الأخبار
بلومبرغ: إسرائيل تطلب المزيد من المركبات القتالية وقذائف الدبابات من الولايات المتحدةانفجارات ضخمة جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب بغدادالإمارات تطلق عملية إغاثة واسعة في ثاني أكبر مدن قطاع غزةوفاة الفنان صلاح السعدني عمدة الدراما المصريةشهداء في عدوان إسرائيلي مستمر على مخيم نور شمس بطولكرمجمهورية بربادوس تعترف رسمياً بدولة فلسطينإسرائيل تبحث عن طوق نجاة لنتنياهو من تهمة ارتكاب جرائم حرب بغزةصحيفة أمريكية: حماس تبحث نقل قيادتها السياسية إلى خارج قطرعشرة شهداء بينهم أطفال في عدة استهدافات بمدينة رفح"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيران
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الأدب الحديث -الجزء الأول بقلم:حسين علي الهنداوي

تاريخ النشر : 2013-12-19
الأدب الحديث -الجزء الأول بقلم:حسين علي الهنداوي
موسوعة تاريخ الأدب والنقد والحكمة لعربية والإسلامية
في العصر الحديث
-1-
المجلد الحادي عشر


حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية





حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية

مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط

ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب





بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المجلد العاشر
الأدب في العصر الحديث – 1916- 1970 م
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين ... وبعد
وقع العرب في نهاية العهد العثماني تحت ظلم وتعسف الأتراك وقهرهم وتسلطهم مما جعلهم يتذمرون من ذلك الظلم الذي عبروا عن رفضه من خلال الثورة العربية الكبرى عام 1916 م – وبتشجيع من الدول الغربية التي كانت تسعى للقضاء على الرجل المريض والتخلص منه ولكنهم وقعوا في فخ السيطرة الاستعمارية الجديدة فكانت اتفاقية سايكس بيكو التي اقتسمت البلاد العربية بين فرنسا وانكلترا وايطاليا وأعطت لليهود وعد بلفور في اغتصاب فلسطين وإعطائها لليهود وفعلا بدأت الثورات العربية على الانكليز والفرنسيين والطليان حيث لم يهنا العرب بتشكيل حكومة وطنية في سورية بزعامة الملك فيصل وكانت الحرب العالمية الأولى والثانية التي طحنت أكثر من 60 مليون لم يشسارك بها العرب ولكن أرضهم ومواردهم كانت مسخرة لا انكلترا وفرنسا ثم ما لبثت معظم الدول العربية أن استقلت وكانت نكبة حزيران 1948 حيث هجر معظم الفلسطينيين إلى البلاد العربية المجاورة وكانت ثورة 1952 في مصر وحرب السويس والوحدة بين سوريا ومصر – 1958 – 1961 م وثورة الثامن من آذار في سوريا وقد نشط الأدب نشاطا متميزا فقد استمرت النهضة العربية التي بدأت نهاية العصر العثماني والتي أنعشت بعد دخول المستعمر الانكليز والفرنسي والايطالي الوطن العربي وتقاسمه واخذ الأدباء يقاومون المستعمر ببنادقهم وأقلامهم وصحا الأدباء العرب على مستعمر مكار مخادع مراوغ واستطاعوا أن يخطوا الطريق الصحيح لشعوبهم وتفتح الفكر القومي العربي بعد نجاح فكرة القوميات في العالم وأن بقي أسير نزعة العروبة التي لم تخرج عن جلدها الإسلامي وكان الشعر هو الفن الرائد في هذه الفترة حيث تقاسم معه منزلة الريادةة فنون القصة – الأقصوصة – الرواية – المسرح – وأصبح أدبنا العربي بنوعية الشعر – النثر يتحدث عن قضايا اجتماعية وسياسة وقومية وإنسانية ووجدانية ونشا ما يسمى بأدب المهجر الذي نشا وترعرع في الأمريكيتين الشمالية والجنوبية بفعل أدباء عرب مغتربين هاجروا من أوطانهم العربية هربا من التسلط التركي وبحثا عن لقمة العيش وبعض الحرية وأسست روابط أدبية الرابطة العلمية – العصبة الاندليسية ونشأت مدارس أدبية ونقدية المدرسة الديوان – جماعة ابولو ونشطت حركة الترجمة وازداد الاتصال بالغرب والشرق الأوروبي وعمت البلاد نهضة ثقافية بفعل التلاحق الأدبي وانتشار الطباعة والصحافة الأدبية وإقامة المهرجانات التي تغذي روح التنافس بين الأدباء وارتقت مكانه الأديب في هذا العهد الذي بدا بعكس السياسي المقاوم الأول لكل مشاريع التقسيم والهيمنة الاستعمارية والذي يذكي بقلمه روح المقاومة والكفاح ضد الشعب المظلوم وقد أخذت فلسطين وقضيتها مساحة كبيرة على خارطة الأدب العربي شعرا وقصة ونثرا ما يسمى بادب القضية الفلسطينية والأدب الملتزم .
وكشف الأدباء في هذه المرحلة زيف الزعماء الوطنيين الذي اخذوا على عاتقهم مهمة تكملة استقلال الوطن اقتصاديا وعمرانيا واجتماعيا ولكنهم لم يفلحوا في ذلك لأنه معظمهم لم يكن جادا في قيادة الحركة الوطنية باتجاه الوحدة الشاملة لأجزاء الوطن العربي بل أن بعضهم بقي مرتبطا بعجلة الاستعمار الغربي ومن ثم الأمريكي بعد نجاح الأمريكان نهاية الحرب العالمية الثانية في قيادة الشعوب الغربية نحو المسيرة الامبريالية وبفعل اللقاح الثقافي مع الغرب ثار الأدباء العرب على أدبهم القديم شكلا ومضمونا وكانت حركة الشعر الحر التي انتهت بتخلي الشعراء عن الوزن والقافية والوصول إلى قصيدة والنص الأدبي الذي يمزج الشعر بالقصة وبالدراما المسرحية وتطورت فنون النثر وكانت الرواية السياسة والاجتماعية والفكرية وأن كان الأدباء قد كبلوا بقيود جديدة في عملية النشر فوضعت الدول العربية أن لم يكن كلها قص الرقيب على المطبوعات في وزارت الأعلام لكل أدب يخالف سياسة الدولة الوطنية حتى ولو كان يعالج مشاكلها الحياتية فابعد بعض الأدباء المعارضين وسجن بعضهم وقتل آخرون وصار الأدب في مرحلة ما بعد الاستقلال تابعا للحاكم يحابيه ويدافع عن مشاريعه ويبرر أخطاءه استثمر العباسيون ثمرات الفتوح الأموية ونعموا بما جنوه من خراج وازداد قهر الناس والسيطرة عليهم بالقوة وأصبحت كلمة الحق عند الكثير مزلقا لمن يتحدث فيها حيث يهان أو يسجن وأصبح الوعظ في القضايا السياسية وقضايا الخلافة من المحرمات لأن الخلافة أصبحت من وجهة نظر العباسيين ارث شرعي اختصوا به ولا يجوز لأحد ما أن ينافسهم عليه ولا أن يتحدث به وامتنع الوعاظ عن وعظ الخلفاء والحكام والولاة إلا ما ندري وتحول الوعظ كما هو في العصر الأموي إلى المجتمع وسلوك الأفراد والقضايا الدينية المتعلقة بالآخرة وأن صار بعض الوعاظ مجالس إلى جانب دور الخلافة يعظ بها العلماء الناس ومنهم زوجات الخليفة كما حصل عند ابن القيم الجوزية صاحب ك




الباب الأول
الحياة العامة في العصر الحديث
الباب الأول
الفصل الأول
الحياة السياسة
تطور مصر منذ الحرب العالمية الأولى
1916 – 1946
بقيت مصر تحت الاحتلال الانكليزي خلال الحرب العالمية الأولى , وقد حكمها في تلك الفترة إضافة إلى الخديوي توفيق بين عامي ( 1879 – 1892 ) م الخديوي عباس حلمي الثاني بين عامي ( 1892 – 1914 ) , ثم تلاه حسين كامل بين عامي ( 1914- 1917 ) م .
أولا ً : ثورة 1919 في مصر :
أسباب الثورة :
فرض الحماية الانكليزية على مصر بعد قيام الحرب العالمية الأولى .
إجراءات انكلترا الجائرة في مصر أثناء الحرب العالمية الأولى , مثل تسخير موارد مصر لخدمة جيش الانكليز , وإجبار المصريين على العمل في المعسكرات الانكليزية , وفرض الأحكام العرفية في البلاد .
إعلان مبادئ الرئيس الأمريكي ولسن التي تضمنت حق الشعوب في تقرير مصيرها
أحداث الثورة :
ألف سعد زغلول أحد زعماء الحركة الوطنية في مصر وفدا ً لمقابلة المندوب السامي البريطاني في مصر , وطلب منه السماح للوفد بالسفر إلى انكلترا للمطالبة باستقلال مصر التي كان يحكمها في تلك الفترة السلطان أحمد فؤاد .
رفضت انكلترا هذا الطلب واعتقلت سعد زغلول مع ثلاثة زعماء آخرين ونفتهم إلى جزيرة مالطا .
ثار الشعب المصري وكثرت المصادمات , وشاركت النساء المصريات لأول مرة في المظاهرات الشعبية , وقد استخدم الانكليز منتهى العنف والشدة من أجل القضاء على الثورة . وعندما فشلت انكلترا أطلقت سراح الثوار والمنفيين , وسمحت بسفر الوفد إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح , ولكن النتيجة كانت دون جدوى .
ثانيا ً : تصريح 28 – شباط عام 1922 م :
اضطرت انكلترا نتيجة لتجدد الثورة واستمرار المقاومة إلى إصدار تصريح 28 شباط عام 1922 م الذي تضمن :
إلغاء الحماية البريطانية على مصر .
إعلان مصر دولة حرة مستقلة .
ثالثا ً : معاهدة عام 1936 م بين مصر وانكلترا :
لم يحقق تصريح 28 شباط عام 1922 م الرغبات الوطنية للشعب المصري , لأن انكلترا تمسكت من خلال التصريح بعدة تحفظات تتعارض مع المصالح الوطنية للشعب المصري .
وفي عام 1936 تم توقيع معاهدة بين مصر وانكلترا نصت على مايلي :
أن تكون مصر دولة مستقلة وذات سيادة .
إنهاء الاحتلال البريطاني لمصر مع بقاء بعض القوات الانكليزية في منطقة قناة السويس إلى أن يصبح الجيش المصري قادرا ً على حماية القناة .
تضع مصر جميع طرق المواصلات تحت تصرف القوات الانكليزية أثناء الحرب
إلغاء الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة في مصر .
بقاء السودان تحت الحكم الثنائي .
رابعا ً :ثورة 23 تموز عام 1952 في مصر :
أسباب الثورة :
سوء أحوال البلاد , وانتشار الفساد أثناء حكم الملك فاروق بين عامي (1936-1952) م في مصر
استمرار وجود القوات الانكليزية في منطقة القناة .
خسارة العرب لحرب فلسطين عام 1948 م .
اتهام القصر بإشعال حريق القاهرة الذي حدث عام 1952 م .
وقائع الثورة :
هذه الأسباب دفعت الضباط الوطنيين إلى تشكيل ( تنظيم الضباط الأحرار ) الذي لعب جمال عبد الناصر دورا ً رئيسيا ً فيه .
أعلن الضباط الأحرار الثورة في 23 تموز عام 1952 م , وأجبروا الملك فاروق على التنازل عن الحكم , ثم ألغوا النظام الملكي وأعلنوا النظام الجمهوري وقد أصبح جمال عبد الناصر رئيسا ً للجمهورية في مصر في الفترة ما بين عامي ( 1956 – 1970 ) .
خامسا ً : أهم أعمال ثورة 23 تموز عام 1952 :
التوقيع على اتفاقية الجلاء مع انكلترا عام 1945 م , وقد تم جلاء القوات الانكليزية عم مصر في حزيران عام 1956 م .
توقيع اتفاقية السودان مع انكلترا عام1953 م .
القيام بإصلاحات واسعة في مجالات التعليم والتأميم والإصلاح الزراعي , وإنشاء المصانع , وبناء السد العالي , وتسليح الجيش المصري .
الإسهام في دعم الثورات وحركات التحرر الشعبية .
محاربة سياسة الأحلاف الاستعمارية مثل حلف بغداد .
تأميم قناة السويس بتاريخ 26 تموز عام 1956 م .
رابعا ً : اتفاقية السودان عام 1953 م :
بعد قيام ثورة 23 تموز عام 1952 م في مصر عملت قيادة الثورة على حل مشكلة السودان , وأجرت مفاوضات مع انكلترا توصلت من خلالها إلى عقد اتفاقية عام 1953 م التي تتضمن :
يمارس السودانيون حق تقرير المصير بعد فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات .
يتولى الحكم في السودان خلال الفترة الانتقالية حاكم عام انكليزي تساعده لجنة خماسية .
تشرف على الانتخابات لجنة دولية .
التأكيد على وحدة أراضي السودان من الشمال إلى الجنوب .
انسحاب القوات المصرية والانكليزية من السودان بعد نهاية الفترة الانتقالية , وكانت نتيجة هذه الاتفاقية أن اختار السودانيون الاستقلال التام بتاريخ 1/1/1956 م , وانضمت السودان إلى جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة .
