشأ في وسط ثري من أوساط ريفنا المصري، وقد ورث عن أبيه اعتداده بنفسه وسمو أخلاقه، كما ورث عنه ذكاء فطريًّا سليمًا. وأخذ هذا الغرس الطيب ينمو في عصر الاحتلال، ويتلون بالمعارف المختلفة من عربية إسلامية وغربية فرنسية. وكان منذ شبابه يفكر في أحوال بلده، فصحب جمال الدين الأفغاني فترة في إستانبول كما صحب محمد عبده في جنيف وبعد جنيف، ولم تلبث مبادئهما أن تسربت إلى روحه؛ بل أخذت تتأجج بين ضلوعه نارُ الشوق إلى التخلص من الاحتلال، وأن تُرَدَّ إلى بلده كرامته القومية.
ووضع يده في يد مصطفى كامل؛ ولكنه كان يختلف عنه؛ إذ كان من مدرسة أخرى، مدرسة الشيخ محمد عبده، التي لم تكن ترى الثورة حينئذ على الأوضاع عملًا ناجعًا لإنقاد الوطن، ولم يكن يعجبها صنيع مصطفى كامل في الاتجاه تارة إلى الدولة العثمانية، وتارة إلى فرنسا والأمم الغربية ظانًّا أن هذه الدول تنقذ مصر من براثن الاحتلال، وترد إليها حريتها.
وآمن أعضاء حزب الأمة بأن هذه التربية هي الوسيلة الحقيقية للتخلص من الاحتلال، وهي وسيلة متأنية؛ إذ تحتاج وقتًا لبثها في أفراد الشعب، فهي ليست ثورة وطنية عنيفة كثورة مصطفى كامل؛ وإنما هي دعوة للتطور والرقي من الداخل؛ حتى تقف الأمة على أقدامها، وتصرخ في وجه الإنجليز الصرخة المدوية المنبعثة من أعماقها. وكان يؤمن بذلك رجالات حزب الأمة من هؤلاء المصلحين المختلفين الذين انبثوا في أعمال الدولة، والذين استطاعوا بفضل ثقافتهم أن يفهموا فَهْمًا صحيحًا الأصول السياسية والاجتماعية التي عُرفت في الغرب، وكانوا يرون من الواجب أن تدخل مصر؛ ولكن مع التطور والتدرج، والانتفاع منها بالصالح، مما يلائم طبائع المصريين.
وتولى لطفى بحكم تحريره لصحيفة الحزب "الجريدة" هذه المهمة التربوية، وكانت مهمة صعبة؛ إذ عليه أن يربي شعبًا، ويغرس فيه أطماعه الوطنية وحقوقه وواجباته السياسة. ومن هنا أخذ لقب "المعلم"، والحق أنه علم الشعب كثيرًا مما أصبح بعد تصريح 28 من فبراير سنة 1922 قائمًا قيام الأهرامات الراسخة في حياتنا السياسية من مثل سلطة الأمة والحرية الدستورية وتعليم الفتاة وغير ذلك من معانٍ وطنية.
فقد عكف على قراءة ما كتبه المصلحون الغربيون في شئون التربية القومية وفي الحقوق السياسية، ونقل ذلك إلى المصريين في مقالاته بالجريدة، فتارة يردد ذكر المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية، وتارة يردد آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين قرروا تلك المبادئ من مثل روسو وستيوارت مل وتولستوي ومونتسكيو وفولتير؛ وبذلك وُجدت عندنا المقالة السياسية بالمعنى الدقيق، فهي ليست كلامًا ارتجاليًّا يقال؛ وإنما هي دراسة وخبرة بالفكر الغربي ونقل ما يلائمنا منه. ونكتفي بذكر مقتطفات من بعض مقالاته، يقول في مقالة بعنوان "غرض الأمة هو الاستقلال"
ويقول في مقال بعنوان "الحرية":
"لو كنا نعيش بالخبز والماء لكانت عيشتنا راضية وفوق الراضية؛ ولكن غذاءنا الحقيقي الذي به نحيا ومن أجله نحب الحياة ليس هو إشباع البطون الجائعة؛ بل هو غذاء طبيعي أيضًا كالخبز والماء؛ لكنه كان دائمًا أرفع درجة وأصبح اليوم أعز مطلبًا وأغلى ثمنًا. هو إرضاء العقول والقلوب، وعقولنا وقلوبنا لا ترضى إلا بالحرية.
وفي مقال بعنوان "مصريتنا":
"إن الانتساب إلى مصر لا يمكن أن يكون عارًا؛ فإن مصر بلد طيب، قد ولد التمدن مرتين، وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفل له الرقي، متى كرم أهلوه، وكرمت عليهم نفوسهم، وكبرت أطماعهم، فاستردوا شرفه، وسموا به إلى مجد آبائهم الأولين".
وبمثل هذا الأسلوب الجزل الرصين كان لطفي يعلم أمته بمقالاته، وهي ليست مقالات فارغة؛ وإنما هي مقالات مليئة بالثقافة الواسعة وبالفكر العميق. ووسَّع دائرة هذه المقالات وجعلها تشمل كل ما يتصل بتربية الأمة من وجهات أخلاقية واجتماعية؛ إذ عُنِيَ بكل جوانب الحياة المصرية عناية فاحصة دقيقة، تقوم على الدرس وتبين الخصائص والصفات حتى نعرف ما ينقصنا بالقياس إلى مُثلنا العليا معرفة واضحة.
ومن أهم ما يمتاز به في كتابته المنطق والوضوح وحشد الأدلة والأقيسة والانتقال من العام إلى الخاص والخاص إلى العام، يُلهمه في ذلك ذكاؤه واتساع قراءاته في الفكر الغربي. وهو يعبر عن ذلك كما في هذه الفقرات بسهولة، ويصل دائمًا قاصدًا إلى غايته مما يريد التعبير عنه، فأنت لا تجد عنده أي تعبير شائك أو معقد في أي جانب من جوانب مقالاته؛ إنما تجد التعبير السريع الواضح الذي يصور لك ما بنفس الكاتب من جميع أطرافه.
وهذا التعبير المباشر الذي يقصد إلى غايته بدون أي تعقيد هو أهم خصائص لطفي، وهو تعبير يصور القمة التي استطاع مفكرونا أن يصلوا إليها منذ أوائل هذا القرن، مسلحين بالثقافة الغربية؛ بل إن لطفي يصل من ذلك إلى أبعد الغايات بفضل عقله الذي خُلق ليكون عقل معلِّم. وأكبر الظن أننا لا نبالغ إذا قلنا: إنه خُلق ليكون عقل "فيلسوف" يبحث في خصائص الأشياء وصفاتها، ويردها إلى عناصرها ومكوناتها.
فأنت في قراءة مقالاته التي جُمعت طائفة منها ونشرت باسم "المنتخبات" و"تأملات" تحس بأنك تجد غذاء محققًا لعقلك ولقلبك ولشخصيتك المصرية التي عمل على إنمائها وإذكائها بكل ما استطاع، حتى لنجده يدعو إلى تقريب العربية من لغتنا العامية؛ حتى تكون لنا لغة مصرية مستقلة. ولم يدع إلى العامية -كما يُظَنُّ- وإنما دعا إلى التقريب بينها وبين العربية واستخدام ما فيها من كلمات أصلها فصيح، وهي تدور على كل لسان. ولم يجد حرجًا في أن تدخل منها بعض الألفاظ في أساليبنا الأدبية. وكان لذلك أثره عند المازني وهيكل وتوفيق الحكيم، فإنهم عمدوا إلى ذلك في بعض آثارهم .
10 ـ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:
أ- حياته وآثاره:
في بيت عتيق على حدود الصحراء في القاهرة وُلد إبراهيم عبد القادر المازني سنة 1889 في بيئة دينية متواضعة؛ إذ كان أبوه محاميًا شرعيًّا ولم يكن على شيء من الثراء. ولم يتمتع إبراهيم طويلًا برعاية أبيه، فقد توفي وهو في سنيه الأولى، ولم تقعد بأمه فاقتها، فقد رعته وألحقته بالمدرسة الابتدائية، حتى إذا أتمها التحق بالمدرسة الثانوية، وعينها من ورائه.
وطمح بعد إكمال دراسته الثانوية إلى الالتحاق بمدرسة الطب؛ لكنه لم يكد يدخل غرفة التشريح، حتى أصابه غثيان شديد، فانصرف عن الطب، وفكر في الالتحاق بمدرسة الحقوق، إلا أن ضيق ذات يده رده عنها إلى مدرسة المعلمين. وفي هذه المدرسة أخذت ملكته الأدبية في الظهور، فعكف على قراءة الأدب القديم يقرأ في كتابات الجاحظ وفي كتاب الأغاني وفي الكامل للمبرد والأمالي لأبي علي القالي وغير ذلك من عيون النثر العربي القديم، كما أخذ يقرأ في الشريف الرضي ومهيار وابن الرومي والمتنبي وأضرابهم من الشعراء البارعين.
وكانت مدرسة المعلمين تهتم باللغة الإنجليزية وآدابها، فأقبل على هذه الآداب لا فيما يُصْرَفُ إليه من كتبها فحسب؛ بل أيضًا في عيونها عند شعرائها من مثل شللي وشكسبير وبيرون وكتابها مثل: ديكنز وثاكري ووالتر سكوت وشارلز لام. واتجه إلى مؤلفات النقاد الإنجليز الممتازين مثل: هازليت وأرنولد وسانتسبري.
واستقامت له من كل هذه القراءات في الأدبين العربي والغربي صورة جديدة من التفكير في الحياة وفي الأدب شعره ونثره، نرى آثارها فيما كان يكتبه في صحيفة "الجريدة" وهو لا يزال طالبًا في مدرسة المعلمين. وانعقدت أسباب المودة بينه وبين أحد رفقائه، وهو عبد الرحمن شكري، وأخذ ينظم معه الشعر على أسلوب جديد في ضوء ما قرآ من شعر الإنجليز، وخاصة عند أصحاب النزعة الرومانسية أمثال شللي شعراء البحيرة.
وتخرج في مدرسة المعلمين سنة 1909 فعُين أستاذًا للترجمة في المدرسة السعيدية، ثم في المدرسة الخديوية، وعُني بأن يترجم لتلاميذه قطعًا مختلفة من كليلة ودمنة إلى الإنجليزية، كما ترجم لهم من هذه اللغة كثيرًا من نماذجها الممتازة التي قرأها لكبار كتابها وشعرائها. وسرعان ما تعرَّف على العقاد وكوَّن معه ومع شكري الجيل الجديد الذي سبق أن تحدثنا عنه. وكان أهم ما اتجه إليه هذا الجيل في أوائل القرن صنع الشعر على شاكلة ما يصنع الغربيون شعرهم الغنائي، ونشر شكري أول محاولة للجماعة ممثلة في ديوانه "ضوء الفجر"، وأخذ المازني يشيد بالمحاولة، وجرَّه ذلك إلى نقد حافظ وشعره التقليدي نقدًا عنيفًا، وتصادف أن كان وزير التربية والتعليم حينئذ -أحمد حشمت "باشا"- صديقًا لحافظ، فكان يتهدد المازني بأن سيلقى جزاء نقده. ونقل المازني إلى مدرسة دار العلوم، فغضب، وقدم استقالته، وخرج إلى الحياة الحرة، فاشتغل مدرسًا مع العقاد بالمدرسة الإعدادية، وظل على ذلك أربع سنوات، أخرج فيها الجزء الأول من ديوانه سنة 1914 ثم الجزء الثاني سنة 1917.
وشعره في هذين الجزأين على غرار شعر شكري ليس فيه سياسة ولا وطنية ولا دعوات اجتماعية؛ وإنما هو تجربة نفسية تامة، وهي تجربة تفيض بالألم والكآبة إزاء الطبيعة والتفكير في النفس والحياة الإنسانية ومتاعس البشرية، ويأخذ ذلك شكل انفجارات وجدانية. وربما كان مرجع ذلك عنده إلى أنه كان صاحب نفس حساسة وشعور مرهف إلى أبعد ما يكون الإرهاف الدقيق. ولم يكن شيء في حياته مفرحًا، فقد ذاق ألم اليتم صغيرًا، وكان قصيرًا تقتحمه العين، وأحس ذلك في نفسه، فضاق بحياته وتبرَّم بها غاية التبرم، وزاد تبرمه حدة أن أصيب ساقه في حادثة سببت فيه عرجًا، لازمه إلى مماته.
ويقرأ المازني وتتسع قراءته، وينفتح أمامه العالم الغربي عن طريق إتقانه للإنجليزية، فلا يقف عند ما يقرؤه في الأدب الإنجليزي؛ بل يقرأ كل ما استطاع في الآداب الغربية المختلفة، يقرأ لتورجنيف ولهاتزيباشيف الروسيين، ويترجم للأخير قصة "سانين" باسم "ابن الطبيعة" كما يقرأ لمارك توين الأمريكي ولغير هؤلاء جميعًا ممن يُطْبَعُ أدبهم بطوابع السخرية.
وتُحْدث هذه القراءات أثرها العميق في نفس المازني، فإذا هو ينقلب من شاعر وجداني تطفح نفسه بالمرارة والألم إلى كاتب من طراز ساخر يستخف بالحياة وبكل من فيها وما فيها من أشخاص وأشياء وأمانٍ وآلام. ويترك المدرسة الإعدادية، وينتظم في سلك الصحافة إلى نهاية حياته؛ ولكنه لا ينغمر في السياسة؛ إذ يظل مستقلًّا بآرائه وأفكاره شاعرًا بأنه من رجال الأدب لا من رجال السياسة؛ بل تظل له شخصيته الأدبية الساخرة، وكأنه وجد نفسه التي كان يبحث عنها من أوائل القرن كما وجد فلسفته، وهي فلسفة تقوم على لقاء الحياة بالابتسام والسخرية في كل الأحوال والظروف. فلم تعد عيناه تدوران في جوانبها الحالكة، ولم يعد يندبها ويبكيها، فهي لا تستحق عنده سوى الاستخفاف والاستهانة؛ بل لكأنما شعر أن عليه لقرائه واجبًا أن يعينهم بسخريته وفكاهته على تحمل أعباء دنياهم والنهوض بأثقالها.
ونراه يبدأ هذه المرحلة الجديدة بمهاجمة المنفلوطي وأسلوبه الإنشائي الفارغ من الفكر العميق ومن الثقافة، وذلك في كتاب "الديوان" الذي أخرجه مع العقاد، كما يهاجم شكري في شعره الجديد، وربما كان ذلك دليلًا على أنه استوى شخصًا آخر غير الشاعر القديم الذي كان يدعو دعوة حارة لمحاولة التجديد في الشعر. إنه لم يعد يعجب بهذه المحاولة ولا بصاحبها شكري، وإنه يحاول الآن محاولة جديدة؛ ولكن ليست في الشعر؛ وإنما هي في النثر وفي توسيع جنباته؛ بحيث تسمح بإدخال الأفكار الغربية التي لم يكن يعرفها هذا النثر من قبل. واتخذ المقالة الصحفية طريقه إلى ذلك، وحَمَّلها كل ما أراد من فكر جديد، ومن سخرية مُرة تارة، ومن ظرف وخفة روح تارة أخرى.
وهو في الحق أحد كتابنا الممتازين الذين استطاعوا أن يحدثوا لنا أدبًا مصريًّا جديدًا، وهو أدب مليء بالفكر والشعور والسخرية الحادة. وليس هذا كل ما يميزه، فإنه يتميز أيضًا بأسلوب خاص كان لا يتحرج فيه من استخدام بعض كلماتنا العامية، ما دامت توجد في العربية الفصيحة، وبذلك كان له أسلوبه الشخصي الذي ينفرد به بين معاصريه، لا بخصائصه اللفظية فحسب؛ بل أيضًا بخصائصه المعنوية وما فيه من سخرية وفكاهة مستملحة.
ولعل من الطريف أنه كان من السابقين إلى الإيمان بفكرة جامعة الدول العربية، فقد كتب في سنة 1935 مقالًا تحت عنوان "القومية العربية"، دعا فيه إلى جمع كلمة العرب وأن تنتظمهم هيئة سياسية واحدة تؤلف بينهم ضد الاستعمار والمستعمرين، ومن قوله في هذا المقال:
"لقد أحطنا قوميتنا بمثل سور الصين، ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهما لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ لوجب أن نخلقها خلقًا، فما للأمم الصغيرة أمل في حياة مأمونة ... وإن أية دولة تتاح لها الفرصة تستطيع أن تثب عليهم وتأكلهم أكلًا بلحمهم وعظمهم؛ ولكن مليون فلسطين إذا أضيف إليه مليونا الشام وملايين مصر والعراق مثلًا يصبحون شيئًا له بأس يُتَّقَى".
وهو لا يبارَى في مقالاته التي يصف فيها مشاعره وخوالجه؛ إذ كان مرهف الإحساس، وكان إذا تعمق التأثر نفسه فاضت عليه خواطره، وكأنها تفيض من نبع لا ينضب. ومن خير ما دبجته يراعته من ذلك ما جاء بكتابه "في الطريق" من حديثه عن ابنته الصغيرة التي اختطفها القدر من بين يديه وهي في غرارة الطفولة، فقد صوَّر ذكرياته معها وما كانت تأتيه من لعب وعبث تصويرًا باكيًا رائعًا.
وقد نشر أول مجموعة مختارة من مقالاته سنة 1924 بعنوان "حصاد الهشيم"، وفيها نراه يتحدث عن شكسبير ورواية تاجر البندقية التي نقلها إلى العربية خليل مطران، كما يتحدث عن ماكس نوردو وآرائه في مستقبل الأدب والفنون، ويناقش آراءه مناقشة تدل على اتساع ثقافته الغربية. ويدرس بجانب ذلك المتنبي وابن الرومي، ويترجم بعض رباعيات الخيام عن الإنجليزية، ويعرض لكثير من مشاكل الأدب والنقد.
وفي سنة 1927 نشر مجموعة ثانية من مقالاته باسم "قبض الريح"، وفيها تعرض بالنقد الساخر لكثير من آراء طه حسين في الأدب الجاهلي وفي الأدب العربي بعامة. ونشر في سنة 1929 مجموعة ثالثة باسم "صندوق الدنيا"، وفيها اتجه إلى المقالات الساخرة التي تمسح عليها الدعابة والفكاهة، ومما جاء في تقديمه لهذه المجموعة:
"كنت أجلس إلى الصندوق في أيام طفولتي وأنظر إلى ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصُوَرَ العيش فيها، عسى أن يستوقفني نفر من أطفال الدنيا الكبار، فأحط "الدكَّة" وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا، ويعجبوا، ويتسلوا ساعة بملاليم قليلة، يجودون بها على هذا الأشعث الأغبر".
وبهذا الأسلوب المستملح الساخر الخفيف كتب مقالات هذه المجموعة ومقالاته في المجموعة الرابعة "خيوط العنكبوت" التي نشرها في سنة 1935، وصور فيها بأسلوبه الفكه معايب حياتنا الاجتماعية. ويدخل في هذا الباب من كتابة المقالة كتابه: "رحلة الحجار".
واتجه منذ سنة 1932 إلى كتابة القصة، وله فيها آثار مختلفة هي "إبراهيم الكاتب"، وأتبعها بمجموعات من القصص القصيرة، هي في "الطريق" سنة 1936 ثم "ميدو وشركاه" و"عود على بدء" و"ثلاثة رجال وامرأة" و"عَ الماشي" و"إبراهيم الثاني" و"من النافذة". والمسرحية الوحيدة التي نشرها "بيت الطاعة أو غريزة المرأة".
والمازني في كل هذه القصص كاتب اجتماعي يستمد من بيئته وألوانها المحلية المصرية محللًا شخصيات قصصه وأبطالها تحليلًا نفسيًّا واسعًا، باسطًا في هذا التحليل وصف علاقات الرجل بالمرأة خلال أحداث وتجارب يومية.
وهو يتأثر في ذلك بالقصص الأوربي الواقعي التحليلي مما قرأه في الآداب الغربية المختلفة، ومما ينهج فيه الكُتَّاب منهجًا نفسيًّا يحللون فيه الشعور وما وراء الشعور وما يصيب الإنسان أحيانًا من عقد نفسية تكمن في أطواء قلبه. ويصور ذلك بأسلوبه الساخر، الذي يستمد السخرية فيه من مفارقات الأمزجة واختلاف الطبائع، وما يقيمه في القصة من مآزق مختلفة.
وللمازني بجانب ذلك جهد ممتاز في ترجمة بعض الذخائر الغربية، ومن أهم ما ترجمه قصة "ابن الطبيعة" التي سبقت الإشارة إليها، ومسرحية "الشاردة" لجازورثي و"مختارات من القصص الإنجليزي". وهو يعد في طليعة من حذقوا الترجمة والنقل من الآداب الأجنبية. وقد برهن في ترجماته كما برهن في كتاباته أن اللغة العربية مرنة، وأنها تتسع لكل المعاني الحديثة. ومما يذكر له بالثناء بحثه الأدبي في "بشار بن برد" زعيم المحدثين في العصر العباسي.
وتقديرًا له ولمكانته الأدبية وما بذل من جهود قيمة في أدبنا المعاصر اختير عضوًا بمجمع اللغة العربية. وما زال مكبًّا على التحرير في الصحف وإخراج القصص والأعمال الأدبية المختلفة حتى انطفأت شعلة حياته في سنة 1949. ونقف الآن وقفة قصيرة عند قصة "إبراهيم الكاتب".
إبراهيم الكاتب:
تدور هذه القصة حول مشكلة عامة؛ هي إمكان أن يحب الرجل أكثر من امرأة، وهي مشكلة تتحول إلى أزمات متعاقبة في حياة إبراهيم الكاتب ومَن يبادلهن حبه، فقد كانت له زوجة لبَّت داعي ربها، وتركت له ولدًا. ويحدث
أن يصيبه المرض، ويدخل مستشفى، فيشغف حبًّا بماري ممرضته. ويترك المستشفى إلى الريف، فيلتقي ببنت خالته "شوشو" الفتاة الجميلة التي كان يبادلها في القديم علاقات تطورت إلى حب، وهو يعود إليها الآن ويعود إليه حبه القديم، ويتمنى لو تزوجها وسكن إليها؛ ولكن عائقًا من التقاليد يقف في طريقهما، فإن لها أختًا تكبرها، فإذا كان يريد الزواج فعليه بالكبرى، وليترك الصغرى، فالدور ليس دورها، ولو "دفع لأهلها وزنها ذهبًا". ويحز الألم في نفس إبراهيم ضحية التقاليد الجامدة، ويسافر إلى الأقصر، فيلتقي بفتاة متحررة من الطراز الحديث تسمى "ليلى" على نصيب من الجمال، فيقع في حبها، وتبادله حبًّا بحب، ويمرض إبراهيم. ثم يعود إلى القاهرة، وقد عرفنا أن ليلى تزوجت، أما هو فيتزوج بسميرة التي اختارتها له أمه.
وهذا الهيكل العام للقصة يساق في تحليل واسع للمواقف العاطفية وللأشخاص ونفسياتهم وانفعالاتهم وعلاقاتهم الجنسية تحليلًا بسيكولوجيا صريحًا. وأشار إلى ذلك في تقديمه للقصة؛ إذ يقول: إنها "فوق استيفائها كل ما يجعل الأدب ساميًا تكاد أن تكون بحثًا بسيكولوجيا يعرض بالتحليل لمشكلة الحب الأبدية".
وهو يبدؤها بوصف شوشو وصفًا يبرز ملامحها الجسمية والنفسية، يقول:
"شوشو فتاة يقول لك جسمها: إنها ناهزت التاسعة عشرة، ويشهد حديثها وحركاتها أنها لم تجاوز السابعة عشرة، وهي ذات قامة معتدلة وجسم غض ووجه صبيح متألق، ترتاح العين إلى النظر إلى معارفه جملة، وتُشْغَل بوقعها مجتمعة عن التعلق بواحد منها على الخصوص. وقد قضت الشطر الأول من عمرها في عزلة، قلما أتيح لها فيها أن تخالط الرجال إلا أن يكونوا من ذوي قرابتها الأدنين، فلم تألف أذنها عبارات الإعجاب بحسنها، وبقيت نفسها مرسلة على سجيتها، وخلا كل ما فيها ولها من ذلك التعمل الذي يدرب الفتاة عليه تنبه الشعور بنفسها وتوقعها من الجليس أن تأخذها عينه من فرعها إلى قدمها وأن تحس محاسنها وتنقدها. وقد انفردت عيناها بمزية؛ هي أن من يراهما لا يحتاج أن يعدوهما أو ينقل لحظه إلى سواهما، ففيهما يجتلى نفسها وروحها وطبيعتها وجمالها مركزًا، وهما سوداوان غير أنه سواد فيه من العمق أكثر مما فيه من الالتماع، تحدق فيه تحديقك في بئر، ولا ترنو إليه كما ترنو إلى رسم".
وهي صورة حية تامة الملامح الجسدية والقسمات النفسية، ويسترسل في بيان ذلك، فيقول:
"ومن الفتيات مَن لا يفطن المرء إليها على فرط حسنها لأول وهلة؛ ولكن صاحبتنا هذه كانت من قوة الجذب؛ بحيث لا يسعك إلا أن تحس وجودها وتشعر بما تفيضه حولها، ولا تكاد تجلس إليها خمس دقائق حتى تلم بما فُطرت عليه من جرأة الجنان الذي لا يدري أن في الدنيا ما يُتَّقَى، ومن حرارة النفس الغريرة التي لم يصدمها من التجاريب ما يطفئها، ومن خفة الروح التي لا يثقلها إلحاح اللحم. ويعرف من يعرفها أن لها أحيانًا تبدو فيها كالظمأى إلى مجهول، أو كالتي تعتلج في صدرها خواطر وإحساسات هي أغمض من أن تتولى الكشف عنها عبارة أو أوجع من أن ترفه عنها دمعة. ولم تكن كذلك الآن في هذه الفترة التي زخرت فيها تيارات حياتها والتي نخصها بالذكر! ".
وواضح أن المازني يحاول منذ السطور الأولى من قصته أن يحلل الصفات النفسية للأشخاص وما يرتبط بها من تعبيرات الجسد، وهو يعمد إلى التفصيل في ذلك مستطردًا إلى تعليقات ومقابلات من شأنها أن تضعف الحركة في قصته.
وفي القصة حوار مرن شفاف في مواضع مختلفة، وهو ينتهز الفرصة فيه كثيرًا ليضيف تحليلاته النفسية. وأنت لا تشتعر بملل في قراءته لسببين؛ هما: غِنَى خواطره وخوالجه، ومسحه على هذه الخواطر بظرفه وفكاهته. ويأخذ عنده الحوار هذا الشكل الخفيف الذي يصادفنا في أول القصة.
"قالت شوشو لقريبها بعد أن أصاب حظًّا من الراحة: تعالَ بنا إلى بهو السلم؛ فإن الجو بديع في هذه الليلة.
- ولكن السلم يؤدي إلى "الغيط" مباشرة بلا حاجز ... والكلاب.
- آه. الكلاب، أتخافها؟ إنها لن تؤذيك.. تعالَ، تعالَ.. أيصح أن تكون أضعف مني قلبًا؟ فمضيا إلى البهو، وجلسا، ثم شرعت فتاتنا تنادي:
مرجان، بخيت، مرزوق، فعجب الفتى، وقال: وما تصنعين بهؤلاء كلهم؟ لا تُتعبي الخدم يا شوشو بلا داع.
والتفت، فإذا ثلاثة كلاب تصعد مسرعة على السلم، وتقبل عليها، وتتوثب حولها، وتتمسَّح بثوبها، وتحرك أذنابها، وتعلق حذاءها. فأشارت إليها، فربض واحد إلى يمين الفتى وثانٍ أمامه وثالث إلى يساره. وعادت هي تحادث قريبها، حتى عرضت مناسبة، فنهضت، وأخبرته أنها ستغيب عنه برهة قصيرة، ولم تنتظر أن تسمع ما هَمَّ أن يقوله، إذا صح أنه فتح فمه ليتكلم! وتركته".
ويتخلل الحوار عنده بعض الألفاظ العامية؛ ولكنه لا يأتي بها إلا نادرًا، وفي المواضع التي تكون فيها العربية نابية، أما في غير الحوار فإنه كان يلتزم الفصحى. وكان من رأيه أنها لا تنقصها عناصر التعبير، وشرح ذلك في مقدمة قصته، فقال: إن محاكاة الواقع بالمعنى الحرفي لا معنى لها في الأدب؛ لأنه ليس مجرد نقل عن الطبيعة ومحاكاة؛ بل هو تحوير وتعديل. ومن ثم آثر للحوار أن يكون بالعربية إلا في مواقف قليلة رأى فيها الألفاظ العامية أقوى في التصوير وأوضح في التعبير.
ولاحظ النقاد على هذه القصة أن كاتبها تأثر بقصة "سانين" التي ترجمها قديمًا تأثرًا واضحًا؛ بل زعموا أنه نقل عنها كثيرًا. ولكن ذلك لا يقلل من أهمية هذه القصة البديعة التي تعرض لنا إبراهيم الكاتب شخصية حية تضطرب في محيط حياتنا المصرية بريفها ومدنها وروحها وتقاليدها. وظن غير ناقد أن المازني إنما صور شخصيته على لسان هذا البطل وأفكاره ومشاكله وأزمات نفسه وسخريته بالحياة وكل ما انطوى في قلبه من حزن ومرارة وكل ما ارتسم على شفته من ابتسام وفكاهة.
والحق أن أكثر قصص المازني ومقالاته يشبه أن يكون اعترافات، فهو دائم التصوير لنفسه وخصاله وحياته اليومية، وهو لذلك تفيض كتاباته بالحيوية؛ لأنها كتابات عقل غزير وروح غنية.
11 ـ محمد حسين هيكل 1888-1956م:
أ- حياته وآثاره:
في "كفر غنام" من أعمال مركز السنبلاوين بمديرية الدقهلية وُلد محمد حسين هيكل سنة 1888 لأسرة ريفية مصرية صميمة، لها بعض الوجاهة والثراء. ولما بلغ الخامسة من عمره ألحقه أبوه بكُتَّاب القرية، فتعلم القراءة والكتابة وحفظ نحو ثلث القرآن الكريم، وتحول من هذا الكُتَّاب في السابعة من عمره إلى القاهرة، فالتحق بمدرسة الجمالية الابتدائية، ثم مدرسة الخديوية الثانوية، ولما أتم هذه المرحلة انتظم في مدرسة الحقوق وتخرج فيها سنة 1909.
وظهر فيه ميله إلى الأدب منذ أن كان في الحقوق، فعكف على قراءة الآثار العربية القديمة. واتصل بلطفي السيد محرر الجريدة، وفتح له صدر هذه الصحيفة ليكتب الحقوقي الصغير، ورعاه خير رعاية، وكان لهذه الرعاية أثرها البعيد في نفسه، فقد التقى بمعلم الشباب الناهض مباشرة، أصبح من مريديه وممن يتلقون عنه دروسه في السياسة والاجتماع والأخلاق. وشعر شعورًا كاملًا بما كان يدعو إليه لطفي من الإيمان بالمصرية والعمل على إبرازها في حياتنا السياسية والأدبية واللغوية، كما شعر شعورًا عميقًا بما كان يدعو إليه من وَصْل حياتنا العقلية بالغرب والتزود من ينابيعه، وظهر أثر ذلك فيما كان يكتبه بالجريدة.
فلما تخرج في الحقوق رأى أن يتم تعليمه في فرنسا، فسافر إلى باريس، والتحق بكلية الحقوق فيها، وحصل منها على الدكتوراه في الاقتصاد السياسي سنة 1912. وكتب وهو في باريس "قصة زينب" وهي أول محاولة قصصية بارعة في أدبنا، عمد فيها إلى وصف حياة الريف والفلاحين بصورة لم يسبقه فيها أحد من المصريين.
وعاد إلى مصر، فاشتغل بالمحاماة في مدينة "المنصورة". ومنذ سنة 1917 أخذ يلقي بعض المحاضرات في الجامعة المصرية الأهلية، حتى إذا أنشأ حزب الأحرار الدستوريين جريدة السياسة سنة 1922 تولى تحريرها. وطبيعي أن ينضم إلى هذا الحزب وأن يتولى تحرير جريدته؛ لأنه امتداد لحزب الأمة الذي كان يحرر أستاذه لطفي السيد صحيفته "الجريدة". وانضم إليه في هذا التحرير زميل من تلاميذ لطفي السيد، عاد هو الآخر إلى مصر من باريس، هو طه حسين، فنهضا معًا بتحرير صحيفة الأحرار الدستوريين. وغلبت على هيكل في كتاباته النزعة السياسية، بينما غلبت على طه حسين النزعة الأدبية. وأخرج هيكل في سنة 1921 جزءًا عن جان جاك روسو وأتبعه بجزء ثانٍ في سنة 1923، فتم له بذلك كتاب طريف عن روسو وآرائه وتعاليمه.
ولم يقصر هيكل نفسه على السياسة؛ بل أخذ يكتب مع طه حسين فصولًا في الأدب والنقد، وجمع طائفة من هذه الفصول ونشرها في كتاب "أوقات الفراغ" سنة 1952، والكتاب مقسم إلى ثلاث مجموعات؛ وتتناول المجموعة الأولى مباحث قيمة في النقد، وهو فيها يدل دلالة واضحة على تمثله للثقافة الغربية مع تعلقه بشعبه وثقافته وأمانيه في الحياة الفكرية الراقية. وترجم في هذه المجموعة ترجمة باهرة لأناتول فرانس وبيير لوتي، وتحدث حديثًا طويلًا عن قاسم أمين ودعوته إلى تحرير المرأة، وما كان يكنه لوطنه ودينه من حب وإجلال، ووصَف كيف رد في أثناء تعلمه بفرنسا على دوق داركور الذي عزا تأخر المسلمين إلى دينهم، فلما عاد إلى مصر تحول مصلحًا اجتماعيًّا، يريد أن ينفي عن أمته كل ما يعوق تأخرها، كما ينفي عن الدين كل ما يوصم به من جمود؛ ولذلك دعا دعوة حارة إلى النهوض بالمرأة المصرية المسلمة، حتى تكون على قدم المساواة للمرأة الغربية. وتناول هيكل في المجموعة الثانية بعض الشئون المصرية بمناسبة كشف مقبرة توت عنخ آمون، وهو يصور هنا إيمانًا شديدًا بقومه وتاريخهم القديم. وفي المجموعة الثالثة خواطر في التاريخ والأدب، دعا فيها إلى الأدب القومي الذي يمثل بيئتنا وعصرنا وحياتنا؛ حتى تتضح ذاتيتنا، وحتى ننفصل في أدبنا بطوابع تميزنا من قدمائنا وجيراننا، فلا نكون نسخة من غيرنا أو نسخة مطموسة في النسخ العربية المعاصرة؛ بل يكون لنا وجودنا وكياننا الأدبي المستقل.
وأخرج بعد ذلك في سنة 1927 كتابه "عشرة أيام في السودان"، وهو إلى أن يكون مناسبات صحفية أقرب منه إلى أن يكون فصولًا أدبية. ومنذ سنة 1926 كان يصدر ملحقًا لصحيفة السياسة اليومية باسم "السياسة الأسبوعية"، وكاد هذا الملحق أن يكون قاصرًا على مباحث في الأدب والنقد. وكان يكتب معه فيه طه حسين ونخبة من الأدباء. وتحول هذا الملحق إلى ما يشبه مدرسة يتمرن فيها الأدباء الناشئون على الكتابة والتحرير. وفي سنة 1929 نشر طائفة من مقالاته باسم "تراجم مصرية وغربية"، وتبدأ تراجمه الأولى بكليوباترا، ثم يتبعها بتراجم لكبار المصريين السياسيين والمصلحين مثل: مصطفى كامل وعبد الخالق ثروت وبطرس غالي، أما التراجم الغربية فقصرها على بيتهوفن وتين وشكسبير وشللي. ويوضح هذا الكتاب امتلاء نفسه بحب وطنه ورجاله الأفذاذ وحب الغرب وأعلام الفن والشعر والنقد فيه.
وفي سنة 1930 صادر إسماعيل صدقي رئيس الوزارة المصرية حينئذ صحيفة السياسة؛ ولكن هيكلًا لا يخلد إلى الراحة، فنراه يخرج مع المازني ومحمد عبد الله عنان كتاب "السياسة المصرية والانقلاب الدستوري" ولا تميز مقالات هذا الكتاب من كتبوها، إلا أنه يمكن معرفة الجزء الخاص به من أسلوبه القانوني ومسحته الغربية. وألف في هذه الفترة السياسية فترة حكم صدقي كتابه "ولدي"، وهو كتاب تذكاري لابنه المتوفَّى سنة 1925. وفي هذا الكتاب يصف رحلاته إلى أوربا مع زوجته في شهور الصيف من سنة 1926 إلى سنة 1928، ونراه يصف وصفًا بارعًا مصايف سويسرا، ويقارن مقارنة طريفة بين باريس الحديثة وباريس القديمة أيام دراسته بها، ويتحدث عن إستانبول وما بعث فيها حكم مصطفى كمال من حياة حرة قوية.