خامسا ً : مشكلة جنوبي السودان :
عمل الاستعمار الانكليزي على إثارة الفتن في السودان عن طريق تحريض سكان الجنوب على الانفصال عم شمال البلاد , بحجة وجود خلافات دينية وعرقية , مما أدى إلى حصول حرب أهلية طويلة الأمد أهلكت البلاد والعباد , ومما ساعد على حدوث هذه المشكلة تشجيع انكلترا للمبشرين على التدفق إلى جنوب السودان , وكذلك محاولتها منع انتشار الثقافة واللغة العربية في تلك المنطقة
ولا تزال حركات الثورة والتمرد قائمة في جنوب السودان بتشجيع من جميع القوى المعادية للعرب وللوحدة العربية .
سادسا ً : الانقلابات العسكرية في جمهورية السودان :
لقد حصلت عدة انقلابات منذ استقلا السودان عام 1956 م , فهنالك انقلاب إبراهيم عبود , وانقلاب جعفر النميري , وانقلاب عبد الرحمن سوار الذهب ثم انقلاب عمر البشير الذي يتولى رئاسة الجمهورية حاليا ً في السودان .
تطور الصومال وجيبوتي واريتريا
تسمى المنطقة التي توجد فيها الصومال القرن الإفريقي لأنها تشبه القرن وقد حصلت علاقات تجارية واسعة بين سكان الصومال من جهة وسكان شبه الجزيرة العربية من جهة أخرى , كما هاجرت بعض القبائل العربية إلى تلك المنطقة .
وفي القرن التاسع عشر تم احتلال الصومال في عهد الخديوي إسماعيل وأصبحت تلك المنطقة تابعة للحكومة المصرية .
أولا ً الأطماع الاستعمارية في الصومال :
بعد وفاة الزعيم السوداني المهدي تقاسمت الدول الاستعمارية مناطق الصومال فأصبحت كما يلي :
احتلت فرنسا منطقة جيبوتي وأصبح اسمها ( الصومال الفرنسي ) .
احتلت انكلترا الجزء الشمالي من الصومال وسمته ( الصومال الانكليزي ) .
احتلت ايطاليا الجزء الجنوبي من الصومال وسمته ( الصومال الايطالي ) .
قاوم الصوماليون الدول الاستعمارية التي احتلت بلادهم وألحقوا بها خسائر فادحة

تطور سورية بين عامي 1920 – 1927 م
أولا ً : مؤتمر سان ريمو عام 1920 :
أعلنت كل من فرنسا وانكلترا عدم اعترافها بمقررات المؤتمر السوري الصادرة عام 1920 م , وقد اجتمع مجلس الحلفاء الأعلى في مدينة سام ريمو بإيطاليا وعقد مؤتمرا ً قرر فيه :
1- وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي .
2- وضع فلسطين والأردن والعراق تحت الانتداب الانكليزي , مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور في فلسطين .
أثارت هذه القرارات الجائرة مشاعر السوريين الوطنية والقومية , فقامت المظاهرات , وتألفت وزارة دفاع جديدة أصبح يوسف العظمة فيها وزيرا ً للحربية وقد تعهدت هذه الوزارة بالدفاع عن البلاد , وفرضت التجنيد الإجباري وشجعت الثورات ضد الفرنسيين الذين كانوا يحتلون المناطق الغربية من سورية .
ثانيا ً إنذار غورو 14 تموز عام 1920 :
قرر فيصل السفر إلى أوروبا من اجل عرض موضوع بلاده على مؤتمر الصلح , ولكن الجنرال غورو الذي تم تعيينه قائدا ً للجيش الفرنسي في بلاد الشام اعلمه بضرورة البقاء في البلاد بانتظار بعض المطالب التي سوف يقدمها إليه .
وقد وصلت هذه المطالب على شكل إنذار عرف باسم إنذار غورو وهو يتضمن :
1- قبول الانتداب الفرنسي على سورية .
2- قبول التعامل بالعملة الورقية التي أصدرتها فرنسا .
3- تسليم خط حديد رياق حلب للفرنسيين .
4- تسريح الجيش الوطني .
5- إلغاء التجنيد الإجباري .
6- الضرب على أيدي الثوار الوطنيين الذين وقفوا في وجه فرنسا .
وقد أعطيت الحكومة العربية مهلة لقبول الإنذار , وإلا فإن غورو سوف يزحف على دمشق لاحتلالها واحتلال بقية المدن السورية .
قرر فيصل وحكومته قبول الإنذار , واعلم غورو بذلك , وبدأت الحكومة بتنفيذ بعض الشروط , فأوقفت أعمال التجنيد الإجباري , وأخذت بتسريح الجيش . أما الشعب فقد قام بمظاهرات صاخبة احتجاجا ً على قبول الحكومة الإنذار واصطدم بقوى الأمن , كما أصدر المؤتمر السوري قراراً يقضي بعدم شرعية أية حكومة تقبل باسم الشعب إنذار غورو .
ثالثا ً : معركة ميسلون 24 تموز عام 1920 :
أمر الجنرال غورو قواته بالزحف على دمشق بحجة تأخر وصول جواب الحكومة السورية بقبول الإنذار فسارع القائد يوسف العظمة بالذهاب إلى منطقة ميسلون القريبة من دمشق على طريق بيروت ومعه فصائل من الجيش العربي السوري وبعض المتطوعين , وقرر خوض المعركة دفاعا ً عن حرية الوطن وكرامة الأمة العربية المجيدة , وبالرغم من تفوق الفرنسيين في العدد والأسلحة , فقد تصدى لهم أبناء سورية البواسل والحقوا بهم خسائر فادحة من خلال معركة ميسلون الخالدة , التي جرت بتاريخ 24 تموز 1920 م , ولقد قاتل يوسف العظمة ورفاقه بكل شجاعة وبسالة , وقدموا التضحيات الكبيرة دفاعا ً عن وطنهم الغالي , وسقط الكثير من الشهداء في ارض المعركة , وفي طليعتهم القائد العظيم يوسف العظمة الذي خلد التاريخ اسمه مع عظماء التاريخ وتعد معركة ميسلون من المعارك الخالدة في تاريخ سورية , وفي تاريخ الأمة العربية , وهي رمز للنضال والكفاح ضد أعداء الوطن والعروبة .
رابعا ً : سياسة فرنسا الاستعمارية في سورية :
في اليوم التالي لمعركة ميسلون دخل الجنرال غورو إلى سورية , وأعلن إلغاء الحكومة الوطنية , واضطر فيصل لمغادرة البلاد , ولقد عينت فرنسا في سوريا مفوضا ً ساميا ً يتبعه الكثير من الموظفين الفرنسيين الذين يتقاضون رواتب ضخمة , ويسيطرون على مقدرات البلاد .
لاحق الفرنسيون الوطنيين الأحرار , وفرضوا الضرائب الباهظة , كما فرضوا تعليم اللغة الفرنسية في المدارس السورية , وشوهوا تاريخ البلاد . وقد عمدوا إلى تجزئة البلاد إلى دويلات وهي دمشق وحلب واللاذقية وجبل العرب ولواء إسكندرونة . قاوم الشعب العربي في سورية سياسة التجزئة . فاضطرت فرنسا إلى التراجع وأنشأت عام 1922 م دولة اتحادية تضم دمشق وحلب واللاذقية , وبعد ذلك أعلنت عن قيام دولة مؤلفة من دمشق وحلب ولكنها لم تفلح في خداع الشعب وبقيت الثورة مشتعلة في كثير من المناطق .
خامسا ً : الثورات الوطنية :
الثورة في جبال اللاذقية بين عامي 1919 – 1921 م :
قاد هذه الثورة الشيخ صالح العلي وقد بدأت عند نزول الفرنسيين على الساحل السوري وتعاونت مع الحكم الوطني في دمشق , كما اتصلت مع ثورة إبراهيم هنانو , وكلفت الفرنسيين خسائر فادحة في الأرواح والمعدات ولم تتمكن فرنسا من إخماد الثورة إلا بعد أن أرسلت حملة عسكرية كبيرة ارتكبت من خلالها الكثير من أعمال القتل والتشريد .
الثورة في جبل الزاوية بين عامي 1919 – 1921 م :
قاد هذه الثورة إبراهيم هنانو في منطقة جبل الزاوية , وقد سيطر رجال الثورة على ادلب وجسر الشغور وغيرها من المدن وهزموا الفرنسيين في عدة معارك , وكبدوهم خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات , وبعد القضاء على ثورة صالح العلي تفرغ الفرنسيون لمحاربة إبراهيم هنانو ورفاقه , فانسحب إلى حمص ثم التجأ إلى الأردن حيث قدمه الانكليز إلى الفرنسيين الذين قدموه للمحاكمة .
الثورة في الجولان عام 1921 م :
تجلت المقاومة في قرى الجولان بقيام مجموعة من الثوار بالهجوم على موكب الجنرال غورو وكان يرافقه حقي العظم حاكم دولة دمشق , حيث كان غورو في طريقه لزيارة القنيطرة ., والجأ الثوار بعد ذلك إلى الأردن وكان في طليعتهم احمد مريود وادهم خنجر , وكانت النتيجة مقتل المترجم وإصابة حقي العظم بجروح بالغة بالإضافة إلى إصابات أخرى .
الثورة السورية الكبرى بين عامي 1925 – 1927 م :
وهي تعد من أهم الثورات التي خاضها العرب السوريون ضد الاستعمار الفرنسي , وقد شملت كافة المناطق واستمرت حوالي ثلاث سنوات وأثارت الرأي العام العالمي ضد فرنسا وأجبرتها على تغيير مفوضها السامي وكذلك تغيير خطتها في معاملة السوريين وإدارة البلاد .
الأسباب البعيدة للثورة السورية الكبرى :
1- سياسة فرنسا الاستعمارية بالنسبة لملاحقة الأحرار وفرض الضرائب .
2- رغبة الشعب في الحرية والاستقلال .
الأسباب القريبة :
1- نقمة سكان جبل العرب على فصل الجبل عن الوطن الأم سورية .
2- إخضاع الجبل للحكم الفرنسي المباشر .
3- خرق الفرنسيين للعادات والتقاليد العربية .
4- سوء معاملة حاكم الجبل الفرنسي للأهالي .
5- اعتقال بعض زعماء الجبل ونفيهم .
ولقد سبق قيام الثورة إجراء اتصالات بين زعماء الجبل وزعماء دمشق من أجل التحضير للثورة , كما تم تكليف سلطان باشا الأطرش زعيم جبل العرب بقيادتها .
معركة الكفر :
أرسلت فرنسا إلى جبل العرب حملة للإرهاب واعتقال بعض الزعماء فكان أول الصدام الأول مع الثوار الذين يقودهم سلطان باشا الأطرش . وقد أسقط الثوار طائرة فرنسية فأرسلت فرنسا قوة لملاحقتهم اصطدمت مع قوات سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة في موقع الكفر , وبعد حصول معارك ضارية ضرب فيها الثوار المثل الأعلى في الشجاعة الإقدام تمكنوا من الانتصار على أعدائهم , والتجأ من نجا من الفرنسيين إلى قلعة السويداء فحاصرهم الثوار .
معركة المزرعة :
أرسلت فرنسا حملة مزودة بالأسلحة والطائرات لفك الحصار عن قلعة السويداء فاشتبك معها الثوار في معركة حامية في المزرعة غرب مدينة السويداء فهرب الجنود الفرنسيون وتركوا أسلحتهم ومعداتهم , وقتل الكثير منهم , كما جرح قائد الحملة الذي لاذ بالفرار .
وقد تم الاتفاق بين زعماء دمشق وزعماء الجبل على استمرار الثورة في جميع المناطق من أجل تحقيق النصر على المستعمرين الفرنسيين , وتخفيف الضغط عن الجبل .
معركة المسيفرة :
كلفت فرنسا احد قادتها بإخماد الثورة , فاصطدم الثوار بمقدمة القوة الزاحفة في قرية المسيفرة بحوران , وسيطر الثوار على الموقف إلا أن الطائرات حالت بينهم وبين هزيمة الفرنسيين . وقد وصلت القوة الفرنسية الرئيسية إلى مدينة السويداء , وتمكنت من رفع الحصار عن الفرنسيين الموجودين في القلعة , وبدأت الأوضاع تميل إلى الهدوء في تلك المنطقة .
معركة الزور الأولى وضرب دمشق بالمدافع والطائرات :
عندما كان أبناء الجبل العرب يقاتلون الفرنسيين, كان الثوار الوطنيون في دمشق يقاتلون الفرنسيين في الغوطة من اجل تخفيف الضغط عن الجبل , وقد انتصروا عليهم في معركة الزور الأولى وامتدت الثورة إلى مدينة حماة .
قرر الثوار إنقاذ دمشق من الفرنسيين , فدخلوا إليها وأيدهم أبناء الأحياء الشعبية وهاجموا قصر العظم , وكادوا يلقون القبض على المندوب السامي الفرنسي وأركان حربه , ولكنه هرب إلى بيروت بعد أن أمر بضرب دمشق بالمدافع والطائرات , فشبت الحرائق وهدمت الدور والأسواق , ولم يتوقف القصف إلا بعد أن فرض الفرنسيون على أهالي دمشق غرامات باهظة .
معركة الزور الثانية :
تابع الثوار معاركهم في الغوطة , حيث حصلت معركة الزور الثانية التي برز من خلالها ثوار مشهورون مثل حسن الخراط ومحمد الاشمر الذين بذلوا دماءهم رخيصة من اجل حصول وطنهم على الوحدة والاستقلال .
امتدت الثورة إلى بعلبك والبقاع وحاصبيا , وشددت فرنسا قضتها على الثوار , فالتجأ بعضهم إلى البلاد المجاورة , وانتهت الثورة بع دان ضرب رجالها أروع الأمثلة في التضحية والبطولة والفداء .