وفي سنة 1933 نشر كتابه "ثورة الأدب"، وهو في هذا الكتاب يتحدث عن نهضتنا الأدبية منذ ثورة عرابي، ويبدأ حديثه بفصل عن "الطغاة وحرية القلم"، وكأنه يرد على الحرب العلنية التي شنَّها صدقي على كُتَّاب الصحف والسياسة. ثم يتحدث عن المراحل المختلفة لشعرنا ونثرنا ويعرض بالتفصيل لما أصاب النثر من تطور بينما جمد الشعر ولم يستطع اللحاق به، وأكَّد في غير موضع ضرورة تثقف الأديب المصري الناشئ بالآداب الغربية؛ حتى نستطيع أن نحصل على مراتب الكمال الفني. وعرض في إسهاب لنواحي النقص عندنا في الإنشاء الأدبي وخاصة في بابي القصة والمسرحية. ورفع صوته مجلجلًا بضرورة إقامة أدب مصري وطني، وقدَّم نماذج قصصية استلهم فيها أساطيرنا الفرعونية.
ونراه بعد ذلك يعمد إلى مصادر الإسلام الأولى، فيُلقي عليها أضواء جديدة بمباحث تاريخية في الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر. ومن المحقق أنه يتفوق في الكتابة التاريخية لاتساع نظرته ودقة بحثه، وقد أخذ في أثناء ذلك يتولى شئون بعض الوزارات، وكان أول ذلك في سنة 1937 حين جعله محمد محمود في وزارته وزيرًا للدولة، ثم جعله وزيرًا للتربية والتعليم، وما زال يتولى هذه الوزارة من حين إلى حين حتى عُين في سنة 1945 رئيسًا لمجلس الشيوخ، وظل في هذه الرياسة حتى سنة 1950. ونشر "مذكرات في السياسة المصرية" جعلها في جزأين، أماط فيها اللثام عن كثير من حقائقنا وشئوننا السياسية في هذا القرن.
ورجع أخيرًا إلى كتابة القصة، فأخرج في سنة 1955 قصة "هكذا خُلقت"، وهي قصة طويلة تقص حياة امرأة مصرية عصرية أصيبت بشذوذ الغيرة، واضطربت بهذا الشذوذ في محيط الدعوة الجديدة إلى الحرية النسوية، وسلَّطته على حياتها الزوجية فحطمتها مرتين كما يحطم الطفل لعبته. ونراه يقول عنها بلسانها: "إنها تروي حكاية حياتها في بساطة ويسر يكاد يُخيَّل إليك معها أنها حياة عادية لأية امرأة تعرفها؛ ولكنك تقف بعد قليل دهشًا تتساءل: ما هذه المرأة؟ ومَن هي؟ إنها فريدة في طرازها؛ بل هي نسيج وحدها، إنها تحب الحياة ولا تريد مع ذلك أن تسلم للحياة أمرها؛ بل تريد أن تصوغ الحياة كما تشاء هي، فإذا صدمها الواقع لم تذعن لصدمته؛ بل حاولت أن تواجهه في كبرياء المعتز بنفسه".
ويتابع هيكل بعد ذلك كتابة القصة القصيرة، وينشرها في الصحف الأسبوعية. وما يلبث أن يلبِّي داعي ربه في ديسمبر سنة 1956. ونحن نعرض بشيء من التفصيل لقصة "زينب" باعتبارها أولى محاولات أدبائنا في عالم القصة بمعناها الغربي .
زينب:
كتب هيكل هذه القصة وهو يدرس القانون بباريس، ونراه يقول في مقدمتها: إنها "ثمرة الحنين للوطن وما فيه، صوَّرها قلمُ مقيمٍ في باريس مملوء مع حنينه لمصر إعجابًا بباريس وبالأدب الفرنسي". وتتخلص حوادث القصة في أن فتى متعلمًا يسمى حامدًا من أبناء أعيان الريف أحب ابنة عم له تسمى عزيزة، ومنعته تقاليد الريف من الاعتراف لها بحبه، وفوجئ بزواجها. وبحث عن سلوى لحبه فوجدها عند زينب الجميلة، إحدى الأجيرات اللائي يشتغلن في حقل أبيه، وشعرت بحبه لها؛ ولكنها رأت أن زواجها منه غير ممكن لما بين أسرتها وأسرته من فروق اجتماعية، فمنحت قلبها شابًّا من وسطها وعلى شاكلتها. وتلعب التقاليد الريفية العتيقة دورها، فلا تبوح الفتاة بحبها لأهلها، وترضخ لرغبتهم في قرانها من شاب لم تكن تحبه؛ بينما يرحل محبوبها إبراهيم إلى السودان عاملًا في الخدمة العسكرية. ويترك حامد القرية إلى القاهرة ليبدأ حياة جديدة، على حين تقع زينب فريسة لآلام نفسية كثيرة، تفضي بها إلى مرض ذات الرئة، ويقضي عليها هذا المرض.
والقصة تعرض علينا في أثناء ذلك الريفَ المصري بعاداته وتقاليده وبساطة أهله ومحاسن حياتهم ومساوئها وما رَانَ عليها من اعتقادات في الجن والشياطين ومشايخ الطرق. ونقل ذلك هيكل نقلًا دقيقًا؛ بحيث تمثِّل قصته واقعَ حياة الريف المصري في أول القرن تمثيلًا صادقًا. ونراه يقف كثيرًا لينقد هذا الواقع وما فيه من نظم اجتماعية غير متسقة، وخاصة من حيث الزواج، وأن المرأة ليس لها رأي في اختيار زوجها وشريك حياتها. ونشعر هنا بترديد المؤلف لآراء قاسم أمين ودعوته إلى تحرير المرأة.
ومن غير شك تأثر هيكل في وضع هذه القصة بما قرأه من القصص الفرنسي، ويتبين ذلك في تصويره زينب، فقد جعلها رقيقة أكثر مما ينبغي لفتاة ريفية ساذجة، واختار لها وسيلة تتخلص بها من آلام حبها هي مرض السل، طبقًا لنموذج بعض القصص الفرنسية التي قرأها، والتي تتخذ هذه الوسيلة لتخليص العاشقات المعذبات، وتحريرهن من عذابهن وآلامهن.
ولم يفسح هيكل لنفسه في تصوير الشخصيات الجانبية وطبائعها، الجانبية وطبائعها، وربما كان ذلك راجعًا إلى أنه كان لا يزال في مقتبل عمره، ولم تتسع خبرته بالحياة وتجاربها العميقة. ولكن إن كان فاته ذلك فإنه عوَّضه بأوصافه الغنية للطبيعة الريفية في مصر، وفي الحق أنه نجح إلى أبعد حد في وصف حياة القرية المصرية، وكثير من صفحات قصته يتحول إلى ما يشبه لوحات بديعة، كهذه اللوحة التي عرض فيها صراع حامد النفسي إزاء بَوْحِه لابنة عمه بحبه، وهي تجري على هذا النسق:
"انساب المسكين بين المزارع ينهبها نهبًا، حتى جاء إلى شط الترعة، وهناك أخذ مقعده في ظل توتة "شجرة" كبيرة، وجلس كأن به مسًّا من الجن يسأل نفسه: هل في المستطاع إخراج تلك الفتاة من بين هؤلاء المحيطين بها، ليجلس إليها جنبًا لجنب، ولتحدثه وليمضها إليه، ولتكون ملكه؟ ومكث بقية النهار في حساباته هذه، ثم قضى كل ليلته لا ينام إلا غرارًا، وما كادت تهتك يد الصبح ستار الليل حتى نبا به مضجعه، وصاحبه القلق، فانحدر إلى الجامع، وما عهده به في تلك الساعة التي عرفها ساعة هجود وهمود، وانساب وسط ظلمات يتسلل فيها النور كما يتسلل الأمل إلى قلب اليائس، والسماء لم تميَّز بعد، قد بهت عليها حجاب الليل الهزيم والنجوم تتقلص واحدة بعد الأخرى، والسكوت الأخرس يخيم على الوجود فلا تسمع هسيسًا، إلا أن يقطعه من حين لآخر صوت الدِّيَكة تتجاوب من جوانب القرية، ثم أذان المؤذن بالفجر يشق عباب الجو إلى السماوات. ولما صلى حامد ركعتيه مع الجماعة خرج إلى جهة المزارع التي لا تزال خالية من كل حي، وهواء تلك الساعة خالطته الرطوبة يزيد في نشاطه، وكل شيء يخرج قليلًا قليلًا من دثار الخفاء، والأفق يتجلى عند مرمى النظر، فتنكشف أمام العين المزروعات بعد أن أخذت نصيبها من الطل، ثم احمرت السماء في المشرق، وطلعت الشمس تلامس الأرض وتحيِّي الموجودات تحية الصباح، ثم تعلو وترتفع، وينقلب لون القرص الأحمر الهادئ الباسم في مطلعه، ويرسل بأشعته فتتلألأ تحتها قطع الطل على أوراق الشجيرات والحشائش النابتة على الْمَرْوَى، فتطوق المزرعة الهائلة بقلادة تزينها. وحامد بين هاته الموجودات يمشي مفكرًا يطرق أحيانًا، ويتطلع إلى ما حوله أخرى. ثم ابتدأ الفلاحون يفدون إلى عملهم فُرادى، كل ييمم نحو مزرعته الصغيرة التي يملك ورثها عن أبيه عن جده، أو جاد بها الحظ وأعطته إياها المصادفة التي لا ينتظر، ومعه بقرته أو جاموسته، أو هو قد اكتفى بفأسه . وبهذا الأسلوب الساخر من العادات والتقاليد الاجتماعية وبما يُطْوَى فيه من وصف حسي بارع للريف والقرية المصرية كتب هيكل قصته في لغة عذبة ليس فيها سجع ولا بديع؛ بل حاول أن يجعلها لغة مصرية، فاستعار في بعض المواضع -وخاصة في الحوار- كلمات من العامية الريفية، وكأنه يستجيب لدعوة أستاذه لطفي السيد؛ إذ دعا إلى أن تكون لنا في الأدب لغة تميزنا بحيث تقترب الفصحى من العامية. غير أن هيكلًا لا يتوسع في ذلك؛ بل عاد في مقالاته وفيما ألفه بعد زينب إلى الأسلوب الفصيح. وفي الحق أنه أحد من طوعوا العربية ومرَّنوها لتؤدي المعاني والأفكار الحديثة في أسلوب شفاف بديع. وقد عاون جاهدًا منذ أوائل القرن في أن يكون لنا أدب مصري قومي منبعث من بيئتنا وشخصيتنا وحاضرنا وماضينا وعواطفنا ومشاعرنا، وكانت قصة زينب اللبنة الأولى في هذا الأدب المصري الجديد.
12 ـ طه حسين 1889-1973م:
أ- حياته وآثاره:
وُلد طه حسين سنة 1889 لأب مصري من قرية في صعيد مصر على مقربة من مدينة مغاغة الواقعة على الجانب الأيسر للنيل. وكان أبوه موظفًا صغيرًا في شركة زراعية من شركات السكر، وأنجب أبناء كثيرين، كان طه سابعهم، وفقد بصره في الثالثة من عمره؛ ولكنه عُوِّض عن بصره ذكاء حادًّا وذاكرة قوية. وحدَّد فقده لبصره الطريق الذي يختاره في حياته، وهو طريق التعليم الديني، فالتحق بكُتَّاب، حفظ فيه القرآن الكريم، ولما أتم حفظه أخذ في حفظ "مجموع المتون" وقراءة بعض الكتب والأشعار القديمة استعدادًا لدخول الأزهر، وكان قد سبقه إليه أخ أكبر منه، فصحبه معه وهو في الثالثة عشرة.
وعكف طه على دراسة العلوم الدينية واللغوية بالأزهر، وكان الشيخ سيد المرصفي يدرس الأدب، فأعجب به، ولزم دروسه التي كان يقرأ فيها الكامل للمبرَّد والأمالي لأبي علي القالي وحماسة أبي تمام. ولم يلبث أن أخذ يضطرب في محيط الحركات الإصلاحية التي كان ينادي بها تلاميذ محمد عبده، من مثل قاسم أمين الذي كان يدعو إلى حرية المرأة، ولطفي السيد الذي أخذ يدعو في "الجريدة" إلى مقاييس جديدة في السياسة والأخلاق والاجتماع. وسرعان ما تحول إلى هذا المعلم يستضيء به في حياته العقلية، فاختلف إلى صحيفته، مستمعًا لأفكاره تارة، وكاتبًا بإرشاده وعلى هديه تارة أخرى.
وفتحت الجامعة الأهلية أبوابها للطلاب سنة 1908 فانتظم فيها، وسمع إلى مَن كانوا يحاضرون بها من المصريين أمثال: الشيخ المهدي ومحمد الخضري وحفني ناصف، ومن المستشرقين أمثال: نالينو وجويدي. وسرعان ما انكشف له آفاق جديدة في بحث الأدب ودراسته؛ بفضل المناهج العلمية في النقد التي استمع إليها من الأساتذة الأوربيين. واتجه توًّا إلى تعلم الفرنسية في مدارس ليلية وعلى أيدي بعض المعلمين؛ حتى يفهم المحاضرات التي كانت تُلْقَى بهذه اللغة. ولا نصل إلى سنة 1914 حتى نجده يتقدم إلى درجة الدكتوراه برسالة عن أبي العلاء، ويظفر بالدرجة التي يبتغيها بين الإعجاب والثناء.
وطُبعت الرسالة باسم "ذكرى أبي العلاء" وهي تصور استعدادًا علميًّا واضحًا، لا بما فيها من حاسة تاريخية سليمة فقط؛ بل أيضًا بما فيها من أحكام أدبية جديدة لا تتأثر رأيًا سابقًا ولا عقيدة سابقة. وعلى الرغم من أنه لم يكن قد وسَّع محيط قراءته في الآداب الغربية وفي آثار المستشرقين نجده يبحث الضرير العربي القديم بحثًا دقيقًا يستوفي فيه حياته وبيئته وعصره وظروفه التي أحاطت به، وكوَّنت أدبه وفلسفته.
لذلك قررت الجامعة الأهلية إرساله في بعثة إلى فرنسا، فنزل في مونبلييه والتحق بجامعتها يدرس العلوم التاريخية وظل فيها نحو عام، عاد في نهايته إلى مصر لسوء حالة الجامعة المالية. وسرعان ما تحسنت ظروف الجامعة، فرجع بعد ثلاثة أشهر ولكن لا إلى مونبلييه، وإنما إلى باريس. وهناك أخذ يختلف إلى محاضرات المؤرخين والأدباء في السوربون والكوليج دي فرانس، تارة يستمع إلى محاضرات في التاريخ اليوناني والروماني القديم، وتارة ثانية يستمع إلى محاضرات في الفلسفة وعلم النفس، وتارة ثالثة يستمع إلى محاضرات بعض المستشرقين. ويتعلم في أثناء ذلك اليونانية واللاتينية، تعاونه فتاة فرنسية كريمة تعرَّف عليها في أثناء الدرس، وهي التي اختارها فيما بعد شريكة لحياته؛ إذ وجد عندها كل ما كان يفقده، وقد وصفها فقال: إنها بدلته من البؤس نعيمًا، ومن اليأس أملًا، ومن الفقر غنًى، ومن الشقاء سعادة وصفوًا.
وكان أهم ما شُغف به من دراسات في السوربون المشاكل الفلسفية والاجتماعية، وانتهى به هذا الشغف إلى أن يجعل رسالته للدكتوراه "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية". ومن المحقق أنه استطاع بجانب ذلك أن يفهم الأدب اليوناني واللاتيني القديم فهمًا عميقًا، كما استطاع أن يفهم الأدب الفرنسي الحديث فهمًا دقيقًا، حتى إذا عاد إلى مصر عقب الحرب العالمية الأولى أخذ يُعْنَى في محاضراته بالجامعة بدرس تاريخ اليونان وأدبهم؛ حتى يفهم المصريون الحضارة القديمة. وأخرج كتابين هما: "صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان". و"نظام الأثينيين" لأرسططاليس. وكأنه بذلك يريد أن نعتمد في نهضتنا الأدبية على الأصول اليونانية التي اعتمد عليها الأوربيون في تكوين نهضتهم الأدبية، وإليه وإلى أستاذه لطفي السيد مترجم أرسططاليس يرجع اهتمامنا بالحضارة اليونانية القديمة. ونقل فيما بعد طائفة من تمثيليات سوفوكليس باسم "من الأدب التمثيلي اليوناني".
ويُصدر حزب الأحرار الدستوريين صحيفة السياسة، ويصبح محررها الأدبي، وهنا نراه يعدِّل في اتجاهه؛ إذ ينشر يوم الأحد قصة ملخصة من الأدب الفرنسي، وفي يوم الأربعاء ينشر بحثًا في الشعر العربي. وأكبر الظن أنه انصرف عن الأدب اليوناني؛ لأنه لم يجد قبولًا له عند المصريين حينئذ. وكان المسرح المصري متأخرًا، فرأى أن يُطْلع القراء على بعض المسرحيات الفرنسية؛ حتى يفهموا هذا المسرح الغربي الحديث، فنشر في سنة 1924 كتابه "قصص تمثيلية" لطائفة من أشهر الكتاب الفرنسيين، كما نقل بعد ذلك مسرحية "أندروماك" لراسين و"زاديج" لفولتير.
وحاول في المقالات التي نشرها في الشعر العربي أن يفهم طبيعة العصر العباسي الأول -عصر أبي نواس- فهمًا جديدًا غير متأثر فيه بآراء من سبقوه، ودعاه عصر الشك والزندقة والمجون. وثار عليه كثيرون في مقدمتهم أديب سوريا رفيق العظم؛ لأنهم عدوه مشوهًا لتاريخ العرب في حقبة باهرة من حقب حياتهم. ورد طه حسين بأن العلم ينكر مذهب تقديس السلف، وبأن النقد العلمي ينبغي ألا يعرف الهوى، وألا يتأثر بالميول والعواطف، واستشهد بعصور في تاريخ اليونان القديم وتاريخ فرنسا الحديث كانت من أزهى العصور، وكانت من أكثرها لهوًا ومجونًا، وانتهى إلى أن القرن الثاني الهجري كان قرن لهو ولعب وشك ومجون.
وتحولت الجامعة الأهلية في سنة 1924 إلى جامعة حكومية، وأصبح أستاذًا لآداب اللغة العربية في الجامعة الجديدة بكلية الآداب. ونراه بعد أن ترجم في سنة 1922 كتابًا في علم النفس التربوي من تأليف لوبون بعنوان "روح التربية" ينشر في سنة 1925 كتاب "قادة الفكر"، وفيه يصور مراحل التطور الفكري والثقافي في الغرب، وقد جعلها أربعة مراحل: مرحلة شعرية يصورها هوميروس، ثم مرحلة فلسفية يمثلها سقراط وأفلاطون وأرسططاليس، ثم مرحلة سياسية يمثلها الإسكندر الأكبر، وأخيرًا مرحلة دينية تمثلها المسيحية والإسلام.
وفي سنة 1926 نشر كتابه "في الشعر الجاهلي"، وبنى دراسته فيه على منهج ديكارت الذي يدعو إلى الشك في كل شيء حتى نصل إلى اليقين على أسس وطيدة، وبهذا المنهج اعتبر الأحكام التاريخية القديمة إضافية يمكن أن يعاد النظر فيها، فإذا قال القدماء رأيًا في شاعر فلا مانع من أن نذكر بجانب هذا الرأي رأيًا آخر، ربما كان أدق وأصدق، فكثير من الأشياء يمكن أن يكون قد فات القدماء. وقد انتهى إلى نظرية عامة هي نظرية الانتحال في الشعر الجاهلي. وفي أثناء ذلك دعا إلى حرية الفكر، وأن ننظر في الأدب نظرًا غير مقيد بمذهب أو عقيدة سوى روح البحث التحليلي. وثارت ثائرة النقاد وخاصة مصطفى صادق الرافعي ورجال الأزهر، وتخلف عن هذه الثورة كثير من الكتب وتدخلت الحكومة؛ ولكن العاصفة مرت بسلام، وأعاد طبع كتابه باسم "في الأدب الجاهلي".
ووجهته هذه المعركة العنيفة إلى النظر في شأنه وتطوره، ومن هنا بدأ يكتب ترجمته الذاتية "الأيام"؛ فأخرج الجزء الأول منها في سنة 1929 بعد أن نشره فصولًا في مجلة الهلال ... وأصبح عميدًا لكلية الآداب، إلا أن عهد إسماعيل صدقي يُظلُّ مصر، وتدخل في أيام مظلمة، في السياسة وغير السياسة، فيُبْعَدُ طه حسين عن الجامعة، ويستقيل منها لطفي السيد. ولا يلبث أن ينضم إلى حزب الوفد، ويكتب في "صحيفة كوكب الشرق"، ويخرج صحيفة "الوادي"، ويحول قلمه إلى ما يشبه سوطًا، يلهب به لحم صدقي الطاغية.
ويظل في هذا الصراع من سنة 1931 إلى سنة 1934؛ أي: طوال حكم صدقي، ولكنه لا ينصرف عن الأدب والكتابة فيه؛ فقد أخرج في سنة 1932 كتابه "في الصيف"، وهو مجموعة رسائل كتبها بأوربا في صيف سنة 1928 يصف فيها رحلته في البحر وأثرها فيه، ويجره ذلك إلى ذكريات أول رحلة له إلى فرنسا، وتتجسم في مخيلته صور أخرى من شبابه حين كان في الأزهر وحين كان يشغف مع رفقائه فيه بالنزعة العقلية المتحررة التي دعا إليها محمد عبده. وفي سنة 1933 ينشر دراسته عن "حافظ وشوقي"، كما ينشر أول جزء له من سلسلته البديعة "على هامش السيرة"، وظهر له بعد هذا الجزء جزآن. وفي الأجزاء الثلاثة يتخذ من السيرة النبوية وما فيها من أحداث وأشخاص مادة لقصص رائع.
ويعود إلى عمادة كلية الآداب في نهاية سنة 1934، وينشر سلسلة من محاضراته في نشأة النثر العربي وفي طائفة من الشعراء العباسيين باسم "من حديث الشعر والنثر"، كما ينشر طائفة من مقالات كتبها في باريس وفي بلجيكا وفيينا باسم "من بعيد". ومن أروع مقالاته في هذه المجموعة مقالته عن "ديكارت" ومذهبه في الشك واليقين. وهو في دراساته المختلفة يُعد مثلًا حيًّا لتطبيق هذا المذهب الفلسفي وحَمْل الباحثين في الأدب العربي عليه. وفي هذه الفترة نشر قصة "أديب" صور فيها أحد زملائه في البعثة، وتحدث في أثناء ذلك عن الجامعة القديمة وعن سفره إلى أوربا، ويُعد هذا الكتاب من روائع أدبنا التصويري الحديث. وعقب ذلك وضع كتابًا عن المتنبي سنة 1936 سماه "مع المتنبي"، حلل فيه حياته وشعره. ويتصادف أن يقضي الصيف في قرية من قرى جبال الألب ويلتقي بتوفيق الحكيم، وتكون ثمرة هذا اللقاء "القصر المسحور"، وهو مجموعة رسائل أدبية، تخيلا فيها شهرزاد، وأفضى كل منهما أمامها بآرائه في الأدب والحياة.
ومضى طه حسين يفكر في حياتنا الثقافية والتعليمية، ووضع لها برنامجًا مفصلًا في كتابه "مستقبل الثقافة" الذي أصدره في سنة 1939 وهو يقع في جزأين. وكان قد ترك الجامعة ليعمل في وزارة التربية والتعليم. وعُين مستشارًا فنيًّا لهذه الوزارة، ثم عين مديرًا لجامعة الإسكندرية سنة 1942 فأتم إنشاءها.
وفي أثناء ذلك يقبل على الدرس والكتابة، فنراه بعد أن أعاد كتابه القديم عن أبي العلاء باسم "تجديد ذكرى أبي العلاء" ينشر عنه بحثًا جديدًا باسم "مع أبي العلاء في سجنه"، يصور فيه جوانب نفسية وفلسفية دقيقة لهذا العقل الكبير، وأفرده بعد ذلك بكتيب سماه "صوت أبي العلاء" نثر فيه بعض أشعاره. واتجه إلى القصة، فنشر "أحلام شهرزاد" و"شجرة البؤس" و"دعاء الكروان"، وهو فيها جميعًا يعبر عن مُثُله القومية والإنسانية. أما في الأولى فيعرض مشاكل العصر ونظام الطبقات خلال هذه الأسطورة القديمة عن شهرزاد وشهريار، وبذلك تُبعث الأسطورة من جديد وتحيا في محيط حياة الكاتب وآرائه. وأما القصة الثانية فيعرض علينا فيها صورة حية لأسرة مصرية تعاقب فيها ثلاثة أجيال، أعدوا لظهور صراع عنيف بين المثل العليا للعقل والعلم وبين التقاليد البالية، وفي أثناء ذلك تصوَّر الطبقة المصرية الفقيرة وما تعاني من بؤس واعتقاد في التوكل والقضاء. وفي القصة الثالثة يشترك الكروان مع أشخاص القصة في الآلام، وتصوَّر حياة المصريين في طوائف من البدو والفلاحين والموظفين كما تصور مشاكل التعليم، ويقوم صراع بين الغريزة والضمير ومطالب الفرد والجماعة.
وينشر في هذه الفترة مجموعة من مقالاته في النقد باسم "فصول في الأدب والنقد"، كما ينشر طائفة من نظراته التحليلية في القصص والمسرحيات الفرنسية بعنوان "صوت باريس" و"لحظات". وتستقيل الوزارة الوفدية، ويخرج من الحكومة، فيحرر صحيفة "الكاتب المصري"، ويعمل على نهضة كبيرة في الترجمة، ويترجم أوديب لأندريه جيد. ويكتب في صحيفته مقالات أدبية مختلفة تتناول بعض الأدباء الغربيين وبعض الدراسات في الأدب العربي، وينشر منها مجموعة باسم "ألوان". ويؤلف كتابًا عن "عثمان" يصور فيه فتنته وكل ما اقترن بها من مؤثرات ودوافع بشرية. ويصف رحلة له إلى أوربا في صيف سنة 1948 ويذيعها باسم "رحلة الربيع". وينشر كتاب "جنة الحيوان" وهو مجموعة رسائل أدبية رمزية، كما ينشر "مرآة الضمير الأدبي" وهي رسائل في نقد الأخلاق والمجتمع. ويذيع "جنة الشوك" وهي تجري في محاورات قصيرة بين شيخ وتليمذه، وهي محاورات لاذعة ترمي إلى إصلاح الفاسد في مجتمعنا وتقويم المعوج في صور قوية. ويكتب أقاصيصه "المعذبون في الأرض" راسمًا فيها ما كان يقع على المصريين من ظلم في عهود الإقطاع والفساد السياسي.
ويصبح في سنة 1950 وزيرًا للتربية والتعليم، فينادي بتكافؤ الفرص ويصيح بأن التعليم ضروري لكل أفراد الشعب ضرورة الغذاء والماء والهواء، ويفكه من عقال المصاريف، ويجعله مجانًا للشعب كله. ويخرج قصته "الوعد الحق" مصورًا فيها ظهور الإسلام، وداعيًا إلى مثله الاشتراكية في الحياة. وينشر كتابًا باسم "بين بين"، وهو خواطر في الحياة والمجتمع. وتقوم ثورتنا المباركة ويجد مجالًا فسيحًا لنشر آرائه في السياسة والأدب، ويؤلف كتابًا عن "علي بن أبي طالب"، وكتابًا ثانيًا عن أبي بكر وعمر، وينشر كتابه "مرآة الإسلام"، كما ينشر مجاميع من مقالاته في الحياة والأدب والنقد.
وهذه هي حياة طه حسين حتى وفاته سنة 1973، وهي حياة كانت حافلة بالكفاح؛ إذ نراه يكافح المحافظين في الدين والأدب والسياسة، ويكافح من أجل تغذية أمته بالمثل الأدبية عند اليونان وعند الغربيين، ويختط طرقًا جديدة في أبحاثه الأدبية وفي عالم القصة، يسعفه في ذلك استعداد أدبي أصيل، وهو استعداد شهد له به عالمه العربي، فمنح في سنة 1959 جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهًا بجهوده الأدبية، كما شهد له به العالم الغربي فمنح درجة الدكتوراه الفخرية من جامعات أوربية مختلفة. ونقف وقفة قصيرة عند قصته الأولى "الأيام".
الأيام:
في رأي كثير من النقاد الشرقيين والغربيين أن هذه القصة أروع ما كتبه طه حسين، وقد أخرج منها جزأين يقص في أولهما طفولته، وفي الثاني صباه وشبابه الأول قَصَصًا بديعًا، يتحول إلى اعترافات صادقة صريحة، وهي اعترافات لا تقل روعة وجمالًا عما كتبه أدباء الغرب المشهورون من أمثال: جيته وروسو وشاتوبريان؛ إذ يعرض طه ذكرياته عن طفولته وشبابه برقَّة وصراحة منقطعة النظير.
وهو يقص علينا في الجزء الأول كيف نما هذا الطفل الضرير وسط بيئته المتوسطة، وكيف أخذ يسيطر تدريجًا على صورة العالم الخارجي من حوله يرعاه حنان أبويه وسط دائرة كبيرة من الإخوة والأخوات. وينتقل بنا إلى الكُتَّاب الذي حفظ فيه القرآن ويعرض علينا صورته في أمانة، لا يستر عيبًا ولا يخفي شيئًا؛ بل يضع بين يدينا كل النقائص التعليمية في هذا الكُتَّاب، الذي لم يستطع أن يقدم لعقله المتطلع شيئًا سوى القرآن الكريم. ويصف وصفًا مؤثرًا آلام أبويه لوفاة أخت له، كما يصف آلامه. وما تكاد الأسرة تفرغ من الجزع عليها؛ حتى تفاجأ بوفاة أخ من إخوته، نزعته من بينهم "الكوليرا".
وينتقل بنا إلى الجزء الثاني، فنراه يتبع أخاه إلى الأزهر؛ حيث زاول الدراسة القديمة فيه إلى جانب عمود من أعمدته، يستمع إلى هذا الشيخ أو ذاك. ووصف لنا في أثناء ذلك المصاعب التي واجهته، والإهمال الذي عاناه من أخيه، وأعطانا صورة دقيقة لحياة الأزهري الضرير من أمثاله في أوائل هذا القرن وما كان يشقى به في غدوِّه ورواحه ويقظته ونومه. وكأنما كان يحمل في عقله آلة تصوير دقيقة، تسجل كل ما يقع حولها في دوائر الطلاب، وهو يتنقل بهذه الآلة بين حلقات الشيوخ المختلفين يلتقط ويختزن. ويظل في ذلك ثماني سنوات، قضاها بين الضجر والملل من حياة الأزهر الضيقة الراكدة حينئذ، وتفتح الجامعة الأهلية أبوابها، فينتقل إلى هذه الجامعة الجديدة، ويتتلمذ على أساتذتها المصريين والأوربيين.
وعلى هذا النحو يعرض الجزآن صُوَرَ المجتمع المصري في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ويجلوان علينا صورة الثقافة والتعليم في الكُتَّاب وفي الأزهر من جميع أطرافهما. ويتحول طه حسين إلى ما يشبه آلة دقيقة من آلات الرصد تُحصي كل هزة كبيرة أو صغيرة في محيطه، وهو يضع تحت عينيك هذا الرصد في صدق يخلبك، لا بأسلوبه فحسب؛ بل بصراحته ودقته وإخلاصه لحكاية الواقع بجميع حقائقه ودقائقه على هذا النحو الذي يتحدث فيه عن نفسه لابنته مقارنًا بين حاضرها الرَّغْد وماضيه:
"عرفته في الثالثة عشرة من عمره حين أرسل إلى القاهرة ليختلف إلى دروس العلم في الأزهر، إن كان في ذلك الوقت لصبي جِدٍّ وعمل. كان نحيفًا شاحب اللون مهمل الزي أقرب إلى الفقر منه إلى الغني، تقتحمه العين اقتحامًا في عباءته القذرة وطاقيته التي استحال بياضها إلى سواد قاتم، وفي هذا القميص الذي يبين أثناء عباءته وقد اتخذ ألوانًا مختلفة من كثرة ما سقط عليه من الطعام، وفي نعليه الباليتين المرقعتين. تقتحمه العين في هذا كله؛ ولكنها تبتسم له حين تراه، على ما هو عليه من حال رثة وبصر مكفوف، واضح الجبين، مبتسم الثغر، مسرعًا مع قائده إلى الأزهر، لا تختلف خطاه، ولا يتردد في مشيته، ولا تظهر على وجهه هذه الظلمة التي تغشى عادة وجوه المكفوفين. تقتحمه العين ولكنها تبتسم له، وتلحظة في شيء من الرفق، حين تراه في حلقة الدرس، مصغيًا كله إلى الشيخ يلتهم كلامه التهامًا، مبتسمًا مع ذلك لا متألمًا ولا متبرمًا، ولا مظهرًا ميلًا إلى لهو؛ بينما الصبيان من حوله يلهون أو يشرئبون إلى اللهو.
وبهذا الأسلوب البارع الذي يمس القلوب ويثير العواطف بما فيه من سلاسة وعذوبة وصفاء وقدرة على التصوير والتلوين، كتب طه حسين هذه الترجمة الذاتية "الأيام" كما كتب بقية قصصه وكتبه. وقد تُرْجمت الأيام إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والعبرية.
ومن أهم ما يميز طه حسين في "الأيام" -وغير الأيام- أسلوبه المتموج الزاخر بالنغم، فلا تستمع إلى كلام له حتى تعرفه بطوابعه المعينة في عباراته الملفوفة التي يأخذ بعضها برقاب بعض في جرس موسيقي بديع.
وكأنه يرى أن الأدب الجدير بهذا الاسم هو الذي يروع السمع كما يروع القلب في آنٍ واحد؛ وهو لذلك يوفر لصوته كل جمال ممكن. ومن الغريب أنه لا يعدل عبارة يمليها، ولا يعد محاضرة قبل إلقائها، فقد أصبح هذا الأسلوب جزءًا من نفسه وعقله، فهو لا يملي ولا يحاضر إلا به، وكثيرًا ما تجد فيه الألفاظ المكررة، وهو يعمد إلى ذلك عمدًا؛ حتى يستتم ما يريد من إيقاعات وأنغام ينفذ بها إلى وجدان سامعه وقارئه.
وطه حسين من هذه الناحية يشبه أدباءنا القدماء من أمثال الجاحظ الذين كانوا يقصدون قصدًا إلى التأثير بموسيقى كلامهم، فالكلام لا يؤدَّى بأوجز عبارة؛ وإنما يُبْسَط بسطًا ليحمل أداء موسيقيًّا يضاف إلى أداء الأفكار والمعاني. وقد يكون سبب ذلك في القديم أن الناس لم يكونوا -مثلنا الآن- يقرءون الأدب بعيونهم؛ بل كانوا يقرءونه بأصواتهم وآذانهم، فكان الشعر ينشد إنشادًا، وكان النثر يُتلى في الصحف تلاوة؛ لذلك حافظوا على موسيقى الكلام محافظة دقيقة.
واحتفظ لنا في هذا العصر طه حسين بخصائص لغتنا القديمة، فوفر لأسلوبه كل ما يستطيع من جمال صوتي، وأتاح لهذا الجمال أن يعبر تعبيرًا طبيعيًّا عن نظراته وتحليلاته وكل ما نقله إلينا من الغرب، وكل ما جدده وابتكره من أبحاث في الأدب ومن قصص وصور فنية مختلفة. فلم يعد الجمال الصوتي عنده فارغًا؛ بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من أدبه؛ بل لقد غدا في يده أداة مرنة شفافة، تنقل إلينا كل ما يختلج في عقله وقلبه من خواطر ومشاعر نقلًا دقيقًا، فالأسلوب ليس عنده كساء أو طلاء؛ وإنما هو قوام أدبه ومادة فنه، يسند به كل ما يتدفق على ذهنه من معانٍ وأفكار وألفاظ وكلمات.
13 ـ توفيق الحكيم:
ب- حياته وآثاره:
وُلد توفيق الحكيم في الإسكندرية سنة 1898 لأب كان يشتغل في السلك القضائي، من قرية "الدلنجات" إحدى أعمال إيتاي البارود بمديرية البحيرة. وورث هذا الأب عن أمه ضيعة كبيرة، فهو يُعد من أثرياء الفلاحين، وقد تعلم وانتظم في وظائف القضاء، واقترن بسيدة تركية، أنجب منها توفيقًا، وكانت صارمة الطباع، تعتز بعنصرها التركي أمام زوجها المصري، وتشعر بكبرياء لا حد له أمام الفلاحين من أهله وأقاربه.