تطور سوريا بين عامي 1927 – 1946 م
أولا ً : السياسة الفرنسية الجديدة ونشوء الكتلة الوطنية :
اضطرت فرنسا إثر الثورة السورية الكبرى إلى تعديل سياستها فعمدت إلى تغيير مندوبها السامي , وسلوك طريق المفاوضات والوقوف على مطالب الشعب السوري . وقد ألف المندوب السامي الجديد حكومة مؤقتة مهمتها الإشراف على إجراء انتخابات لجمعية تأسيسية تضع دستورا ً للبلاد . تنبثق عنه حكومة تفاوض الفرنسيين وتعقد معاهدة تنهي الانتداب .
نجح الوطنيون في الانتخابات بأكثرية ساحقة , وأطلقوا على أنفسهم اسم ( الكتلة الوطنية ) اجتمعت الجمعية التأسيسية ووضعت دستورا ً للبلاد عام 1928 م نص على أن سورية لا تتجزأ إلا أن فرنسا رفضته لأنه يتجاهل الانتداب ويسعى لتحقيق الأماني الوطنية في الاستقلال والوحدة .
أصرت الجمعية التأسيسية على موقفها فعطل المندوب اجتماعاتها ثم اصدر الدستور بعد أن أضاف إليه المادة 116 التي تنص على إيقاف تنفيذ مواد الدستور التي تمس صلاحيات الدولة المنتدبة والتزاماتها فهاج الشعب وأضربت البلاد وفي عم 1931 م جرت انتخابات لمجلس نيابي جديد تدخل فيها الفرنسيون , ورافقتها إضرابات دامية في بعض المدن السورية .
ثانيا ً : إعلان النظام الجمهوري والإضراب الستيني :
اجتمع المجلس النيابي في حزيران عام 1932 م وأعلن النظام الجمهوري وانتخب محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية . ولكن جميع المحاولات لعقد معاهدة مع فرنسا تحدد العلاقات معها باءت بالفشل بسبب معارضة الشعب والمجلس لأية معاهدة لا تحقق وحدة البلاد . ونتيجة لذلك عطل الفرنسيون المجلس واخضعوا البلاد للحكم المباشر , فحدثت اضطرابات دامية ومظاهرات وإضرابات عام 1936 م عمت المدن جميعها شاركت فيها النساء واستمرت في دمشق ستين يوما ً وسميت الإضراب الستيني .
وقد فشلت جميع التدابير التي اتخذتها السلطات الفرنسية لإنهاء الإضراب فاضطرت إلى تغيير سياستها والقبول بتأليف وفد سوري يفاوض للوصول إلى معاهدة .
تألف الوفد برئاسة هاشم الأتاسي وسافر إلى باريس وتوصل من خلال المفاوضات إلى عقد مشروع معاهدة بين سورية وفرنسا عام 1936 م.
ثالثا ً : بنود مشروع معاهدة عام 1936 م :
استقلال سورية استقلالً تاما ً .
يسود بين سورية وفرنسا سلم وصداقة دائمان , وتتشاوران في الشؤون الخارجية .
يتم نقل جميع الالتزامات الدولية التي أبرمتها فرنسا باسم سوريا إلى الحكومة السورية
تتساعد الدولتان أثناء الحرب وتكون مساعدة سورية عن طريق تقديم التسهيلات في اراضيها وطرق مواصلاتها لفرنسا .
تقع مسؤولية حفظ النظام والأمن داخل سورية على كاهل الحكومة السورية .
مدة المعاهدة 25 سنة تبدأ بدخول سورية عصبة الأمم المتحدة مع تحديد فترة انتقالية مدتها 3 سنوات .
تضمنت المعاهدة أيضا ً حق فرنسا في إقامة قاعدتين جويتين هلال مدة المعاهدة وفي ابقاء قواتها لمدة لا تتجاوز الخمس سنوات في مناطق معينة من سورية .
رابعا ً : الحكم الوطني :
استقبل الوفد السوري العائد من باريس استقبالا ً حماسيا ً وجرى انتخاب مجلس نيابي يصادق على مشروع المعاهدة , وقد نجح الوطنيون في هذه الانتخابات وانتخب هاشم الاتاسي رئيسا ً للجمهورية , وتألفت حكومة وطنية صادقت على مشروع المعاهدة وأخذت تتابع المفاوضات وتستعد لاستلام الصلاحيات .
إلا أن فرنسا لم تكن صادقة في نواياها وبدأت تتلكأ في التصديق على مشروع المعاهدة وتقيم العراقيل في وجه الحكم الوطني وتثير الاضطرابات وتتأخر في تسليم الصلاحيات للحكومة السورية .
خامسا: قضية لواء الاسكندرونة :
وأخيرا ً أعلنت عزوفها عن المعاهدة وعودتها إلى نظام الانتداب .
طالبت تركيا بلواء اسكندرونة بحجة أن أكثرية السكان من الأتراك وقد شجعتها فرنسا على ذلك لأنها كانت ترغب في كسب تركيا إلى صفوف الحلفاء في حالة قيام الحرب العالمية الثانية .
رفعت القضية إلى عصبة الأمم التي أرسلت لجنة دولية لإجراء استفتاء للتعرف على رغبات السكان , فقررت عصبة الأمم فصل لواء الاسكندرونة عن سورية ومنحه حكما ً ذاتيا ً على أن يبقى في علاقاته الخارجية مرتبطا ً بسورية وان تكون اللغتان العربية والتركية رسميتين فيه وقد قوبل قرار عصبة الأمم بالاستنكار الشديد والمقاومة العنيفة من عرب اللواء . وقامت فيه حركة مقاومة عربية منظمة حازت كل تقدير .
وعلى الرغم من أن الاستفتاء جرى تحت حراب الفرنسيين فقد جاءت نتيجته لصالح العرب , لكن فرنسا إمعانا ً منها في التآمر تخلت عن اللواء نهائيا ً في 23 حزيران عام 1939 م وسحبت جيوشها لتحل محلها جيوش الأتراك , مخالفة بذلك صك الانتداب , الذي ينص على المحافظة على ارض الدولة التي انتدبت عليها .
سادسا ً : سورية أثناء الحرب العالمية الثانية :
خضعت سورية أثناء الحرب للحكم العسكري الفرنسي , وعانت من الضغط والغلاء وويلات الحرب وفي عام 1940 خضعت سورية لحكومة فيشي الموالية لألمانية مما أثار مخاوف انكلترا فقررت انتزاعها من أيدي الفيشيين بالاتفاق مع حكومة فرنسا الحرة التي يرأسها الجنرال ديغول والمناهضة لألمانيا وقد تم ذلك عام 1941 م أما حكومة فيشي الفرنسية لألمانية فقد كانت برئاسة المارشال بيتان ومقرها مدينة فيشي الفرنسية .
أعلن مندوب فرنسا الحرة عند دخوله إلى سورية استقلال سورية ولبنان وإلغاء الانتداب الفرنسي عنهما فطالب الشعب بإعادة الحياة الدستورية الصحيحة , وتأليف حكومة وطنية في سورية .
أجريت الانتخابات وفاز فيها الوطنيون فوزا ً جماعيا ً وتم تشكيل وزارة وطنية ساهمت بتأسيس جامعة الدول العربية ووقعت على ميثاق هيئة الأمم المتحدة .
سابعا ً :العدوان الفرنسي على سورية 29 أيار 1945 م :
أخذت فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تماطل في تسليم الصلاحيات إلى الحكومة السورية , ثم اشترطت أن تحصل مقابل ذلك على امتيازات ثقافية واقتصادية وعسكرية وقدمت هذه الشروط في مذكرة أرسلت إلى كل من الحكومتين السورية واللبنانية عام 1945 م .
رفضت الحكومتان المذكرة بعد اجتماع عقد بينهما في شتورا مما أثار غضب فرنسا التي حاولت القضاء على الحركة الوطنية قبل أن يشتد ساعدها فقامت بتوزيع السلاح على الجاليات الأجنبية وإنزال الدبابات إلى الشوارع وهاجم الفرنسيون مبنى المجلس النيابي السوري وقتلوا حاميته وقصفوا دمشق والمدن السورية الأخرى بوحشية بالغة والحقوا بها أضرارا ً جسيمة .
أثار هذا الاعتداء غضب الرأي العام العالمي والعربي واتخذت الجامعة العربية عدة قرارات لدعم موقف الشعب في سورية ثم عرض الموضوع على مجلس الأمن الدولي الذي قرر جلاء القوات الفرنسية عن سورية , وتم ذلك بالفعل واحتفلت سورية بعيد الجلاء في 17 نيسان عام 1946 م .
أولا ً : تطور لبنان ما بين عامي 1920 – 1936 م:
تم فرض الانتداب الفرنسي على لبنان من قبل مؤتمر سان ريمو المنعقد في ايطاليا عام 1920 م .
في عام 1920 اصدر الجنرال غورو قرارا ً ينص على إيجاد دولة جديدة في بلاد الشام اسمها لبنان الكبير .
ظل لبنان يحكم بشكل مباشر من قبل فرنسا حتى عام 1926 م , حيث أعلنت فرنسا النظام الجمهوري , وبقيت هي التي تعين رئيس الجمهورية وتعدل الدستور وفقا ً لأهوائها .
وفي عام 1936 م عقدت فرنسا مع لبنان معاهدة مماثلة لمعاهدة 1936 مع سورية ولكنها لم تنفذها معها مثلما هو الحال بالنسبة للمعاهدة مع سورية .
ثانيا ً تطور لبنان منذ الحرب العالمية الثانية حتى الاستقلال :
أعلن مندوب حكومة فرنسا الحرة عند دخول قواتها لبنان عام 1941 م استقلال لبنان , وجرت في تلك الفترة انتخابات عامة تشكلت على أثرها حكومة وطنية برئاسة رياض الصلح , وتم انتخاب بشارة الخوري رئيسا ً للجمهورية .
قدم رياض الصلح إلى المجلس النيابي برنامج عمل حكومته الذي تتضمن :
أ- تعديل الدستور .
ب- جعل التشريع من حق المجلس النيابي وحده
ج – جعل اللغة العربية الرسمية الوحيدة في لبنان .
اجتمع بعض أعضاء الحكومة الذين نجوا من الاعتقال في قرية بشامون , وأعلنوا أنهم يمثلون الحكومة الشرعية , ودعوا الناس إلى العصيان المدني , فقامت المظاهرات العنيفة وسقط عدد من القتلى نتيجة الاصطدامات التي جرت مع رجال الأمن , وتضامن العرب مع إخوانهم في لبنان , كما أحدثت الاصطدامات ضجة كبيرة في العالم مما اضطر فرنسا إلى التراجع عن موقفها , فأعادت الحكومة الشرعية إلى الحكم بتاريخ 22 تشرين الثاني 1943 م , ويعد هذا اليوم العيد الوطني للبنان الذي تابع نضاله حتى حصل على استقلاله التام بتاريخ 31 كانون الأول عام 1946 م.
أولا ً : نشوء إمارة شرقي الأردن :
في تلك الفترة ظهر في معان جنوبي الأردن الأمير عبد الله بن الحسين على رأس جيش مناديا ً بالثأر لأخيه فيصل , ومهاجمة الفرنسيين في سوريا .
تخوفت انكلترا من إثارة المشاكل مع فرنسا فاستدعى تشرشل وزير المستعمرات البريطاني الأمير عبد الله بن الحسين إلى القدس عام 1921 م واتفق معه على ما يلي :
أ- إقامة إمارة عربية شرقي الأردن بزعامته .
ب- تكون هذه الإمارة مستقلة إداريا ً ومرتبطة بالمندوب البريطاني في فلسطين .
ج- تقدم بريطانيا إعانة مالية للأمير عبد الله .
وفي عام 1923 اعترفت بريطانيا رسميا ً بهذه الإمارة , وضمت إليها معان والعقبة باحتفال رسمي عام 1925 م .
ثانيا ً : معاهدة عام 1928 م :
عقدت انكلترا معاهدة مع الأردن عام 1928 م وكان من ابرز بنودها :
احتفاظ بريطانيا بالسياسة لخارجية للأردن .
ربط قوانين البلاد بتعهدات الانتداب .
مشاورة الأمير عبد الله لبريطانيا في جميع الأمور .
بقاء القوات البريطانية في الأردن دون قيود .
ثالثا ً : دستور عام 1928 م :
فرضت انكلترا على الأردن دستورا ً عام 1928 م يعطي لانكلترا سلطات واسعة ويمنح الأمير حق السيطرة على الشؤون التشريعية والإدارية أما بالنسبة لموقف الشعب الأردني من المعاهدة والدستور , فقد عقد الزعماء الأردنيون مؤتمرا ً وطنيا ً عام 1928 وقرروا فيه :
رفض الانتداب البريطاني .
عدم الاعتراف بالمعاهدة والدستور .
وفي مقابل ذلك فرضت انكلترا رقابة شديدة على المقاومة و الحركات الوطنية وبقي الأردن كذلك حتى قيام الحرب العالمية الثانية .
تطور الأردن منذ الحرب العالمية الثانية
وضع الأمير عبد الله الجيش الأردني تحت تصرف انكلترا أثناء الحرب العالمية الثانية , وقد ساءت الأوضاع في الأردن بسبب ظروف الحرب .
أولا ً : الأردن من الإمارة إلى المملكة :
عقدت انكلترا معاهدة 1946 م مع الأردن التي تتضمن ما يلي :
إنهاء الانتداب البريطاني على الأردن .
جعل الأردن مملكة مستقلة اسمها ( المملكة الأردنية الهاشمية ) وعلى رأسها الملك عبد الله
السماح لبريطانيا ببقاء قواتها في الأردن .
احتفاظ الملك عبد الله بالمعونات البريطانية .
وقد انضم الأردن بعد ذلك إلى جامعة الدول العربية .
وفي عام 1948 تم التوقيع على معاهدة جديدة حددت مواقع القوات البريطانية في الأردن .
ثانيا ً : سياسة الملك عبد الله وابنه طلال :
وقف الملك عبد الله إلى جانب بريطانيا , وأصبح حليفا ً لها ووافق على مشاريعها شريطة أن تكون بزعامته مثل مشروع الهلال الخصيب .
تسلم لملك عبد الله قيادة الجيوش العربية التي دخلت فلسطين عام 1948 م والتي كانت نتيجتها إلحاق الضفة الغربية من فلسطين بالأردن .
تم اغتيال الملك عبد الله في مدينة القدس عام 1951 م , وخلفه في الحكم ابنه طلال الذي حكم الأردن ما بين عامي 1951 – 1952 م ثم تم عزله من الحكم لان بريطانيا لم تكن راضية عن سياسته في المجالات المختلفة .
ثالثا ً : الأردن في عهد الملك حسين :
كان حسين صغير السن عندما تم عزل الملك طلال , ولذلك تم تشكيل مجلس وصاية له إلى أن استلم الحكم عام 1953 م .
ساهم الملك حسين في إقامة الاتحاد الهاشمي مع العراق عام 1958 م , وبقيادة ثورة 14 تموز عام 1958م في العراق انتهى الاتحاد .
وفي الخامس من حزيران عام 1967 م حصل العدوان الإسرائيلي على مصر وسورية والأردن , فاحتلت إسرائيل الضفة الغربية وفصلتها عن الأردن .
وقد توفي الملك حسين بتاريخ 7/2/1999 م وخلفه في الحكم ابنه عبد الله الثاني الذي يتميز عهده بإقامة علاقات وثيقة مع الأقطار العربية كافة .
القضية الفلسطينية
تطور القضية الفلسطينية حتى قيام الحرب العالمية الثانية ( 1 )
أولا ً : التدخل الأجنبي في فلسطين :
لقد استمرت فلسطين جزءا ً من الوطن العربي منذ تحريرها من قبل العرب المسلمين وطرد الروم منها في عصر الخلفاء الراشدين , واستمر ذلك حتى أوائل القرن العشرين علما ً بان أقدم شعب سكنها هم الكنعانيون الذين قدموا من شبه جزيرة العرب واستوطنوا في فلسطين , ولذلك فان العرب هم سكان فلسطين الأصليون وهم الذين نشروا الحضارة والعمران فيها , وهم أصحاب الحق فيها منذ آلاف السنين .
وفي أواخر القرن التاسع عشر بدأت الأطماع الاستعمارية الصهيونية في فلسطين , وكانت الغاية منها انتزاع فلسطين من أيدي العرب وإقامة دولة يهودية فيها علما ً بأن الصهيونية حركة سياسية عنصرية استعمارية سخرت الدين اليهودي لتحقيق أهدافها التوسعية القائمة على أساس جمع يهود العالم وإقامة دولة إسرائيل على ارض فلسطين العربية .
ومن خلال اتفاقية سايكس بيكو الموقعة عام 1916 م بين انكلترا وفرنسا والتي كان الهدف منها اقتسام البلاد العربية أصبحت فلسطين منطقة دولية .
وبعد احتلال الانكليز لفلسطين ودخولها إلى مدينة القدس أصدرت في 2 تشرين الثاني 1917 وعد بلفور الذي يتضمن وعدا ً بتأسيس وطن قومي لليهود , وذلك من خلال رسالة وجهها بلفور وزير خارجية انكلترا إلى اللورد روتشيلد وهو احد زعماء اليهود الصهاينة .
ومن خلال مؤتمر سان ريمو الذي انعقد عام 1920 م أصبحت فلسطين تحت الانتداب الانكليزي , مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور .
ثانيا ً فلسطين في ظل الانتداب البريطاني :
عينت بريطانيا اليهودي البريطاني هربرت صموئيل مندوبا ً ساميا ً لها في فلسطين ليوظف إمكانات بريطانيا من اجل تنفيذ وعد بلفور لمصلحة اليهود فعد إلى :
تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين .
تسهيل انتقال الأراضي العربية للصهاينة .
السماح لليهود بإقامة الوكالة اليهودية التي كانت أشبه بدولة ضمن دولة .
التعاون مع الوكالة اليهودية من اجل إنشاء المستوطنات وفتح المدارس , وأمام ازدياد عدد اليهود الصهاينة ي فلسطين وامتلاكهم أخصب الأراضي وازدياد نفوذهم قامت الثورات العربية في فلسطين احتجاجا ً على الانتداب البريطاني وعلى الوجود الصهيوني الذي أصبح يشكل خطرا ً كبيرا ً على عروبة فلسطين .
أما الكتاب الأبيض الأول فقد صدر عام 1921 م حيث أعلنت بريطانيا فيه أن تمسكها بوعد بلفور لا يعني تحويل فلسطين بكاملها إلى دولة يهودية صهيونية .
ثالثا ً : الثورات الفلسطينية :
ثورة عام 1929 م :
أسبابها :
1- اعتداء الصهاينة على حائط البراق الشريف .
2- استياء العرب من الخطابات المعادية لهم في مؤتمر زوريخ الصهيوني بسويسرا
أهم أحداثها :
جرت اشتباكات دامية بين العرب واليهود , قدم فيها العرب الكثير من الشهداء , وكبدوا عدوهم خسائر فادحة بالرغم من انحياز بريطانية لليهود الصهاينة .
وبسبب تفاقم الوضع في فلسطين أرسلت بريطانيا لجنتي تحقيق ثم أصدرت الكتاب الأبيض الثاني عام 1930 الذي يتضمن :
أ- مراعاة بريطانيا أن تكون هجرة اليهود الصهاينة منسجمة مع قابلية البلاد للاستيعاب .
ب- مراقبة بريطانية انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود .
إلا أن بريطانيا تراجعت عن كتابها الأبيض الثاني بسبب ضغط اليهود الصهاينة عليها , ثم أصدرت بيانا ً تركت فيه باب الهجرة مفتوحا ً فسماه العرب بالكتاب الأسود .
2 – ثورة عام 1936 م ( الثورة الفلسطينية الكبرى ) :
أسبابها :
تزايد تدفق الهجرة اليهودية إلى فلسطين وانتقال الأراضي لليهود .
اكتشاف أسلحة مهربة من أوروبا لليهود الصهاينة .
أهميتها :
تعد ثورة 1936 م في فلسطين ثورة قومية وشعبية بسبب ما يلي :
مشاركة الشعب العربي الفلسطيني كله فيها . وقد لعبت المرأة دورا ً هاما ً في هذه الثورة .
مساهمة المتطوعين العرب من الأقطار العربية المختلفة في محاربة البريطانيين واليهود الصهاينة .
أحداثها :
أشعل هذه الثورة المجاهد عز الدين القسام وهو مواطن عربي سوري من مدينة جبلة كان يعمل خطيبا ً في الجامع الكبير في حيفا , كما كان من أوائل شهداء هذه الثورة
هاجم الثوار الثكنات البريطانية والمستعمرات اليهودية الصهيونية وكبدوهم خسائر فادحة .
استمرت الثورة لمدة ستة أشهر , ثم توقفت نتيجة لنداء الزعماء العرب الذين اقترحوا من خلاله إجراء مفاوضات مع الحكومة البريطانية .
رابعا ً : لجنة بيل وتوصياتها :
أوفدت بريطانيا لجنة برئاسة بيل للتحقيق بشأن ثورة 1936 م فأوصت اللجنة بما يلي :
تحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين .
وقف انتقال الأراضي إلى اليهود الصهاينة .
تقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق وهي :
أ- منطقة يهودية تشمل الأراضي الخصبة والأراضي الساحلية الممتدة حتى يافا .
ب- منطقة انتداب بريطاني تشمل الأراضي المقدسة .
ج- منطقة عربية تشمل ما تبقى من فلسطين .
رفض العرب هذا المشروع وعادت الثورة من جديد , وفي عام 1939 م أصدرت انكلترا الكتاب الأبيض الثالث الذي رفضه العرب واليهود الصهاينة , ثم توقفت المفاوضات بسبب قيام الحرب العالمية الثانية .
القضية الفلسطينية
تطور القضية الفلسطينية منذ الحرب العالمية الثانية ( 2 )
أولا ً : وضع فلسطين أثناء الحرب العالمية الثانية :
ازداد تدفق اليهود الصهاينة على فلسطين وزادوا من تسلحهم , وشكلوا المنظمات الإرهابية التي مارست الأعمال العدوانية ضد العرب .
وقد حول اليهود الصهاينة نشاطهم السياسي من انكلترا إلى الولايات المتحدة لأنها أصبحت أقوى دولة استعمارية بعد الحرب العالمية الثانية .
ثانيا ً : مشروع تقسيم فلسطين عام 1947 م :
في عام 1946 م وصلت لجنة بريطانية أمريكية لدراسة القضية الفلسطينية أوصت بمايلي
أ- إبقاء فلسطين تحت الانتداب البريطاني .
ب- إدخال مئة ألف يهودي صهيوني إلى فلسطين .
ج- رفع القيود عن موضوع انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود الصهاينة وقد رفض العرب هذه التوصيات لأنها تتيح المجال لأعداد كبيرة من اليهود الصهاينة للهجرة إلى فلسطين , كما رفضها اليهود الصهاينة لأنها لم تنص على إقامة دولة يهودية صهيونية في فلسطين .
بعد ذلك رفعت بريطانيا قضية فلسطين إلى هيئة الأمم المتحدة فأوفدت لجنة أوصت بتقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق عربية ويهودية صهيونية ودولية .وقد أقرت هيئة الأمم المتحدة مشروع التقسيم في 29 تشرين الثاني عام 1947 م , وأعلنت انكلترا أنها سوف تنهي انتدابها على فلسطين بتاريخ 14 أيار 1948 م.
ثالثا ً الاستعداد للحرب :
رفض العرب أي شكل من أشكال التقسيم , وعقد الزعماء العرب مؤتمرين قرروا من خلالهما دعم قضية فلسطين والدفاع عنها .
وفي الوقت نفسه بدأ الشباب العرب يتطوعون للدفاع عن عروبة فلسطين . وشكلوا جيش الإنقاذ العربي .
أما بالنسبة لليهود الصهاينة فقد استعدوا للحرب , وشكلوا عصابات إرهابية بدأت بارتكاب مجازر جماعية ضد العرب مثل مذبحة ( دير ياسين ) , وكانوا يريدون من وراء ذلك إجبار العرب على ترك ديارهم .
رابعا ً : حرب فلسطين عام 1948 م:
أعلن اليهود الصهاينة قيام دولة (( إسرائيل ) يوم 15 أيار عام 1948 م .
دخلت الجيوش العربية إلى فلسطين بقيادة الملك عبد الله ملك الأردن دون استعداد عسكري مناسب , ومع ذلك حققت انتصار ً سريعا ً على اليهود الصهاينة , حيث وصلت الجيوش العربية إلى مناطق قريبة من تل أبيب .
وعندما شعرت انكلترا والولايات المتحدة بان اليهود الصهاينة على وشك الهزيمة , فرضت على العرب الهدنة الأولى بقصد حماية الكيان الصهيوني .
وقد استجاب العرب للهدنة التي كانت مدتها أربعة أسابيع , واستغلها اليهود لتحصين مواقعهم والحصول على الأسلحة المتطورة من الدول المعادية للعرب .
خامسا ً : تطورات الموقف بعد استئناف القتال :
عندما استؤنف القتال في تموز عام 1948 م تراجعت الجيوش العربية عن مواقعها وتدخل مجلس الأمن الدولي وفرض الهدنة الثانية في 16 تموز عام 1948 م , واستغل الصهاينة هذه الفرصة وسيطروا على الجليل والنقب ووصلوا إلى خليج العقبة
وقد ألحق قطاع غزة بمصر , وألحقت الضفة الغربية بالأردن كما قسمت مدينة القدس بين الأردن وإسرائيل .
وبعد ذلك اضطرت الدول العربية المجاورة لإسرائيل إلى توقيع اتفاقيات هدنة مع العدو الصهيوني عام 1949 م .
سادسا ً نتائج نكبة فلسطين عام 1948 :
صدور البيان الثلاثي عام 1950 م الذي تعهدت بموجبه الولايات المتحدة وانكلترا وفرنسا بحماية إسرائيل .
ظهور مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين نزحوا إلى الأقطار المجاورة ورفض إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة بإعادتهم إلى ديارهم .
تأسيس وكالة غوث اللاجئين لتقديم المعونة لهم من قبل الأمم المتحدة .
استمرار الصراع العربي الإسرائيلي الذي أدى إلى نشوب حروب في المنطقة .
ومن نتائج هذه النكبة أيضا ً عدم استقرار المنطقة وتوتر الأوضاع فيها .



تطور العراق ودول شبه الجزيرة العربية .
تطور العراق حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ( 1 )
أولا ً : الانتداب الانكليزي في العراق :
ظل العراق تابع للدولة العثمانية حتى قيام الحرب العالمية الأولى , وكان المصلحون والمفكرون العرب يطمحون إلى إقامة دولة عربية مستقلة تضم العراق وبلاد الشام ولكن الأطماع الاستعمارية الهادفة إلى تجزئة البلاد العربية حالت دون ذلك . حيث ظهرت الأطماع الانكليزية في العراق بشكل واضح من خلال مراسلات الحسين مكماهون , وكذلك من خلال اتفاقية سايكس بيكو .