وقضت أيامها الأولى مع الطفل بين هؤلاء الفلاحين في الدلنجات، فكانت تعزله عنهم وعن أترابه من الأطفال، وتسد بكل حيلة أي طريق يصله بهم. ولعل ذلك ما جعله يستدير إلى عالمه العقلي الداخلي؛ إذ كانت تغلق في وجهه كل الأبواب التي تصله بالعالم الخارجي. ولما بلغ السابعة من عمره ألحقه أبوه بمدرسة دمنهور الابتدائية، وظل بها ردحًا من الزمن، حاول فيه أن يحرر نفسه من وثاق أمه وحياة الانفراد التي أخذته بها؛ ولكنه لم يستطع إلا في حدود ضيقة.
ولما أتم تعليمه الابتدائي رأى أبوه أن يرسله إلى القاهرة ليلتحق بإحدى المدارس الثانوية، وكان له بها عَمَّان يشتغل أحدهما مدرسًا بإحدى المدارس الابتدائية، أما الثاني فكان طالبًا بمدرسة الهندسة، وكانت تقيم معهما أخت لهما. فرأى أبوه أن يسكن مع عمَّيه وعمته؛ ليساعدوه على التفرغ للدرس، وأتاح له بُعْده عن أمه شيئًا من الحرية، فأخذ يُعْنَى بالموسيقى والتوقيع على العود.
وإذا كان الفتى المراهق قد عُنِي بالموسيقى فإنه أخذ يُعْنَى بالتمثيل والاختلاف إلى فرقه المختلفة، وفي هذه الأثناء أتم تعليمه الثانوي والتحق بمدرسة الحقوق، وكانت مواهبه الأدبية قد أخذت تستيقظ في قلبه وعقله، ورأى محمد تيمور وكثيرًا من الشباب حوله يقدمون لفرق الممثلين مسرحيات يقومون بتمثيلها وعَرْضها على الجمهور، وكانت الثورة المصرية قد انبعثت قبل ذلك، ووجهت الممثلين والمؤلفين من الشباب إلى العناية بالروح القومية. ولم يلبث توفيق أن ألَّف في سنة 1922 مجموعة من المسرحيات مثلت بعضها فرقة عكاشة على مسرح الأزبكية؛ منها: "المرأة الجديدة" و"الضيف الثقيل" و"علي بابا". وهي في جملتها محاولات ناقصة.
وتخرج توفيق في الحقوق سنة 1924، وزيَّنَ لأبيه سفره إلى باريس لإكمال دراسته في القانون، ووافق الأب على رغبته، وهناك أمضى نحو أربع سنوات لم يعكف فيها على دراسة القانون؛ وإنما عكف على قراءة القصص وروائع الأدب المسرحي في فرنسا وغير فرنسا، وشُغف بالموسيقى الغربية شغفًا شديدًا، واستطاع بما لأبيه من ثراء أن يعيش في باريس عيشة فنية خالصة، فَوَقْتُهُ كله موزَّع بين المسارح والموسيقى والتمثيل، وهو في أثناء ذلك يقرأ ويفهم ويتمثل ثقافات العصور الغابرة والمعاصرة. واستقر في ضميره أنه أُعِدَّ ليكون أديب وطنه القصصي والمسرحي، ورأى أوربا تؤسِّس مسرحها على أصول المسرح الإغريقي فتحول إلى هذا المسرح يدرسه، ويتقن درسه وما انتهى إليه من تطور على أيدي الغربيين المحدثين، كما أخذ يدرس القصة الأوربية ومدى تمثيلها لروح أقوامها وأحوالهم النفسية والاجتماعية.
ووعى ذلك كله وعيًا دقيقًا، وأخذ يحاول كتابة قصة تصور كفاح الشعب المصري في سبيل الحرية، فكتب قصته "عودة الروح" وحاول أن يكتبها بالفرنسية، ثم حولها إلى العربية ونشرها في سنة 1933 في جزأين. وفيها يعرض المحيط الاجتماعي في بلاده قبل ثورة سنة 1919، واختار لذلك أسرة متباينة الأمزجة، هي نفس الأسرة التي كان يعيش معها بالقاهرة أسرة عمَّيه وعمته وما اضطربوا فيه من علاقات. وهو نفسه محسن الفتى المراهق الذي وقع في حب جارة له، هي فتاة ضابط متقاعد، وكانت واقعية النظر، فلم تَجْرِ معه في حبه أشواطًا بعيدة؛ بل انصرفت عنه إلى شاب كانت تعجب به، ويتعكر صفو السلام بين أسرتها وأسرته. وفي الجزء الثاني من القصة نرى محسنًا في الريف، ونسمع خلال فنون من الحوار إلى دفاع عن الفلاح المصري وعراقة روحه، تلك الروح التي أنشأت عصر الفراعنة، والتي تنشئ نهضتنا الحديثة. ويعود إلى القاهرة ليرى حبه يتحطم، وتنشب الثورة المصرية، ويضطرب أفراد الأسرة فيها ويتَّحدون في مثل أعلى سامٍ، هو الجهاد في سبيل الحرية. وقد كُتبت هذه القصة في كثير من جوانبها بلغتنا العامية.
وقد عاد توفيق إلى مصر في سنة 1928 ووُظف في سلك النيابة حتى سنة 1934، ثم انتقل مديرًا للتحقيقات بوزارة التربية والتعليم، وظل بها إلى سنة 1939؛ إذ نقل إلى وزارة الشئون الاجتماعية مديرًا لمصلحة الإرشاد الاجتماعي. وصَمَّم منذ عاد من بعثته أن يقتحم فن التمثيل الغربي بعد أن عرف أصوله وتلقَّن أسسه عند الإغريق والفرنسيين، وأُلْهم كما ألهم لطفي السيد وطه حسين أنه لا بد من الرجوع إلى الإغريق الذين هيئوا لأوربا نهضتها في التمثيل وغير التمثيل؛ لنبني نهضتنا الثقافية على نفس القواعد التي بَنَى عليها الأوربيون.
ويتعمق بنظره المأساة الإغريقية، فيجدها تستمد موضوعها من الأساطير ومن شعور ديني بصراع عنيف بين الإنسان والقوى الإلهية المسيطرة على الكون، وتصوِّر المأساة هذا الصراع صاعدًا إلى نهايته، وهي الفاجعة التي تنتج عن صرامة القضاء. ولم يلبث توفيق الحكيم أن عمد إلى تطبيق ذلك في أسطورة إسلامية عَرضتْ لها الروايات المسيحية، وهي قصة أهل الكهف التي أشير إليها في القرآن الكريم، وهم سبعة نفر ماتوا في الكهف، وظلوا نحو ثلاثمائة سنة، ثم بُعثوا، وعادوا إلى الموت بعد أن ظهرت معجزتهم الخارقة، إلا أن توفيقًا جعلهم يستأنفون الحياة، وجعل لهم مغامرات بناها على صراع عنيف بين الإنسان والزمن، فقد كان كل شيء مُعَدًّا ليعيشوا معيشة رغد وهناءة؛ ولكن حائلًا يحول بينهم وبين هذه المعيشة؛ هو الحقيقة التي تصطرع مع الواقع.
فهذا أحدهم يعلم أن ابنه مات منذ مائة عام، فيؤثر الموت على الحياة، ويعود إلى الكهف، وهذا ميشلينا الذي كان قد وقع قديمًا في حب بريسكا بنت ديقيانوس يلتقي في قصر الملك المسيحي بحفيدة جميلة لها سميت باسمها، وانطبعت على وجهها صورتها، فظنها معشوقته القديمة، وتُفْتَنُ به، ويتبادلان الحب. وتتضح لهما الحقيقة، فتُفسد واقعهما، ويعود ميشلينا إلى الكهف مؤثرًا للموت كما يعود جميع رفقائه، وقد رأوا أنهم لا يستطيعون استئناف الحياة في هذا الواقع الجديد، وبذلك ينهزم الواقع أو الإنسان أمام الزمن أو أمام هذا الشيء الغيبي الغامض الذي يسمى الحقيقة.
وعلى هذا النحو بدأ توفيق كتابة المأساة مؤمنًا بأن قوة تسيطر على الإنسان، فهو لا يعيش وحده في الكون؛ بل تسيطر عليه قوة إلهية عُلْوية، توجهه وتوحي إليه، وتدفعه يمينًا أو شمالًا. وتوفيق في ذلك يخضع لروحنا الشرقية المتدينة التي تؤمن بالقوى الغيبية المهيمنة على الناس. وأخذت تنبثق في نفسه هذه الروح لا بشعورها الديني فحسب؛ بل بشعورها الصوفي الذي يُعْلِي الروح والقلب على المادة والعقل. ويتبين ذلك في مأساته الثانية "شهرزاد" التي مثَّل في بطلها "شهريار" الصراع بين الإنسان والمكان، فقد استنفد في صاحبته كل ما أراد من متاع ولذة، وتحول قلقًا ظامئًا يريد معرفة الكون وأسراره. وهنا يبدأ الصراع العنيف بين الإنسان الشقي بقصور فهمه وبين حقائق العالم وأسراره. ويحاول شهريار أن يرحل عن واقعه ومكانه ناشدًا للمعرفة، ولكن لا يلبث أن يعود، فهو لا يستطيع فرارًا من مادته، ويصطدم بخيانة شهرزاد، وينتهي إلى حال شاذة.
وعلى هذا النحو لن يستطيع الإنسان أن يخلص من مكانه وزمانه والقوى الغيبية التي تسيطر عليه، وإن خيرًا للعالم أن يعتصم بقيم الشرق الروحية؛ بل إن علينا أن نحارب العقل الغربي الذي يؤمن بالمادة وحدها، وينفي عن عالمنا قيمه الروحية الجميلة. وبهذه الروح الشرقية مضى يكتب قصته "عصفور من الشرق" وفيها يقول: "وما صنع لنا العلم وماذا أفدنا منه؟ الآلات التي أتاحت لنا السرعة وماذا أفدنا من هذه السرعة؟ البطالة التي تلم بعُمَّالنا وإضاعة ما يزيد من وقت فراغنا فيما لا ينفع".
وأتاح له عمله في النيابة وفي مراكز ريفية مختلفة أن يكتب "يوميات نائب في الأرياف"، وفيه وصَف وصفًا دقيقًا ريفنا، وكيف أن أهله لا يفهمون مدلول القانون، وكيف يتعسف الحكام في حكمهم مبينًا عيوب النظم الإدارية والقضائية والتشريعية، وهو في أثناء ذلك يعرض الحوادث والأشخاص عرضًا واقعيًّا حيًّا في سخرية مرة وفي مقابلة حادة بين واقعية الفلاحين والمثالية.
ويُخْرج "أهل الفن" وهي ثلاث قطع مسرحية، فكاهية قصيرة وأقصوصتان. ويخرج سيرة "محمد" صلى الله عليه وسلم في قالب حواري، حافظ فيه على حوادث السيرة محافظة تامة. ويلتقي مع طه حسين في صيف سنة 1936 بقرية من قرى جبال الألب في فرنسا، ويكتب معه "القصر المسحور" متحدثين معًا عن سر شهرزاد وعن حقائق مختلفة في الأدب والفن.
ويستقيل من الوظيفة الحكومية في سنة 1943 ويخلص لفنه، ويتعاقب إنتاجه بين مقالات نقدية في الصحف، يجمعها وينشرها، وبين قصص وأقاصيص اجتماعية مثل عهد الشيطان، ويتضخم إنتاجه في المسرحيات تارة يستوحيها من محيطه الاجتماعي المصري على نحو ما نعرف في مجموعته "مسرح المجتمع" التي نشرها في الصحف أولًا ثم جمعها في هذا الكتاب معالجًا فيها مشاكلنا الاجتماعية والسياسية بروح فكهة، وتارة يستوحيها من موضوعات قديمة وأساطير إغريقية وغير إغريقية حتى يأخذ الفرصة كاملة لمسرحه الذهني الذي اشتهر به من قبل في "أهل الكهف" و"شهرزاد"، والذي يذهب بعض النقاد إلى أن صلاحية مسرحياته للقراءة فيه أكثر من صلاحيتها للتمثيل. وقد مضى فألف مسرحية "براكسا أو مشكلة الحكم" التي نشرها في سنة 1939، وهي تعرض لمشكلة توزيع السلطات، وتكشف عن فسادنا السياسي قبل الثورة.
ونراه ينشر في سنة 1942 مأساة بيجماليون، يستوحيها أيضًا من أسطورة إغريقية، تصور المشكلة بين الفن والحياة، فهذا مَثَّال انصرف عن النساء إلى فنه، وصنع تمثالًا آية في الجمال والفتنة، وأحب هذا التمثال الذي صنعه بيديه، وسوَّلت له نفسه أن يطلب إلى "فينوس" أن تبعث الحياة فيه، فاستجابت له، وأحالت تمثاله امرأة اقترن بها. وحوَّل الحكيم هذه الأسطورة إلى مأساة يقوم فيها صراع عنيف بين الفنان وإخلاصه لفنه وبين نداء الحياة الذي يلاحقه ولا يستطيع فكاكًا منه، وبعبارة أخرى: يصعد صراع بين ملكات الفنان وبين الإنسان الراقد في أطوائه. ويطلب بيجماليون إلى الآلهة أن تعيد له تمثاله، وتستجيب إليه، وما يلبث أن يتولاه القلق ويثور، فيحطم تمثاله، وتنتهي حياته بنفس الحيرة التي أنهى بها توفيق حياة شهريار في مأساته "شهرزاد".
ويعود توفيق إلى موضوعاتنا الدينية، ويختار سليمان الحكيم وقصة الهدهد وبلقيس التي جاءت في القرآن الكريم. ويمزج بين ذلك وبين قصة الجني والصياد في ألف ليلة وليلة، ويكتب مسرحيته "سليمان الحكيم"، يعرض فيها مُلْكه العظيم وحبه لبلقيس. وتتوالى الأحداث كما يميلها القضاء، وتتعطل إرادة الأشخاص حتى سليمان الحكيم نفسه، وقد اتخذ توفيق من الجني أو العفريت رمزًا للعقل المغرور الذي يظن واهمًا أنه قادر على كل شيء.
وفي سنة 1949 يخرج قصة "الملك أوديب" التي تزعم الأسطورة الإغريقية أنه قتَل أباه وتزوج أمه، بدون معرفته. وكانت الآلهة قد تنبأت للأب بذلك نتيجة لخطيئة أحلت عليه اللعنة، فلما رُزق هذا الولد أمر راعيًا أن يحمله إلى أحد الجبال المهجورة ويقتله؛ ولكن الطفل أنقذ وتربى في بلاط ملك آخر، وتطورت الأحداث كما شاءت الآلهة. وعرَف أوديب وأمه أو زوجته ذلك أخيرًا، فانتحرت، وفقأ عينيه وحلت عليه اللعنة الأبدية.
وأخذ الحكيم هذه الأسطورة، فجردها من النبوءة الوثنية عند الإغريق وما يعتقدون في آلهتهم، ومضى في ظلالها يهاجم العقل ومحبته للبحث والاستطلاع، فإن أوديب يسعى للبحث عن حقيقته، بعد أن استوى ملكًا وتزوج أمه، وتصدمه الحقيقة هو وأمه؛ بل تقضي عليهما قضاء مبرمًا.
وإنما أطلنا في عرض هذه المسرحيات والمآسي؛ ليقف القارئ على أن لتوفيق فلسفة في مسرحه الذهني. وهي فلسفة يستمدها من الشرق وروحه العميقة التي تؤمن بقوى غيبية تسيطر على الإنسان وملكاته، والتي تشك في العقل وكل ثمراته. ومعنى ذلك: أنه أوجد لنا مسرحًا مصريًّا، له فلسفته التي يقف بها بجانب المسارح الغربية القديمة والحديثة. وكتب بنفس هذه الفلسفة وما يتصل بها من صوفية الشرق كثيرًا من قصصه، ولعل ذلك ما جعل الغربيين يترجمون آثاره إلى لغاتهم؛ بل لقد مثَّلوا بعض مسرحياته، وخاصة شهرزاد؛ إذ وجدوها خليقة حقًّا بالتمثيل؛ لما فيها من جمال ودقة وعمق.
وكان طه حسين قد أشاد بهذا الكاتب الفذ حين أخرج أول آثاره المسرحية "أهل الكهف" سنة 1933 فقال: إنها حَدَثٌ في تاريخ الأدب العربي، وإنها تضاهي أعمال فطاحل أدباء الغرب. فلما تولى وزارة التربية والتعليم عينه مديرًا لدار الكتب المصرية سنة 1951.
وعُين في سنة 1956 عضوًا متفرغًا في المجلس الأعلى للآداب والفنون. وفي سنة 1959 عُين مندوبًا مقيمًا لجمهوريتنا العربية المتحدة في "اليونسكو" بباريس، غير أنه فضل العودة في سنة 1960 إلى عمله بالمجلس الأعلى. وقد أخرج في السنوات الأخيرة ثلاث مسرحيات رائعة؛ هي: "إيزيس" و"السلطان الحائر" و"صفقة"، وفيها عصير شعبي بديع.
شهرزاد:
استلهم توفيق في كتابة هذه المسرحية الأسطورة الفارسية التي تزعم أن كتاب ألف ليلة وليلة قَصَصٌ قصته شهرزاد على زوجها شهريار. وذلك أنه فاجأ زوجته الأولى بين ذراعي عبد خسيس، فقتلهما، ثم أقسم أن تكون له كل ليلة عذراء، يبيت معها، ثم يقتلها في الصباح انتقامًا لنفسه من غدر النساء. وحدث أن تزوج بنت أحد وزارئه "شهرزاد"، وكانت ذات عقل ودراية. فلما اجتمعت به أخذت تحدثه بقصصها الساحر الذي لا ينضب له معين، وكانت تقطع حديثها بما يحمل الملك على استبقائها في الليلة التالية لتتم له الحديث، إلى أن أتى عليها ألف ليلة وليلة، رُزقت في نهايتها بطفل منه، فأرته إياه وأعلمته حيلتها، فاستعقلها واستبقاها .
ويبدأ توفيق مسرحيته بنهاية الأسطورة، فإن شهرزاد كشفت لشهريار عن معارف لا تُحَد، وأصبح ظامئًا للمعرفة، ولم يعد يُعْنَى بالجسد ولذاته، فقد تحول عقلًا خالصًا يبحث عن الألغاز والأسرار حتى ليريد أن ينطلق من قيود المكان لعله يطَّلع على مصادر الأشياء وغاياتها، ويعرف كُنْهَهَا وحقائقها.
والمسرحية في سبعة فصول، ونلتقي في الفصل الأول بجلاد الملك وعبد أسود يحاوره في شأن الملك وما يقال عن خبله، وكيف يغدو إلى كاهن يطلب عنده حلًّا لبعض ألغازه، ونسمع بوزيره قمر. ويتراءى لنا العبد مثالًا للبوهيمية التي تقبع في داخله؛ إذ يرى عذراء مع الجلاد، فيقول: "ما أجمل هذه العذراء! وما أصلح جسدها مأوى! " ويتحول متسائلًا عن شهرزاد.
وننتقل إلى الفصل الثاني، فنجد قمرًا الوزير مع الملكة في قاعتها، ونعرف من الحوار أنه يحبها محبة العابد لمعبوده لا محبة العاشق لمعشوقته، فقد سما بعواطفه إزاءها سموًّا بعيدًا، وهي تعرف ذلك وتعبث به، ويخشى أن تكتشف سره، فينقل الحديث معها إلى الملك على هذا النحو:
قمر: إني ... أردت أن أقول: إنك غيَّرتِه، وإنه انقلب إنسانًا جديدًا منذ عرفكِ.
شهرزاد: إنه لم يعرفني.
قمر: لقد قلت لك قبل اليوم: إن الملك بفضلك قد أمسى أيضًا لغزًا مغلقًا أمامي، وكأنما كُشف لبصيرته عن أفق آخر لا نهاية له، فهو دائمًا يسير مفكرًا باحثًا عن شيء، منقبًا عن مجهول، هازئًا بي كلما أردت اعتراض سبيله إشفاقًا على رأسه المكدود.
شهرزاد: أتسمِّي هذا فضلًا يا قمر؟
قمر: وأي فضل يا مولاتي، فضل من نقل الطفل من طور اللعب بالأشياء إلى طور التفكير في الأشياء.
ويُشيد قمر بحبها للملك، فتعترضه قائلة:
ما أبسط عقلك يا قمر! أتحسبني فعلت ما فعلت حبًّا للملك؟
قمر: لمن غيره إذن؟
شهرزاد: لنفسي.
قمر: لنفسك! ماذا تعنين؟
شهرزاد: أعني أني ما فعلت غير أني احتلت لأحيا.
ويعود شهريار من لدن الساحر كاسفًا مقهورًا، شاعرًا بالفناء ككل قوة في نهايتها. وتحاول شهرزاد أن تسترده من قلقه وحيرته، وتقول له: إنها جسد جميل وقلب كبير، فيقول: سحقًا للجسد الجميل والقلب الكبير، ويكون بينهما حوار طويل .
ويمضي شهريار متحدثًا عن حقيقة شهرزاد، وكيف تحولت في نفسه إلى لغز عقلي هائل، يقول موجهًا الخطاب إليها عنها:
"قد لا تكون امراة، من تكون؟ إني أسألك من تكون؟ هي السجينة في خدرها طول حياتها، تعلم بكل ما في الأرض كأنها الأرض! هي التي ما غادرت خميلتها قط تعرف مصر والهند والصين! هي البكر تعرف الرجال كامرأة عاشت ألف عام بين الرجال! وتدرك طبائع الإنسان من سامية وسافلة . وتلك صورة شهرزاد في عين شهريار بالمسرحية، فهي لغز عميق ينطوي على أسرار الوجود. أما في عين قمر الوزير فملاك سماوي، بينما هي في عين العبد الأسود القبيح بنت الأرض بغريزتها الجسدية، وكأنها الطبيعة، يرى كل من الثلاثة فيها نفسه مطبوعة كأنها المرآة المصقولة، شهريار بحيرته وتنقيبه عن المجهول وأسراره، والوزير بطهارة روحه وسمو نفسه، والعبد بغريزته الحيوانية التي ستنكشف لنا عما قليل لا عنده وحده؛ بل عند شهرزاد أيضًا التي تخضع كغيرها من النساء لمطالب المرأة الجسمية.
وفي الفصل الثالث تصعد أزمة شهريار وتشتد، فنجده مع الساحر وقمر مصممًا على الرحيل في أطراف العالم، ويحاول قمر أن يرده عن عزمه قائلًا: "هل يحسب مولاي، لو جاب الدنيا طولًا وعرضًا، أنه يعلم أكثر مما يعلم وهو في حجرته هذه". وتظهر شهرزاد وتحاول أن ترجعه إليها، قائلة: "إن رجلًا بقلبه قد يصل إلى ما لا يصل آخر بعقله"؛ ولكنه يصمم على الرحيل حتى يتحرر من عقال المكان.
ويرحل في الفصل الرابع مع وزيره، وتلتقي شهرزاد بالعبد رمز الشهوة الجسدية في الفصل الخامس وتنغمس معه في إثم الخطيئة رغم سواده وغلظته وضَعة أصله ومنبته. ويدخل شهريار مع وزيره في الفصل السادس "خان" أبي ميسور، ويعلمان فيه خيانة شهرزاد وترتجف نياط قلب العابد الولهان قمر، ويعود بمولاه في الفصل السابع إلى شهرزاد، لعله ينتقم من زوجته وعبدها الخسيس؛ ولكن شهريار قد تحوَّل وأصبح فكرًا محضًا، فلا ينتقم. وينتحر قمر، ويحس مولاه بالهزيمة، وأنه لا يستطيع انطلاقًا من المكان، من الأرض: "دائمًا هذه الأرض، لا شيء غير الأرض، هذا السجن الذي يدور، إنا لا نسير، لا نتقدم ولا نتأخر، لا نرتفع ولا ننخفض؛ إنما نحن ندور، كل شيء يدور". ويصبح معلقًا بين الأرض والسماء ينهشه القلق والحيرة.
وأكبر الظن أنه قد اتضحت فلسفة توفيق في هذه المسرحية، وأنه يؤمن بالقلب أكثر مما يؤمن بالعقل الذي يحطم حياة الناس، ومع ذلك تَحْلم به البشرية، وتحاول عن طريقه أن تكشف أسرار الكون وتجتاز حدود المكان، وفي ذلك اندحارها وهزيمتها كما انهزم شهريار. وقد دفعت ضرورات المسرحية كاتبنا إلى هذا الوضع الشائن لشهرزاد التي عُرفت بعقلها وحكمتها، فسقط بها سقطة بشعة، ومن أجل ذلك تولى طه حسين في "القصر المسحور" الدفاع عنها عاتبًا على توفيق صنيعه بها، غير أن توفيقًا حولها إلى صورة جديدة تتمشى مع تطور الأشخاص في مسرحيته، ولم يُعْنَ بصورتها التاريخية.
14 ـ محمود تيمور 1894-1973م
أ- حياته وآثاره:
في درب سعادة -أحد دروب القاهرة- وُلد محمود سنة 1894 لأحمد تيمور "باشا" أحد مفاخر مصر الحديثة في تحصيل الكتب العربية القديمة وجمع مخطوطاتها ونفائسها، وأحد علمائنا الباحثين في اللغة والأدب والتاريخ. ويرجع تيمور "باشا" إلى أصول كردية عربية، وقد ورث ثروة كبيرة عن آبائه، فكانت له ضياع وأملاك، ولم يبدِّد هذه الثروة؛ وإنما احتفظ بها لأبنائه، وأهدى إلى مصر ودار كتبها أنفس مكتبة أهديت إليها في تاريخنا الحديث.
وكان تيمور "باشا" دمثَ الأخلاق متواضعًا، واتخذ من بيته منتدى للأدباء والعلماء من أمثال: محمد عبده والشنقيطي. وكثيرًا ما حج إلى هذا البيت المستشرقون ورجال الأدب والعلم في الأقطار الشقيقة. ولما تُوفيت زوجته انتقل بأبنائه إلى "عين شمس" إحدى ضواحي القاهرة، ثم اتخذ له بيتًا في "الزمالك".
وكان يقضي الصيف في بعض ضياعه، مختلطًا هو وأبناؤه بالفلاحين، كأنهم منهم.
وفي هذا الوسط وتلك البيئة نشأ محمود، وأخوه محمد، وبقية إخوتهما، يتنفسون في هذا الجو الهادئ السعيد. وانتظم محمود في المدرسة الابتدائية، ثم الثانوية، وعَيْنُ أبيه ترعاه، وقد أخذ يصله بهوايته من قراءة الأدب، وألزمه هو وإخوته حِفْظَ معلقة امرئ القيس، وكأنه يريد أن يعلق في ذاكرتهم تميمة اللغة العربية، ووصَلَهم بالكتب القديمة، وخاصة القصصي منها مثل ألف ليلة وليلة.
ولم يلبث الأخوان محمد ومحمود أن أصدرا صحيفة منزلية يسجلان فيها أخبار المنزل والأصدقاء، وأنشآ مسرحًا بيتيًّا يمثلان فيه بعض المسرحيات الساذجة، ودفعهما ذلك إلى الإقبال على قراءة الروايات والقصص المترجمة، وأكثرا من قراءة المنفلوطي والآثار الجديدة التي كان يُحْدثها أدباء المهجر من أمثال جبران. وأخذ محمود ينظم الشعر، ويكتب طرائف من الشعر المنثور.
وسافر محمد إلى باريس سنة 1911، وظل بها إلى سنة 1914، وهناك استوت له معرفة دقيقة بأدب القصة والمسرحية. وفي هذه الأثناء كان محمود قد أتم تعليمه الثانوي والتحق بمدرسة الزراعة العليا، إلا أنه مرض بمرض التيفود وأثَّر في بنيته وقواه الجسمية، فاضطُر إلى قطع دراسته. وعاد محمد، فوقف منه على ما وراء البحر من أدب قصصي وتمثيلي، وأخذ يصور له قواعده وأصوله، وحبَّب إليه قراءة حديث "عيسى بن هشام" للمويلحي و"زينب" لهيكل. ولم يلبث محمد -كما مر بنا في غير هذا الموضع- أن انضم إلى جمعية من هواة التمثيل، وألف بعض مسرحيات وأقاصيص بلغتنا العامية.
وأخذ محمد يلقن أخاه محمودًا المذهب الواقعي في الأقصوصة الغربية، وأخذ محمود يقرأ فيه، وخاصة في موباسان القصاص الفرنسي الواقعي، الذي كان يعجب به أخوه إعجابًا شديدًا. وقد جرى في إثره يعجب به وبأسلوبه القصصي القائم على التركيز وتماسك الأحداث في الأقصوصة تماسكًا متينًا.
وبدأ يكتب محاولاته في هذا الفن، فكتب أقصوصتي: "الشيخ جمعة" و"يُحْفَظُ بالبوسطة". ويموت محمد في شرخ شبابه سنة 1921 فلا تَهْوِي الراية من يده؛ بل يتسلمها منه محمود، ليُتم ما بدأه، ولا يصل إلى سنة 1925 حتى تتجمع له مادة من الأقاصيص، تتيح له أن ينشر في الناس في مجموعته الأولى: "الشيخ جمعة وقصص أخرى"، ومجموعته الثانية: "عم متولي وقصص أخرى". ونراه في المجموعة الأولى يتحدث عن الأقصوصة ومكانتها في عالم الأدب كما يتحدث عن المذهب الواقعي وضرورة الأخذ به في التأليف القصصي. ثم ينشر "الشيخ سيد العبيط وأقاصيص أخرى"، ويتحدث في مقدمتها عن القصة في اللغة العربية وعن جهد المويلحي وهيكل وأخيه محمد تيمور مبينًا أنه يعبِّد فيها طريقًا جديدًا بدأه من قبله أخوه، وهو يحاول أن يسير بها في نفس الطريق مستمدًّا من البيئة المصرية بأشخاصها وجوِّها وصورها المختلفة في الريف والمدينة.
ولا تظن أن فن محمود تيمور استوى تمامًا في هذه المجاميع الأولى، فإنه يغلب عليها المبالغة، كما يغلب عليها شيء من النزعة الخيالية التي تركتها في نفسه قراءاته للمنفلوطي ولأدباء المهجر، وإن كنا نلاحظ من طرف آخر أنه ينزع إلى الخير والإصلاح الاجتماعي، فهو يسعى بأقاصيصه التي يكشف بها عن نقائص المجتمع إلى غاية خلقية.
ويتاح له أن ينزل في فرنسا سنتين، يقضيهما فيها وفي سويسرا، فيطلع على الأدب الفرنسي من قريب، ويقبل على قراءة الأدب الروسي عند تورجنيف وتشيخوف وأضرابهما، كما يقبل على قراءة الآداب الغربية المختلفة، وتستوي في نفسه للأقصوصة صورة أدق من الصورة الأولى، وتتببين له معالم الطريق واضحة، ويأخذ في إنتاجه الضخم الذي بلغ إلى اليوم نحو عشرين مجموعة من الأقاصيص والقصص الطويلة.
وأقاصيصه في هذه المجاميع منوعة تنويعًا واسعًا، وهي في أكثرها لوحات لحوادث ومواقف وأحوال اجتماعية ونفسية، ويظهر في كثير منها نزعة تحليلية، كما يظهر في كثير منها نوع من العطف على شخوصه، مع الاعتدال في التصوير، فالخيال لا يجمح به. وقد يسوق لك عقدة نفسية، أو صراعًا نفسيًّا باطنًا؛ ليصور لك جوانب الضعف في الإنسان. وهو في كل ذلك يتخذ أسلوبًا بسيطًا لا مبالغة فيه ولا إغراق؛ وإنما فيه الصدق وتمثيل الواقع في بساطة.
ولم يقف بأقاصيصه عند غايات محلية، فقد جعلها تتسع لنزعات إنسانية عامة؛ كنزعة الخير أو نزعة الكمال أو نزعة الإحساس بالجمال في الطبيعة أو في الموسيقى والأشياء. والحق أنه بلغ في ذلك كله مرتبة رفيعة، ويكفي أنه مؤسس فن الأقصوصة في الأدب العربي الحديث، حقًّا سبقه إليها أستاذه وأخوه محمد؛ ولكنه هو الذي نَمَّاها ووسَّع طاقتها، وجعلها شبيهة بما ينتجه أدباء الغرب في هذا المضمار، مما كان سببًا في أن تُتَرجم كثير من أقاصيصه إلى الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية والروسية، فهو أستاذ الأقصوصة في عصرنا غير منازَع، وهو فيها لا يقف عند مذهب غربي معين. يؤثر المذهب الواقعي، وقد يعدل عنه إلى بعض صور خيالية أو بعض صور تأثيرية؛ إذ نراه يقدم الحادثة ويتركها بدون شرح؛ لنتأثر بها على النحو الذي نريده. ومن بديع مجموعاته التي تصور كل ما قدمنا: "مكتوب على الجبين" و"كل عام وأنتم بخير" و"إحسان لله" و"شفاه غليظة" و"شباب وغانيات". ومن خير أقاصيصه الطويلة "ثائرون"، وهو يصور فيها ما كان يحتدم في قلوب شبابنا من ثورة على أوضاع العهد البائد الفاسد، وقد كتبها في صورة مذكرات على لسان طالب جامعي.
ولم يقف محمود تيمور عند محاولة الأقصوصة القصيرة، فقد حاول أيضًا القصة الطويلة وأخرج فيها: "نداء المجهول" و"كليوباترا في خان الخليلي" و"سلوى في مهب الريح". وهو ينزع في القصة الأولى منزع توفيق الحكيم الذي يسعى إلى تصوير الروح الشرقية، وهي قصة تشبه قصص الحب العذري القديمة، وحوادثها تجري في لبنان. ونحس فيها النزعة الخيالية واضحة، وفي الوقت نفسه يحلل الكاتب البيئة والشخصيات وعواطفهم تحليلًا واقعيًّا، فالخيال والواقع يتقابلان، كما تتقابل معهما روح الفكاهة ممثلة في الأستاذ كنعان المتعالم المغرور.
و"كليوباترا في خان الخليلي" قصة خيالية، يتصور فيها الكاتب مؤتمرًا للسلام عُقد في القاهرة. واجتمع فيه فلاسفة العالم، وقد رأى أحدهم أن يتصل ببعض الأرواح من العالم الآخر، فتحضر كليوباترا ويحضر تيمورلنك المحارب التتري القديم، وكل منهما يغاير الصورة المعروفة له، فلا يفيد منهما المؤتمر ما كان يرجوه. ويأخذ المؤتمر في مناقشة أمور فرعية. ويعرض تيمور في القصة نقدًا ساخرًا للمؤتمر وحماقات الإنسان وترهاته، وفي ذلك كله تجري روح الفكاهة والدعابة.
أما "سلوى في مهب الريح" فقصة تحليلية واقعية للجانب العابث في حياة الطبقة الأرستقراطية، وبطلتها سلوى فتاة فقيرة تضطرب في خضم الحياة، وتدفعها عوامل البيئة والوراثة إلى الزلل.
وهذه الموهبة القصصية البارعة رأى محمود تيمور أن يستغلها في صنع المسرحية، فكتب مسرحيات من فصل واحد، كما نرى في "حقله شاي" وهي مسرحية تصور حب الظهور في أنماط متباينة من الناس لا نكاد نقرؤهم حتى نغرق في الضحك. ولم يقف بهذه المسرحيات القصيرة عند واقع بيئته، فقد تحول بموضوعها إلى التاريخ القومي والعربي يتخذ منه موضوعه كما نرى في "مسرحية المنقذة" التي صور في بطلتها بنت خليل بك شيخ البلد الصراعَ النفسيَّ بين الاعتراف بالجميل وإنكاره.
وبجانب هذه المسرحيات القصيرة يكتب مسرحيات طويلة يستمدها من التاريخ العربي مثل "ابن جلا"، وفيها صور الحجاج الثقفي لا في صورته التاريخية؛ وإنما في صورة إنسانية جديدة، ومثل "حواء الخالدة" التي عالج فيها حب عنترة وعبلة، ومثل "اليوم خمر" وقد صور فيها حياة امرئ القيس، ومثل "صقر قريش" التي صور فيها عبد الرحمن الداخل أول الخلفاء الأمويين في الأندلس. وقد يستمد مسرحياته الطويلة من الحياة الواقعة كما نرى في مسرحيته "المخبأ رَقْم 13"، وفيها صور الخوف من الموت في صور زاخرة بالسخرية، عرضها في أشتات من الناس، منهم الأرستقراطي ومنهم البائس الفقير، ومنهم من يؤمن بالخرافات والكرامات إيمان البُلْه. ومن مسرحياته "أشطر من إبليس"، وفيها يصور المجتمع المصري إزاء ثورتنا المباركة ويحلل عوامل الخير والشر في الإنسان.