وعندما بدأت الحرب العالمية الأولى عام 1914 م جهزت انكلترا حملة عسكرية لاحتلال العراق , وتمكنت هذه الحملة تدريجيا ً من احتلال الجزء الجنوبي من البلاد , ثم اختلت مدينة بغداد عام 1917 م وبعد ذلك دخلت القوات الانكليزية إلى مدينة الموصل بعد إعلان هدنة مودروس عام 1918 م وخروج الدولة العثمانية من الحرب
وفي عام 1920 م انعقد مؤتمر سان ريمو في ايطاليا وتقرر من خلاله وضع العراق تحت الانتداب الانكليزي , بذلك أصبح العراق خاضعا ً للاستعمار البريطاني .
ثانيا ً : الثورة العراقية عام 1920 م :
تعود أسبابها البعيدة إلى تذمر السكان من السياسة الاستعمارية التي اتبعتها انكلترا في العراق . أما السبب المباشر والقريب يعود إلى قيام الانكليز باعتقال زعيم إحدى القبائل في منطقة الفرات الأوسط , وهجوم رجال القبيلة على مركز الحكومة , وإطلاق سراح زعيمهم .
نجحت انكلترا في قمع الثورة بعد ن جلبت العديد من قواتها في الهند واضطرارها فيما بعد لتغيير سياستها وحكم العراق بشكل غير مباشر .
ثالثا ً : ملكية فيصل :
وجدت انكلترا انه من المرغوب فيه التفاهم مع الزعماء الوطنيين , فشجعت فيصل بن الحسين على ترشيح نفسه للعرش بعد أن خرج من سورية في أعقاب معركة ميسلون .
قامت انكلترا بإجراء استفتاء على ملكية فيصل وبويع ملكا ً على العراق عام 1921 م .
وفي عام 1922 م تم توقيع أول معاهدة تنظم العلاقات بين انكلترا والعراق وتنهي الحكم البريطاني المباشر للعراق.
رابعا ً : معاهدة 1930 م بين العراق وانكلترا :
طالب العراق بتعديل معاهدة 1922 م , ومن خلال المفاوضات توصل الطرفان إلى عقد معاهدة 1930 م , ومن أهم بنودها :
اعتراف انكلترا باستقلال العراق استقلالا ً تاما ً .
إقامة صداقة وتحالف بين انكلترا والعراق .
تقديم التسهيلات لانكلترا بالنسبة لطرق المواصلات .
تتشاور الدولتان في الشؤون الخارجية .
يسمح لبريطانيا أن تبقي بعض قواتها في العراق , وان تقيم فيه قاعدتين جويتين .
مدة المعاهدة خمس وعشرون سنة .
خامسا ً : ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 م :
تألفا في العراق وزارة جديدة برئاسة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 م , وقد حاول التفاهم مع انكلترا للحصول على استقلال العراق وضمان حقوقه ولكن بريطانيا عملت على إسقاط حكومة الكيلاني , بسبب اتصالها بألمانية وتبنيها للمبادئ الوطنية والقومية .
وعند وصول نبأ نقل الضباط المؤيدين للكيلاني بدأت الثورة عام 1941 م حيث سارعت قوات الجيش إلى التحرك , وعند ذلك هرب الوصي على العراق عبد الإله مع نوري السعيد إلى قاعدة الحبانية الخاضعة للانكليز وانطلقا منها إلى الأردن .
وكان هدف وزارة الكياني :
- التخلص نهائيا ً من الاحتلال الانكليزي .
- عدم توريط العراق بالمشاركة في الحرب .
- تحقيق الأهداف القومية .
لم تنجح ثورة رشيد عالي الكيلاني لان انكلترا تمكنت من القضاء على الثورة وإعادة فرض سيطرتها على العراق .
تطور العراق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ( 2 )
أولا ً : معاهدة بوتسماوث 1948 م :
طالب الوطنيون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بتعديل معاهدة 1930 م وإلغاء القيود التي تحد من استقلال العراق , فقدمت انكلترا مشروع معاهدة بورتسماوث في كانون الثاني عام 1948 م , التي نصت على منح القوات العراقية حق استخدام المطارات الانكليزية وتقديم التسهيلات لها مقابل اعتراف العراق بالحقوق نفسها لانكلترا .
لم تحقق هذه المعاهدة ما يصبو إليه الشعب فرفضها , واضطرت الحكومة العراقية كذلك لرفضها , واستمر العمل بمعاهدة 1930 م .
ثانيا ً : حلف بغداد وقيام الاتحاد الهاشمي :
أصر الشعب العربي في العراق على إلغاء معاهدة 1930 م , فأعلنت انكلترا عن موافقتها على إلغائها مقابل انضمام العراق إلى حل فبغداد الذي تم إنشاؤه عام 1955 م , والذي كان يهدف إلى :
أ- تطويق المعسكر الاشتراكي بقواعد وأحلاف عسكرية .
ب- صرف أنظار العرب عن التفكير بمشكلة فلسطين .
ج- ضمان استمرار السيطرة الاستعمارية في المنطقة .
وبعد قيام الجمهورية العربية المتحدة نتيجة للوحدة بين مصر وسورية عام 1958 م ازداد قلق الفئات المعادية للتحرر العربي , وخافت انكلترا على مناطق نفوذها , فأوعزت بإقامة الاتحاد الهاشمي بين الأردن والعراق عام 1958 م .
ثالثا ً : تطور المملكة العربية السعودية :
وطد الملك عبد العزيز الذي حكم ما بين عامي 1902 – 1953 م دعائم دولته , وساهم في تأسيس جامعة الدول العربية كما شارك في حرب فلسطين وفي عهده بدأت شركات البترول الأمريكية ممارسة عملها في المملكة كما تم إنشاء قاعدة الظهران العسكرية الأمريكية .
استلم الحكم بعده ابنه سعود بن عبد العزيز , وخلفه الملك فيصل بن عبد العزيز الذي حصلت في عهده الكثير من الإصلاحات , ولكن أعداء الوطن تمكنوا من اغتياله عام 1975 م بسبب موقفه من القضايا العربية , فخلفه في الحكم الملك خالد ثم الملك فهد بن عبد العزيز .
تطور دولة الإمارات العربية المتحدة
تقع دولة الإمارات العربية المتحدة على الساحل الغربي للخليج العربي , وهي تتألف من سبع إمارات كانت تسمى ( الساحل المهادن ) .
وقد سعت انكلترا منذ أوائل القرن التاسع عشر إلى السيطرة على هذه المنطقة انسجاما ً مع سياستها
في السيطرة على الخليج العربي وجنوب شبه الجزيرة العربية , تأمينا ً لمصالحها في الهند من
جهة ولطمعها في الثروات البترولية من جهة أخرى .
وانطلاقا ً من ذلك تذرعت انكلترا بتفاقم القرصنة في مياه الخليج , وعقدت سلسلة اتفاقيات تضمنت
تعهدات من أمراء المنطقة بإقرار السلام وتحكيم المعتمد البريطاني في الخليج العربي في حل ما ينشب بينهم من خلافات .
وبعد ذلك وقع الشيوخ والأمراء على اتفاق جديد عام 1853 م . اعترفوا فيه بحق انكلترا في حفظ
السلام في المنطقة ثم استولت انكلترا على إمارات المهادن عام 1892 م .
تأسيس دولة الإمارات : لقد تمكنت دولة إمارات الساحل من الاستقلال عن انكلترا وألفت عام
1971 م دولة عربية جديدة اسمها الإمارات العربية المتحدة , وهي تتكون من اتحاد سبع إمارات
وهي ( أبو ظبي – دبي – الشارقة – عجمان - أم القيوين – رأس الخيمة – الفجيرة )
وعاصمة هذه الدولة أبو ظبي , وقد ظهر فيها البترول بكميات تكبيرة وتقدمت كثيرا ً من النواحي
المختلفة وهي عضو في جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة , كما أنها شاركت في تأسيس
اتفاق ( دول مجلس التعاون الخليجي ) الذي يضم ست دول عربية وهي ( المملكة العربية السعودية
والأمارات العربية المتحدة وعمان والكويت والبحرين وقطر ) , والغاية من هذا الاتفاق هي إيجاد
تعاون وتضامن بين هذه الدول في المجالات المختلفة .
ورأس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان آ نهيان حاكم إمارة أبو ظبي .

تطور دول الخليج العربي ( 2 )
تطور سلطنة عمان ( 3 )
تعد عمان من أولى البلاد العربية التي تعرضت للاستعمار الأجنبي في العصر الحديث , فبعد اكتشاف البرتغاليين رأس الرجاء الصالح سارعوا إلى احتلال مدينة مسقط والمنطق القريبة منها ومارسوا اشد أنواع البطش والقسوة بالنسبة لسكان البلاد الذين حاربوهم بكل شجاعة وبسالة وأجبروهم على الرحيل عن المنطقة ولكن فيما بعد حل محلهم الانكليز الذين احتلوا مسقط وبدؤا بفرض سيطرتهم في تلك المنطقة .
أولا ً معاهدة السيب عام 1920 م ( تقسيم عمان ) :
تم توقيع هذه المعاهدة بإشراف الانكليز وبموجبها تم تقسيم المنطقة إلى قسمين الأولى سلطنة مسقط على الساحل والثانية إمامة عمان في الداخل وقد اعتمد الانكليز في حكم مسقط على السلطان سعيد بن تيمور , أما إمامة عمان فقد حكمها محمد بن عبد الله , ثم تلاه غالب بن علي عام 1954 م , وهو الذي قاد النضال العربي ضد الاحتلال البريطاني .
وفي عام 1975 م ثبت وجود البترول بغزارة بالقرب من مدينة نزوى عاصمة إمامة عمان , ولذلك أعلن سعيد بن تيمور سلطان مسقط ضم عمان إليه فلم يقبل إمام عمان بذلك , وقاد النضال ضد سلطان مسقط في منطقة الجبل الأخضر .
ثانيا ً : توحيد عمان :لم يتمكن إمام عمان غالب بن علي من مقاومة سلطان مسقط فغادر البلاد وذهب إلى المملكة العربية السعودية , وقام أتباعه بحرب عصابات ضد سلطان مسقط ولم تفلح الجامعة العربية في إيجاد حل للمشكلة وكذلك الأمر بالنسبة للأمم المتحدة .
وفي عام 1970 م أصبح قابوس بن سعيد سلطانا ً على مسقط وقد تمكن من القضاء على الثوار وتوحيد مسقط في ظل دولة واحدة اسمها ( سلطنة عمان ) يحكمها السلطان قابوس بن سعيد وعاصمتها مدينة مسقط .
وقد حصلت في سلطنة عمان إصلاحات وتطورات واسعة منذ عام 1970 في مجال التعليم والعمران والاقتصاد وسائر المجالات .
تطور الكويت ( 4 )
الكويت قطر عربي يقع في الطرف الشمالي من الخليج العربي , عاصمة هذه الدولة هي مدينة الكويت , وهي تعد من دول العالم الرئيسية المنتجة للنفط , وقد بلغت مرحلة كبيرة من التقدم والتطور .
أولا ً : احتلال انكلترا للكويت :
أعلنت انكلترا نظام الحماية على الكويت عام 1899 م من خلال اتفاقية نصت على أن الكويت دولة ذات حكم مستقل تحت الحماية البريطانية .
وفي عام 1914 م عين الانكليز معتمدا ً ساميا ً في الكويت , واستمر وجودهم فيها واحتلالهم لها حتى عام 1916 م .
ثانيا ً استقلال الكويت :
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت الكويت تطالب باستقلالها وحريتها وخروج الانكليز من أرضها وشجعها على ذلك حصول بعض الدول العربية على استقلالها مثل سورية ولبنان ومصر وكذلك قيام حركات التحرر والثورة في أقطار المغرب العربي .
وفي عام 1961 م حصلت الكويت على استقلالها , وانسحبت القوات الانكليزية منها ولكن حاكم العراق في تلك الفترة عبد الكريم قاسم حاول أن يضم الكويت إلى العراق ولكنه فشل في ذلك . حكمت دولة الكويت أسرة الصباح وقد بلغت ذروة التقدم والتطور في عهد حاكمها الشيخ عبد الله سالم الصباح .
وفي عام 1990 تم احتلال الكويت من قبل العراق , وبعد ذلك انسحبت القوات العراقية من الكويت.
تطور دولة قطر ( 5 )
قطر دولة عربية خليجية تؤلف شبه جزيرة في مياه الخليج العربي وعاصمتها مدينة الدوحة .
ويعد الشيخ ثاني بن محمد مؤسس أسرة آل ثاني في قطر وفي عام 1916 م وقع الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني اتفاقية الحماية مع انكلترا ومن خلال هذه الاتفاقية تعهدت انكلترا بحماية قطر من أي تهديد خارجي , ثم حصلت من خلال التعديلات التي طرأت على الاتفاقية على حقها في تعيين مستشارين انكليز للإشراف على شؤون قطر .
قاوم الشعب في قطر الاحتلال البريطاني وقام بعدة حركات للحصول على حريته واستقلاله , وقد تحقق له ذلك عام 1971 . حيث اعترفت انكلترا باستقلال قطر وسحبت قواتها من المنطقة فأصبحت قطر دولة عربية مستقلة وانضمت إلى جامعة الدول العربية وتحكم قطر أسرة آل ثاني .
تطور مملكة البحرين ( 6 )
البحرين دولة عربية خليجية وهي تؤلف مجموعة من الجزر قريبة من قطر ولم يكن لها حدود برية مع السعودية ثم انشأ جسر يصل بين البحرين والسعودية .
أسس الشيخ محمد آل خليفة مشيخة البحرين عام 1782 م واستمر آل خليفة في حكم دولة البحرين حتى الوقت الحاضر .
وإن جذور الاستعمار البريطاني في البحرين ترجع إلى عام 1880 م عندما تم توقيع معاهدة بين بريطانيا والبحرين . بدأت انكلترا من خلالها تتدخل في الأمور كافة التي لها علاقة بالبحرين .
قاوم الشعب العربي في البحرين هذه المعاهدة وطالب بجلاء القوات الانكليزية عن البحرين , وقد تحقق ذلك عام 1971 م . حيث حصلت البحرين على استقلالها وانضمت إلى جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة .
تطور اليمن
خضعت اليمن لسيطرة الأتراك العثمانيين في القرن السادس عشر إلا أن نفوذ الأتراك في تلك الدولة كان ضعيفا ً بسبب طبيعة البلاد الجبلية , وبعدها عن مركز الدولة العثمانية , ونزعة أهلها إلى الحرية والاستقلال .
أولا ً : تطور اليمن الشمالي :
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى وقف إمام اليمن يحيى حميد الدين إلى جاني الدولة العثمانية مدفوعا ً إلى ذلك بالرابطة الدينية . وبتخوفه من الاستعمار الانكليزي الذي اقتطع جزءا ً من أراضي اليمن وضمها إلى منطقة نفوذه في عدن .
وفي عام 1918 وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وانسحاب الأتراك من البلاد العربية , اعترفت الدول كافة باستقلال ليمن استقلالا ً تاما ً برئاسة الإمام يحيى .
وفي عام 1934 م حصلت حرب بين اليمن والمملكة العربية السعودية بسبب خلافهما على منطقة عسير ثم انتهى النزاع بعد توقيع معاهدة الطائف 1934 م التي رسمت الحدود بين الدولتين .
وفي عام 1948 م قتل الإمام يحيى وخلفه في الحكم ابنه احمد بن يحيى بعد أن قضى على المتآمرين على والده , وفي عام 1956 م عقد الإمام احمد بن يحيى مع مصر والسعودية ميثاق الأمن المشترك الذي يتضمن التنسيق بين هذه الدول أثناء تعرضها للخطر .
وفي عام 1958 م تم التوقيع على ميثاق الاتحاد بين الجمهورية العربية المتحدة واليمن , ولكن هذا الاتحاد لم يكتب له النجاح .
الثورة في اليمن عام 1962 م :
بتاريخ 26 أيلول 1962 م قامت ثورة في اليمن بقيادة قائد الجيش عبد الله السلال ألغت النظام الملكي وأعلنت النظام الجمهوري , وقد حاول الإمام البدر استعادة الحكم في اليمن بدعم من السعودية . فاستعان السلال بمصر التي أرسلت قواتها للدفاع عن النظام الجمهوري , ونشبت لذلك حرب أهلية استمرت عدة سنوات .
وبعد نكسة حزيران عام 1967 م اتفقت مصر والسعودية على وقف تدخلهما في اليمن وجرت مصالحة بين الجمهوريتين والملكيين وتم الاتفاق على إقصاء عبد الله السلال والإمام البدر وتشكيل حكومة جديدة من كلا الطرفين مع الاحتفاظ بالنظام الجمهوري , وبعد ذلك انتهت الحرب الاهلية , وحكم اليمن منذ عام 1967 م عدة رؤساء آخرهم الرئيس علي عبد الله صالح .
ثانيا ً : تطور جنوبي اليمن :
احتلت انكلترا مدينة عدن عام 1839 م ثم بدأت تحتل المناطق القريبة منها وتقسمها إلى عدد من المحميات وتفرض سياستها الاستعمارية في المنطقة , واستمر ذلك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية .
قيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية :
ظهرت عام 1953 م حركة وطنية في منطقة اليمن الجنوبي , هدفها مقاومة الاستعمار الانكليزي والحصول على الاستقلال والحرية , وشكل الوطنيون ( رابطة أبناء الجنوب اليمني المحتل )
وقد خافت انكلترا من انتشار الفكر القومي التحرري وبخاصة بعد قيام الوحدة بين سورية ومصر , فقررت أن تقيم اتحادا ً بين مشايخ محمياتها في اليمن الجنوبي يكون تحت سيطرتها , وحصل ذلك من خلال توقيع معاهدة عام 1959 م التي نصت على قيام اتحاد اليمن الجنوبي , على أن تتولى انكلترا شؤونه الخارجية وان تشرف على قيادة جيشه .
تطور ليبيا
سعت ايطاليا منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى تهيئة الظروف الدولية وضمان موافقة الدول الاستعمارية على احتلالها لليبيا .
وفي عام 1911 م وصلت الأساطيل الايطالية إلى سواحل ليبيا , واستولت ايطاليا على طرابلس وطبرق وبنغازي , وحصلت على موافقة الدولة العثمانية على احتلالها لليبيا بموجب معاهدة أوشي عام 1912 م .
ثانيا ً سياسة ايطاليا في ليبيا :
اتبعت ايطاليا في ليبيا سياسة استعمارية من أهم مظاهرها :
1- تشجيع الايطاليين على الهجرة إلى ليبيا ومنحهم الأراضي الخصبة فيها .
2- إتباع سياسة القمع والإرهاب ضد المواطنين .
3- نهب خيرات البلاد .
4- محاربة اللغة العربية ونشر الثقافة الايطالية في ليبيا .
ثالثا ً : مقاومة الاحتلال الايطالي – ثورة عمر المختار :
1- وقع عبئ المقاومة ضد الاحتلال الايطالي على عاتق الحركة السنوسية وهي حركة إسلامية إصلاحية أسسها محمد بن علي السنوسي .
عقدت ايطاليا اتفاقا ً مع محمد إدريس السنوسي عام 1920 م ولكن حكومة موسوليني التي بدأت تحكم ايطاليا منذ عام 1923 م ألغت جميع الاتفاقيات وبدأت عهدا ً استعماريا ً مليئا ً بالقسوة والوحشية ضد سكان ليبيا .
2- بدأت المقاومة الوطنية ضد حكومة موسوليني على يد الأمير محمد إدريس الذي اضطر للانسحاب إلى مصر تاركا ً قيادة الثورة الليبية للبطل المجاهد عمر المختار الذي سجل صفحات رائعة في تاريخ النضال العربي , فقد تمكن من محاربة الايطاليين وتكبيدهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات .
ولأن الثوار كانوا يتلقون الدعم من مصر فقد عمد الايطاليون إلى إقامة سور من الأسلاك الشائكة على الحدود الليبية المصرية مما أدى إلى نقص الإمدادات وضعف المقاومة .
3- وأخيرا ً أسر الايطاليون عمر المختار وأعدموه شنقا ً عام 1931 م , ولكن التاريخ خلد اسمه كبطل عربي شجاع ناضل من اجل حرية شعبه , ودافع عن وطنه وعروبته .
رابعا ً استقلال ليبيا :
1- انضمت ايطاليا إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وكانت النتيجة خسارتها للحرب وانسحابها من ليبيا , ودخول الحلفاء وعلى رأسهم انكلترا عام 1943 م . ومحاولة المستعمرين توطيد أقدامهم فيها .
2- لم يقبل الليبيون بعودة الاستعمار إلى بلادهم , فأسسوا عام 1946 م الجبهة الوطنية التي طالبت باستقلال ليبيا .
وبعد ذلك تألفت في القاهرة عام 1947 م هيئة التحرير الليبية التي كانت تطالب باستقلال ووحدة أراضيها .
3- وبدعم من الدول العربية أصدرت الأمم المتحدة عام 1948 م قرارا ً يقضي بأن تصبح ليبيا دولة موحدة ومستقلة وذات سيادة .
وفي عام 1951 م نالت ليبيا استقلالها ترأس الحكم فيها الملك إدريس السنوسي وأصبح اسمها (المملكة الليبية ) وانضمت إلى جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة
. موريتانيا
تقع موريتانيا إلى جنوب الصحراء الغربية وهي تطل على المحيط الأطلسي , وكان العرب يسمونها بلاد شنقيط نسبة إلى مدينة شنقيط عاصمة البلاد , وقد سكنتها قبائل عربية تعود أصولها إلى شبه الجزيرة العربية , فاكتسبت البلاد طابعا ً عربيا ً كما انتشرت فيها الديانة الإسلامية .
أولا ً : الاحتلال الفرنسي لموريتانية :
1- تطلع الفرنسيون في القرن التاسع عشر إلى احتلال موريتانيا , فأخذت حملاتهم تنطلق منذ عام 1854 م وتغير على المناطق الواقعة في جنوب البلاد .
2- وفي عام 1905 استغل الفرنسيون وجود بعض المشكلات الداخلية في موريتانيا فغزوا البلاد انطلاقا ً من السنغال , وفرضوا حمايتهم عليها فأصبحت موريتانيا جزءا ً من المستعمرات الفرنسية الإفريقية .
3- وردا ً على ذلك نشأت فيها حركة مقاومة وطنية بزعامة الشيخ ماء العينين , ومن بعده ابنه هبة الله الذي لجأ إلى المغرب وبدأ يقود من هناك الثورة ضد فرنسا ولكن استخدام الأسلحة الفتاكة , والقيام بأعمال الإرهاب والتدمير أدى إلى إيقاف المقاومة الوطنية عام 1934 م .



سادسا ً : ثورة الأمير الخطابي بين عامي 1920 – 1926 م :
1- قامت في منطقة الريف المغربي ثورة قادها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي انتصر على القوات الاسبانية عام 1920 م وأرغمها على التراجع عن معظم المناطق التي احتلتها وأسس حكومة وطنية وضعت ميثاقا ً لتحرير المغرب , وإن انتصار الخطابي على الاسبان في عدة معارك وإلحاق خسائر فادحة بهم جعل بعض المسئولين الاسبان يفكرون في الجلاء عن منطقة الريف . ولكن فرنسا قدمت لاسبانيا مساعدات كبيرة مكنتها من القضاء على الثورة .
2- وعندما انهارت المقاومة الوطنية اضطر الخطابي للاستسلام ونفته فرنسا إلى إحدى الجزر في المحيط الهندي , ثم التجأ إلى مصر عام1947 م وأقام فيها حتى وفاته .
3- ولقد خلد التاريخ اسم الخطابي كقائد وبطل عربي مناضل حارب الاستعمار ودافع عن حرية بلاده واستقلالها , وأصبح اسمه مقترنا ً بأسماء عبد القادر الجزائري ويوسف العظمة وعمر المختار وغيرهم من أبطال العرب .

ثانيا ً : استقلال موريتانية :
1- تشكل في موريتانيا بعد الحرب العالمية الثانية حزبان وهما الاتحاد الموريتاني وحزب الوفاق , ثم توحدا عام 1958 م من خلال حزب التجمع الموريتاني وأصبحت العاصمة نواكشوط .
2- مر استقلال موريتانيا بمرحلتين :
1- مرحلة الاستقلال الذاتي عام 1958 م حيث تركت فرنسا للموريتانيين الحرية في اختيار الاستقلال الذاتي أو الاستقلال التام , وأسفر الاستفتاء الذي جرى عام 1958 م عن قبول الاستقلال الذاتي .
2- مرحلة الاستقلال التام عام 1960 م , حيث حصلت موريتانيا على استقلالها التام عن فرنسا بعد مفاوضات طويلة جرت بينهما وأصبح مختار ولد دادا رئيسا ً للجمهورية الإسلامية الموريتانية .
بعد ذلك حصل انقلاب عسكري بقيادة مصطفى ولد سالك ثم حصل انقلاب عسكري آخر تولى على أثره معاوية ولد سيدي احمد الطايع رئاسة الجمهورية .




ثانيا ً : تطور الصومال حتى الاستقلال :
بقي الصومال في حالة التجزئة إلى أن قررت الأمم المتحدة عام 1955 م وضع الصومال تحت إدارة دولية على أن تكون ايطاليا السلطة القائمة بالإدارة حتى وصول الصومال إلى الاستقلال .
وقد ساهمت مصر عن طريق إرسال المعلمين وإقامة بعض المدارس ببث الوعي في بلد تربطه بالوطن العربي روابط تاريخية وتراث ثقافي وحضاري .
وقد شهد عام 1960م قيام جمهورية الصومال المستقلة ذات السيادة والتي تتكون من إقليمي الصومال الايطالي والصومال الانكليزي وعاصمتها مقديشو .
ثالثا ً : تطور جمهورية جيبوتي :
نظرا ً لاستمرار المقاومة للاحتلال الفرنسي ومطالبتهم بالاستقلال وافقت فرنسا على تشكيل مجلس استشاري من سكان جيبوتي لمساعدة الحكم الفرنسي في إدارة البلاد .
وعندما تشكلت جبهة تحرير الساحل الصومالي أدى انضمامها إلى حصول جيبوتي على استقلالها التام عن فرنسا عام 1977 م .
رابعا ً : تطور اريتريا :
شكل الأحرار الوطنيون في القاهرة عام 1960 م جبهة التحرير الاريترية التي كانت غايتها تحرير اريتريا من الاستعمار الأثيوبي , واعدة الحرية والاستقلال إليها .
اندلعت الثورة في اريتريا عام 1961 م واستمرت المقاومة ضد إثيوبيا سنوات طويلة قدم أبناء البلاد خلالها كثيرا ً من التضحيات إلى أن تمكنوا من الحصول على استقلالهم عام 1993م .
تطور جزر القمر
تتألف هذه الدولة من عدة جزر تؤلف أرخبيلا ً في المحيط الهندي يمتد ما بين قارة إفريقيا غربا ً وجزيرة مدغشقر شرقا ً .