وتزخر هذه المسرحيات جميعًا بالتحليل النفسي وبالصراع بين العقل والغريزة وبالعقد الباطنة، حتى لتصبح بعض الشخوص مزدوجة الشخصية، فلها ظاهرها في سلوكها، ووراء هذا الظاهر باطن خفي يلمع على جنباتها من حين إلى حين.
ولعل من الغريب أنه في مسرحيته الأخيرة "أشطر من إبليس" يقف الحوار، ويعمد إلى الشرح؛ حتى نفهم تعاقب المناظر والحركة في المسرحية، وكأنما موهبته القصصية تطغى على مسرحياته، وفي الحق أنه قصاصًا أبدع منه مسرحيًّا.
ولعل من الغريب أيضًا أنه كتب بعض مسرحياته مثل "المخبأ رَقْم 13" في نسختين إحداهما بالعربية الفصحى والثانية بالعامية. وهذا الصنيع يوضح تطورًا عنده، فقد بدأ أقاصيصه بالعامية، ثم عدل عنها وكتب باللغة الفصحى؛ بل حاول أن ينقل بعض أقاصيصه القديمة من العامية إلى الفصحى، وصنع ذلك فعلًا بمجموعة أقاصيصه "أبو علي عامل أرتيست" فدعاها "أبو علي الفنان". ثم أجرى فيها النقل والترجمة.
والحق أنه يبلغ الذورة في عالم الأقصوصة، وقد نال فيها جوائز مختلفة، وتقديرًا لمكانته الأدبية انتخب عضوًا في مجمع اللغة العربية، وظل في هذا المنصب حتى وفاته سنة 1973. ونقف قليلًا عند قصته الطويلة "سلوى في مهب الريح".
سلوى في مهب الريح:
قصة واقعية تحليلية. بطلتها سلوى، فتاة نشأت في الإسكندرية في رعاية جدها، محرومة الأب والأم، فإن أباها طلق أمها لسوء سلوكها، ثم وافاه الموت. ويقدم لنا تيمور بيت الجد المتواضع بكل ما فيه من غلظة الجد ووقاره، وإحساس الفتاة بالعزلة والوَحْدَة، لولا ما كانت تُدْخله عليها خادم البيت "أم يونس" من أنس وطمأنينة.
وتنشأ الفتاة على البراءة والطهارة، ويأخذها جدها بحفظ بعض سور الذكر الحكيم. ويتصادف أن تشهد مع خادمها احتفال جمعية العروة الوثقى، فتتعرف على فتاة ثرية من الطبقة الأرستقراطية؛ إذ كانت بنتًا لأحد الباشوات. وتنعقد بينهما أواصر الصداقة، وتتعرف عندها على خطيبها "شريف" وشاب يسمى "حمدي" كان صديقًا لشريف. ويتوفَّى جدها، فتعيش فترة عند صاحبتها، ترعاها. وتعلم الأم بموت الجد فتحضر؛ لتأخذ بنتها، وتقيم معها بحي السيدة زينب في القاهرة، وتظل على علاقتها بصديقتها، وتعرف حقيقة أمها، وتشب على أسرارها وما تتردى فيه من علاقات أثيمة.
ثم تتطور الحوادث فتموت أمها، وتتزوج صديقتها بشريف، وتتزوج هي بحمدي، وكان من أسرة متوسطة متواضعة، ويصاب بالسل فينقل إلى المستشفى، وتنشأ في هذه الأثناء صلة حب بينها وبين شريف. ويتطور هذا الحب إلى مغامرة رهيبة جنتها عليها وراثتها السيئة. ويندفع شريف الشاب الثري المترف في القمار، ويفقد ماله ووظيفته وينتحر فرارًا من الحياة. ويموت حمدي بدائه. وتعمد سلوى إلى العمل في مشغل للحياكة، وهي حامل، وتلد في مستشفى وليدها؛ ولكنه يموت. ويُؤْتَى لها بطفل ترضعه؛ لأن أمه مريضة ولا تستطيع أن تقدم له غذاءه، وتحس نحوه بحنان، ثم تكتشف أنه ابن صديقتها سنية من شريف،
وتغفر لها سنية زلتها معها، وتتخذها مرضعة لطفلها.
والقصة محبوكة الأطراف، لا تقرؤها حتى تشعر بلذة، مردُّها إلى خبرة الكاتب بفن القصة وما يحتاجه من تشابك الحوادث والمفارقات والمفاجآت، وما يتخلل ذلك من نقد وفكاهة وتهكم وصراع. إنه قصاص بارع قد عرف أصول القصة، وطالما كتب في هذه الأصول بمقدمات قصصه، وقد أفردها ببحث مستقل، فهو أستاذ ماهر لا تعوزه ثقافة في عمله.
والشخصيات واضحة تمام الوضوح، وهي تنكشف تارة بوصف الكاتب لها، وتارة بسلوكها وأقوالها، وألقيت على سلوى أضواء كثيرة تصور تطورها النفسي من فتاة طاهرة إلى فتاة دنسة تعسة، وقد كانت اليد التي تنكرت لها هي نفسها اليد التي تقدمت لها في محنتها، تريد أن تخرجها منها. فالخير الذي يؤمن به الكاتب لا يزال يرسل شعاعه على البشر وما انطووا عليه من شرور.
وتُصوِّر القصة طبقاتنا المختلفة من غنية وفقيرة، وتحلَّل هذه الطبقات في خلقها وفي سموها ومباذلها، كما تحلَّل الشخصيات تحليلًا عميقًا، وهو تحليل يتناول الظاهر كما يتناول الباطن، والقصة تبدأ على هذا النحو؛ إذ تقول سلوى:
"لا أذكر من تاريخ حياتي قبل العاشرة من عمري إلا أطيافًا شاحبة. في تلك الفترة كان يَكْفُلني جدي لأبي، فأقمت معه في منزلنا العتيق، منزل لا فخامة فيه، تحيط به حديقة شعثاء، ويطل على حارة منزوية لا تُطْرَق، وكان جدي منذ تُوفي أبي قد أخلد إلى العزلة وآثر الوَحْدَة، وتوضحت على محيَّاه سمات التجهم للدنيا والتبرم بالحياة. ولم يكن يزوره إلا رجل علت به السن، وقوضت بناءه الأيام، يدعى "الطوخي أفندي" فيُمضي كلاهما بعض الوقت في حجرة الضيافة القائمة في ركن من الحديقة، فأراهما حينًا يتناقلان الحديث، وحينًا يلعبان بالنَّرْد ناشطين لا يعتريهما ملال. وكنت أنا في حجرتي يصك سمعي صوتهما مدويًا كهزيم الرعود، فتنتظمني رجفة ويخيل إليَّ أنهما مشتبكان في تضارب وسباب. ولم يكن في الدار من الخدم غير أم يونس والحاج مسرور، الأولى ضامرة عجفاء، توهم من يراها أنها تنوء بالأمراض؛ ولكنها في الحقيقية صُلْبة العود قوية الأعصاب. أما الحاج مسرور فكان سودانيًّا، أميل إلى البدانة، طلق الوجه، هادئ الصوت. وكان كلاهما يحسن معاملتي ويتعهدني بعطف وحدب؛ فشعرت نحوهما بحب وشغف. وأشد ما كان يسوؤني أن أرى جدي لا يعاملهما بالحسنى، فهو يُنْحي دائمًا عليهما باللائمة، ولا يفتأ يؤاخذهما ويُسفِّه آراءهما في كل شيء".
وبهذا الأسلوب البارع في رسم الشخصيات كتَب تيمور قصته، كما كتب قصصه وأقاصيصه الأخرى التي يثير فيها مشاكل مجتمعه وما ينطوي فيه من نقائص وعيوب. وعلى الرغم من أنه يستمد قصصه من بيئته وشخوص وطنه غالبًا فإنه لا يقف عند نظرة محلية خاصة؛ بل يرتفع إلى نظرة إنسانية عامة، ويبدو ذلك واضحًا في أعماله الأخيرة، وهو دائمًا تشيع الرحمة في جوانب نفسه، ويشعر بالأسى لمن يصفهم في مِحَنهم، فلا يعنف عليهم. وكل ذلك يسوقه في عرض شائق بسيط لا تعقيد فيه ولا تكلف؛ وإنما فيه الصدق وهدوء الطبع واعتدال المزاج.





15 ـ جبران خليل جبران
(1883 – 1931 )
الشاعر - الناثر
حياته : في بلدة تجاور الأرز , تغزل الوجود اخضر , لتهم , تصلي , وتستمر , تحدث , فتنطق وتسكر , وتروي ملحمة خضراء لا تعرف مع الحياة نهاية , في بشري ولد جبران خليل جبران سنة 1883 , ومضى ينسج صباه في بيت يقسو فيه أب , ويتعبد اللذة , وتصفو أم تذوب ملائكية , وفي مراتع تجللها تراتيل الأجراس , وتوشيها مواسم الجمال واللذة , وما عرف الصبي عادية النشأة فأسرف في التجوال , وغالى في الضياع , وهام يرى من الطبيعة الفاتنة الساحرة . وتعلم في مدرسة بلدته . وما لان معها . وترشف ما شاء من دين – وطقوس . وكان للهجرة أن تنفذ إلى بيته المتذمر في معشره المتضور في عيشه , وتعزم أمه ( كاملة رحمة ) على أن تهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية , فتصحب معها جبران , وسائر أولادها , ويحطون الرحال في مدينة بوسطن , وجبران ما تعدى يومذاك الثانية عشرة من عمره , ويدخله أخوه بطرس المدرسة فيواصل تعلمه ويتقن الانكليزية . وأمضى في مدرسته بضع سنين . وأرسله بعدها أخوه إلى لبنان . فانتظم في مدرسة الحكمة , وتتلمذ فيها على الخوري يوسف حداد . وإذا هو يجدد حياته في بشري فعاود تجوالاته وتقدم في تأملاته . ويشدو الهوى يخضر ويطيب . وأمضى جبران ثلاث سنوات في ( الحكمة ) وعاد إلى مدينة هجرته بوسطن , ومضي يحاول الإبداع في الرسم وممارسة الكتابة , ويفقد أخته سلطانة ثم أخاه بطرس . وبعد ذلك أمه . ويبدع في الرسم ويقيم معرضا ً لرسومه ويأتيه الزائرون , ويلتقي في هذه الأثناء بالآنسة ماري هسكل . وتنشأ علاقة حميمة بينهما . وما كان جبران يفتر في كتابته العربية فوضع كتابيه : ( الموسيقى ) و ( عرائس المروج ) .
وانطلقت ماري هسكل تساعده وتشجعه , وأرسلته إلى باريس ليواصل تعلمه للرسم , وقضى في فرنسا ثلاث سنوات . إفادته في مواهبه وثقافته . وعاد بعدها إلى بوسطن . وانتقل منها إلى نيويورك , واصدر كتابه ( الأجنحة المتكسرة ) واحدث ضجة في البلاد العربية .
وكان قد بدأ منذ سنين تأليف كتاب النبي في الانكليزية . ويصر على انجازه ويصدر فيلقى رواجا ً كبيرا ً .
ولم يكن بقي له من أسرته المهاجرة سوى أخته مريانا , وإذا هو يجد في ماري هسكل الأم والأسرة . وكانت عونا ً له في كتابة مؤلفاته في اللغة الانكليزية مثل ( النبي ) , ورمل وزبد ) , و ( يسوع ابن الإنسان ) و ( حديقة النبي ) وغيره .
والتقى جبران في نيويورك ببعض الأدباء العرب مثل ميخائيل نعيمة ونسيب عريضة وعبد المسيح حداد وإيليا أبو ماضي وشاركهم في إنشاء الرابطة القلمية , وساهم في إصدار مجلة الفنون لصاحبها نسيب عريضة . ونشر كثيرا ً من المقالات في الصحف والمجلات العربية , في المهجر والبلاد العربية .
ودرت عليه كتبه ورسومه أموالا ً وافرة . وعمل في التجارة فأصيب بنكبة مؤثرة ورغب في الزواج من ماري هسكل , فما لبت مطلبه , وراسل مي زيادة , وعمقت له معها علاقة حب وصداقة , وتعرف على نساء غيرها مثل ميشالين . وبربارة يونغ رفيقته في سنواته الأخيرة .
وعاش جبران بعض من تألق شهرته , وخاصة في العالم الأمريكي . وأحس بالمرض يعمق في جسده , فراح يسابق الزمن , يعطي حياته صورا ً وكتابة ويباشر بوضع كتابه ( موت النبي ) وما استمر عطاؤه , وآلى إلى انطفاء. وكانت وفاته في سنة 1931 . ونقلت رفاته إلى لبنا ن ليرقد في مهد صباه , في بشري ملهمته الأولى في الإبداع والخلود .
شخصيته : فطر جبران على الطموح , والشغف بالجمال , والوله بالتأمل والأحلام , وإذا هو ينشد العظمة يشتاق إليها , ويعطيها ولا يرتوي منها أو يكل , وصفا عنده الطبع , ورهفت المشاعر , وتجنح الخيال وعمقت مواهبه , وشعر بامتياز : فعمل جادا ً على تأكيده وإثباته . ويسعى لذلك في ممارسة الكتابة في اللغتين العربية والانكليزية والرسم وفي مجالات وطنية واجتماعية وإنسانية وفتنته بلاده العريقة الجميلة , فكان منها في مختلف معطياتها . فإذا هو يرق ويعذب ويسمو في الحب . فيرفض التعصب , ويثور على المفاهيم الرثة البالية ويرحب في مداه الإنساني . ويقبل على الدين بقلبه وروحه , ليكون معه في المنطلق الأرحب , فيتجاوز اختلاف أشكاله وأغراض دعاته والمتنفعين به ويزيده ذلك إيمانا ً بالحقيقة , وشوقا ً إلى اكتشافها ويمضي إليها يتامل ويحب ويتصوف . وما هو يهون في ذلك أو يتذمر . ويحس ببعد عن الآخرين وغربة فلا ينتهي إلى عزلة قاتمة أو يغيب في شرود , بل يزداد حبا ً لأرضه وبلاده وللإنسان في كل مكان . ويكبر في شوقه وعطائه وخياله فيرى في نفسه الرسول أو النبي ويصدق شعوره برسوليته , ويظهر ذلك في بعض أحاديثه ويكون مع معلمية جديدة . وتتراءى له الحقيقة أكثر ويسطع بريقها . ويولد عنده الهوى الصوفي ويبشر وكأنه الآتي الجديد . وتظل له حيال ذلك اهتماماته البشرية , وتضرب جذوره في أعماق الأرض , وتتمايل غصونه في أجواء السماء , ويصوغ من بشريته ومثاليته شخصية منطلقة متسامية بارزة .
آثاره : ظل جبران ينهل ويجني , وتفتحت البراعم تطيب تعد ومضى يكتب ويرسم وينشر الأماني ويفتق الأحلام , ويبدع الصور والتأملات , وما يمل من جني أو يمتنع عن عطاء , ويسلسل على مدى العمر رسومه وكتبه , يسجد فيها من طبيعتنا , ويعب من تراثنا ويغني بحياة مجتمعه وعصره ... وينثر خواطره وتأملاته ونظراته , ومعالم فلسفته . وتستوي له الآثار الكتابية التالية :
الموسيقى : يقدم فيه الكاتب معارفه الموسيقية وخواطره نحو الموسيقى . فيشوق في تذوقه ويسطع في حيوية .
عرائس المروج : يذهب فيه جبران بعيدا ً في تمجيد الحب وتقديسه , ويرفض موت العاشقين وهم ما جنوا بعد وصالا ً . وينطلق مع صدق الإيمان , فيخزي كل دجل باسم الدين متناقض مع روحه .
الأرواح المتمردة : هو ثورة على التقاليد الجامدة حيث يذبح الصبا الجميل على مذبح الجاه والمال . وينتصر فيه الحب على كل ما يصادفه في طريقه .
الأجنحة المتكسرة : هو صرخة الطبيعة المحبة ورفضها لكل ما يشوه هيكل الحب من مصطنعات طقسية أو مظاهره جاهية باطلة .
دمعة وابتسامة : هو تدفق في الصوفية والروحانية , وابتعاد عن عاديات الأمور وانطلاق صاف في مجال الإيمان .
المواكب :هو حوار ينطلق فيه صوتان صوت المدينة وصوت الغاب ويميل الشاعر إلى الغاب فيبرز اتجاهه الرومانسي .
بدائع وطرائف : مجموعة مقالات , وفيه يظهر ميل جبران إلى طبيعة الحياة ثم إلى الوحدانية الكونية , أو التقدم في مجال الصوفية .
مناجاة أرواح : هو تأملات وجدانية عميقة ومعطيات روحية شفافة .
العواصف : يخصب جبران في كتابه (( العواصف )) , في هدمه وتمرده ويعطي من رغبات حارة في تغيير مجتمعه وتجديده وإذا هو نقم وحمم على التخلف والجمود والشعوذة , وينشد لمجتمعه القوة لتكون عاملا ً أساسيا ً في خلاصه وتحرره وتقدمه . وما يغيب جبران في العواصف عن التأمل المتألق الكاشف أو الصوفية المتنورة المستجلية .
المجنون : هو يصور موقف الإنسان الصادق العارف من العالم وإذا الرفض متبادل بينهما , ويتهم العالم رافضة بالعته والجنون .
السابق : يعبر فيه جبران عن فهمه لحركة الحياة ولما تعنيه من مراحل متطورة , ينسخ بعضها بعضا ً .
النبي : وهو وقفة جبران الهادفة ليبلغ كلمته , ويقدم صورته , ويحكي الحياة كتابة ورسما ً .
رمل وزيد : يضمنه الكاتب خواطره وآراءه وهو تتمة لما تقدم في كتاب (( النبي )) .
عيسى : ينظر فيه جبران نظرة جديدة إلى المسيح فانه لا يعطي من ضعف أو يلين في مسكنه , كما اعتادوا وصفه , ولكنه يقوى ويتمرد ويتحدى حتى وهو على الصليب .
حديقة النبي وموت النبي : وهما كتابان ما أتم جبران تأليفهما وليكونا متابعة لموقفه من الحياة والوجود .
16 ـ مارون عبود
1886 - 1962
حياة عبود وشخصيته : في عين كفاح إحدى قرى منطقة قضاء جبيل ولد مارون عبود عام 1886 ونشأ في أسرة إيمان وكفاف عيش . ودخل في الصبا مدرسة قريته البسيطة المتواضعة . أو ( تحت السنديانة ) فجنى فيها معارفه الأولى ... وانتقل بعد ذلك إلى دير ماريوحنا مارون في كفر . وكان لقاء بين المطران دبس مؤسس معهد الحكمة ومارون عبود . ويخير الفتى مارون عبود بين أن يتكرس للدين وحده , وتم يحيا الحياة حرا ً كما يشاء .... ويمضي سنتين في معهد الحكمة ويختار طريق حرية العيش والحياة . فيكون للتعليم والقلم وليس لشيء آخر . ومارس مارون عبود التعليم في كلية القديس يوسف . ثم في مدرسة الفرير في جبيل . وعمل في الزراعة ... وعاد بعد ذلك إلى التدريس في الجامعة الوطنية في عالية . وشارك في تأسيس كلية عالية الجديدة وعمل لها مديرا ً وقد وافته المنية عام 1962 .
وقويت شخصية عبود وبرزت فمال إلى رتابة . ولا غاص في حقد أو حسد . وما اندفع في تعصب شخصي أو ديني . وعمق في إنسانيته فما رغب عن المعرفة في أي مجال . ورحبت عنده آفاق الحياة والعطاء فإذا هو يسرق في حبه وسماحه . وما جمد في مسيرة عمره أو قعد , فظل يفيض دعابا ً ومرحا ً . وما كان يلين مع الظلم إنما هو يقسو ويشتد في الحق . وما ضعف في ذوق أو مزاج . بل بقي العمر يعمق فيهما ويخصب . ولم يستقل بالعيش لطائفة أو دين . فقد عاش مارون عبود لوطنه وأدبه . وللإنسان ولله , وضد التعصب الديني والطائفي والعنصري , والتزمت الأدبي وإذا هو العطاء السمح . والمتطلع المتقدم . في أدبه وحياته .
أدبه وآثاره : اجب مارون عبود الحياة رحيبة منشرحة . وكتب ليكون أدبه صورة عن الحياة فلا هو يتجه اتجاها لا يبرحه .. أو يدرج في مجال يتخصص له . وتتنوع اتجاهات عبود الأدبية ومجالاته . وتتفاوت في ذلك معطياته فيكتب في القصة والمسرحية . وفي الدراسية والأدبية , والنقد الأدبي والتربية والتعليم وفي الإصلاح على اختلاف أنواعه ويحاول جادا ً أن يكون له ما يريد , وان يكون جاحظ عصره فيعطي في كل سبيل . وما كان له ما أراد . وقد تقدم في النقد الأدبي . فتصدر ذلك مختلف نتاجاته الأدبية وكثرت مؤلفاته . فكان له في القصة : طنوس معلم القرية . وبطرس العطار . وحنا الناطور وأقزام وجبابرة ووجوه وحكايات , وأحاديث القرية , والأمير الأحمر , وفارس أغا وغيرها .
وفي المسرحية : الأخرس المتكلم , كريستوف كولومبوس , مجنون ليلى , والعجول , ومغاور الجنة وغيرها .
وفي النقد الأدبي : على المحل , ومجددون ومجترون , ودمقس وأرجوان , وجدد وقدماء , وفي المختبر , وعلى الطائر , وغيره .
وفي الدراسة الأدبية : زوبعة الدهور , صقر لبنان , وأدب العرب , ورواد النهضة الحديثة , وأمين الريحاني , والرؤوس , وغيره .
وقد ألف مارون عبود كتبا ً عديدة في مواضيع سياسية وتاريخية واجتماعية مثل سبل ومناهج , وأشباح ورموز , وشارك في الترجمة فترجم عدة قصص مثل رينه وآتالا , والحمل , وضربة العود , وتميز كاتبنا في أدبه فكان له اتجاهه وأسلوبه الذوقي , ومذهبه النقدي الساخر , وريادته الريفية وانطلاقه الوطني الإنساني .
كتاب وجوه وحكايات
( وجوه وحكايات ) كتاب أقاصيص ونماذج وصور من صميم الحياة الريفية اللبنانية , يعرض فيها مارون عبود لمفاهيم دينية ومعتقدات واوضاع اجتماعية وأحداث مؤثرة . ويسلسل ذلك في ستة عشر موضوعا ً فمن معلم , وجبور بك , ومعاز الضيعة والناس , ودايم دايم إلى أم مخول , وصلاة غائب إلى وجه مقيت فمهاجرة إلى نفخ نفخ ...
وتحكي القرية اللبنانية خلال ذلك فصول قصها المتنوعة والمتعددة . وتتضح فيها الدروس والعبر وإذا هي تتكون من ضنك وتعاسة المعلم , فمأساة الجاه عند جبور بك , إلى نكد المعاز . فعبادة الناس للناس , فعقدة الكنة عند الحماة , أم لطوف , إلى سذاجة الرؤية وسهولة التصديق في دايم دايم . إلى حكم وعبر ميلادية في ( وجه غريب ) و ( وجه مقت ) وام مخول , فعواقب الهجرة الأليمة في مهاجرة . وتدفق مواضيع ( وجوه وحكايات ) بالحيوية والغيرة الطيبة . وهي تقوى بالتأثير .

17 ـ قاسم أمين
1863 – 1908
عصره وبيئته : انه عصر النهضة حيث تفد تيارات ثقافية غربية إلى المنطقة العربية , وتواكبها موجات استعمارية , ويلتقي كل ذلك بحركات عربية انبعاثية . ثقافية واجتماعية ووطنية . وينبثق تفاعل وصراع ويشد المحتل العثماني قبضته على مصير البلاد العربية , وترغب هذه أكثر في التحرر والنهوض فإذا هي تتململ في عدد من أقطارها , وتعمل على التبديل في الحياة وتغيير نظام الحكم في مصر . ويحدث مثل ذلك في بعض أقطار عربية أخرى , وتنتشر مدارس وصحف ثم معاهد عليا في كلمن مصر ولبنان وسوريا وغيرها وتتقدم حركة النهضة العربي , تقودها طلائع في شتى مجالات الفكر والاجتماع , وإذا بيئة قاسم أمين المصرية والعربية , في حال تحول ويقظة وتطلع إلى صراع طويل في مختلف سبل الحياة لبناء المجتمع الأفضل .
حياته وثقافته : في طره , إحدى ضواحي القاهرة , ولد 5قاسم أمين لأب من أصل تركي وأم مصرية عام 1863 , وقد كان والده في الجيش المصري وتلقى الوليد تعليمه الابتدائي في الإسكندرية , حيث كان والده موظفا ً ثم دخل مدرسة الحقوق والإدارة , فنال شهادتها عام 1881 , وذهب بعد ذلك في بعثة حكومية إلى فرنسا , ليكمل دراسته الحقوقية . وقضى في فرنسا مدة أربع سنوات , وما كان يكتفي فيها بتحصيله الجامعي , فقد الم بغير قليل من التيارات الفكرية العصرية . كفلسفة نيتشه , ومذهب داروين في النشوء والارتقاء , وفكر كارل ماركس . وعاد قاسم أمين إلى مصر سنة 1885 . فعمل في القضاء وما استوعبت الوظيفة كل نشاطه . فراح يشارك في ندوات وحركات واجتماعات ويلتقي فيها مع عدد من كبار المفكرين المصريين , أمثال : الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وعلي يوسف وغيرهم .
وتزوج قاسم أمين من فتاة مصرية وأنجب ابنتين , وكافح كفاحا ً صادقا ً ومريرا ً من اجل حرية المرأة , وكان من الداعين البارزين إلى إنشاء الجامعة المصرية , وفي مساء 23 نيسان من سنة 1908 لفظ قاسم أمين آخر أنفاسه فقد مات بالسكتة القلبية .
شخصيته :يقوى قاسم أمين في شخصيته ويغنى بمزاياه , فمن جرأة في الرأي إلى طليعة في الهدف إلى إنصاف المظلوم .... وتبرز عنده طبيعة القاضي العادل والمثقف المتقدم فيقدر على تجاوز القوانين الجامدة المقيدة منطلقا ً إلى الأفكار الرائدة القويمة . وإذا هو أقوى من واقعه ومجتمعه , ويضع الأسس لما هو اسلم وأفضل ويدل ذلك على نفس كبيرة وخلق وطني وأصالة اجتماعية وإنسانية , ونزعة ريادية كريمة , وروح علمية وموضوعية .
أعماله : ما ركن قاسم لرتابة وظيفة جامدة مقيدة آسرة , فقد شارك في إنشاء الجمعيات وساهم في إدارتها وناضل من اجل حرية المرأة كاتبا ً ومحاضرا ً وداعيا ً . وكانت له نشاطاته الكتابية , الصحافية , والتوجيهية . وكانت له مساهمته الفعالة في إنشاء الجامعة المصرية . وقد حاول التجديد في الحقل اللغوي , أو المعاصرة في الكتابة العربية .
آثاره : لقاسم أمين ثلاثة مؤلفات هي : تحرير المرأة – والمرأة الجديدة – والرد على الدوق داركور – وعدة مقالات صحفية . ويشكل نتاجه هذا سجلا ً لدعوته الإصلاحية الاجتماعية والوطنية . ولدفاعه عما يؤمن بصوابيته من قيم تراثه ومجتمعه وعصره . وهو يدل بذلك على أصالة موقفه من حاضر بلاده ومستقبلها وتحررها وانطلاقها .
كتاب ( تحرير المرأة )
لقد عالج قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة المواضيع التالية : تربية المرأة – وحجاب النساء والمرأة والأمة – والعائلة – والطلاق -.. وغيرها . وأعطى في ذلك شتى أرائه ومواقفه من المرأة في بلاده , وقد دعا إلى تربية المرأة وتعليمها , وانتشالها من أعماق الجمود والجهالة لتكون المربية والمدبرة , والزوجة الفاضلة , والشريكة القادرة , مبينا ً ما لتربيتها وتعليمها اثر في سلوكها وفي تربية وتنشئة أولادها , ومشاركتها الحياة الزوجية . وما كان للكاتب أن يقوى في الدعوى إلى تربيتها وتعليمها , ما لم يخلصها من قيود الحجاب المانعة الآسرة . وإذا هو يعالج مسالة الحجاب معالجة متروية حكيمة . فمعتدلة وهو لا يسارع إلى تمزيقه , كما نادى بذلك بعض شعراء عصره كالزهاوي . ولكنه حاول أن يعطيه الدور الذي لا يتناقض مع الحياة الكريمة المنتجة , ويبقيه في الحيز الذي لا يغضب الدين في جوهره . ويتيح للمرأة ممارسة حقوقها الاجتماعية والوطنية والإنسانية . وكان للكاتب أن يتعمق في درس مكانة المرأة وأثرها في بناء الأمة وحياتها , وإذا به يرجع كثيرا ً من أسباب ضعف الأمم وانحطاطها إلى ضعف المرأة وتخلفها وجمودها , كما انه يرى في تقدم المرأة وتحررها , سببا ً في تقدم كثير من الشعوب . ثم هو يخوض في موضوع العائلة , ويحلل مفهوم الزواج وما يعنيه من شروط . ويصل في ذلك إلى مستوى رائع في الرؤية والتفكير , ويدرس أحوال الطلاق , ويحارب ما فيه من التهور والظلم والابتعاد عن كرامة الإنسان . وهو يرفض الإقدام عليه ما دامت الحياة الزوجية مستطاعة بدونه . وقاسم أمين في كتابه تحرير المرأة يعطي من ثقافته وخبرته وواقعيته . وهو يمثل فيه عمق أصلاحيته وصدق وطنيته وإنسانيته. وانه يقدم في الكتاب دعوته . هذه التي أثارت وفعلت . ويقوى اثر الكتاب وتأثيره . فإذا هو ريح صرصر عاتية على المحافظين الجامدين الخاملين , وبوارق أمل وشروق للمجددين المتقدمين . ويكون له الأثر الحدث في اجتماعية عصر النهضة الحديثة وتقدميتها .
مختارات من كتاب تحرير المرأة
المرأة والأمة
المرأة ميزان العائلة فان كانت منحطة احتقرها زوجها وأهلها وأولادها وعاشوا جميعا منحلين لا يرتبط بعضهم ببعض . ولا يعرفون نظاما ً ولا ترتيبا ً في معيشتهم فتفسد آدابهم وعوائدهم . وان كانت على جانب من العقل والأدب هذبت جميع العائلة واحترمها أفرادها , واحترموا أنفسهم , وعاش الجميع في نظام تام تحت لواء محبتها متضامنين أقوياء باتحادهم . وهذه الصفات التي تشاهد في العائلة هي الصفات التي تشاهد في الأمة , إذ كل منا يسلك في أمته مسلكه في عائلته . ومن المحال أن يكون للإنسان من الصفات والأخلاق في أمته ما ليس له نموذج في منزله , وان يعامل مواطنيه بأخلاق غير التي يعامل بها أفراد عائلته . وان كان حسن الأخلاق في عائلته كان كذلك في أمته , وان كان سيء الخلق في عائلته ساءت أخلاقه في أمته أيضا , ومن هذا يتبين مقدار عمل المرأة في تقدم الأمم وتأخرها , وبالجملة فان ارتقاء الأمم يحتاج إلى عوامل مختلفة متنوعة من أهمها ارتقاء المرأة . وانحطاط الأمم ينشأ من عوامل مختلفة متنوعة أيضا من أهمها انحطاط المرأة .


18 ـ يعقوب صروف 1852 – 1927
حياته :
ولد يعقوب صروف في الحدث في لبنان سنة 1852 ودخل في الطفولة مدرسة قريته . ويؤسس المرسلون الأميركيون معهد عبية في جبل لبنان , فيدخله صروف وهو ما زال فتى طريرا ً . ويتعلم بعد ذلك في المدرسة الكلية السورية ( الجامعة الأمريكية ) اليوم , ويلتقي فيها بأساتذة كبار أمثال الشيخ ناصيف اليازجي , والشيخ يوسف الأسير , والدكتور فانديك ويتخرج صروف من المدرسة الكلية السورية في سنة 1870 حاملا ً رتبة بكالوريوس علوم , وعمل في التعليم فعلم ثلاث سنوات في مدارس صيدا وطرابلس , وعاد بعدها إلى الكلية السورية كمعلم لمادتي العلوم الطبيعية والفيزياء . وقد درس إلى جانب اللغة العربية وبيانها , وتعرف خلال التدريس إلى فارس نمر , واتفقا على إصدار مجلة ثقافية علمية هي المقتطف , وصدر العدد الأول منها سنة 1876 . وواصلا العمل فيها مدة تسع سنوات . و في سنة 1885 نرح صروف نمر إلى مصر وواصلا إصدار المقتطف . وفي سنة 1888 انقطع صروف للمقتطف وحده ... واستمر في عطائه الفكري وكفاحه الاجتماعي والقومي . وكانت وفاته في القاهرة سنة 1927 .
وعاش يعقوب صروف مفكرا ً يعي قضية بلاده , فيعطيها نفسه وحياته , وتجتمع له في شخصيته مواهب الرائد وخصائصه . فإذا هو الصحفي المناضل , والمفكر المتقدم والعالم المؤمن بحق أمته في الحياة والتقدم . ووفى لمعتقده فما فرق بين بلد عربي وأخر , فتجاوز الحدود بين بلاده , وإذا هو يجمع بين أبنائها على حد سواء . ويكبر في شخصيته كبره في مطامحه وأهدافه .
وأعظم ما أعطاه يعقوب صروف هو مجلة المقتطف , فقد عمل في إصدارها مدة خمسين سنة . واجتمع له فيها سبعون مجلدا ً .
وقد عرب صروف كتاب ( سر النجاح ) لصموئيل جيكيلز الانجليزي , واشترك مع زميله فارس نمر في تعريب كتاب ( سير الأبطال القدماء والعظماء ) ووضع الروايات التالية : ( فتاة مصر – أمير لبنان – فتاة الفيوم . وألف في الكتب التالية : ( بسائط علم الفلك وصور السماء ) و ( العلم والعمران ) و ( أعلام المقتطف ) .
وأفاد صروف لغتنا العلمية باستحداثه كثيرا ً من الكلمات , وكان له أثره البارز في حركة النقل والتعريب , والتأسيس العلمي في بناء النهضة الحديثة .

المقتطف
1876 – 1927
اصدر يعقوب صروف وفارس نمر مجلة المقتطف لتكون صلة حية بين الغرب والشرق , ولتنقل وبصورة خاصة إلى العرب علوم الغربيين .... وشتى معطياتهم الحضارية . وقد عملت في الوقت نفسه على بعث التراث العربي بكبار أعلامه وأنفس مبتكراته . وكانت مع النشاط الغربي في حقول الصناعة والزراعة ومختلف الاكتشافات الحديثة . وتعرض ذلك بطريقة بارعة وجذابة للقراء العرب . وتستوي كموسوعة تستمر في العطاء فلا تكف أو تجمد . ويتسع صدرها لثمرات اقلام الكتاب الغربيين والعرب , ويقدم صروف بنفسه كثيرا ً من ترجماتها ( وسير أعلامها ) فتكون أداته ومجاله في حركة النهضة العربية الحديثة . وكان للمقتطف أن تتنوع فلا تقتصر على علم دون علم أو على فن دون آخر . ويغلب عليها الطابع العلمي انسجاما ً مع أهداف صروف , وغاياته في توجه النهضة العربية توجيها ً علميا ً . وواصلت المقتطف العطاء ثابتة على عهدها كجامعة متنقلة . تحفر طريقها كطليعة في بناء المجتمع العربي الأفضل , على أسس علمية وبأبعاد عصرية وروح قومية إنسانية . متجاوزة في ذلك كل أشكال التفرقة والانحطاط والتبعية الضعيفة العمياء , وغير منقطعة عن التراث أو مغرقة كل الاغراق في الاقتباس أو التعريب . وظل صروف يرفدها بمعطياتها حتى وفاته 1927 .
مختارات من المقتطف
1- الأوهام وتولدها ونموها
اخبرنا صديق صادق رفيع المقام انه يعرف رجلا ً إذا سألته أن يحضر لك نوعا ً من الفاكهة تفاحا ً أو موزا ً أو برتقالا ً , مد يديه في الهواء وأعادهما مملوءتين بالفاكهة التي طلبتها . وقال : انه رآه يفعل ذلك عيانا ً . وطلب منه مرة أن يأتيه بخمسين جنيها ً , فمد يديه في الهواء وأعادهما مملوءتين بالذهب , ولا شبهة في انه يقص علينا ما يعتقد صحته , ولكن هو صحيح لذاته . نحن اتجاه هذا الخبر بين أمرين , أما أن نصدق بان بعض الناس يستطيعون أن يقطفوا الثمار من الهواء , وان يستخرجوا منه الذهب المسكوك , وأما أن نسلم بان بعض الناس يتوهم انه رأى ما لا حقيقة له .