وهناك اربع جزر رئيسية وهي
جزيرة القمر الكبرى وفيها العاصمة موروني .
2 – جزيرة انجوان -
3 – جزيرة موهيلي –
4 – جزيرة مايوت .
أولا ً : جزر القمر قبل القرن التاسع عشر :
انتشر الإسلام كما انتشرت اللغة العربية في هذه المنطقة عن طريق التجار والدعاة والمهاجرين , حيث وصلت إليها هجرات عربية من عمان واليمن وغيرها من مناطق شبه الجزيرة العربية . وهذه الهجرات أعطت البلاد طابعا ً عربيا ً إسلاميا ً , علما ً بأن العلاقات التجارية بين العرب ومناطق شرقي إفريقيا قديمة وهي تعود إلى الفترة التي سبقت ظهور الإسلام .
احتل البرتغاليون جزر القمر عام 1502 م وعاملوا أهلها بقسوة ووحشية , ثار سكان هذه الجزر على البرتغاليين وتمكنوا من طردهم من البلاد , وتولى الحكم فيها جماعة من الحكام الوطنيين .
ثانيا ً : فرض الحماية الفرنسية على جزر القمر :
لقد خضعت جزر القمر للحماية الفرنسية عام 1892م , حيث وقع حاكم البلاد معاهدة مع فرنسا اعترف من خلالها بالحماية الفرنسية على بلاده وفي عام 1913 قررت فرنسا وضع جزر القمر تحت السيطرة الفرنسية التامة وأصبحت هذه الجزر مستعمرة فرنسية تم إلحاقها بجزيرة مدغشقر عام 1915 م , واستمر ذلك إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث تشكلت جمعية مؤلفة من ثلاثين عضوا ً تحكم جزر القمر . اتبعت فرنسا سياسة استعمارية في جزر القمر حيث سيطرت على اقتصاد البلاد , وأبقت السكان في حالة الفقر والجهل والمرض وحرمتهم من المدارس , وفرضت الثقافة الفرنسية واتبعت سياسة البطش والقسوة أثناء تعاملها مع أهل البلاد .
ثالثا ً: استقلال جزر القمر :
1- بعد مقاومة عنيفة من قبل الأهالي للاستعمار الفرنسي تقرر إجراء استفتاء على مستقبل جزر القمر عام 1974 م , وأكدت نتائج الاستفتاء أن معظم السكان يؤيدون الاستقلال التام عن فرنسا , وتشكيل دولة موحدة وذات سيادة . سميت جمهورية جزر القمر الاتحادية الإسلامية عاصمتها موروني .
2-أعلن المجلس النيابي القمري استقلال جزر القمر عم فرنسا عام 1975 م , ثم انضمت إلى هيئة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية .
الحياة الاجتماعية:
الحياة الاقتصادية:
الحياة الفكرية :
الحياة الدينية :
الباب الثاني
مظاهر اليقظة العربية في العصر الحديث
1916 - 1970 م
تحولت اليقظة العربية بعد الثورة العربية الكبرى إلى دعوة إلى الوحدة العربية ثم إلى القومية العربية فيما بعد وان فشل المشروع القومي كوحدة سياسية فيما بعد فقد شهدت البلاد العربية أحداثا كبيرة دعمت قوى النضال من اجل النهوض على الرغم من النكسات والنكبات التي أصابتها والتحديات من قوى الغرب والصهيونية فقد ازدادت حركة القومية العربية اشتعالا وتماسكا وتفتحا ونضوجا وان سعت الدول الغربية إلى السيطرة على البلاد العربية واقتطعت أجزاء من بلاد العرب وتقديمها هدية للأتراك لواء اسكندر ون 1939 وفلسطين 1948 وتطور الاقتصاد العربي على أساس الاقتصاد الغربي كما وتطور الجانب الثقافي بانتشار التعليم والعلم والمدارس والجامعات ونضجت فكرة القومية العربية على يد ساطع الحصري ونشأت الجمعيات والأحزاب جمعية العلماء الجزائريين برئاسة ابن باديس الحزب الدستوري وتأجج الكفاح الشعبي العربي المسلح المعتمد على الذات في ثورة مصر 1919 الثورات السورية 1919- 1927 الثورات الفلسطينية 1921 -1936 الثورة العراقية 1920 1941 ثورة ليبيا 1923 1931 ثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب 1920 1926 وتحركات تونس والجزائر ولجأت الدول المستعمرة إلى المهادنة بعد هزائمها في الحرب ثم في البطش أحيانا موقف انكلترا من ثورة رشيد عالي الكيلاني 1941 وعدوان فرنسا على سوريا 1945 ومذابح فرنسا في الجزائر 1945 والملانية كانت بدعوة للوحدة العربية من خلال تكوين الجامعة العربية 1945 وقد تأسست المملكة العربية السعودية الإحساء حائل الحجاز العسير بعد التاريخ السابق واستقلت اليمن وفد شهد العرب انقسام العالم إلى معسكرين غربي تمثله انكلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ومعسكر شرقي يمثله الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية والصين الشعبية ونمت الخرافات التحررية في العالم ويمكن تميز خصائص النهضة العربية بما يلي .
1-متابعة البلاد العربية الكفاح المسلح ضد القوى الغربية الثورة الجزائرية وثورة الجنوب الغربي والثورة الفلسطينية واستقلت سوريا ولبنان والعراق وتخلص العرب من حلف بغداد والفت الأردن المعاهدة البريطانية الهاشمية 1957 واستقل المغرب وتونس وجلت القوات الانكليزية عن السودان وخرجت فرنسا من الجزائر واستقلت موريتانيا والصومال 1960 وخرج البريطانيون من الكويت 1961 واستفاد العرب من البترول بتنمية الاقتصاد ووقعت كارثة فلسطين التي كانت عائقا للقومية العربية بغرس إسرائيل خنجرا في صدر العالم العربي ولكن الحركة الفكرية العربية ازدادت تقدما بازدياد التعليم وانتشاره وتقديم وسائل النشر الحديثة وكثرة الصحف وظهور الإذاعة والتلفزيون والسينما كل ذلك دعم إيديولوجية القومية العربية وظهر تيار يساري اشتراكي اندمج عند العرب بالقومية العربية للوصول إلى الوحدة العربية من خلال حزب البعث العربي الاشتراكي ودعوة عبد الناصر للوحدة بعد 1952 وجسدت الوحدة العربية أولا بين سوريا ومصر 1958 ولكنها لم تستمر لأكثر من ثلاث سنوات وكانت ثورة 1962 في اليمن وثورة 1963 في سوريا وحاول الغرب إبقاء نفوذه في البلاد العربية من خلال مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط 1951 مشروع الجدار لدالاس بزعم مقاومة الشيوعية وحلف بغداد ثم مشروع إيزنهاور وتلاقت دعوة القومية العربية مع السياسة العالمية في مؤتمر باندوغ 1955 ومؤتمر القاهرة 1957 ومؤتمر أكراد 1958 وخاضت فكرة القومية صراعات ومعارك من اجل التحرر الاقتصادي والثقافي .
اليقظة العربية
وتطور سوريا ولبنان والأردن وفلسطين منذ الحرب العالمية الأولى .
اليقظة العربية: .
بدأت اليقظة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وبخاصة في بلاد الشام عندما تمكن العرب من الاتصال مع الغرب . ورأوا أن من واجبهم النهوض بأمتهم والتخلص من حكم الأتراك لهم واستعادة حريتهم واستقلالهم .
أولا ً : عوامل اليقظة العربية :
العوامل الخارجية ومن أبرزها :
1- حملة نابليون على مصر وسورية : التي كان من نتائجها اطلاع العرب على ما وصل إليه الغرب من تقدم حضاري , كما اطلعوا على المبادئ التي تدعو إلى العدالة ومنح الناس حقوقهم المشروعة .
2- المدارس الأجنبية : وقد انتشرت في لبنان بشكل خاص وساهمت في تفتيح أذهان الناشئة على الثقافة الغربية , كما أنها اهتمت بتدريس اللغة العربية , ومن أشهر هذه المدارس مدرسة غزير, والكلية السورية .
العوامل الداخلية :
وهذه العوامل لها علاقة بإنشاء المدارس وهي تشمل :
1- المدارس القديمة حيث كان التعليم في الولايات العربية الخاضعة للحكم العثماني مقتصرا ً على الدراسة في الكتاتيب وحلقات العلم في المساجد . وكان الاهتمام مركزا ً على قراءة القرآن الكريم , ومعرفة مبادئ القراءة والكتابة والحساب .
2- المدارس الحديثة وهي المدارس التي تم افتتاحها أثناء وجود إبراهيم باشا في بلاد الشام , حيث تم إنشاء بعض المدارس الابتدائية والثانوية .
3- المدارس الوطنية : وهي المدارس التي نشأت نتيجة لوجود مدارس أجنبية ومن أشهرها الكلية الوطنية والكلية الإسلامية .
ثانيا ً : مظاهر اليقظة العربية :
الأدباء والمفكرون :
ظهر في أواخر العصر العثماني عدد من الأدباء والمفكرين الذين نبهوا الناس من خلال ما كتبوه إلى ضرورة حصول العرب على حريتهم واستقلالهم . ومحاربة الظلم والاستبداد . ومن أشهرهم :
1- عبد الرحمن الكواكبي :
(1849 – 1902 م ) : وهو عربي سوري نشأ في مدينة حلب ثم رحل إلى مصر هربا ً من الاستبداد العثماني وقد تشر الكواكبي كتابين شهيرين وهما ( طبائع الاستبداد ) الذي يتحدث من خلاله عن مساوئ نظام الحكم الاستبدادي , أما الكتاب الثاني فهو ( أم القرى ) ويقصد بها مدينة مكة وهو يتخيل من خلال الكتاب أن م}تمرا ً اسلاميا ً انعقد في مدينة مكة لبحث أوضاع المسلمين .
2- بطرس البستاني : بين عامي ( 1819 – 1883 ) : تعلم في مدرسة عين ورقة واهتم باللغة العربية وألف معجم ( محيط المحيط ) وأصدر مجلة ( الجنان ) كما أنه أصدر صحيفة نفير سوريا وبدأ بوضع أول موسوعة عربية عرفت باسم (دائرة معارف البستاني)
3- ناصيف اليازجي : بين عامي ( 1800 – 11871 ) :
اهتم بدراسة اللغة العربية , كما اهتم بنشر المخطوطات المكتوبة باللغة العربية .
الصحف والمجلات :
ساهمت هذه الصحف والمجلات في نشر الوعي والمبادئ الوطنية والقومية بين الناس , وقد صدر معظمها في مصروبلاد الشام .
1- ومن أشهر الصحف التي صدرت في مصر : الأهرام – ومرآة الشرق .
2- ومن أشهر المجلات التي صدرت في مصر : المقتطف والضياء .
3- ومن أشهر الصحف التي صدرت في بلاد الشام : مرآة الأحوال , ونفير سوريا
4- ومن أشهر المجلات التي صدرت في بلاد الشام مجلة الجنان .
الجمعيات الأدبية والسياسية :
لقد ظهرت في أواخر العصر العثماني بعض الجمعيات الأدبية والسياسية التي ساهمت من خلال نشاطاتها المتعددة في ظهور اليقظة العربية .
ومن أشهر الجمعيات الأدبية :
1- جمعية العلوم والفنون
2- الجمعية العلمية السورية .
ومن أشهر الجمعيات ذات الطابع السياسي :
1- جمعية بيروت السرية عام ( 1875 م ) : ظهرت هذه الجمعية في بيروت وعملت سرا ً ضد الدولة العثمانية , ومن أهم مطالبها :
1- منح سورية ولبنان الاستقلال الذاتي
2- الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية .
3- جعل الخدمة العسكرية للشباب العرب ضمن حدود بلادهم في أوقات السلم .
2- الجمعية العربية الفتاة عام (1911 ) : تأسست في باريس عام 1911 م من قبل بعض الطلاب العرب ثم انتقل مركزها إلى بلاد الشام , ومن أهم أهدافها الاستقلال الذاتي للبلاد العربية , وتحريرها من الحكم الأتراك العثمانيين , ورفع الأمة العربية إلى مستوى متقدم , وقد كان لها دور بارز في الدعوة لعقد مؤتمر باريس عام ( 1913 ) م.
2- الجمعية القحطانية : عام (1909 ) م : أسسها في مدينة استانبول عام 1909 عدد من الشباب والضباط العرب , وفي مقدمتهم عزيز علي المصري وكانت جمعية سرية تدعو إلى الاستقلال الذاتي للبلاد العربية ومقاومة سياسة التتريك .
ومن الجمعيات الأخرى ذات الطابع السياسي :
1-جمعية العهد .
2- اللا مركزية .
مؤتمر باريس (1913) م :
انعقد مؤتمر باريس عام 1913 م , وكانت الغاية من عقده التداول في أوضاع البلاد العربية وقد دعت إلى عقده عدة هيئات وجمعيات عربية وعلى رأسها الجمعية العربية الفتاة . ترأس المؤتمر عبد الحميد الزهراوي , ومن أهم توصياته :
إنشاء إدارة لا مركزية في كل ولاية عربية .
جعل اللغة العربية لغة رسمية في البلاد العربية .
جعل خدمة الشباب العرب العسكرية في بلادهم في أوقات السلم .
وقد فشل مؤتمر باريس لأن الأتراك العثمانيين رفضوا هذه التوصيات .