أما الأمر الأول فينفيه اختبار البشر في كل العصور وكل البلدان , ولو وجد إنسان واحد يستطيع أن يستخرج الذهب من الهواء , لصار أغنى من قارون , وتعلم الناس منه هذه الصناعة فصار الذهب ارخص من الماء . ولو أمكن قطف الأثمار من الهواء لأبطل الناس زراعة الجنائن والبساتين , وعاشوا بلا تعب ولا نصب , وأما الأمر الثاني أو الفرض الثاني وهو أن يتوهم الإنسان انه رأى ما لا حقيقة له , فكثير الوقوع . وما من احد إلا ويرى كل يوم في أحلامه أمورا ً كثيرة لا حقيقة لها , وكثيرا ً ما يتخيلها وهو صاح . ومن ذلك الخيالات والتخيلات والهواجس على أنواعها . وإذا ضعفت قوة الحكم فيه حينئذ ولو قليلا ً , كما تضعف وقت التعب العقلي , والنعاس والسكر , والبحران , حسب أن ما يتخيل له حقيقي . ويصيبه مثل ذلك في حالة الاستهواء سواء استهواه غيره أو استهوى هو نفسه .
19 ـ محمد كرد علي
1876 – 1953 م
عاصر العهد العثماني وعهد الحكم العربي وعهد الانتداب الفرنسي وعهد الاستقلال . وشهد الحربين العالميتين الأولى والثانية .
الحالة السياسية في العهد العثماني وعهد الانتداب الفرنسي :
العهد العثماني : يعد عهد عبد الحميد عهد كبت حريات , ثم جاء الاتحاديون فيما بعد وخيبوا الآمال بسياستهم الخرقاء ولا سيما عزمهم على تتريك الأمم الخاضعة للأتراك . نادى زعماء العرب ومفكروهم بالإصلاح في ظل العهد العثماني , ثم دعوا إلى اللامركزية , ثم طالبوا بالاستقلال وأعلنت الثورة العربية الكبرى 1916 , وتمادى الأتراك ولا سيما الاتحاديون في مقاومة الحركات التحررية والإصلاحية وكانت المجازر وعهد الإرهاب وكان شهداء أيار 1916 .
الحالة الاجتماعية في العهد العثماني وعهد الانتداب الفرنسي :
فقر مرض جهل رشوة محاباة إقطاع استغلال والمرأة في حالة من الجهل والتأخر , والأعوان المنافقون .
الحالة الفكرية والأدبية في عهد الحكم العثماني والانتداب الفرنسي :
في لبنان ومصر بدأت تظهر بوادر نهضة فكرية , وأدبية , أما في بقية الأقطار العربية فكان الجمود والتأخر والتخلف الفكري ....
وفي سورية افتتحت بعض المدارس في عهد الوالي مدحت باشا , وظهر بعض العلماء والمفكرين , منهم من كان مقلدا ً بطريقة عصور الانحدار في الكتابة . ومنهم من استطاع أن يفلت من هذه القيود . وعلى كل هب الأدباء والمفكرين في هذه الحقبة ليوقظوا هاجع القوم الرقود من أبناء العروبة .
الرجل على عتبة الآخرة
نجد أن صفات محمد كرد علي كما وصف نفسه هو تتلخص بما يلي :
رجل نظامي , متفائل , محب للجمال وللطبيعة الضاحكة يحب الصداقة والأصدقاء طيب النفس محب للسلام , مبغض للحروب , صريح , جريء حين يأمن العاقبة , يكره التعصب والعصبية , والجهل والأمية .
من المهد إلى اللحد
ولد في قرية جسرين 1876 من أب كردي وأم شركسية وقد تزوج منذ الصغر , أحب لقب إلى نفسه , لقب ( الأستاذ الرئيس ) .
منابع ثقافته :
تلقى الدراسة الابتدائية في مدرسة ( كافل سيباي ) الابتدائية ثم درس في المكتب الرشدي العسكري , فدرس مبادئ اللغة التركية والفرنسية وبرع فيهما , ثم تلقى العلوم العليا من سكانها ومن كبار العلماء آنذاك أمثال الشيخ طاهر الجزائري والشيخ محمد مبارك , والشيخ سليم البخاري , واهتم بدراسة اللغة الفرنسية والآداب الغربية والعلوم الإسلامية .
بين الوظيفة والصحافة والتأليف :
اخذ ينتقل منذ تخرجه من المدرسة الرشدية بين الوظائف والصحافة والتأليف ومن أهم الوظائف التي شغلها بادئ الأمر عين موظفا ً في قلم الأمور الأجنبية , ثم عين رئيسا ً لديوان المعارف , أما أهم الصحف التي كتب فيها والتي كان أما محررا ً أو رئيسا ً لتحريرها أو صاحبا ً لها :
المقتطف , بيروت الأسبوعية , لسان الحال , المقتبس , الظاهر , المؤيد .
ومنذ الحكم العربي 1918 وبعد أن عين رئيسا ً لديوان المعارف , عين رئيسا ً للمجمع العلمي العربي , ثم عضوا ً في مجمع اللغة العربية في القاهرة , وعين وزيرا ً للمعارف , ثم قضى بقية عمره رئيسا ً للمجمع العلمي العربي ,
رحلاته
كان محمد كرد علي مشفوفا ً بالرحلة في طلب العلم , يستفيد من كل فرصة ممكنة ليرحل إلى البلاد العربية أو الأجنبية ليتلقى العلوم والمعارف من سكانها , وليطلع على المخطوطات من مصادرها , وليحقق ويناقش ويحاضر ,
1- فقد رحل إلى مصر عام 1901 اشتغل في الصحافة , ولقي أكابر علماء مصر واخذ عنهم واجتمع بصفوة أدبائهم , وتلقى عنهم الكثير ومن أهم هؤلاء : محمد المويلحي , قاسم أمين , يعقوب صروف , حافظ إبراهيم , خليل مطران , وفي مقدمتهم : الشيخ محمد عبده .
2- ثم رحل إلى مصر أيضا 1905 واشتغل في الصحافة هناك واخذ يترجم ويكتب المقالات وينشرها .
3- ثم رحل إلى أوروبة 1909 وزار فرنسا ونشأت عنده هناك فكرة المجتمع العلمي العربي – وكتب خمسا ً وثلاثين مقالة . (( غرائب الغرب )) .
4- وفي سنة 1913 رحل إلى ايطاليا للبحث عن مخطوطات تاريخية عند أمير ايطالي .
5- وفي سنة 1914 أرسله جمال باشا مع البعثة العلمية المؤلفة من علماء الشام إلى الآستانة فجناق القلعة والغاية دعاية للأتراك أثناء الحرب وإظهار قوتهم العسكرية , واضطر محمد كرد علي مرغما ً لقبول هذه المهمة .
6- وفي سنة 1914 سافر إلى الديار الحجازية مع أنور باشا , مكرها ً , وألف أيضا عنها كتابا من كتب الدعاية السمجة كما يقول .
7- وقصد الآستانة 1918 للتجارة أو ليكون بعيدا ً عن جو الحرب في دمشق ودخول القوات العربية وليرقب ماذا سيحدث عن بعد .
8- وحين تولى وزارة المعارف 1920 سافر ببعثة علمية إلى أوروبة وللتخصص في جامعات فرنسا .
9- وحضر حفل تكريم احمد شوقي 1927 في القاهرة مندوبا ً عن المجمع العلمي العربي وعن الحكومة السورية , وقابل الملك فؤاد الأول .
10- وحضر مؤتمر المستشرقين السابع عشر بمدينة أكسفورد مندوبا ً عن الدولة والمجمع العلمي العربي وهناك ناقش المستشرقين في قضايا كثيرة .
11 – ومنذ 1932 في كل طريق يسافر إلى مصر لحضور اجتماعات مجمع اللغة العربية في القاهرة إلى أن منعه الأطباء سنة 1948 .
الأثر
يعتبر من المؤلفين العظام , ترجم وألف وحقق .
واهم كتبه المترجمة : قبعة اليهودي ) ليفمان , ( الفضيلة والرذيلة ) , ( المجرم البريء ) , ( تاريخ الحضارة ) , ( الأسماء التركية ) , ( حرية الوجدان ) .
وكتبه المؤلفة : البعثة العلمية , الرحلة الانورية , غرائب الغرب , خطط الشام , القديم والحديث , أقوالنا وأفعالنا , الإسلام والحضارة العربية , أمراء لبنان , غوطة دمشق , كنوز الأجداد , المذكرات , ومعظم كتبه كانت مقالات في صحف ومجلات ثم جمعها في كتب .
وكتبه المحققة : رسائل البلغاء , أسيرة احمد بن طولون , المسجاد في فعلات الاجواد , تاريخ حكماء الإسلام , الاشربة البيزرة .
جوانب شخصية
1- الجانب الذاتي : لقد أثرت عليه عوامل الوراثة فنشأ قوي الذاكرة ذكيا ً نشيطا ً , فأبوه كردي وأمه شركسية , وكان جيد المحاكمة أيضا وقوي البنية ورقيق الطبع .. عصبي المزاج مغرم بالموسيقا محبا للطرب . عاشقا للطبيعة والسياحة . بدأ يميل إلى الشعر والموسيقا , ثم حولت ميوله . وكان يحب مجالس النساء , وجمع الكتب وقراءتها ومجالسة العلماء والأدباء ومناقشتهم , يعيش من مزرعة لهم في جسرين وكان شغوفا ً جدا ً بالمطالعة والعلم . ولغته الفرنسية والتركية جيدة إلى جانب اللغة العربية .
2- الجانب الاجتماعي : دعا إلى الإصلاح الاجتماعي , وسخر قلمه لذلك فنقد الإقطاع وتسلطه , وشيوع الجهل وانتشار الفساد في دواوين الحكومة , ودعا إلى الاقتباس من الغرب ما ينفع الأمة ويلاءم شخصيتها , وكان رحيما ً بالفلاح عطوفا ً على العمال وطالب بنشر العلم وفتح المدارس ولا سيما في القرى . حيث بالعلم يستطيع العرب أن يقضوا على الجهل والتخلف ويلحقوا بالأمم الغربية التي سبقتهم كثيرا ً في مضمار التقدم والازدهار . وكان يشفع قوله بالعمل . حين تعهد إليه مسؤولية أو وزارة , ودعا إلى تحرير المرأة , وكان من أنصار المجالس المشتركة , يريد من المرأة أن تكون سيدة منزله أولا , وإلا تسند إليها من الوظائف إلا ما يتوافق مع شخصيتها ونفسيتها كمعلمة أو ممرضة أو طبيبة .
وطالب في مقالاته أيضا بإسناد الوظائف والأمور إلى أهلها وان يكون الموظف نريها ً شريفا ً , حيث كان هو كذلك في أثناء تسلمه الوظائف .
3- الجانب السياسي :
1- كان يدعو إلى الإصلاح في ظل الحكم العثماني , وكان صريحا ً لبقا ً يبغض الأتراك , وقد يضطر أحيانا لمسايرتهم على الرغم منه خوفا ً من الموت والإعدام كما فعل مع جمال باشا السفاح حين طلب منه أن يرافق البعثة العلمية , وان يكتب مقالات يمجد فيها قوة الأتراك واستعداداتهم الحربية ... وكان يبتعد ويهاجر من البلاد الخاضعة للأتراك إلى مصر أو أوروبة ليتنفس نسيما ً آخر , وذلك حين تمكنه الفرص ... ولكن الحنين إلى الوطن ينازعه فيعود .
2- أما موقفه من الحكومة العربية الأولى : تعاون مع السلطة بحماس , استلم رئاسة ديوان المعارف , ثم تنحى عن هذا المنصب وانصرف لتأسيس المجمع العلمي .
3- وموقفه من الفرنسيين أثناء فترة الانتداب على سورية :
فقد تولى وزارة المعارف في هذه الفترة مرتين كان يستقيل في كل منهما لصراحته وجرأته وإخلاصه في العمل , وكان معجبا ً بالحضارة الفرنسية , ناقما ً على الاستعمار الفرنسي , على الانتداب الفرنسي وما فيه من قوة وظلم وطغيان . وكان صريحا ً في مهاجمته للفرنسيين جريئا ً في ذلك . وهو يعرف تمام ً أن سياستهم تقوم على أساس ( فرق تسد ) وهاجمهم بشدة أثناء عدوانهم الظالم على سورية .
موقفه من الحكومة والسياسيين : لم يكن محمد كرد علي على وفاق مع معظم رجال الحكم الذين تولوا السلطة زمن الانتداب الفرنسي , وكان حربا ً على السلطة لا يكاد لأحد أن يسلم من لسانه , وكان ينتقد الحكام الذين يسايرون الانتداب ويعملون وفق مشيئته .
الجانب القومي : رغم انه يجاهر بأصله غير العربي ولكنه عربي في كل ما ألف وبحث وحقق , وكان يدعو إلى القومية العربية , وهو يرى أن في التجزئة معولا يهد كيان الأمة العربية , هاجم للشعوبيين اللذين يحقدون على العرب كما هاجم أولئك الخفافيش الذين اخذوا يدعون للعامية العربية أو لتغيير الحروف العربية , واستعمال الحروف اللاتينية .
وقد مجد التاريخ العربي , ودعا إلى تدريسه في المدارس تدريسا ً صحيحا ً .
5- الجانب الإنساني : كان يعطف على الفقراء ويأسى لحالهم ويعطف على أخيه الإنسان كائنا ً من كان , وهاجم الحرب وما تخلق من ويلات وما تترك من مآس على بني الإنسان .
6- الجانب التأملي : استطاع محمد كرد علي أن يستخلص الحكمة من تجاربه الكثيرة ونظراته الثاقبة , ومن حكمه : (( اضحك رجل يحاول أن يسير الزمان على هواه , ولا يسير هو بما يتطلب الزمان منه )) .
(( غلطة واحدة يرتكبها زعيم تقلب شعبا ً كبيرا ً رأسا ً على عقب )) .
(( نقد العدو أجدى من تقريظ الوالي )) .
7- الجانب الأدبي : محمد كرد علي أديب ومؤلف ومترجم , :
أ- نظرته إلى الأدب : كان يدعوا الأدباء ليكتبوا كلمة الحق تنبع من أعماقهم حارة متدفقة كالدماء تجري في العروق ويأخذ على المنافقين في كتاباتهم التي تأتي باردة .
يقول : ( فالكلام البارد قليل الفائدة , وحرام إتعاب القارئ بفك حروفه , وهذا النوع من الكلام شبيه بمن يأكل في منامه ) .
ويقول ( أنا من أنصار الكتابة الحارة لا الباردة ولا الفاترة , لاعتقادي بأنها تأتي بالفوائد ) .
ويرى محمد كرد علي أن الأدب هو فن مخاطبة الناس على اختلاف أقدارهم ومشاربهم . وله رأي في الشعر والفنون الأدبية الحديثة من مقالة وقصة ومسرحية , إنه نصير الشعر الأصيل الذي يحمل رواد الشعر العربي القديم وجزالته , حرب على الشعر الرمزي .
يقول في ذلك : تهوس احد المتمصرين منذ سنين , وهو دكتور في الآداب على ما يدعي . فنظم شعرا ً مجردا ً من القوافي والأوزان , ومن المعاني والخيال . سماه الشعر الرمزي , وما عتبي عليه للمناداة على شعره في سوق الكساد , فالمرء مفتون بشعره , ولكن العتب على بعض رجال الصحافة الذين يتولون نشر هذا الهذيان المؤذي للأذان المفسد للذوق , .)) وكان كاتب مقالة جيد شجع على كتابة المقالات ولكن دعا إلى الإيجاز , وأما القصة فإنها آخر ما استساغه من الفنون الأدبية , ويقول في ذلك (( واكبر داع لعدم عنايتي بالقصة اعتقادي أنها مختلفة ..)) .
ورأيه في المسرحية غير واضح وإن كان قد قرأ لموليير بعض مسرحياته ونجد آراءه في اللغة والنحو منسجمة مع مبدئه العام في الحفاظ على التراث القديم من العبث بحجة التسهيل , وقد عمل في المجمعين السوري والمصري طوال حياته جاهدا ً لإعلاء كلمة العربية .
ب- أسلوبه : هو حصيلة ثقافته وقراءاته الكثيرة , وقد قرأ محمد كرد علي الكثير من الكتب باللغات العربية والتركية والفرنسية , وتكون له من كل ذلك أسلوب خاص لا يشركه فيه احد وقرأ القران الكريم بتدبر وقرا الكثير من الكتب الدينية , والأدبية لكبار الكتاب العرب . وخرج من كل ذلك باختيار الأسلوب البعيد عن التنميق والتصنع , وفي مقالاته وحين يؤرخ لا نلحظ في عباراته صنعة لفظية أو صورة ذهنية فهو معني بالفكرة أكثر من عنايته باللفظ , أما في الموضوعات التي تمس المشاعر فانه يتخير اللفظ ويزاوج ويصور بحس الأديب المرهف دون أن يخرج إلى الصنعة الممقوتة , ويغلب على محاضراته ومقالاته طابع الاستقصاء , وابرز ما يميز أسلوبه الصدق في التعبير فهو يكتب ما يحس به وقد جعله النقاد بين مشهوري أدباء الشرق .
ولكن له بعض الهنات كقوله : صادق عليه بمعنى صدقه واستعماله مصدر إملاء مكان المصدر ملء .





20 ـ يعقوب صروف
النص ( الكهربائية والمغطيسية )
التلغراف والتلفون والنور الكهربائي والترام الكهربائي أربعة لم يكن لها وجود حينما حل هذا القرن , ولكتها لم يكن لها اثر في بلادنا منذ أربعين عاما ً , والثلاثة الأخيرة منها وجدت وشاعت في عهد المقتطف وذكرت فيه درجات ارتقائها من حين ظهورها إلى أن بلغت حد الكمال وإنا نكتب هذه السطور , والرسائل التلغرافية مطروحة حولنا . والنور الكهربائي ينير ظلمة ليلنا والتلفون صامت ومتهيئ للنطق بجانبنا , وجرس الترام الكهربائي يقرع في مسامعنا . والكهربائية والمغنطيسية التقتا على أن تزيلا الأبعاد وتنسخا صورة الظلام وتريحا الخيل والبغال من مشاق تحملاها ألوفا ً من الأعوام , ومن الغريب المدهش أن الحقائق الأصلية التي بني عليها التلغراف والتلفون والنور الكهربائي والترام الكهربائي كانت معروفة منذ مائة عام . كما كانت معروفة من أيام اليونان وعرفها العرب أيضا واستفادوا منها بعض الفائدة فإنهم عرفوا انه إذا فركت خرزة الكهرباء على ثوب وأدنيت منها قشة خفيفة جذبتها إليها من نفسها ... وانه إذا قرب المغنطيس من قطعة طويلة من الحديد جذبها إليه . وصيرها مغنطيسا ً وإذا كان المغنطيس طويلا ً وربط في وسطه بخيط وعلق به أو وضع على فلينة طافية على الماء اتجه من نفسه إلى الشمال والجنوب وإذا غير وضعه عاد إلى اتجاهه الأول هذه الحقائق الثلاث كانت معروفة عند أسلافنا العرب فذكروها في كتبهم واستعملوا الحقيقة الأخيرة منها في سلك البحار ولم يزيدوا ومر عليهم وعلى كل الشرقيين نحو ألف عام بعد ذلك ومعارفهم في الكهربائية والمغنطيسية لم تزد على ما تقدم ... يباهي عظماؤهم بالكهرباء ويندهش صناعهم من المغنطيس ويفاخر كتابهم بمجد السلف ولا همة تدفعهم إلى البحث ولا غاية ترغبهم في الاستقصاء . وهمهم وهم ملوكهم ملاذ الدنيا ... والتنكيل بالأعداء .
وبينما الشرق غارق في بحر القناعة , إن لم نقل في بحر الجهالة اخذ أهالي أوروبا يبحثون في الحقائق المتقدمة فاكتشفوا حقائق أخرى تتصل بها .. من ذلك أن الكهربائية التي تتولد بفرك الكهرباء تتولد أيضا بفرك مواد أخرى , كالكبريت والراتينج , وإنها تنتقل من مكان إلى آخر على بعض المواد .. ولا تنتقل إلى غيرها وتتولد أيضا .. إذا بل معدنان بسائل يفعل بأحدهما فعلا ً كيماويا ً وأكثر مما يفعل بالآخر بالاتفاق ولكن ربما وصلوا إلى بعض ذلك بالامتحان والى البعض الآخر بالاتفاق . ولكن الاتفاق لا ينتبه له إلا العقل المستنير المدرب على البحث العلمي وإلا فمن ينتبه لضفدع في صنارة بعد موتها بزمن طويل فتشجنت أعضاؤها أمر يرى أمثاله الناس كل يوم .. ولا يلتفتون إليه ولكن تشنج تلك الضفدع بعد موتها قاد علماء أوروبا إلى اكتشاف البطاريات والتي تتولد منها الكهربائية ولولاها ما وجد التلغراف والتلفون ولقد تناول أهالي أوروبا العلم من كتب اليونان والعرب والكهرباء قاصرة منها على جذب الهباء والقش وقصاصة الورقة . وكانوا في شغل شاغل عن العلم بالحروب الأهلية والمشاحنات الدينية فلما قيض لهم اكتشاف أميركا وطريق الهند وانشغلوا بالمتاجرة والمهاجرة عن المحاربة والمشاحنة والتفت علماؤهم إلى توسيع العلوم ونسخوا طريق التقليد والتسليم واعتمدوا على الاستقراء والامتحان فتقدمت المعارف في قرن واحد أكثر مما تقدمت في القرون السابقة وتلك القوة الكهربائية التي كانت تقتصر على جذب القشة الدقيقة . صارت تجر الآن مائة مركبة لا يقوى على جرها ألف حصان .
لكن الكهربائية لم تتقدم إلا ملتحمة بالمغنطيسية , ولا ندري هل خطر على بال احد من الأقدمين أن بين هاتين القوتين الغريبتين صلة ما ,, وهب انه خطر على بالهم , فليست العبرة بمتى يخطر بالبال ولا بما يدعى ويقال بل بما تبنى عليه الأحكام وتقرن به الأعمال ..
وسنة 1819 بحث الأستاذ ارستد , احد أساتذة كوبنهاغن عن ( عاصمة الدانمرك ) عن فعل الكهربائية بالمغنطيس . وكان قد شاع استعمال البطاريات الكهربائية فوضع سلكا ً معدنيا ً متصلا ً ببطارية كهربائية فوق إبرة مغنطيسية فانحرفت الإبرة حتى صار بينها وبين السلك زاوية قائمة . ووضع السلك تحت الإبرة فانحرفت إلى الجهة الأخرى , وكرر التجارب فثبت له أن الكهرباء تجعل السلك المعدني مغنطيسا ً وهي فيه فيصير يؤثر بالإبرة المغنطيسية تأثير المغناطيس بها . وهذا التأثير ثابت محدود يدل على جهة الكهربائية ومقدارها ونوعها ... وكان لاكتشاف ارستد هذا شأن كبير لدى العلماء مثل ( اراغو – و أمبير ودايفي ) ولا سيما أنهم كانوا بانتظار اكتشاف مثله فأثمر بين أيديهم وكان من أول ثماره ( الكلفتو متر ) أي مقياس الكهربائية .
ولم يمض إلا سنة واحدة على اكتشاف ارستد حتى اثبت العلامة الفرنسي أن السلك الذي تجري عليه الكهربائية يصير مغنطيسا ً .. وبعد خمس سنوات صنع سترجيون الانكليزي الحديد المغنطيسي اللين فصار الحديد يفعل فعل المغناطيس كلما جرى المجرى الكهربائي على السلك .. وتزول مغنطسته حالا ً كلما انقطع التيار الكهربائي .. وصنع ( ياج ) آلة صغيرة إذ لف سلكا ً معدنيا على قطعتين من الحديد اللين وأوصلهما بمغزلة بين قطبي المغناطيس كاللامين وجعل المجرى الكهربائي يتصل بالسلكين إذا كانت اللفتان واقفتين عاموديتين بين القطبين وذلك بوجود نتوئين على المغزل واتصالهما بلسانين فوق اللفتين ... فإذا جرى المجرى الكهربائي والآلة واقفة . صار الحديد الذي بين اللفتين مغنطيسا ً فاندفع باللفتين حتى يقف عاموديا ً على المغنطيس , فينقطع المجرى الكهربائي حينئذ لان النتوئين يفارقان اللسانين , ويستمر المغزل في دوراته بقوة , أي الاستمرار على الحركة فتعود الكهربائية وتتصل وتعود اللفتان , وتندفعان وهلم جرا , فتدوران نحو ألفي دورة في الدقيقة أي يكتسب الحديد المغنطيسية ويجرها أربعة آلاف مرة في الدقيقة ..
ووجدوا بعد قليل أن الكهربائية تتولد من المغنطيس كما يتولد المغنطيس من الكهربائية ... وصنعوا آلات تتولد منها الكهرباء بمجرد دوران المغنطيس فصارت القوة البخارية وكل حركة ميكانيكية تتحول إلى قوة كهربائية . وأخيرا ً , وجدوا أن هذه القوة الكهربائية تعود إلى قوة ميكانيكية فتجر المركبات وتدير الآلات المختلفة ولو كانت بعيدة عن مصدر الكهربائية أميالا ً كثيرة ... وعلى هذا النمط نتوقع أن تحول قوة انحدار المياه في شلالات النيل إلى كهربائية , تدار بها الآلات في أماكن مختلفة من هذا القطر ...
هذه هي الحقائق الجوهرية التي بني عليها التلغراف والتلفون والنور الكهربائي ونقل الكهربائية ... وفي ذلك من التفاصيل والمباحث الدقيقة ما يملأ مجلدا ً كبيرا ً ...
الدراسة :
ما كانت مناسبة مقالة الكهربائية ظرفا ً خاصا ً أو حادثة معينة إنما هي ظروف العصر والبيئة ورغبة وطنية صادقة في بناء نهضة حديثة وإيمان عميق في أهمية العلم في التقدم والتطور وتؤلف كل هذه الأسباب مجتمعة مناسبة لكتابة يعقوب صروف لمقالته العلمية ( الكهربائية ) وإذا هي انفتاح على ابرز أعمدة الحضارة الأوروبية , ألا وهي الكهرباء ...
فن النص ونوعه :
ما أراد الكاتب أن يسهب في النص ولكنه يقرر وقائع ويحرك هما ً تجمد ... ويضرب في أسس بالية تستمر وإذا هو يعطي من عقله ومشاعره من عمله وريادته ويعلنه موقفا ويبرز اتجاها ً ويقدم رؤية , وما هو يكثر في التحليل والتفصيل .. أو يندفع مع مزاجية ,. وانه يتبع منهجية واضحة ويقصر البحث ويتضح فيه بالأسلوب العلمي , وتؤلف كل هذه العناصر والخصائص مجتمعة فن النص ونوعه ويعني ذلك علميا ً المقالة العلمية .
مضمونه : يعرض صروف في مقالته ( الكهربائية ) لمتفرعات الكهرباء كالتلغراف والتلفون والنور الكهربائي والترام الكهربائي وهي التي لم تكن معروفة قبل إطلالة القرن التاسع عشر , ويرجع الكاتب بهذه المكتشفات العلمية إلى مبادئ أصولية كهربائية عرفت في العصور القديمة عند اليونان والرومان ثم عند العرب وقد استطاع هؤلاء أن يسيروا بتلك المبادئ خطوة متقدمة , فيكتشفوا البوصلة ( دليل الجهات ) وما واصل العرب نشاطهم العلمي ... ويقلع الغربيون عن التحارب والمشاحنات فيما بينهم ويعملون في تطوير تلك المعارف الكهربائية الأولية ويهتدون بها بعد حين إلى اختراع البطاريات الكهربائية والمقياس الكهربائي ( الكلفنو متر ) وآلة تحويل الكهربائية إلى قوة ميكانيكية , ويستفيدون من ذلك في جر المركبات وإدارة الآلات المختلفة , ويطمح الكاتب إلى الاستفادة من هذا التقدم العلمي في القطر المصري ليصار إلى تحويل قوة انحدار المياه في شلالات النيل إلى كهربائية تدار بها الآلات في أماكن مختلفة من هذا القطر , وقد أنصف مضمون النص , بالخصائص التالية :
التاريخية العلمية : كان للكاتب أن يفيد من التاريخ في كتابته عن الكهرباء فيبين ما عرف لها من أصول في العصور القديمة وبصورة خاصة عند اليونان والرومان والعرب .. ويكون له في ذلك ركيزة أساسية لبحثه العلمي أو مقالته : ( ومن الغريب المدهش أن الحقائق الأصلية التي بني عليها التلغراف والتلفون والنور الكهربائي والترام الكهربائي كانت معروفة من أيام اليونان والرومان وعرفها العرب أيضا ... )
الاجتماعية القومية : وينحو الكاتب باللائمة على إسلافه العرب هؤلاء الذين كان لهم أن يتقدموا بعض الشيء في حقل الكهرباء ثم جمدوا وإذا هم يهملون العمل العلمي وينصرفون إلى ما فيه ضعفهم وتشتتهم وتمتد بهم هذه الحال حتى ( لا همة تدفعهم إلى البحث , ولا غاية ترغبهم في الاستقصاء وهمهم وهم ملوكهم ملاذ الدنيا , والتنكيل بالأعداء ) ويدل بذلك الكاتب على عمق في النزعة الاجتماعية القومية .
التجرد والموضوعية : وإذا كان لصروف أن يعنف في لوم قومه العرب هؤلاء الذين شغلوا ليسقطوا في بحر القناعة بل في بحر الجهالة . فانه يندفع بروحه العلمية ويقر بتجرد وموضوعية بايجابية الغربيين , الذين قدروا على التخلص من واقع محاربة ومشاحنة لينطلقوا في العمل العلمي ويتقدموا فيه بخطى ثابتة فيرفضوا التقليد ويعتمدوا الطرق العلمية في البحث والاكتشاف . وتتقدم المعارف العلمية على يدهم وفي قرن واحد أكثر مما تقدمت في قرون سالفة : ( ونسخوا طريق التقليد والتسليم واعتمدوا على الاستقراء والامتحان فتقدمت المعارف في قرن واحد أكثر مما تقدمت في القرون السابقة . ) .
عمق الوعي العلمي : وما يكتفي صروف بالنص بعرض أو بمجرد سرد إنما هو يعطي من معرفة علمية ثابتة فيكتشف ما للكهرباء من صلة أساسية بالمغناطيس ولالتحام هاتين المادتين من نتائج هامة ومفيدة في عالم الصناعة والعمران وهو يرجع في معرفته هذه إلى مراجع علمية بارزة مثل العالم الدانمركي ( ارستد ) والعالم الفرنسي ( أمبير ) وعلماء أوروبيين آخرين مثل ( اراغو ودايفي وباخ ) ويدل بذلك على علمية في بحثه ومنطقية رصينة وسليمة .
الالتزام : إذا كان الكاتب قدم تلك المقدمات في مقالته عن الكهرباء وأوجز في بعضها وأوضح في البعض الآخر , فما كان ذلك إلا من أن يدفع بشعبه إلى الاستفادة من الكهرباء وشتى متفرعاتها خصوصا ً مجالات الصناعة والعمران . ويعطي مثالا ً على ذلك رغبته بتحويل قوة انحدار المياه في شلالات النيل إلى كهربائية تدار بها الآلات ويكشف في هذا عن التزام في الكتابة وإخلاص في هذا الالتزام البناء .
. لقد صفا أسلوب النص فما يشوبه غموض أو تعقيد ويدق الكاتب في عبارته ويوجز , فلا يسهب أو يعطي من تحسين وتزيين أو يكثر من تصوير .. أو يجنح إلى مبالغة وليكون الأسلوب واضحا ً ودقيقا ً وتبرز فيه الخصائص التالية :
الدقة والإيجاز : برزت الدقة والإيجاز في النص فلم يدفق الكاتب في الألفاظ أو يزد في التعبير إنما هو يقتصد في لفظه وتعبيره ويأخذ المعاني قدرها من اللفظ المبين , ويشكل ذلك سمة النص العامة : ( التلغراف والتلفون والنور الكهربائي والترام الكهربائي ) ( ولكن أربعة لم يكن لها وجود حين حل هذا القرن ) و ( لكن الكهربائية لم تتقدم إلا ملتحمة بالمغنطيسية ) .
صفاء التسلسل ووحدة السياق : وقدر الكاتب على التسلسل في مقالته . فإذا هو يبسط فكرته ويعطي موقفه واتجاهه وبطريقة مرنة بعدت عن كل تشتت واستطراد . ويجلي قصة اكتشاف التلغراف والتلفون والنور الكهربائي فتثبت له وحدة السياق ويتضح في ذلك صفاؤه ويلين العلم لقلمه فلا يجمد معه أو يصعب وتبرز فنية الصياغة العلمية : ( لكن الكهربائية لم تتقدم إلا ملتحمة بالمغنطيسية ولا ندري هل خطر على بال احد من الأقدمين أن بين هاتين القوتين الغريبتين صلة ما ؟ وهب انه خطر على بالهم فليست العبرة بما يخطر بالبال ...) .
الاستقراء : ما عمد الكاتب في النص إلى تخيل أو تصور إنما هو يدرس ويستقرئ لتكون له مرتكزات تهديه إلى وقائع علمية ثابتة ومفيدة . وهو يقدم مسلسل الكهرباء التاريخي والعلمي وما كان لحلقات هذا المسلسل من تأثير في التقدم العلمي والاجتماعي ويمكنه ذلك من الكشف التاريخي العلمي الدقيق لنشأة الكهرباء وتطورها المستمر ..
اللغوية العلمية : وسهلت لغة صروف العلمية فما هو يجف فيها أو يغرب , وما هو يصعب فهمه أو يشكل تعبيره . وانه قادر على التعريب ووضع المصطلحات مثل ( مقياس الكهربائية ) و ( المجرى الكهربائي ) واللامين واللفتين و ( قطبي المغناطيس ) كما وانه تستقيم له العبارة العلمية بشكل صاف ومتين ( وبعد خمس سنوات صنع سترجيون الانكليزي الحديد المغناطيسي اللين أي لف سلك معدني على قطعة من الحديد اللين فصار الحديد يفعل فعل المغناطيس . ) .
المرونة ووحدة البناء : لقد كان للكاتب أن يدق حينا ً في أسلوبه ويسهل حينا ً ويلين تارة ويعنف تارة ويعطي في ذلك من أدبيته وعلميته وتتم له بذلك وحدة الأسلوب المرن , وحيوية البناء .
ثبت صروف في النص ككاتب علمي رصين في فكره وفي أسلوبه ولم يكن العالم الذي يبتكر في اختراعات أو اكتشافات . إنما كان الكاتب الذي يعمق في فهم المعارف والاكتشافات , ويستطيع نقلها ونشرها ودرسها المفيد بها . وهو يقدم بذلك عملا ً رياديا ً في الكتابة العلمية في عصر النهضة العربية .

مكانة صروف
عمق صروف في رؤيته لمصالح بلاده , وعرف الطريق إلى تحقيقها فنهج سبيل العلم والواقع , يعمل بقلمه في هدم الخرافات وترهات , وفي نشر حقائق ومناهج ثابتة قويمة فإذا هو المفكر العالم والكاتب الرصين الملتزم , ويستوي كواحد من ابرز كتابنا الرواد في نهضتنا الحديثة , في المجال الصحفي العلمي والتجديد الحضاري والبناء الوطني .
قاسم أمين
لم يعط الكاتب في نصه من تقليد أو اقتباس إنما هو يقدم أفكاره ويجدد في موقفه ويجتهد في أرائه وتكون لمعانيه الخصائص التالية :
التجديد : أن قاسم أمين إذ يشدد على دور المرأة في حياة الأسرة والأمة فإنما هو ينطلق ككاتب مجدد في عصر النهضة , فيدحض أوهاما ً ومزاعم ترفض للمرأة’ المصرية والعربية دورها الفعال في بناء العائلة والمجتمع , ويتمثل ذلك في قوله : (( إني اكرر ما قلته من انه يستحيل تحصيل رجال ناجحين إ&ن لم يكن لهم أمهات قادرات على أن يهيئنهم للنجاح )) وقوله : فهذا الانحطاط في مرتبة المرأة هو أهم مانع يقف في سبيلنا ليصدنا عن التقدم إلى فيه صلاحنا .
الواقعية : لا يبني الكاتب موقفه من المرأة على تصورات وأحلام ولكنه يستفيد من الواقع في أفكاره ووقائعه كقوله وهو يتحدث عن أهمية المرأة في إنشاء الرجال الناجحين (( وهي تقوم بأعبائها الثقيلة في كل البلاد المتمدنة بحيث تراها تلد الأطفال ثم تصوغهم رجالا ً )) وكقوله وهو يتحدث عن اثر السلوكية العائلية : (( إذ كل منا يسلك في أمته مسلكه في عائلته )) فيكون الواقع هو مصدر الكاتب الأهم في تفكيره وتقديره ..
الايجابية : لم يضعف قاسم أمين في موقفه من المرأة في بلاده فهو يمزق أغشية الجهالة , ويضرب شديدا ً في التقاليد الطاغية ويظهر المرأة كما هي في الأصل وكما يجب أن تكون , لا دمية أو سلعة أو أداة طيعة بل مالكة طاقات ومعطية مهارات وتستطيع تأدية أعظم الأدوار في حياة الأمم .
وإنها لتمارس ذلك مع التمدن (( فتلك هي الوظيفة السامية التي عهد التمدن بها إلى المرأة في عصرنا هذا .))) (( وإنها لا تنجح في وظيفتها هذه حيث نراها تلد الأطفال ثم تصوغهم رجالا ً ))
الأصولية التربوية : تظهر الأصولية التربوية في تركيز الكاتب على دور المرأة الأم في بناء الأسرة , ليكون مع المرحلة الأجل والأخطر في التربية , حيث للام الدور الأساسي في إنشاء الفرد وتوجيهه , فإذا ما نجحت في تأدية دورها وهبت طفلها عافية النفس , وسلامة الاتجاه , وإلا أساءت إليه في صميم كيانه : (( والأمر الذي يلزم أن تلتفت إليه كل امة لا تغفل عن مصالحها الحقيقية هو وجود النظام في العائلات ... ولما كانت المرأة هي أساس العائلة كان تقدمها وتأخرها في التربية العقلية أول مؤثر في تقدم الأمة وتأخرها . )) .
الموضوعية : لا يندفع الكاتب في نصه مع عاطفة جامحة أو هوى ولكنه يؤسس فكرته على حقائق وتجارب ثابتة , وإذا هو يفكر في رصانة وعدالة . فلا ينزه المرأة عن أي عيب ولا يجردها عن أية ملكة خيرة فهي عنده الإنسان الذي يصلح فيعطي من إصلاحه أو يضعف ويفسد فيعطي من ضعفه وفساده (( ولما كانت المرأة هي أساس العائلة كان تقدمها وتأخرها من التربية العقلية أول مؤثر في تقدم الأمة وتأخرها )) . وهو يمضي في موضوعيته إلى ابعد . فيرى في المرأة أهم عوامل ارتقاء الأمم واهم عوامل انحطاطها ويظل الكاتب قاضيا يثبت في موقفه مع الحق والعدالة .
الإصلاحية : ما شاء الكاتب في نصه أن يثور ثورته فيقلب أوضاع بلاده رأسا على عقب , فيقضي على كل ما هو قديم ... ويفرض كل ما هو جديد . إنما هو يعطي من ( اصلاحيته ) فيطالب بإصلاح تربية المرأة في مجتمعه ويستوي ذلك عنده أساسا ً لكل إصلاح اجتماعي آخر . وتكون تربية المرأة (( هي الواجب الخطير الذي أن قمنا به سهل علينا كل إصلاح سواه وان أهملناه افسد علينا كل إصلاح سواه )) .
المعاناة والممارسة : استوحى الكاتب نصه .. من معاناة عميقة وممارسة واعية فلا هو يفترض فيه تخيلات أو تقتبس , ولكنه يحيا ويفكر فيغنى تفكيره وحيويته وتأثيرا ً وتخصب المرأة في النص بأسبابها وأبعادها . وهي تطل مفعمة بمعاناة الكاتب لمشكلات عصره وبيئته وشعبه .
أسلوب النص : لم يكن يهم قاسم أمين أن يسحر بلفظ أو يؤثر بديباجة إنما هو يكتب ليقنع وينجح في غاية فيستقيم أسلوبه في النص كأداة إجلاء ووضوح فيصدق فيه ويدق ويفلح في إقناعه , ويقوي في دحض باطل ويتميز أسلوب النص بالخصائص التالية :
مرونة التعبير وسهولته : أنها كلمات بسيطة وعبارات سهلة واضحة تتسلسل في أسلوب النص . وإذا هو إنشاء مرسل لا يقيده سجع أو يرصعه تحسين بياني ويصفو في ترجمة الأفكار فلا تغلق فيه المعاني أو تضعف مع الألفاظ ويمرن التعبير في إجلاء الفكرة وهي التي تعنيه قبل أي شيء آخر وإذا هو سهل وواضح وصريح كقول الكاتب : (( إني اكرر ما قلته من قبل انه يستحيل تحصيل رجال ناجحين أن لم يكن أمهات قادرات على أن ويهينئهم للنجاح . أو كقوله : (( وبديهي أن العمل الأول وهو الولادة هو عمل بسيط تشترك فيه المرأة مع الحيوانات فلا يحتاج إلا إلى بنية سليمة .))
وإذا الوضوح والإيحاء دأب الكاتب في كتابته وليس الوشي البياني أو النسج الديباجي .
جدية الأداء وعصريته : ما ( يمرح ) النص خيال أو تؤلقه صور ولكنها جدية تطبعه , فتجد عباراته وترصن . وإذا هو تعبير تقريري . وإنها عملية تفصح في التعبير , فلا تذهب في غموض كقول الكاتب (( المرأة ميزان العائلة فان كانت منحلة احتقرها زوجها وأهلها , وعاشوا جميعا ً منحلين لا يرتبط بعضهم ببعض , ولا يعرفون نظاما ً ولا ترتيبا ً )) وما دام قصد الكاتب أداء المعنى فانه يفسح في لغويته ويعطي في تعبيره من عصريته وصحفيته (( وبالجملة فان ارتقاء الأمم ...) وكقوله (( الذين يطنطنون بمزايا تربية الذكور )) وكقوله (( إنما هي من الحاجيات )) .
التحليل والتعبير : ما دامت الجدية هي شان الكاتب في أسلوب النص , فانه يحلل ويعلل فيزيد وضوحا ً في فكرته وموقفه ... وهو إذ يحلل أهمية وجود النظام في العائلات فليصل في تحليله إلى أكثر من بعد تربوي واجتماعي . مثل (( العائلة هي أساس الأمة )) و (( المرأة هي أساس العائلة )) وتصبح المرأة (( أول مؤثر في تقدم الأمة وتأخرها )) .
وهو في الوقت ذاته يعلل فيبين علة تأخر الأمم وتقدمها . أو انحطاط المجتمع ورقيه : (( فان ارتقاء الأمم يحتاج إلى عوامل مختلفة متنوعة , من أهمها ارتقاء المرأة وانحطاط الأمم ينشأ من عوامل مختلفة متنوعة أيضا ً أهمها انحطاط المرأة )) .
الاستقراء والاستنتاج : كان لحقوقية الكاتب أو قانونيته أثرها في أسلوب النص إذ تقوى عنده النزعة العلمية فيستقرئ ويستنتج ويسلسل فروضه ومرتكزاته واستنتاجاته , فهو ما أن يثبت أهمية دور المرأة التربوي حتى ينطلق إلى العائلة حيث للتربية التأثير البالغ , ويثبت أساسية المرأة في بناء العائلة وينتقل بعد ذلك إلى الأمة حيث العائلة أساس الأمة .ويصل إلى النتيجة التي نشد , وإذا المرأة عنده هي : (( أول مؤثر .. في تقدم الأمة وتأخرها )) وهو يعود فيؤكد صحة هذه النتيجة في أكثر من استقراء واستنتاج في نفس النص .
التماسك والترابط : تتلاحم أجزاء النص فتقوى في بنائها فإذا بصياغته متماسكة ومترابطة ويتوحد في ذلك الشكل , وإذا هو أداء يتقاطر في تأليفه ونسجه ويثبت وحدة الإنشاء , وهو إذ يجمل حينا ً فليفصل ويحلل وكل ذلك من اجل أن يسلم له تكامله البياني . وما الكاتب فيه إلا قاض يعرف كيف يقدم حيثياته , وإذا هو يسلسل مطالعته متراصة متكاملة وصولا ً إلى غايته المنشودة .
لقد استطاع قاسم أمين التعبير الجريء والصريح عن موقفه من المرأة , وإذا هو يجدد ويصلح , معتدلا ً فيما يريد ويطلب , ويتأكد النص اجتماعيا ً في أبعاده ويتسم أسلوبه بغير قليل من السمات العلمية , ودون أن يفقد في ذلك ادبيته وبساطته وسهولته وصدق حيويته وجذرية ريادته . وهو ما تعنيه المقالة الاجتماعية في العرض والدرس والالتزام .
مكانة قاسم أمين وأثره
كان لقاسم أمين أن يبرز كواحد من مفكري عصر النهضة الحديثة الذين اكتشفوا جانبا ً مؤثرا ً من ضعف المجتمع المصري والعربي , ولم يكن ذلك يعني في أصله غير تخلف المرأة المصرية والعربية وقد تقدم الكاتب بشجاعة لمعالجة هذا بكتابات كثيرة ومحاضرات متنوعة . ويبرز كرائد لحركة تحرير المرأة وتقدمها في الشرق العربي . ويعمق أثره في معطيات أدبية واجتماعية وسياسية عربية معاصرة .
مارون عبود
مختارات من ( وجوه وحكايات )
دايم دايم
ليلة ( الغطاس ) ليلة خصبة تحبل فيها العقول والأماني فتلد العجائب والغرائب , وهنيئا ً لك يا فاعل الخير .
تربع الحوري نصر الله في تلك الليلة , عن يمين الموقدة وتقرفصت قبالته حوريته كأنها قفة ثياب .
الخوري معبس حيران , تارة يمشط لحيته الطويلة بأصابعه وطورا ً يحشكس النار وينفخها , فيتطاير الرماد في سماء العلية , ثم يستقر أجلى ما يكون على جبهته وقاووقه والبلاس فتصر الخورية فمها المتكرش فيصغر حتى يصير كالخاتم . تتذكر كم حفت ثياب الخوري ليظهر نظيفا ً يوم عيد الغطاس , فتتنهد وترقص على شفتيها كلمة , ثم تتوارى , فتنفض ثيابها وكوفيتها بتأفف كأنه توبيخ لبق للمحترم العكش , ولكنه لا يحس , بماذا كان يفكر الخوري في تلك الساعة ؟ أبنسله المقطوع ؟ فهو علم الله مؤمن بأنه ابن الكنيسة ومن أبنائها ذرية واحدة لأب واحد هو المسيح , فسيان عنده أعقب أم لم يعقب , ثم ماذا يرتجي ابن الثمانين من امرأة تحبو إلى السبعين ؟
لو كان علمانيا ً لترقب الموت فضاض المشاكل , ولكن الخورية كالصنوبرة إذا قطعت لا تفرخ ... فماذا يحير الخوري إذن ؟ وما يشغل باله وهو الحاكم المطلق , وليس على الرعية إلا طاعة ؟ أنقول انه مؤمن كالعوام من الناس بمرور الفادي على بيوت النصارى , ومن يعمل ساعة مروره عملا ً دام عليه , أن حسنا ً فحسنا ً وإن سيئا ً فسيئا ً ؟
كل هذا تخمين . أما الثابت فهو أن الخورية لم تر زوجها قط كما رأته الليلة حاولت أن تنبهه فقامت إلى مغزلها هاتفة : يا يسوع ! ثم جاءت به من عن يمين مخدتها وقعدت قائلة : يا مريم ! ولكن بلا جدوى . الخوري في دنياه غير هذه الدنيا . فانكبت أخيرا على نفش الصوف وغزله , غير منفكة عن التأمل في حوريها المنتصب أما وجهها كالوتد . وبعد صمت طويل فتح الخوري فمه وقال : كم رطلا ً عجنت ؟ فتنهدت الخورية وأجابت أربعة أرطال .
فقال : قليل . الضيعة كلها عندك الليلة .فقالت وهي تعد على أصابعها : القمح والحمص والتين والجوز واللوز والزبيبة .
فأجابها بهدوء مرح : عادتك يا مبيضة الوجوه , احسبي حساب الضيعة كلها . اطعمي ولا تبعزقي .
فأجابته وقد هزها ثناؤه : ما عليك عندنا خير كثير , وبركتك تغنينا عن كل شيء .
فحنا الحوري رأسه اتضاعا ً وقال : أنا خاطي يا خورية .
فحسبت أن خطايا رجلها تتراءى له في هذه الليلة المباركة , فانغمت وسكتت .
وعاود الحوري الصمت فاخذ يعدل النار وينفخها فيتطاير الشرار من ارومات التوت التي توقد خصيصا ً ليلة الغطاس . ومرت فترة لا نفخ فيها كأنما استعدادا ً لعاصفة أثارها الخوري في الموقدة , فاخرج الريح من البابين ... وذرى الرماد .
لم تطق الخورية فقالت بنبرة تخالطها ابتسامة مرة : وسخت الدنيا يا خوري . توق ثيابك .
فانبسط وجهه اعتذارا ً وطلب السراج , فنهضت على الأربع فقال لها مداعبا ً : قصرت يا خورية . فاستضحكت , ومشت وهي تقول : نشكر الله , بين الخوري سنة الليلة .
وأجليت المسرجة عن يمينه وقعدت في مبركها تغزل .
حول الخوري وجهه نحو الشرق وركع يصلي . ثم نظر شزرا ً فراها تغزل فتنحنح . ثم أح الأحة المعهودة , فحلت محل المغزل مسبحة وردية طول الحبل .
واخذ الناس يتوافدون على بيت الخوري فجلسوا صامتين .
لم تكن تخرج كلمة إلا من أفواه الأطفال فتحسبها الأمهات في تلك الأكمام ولا يفلت منها إلا القليل , وان ابطأوا عن إسكات طفل جأر الخوري وهمر فيسد فم الصبي سدا ً هرمسيا ً .
وأطبق الخوري شحيمته وتحرك للقعود , فمسوه جميعا ً بصوت واحد , وتكرموا حوله يقبلون يده - والمورد المعذب كثير الزحام – فاصطدمت الرؤوس بالرؤوس كأكر البليار . لم يرتدوا حتى باسوها جميعا ً ثم قعدوا سكوتا ً ينتظرون كلمته , فقال لهم : هذي ليلة شريفة ينتظرها الناس كل عام مرة . هي تذكار حلول الروح القدس على المخلص في نهر الأردن . طوبى لانقياء القلوب فأنهم يعاينون الله , كما قال مخلصنا وألهنا له المجد , هل انتم مستعدون يا أولادي المباركين ؟
فأجابه الذين لا يفكرون بزلابية الخورية : نعم يا معلمي .
فقال الخوري بتواضع : هذا ما أتمناه لي ولكم يا إخوتي .
وجر أهم عليه تلطفه في الحديث فذكروا له رجلا ً طرده من الكنيسة لأنه وشوش جاره فيها , فغفر له وادخلوه .
وعاد الخوري إلى سهوته , وانطلقت السن الرعية في الحديث عن شؤونهم القروية فلم ينسوا شيئا ً منها . أما عيونهم فكانت في الغالب تتجه صوب المعجن والقدر . ولما أتت الساعة تحلحلت الخورية من موضعها لتضع المعجنة على طرف المصطبة , فامتدت لرفعاها عشرون يدا ً وشمرت الصبايا أذرعهن يقرصن العجين . وعلا صراخ الزلابية في المقلى واخذ الصغار ينتشلون ما في أيدي الآباء والأمهات وألهاهم انتظار النوبة عن الحديث – وعند البطون تضيع العقول – فظل منقطعا ً حتى قالت صبية , وهي تمط قرن الزلابية فوق المقلى : عجينك تخ يا عمي .
فأجاب شاب في نفسه شيء من تلك البنية : إذا كان عجين الخورية لا يتخ فعجين من يطلع ؟
فأعجبت الكلمة الجمهور وكان الإيمان بالعجيبة الأولى . وامتلأ البيت غبطة ورائحة زيت .
واستلذوا زلابية الخورية المقرفلة مغموسة بالدبس , فذكروا ( الدايم ) الذي يأكلون على ذكره , فقال واحد هنيئا ً لمن يركع الليلة على السطح ليباركه المسيح بمروره .
فأجاب شاب : لا تفوتنا هذه النعمة أن شاء الله .
وصاح شيخ رعشن من الزاوية : يا نسوان , الليلة يتركون خلايا الطحين مفتحة ليباركها الرب .
فتنبهت لذلك امرأة خليتها مسدودة , فصفقت كفا ً على كف وهرولت إلى بيتها . ثم عادت تلهث , خائفة على فوت شيء من زلابية العيد .
وعلى ذكر الخمير قالت امرأة أنها علقت عجينتها بالمشمشة . فأجابها الرعشن , راوية أخبار الدايم : لا يا أم يوسف هذا غلط . المشمش يركع , علقيها بالتينة أو التوتة , التوت متكبر لا يسجد , والتينة حاقدة على المسيح ... لأنه لعنها .
فقال شاب : نسيت الخروبة يا جدي .
فقال نعم , نعم الخروبة تقول للرب : حبلى ومرضعة على كل كتف أربعة . فأعجبوا بفصاحته , وصدقت كلامه امرأة علقت عجينتها بالمشمشة , عام أول , فتلوثت بالتراب . فأسرعت أم يوسف لنقل عجينتها إلى التينة وكان الزيت يغني والجين يرقص , والناس يأكلون ويتحدثون والخوري غارق في بحرانه كأنه لا يرى ولا يسمع والخورية تتعجب كيف لا يأكل قرنا ً من زلابية العيد مع انه يموت عليها .
وكان الامتشاط في التبان بعد قلي الزلابية , فتطاير الشرار من رؤوس بعض البنات وتراكض الساهرون ليروا , والتفت الخوري التفاتة غير كاملة ولم يتكلم .
وجاء دور القمح والحمص المسلوقين , فصبت الخورية في صحون الفخار الصفراء , وأعطت كل كومة صحنا ً , فاقبلوا عليها يغرفون , وقال شاب فمه محشو : مر الدايم في زي فقير على مرأة تسلق قمحا ً فقالت له أنها تسلق بحصا ً – أي حصى – فدعا عليها ولما كشفت قدرها امتلأ بيتها حجارة , ولو لم يصل الخوري على الباب طمت الحجارة الضيعة ...
فأجابه ثان : وبالعكس حصل لمرأة فقيرة , ولكنها بنت اوادم , فأكل أولادها من الحول إلى الحول .
وتذكروا عجائب لا تحصى . أما الخورية فكانت تغمز حبقوق ليحدث الخوري , فقد شغل بالها سكوته الطويل .
فلبى حبقوق الذي هو على سن الخوري وسأله : ما قولك يا معلمي , البحر يحلو الليلة مثلما اخبرونا ؟
فلم يجب الخوري , وظل ناظرا ً إلى الباب الذي يفتحونه خصيصا ً ليدخل منه الدايم , ولا يدعو على البيت بالتسكير إلى الأبد .
فقال روحانا , وهو ابن ستين فما فوق : مؤكد عند نصف الليل تماما ً . اعرف كثيرين جربوا شربوا فكان أحلى من الدبس .
ونكعت الخورية حبقوق ليسأل الخوري سؤالا ً آخر لأنها اعتقدت أن الله ربط لسانه كما عقد لسان زكريا في الهيكل . فقال حبقوق بصوت عال : خوري نصر الله أين أخبارك الحلوة ؟ ما سمعنا منها شيئا ً , الليلة .
فنظر إليه الخوري نصر الله نظرة مفلطحة , ولم يتكلم . فراع الخورية منظره , وأيقنت أنها سترزق ولدا ً في الستين ,وقد يكون عند الله يوحنا آخر . ولماذا لا ؟ فالإنجيل يقول : ليس عند الله أمر عسير وهذا الخوري مربوط اللسان , وهو كاهن مثل زكريا . والخورية عاقر كاليصابات , ونقية طاهرة مثلها .
أما الجماعة فلم يدركوا شيئا ً مما يحدث , وأفاضوا في حديثهم عن الدايم , لان ساعة مروره قد فربت . فقال واحد : طلبت بنت كسيحة من سيدنا يسوع المسيح أن يعمل واحدة من يديها منجلا ً . والثانية فراعة ( فأسا ً ) فقبل طلبتها , وخلصت من الذين يعذبونها .
وقال غيره : كان لواحد عمة اسمها خرستين غنية بخيلة لا يستنتج منها شيئا ً , فقالت له : اطلب لي طلبة من الدايم . فقال : يا دايم المجد والطهارة صير عمتي مثل الكارة . فسأله شاب : صارت كارة ؟ فأجابه بإيمان : وأية كارة ! فمال ذلك إلى جاره وقال له : هينة عليك . اطلب الليلة من الدايم يعمل عمتك مثلما تريد , واسترح من دينها .
وبينما الشباب يكسرون الجوز واللوز , والشيوخ يضغضغون الزبيب والتين , فر الخوري إلى الباب بغتة , فماج الجمهور متعجبا ً من فرته الغريبة . وتبعه بعضهم ثم عادوا معه يسألونه عما رأى , ولكنه لم يتكلم , فتحرك الجنين في بطن الخورية ...وبعد سكوت غير قليل قال كبير القوم : قوموا يا جماعة , الثريا مالت فودعوا كما سلموا .
وتعلق نظر الخورية بشفتي الخوري , وإذ لم يتكلم شعرت أن بطنها انتفخ كأنها في شهرها السابع . فمدت فراشها , ونامت تتوقى الطرح والإسقاط ... ولكن الخوري بدد حلمها الشهي حين صاح بالناس من الباب : القداس نصف الليل . فأخذت الخورية تتململ وتفح في فراشها . سألها الخوري عم مصيبتها فما ردت جوابا ً , فتوهم أنها آسفة على ما أنفقت لان حاشية الخوري رقيقة فتركها وقعد يصلي صلاة (( الستار والليل )) . ثم اتكأ قرب الموقد فغفا . وتراءى له الطيف الذي مر ببابه منذ ساعة . وسمع دقا ً على الباب فاستيقظ مذعورا ً يرسم إشارة الصليب ويغمغم وهب إلى قنديله يشعله , وتلفلف بجبته , وقبل أن يمشي إلى الهيكل نكز الخورية بعصاه فقعدت تتمطى . ولم يبتعد عن البيت بضع خطوات حتى أخذته أفكار غريبة , ورأى رؤى مخيفة , فمات فزعا ً ... وهم بالرجوع إلى البيت ولكنه تجلد , وأكثر من إشارات الصليب والصلاة , فاشتد عزمه وتبدد كل شيء وبلغ الكنيسة غير مصدق انه فيها وتعلق بحبل الجرس فدقه بعد عناء بضع ضربات وصعد إلى الخوري وهو يرتل الأناشيد البعثية ليتشجع .
اوقد السرج والشموع بيد ترتجف وجلد يقشعر . وكان كلما شجع نفسه ازداد خوفا ً ورعبا ً .
وانتقل أخيرا ً إلى زاوية الكنيسة الشمالية , واخذ الكتب البيعية مفتشا ً عن رتبة الغطاس وقداسه لعله ينسى مخاوفه , فاستوى قدامه شاب غريب رأى فيه ملامح من يسوع . فصاح الخوري بالسريانية : (( بار يوحنا دا كاس بت ميته )) فمد الشاب يديه نحو الخوري مفتوحتين . فزاده إيمانا ً بأنه المسيح , فخر أمامه ساجدا ً , وأغمي عليه .
واقبل الشماسة الذين يلبون دعوة الجرس قبل الرعية , فرأوا الخوري نصر الله منبطحا ً على البلاط كالميت . فأسرع احدهم إلى الماء ينضح هبه , واحرق آخر رقعة أدناها من منخريه , وقرع ثالث الجرس قرعا ً عنيفا ً , ثم دقة الضربات المعلومة بين الأهالي للاستغاثة , فانصبوا على الكنيسة كالسيل وكانت الحورية آخر من جاء .
رأت زوجها صريعا ً فانحنت فوق رأسه تولول وتبربر : راح الخوري , يا ويلي ! مات , مات خوري نصر الله . يخرب بيتك يا عزرائيل ومطت ياء عزرائيل مطا ً طويلا ً جدا ً انتهى بنتف شعرها , وقعدت تزحر وتطحر , وأخيرا ً أرسلت صوتا ً رعب السامعين : خرب بيتي يا ناس . يا حسرتي عليك يا خورية نصر الله ! ففتح الخوري عينيه , ولكنه لم يتكلم , فهدأت الخورية وعاودها , حالا ً , الإيمان بالجبل , وآمنت أكثر من ذي قبل لان ما أصاب الخوري أصاب زكريا تماما ً , وفي الهيكل وعن يمينه أيضا ..
وأشار الخوري بجمع كفيه إلى الناس فتهللت الخورية وكادت ترقص ... وبعد قليل غمغم الخوري بعض الكلمات , ثم انفك لسانه فخبر الشعب كيف رأى الدايم أول مرة في البيت , عندما فر إلى الباب . ثم كيف ظهر له في الهيكل وعاينه وجها ً لوجه . فسجدوا شاكرين لله إلا الخورية , فالرؤية لم تعجبها لأنها كانت تحلم بأخرى . غير أنها سلمت وقنعت قائلة في قلبها : تقبر الأولاد السلامة غنيمة .
وبعد قليل , نشط الخوري وشعر أن شبابه يتجدد كالنسر , فأقدم قداسا ً صارخا ً رنانا ً بوجه يقطر منه الإيمان , واحتفل برتبة الغطاس احتفالا ً دام ساعة وأكثر , فكان يمغط الترانيم والتهاليل , وان رأى من شماس فتورا ً أو تراخيا ً غمزه وانتخى . ثم ختم القداس بمرح يشبه رقص داود أمام التابوت . وعند الضحى طاف في القرية يرش ماء الغطاس على البيوت , فاستقبله الرعية بإجلال وفرح عظيمين . أن قعد قعدوا حواليه , وان مشى مشوا خلفه . فعاد إلى بيته عصر النهار فارغا ً دلوه من الماء , ولكنه مليء بشالك وأنصاف بشالك وزهراويات وأرباع مجيدية , فقد أجزل الجميع عطاؤه حتى الأرامل وابن المذبح من المذبح يعيش .
وتناقلت الألسن خبر العجيبة العظمى , فجاء الزوار من أماكن بعيدة يلتمسون البركة والدعاء . ومن لم يجد الخوري اكتفى بمقابلة الخورية وسمع من فمها حكاية (( الدايم )) وكثيرا ً ما كانت تهم بقص حكاية حبلها , فتبتسم ابتسامة قليلة , ثم لا تقول شيئا ً .
حلت على أبينا الخوري نعمة (( الدايم )) فصار نافد الكلمة عند الله , تنتظره الجماهير في المناحات ليفوزوا بلثم يده الطاهرة , وتحل بركته عليهم . وأمسى يصلي على الماء فيطرد الفأر والجرذان والحيات , ثم عظم سلطانه الديني فأضحى يبارك الأرض المجدبة فتستغني عن السماد , ويركض نباتها طلوعا ً .
وبعد شهر جاء عيد مار مارون فطلب الخوري نصر الله الكأس الذهبية فلم يجدها , فطار عقله ولكنه تجلد وقدس قداسا ً وجيزا ً استغربته الرعية وظنت الخوري مريضا ً وجد في البحث سرا ً عن مرتكب الجريمة العظمى فلم يوفق .
ودرى أهل القرية بسرقة الكأس المخصص بها عيد أبي الطائفة . والميلاد , والفصح , فطولوا ألسنتهم كثيرا ً حتى استخفوا بقديس الضيعة واتهموه بالعجز والشيخوخة , لأنه لم يخنق السارق قبل أن امتدت يده إلى بيت (( الجسد )).
وبلغ الخبر الكرسي البطريركي فرشق السارق (( بالحرم الكبير )) الذي يخرق العظام كما يخرق الزيت الصوف . وتلاه الكهنة في كنائس عديدة بيوم واحد , فبات المؤمنون يترقبون عودة الكأس ولكنها لم ترجع ...
وفي التاسع عشر من آذار – عيد مار يوسف – دخل الضيعة غريب راكب بغلة فأطلوا من الأبواب على وقع حوافرها وتبعه –كعادتهم – نفر منهم ودخلوا وراءه بيت الخوري . فعلموا من حديثه انه رسول الوكيل البطريركي : الخوري بطرس ضو , وان الكأس قد وجدت فزرعوا الخبر في القرية.
وما بدل الخوري ثيابه ولبس جبته الزرقاء حتى كانوا كلهم مجتمعين حول مركوبه قدام الباب , ينتظرون سفره السعيد ليدعوا له بالتوفيق . عدوا وجدان الكأس إحدى عجائبه لأنه تغضب على السارق مرتين : بعد تلاوة الحرم الكبير , وفي ختام زياح القربان المقدس .
وبلغ المحترم جبل جبيل فاستقبله الوكيل البطريركي باحترام جزيل يليق بصاحب الغبطة وخبره أن الكأس محجوزة عند خليل الصائغ ,وسارقها محبوس في القلعة , وذهبا معا ً ليريا الكأس والسارق .
ولما وقعت عين الخوري نصر الله على الحرامي ارتجف واصفر : عرف به (( الدايم )) فأحس في الحال أن قوة خرجت منه .
الدراسة
أن نص ( دايم دايم ) هو واحد من مواضيع كتاب وجوه وحكايات وهو منه في مناسبة التأليف ويصور فيه مارون عبود جانبا ً من القرية اللبنانية , فيكشف براءة التدين القروي اللبناني . وسذاجته ... حيث يسهل التصديق بالخوارق دونما بحث أو تحقيق , وينم ذلك عن طبيعة عميقة وبساطة . ويؤدي النص المذكور دوره في مسلسل كتاب ( وجوه وحكايات ) الريفي الاجتماعي , الواقعي الساخر ويبرز وجها ً من وجوه واقعنا المتفاوت في مستوياته الاعتقادية والفكرية والاجتماعية .
وان ذلك لموقف من مواقف مارون عبود النقدية الاجتماعية الساخرة وممارساته القصصية الفنية .
فن النص ونوعه أنها ليلة عيد الغطاس بكل ما تعنيه من معطيات عجيبة ( الحادثة ) إذ تجمع أهالي الضيعة في بيت الخوري نصر الله وراحوا ينتظرون مرور الدايم ( العقدة ) ويتوهم الخوري نصر الله رؤية الدايم ( ما يشبه احل ) ويفاجأ الخوري بسرقة الكأس الذهبية ( تلاشي الحل الموهوم واستمرار العقدة ) وتكشف حقيقة سرقة الكأس الذهبية ( الاقتراب من الحل ) ويتعرف الخوري نصر الله على السارق أو الدايم المزعوم ( الحل ) . وتترابط كل تلك المراحل المتتابعة ( الحبكة ) , وتجمع بينها وحدة الصياغة الفنية ( السياق ) . ولم تفتر في تشويقها إلى رؤية الدايم ثم إلى معرفة السارق ( الجاذبية القصصية ) ويؤلف كل ذلك وجودا ً خاصا ً هو ( العالم القصصي ) وإذا بالنص من حيث الفن يعني العمل القصصي أو القصة , وأما وقد عني النص بإبراز موقف وعرض ظاهرة فانه يعطي من حيث النوع معنى القصة القصيرة أو الأقصوصة الاجتماعية الساخرة .
مضمونه : انه انتظار بركة الدايم في ليلة عيد الغطاس , إذ تكشف فيه رعية الخوري نصر الله عن شتى أمانيها ورغباتها , وتظهر من أسرار نفوسها ما تستطيع , ويتحدث كل واحد منها عن ذكرياته ومسموعاته .. وتعيش امرأة الخوري نصر الله العاقر اشد ساعات الرغبة والقلق , وينطلق الخوري نصر الله في أصفى معطياته من الإيمان البريء , ويعيش انتظار الدايم بكل مشاعره وأمانيه ... ويتوهم رؤيته وهو في الكنيسة في ( صورة شاب غريب يرى فيه ملامح من يسوع ) وإذا هو يصدق توهمه ويخبر بذلك رعية لتسمو مكانته عندها . وتفتقد الكأس الذهبية من الكنيسة فتضعف مكانة الخوري نصر الله ... ثم يعثر على الماس المسروقة ويحجز السارق . ويتأمله الخوري نصر الله فإذا هو الشاب الغريب الذي كان قد رآه في الكنيسة واعتقد انه الدايم ... ويحس الخوري نصر الله في الحال بان قوة خرجت منه .. ويثبت الوهم وهما ً وتنجلي بساطة الخوري نصر الله ورعيته ... وتبقى متعة تلك الليلة الغطاسية ..
خصائص المضمون النص ومزاياه : يصف مضمون النص بالمزايا والخصائص التالية :
حس الشعبية : اختار الكاتب أشخاص أقصوصته , من الفئة الشعبية الساذجة , فهم الخوري نصر الله والخورية ورعيتهما القروية .. هذه التي تعطي بعفوية كل خضوعها لسيدها الخوري . وإذا العلاقة بين أشخاص الأقصوصة والخوري مغرقة في الطيبة . بعيدة عن كل ما هو خبث ورياء ( وتكوموا حوله يقبلون يده . ولم يرتدوا حتى باسوها جميعا ً ) . ( ثم قعدوا سكوتا ً ينتظرون كلمة منه ) . وان أشخاص النص ينطلقون مع ليلة الغطاس بكل صفاء وبساطة ( ما قولك يا معلمي . البحر يحلو الليلة – مثلما خبرونا ؟ مؤكد عند نصف الليل تماما ً .. اعرف كثيرين جربوا وشربوا فكان أحلى من الدبس ) . وهم يندفعون ببراءة إلى أقصى مدى ( اطلب الليلة من الدايم أن يجعل عمتك مثلما تريد واسترح من دينها ) .
الريفية : أن الريف .. يتجلى ويتردد في النص ويظهر في كثير من سماته ... كبساطة العيش والابتعاد عن كل تعقيد : ( تربع الخوري نصر الله في تلك الليلة عن يمين الموقدة وتقرفصت قبالته الخورية كأنها قفة ثياب ) ... ( فقالت وهي تعد على أصابعها : القمح والحمص والتين والجوز واللوز والزبيب ) ويسلسل الكاتب حياة الريف في أكثر من وضع وعرف ( وعاد الخوري إلى سهوته . وانطلقت السن الرعية في الحديث عن شؤونهم القروية فلم ينسوا شيئا ً منها ...) وتبرز أقصوصة ( دايم دايم ) ريفية من الطراز الواضح الصريح .
الاستجلاء النفسي : برز القلق في النص عند امرأة الخوري نصر الله , هذه المرأة التي تعدت الستين ولم تنجب ولدا ً وإذا خي تعاني من عقمها اشد الضيق والقلق , وتعيش ليلة الغطاس مع أملها الوحيد , انجاب الولد ... وإذا هي مع الحمل في ألف حال وحال ... ( فنظر إليها الخوري نصر الله ولدا ً في الستين ) ( وتعلق نظر الخورية بشفتي الخوري وإذا لم يتكلم شعرت أن بطنها انتفخ كأنها في شهرها التاسع ) ( وكثيرا ما كانت تهم بقص حكاية حبلها ... ( ويتحج الكاتب وهو يبعث القلق في الخورية ... في إعطاء المزيد من الحيوية والحادثية للأقصوصة ...
الإصلاح : يهدف الكاتب في أقصوصته ( دايم دايم ) إلى الإصلاح الاجتماعي فهو لا يريد أن تسود الأماني والأحلام والأوهام حياة الجماهير حتى لا تتغير هذه أو تتقدم إلا بأسباب غيبية , وإذا هوي يكشف ضعف نتائج هذه الأفكار العفوية والبدائية التي تتلاشى أمام الواقع الثابت , هذا الذي يسقط الأوهام ولا يبقي إلا ما تقره التجارب , وما يؤمن به العقل : ( ودرى أهل القرية بسرقة الكأس المخصص بها عيد أبي الطائفة والميلاد والفصح , فطولوا ألسنتهم كثيرا ً ... حتى استخفوا بقديس الضيعة واتهموه بالعجز والشيخوخة ) , ( ولما وقعت عين الخوري نصر الله على الحرامي ارتجف واصفر ... عرف به ) الدايم ( فأحس في الحال أن قوة خرجت منه ) .