الثورة العربية الكبرى عام 1916 م
تآمر الأتراك الاتحاديون على مؤتمر باريس وعلى الأشخاص الذين شاركوا فيه فنقم العرب عليهم . وعندما بدأت الحرب العالمية الأولى كان العرب قد وصلوا إلى درجة كبيرة من اليأس , وهذا ما دفعهم للقيام بالثورة العربية الكبرى عام 1916 م .
أولا ً أسباب الثورة العربية :
الأسباب البعيدة :
1- رغبة العرب في الاستقلال وتحرير بلادهم من حكم الأتراك العثمانيين .
2- نمو الوعي القومي عن طريق الجمعيات والأدباء والمفكرين .
سياسة التتريك التي نفذها الأتراك الاتحاديون , وحاولوا من خلالها صبغ العناصر العربية بالطابع التركي ( والاتحاديون هم الأتراك الذين ينتمون إلى حزب الاتحاد والترقي . ) .
الأسباب القريبة :
1- إعدام الأحرار العرب في بلاد الشام من قبل جمال باشا السفاح .
2- وجود خلافات كبيرة بين الشريف حسين والأتراك العثمانيين .
ثانيا ً : سياسة جمال باشا في سورية :
عين الأتراك الاتحاديون جمال باشا قائدا ً للجيوش المرابطة في سورية بدلا ً من زكي الحلبي , وهو عربي تم تعيينه في هذا المنصب لفترة من الوقت بقصد خداع العرب .
كان جمال باشا معروفا ً بالقسوة والظلم وقد حاول التقرب من العرب للأسباب التالية :
أ- الحصول على تأييدهم أثناء حملته على مصر .
ب- تهدئة السكان العرب أثناء الحرب .
ج- إبعاد الفرق العربية إلى خارج البلاد و إحلال فرق عثمانية محلها .
أعد جمال باشا حملة عسكرية لضرب الانكليز في مصر , وعندما فشلت تلك الحملة صب غضبه على العرب في بلاد الشام ووجه إليهم كثيرا ً من الاتهامات .
وقد قبض على بعض الأشخاص وألقى بهم في السجون والمعتقلات كما أنه قام بإعدام بعض الشخصيات الهامة من العرب , حيث تم إعدام قافلة من الشهداء بتاريخ 6 أيار عام 1916 م .
استيقظ الناس في صبيحة ذلك اليوم فشاهدوا سبعة شهداء على أعواد المشانق في دمشق , وأربعة عشر شهيدا ً في بيروت , وهم من كبار زعماء اليقظة العربية , ومن بينهم عبد الحميد الزهراوي . وشكري العسلي , وسليم الجزائري .
ثالثا ً : الشريف حسين وقيادته للثورة العربية :
بعد أن ضم العثمانيون منطقة الحجاز إلى دولتهم تركوا الحكم فيها بيد الأشراف , واستمر ذلك حتى بداية الحرب العالمية الأولى . وقد كان يحكم منطقة الحجاز في تلك الفترة الشريف حسين بن علي , وكانت العلاقات سيئة للغاية بينه وبين الأتراك العثمانيون .
وفي تلك الفترة تعاظمت الدعوة بين العرب الأحرار للثورة ضد العثمانيين , وبخاصة بعد إعدام الشهداء واتصلت الجمعيات العربية بالشريف حسين تعرض عليه قيادة الثورة , وقد تم ذلك بشكل خاص من قبل جمعيتي العهد والعربية الفتاة .
وعندما أرسل الشريف ابنه الأمير فيصل إلى الآستانة لعرض بعض الأمور على المسئولين هناك . لمس فيصل أثناء مروره بدمشق رغبة الجمعيات العربية في أن يكون والده الشريف حسين قائدا ً للثورة . وقد أرسلت الجمعيات العربية مذكرة إلى الشريف حسين حملها الأمير فيصل إليه أثناء عودته من الآستانة , وكانت أهم مطالب الجمعيات :
أ- اعتراف الانكليز باستقلال البلاد العربية الواقعة في قارة آسيا ووحدتها .
ب- إلغاء جميع الامتيازات الأجنبية .
ج- عقد معاهدة دفاعية بين انكلترا والدولة العربية المستقلة .
رابعا ً : الشريف حسين والانكليز :
اتصلت انكلترا بالشريف حسين وشجعته على الثورة ذد العثمانيين , وكلفت هنري مكماهون المعتمد البريطاني في مصر الاتصال بالشريف حسين والتفاوض معه , وقد تبادل الطرفان عدة رسائل سميت ( مراسلات الحسين مكماهون ) .
أشار الحسين في رسائله إلى انكلترا بحقوق العرب ومصالحهم , وعرض شروط العرب ومطالبهم التي يتعاونون على أساسها مع بريطانيا , وهي الشروط نفسها التي تضمنتها مذكرة الجمعيات العربية التي اتصلت به وشجعته على قيادة الثورة .
وقد اعترف هنري مكماهون من خلال رسائله بحق العرب بالاستقلال والحرية , ولكنه أبدى بعض التحفظات , مثل وجود مصالح لبريطانيا في جنوب العراق وإخراج الساحل السوري من حدود الدولة العربية المقترحة لأن فرنسا لها مصالح في , وتأجيل البحث في بعض الأمور إلى أن تنتهي الحرب .
وقد قبل الشريف حسين وجود مصالح لبريطانيا في جنوب العراق , كما قبل في تأجيل البحث في بعض الأمور إلى أن تنتهي الحرب . ولكنه أكد على عروبة الساحل السوري .
خامسا ً : إعلان الثورة العربية عام 1916 م :
بدأت الثورة في 10 حزيران في مكة المكرمة , واستطاعت قوات الثورة العربية تحرير جميع مدن الحجاز عدا المدينة المنورة التي بقيت محاصرة حتى نهاية الحرب .
تابع فيصل سيره نحو الشمال وسيطر على ساحل البحر الأحمر , وحرر معان والعقبة ونسفت قوات الثورة العربية الخط الحديدي لمنع وصول قوات عثمانية إلى المدينة المنورة .
اتصل جيش فيصل بالجيش الذي أرسله الانكليز من مصر بقيادة الجنرال النبي لاحتلا فلسطين والساحل السوري .
واصلت قوات الثورة العربية نشاطها فحررت درعا ودمشق وبقية بلاد الشام , وأرسلت قوة عربية إلى بيروت لإقامة إدارة عربية ورفع العلم العربي على دار الحكومة .
وفي تلك الفترة انسحبت الدولة العثمانية من الحرب ووقعت مع الحلفاء هدنة مودروس عام 1918 م .
الأطماع الاستعمارية في البلاد العربية
برزت أطماع فرنسا وانكلترا في المشرق العربي بوضوح أثناء الحرب العالمية الأولى ما بين عامي ( 1914 – 1918 ) م ففي الوقت الذي كانت فيه انكلترا تفاوض العرب لإعلان ثورتهم على العثمانيين وتتعهد لهم باستقلال بلادهم ووحدة أراضيهم , كانت تتآمر مع فرنسا على اقتسام هذه البلاد فيما بينها ضاربة مع فرنسا بحقوق العرب عرض الحائط , ومتنكرة للوعود التي قطعتها على نفسها , وقد تجلى هذا التآمر الاستعماري من خلال اتفاقية سايكس بيكو , ووعد بلفور , ومؤتمر سان ريمو .
أولا ً: اتفاقية سايكس بيكو – 16 أيار عام 1916 م :
تم من خلال هذه الاتفاقية تقسيم بلاد الشام والعراق بين فرنسا وانكلترا وأطلقت عليها هذه التسمية نسبة لمارك سايكس الانكليزي وجورج بيكو الفرنسي وقد ربط بهذه الاتفاقية مصور ذو ألوان مختلفة تدل على مناطق النفوذ التي تم توزيعها كما يلي :
أ- المنطقة الزرقاء : التي تشمل الساحل السوري الممتد من الأناضول شمالا ً إلى رأس الناقورة جنوبا ً , وتوضع هذه المنطقة تحت النفوذ الفرنسي .
ب- المنطقة الحمراء : التي تمتد من بغداد إلى البصرة وتوضع تحت النفوذ الانكليزي
ج- المنطقة السمراء : التي تشمل فلسطين وهي منطقة دولية .
د- المنطقة الداخلية : وهي تتألف من :
المنطقة (أ) التي تشمل سورية الداخلية والموصل , ولفرنسا فيها ألأفضلية تقديم القروض والمستشارين .
(ب) وتشمل شرقي الأردن وما تبقى من العراق ولانكلترا لأفضلية تقديم القروض والمستشارين فيها .
- وتقام في هذه المنطقتين دولة عربية مستقلة أو اتحاد دول عربية .
- عرف العرب بهذه الاتفاقية عن طريق جمال باشا السفاح بعد أن كشفتها الثورة الروسية عام 1917م ولكن انكلترا أوهمت الشريف حسين أن وعودها له هي الأساس .
ثانيا ً : وعد بلفور – 2 تشرين الثاني عام 1917 م :
توافرت للصهاينة خلال الحرب العالمية الأولى الظروف المناسبة لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية , فحصلوا على وعد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وكان هذا الوعد على شكل رسالة وجهها بلفور وزير خارجية انكلترا إلى روتشيلد زعيم الحركة الصهيونية .
ثالثا ً : وصول الأمير فيصل إلى دمشق :
استقبل أهالي دمشق الجيش العربي الذي حرر البلاد من الاحتلال العثماني بقيادة الأمير فيصل بحماس كبير وقد أقام فيصل بعد دخوله دمشق في شهر تشرين الأول عام 1918 م حكومة عسكرة تشمل صلاحياتها جميع أنحاء سورية الطبيعية برئاسة علي رضا الركابي , كما أسس إدارة عسكرية في بيروت ولكن انكلترا وفرنسا كانتا تتآمران على استقلال سورية ووحدتها .
رابعا ً : القضية العربية في مؤتمر الصلح باريس عام 1919 م :
اجتمع الحلفاء المنتصرون في مؤتمر الصلح بباريس عام 1919 م , وقد كلف الشريف حسين ابنه فيصلا ً بحضور المؤتمر , فألقى فيصل خطابا ً في المؤتمر تحدث فيه عن دور العرب إلى جانب الحلفاء في الحرب , وأكد على مطالبهم في الحرية والاستقلال , وأشار إلى حق تقرير المصير الذي أعلنه الرئيس الأمريكي ويلسون , وندد باتفاقية سايكس بيكو , وطالب بإرسال لجنة إلى بلاد الشام للتحقق من رغبة الأهالي .
قرر مؤتمر الصلح ما يلي :
أ- فصل البلاد العربية في آسيا عن الدولة العثمانية .
ب- ابتكر الحلفاء فكرة ( الانتداب ) لإخفاء نواياهم الاستعمارية . وقد زعموا أن البلاد العربية التي انفصلت عن الدولة العثمانية بحاجة إلى وصاية دولية منتدبة عليها لكي تأخذ بيدها نحو الاستقلال .
ج- وافق المؤتمر على إرسال لجنة دولية للتعرف على رغبات أهل البلاد .
خامسا ً : لجنة كينغ كراين الامريكية عام 1919 م :
رفضت انكلترا وفرنسا المشاركة في اللجنة الدولية التي تقرر إرسالها إلى بلاد الشام حفاظا ً على مصالحها عن طريق مؤتمر الصلح , فاقتصرت على الولايات المتحدة , وسميت بلجنة كينغ – كراين نسبة لأسماء أعضائها الأمريكيين .
دعت الفئات الوطنية في سورية إلى انتخاب مجلس يمثل الشعب لكي يقدم توصيات الشعب السوري إلى اللجنة , وبناء على ذلك تشكل المؤتمر السوري عام 1919 م الذي قدم عدة
توصيات إلى لجنة كينغ – كراين من أهمها :
أ- استقلال سورية الموحدة .
ب- رفض الانتداب ووعد بلفور .
ولكن معارضة الدول الاستعمارية لهذه التوصيات جعلت أعمال اللجنة تبوء بالفشل .
سادسا ً : اتفاقية فيصل كليمنصو عام 1919 م :
بعد فشل لجنة كينغ – كراين طلبت انكلترا من فيصل السفر إلى فرنسا والتفاوض مع حكومتها , وجاءت نتيجة المفاوضات بين فيصل وفرنسا على شكل اتفاقية عرفت باسم اتفاقية فيصل كليمنصو وهي تنص على :
1- انتداب فرنسا على لبنان .
2- إيجاد وضع ممتاز للغة الفرنسية والقروض من فرنسا .
3- طلب سورية المستشارين والفنيين والقروض من فرنسا .
ولا شك في أن هذه الاتفاقية التي وافق عليها فيصل تتعارض مع المطالب الوطنية للشعب العربي في سورية .
سابعا ً : قرارات المؤتمر السوري 8 آذار 1920 م :
رفض الشعب العربي في سورية هذه الاتفاقية , واستقبلها بالسخط الشديد وقامت المظاهرات تنادي بالوحدة والاستقلال .
وفي عام 1920 م انعقد المؤتمر السوري الذي تم تشكيله من أجل تقديم توصيات إلى لجنة كريغ – كراين وقرر ما يلي :
1- إعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية .
2- رفض الانتداب الفرنسي والتجزئة .
3- تنصيب الأمير فيصل ملكا ً على سورية .




الباب الثالث
الأدب العربي في العصر الحديث
1916 – 1970
جلا الأتراك عن البلاد العربية وأسست في سورية حكومة عربية برئاسة الملك فيصل ابن الحسين , كان على الحكومة أن تعنى أول ما تعنى ( بتعريب ) كل شيء في الدولة ولا سيما بعد أن أعلنت أن اللغة العربية ) هي اللغة الرسمية في البلاد . فكانت محاولات