الأصالة : فقد ظهرت الجدة في النص فالكاتب لا يقلد فيه أو يقتبس إنما هو يعطيه من واقعه وبيئته وعصره , بل من تجاربه وتطلعاته وتفكيره ويكون مع ثقافته بل مع مبادئه واتجاهاته . ومزاحيته ونظراته ..( وتكوموا حلوه يقبلون يده , والمورد العذب كثير الزحام فاصطدمت الرؤوس كأكر البليار ) ويعطي الكاتب في النص من دينيته الإيمانية الناقدة والمرتفعة عن التنفع . ( فقد أجزل الجميع عطاؤه حتى الأرامل وابن المذبح من المذبح يعيش )
الواقعية الهادفة : يستوحي الكاتب نصه من واقعه فيستمد منه خلق أشخاصه ومقتضيات حياتهم في أحلامهم وأهدافهم , في تعبدهم ومنطلقاتهم , وهو يوجه واقعه توجيهه الهادف وغير المباشر إلى ما هو اثبت في الوجود . وأعمق في الحقيقة , وإذا هو يعطي واقعيته من ذاتيته وتطلعاته التغيرية الرائدة .
خصائص الأسلوب : انه أسلوب مارون عبود ببساطته وحيويته وطبيعته وانه تعبيره الذي لا يمسه جفاف أو رتابة أو تصنع أو تكلف . فهو يعطيه من حياته ومجتمعه فيكون صورة عنه في حياته فيمرن به ويسلسله فلا يعجز في حوار أو يكد في بلاغة : ويقص ويحكي ..ويفصح ما يشاء من ألفاظنا العامية ... لأسلوبه الخصائص والمزايا التالية :
الطبع والحيوية : انه الطيع هذا الذي يصدر عنه مارون عبود في كتابة النص . وهي حيوية مارون هذه التي تكره كل رتابة وجفاف . ( ليلة الغطاس ) ليلة خصبة تحبل فيها العقول بالأحلام والأماني فتلد العجائب والغرائب ) .
ولم يكن أشخاص مارون عبود في النص إلا فلذا ً من ذاته وإذا هم يصدرون من طباعهم في الكلام وألفاظهم . ( فتح الخوري فمه وقال : كم رطلا ً عجنت ؟ فتنهدت الخورية وأجابت : أربعة أرطال فقال الخوري قليل الضيعة كلها عندك الليلة ) وتتسلسل أحاديث الطبع في النص وهي تقطر بساطة وعفوية . ( فأجاب شاب : لا تفوتنا هذه النعمة أن شاء الله ... وصاح شيخ رعشن من الزاوية ... يا نسوان ... الليلة يتركون خلايا الطحين مفتحة ليباركها الرب .)
الحوارية السلسة المعبرة: شاء مارون عبود أن يكون أبطال قصته عطاء واقعهم في حوارهم فهو لا ينطقهم بلسان بلغاء متفقهين لغة بليغة رفيعة ... ولكنه يدعهم يعطون في حواره من طبيعتهم وواقعهم . ومقصده في ذلك هو صدق الإفصاح ولا شيء سواه ...( حتى قالت صبية وهي تمط قرن زلابية فوق المقلى : عجينك تخ يا عمي . فأجاب شاب في نفسه شيء من تلك البنية : إذا كان عجين الخورية لا يتخ فعجين من يطلع ) ( فقال شاب نسيت الخروبة يا جدي . فقال نعم , نعم الخروبة تقول للرب : حبلى ومرضعة على كل كتف اربعة ) وبرز الواقع الريفي في حوارية النص .. فلا هي المبالغة بل كلمات وأقوال ينسجها الواقع المألوف ... والحياة البسيطة . صدق النقل والتصوير : يصدق الكاتب في النص وهو ينهل من بيئته الريفية ... في المشاعر والرغبات . وفي الأفكار والعادات فيستطيع تصوير جانب منها بل رسم قطاع واسع من معالمها ... ( فأجابه الذين لا يفكرون بزلابية الخورية . نعم يا معلمي ) (وعاد الخوري إلى سهوته ) . , ( أما عيونهم فكانت في الغالب تتجه صوب المعجن والقدر ... ( ثم هو يصفو ويرق ( وعلى ذكر الخمير قالت امرأة أنها علقت عجينتها بالمشمشة فأجابها الرعشن راوية أخبار الدايم : لا يا أم يوسف .. هذا غلط .. علقيها بالتينة أو التوتة ... التوت متكبر لا يسجد ) ويدق الكاتب في التصوير وكان الامتشاط في التبان يعد قلي الزلابية فتطاير الشرار من رؤوس بعض البنات ) .
وحدة السياق والبناء : لم يتشتت الكاتب في نسجه القصصي فانه يعطي نصه بناءه الفني الواحد فهو ينسج انتظار الدايم ويعقبه برغبات وأشواق وقد كان بإمكان الكاتب أن لا يتمادى في العقدة فلا يقدم حادث توهم سرقة الكأس الذهبية إلا أن سليقته النقدية الساخرة دفعته إلى ذلك ومن ثم إلى العثور على الكأس عند خليل الصائغ واكتشاف أمر الدايم المزعوم أي الحرامي . ولم يكن هذا الاستطراد يخرج الكاتب عن إطار الأقصوصة وعن نهايتها المرجوة ألا وهي انتظار الدايم وهو لم يلغ الحبكة , وبقيت للنص وحدة السياق والبناء .
ما كان نص ( دايم دايم ) يغيب عن طباع مارون عبود . فقد وضحت فيه شخصية الكاتب في دعابته وفكاهيته وسخريته وطيبته واصلاحيته . وإذا هو المعلم الموجه نحو الأفضل والأديب المخلص في تنقية الجماهير وتوعيتها . وهو في النص المتقدم الكاتب الناقد أكثر منه الفنان القصاص , إذ يغلب عليه طابع النقد والعطاء الذاتي . فيضعف ذلك من طابع الخلق القصصي . ولكنه لا ينال من حيويته الأقصوصة وجاذبيتها وريفيتها الخصبة وسخريتها اللاذعة البارعة الهادفة .
مكانة مارون عبود وأثره
لقد أعطى مارون عبود في التأليف من حيويته وذكائه , وثقافته وانطلاقية رؤيته وتطلعاته , فكان إن تعددت وتنوعت مؤلفاته . حتى إذا هو شاهد بيئته ومستشرف عصره . وقويت عنده الذاتية فبرز طابعها في شتى معطياته الأدبية وهو يتفاوت في عطائه الأدبي . وسيستمر يحيا في رسومه الأدبية وصوره الريفية الشيقة الماتعة . وغير قليل من أعماله النقدية . وهو يمثل ريادة في النقد الذوقي وأصالة الأدب الهادف . والكتابة العربية الساخرة .



جبران خليل جبران
النبي
أراد جبران أن يقول كلمته فيصدق الناس حقيقته , فوضع كتاب ( النبي ) وضمنه آراءه وخواطره , وعرض فيه مذهبه ورسالته , وكان فيه مع مبادئه واتجاهاته وقناعاته ومعتقداته . فيقول كلمته في المحبة والزواج والأولاد والعطاء والعمل والبناء والجريمة والعقاب والقوانين والحرية والعقل والعاطفة ...والألم والتعليم والخير والشر والجمال والدين والموت وغيره , وينطلق في كل ذلك من منطلق وجداني وعقلاني وصوفي , وهو ينسج نسجه فيعطي لوحة للعالم الذي يريد , ويبهر الغرب كما يثير اعتبار الشرق . فقد صاغ جبران ( النبي ) وهو (يلتهم) في هياكل الأديان على اختلافها . وشتى الفلسفات الشرقية والغربية المعروفة في عصره . وتلين فيه العبارة الانكليزية وتسلس وتجذب بوقعها الموسيقي الناعم الجميل . وليس ( النبي ) في حقيقته سوى عصارة طواف جبراني طويل . ويمثل قمة جبران في عطائه الأدبي فالكاتب يبرز فيه كما لا يبرز في سواه . وإذا هو كناية عن منهجه في الحياة والوجود .
مختارات من كتاب ( النبي )
العطاء
عندئذ، قال له رجل غني حدثنا عن العطاء. فأجابه، وقال:
إنكم تعطون قليلاً عندما تعطون من حطام ما تملكون، أما العطاء الحقيقي فهو أن يُعطي الإنسان من نفسه.
وهل ممتلكاتكم غير الأشياء التي تحتفظون بها، وتحرصون عليها مخافة أن تحتاجوا إليها في الغد؟ وهل الخوف من الحاجة إلا الحاجة بعينها؟ أليس العطش الذي لا يرتوي هو خوفكم من العطش في حين تفيض بئركم بالماء؟
هناك من يعطي القليل من الكثير الذي لديه، ويعطيه طمعًا في الظهور، وهذا تفسد شهوته الخفية عطاءه. وهنالك من يملك القليل لكنه يعطي كل ما يملكه. ذلك شأن المؤمنين بالحياة، وجود الحياة، فخزانات هؤلاء لا تفرغ أبدًا.
وهنالك الذين يعطون، وهم جذلون، فجذلهم ثوابهم.
والذين يعطون وهم يتألمون، فألمهم هو المعموديّة لهم.
وثمة الذين يعطون غير متألمين، وغير آبهين بما يسببه العطاء من جذلٍ، وغير شاعرين أن العطاء فضيلة، أولئك يعطون كما تعطي الريحانة في الوادي عطرها للنسيم. بأيدي أولئك وأمثالهم يتكلم الله، ومن أحداقهم يرسل بسماته إلى الأرض.
حسنٌ أن تعطوا إذا سُئلتم، والأحسن أن تعملوا بوحيٍ من أنفسكم فتعطوا من غير أن تُسألوا.
ومن كان سخي الكف لذته في التفتيش عمن يأخذ منه لا عظم بكثير من لذته في العطاء .
أتضنون بشيء مما تملكون ؟
أليس أنكم ستكرهون في النهاية على التخلي عن كل ما تملكون ؟
إذن بادروا الآن إلى العطاء , كيلا يفوتكم موسم العطاء فيكون من نصيب ورثتكم .
كثيرا ً ما تقولون : إني أود أن أعطي . ولكن المستحقين فقط .
ما هكذا تقول الأشجار في بساتينكم , ولا القطعان في مراعيكم .
بل أنها تعطي لتحيا . إذ أن في إمساكها هلاكها .
حقا ً إن من استحق أيامه ولياليه من يد الحياة لحقيق بكل شيء منكم .
والذي استحق أن يستقي من محيط الحياة لجدير بأن يملأ كأسه من ساقيتكم الصغيرة , وأي استحقاق أعظم من الجرأة والثقة , بل من الكرم , التي تنطوي عليها قبول العطاء من المعطي ؟
وأنت من أنت أيها المعطي حتى يمزق الناس أمامك صدورهم ويهتكوا الحجب التي بها تنحجب كرامتهم , كيما تتبين مقدار استحقاقهم , وكيما تتمثل لديك أنفتهم عريانة حيية . انه حري بك أن تستوثق أولا من انك مستحق أن تعطي , وانك أداة صالحة للعطاء . إنما الحياة هي التي تعطي ذاتها من ذاتها أما انتم الذين تتوهمون أنكم تعطون فلستم في الواقع غير شهود .
وانتم أيها الذين يتقبلون العطايا – وكلكهم يتقبلها – حذار أن يرهقكم عرفان الجميل لءلا يكون عرفانكم نيرا ً ثقيلا ً لكم وللذين تقبلتم عطاياهم بل الأحرى بكم أن تجعلوا من عطايا المعطي أجنحة ترفعكم وإياه إلى الأعالي : لأنكم إذا بالغتم في الشعور بذنبكم للمعطي فكأنكم شككتم إذ ذاك في كرمه وهو الذي أمه على الأرض السخية الفؤاد وأبوه الله .
الدراسة
ظل جبران في شوق إلى قول الكلمة الفصل . ويحاول ذلك في أكثر من كتاب , ولا يطمئن ويرضى , حتى ألف كتاب النبي . وإذا هو يجدد فيه بغيته . وانه جوابه على تساؤلاته غداة أمسه الواله القلق . وتتعدد فيه مجالات كلمته وتكون أشعة تعقب ظلمات . ويأتي الجواب عن سؤال العطاء فيكون النص ...
فن النص ونوعه : هو النثر يشع في صوره , ويغنى في رموزه , فيصفو في نسجه , ويعذب في دفقه في الأصل الانكليزي ثم في الترجمة العربية وما هو يأخذ من صناعة , ولكنه ينهل من حب وحنان . ليكون نثرا ً وجدانيا ً , وما يعتمد النص المعني سجعا ً أو يثقل في عبارته إنما هو يتسلسل ويترسل , وليكون النثر المرسل بل النثر الشعري .
مضمونه : هو العطاء كما وجب أن يكون , من النفس , لا من حطام الملك , وما هو للغد يعد ولكنه فعل اليوم قبل سواه . وهو يكون صافيا ً لذاته لا لغيره . وبالفرح يوجد . وإذا ما صاحب فعله الم فمن اجل أن يطهر وينقي . والمعطون الحقيقيون يعطون وما هم في فعلهم مع الم أو فرح .وما العطاء الأمثل ... إلا الذي لا يجيء به طلب . والكريم السخي هو من شاقه الأخذ منه أكثر من العطاء نفسه . وما من أجل للعطاء . وإلا كان من نصيب الآخرين , وما هو يعني الاختيار , فالطبيعة المعطاء لا تختار . وليس العطاء والأخذ إلا بوجهين لفعل واحد , فيه تتم كينونة الإنسان ويتراءى الله وتسطع حقيقة الحياة والحب الخالد .
ويتميز النص بالمعطيات الفكرية المتنوعة ويحيط من مختلف جوانبه ومنطلقاته وأبعاده , وتبرز فيه الخصائص التالية :
المثالية : ليس العطاء عند الكاتب عملا ً مرضيا ً أو شيئيا ً . إنما هو أن يعطي الإنسان من نفسه ليستوي فعله قيمة أو مثلا ً أعلى . ويعظم عند ذلك ويعز ويكرم . ويستقل العطاء بذاته فلا يأتي معه شيء آخر .(( إنكم تعطون قليلاً عندما تعطون من حطام ما تملكون، أما العطاء الحقيقي فهو أن يُعطي الإنسان من نفسه. وهل الخوف من الحاجة إلا الحاجة بعينها )) .
الجرأة والتجرد : لا يجامل الكاتب في النص أو يرائي . ويعطي حقيقة ما يراه في العطاء , ويحس به , ويجرؤ في كشف أنواع المعطين , ويتجرد في تقديره وتقييمه فيقوى في الرأي والموقف .
(( هناك من يعطي القليل من الكثير الذي لديه , ويعطيه طمعا ً في الظهور , وهذا تفسد شهوته الخفية عطاءه . وهنالك من يملك القليل ولكنه يعطي كل ما يملك .
وهناك الذين يعطون وهم جذلون )) .
الإنسانية الروحانية : يتسامى جبران في معالجته موضوع العطاء فيصل الإنسانية بالروحانية . وتلتقي في العطاء الناسوتية بالإلوهية فتتألق وحدة الحياة والوجود :
((وثمة الذين يعطون غير متألمين، وغير آبهين بما يسببه العطاء من جذلٍ، وغير شاعرين أن العطاء فضيلة، أولئك يعطون كما تعطي الريحانة في الوادي عطرها للنسيم. بأيدي أولئك وأمثالهم يتكلم الله، ومن أحداقهم يرسل بسماته إلى الأرض (( .
الثنائية الوحدانية : وإذا كان للعطاء أن ينفصل في مظهره , أو حركته عن الأخذ , ليعطيا معنى الثنائية فإنما يلتقي العطاء والأخذ في المصدر والجوهر .
وما ذلك سوى الإنسانية الأصلية الواحدة وليكونا معا ً قبسا اللذة السامية : ((ومن كان سخي الكف فلذته في التفتيش عمن يأخذ منه لأعظم بكثير من لذته في العطاء )) .
الواقعية الحتمية : وما هو الخيال ينسجه الكاتب موقفا ً , فمن واقعية يعطي وليكون مع دائرة الإنسان في أيامه في مجال دنياه . حيث يصير كل ذلك إلى انتهاء . فليكن العطاء مع العمر لا بعده . وإلا فما هو يعني في ذلك شيئا ً .
(( أليس أنكم ستكرهون في النهاية على التخلي عن كل ما تملكون ؟ إذن بادروا الآن إلى العطاء , كيلا يفوتكم موسم العطاء فيكون من نصيب ورثتكم )) .
المثالية الطبيعية : جبران كإيليا أبو ماضي وغيره من أدباء المهجر الرومانسيين , يؤمن بمثالية الطبيعة فهي لا تعمل التمييز والمفاضلة في مجال العطاء . وإنها تعطي منطلقة في ذلك مع ذاتها وحسب , وتسطع مثاليتها : (( ما هكذا تقول الأشجار في بساتينكم , ولا القطعان في مراعيكم . بل أنها لتعطي , إذ أن في إمساكها هلاكها )) .
السنية الحياتية : لا يرى الكاتب في العطاء واجبا ً وقيمة , فحسب . بل وحقا ً يجب تأديته إلى الآخرين , وتلك هي سنة الحياة . وشريعة الكون . والوجود الاقوم . ((حقا ً إن من استحق أيامه ولياليه من يد الحياة لحقيق بكل شيء منكم .
والذي استحق أن يستقي من محيط الحياة لجدير بأن يملأ كأسه من ساقيتكم الصغيرة )) .
الترفع الخلقي : العطاء لا يجب أن يكون انحناء أو خضوعا ً وإلا فسد العطاء في أصله وتحول عن معناه وغايته , وأساء إلى حق الإنسان في الكرامة . (( وأنت من أنت أيها المعطي حتى يمزق الناس أمامك صدورهم ويهتكوا الحجب التي بها كرامتهم كيما تتبين مقدار استحقاقهم , وكما تمثل لديك أنفتهم عريانة حيية ؟ )) .
الوحدة الحياتية : وليس لأحد أن يتوهم بأنه هو من يعطي وان سواه يأخذ . ويؤمن الكاتب بوحدانية الحياة والشمولية الواعية القادرة , ويتعامل الوجود مع نفسه في الأخذ والعطاء : (( إنما الحياة هي التي تعطي ذاتها من ذاتها . أما انتم الذين تتوهمون أنكم تعطون فلستم في الواقع غير شهود )) .
الاجتماعية الصوفية : يطرح الكاتب معادلة الأخذ والعطاء , فيتجه ذلك اتجاها ً اجتماعيا ً صوفيا ً , ويتحد عنده من يأخذ مع من يعطي . ويكون انطلاق واحد يسمو وينتهي إلى الله ))(( بل الأحرى بكم أن تجعلوا من عطايا المعطي أجنحة ترفعكم إلى وإياه إلى الأعالي .
لأنكم إذا بالغم في الشعور بدينكم للمعطي فكأنكم شككتم إذ ذاك في كرمه وهو الذي أمه على الأرض السخية الفؤاد وأبوه الله )) .
الأسلوب : لقد كتب النص أصلا ً في اللغة الانكليزية . وإذا هو يرق ويقوى ويعذب في الوقع . ونقل إلى العربية وبقي لأسلوبه حرارته في التسلسل والصورة . ووضحت في تعبيره سهولة الوضوح . وكان لأسلوبه الخصائص التالية :
النهجية الرسولية : يعتمد الكاتب في النص (( النهجية الرسولية )) هذه التي وضحت معالمها في الكتب الدينية المعروفة وبصفة خاصة الإنجيل , إذ تقدم أسئلة وتعقبها أجوبه : (( عندئذ قال له رجل غني : حدثنا عن العطاء ! فأجابه وقال : إنكم تعطون قليلا ً عندما تعطون من حطام ما تملكون ....
المباشرة الجادة : يمضي الكاتب إلى غرضه , مباشرة وبجدية واضحة وينم ذلك عن طيبة وشرف قصد .(( وهل ممتلكاتكم غير الأشياء التي تحتفظون بها وتحرصون عليها ...)) .
تصريح وتوضيح : وما يقود الكاتب رمز ليدق ويغمض , وإنما هو يحاول أن يوضح ويصرح : (( الغد ! وما عسى الغد يحمل إلى الكلب الحذر الذي يدفن العظام في الرمال ..وهل الخوف الذي لا يرتوي هو خوفكم من العطش )) .
تسلسل وتفصيل : يتسلسل التعبير تسلسله الطبيعي ويتفصل معه المجمل ويبرز صفاء وروعة أسر , وينشرح صدر , ويحلو الكلام للنفس إليه ويفعل الصدق الفني فيها فعله , لتحب وتعجب .
(( هناك من يعطي القليل من الكثير الذي لديه ويعطيه طمعا ً في الظهور . وهنالك من يملك القليل ... وهنالك الذين يعطون وهم جذلون ....وثمة الذين يعطون غير متألمين ..)) .
تجنح التعبير : ما هي العادية ينسج منها جبران تعبيره ولكنها الفنية الغنية تمده بالعطاء الخلق , فيتجنح التعبير ويتسع في مداه وشموله . ويظل بسيطا ً وهو يجمع بين الله والإنسان : (( بأيدي أولئك وأمثالهم يتكلم الله , ومن أحداقهم يرسل نسماته إلى الأرض )) .
القوة والرصانة : يرصن التعبير ويقوى في جديته , ويعطي أثره فلا هو يجف في أمره . ويظل له لطفه وعذوبته . (( حسن إذا تعطوا إذا سئلتم , والأحسن أن تعملوا بوحي من أنفسكم فتعطوا من غير أن تسالوا )) .
سهولة وحيوية : يقدر الكاتب في تصوره وتعبيره فيسهل في لفظه وأدائه . ويتدفق حيوية في وصفه فعل الجواد : (( ومن كان سخي الكف فلذاته في التفتيش عمن يأخذ منه لأعظم بكثير من لذته في العطاء )) .
التقريرية : جبران يبلغ في النص كلمته . وهو يوجه ويجذب إليه , ويقرر ما تطلب منه الموقف ذلك . ويمضي في خيال أو يرحب في تصور وإذا هو يستشف الواقع فينقله .. (( أليس أنكم ستكرهون في النهاية على التخلي عن كل ما تملكون )) .
اخضرار وإشراق : لا ينسى جبران مهد صباه . فينهل منه تعبيره وتصويره . وتخضر العبارة كما أنها تقوى وتشرق . (( ما هكذا تقول الأشجار في بساتينكم ولا القطعان في مراعيكم , بل أنها تعطي لتحيا . إذ أن في إمساكها هلاكها )) .
الشمولية اللفظية : يعمق اللفظ في حيويته .. فيشمل . ويتألق بالاستعارة وليكون في مدى تصور الكاتب وخياله .. كقوله : يد الحياة – ومحيط الحياة ..
(( حقا ً أن من استحق أيامه ولياليه من يد الحياة لحقيق بكل شيء منكم . والذي استحق أن يستقي من محيط الحياة لجدير بان يملأ كأسه من ساقيتكم الصغيرة )) .
التبسيط : لم يكن هم الكاتب أن يشبع ذهولا ً إنما هو يريد عطاء فيتبسط ليقرب إلى النفوس , ويستطيع أن يغدق عليها من صفائه : (( وأنت من أنت أيها المعطي حتى يمزق الناس أمامك صدورهم ويهتكوا الحجب التي بها تتحجب كرامتهم فيما تتبين مقدار استحقاقهم . وكيما تتمثل لديك أنفتهم عريانة حيية )) .
دقة وبلاغة : كان للتعبير أن يدق في انكليزية النص . وتسمو بلاغته وذلك في تحدث الكاتب عن شرطية العطاء , وكرم الحياة . وكان لتعبير النص العربي أن يحافظ ما أمكن على تلك الدقة والبلاغة : (( إنما الحياة هي التي تعطي ذاتها من ذاتها . أما انتم الذين تتوهمون أنكم تعطون فلستم في الواقع سوى شهود )) .
تخيل قوي : يقوى الخيال عند الكاتب فينطلق في التصور والتصوير , فشمل أفاقا ويقطع أبعادا بعيدة : (( بل الأحرى بكم أن تجعلوه من عطايا المعطي أجنحة ترفعكم وإياه إلى الأعالي ))







النقد الأدبي في العصر الحديث
(منتصف القرن الثالث عشر الهجري)
(التاسع عشر الميلادي)
مقدمة :
بدأ إحياء النقدي العربي الحديث على يد مجموعة من النقاد أشهرهم الشيخ حسين المرصفي حيث طبقت المقاييس النقدية التي كانت سائدة في القرنين الرابع والخامس الهجريين ثم تقدم النقد الادبي مع تقدم الأدب وبدأت مرحلة تغيير كبيرة على يد عباس محمود العقاد وإابراهيم عبد القادر المازني بكتابهما المشهور (الديوان) ثم واصل النقد الأدبي تقدمه وبلغ في زمننا هذا درجات عالية من النضج وصارت له مناهج كثيرة واتجاهات مختلفة أهمها:
1- اتجاه يعتمدعلى الذوق المدرب والثقافة العربية الخالصة المتأثرة بالقرآن الكريم والحديث النبوي ورائد هذا الاتجاه مصطفى صادق الرافعي.
2- اتجاه يجمع بين الثقافة العربية الاسلامية والثقافة الغربية مع المحافظة على الاصالة العربية ورائد هذا الاتجاه عباس محمود العقاد.
3- اتجاه تطغى عليه الثقافة الغربية ويطبق نقاده مناهج غربية ويعملون على إشاعة مبادئها ومقاييسها الفنية كالواقعية الغربية والواقعية الجديدة والوجودية والبنيوية.
4- اتجاه نقدي إسلامي يهتم بمضمون العمل الأدبي إضافة إلى القيم الفنية هذا الاتجاه يخدم الشخصية الإسلامية وتراثها العريق وينمي الذوق السليم ويتصدى للأعمال الأدبية الهدامة والفلسفات الأخرى المنحرفة ومن نقاد هذا الاتجاه:
محمد قطب وعماد الدين خليل وعبد الرحمن رأفت الباشا وعبد الله الحامد وأبو عبد الرحمن بن عقيل وغيرهم ممن ينحو هذا المنحى



أولا : كتابالديــــــــــــوان للعـــــــــــقاد والمـــــــــــــازني
1-صدر الديوان للعقاد والمازني قبل ما يزيد عن خمسين عاما سنة 1921 وكان آنذاك محررين في جريدتي الأهرام والأخبار
2-وكانا يقدران أن يصدرالديوان في عشرة أجزاء
أ-تخصص الأجزاء الأولى منها للنقد التطبيقي
ب-تفصيل المبادئ الحديثة في الأجزاء الأخرى
3-العقاد والمازني كانا يضطرمان فيما يبدو بالسخط على بعض أدباء الطبقة الأولى آنذاك في الشعر والنثر (شوقي والمنفلوطي)
4-وكانا يريدان أن يحدثا حدثا ضخما في الحياة الأدبية يلفت إليها الأنظار
5- لم يصبرا على استخلاص الموازين وتركيزها
6-هجما على شوقي والمنفلوطي هجوما ضاريا يريدان أن يحطماهما كما تحطم الأصنام
7-الكاتبان انقطعا عند الجزء الثاني من الكتاب
8-استهدفاها في الجزأين تحطيم شوقي والمنفلوطي
9- جمعا إلى زعيمي الشعر والنثر التقليديين آنذاك زميلهما القديم عبد الرحمن شكري الشاعر الناقد المجدد
10- غاية الكتاب تحرير الأدب من رق القديم وتقاليده الطاغية والخروج به إلى مذهب جديد
11-عبرا عن المذهب الجديد الذي يدعوان إليه تعبيرا لا تنقصه حرارة الشباب واندفاعه وثقته بنفسه
12- زعما أن مذهبهما مذهب إنساني لأنه
أ-يترجم عن طبع الإنسان خالصا من تقليد الصناعة المشوهة
ب- ثمرة لقاح القرائح الإنسانية عامة
ج-مظهر الوجدان المشترك بين النفوس قاطبة
13-مصري لأن دعاته مصريون تؤثر فيهم الحياة المصرية
14-عربي لأن لغته العربية
15- زعما أن مذهبهما أتم نهضة أدبية ظهرت في لغة العرب منذ وجدت
16-دعا العقاد من خلال نقده التطبيقي لشعر شوقي إلى مبادئ أساسية :
أولهما: الشاعر في شعره يبين شخصيته ومزاجه الخاص ونظرته إلى الحياة وتفسيره لها
ثانيها :ترابط القصيدة ترابطا عضويا كما تترابط أعضاء الإنسان ل يسمح أن ينقل عضو منها مكان عضو
ثالثها:اكتناه حقائق الحياة في الشعر والتزامها في غير شطط ولا إحالة والغوص في جوهرها
رابعها:أن تكون وظيفة الصورة البيانية ويمثلها التشبيه نقل الأثر النفسي للمشبه من وجدان الشاعر إلى وجدان القارئ لا أن تقف عند حدود الحواس الخارجية .
17-المبادئ التي قررها العقاد تعود إلى
أ-مزاج العقاد
ب-الأساس الفلسفي الذي أقام عليه نظرته إلى الحياة والإنسان
ج-منهجه في فهم الأدب ودراسته وتذوقه
18- العقاد صاحب منهج نفسي في دراسة الأدب وتقوميه
19-المنهج النفسي للعقاد يلخص في كلمتين (الفردية والحرية)
المبادئ الأساسيةالتي دعا إليها العقاد في نقده :
دعاالعقاد من خلال نقده التطبيقي لشعر شوقي الغنائي إلى:
1- الشعر الحقيقي الرفيع هو المترجم عن النفس الإنسانية في أصدق علاقاتها بالطبيعة والحياة والخلود .
2- كلما شارفت فترة من فترات الاضمحلال في الأدب ألفيت تشابها في الأسلوب والموضوع والمشرب وتماثلا في روح الشعر وصياغته
3-القصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته ولا يغني عنه غيره في موضوعه إلا كما تغني الأذن عن العين أو القدم عن الكف أو القلب عن المعدة ومتى طلبت هذه الوحدة العضوية في الشعر فلم تجدها فاعلم انه ألفاظ لا تنطوي على خاطر مطرد أو شعور كامل بالحياة
4- الإحالة هي فساد المعنى وهي ضروب فمنها الاعتساف والشطط ومنها المبالغة ومخالفة الحقائق ومنها الخروج بالفكر عن المعقول أو قلة جدواه وخلو مغزاه
5- الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها وليس مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه وإنما مزيته أن يقول ما هو ويكشف لك عن لبابة وصلة الحياة به والبلاغة المزورة لا تتعلق بالحقائق الجوهرية والمعاني النفسية بل بمشابهات الحس العارضة
6- التشبيه أن يطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان ، فإن الناس جميعا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس وبقوة الشعور وتيقظه وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه لأنه يزيد الحياة حياة كما تزيد الماسة النور نور
8-المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورا حيا ووجدانا تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية نفذت عبرها إلى الرمزية فان
9-العودة بالشعر إلى داخل النفس البشرية ووصله بينابيعها القوية هو الأساس الذي أقامت عليه الرومانسية فلسفتها للعمل الشعري على حين عنيت الكلاسيكية بالعالم الخارجي وأقامت فلسفتها للشعر على أساس من مبدأ المحاكاة
10- الرومانسيون شغلتهم عوالمهم الداخلية فعكفوا عليها يتأملون ويصفون ما يجول فيها من وقع الحياة عليها فمن هنا غلب عليهم شعر الغناء الذاتي الذي برعوا فيه وترجموا فيه عن أنفسهم
11-أصبح الشعر تعبيرا عن النفس وتحول مجال العمل الشعري من خارج النفس إلى داخلها من تخطيط العقل إلى حدس القلب
12-هم الشعر أن يبوح بحقائق النفس الفردية ويصور استجاباتها في حناياها
13-أصبح الشاعر من يملك القدرة على استشفاف ما يعتمل فيها وينفذ إلى أصدق روابطها الخفية بالطبيعة من حولها
14-العملية الشعرية أشبه بالانسياب التلقائي للمشاعر القوية
15-الشعر في نظرية الرومانسيين كما هو في نظر العقاد ذو مضمون نفسي حي يزخر بحقيقة الحياة العاملة فيها وفي الأشياء من حولها وصدق الرؤية الشعرية في أن تخالط الأشياء ونعيها ونعي روابطنا بها وبكل ما يكتنفنا ونترجم عنها فإذا صدقت الرؤية كان لابد أن يمتلئ الشعر بالصدق وأصالة النفس وإنما يقع ذلك في مراحل الغنى الروحي الذي يزدهر به الأدب
16-يشيع التقليد والتشابه في مراحل الضعف والانحطاط على نحو ما يقول العقاد لضعف الرؤية الشعرية بضعف الحياة العامة وتباطؤ أمواجها في ضمائر الشعراء والناس وبهذا يقع الشاعر في قبضة التقليد وعبوديته ويخلع عنه كساءه ويدخل في كساء الآخرين فتنتفي أصالته المسوغ الوحيد لشعره ويخرج شعره من باب الطبيعة إلى باب الصنعة وتصبح صياغة الشعر تزيفا لحقائق النفس والحياة ثم إذا صدقت الرؤية الشعرية انطبعت في الشعر حركة النفس المتسقة المتلاحمة على تموجها وتكسرها أحيانا
17-وحدة القصيدة العضويةتعني عند العقاد: جسم القصيدة الحي ومهما تباعدت الأبيات أحيانا في عين المتأمل بدت قريبة في صلاتها بحركة النفس المتلاحمة واتساق خواطرها المتداعية
18-الشعر هو أدق أجزائنا الداخلية وهو الذي يوسع ويرقق ويهذب ويسمو بوجودنا يزيد الحياة حياة كما تزيد المرأة النور نورا.
نقد النثر التطبيقي
فأما النقد التطبيقي ولعلنا هنا أيضا اقدر على استخلاص بعض المبادئ النقدية منه فقد اخذ فيه على المنفلوطي من خلال نقده التاثري لقصة اليتيم في العبرات وتطبيقا على كلامه في المقدمة التصنع والإفراط في الرقة والأنوثة والتلفيق في الوقائع على ما تشاء له تلفيقات أوهامه ومنكرات أحلامه يقول فيا لله ما لهذا الحانوتي الندابة وللأدب الذي هو حياة الأمم وروحها وباعث القوة فيها ونافث الحرارة في عروقها وحافزها إلى اجل المساعي وان أخوف ما تخاف على هذه الأمة أن تجد هذه الجراثيم ثرى صالحا في نفوسها في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى من يبذر فيها بذور القوة ويد فعها إلى تطلب الحياة العالية ولعمري ما بعد البون بين أدب تميله الحياة المتدفقة وصحة الإدراك وبين كتابة ميتة مملوءة صديدا وبلى شائعا فيها كهذه العبرات والنظرات والسخافات والتلفيقات والنكرات التي لا تعرف لعا مثيلا في كل عصور الدب التي مرت بالأمم قاطبة من ارية وسامية وخطر هذه القصص الكاذبة الصور المستحيلة الوقائع في رأي المازني أنها تحدث الاضطراب في نضوج الإحساسات الطبيعية في نفوس الشبان واخصها الحب بتنبيهها مركز التوليد قبل الأوان وقبل أن يكون الباعث على الحب هو النضوج الجنسي في الفرد وينتقل المازني إلى النظر في أسلوب المنفلوطي فيراه يعالج الإقناع والتأثير بضروب من التأكيد والغلو والتفصيل وغير ذلك مم ليس أدل منه على الكذب والتزوير ويصل من ذلك إلى مبدأ سليم في التعبير الأدبي هو أن كل زيادة في اللفظ لا تفيد زيادة مطلوبة في المعنى وفضلا معقولا ليست سوى هذيان وكل كلمة يستطيع القارئ أن يسقطها بدون خسارة في المعنى أو تعويق لتحدر الإحساسات أو إفقار لغناها كل لفظة يمكن الاستغناء عنها قاتلة للكاتب فان العالم أغنى في باب الأدب من أن يحتمل هذا الحشو ويصبر عليه وليس شيء احق بان يثير عقل العاقل من عدم اكتراث الكاتب لوقته ومجهوده وهذا المبدأ السليم في التعبير ليس جديدا فقد وصل إليه بعض نقادنا القدامى خلال اقتتالهم الطويل من حول اللفظ والمعنى وغلبة احد العنصرين على الآخر وهو رأي ابن جني في الخصائص يبديه في وضوح لا يحتمل التأويل منذ القرن الرابع الهجري ويرى المازني شاهدا على طلب المنفلوطي التأثير عن طريق الافحاش في التأكيد ولعه بالفعول المطلق وتكلفه له لظنه انه من المحسنات اللازمة للعقل وان المباراة بدونه تكون مبتورة والجمل لا يجري فيها النفس إلى آخره دون توقف واعتراض ذهابا في رأي المازني من السبب نفسه وهو خلو صدر المنفلوطي من المعنى وذهنه من الفكرة لان اللغة عنده ليست إلا زينة يعرضها وحلى يخيل بها لا أداة لنقل معنى أو تصوير إحساس أو رسم فكرة ومن أين له أن ينزل اللغة هذه المنزلة وهو لا معنى في صدره ولا فكرة في ذهنه ثم يجاوز المازني هذه الحدود إلى رأي يحتاج إلى نظر فهو يقول بعد كلامه على ولع المنفلوطي بالمفاعيل المطلقة ومعلوم أن الكلام لا قيمة له من اجل حروفه فان الألفاظ كلها سواء من حيث هي ألفاظ وإنما قيمته وفصاحته وبلاغته وتأثيره تكون من التأليف الذي تقع به المزية في معناه لا من اجل جرسه وصداه وإلا لكان ينبغي إلا يكون للجملة من النثر أو البيت من الشعر فضل ممثلا على تفسير المفسر له ومعلوم كذلك أن الألفاظ ليست إلا واسطة للأداء فلا بد أن يكون وراءها شيء وان المرء يرتب المعاني أولا في نفسه ثم يحذو على ترتيبها الألفاظ فان هذا الرأي لا يبعد عن رأي عبد القاهر الجرجاني السديد في دلائل الإعجاز ونظرية النظم فيه إلا من حيث تطرفه في نفي صلة الجرس والصدى بالتركيب نفيا يخلى معه التعبير الأدبي من إحدى خصائصه الهامة الموسيقى وتنزع عنه في الشعر بخاصة خصيصته الرئيسية الفاعلة في النفس وهي الخصيصية التي أقام عليها الرمزيون مذهبهم في الفن وشاهد آخر غير الولوع بالمفاعيل المطلقة يراه المازني دليلا على ضعف المنفلوطي وفقر ذهنه وهو استفاضة النعوت والأحوال في كتابة يرصها واحدا بعد واحد وفي مرجوه أن يوافق واحد منها محله وان يقع في مكانه وإنما كان هذا الإكثار من الصفات من علامات الوهن لان الكاتب الضعيف لا يستطيع أن يتحرى الدقة إذ كان لا يدري أي الرموز اللفظية اكفل بالعبارة التامة عن المعنى المراد فهو من اجل هذا يستعمل اللغة جزاما وبكيل الألفاظ بلا حساب ويصل المازني كلامه هنا بمبدأ عرفه لغويونا القدامى وهو أن الترادف في اللغة من الأكاذيب الشائعة إذ ليس ثم في الحقيقة لفظان يؤديان معنى واحدا على وجه الضبط وما من مترادفين يزعم الزاعمون أنهما سواء في المدلول إلا وبينهما مقدار من الاختلاف قل أو كثر وينهي المازني من هذا إلى مبدأ نقدي سليم في الكتابة هو انه ليست العبرة بتعدد النعوت ولكن بمبلغ اباتها عن المراد وكشفها عن المقصود وإنما الكتابة بحسها الحصافة والتثبت في انتقاء الألفاظ واستشهاد القريحة وسبر النفس وفليها عند تأليفها والمزاوجة بينها وإنما تكون الكتابة هكذا في رأي المازني حين تتضح الغاية للكاتب وتتكون فكرته العامة ويكون له أسلوب خاص يتناول به موضوعه ووجهة نظر ينظر منها إليه وطريقة يتحراها للوصول إليه أي حين يكون متميزا لنفسه ذاهبا إلى الأصول سابرا للحقائق لا واقفا عند المظاهر والقشور فيتميز له حينذاك أسلوب خاص يتناول به موضوعاته ويختار لها تفسيرها العميق الحي وإنما محك القدرة في تصوير حركات الحياة والعاصفة المعقدة لا ظواهر الأشياء وقشورها وفي رسم الانفعالات والحركات النفسية واعتلاج الخوالج الذهنية وما هو سبيل ذلك وينبغي للكاتب عندنا أن يصل في عصرنا إلى هذا المستوى فانا نعيش في رأي المازني في عصر تفكير عميق وعهد قلق عظيم واضطراب كبير وشك مخيف ليس يتسع لهذا المنكرات والشناعات والتلفيقات عصر تعتصر فيه العقول ويستفيد في حيرته مجهود القلوب وقد استولت الظلمة على عوالمنا السياسية والخلقية والعقلية وصارت حياتنا محيطا زاخر العباب يضطرب بنا في عشي ليالينا المتجاوبة بصيحات الشك والظمأ إلى المعرفة والحنين إلى النور وان عهد الظواهر والزيد والقشور قد سقط في هوة الأبد وجاء زمننا الشادي بعلاقة الطبيعة بنفس الآدمي الراكض بمدراكه من ميدان إلى ميدان والمريغ وراء السماء سماء وبعد الآباد آبادا المصيخ إلى صوت اعتلاج موج الزمن المتكسر على صخور ذلك العالم الآخر ويفرغ المازني من نقده ليؤكد انه لا يزعجه أن يؤدي في سبيله لأنه وصاحبه وطنا النفس على الجلد وراضاها على السكون إلى ما تكلفها إياه حداثة العهد بالأدب الحي انطلاقا من فهمهما السليم لوظيفة الناقد التي هي أن يرسم صورة صادقة للكاتب ويقدم وزنا عادلا لآثار مقامه ومظاهر نفسه .

ثانيا: الغربال لميخائيل نعيمة
1-الغربال في الأصل مجموعة من المقالات النقدية كتبها نعيمة في مناسبات متفرقة ونشر قسما منها في بعض المجلات المهجرية وقسما آخر مقدمات لبعض الكتب مثل مقالة الرواية التمثيلية العربية فهي مقدمة مسرحيته الآباء والبنون التي نشرها 1917 ومقالة محور الأدب فهي مقدمة المجموعة التي أصدرتها الرابطة سنة 1921
2-وفي الكتاب مقالات لم يسبق نشرها مثل مقالة الديوان التي حيا فيها نعيمة أعلى راية رفعت آنذاك في تاريخ نقدنا الحديث وجمعت أنصار المدرسة الأدبية الجديدة من كل فج ومثل مقالة الفصول التي امتدح فيها كتاب العقاد الفصول ويغلب على الظن أن تكون المقالة الأخيرة كتبت بعد أن قرر نعيمة أن يدفع بالغربال إلى العقاد ليكتب له مقدمته وان تكون مقالة الدرة الشوقية كتبت بعد أن قرأ نعيمة نقد العقاد لشوقي بدليل تأثره الشديد به
3-وقد أحب كثير ممن عرضوا لحركة النقد العربي الحديث أن يقطعوا في الصلة بين الديوان والغربال فيجعلوا أحداهما صدى للآخر واعتمدوا في ذلك المقالة التي نشرها نعيمة في الغربال عن الديوان
4-الناظر في الكتابين يدرك أنهما رايتان رفعتا في زمن متقارب في مصر والمهجر لتحطيم المقاييس الأدبية القديمة والدعوة إلى مقاييس حديثة في فهم الأدب وتقويمه وقد يسر لهؤلاء الرواد على ما رأينا من قبل أن يخالطوا الثقافة الأجنبية مخالطة يسرت لهم الارتفاع في تفكيرهم وإحساسهم إلى مستوى القضايا الكبيرة التي يحيلها عصرهم
5-انكشف عجز أدبنا عن الوفاء بحاجات الإنسان الذي يريد أن يحيا حياة هذا العصر وأن يتصل به وبدا لهم الفقر الذي نعانيه في حيلتنا العاطفة والفكرية و عجزنا عن الغوص في حياتنا واستخلاص معانيها بتكرار المألوف من القوالب اللفظية والمعاني والتقليد بالاقتباس والسرقة
6-اعترف نعيمة أن فكرنا مغلقا وذوقنا آسنا وإرادتنا الخلاقة مشلولة وكنا لجهلنا وفقرنا ندعو الحجارة الزجاجية ألماسا ونعتبرها اعتبار الألماس ونعد الزوان قمحا والشوك عشبا صالحا ونصغر أكاليل الغار ونضعها على رؤوس من لا أكاليل لهم سوى الشوك فكأننا نبيع الأكاليل كما تباع وتوهب الألقاب في دولتنا العلية ولم يكن هؤلاء المكللون أكثر من حباحب لو اجتمعت كلها لما أشعلت قشة يابسة فانه لا مصابيح عندنا بل حباحب ولا كتاب عندنا بل عندنا كويتبون ولا كتب عندنا بل تجارة كتب ولا شعراء يعبرون عن حاجاتنا بل شعراء غبار الدهور الخالية فوقهم قامات كأنهم ليسوا من أبناء اليوم وكان هؤلاء الرواد يدركون اثر دعوتهم في
7-الذوق والتميز إذا اختلا لم يكن اختلالهما وحده وإن الأمم تختلف في الرقي والصلاحية ثم يرجع اختلافها أجمعها إلى فرق واحد هو الفرق في الحالة النفسية أو بالحري الفرق في صحة الشعور وفي صحة تمييز صحيحة من زيفه إذا عرض عليها فكرا وقولا أو صناعة وعملا
8-الناقد الذي يقدر أن ينتشلنا من خرافات أمسنا وترهات يومنا والذي يصنع لنا اليوم محجة لندركها في الغد هو الرائد الذي سنتبعه والحادي الذي سنسير على حدوده نخلص من هذا أن هؤلاء الرواد لم يكن بعضهم صدى لبعض وإنما كانوا جميعا صدى لواقع أدبي اكتشفوا زيفه فاقبلوا على تصحيح مقاييسه
المقاييس الثابتة التي يجب أن تقاس بها قيمة الأدب:
أحكامه التي اصدرها من بعد في القسم الثاني من الكتاب:
يقول نعيمة إن هناك حاجات روحية مشتركة بين كل الافراد والأممفي كل العصور والأمكنة وهذه الحاجات هي المقاييس الثابتة التي يجب أن تقاس بها قيمة الأدب فتكون قيمته بمقدار مايسد منها وهي في اختصار .
أولا – احاجتنا إلى الإفصاح عن كل ما ينتابنا من العوامل النفسية وكل مايتراوح بين أقصى هذه العوامل وادناها من الانفعالات والتاثيرات
ثانيا – الحقيقة حاجتنا إلى نور نهتدي به في الحياة وليس من نور نهتدي به غير نور الحقيقة حقيقة ما في اتفسنا وحقيقة ما في العلم من حولنا
ثالثا – الجمال حاجتنا إلى الجميل في كل شيء ففي الروح عطش لا ينطفئ إلى الجمال وكل مافيه من مظاهر الجمال
رابعا –حاجتنا إلى الموسيقا ففي الروح سيل عجيب إلى الأصوات والألحان لاندرك كنهه فهي تهتز لقصف الرعد ولخرير الماء ولحفيف الاوراق لكنها تنكمش من الأصوات المتافرة وتانس وتنبسط بماتالف منها
و هذه المقاييس الربعة تاثرية تعتمد دقة إحساس الناقد وفطنته ونفوذه وليس فيها من الموضوعية سوى أنها تحاول أن تحدد تحديدا عاما جوانب النظر في النص الأدبي لعين ذلك على تذوقه ولعل نعيمة لاحظ أن الأذواق ستختلف اختلافا بعيدا في تفسير هذه الحاجات الروحية العامة فقال أنه يقف فيها عند الحدود العامة التي تتفق فيها جميع الأذواق وهذه المقاييس الجديدة التي حاول نعيمة ورجال جيله أن يؤصلوها إنما تنصرف أولا وقبل كل شي ء إلى الشعر بل إلى فن محدد من فنون الشعر هو الشعر الغنائي الذي ورثناه عن أجدادنا العرب وأخذ نقادنا ومفكرونا يفتتلون حوله خلال الربع الأول من هذا القرن بل إلى سنوات بعد ذلك مغفلين فنونا أخرى أخذت تظهر في أدبنا المعاصر مثل فن المسرحية الشعرية وفن القصة والأقصوصة وفن السيرة وفن المقالة فهذه كلها فنون لا نكاد نعثر على آراء فيها وفي نقدها عند نقاد الجيل السابق ومنهج نعيمة النقدي لا يتذوق التجربة الأدبية إلا من خلال تجاربه الروحية الخاصة ولا بفهم كاتبا أو شاعرا الأمن خلال الازمات النفسية الكبيرة التي يعانيها هو نفسه
فقضية اللغة ووقوف نعيمة عند حدود المنهج التاثري على الصورة التي بيناها يجعل من أحكامه التي يقررها أحكاما نسبية فإن قوة الناقد التي رآها نعيمة في ما يبطن به سطوره من الإخلاص في النية والمحبة لمهنته والغيرة على موضوعه ودقة الذوق ورقة الشعور وتيقظ الفكر وما أوتيه بعد ذلك من مقدرة البيان لتنفيذ ما يقوله إلى عقل القارئ وقلبه خليقة إلا تجنب الناقد أحيانا كثيرة الوقوع في أحكام مبشرة أو نصب مقاييس موجهة أو إصدار تقريرات سريعة ينقصها التجرد الموضوعي وتطعيم النظرة الذاتية بنظرة متاثرة بالمقاييس التي تواضع الناس أو فؤيق كبير منهم على سلامتها وجدارتها ولاشك في أن نعيمة مصيب في أن الإنسان يخلق ناقدا بما اودعت الطبيعة في كيانه من هذه الصفات الدقيقة التي يتطلبها عمله في النقد وهو وظيفة من أهم وظائف الحياة ولكن ذلك لا يكفي وإنما ينبغي أن تصقل هذه الماهب وتحمى من الميل والهوى والتعجل وهي أدواء إنسانية كثيرا ما فتكت باحكامنا ومقايسنا
الاحكام التي اصدرها نعيمة في الغربال:
1-حمل نعيمة أعنف حملة على من سماهم الضفادع دعاة المحافظة التقليدية العمياء على اللغة وقتل كل تجديد في أساليبها وطرق التأدية فيها فما يكاد كاتب يخرج على المألوف في التعبير ليشبع بذلك حاجة من حاجات روحه حتى تضج هذه الضفادع بالنقيق كما يقول وتنادى بحماية لغتنا الشريفة التي تسلمناها نقية من الآباء وقطعنا على أنفسنا أن نسلمها طاهرة إلى الأبناء والأحفاد
2-اللغة هي مظهر من مظاهر الحياة لا تخضع إلا لقوانين الحياة فهي تنتقي المناسب وتحتفظ من المناسب بالنسب في كل حالة من حالاتها وكالشجرة تبدل أغصانها اليابسة باغصان خضر وأوراقها الميتة بأوراق حية وحين لا يبقى لها في تربتها من غذاء تموت فروعها وجذوعها تصوير سليم للغة ودورها في الحياة خليق أن ينتهي بنا إلى أتباع المنهج التاريخي في درس مشكلات لغتنا التي ألم بها شلل أوقف فيها حركة الحياة وجعلها بعد عزها السابق جيفة تتغذى بها أقلام الزعانف المستعبدين وقرائح النظامين والمقلدين
3-يجيز نعيمة لكل أديب أن يميت من الألفاظ ما يشاء ويحي ما يشاء ما دام يفصح عن غرضه بدعوى أن اللغة لا تخضع إلا لقوانين الحياة التي تنطبق على الشجرة انطباقها على اللغة فإذا شاء جبران مثلا أن يستعمل في شعره كلمة غير القاموسية بدل استحم القاموسية وجب إلا ننكر ذلك عليه إذ لماذا جاز لبدوي لا أعرفه ولا تعرفونه أن يدخل على لغتكم كلمة استحم ولا يجوز لشاعر أعرفه وتعرفونه أن يجعلها تحمم وانتم تفهمون قصده بل تفهمون تحمم قبل أن تفهموا استحم وما هي الشريعة السرمدية التي تربط ألسنتكم بلسان أعرابي عاش قبلكم بالوف السنين ولا تربطها بلسان شاعر معاصر
4-يعتقد نعيمة بالتطور الذي يشمل مظاهر الحياة كلها و يجب أن يرصد هذا التطور في اللغة رصدا دقبقا وتحدد طرقه حتى لا ينتهي بها إلى الضياع ويجب أن يكون للغة مسلك أصيل يشتق منه الأدباء ما يشاؤون من فروع وكنهم إذا انتهوا أخيرا إليه حتى لا ينقلب كل فرع مساكا جديدا يذهب بللغة أصولها وفروعها
5- سخر نعيمة من عروض الخليل ومن الزحفات بأنواعها سخرية كان الخليل نفسه في بعض المواضع من ضحاياها ثم انتهى إلى أنه لا لأوزان ولا القوافي من ضرورة في الشعر واعتبر أن عروض الخليل كان سببا في تجميد القرائح وتغليب الوزن على الشعر . والعجب أن نعيمة نفسه اقر بان هناك شعراء في تاريخ أدبنا العربي استطاعوا – برغم تقيدهم بقيود العروض الخليلي – أن (( تساور أرواحهم أحلاما من عالم أعلى , حتى كانوا (( أكبر من الخليل ومن عروضه )) ثم لم ينته مع هذا إلى أن الجمود في القرائح العليلة لم يسببه العروض الذي كان يفي بحاجتناإلى الموسيقى , وإنما سببته عوامل كثيرة قد نضطر في بيانها إلى الخوض في مراحل الجمود الفكري والنفسي الذي انتاب تاريخ حضارتنا طويلا ً من الزمن .
6-العروض برأي مندور لم يسيء إلى شعرنا فقط , بل قد أساء إلى أدبنا بنوع عام , فبتقديمه الوزن على الشعر قد جعل الشعر في نظر الجمهور صناعة , إذا أحاط الطالب بكل تفاصيلها أصبح شاعرا ً , وبذاك انصرفت أكثر مواهبنا إلى قرض الشعر ، على أننا يجب أن نقر آخر الأمر ’ بان نعيمة ألقى في بركة حياتنا الأدبية الآسنة آنذاك , حجرا ضخما لم يصل إلى القاع حتى اليوم , بعد نصف قرن من الزمان , بدليل أن الكتاب تتوالى طبعاته , ويعود السبب إلى أن الكاتب بشر , في حدود المنهج الذي وصفناه , بحقائق كبيرة يمكن أن نجعلها في النقط التالية :
1- علينا في النقد أن نفصل بين الأثر وصاحبه , فالناقد لا يغربل الناس وإنما يغربل ( ما يدونه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول )) , فليس النقد إذن ( ضربا من الحرب بين الناقد والمنقود ) .
2- الناقد مبدع ( عندما يرفع النقاب في أثر ينقده عن جوهر لم يهتد إليه أحد ,
3 ـ النقد عند محمد مندور
ويتمثل هذا النقد في كتب ثلاثة بدأ بها محمد مندور حياته النقدية
أولها :( النقد المنهجي عند العرب ) وقد درس فيه تاريخ النقد عند العرب وفضل فيه أصحاب الذوق المستنير مثل الآمدي على أصحاب التقسيمات الشكلية والقواعد البلاغية مثل قدامة بن جعفر والعسكري .
الثاني :كتاب ( في الميزان الجديد ) وهو مجموع مقالات دعى في بعضها الى الأدب المهموس ودافع في بعضها الآخر عن المذهب التأثري وحاول أن يدرس في ضوئه عدداً من المؤلفات الأدبية الحديثة .
الثالث : كتاب ( نماذج بشرية ) حلل فيه نماذج أدبية من خلال تأثره بها كشخصية هامت في مسرحية شكسبير المشهورة بهذا الاسم ويتلاقى في هذا النقد مؤثران قويان أولهما عربي حديث : فقد أعجب مندور بصدق ذوق الآمدى ومنهج عبدالقادر الجرجاني الذي يرى أن العبرة في نظم الألفاظ لا في الألفاظ نفسها وتأثر بطه حسين في ( صبره على فهم النصوص وتذوقها ) وتأثر بنزعة نعيمة الذاتية في كتابه ( الغربال ) وتأثير بالمازني في رهافة إحساسه وسخريته.
أما المأثر الثاني الحاسم فهو نقد النقاد الفرنسيين ولا سيما الناقد التأثري والناقد المشهور ( لا نسون ) الذي ترجم له مندور منهج البحث في الأدب وفيما يلي سنعرض لبعض المبادئ التي دافع عنها مندور نظرياً.
المبادئ النظرية في نقده الجمالي
1ـ غرض النقد :
عرف مندور النقد على أنه فن تمييز (منحى الكاتب العام وطريقته في التأليف والتعبير والتفكير و الإحساس ، فلكل من القاص والشاعر أسلوبه المميز كما أن لكل كاتب أسلوبه الذي يتميز به من غيره من الكتاب مثلاً أن هذا الكاتب أو ذاك مثالي أو واقعي كما يدخل فيه أنه مترسب أو متكلف في طريقة الأداء اللغوي.
الأسلوب بهذا المعنى هو الرجل أو الأديب وغرض النقد إذا هو تمييز الأعمال الأدبية بعضها من بعض وتمييز الأدباء بعضهم من بعض والكشف عن فردية الأديب واستخلاص السمات النفسية والاجتماعية والفنية التي ينفرد بها من خلال مؤلفاته الأدبية وعملية التمييز هذا تتضمن أولاً تفسير الأعمال الأدبية أي تحليلها وعرض خصائصها وتمييز ما يمكن تمييزه منها بعوامل أدبية أو تاريخية أو اجتماعية أو فلسفية مع الإلحاح على عنصر الأصالة للظواهر الفذة الفردية التي لا سبب لها ولا ترد إلى غيرها ويتضمن ثانيا : تقويمها أو تقدير قيمتها والحكم عليها
2ـ منهج النقد : المنهج اللغوي :
يحذر مندور من إقحام مناهج العلوم ونظرياتها على دراسة الأدب إذ العلوم تتناول ظواهر عامة على حين أن الأدب تعبير خاص عن فردية متميزة لا تنضوى تحت قانون علمي وإذا كان للنقد أن يستفيد من العلم فهو يأخذ عنه روحه أي ( الأمانة العقلية والصبر الدؤوب والاستعصاء على التصديق واستقصاء التفاصيل وتدعيم الإحساس بنظريات العقل ) منهج النقد الأدبي يستمد في نظر مندور من الأدب ذاته والأدب صياغة فنية أي ( عبارة جميلة موحية عن موقف إنساني ) وفي هذه الصياغة تتجلى شخصية الكاتب وأصالته وموقفه من الناس والطبيعة والفن وفي طريق الصياغة يتمايز الكتاب ومن تحليل الصياغة ندرك خصائص الكاتب النفسية والفنية . وفي هذا التحليل يتناول الناقد النص كلمة كلمة وجملة جملة وأمام كل جملة يضع مشكلة ويحاول حلها معتمداً على ذوقه الأدبي فهو ينظر إلى الالفاظ وانسجامها الصوتي وتكوينها العاطفي وإلى نظم الألفاظ ودلالتها الفنية والنفسية والى الصورة ووظيفتها وإلى الصفات واستخدامها وإلى الموسيقى في الشعر والإيقاع في النثر .
(نقد الأدب وضع مستمر للمشاكل الجزئية فقد يكون جمالة في تنكر اسم أو نظم جملة أو كبت إحساس أو خلق صورة أو التأليف بين العناصر الموسيقة في اللغة ولقد يخلو الأدب من الكثير من العناصر التي نعدها كالخيال أو العاطفة وما إليها ومع ذلك يروقنا لصياغة)
هذا المنهج هو ما يسميه مندور : المنهج اللغوي . وهو منهج معروف قال به وطبقة عبد القادر الجرجاني في (دلائل الاعجاز ) حيث عني ذلك الناقد الكبير بنقد أساليب اللغة وتراكيبهاأوما سماه (النظم ) كما إن طريقة تدريس الأدب هي الطريقةالموضعية التي تقوم على تفسير النصوص المختارة واستنتاج الخصائص المميزة من الحقائق الملموسة فيها .
ويطبق مندور منهجة اللغوي في دراسته للنصوص المهجرية فيقف عند تفلصيل الأسلوب ويعتمد على ذوقة للإحساس بجمالها والحكم عليها وهو يسوغ هذا الذوق حيناً ويتركه من غير تسويغ حينأ آخر مكتفياً بالتعجب من نغمة الألفاظ أو جمال الصور أو حرارة الوجدان .والذي يخشى من هذا المنهج أن يظل الناقد حبيس النص الذي يدرسه فلا ينظر إلى العلاقة بين هذا النص وبين الواقع الاجتماعي والبيئة والتراث الأدبي وأعمال الأديب الآخرى كما يخشى أن ينصب اهتمام الناقد على الشكل دون المضمون .

النقد التطبيقي :
إن الدراسات التي تمثل النقد الموضوعي تلتزم أسلوباً علمياً محايداً يهدف الى الوصف والتحليل والتعريف والتثقيف أكثر مما يهدف إلى التوجيه وهذه الدراسات تشمل ثلاثة فنون أدبية هي :
آ-المسرح
ب -الشعر المعاصر
ج-النقد العربي المعاصر :
آ – المسرح :
اهتم مندور بالمسرح ناقداً وباحثاً واستاذاً وقد تناولت دراساته أموراً شتى من تاريخ المسرح وقوماته ومذاهبه وبعض كتابه ولم ينثر مندور دروسه عن تاريخ المسرح اليوناني ولكنه تكلم باقتضاب على نشوء المسرح في كنف الدين ثم استقلاله عنه وتفرعه إلى نوعين :
أ-المأساة
ب-والملهاة
واستعراض نهضة المسرح في الغرب وتطوره ومسايرته لنمو الحضارة واقتتال المذاهب الأدبية حوله كالكلاسيكية التي وضعت للفن التمثيلي قواعد صارمة والرومانتيكية التي هدمت تلك القواعد وأشاهت الروح الغنائية في المسرح وكالواقعية التي وطدت دعائم الدراما الحديثة، ويفسر مندور نشوء الدراما بأن الثورة الصناعية والحركية دفعت الشعب إلى مناهضة البرجوازية ولم يكن بد من أن يجارى الأدب التمثيلي هذا التطور الخطير فيحطم تللك التفرقة التقليدية العميقة بين التراجيديا والكوميديا وهنال اتجاهات مسرحية آخرى وضحها مندور توضيح العالم المتمكن من مادته ومنها مسرح اللا معقول ومسرح بريخت الملحمي الذي لا يعتمد على الإثارة العاطفية قدر ما يعتمد على الإقناع العقلي وفي كتابه الأدب وفنونه حدث مندور عن مقومات المسرحية ، فالمسرحية صياغة فنية خاصة بتجربة بشرية وللتجارب البشرية ستة مصادر هي :
( التاريخ والاسطورة والواقع والخيال والتجربة الشخصية والعقل الباطن) ولا تصبح هذه التجارب فناً متميزاً إلا إذا صنفها المؤلف في صورة مسرحية قادرة على إثارة الانفعالات العاطفية والإحساسات الجمالية لخدمة هدف معين فلا بد من العناية بتحديد أبعاد الشخصية النفسية والجسمية والاجتماعية وتأثير بعضها في بعض ولا بد من إبراز عنصر الصراع سواء كان نفسياً أم اجتماعياً في بناء الحكم، أما الحوار الدرامي فيجب أن يكون موضوعيا نابعا من الموقف وموضوعية الحوار وواقعيته لا تتحقق بأن تتكلم الشخصيات بلغة حياتها اليومية بل أن يحدد المؤلف أبعادها بلغة الأدب ولذلك ينصح مندور أن تكتب المسرحيات التاريخية والفكرية والمترجمة باللغة الفصحى ولكنه لا يرى بأساً من أن تكتب المسرحيات الضاحكة باللغة العامية وهو يعتمد أن التطور سيحل مشكلة الازدواج بين العامية والفصحى بأن يقرب أحدهما من الآخرى .
ب _ الشعر المعاصرله:
يمكننا أن نستخلص آرأء محمد مندور عن مقومات الشعر الغنائي وعلاقته بالذاهب الأدبية من كتابيه الأدب ومذاهبه وفن الشعر وعنده أن مقومات الشعر الأساسية هي :( الوجدان والموسيقا والتعبير الشعري ) ،
1-أما الوجدان فإن الرومانسيين قد وضعوا للشعر فلسفته النهائية عند ما قالوا : إن منبع الشعر هو الوجدان الذاتي والحاجة عن التعبير عن ذلك الوجدان وكل التطور الذي حدث هو أن الوجدان قد تحول على أيدي الواقعيين الاشتراكيين من وجدان ذاتي أناني إلى وجدان جماعي غيري يتغنى آلام الشعب ومطامحه لأن وجدان الشاعر سواء أكان من الطبيعة الخارجية أم من ذات نفسه العاطفية أو الفكرية لا بد أن يتخذ في الشعر الغنائي الطابع الوجداني الذي إن فقده فقد جوهره
2-والموسيقا من المقاييس الأساسية التي تميز الشعر من النثر وهي وسيلة أداء تصل إلى التعبير عن مفارقات المعاني وظلالها العاطفية بل ألوانها النفسية التي كثيراً ما تعجز اللغة المنثورة عن استخراجها من باطن النفس وثبتت الدراسة التاريخية تنوع الاشكال الموسيقية بتنوع البيئات والمضامين والأهداف فشعر المناجاة مثلاً (شعر هامس -وشعر المحافل -شعر جهيد النغمات ).
والصورة من أهم وسائل التعبير الشعري وقد أحدث الرمزيون تغييراً كبيراً فيها فصار الشاعر يفضل التعبير بالصورة على التعبير المباشر الصورة التي يكون التشبيه فيها من مجالين حسيين مختلفين

موقفه من الذوق الأدبي :
يرى مندور أن الأساس في كل نقد هو الذوق أو التأثير فنحن لا نستطيع أن ننقد نصاً ما لم نتذوقه وما لم نفرض أنفسنا لتأثيره. والذوق الذي يعنيه مندور ليس ذلك الذوق الفضل القائم على التحكم والتعصب والهوى .وأنما هو ملكة تنمو بالثقافة وترهف وتصفو بالمرانة والممارسة وهو في الحقيقة "راسب من رواسب العقل والشعور " أي أنه يمثل خلاصة تجاربنا ومعارفنا ومشاعرنا التي تجمعت فينا وترسبت وأصبحت جزءاًمنا :
ومن الذوق ما لا يمكن تعليله .فقد يحس الناقد جمال النص الأدبي ولكنه لا يستطيع تحديد الجمال وتفسيره . ومنه ما يعلل بالرجوع إلى أصول التأليف التي نستمدها عادة من كبار الكتاب الذين حكم لهم الدهر بالبقاء . وعندما نعلل تأثراتنا ونسوغها ونقنع الآخرين "بسلامتها وصدقها وشرعيتها " عند ذلك يتحول الذوق أو الاحساس الى معرفة مشروعة لدى الآخرين.
النقد التطبيقي عنده:
آ ـ نقد الاساليب : "فيي الميزان الجديد"
درس مندور أساليب بعض المحدثين وحاول أن يحدد سمة كل أسلوب . فأسلوب أحمد أمين واضح تعليمي لا إيحاء فيه . وأسلوب الزيات تغلب عليه الصنعة المتكلفة" وأسلوب طه حسين سمح تسلم الصفحة منه عند أول قراءة كل ما تملك فلا تشعر بالحاجة إلى إن تعود تستوحيها جديداً.أسلوب واضح الموسيقا يكشف في سهولة عن أصالة فيقلده الكثيرون بوعي منهم وبغير وعي . والميزان الذي يزن به مندور الأسلوب هو قدرته على تمثيل الحياة والإيحاء بها .فهو يهاجم الصنعة والقوالب الجاهزة المستمدة من الذاكرة والموسيقا الظاهرة المفضوحة وهي عناصر تقابل في نظرة تزييف الحياة والنفاق والغرور وهو يدعو إلى أن تتوافر في الأسلوب صفات تنم على مزايا أخلاقية كالتواضع والبساطة الطبيعية أنه يريد تكون :
"الموسيقا دفينة لا تحاكي وأن يكون الإيحاء عن غنى وتركيز لا عن غموض وأن تكون الطبيعة نتيجة لجهد طويل وصناعة مستمرة وتتمثل الإيحاء خاصة في ما سماه مندور ( فتات الحياة )وهو التفاصيل الحسية البسيطة المنتزعة من الواقع القادر على تصوير الجسد النفسي أو الأنساني كقول الشاعر وقد وقف على ديار الأحبة :
أخط وأمحو الخط ثم أعيده بكفي والغربان في الدار وقع
فالخط ومحو الخط من فتات الحياة .
فنقد مندور كما نرى لا يقصر على التقويم بل يعني بتوجيه الأدب والأدباء إلى أنواع معينة من الأساليب يراها أقرب إلى نمط الجمال الذي يأثره .
ب ـ نقد الأعمال الروائية :
ومن نقده لبعض الأعمال الروائية الحديثة مثل مسرحية بجمالين لتوفيق الحكيم ودعاء الكروان لطه حسين ونداء المجهول لمحمود تيمور وهو في نقده لهذه الأعمال قلما يهتم بالتفسير أو بنوع المضمون أو بأعمال المؤلف الآخرى .
ويكاد يكون ميزانه ومقياسه للحكم هو القرب من الحياة ومشاكلتها وخلقها سواء أكان ذلك في تفاصيل الأسلوب أم في تصوير الشخصية أم في الوحدة الكلية ويأخذ على توفيق الحكيم عجزه عن خلق الشخصية الحية ويرى أن شخصية طه حسين تطغى على موضوعيته طغيانا يبعد القصة عن مشاكلة الواقع ويعجب بقدرة تيمور على رسم الشخصيات المتميزة بأسلوب مركز دقيق حافل بفتات الحياة ينبغي أن يكون الأدب في رأى مندور قطعة من الحياة يصاغ منها ولعلة الأدب المهموس خير ما يمثل الحياة
ج ـ نظرية الأدب المهموس :
حلل مندور قصيدة( أخي) لمخائيل نعيمة وقصيدتين لنسيب عريضة ونصاً نثرياً لأمين مشرق وانتهى إلى أن هذه النصوص المهجرية تمتاز بالهمس وقد أتخذ من ذلك الهمس مذهباً دعى إليه وسماه الأدب المهموس والأدب المهموس قبل كل شيء أدب سليم من الروح الخطابية التي غلبت على الشعر التقليدي منذ المتنبي والتي غدت لا تعبر عن قوة في النفس وصدق في الإحساس وإنما هي طنطنة جوفاء ومهارة لفظية لا تختفي ورأها الانفاقاً وتزييقاً للمشاعر ثم أن الأدب المهموس أدب يدل على التواضع والإخلاص غني بمشاعر الأخوة الإنسانية والتأمل الصوفي واللهفة الروحية صادق أعمق الصدق في تصويره للحياة وما فيها من تفاهة ونبل ( إنه أدب انساني روحاني صادق يقيم بينه وبين القارئ صلات من الألفة والتعاطف والناجاة الوجدانية فكأنه الأسرار التي يتهامس بها الناس ) والناس لا يتهامسون إلا بأخص الحقائق وأصدقها أما من حيث طريقة التعبير فالأدب المهموس يتصف بالمجال الذي يتحقق بما في القصيدة من وحدة شعروية ويخلق الجو الشعري المناسب بالتلأم بين موسيقى العبارة والوزن وبين موسيقى الشعور وباختيار اللفظ القادر على نقل شحنة الإحساس وتصوير الحالات النفسية الغامضة ولا يعيب اللفظ أنه مألوف فاللفظ المألوف في أدب المهجر هو الذي يدفع مشاعرنا إلى التداعي لأنه قد تلون بلون نفسنا وتلك الألفة نجدها في الصورة البسيطة المثيرة الموحية . هذا مجمل فكرة مندور ويبدو أن النصوص التي عرضها قد صادفت هوى في نفسه لأنها تمثل نزعتها المثالية آنذاك فجاء تحليله لها على شيء غير قليل من الذاتية .




كتب الشيخ حمزة فتح الله المتوفى سنة 1336 هـ :
مولاي : أما الشوق إلى رؤيتك فشديد وسل فؤادك عن صديق حميم وود صميم , وخلة لا يزيدها تعاقب الملوين وتألق النيرين إلا وثوقا ً في العرى وإحكاما في البناء ونماء في الغراس وتشييدا ً في الدعائم ولا يظنن سيدي أن عدم ازدياري ساحته الشريفة واجتلائي طلعته المنيفة لتقاعس أو تقصير , فإن لي في ذلك معذرة اقتضت التأخير , والسيد أطال الله بقاءه , أجدر من قبل معذرة صديقه وأغضى عن ريث استدعته الضرورة .
وبعد , فرجائي من مقامكم السامي أن لا تكون معذرتي هذه عائقا لكم عن زيارتي فلكم مننا ً طوقتموني ولكم فيها فضل البذاءة وعلى دوام الشكران والسلام .
الفصل الثاني عشر في رسائل التنصل والتبرؤ
كتب أبو الحسن علي بن الرومي المتوفى سنة 284 هـ إلى القاسم بن عبيد الله :
ترفع عن ظلمي إن كنت بريئا ً وتفضل بالعفو أن كنت مسيئا ً . فو الله لأطلب عفو ذنب لم اجنه , والتمس الإقالة مما لا اعرفه , لتزداد تطولا , وازداد تذللا ً وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واش يكيدها . واحرسها بوفائك ممن يحاول إفسادها .
واسأل الله أن يجعل حظي منك بقدر ودي لك . ومحلي من رجائك بحيث استحق منك السلام .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف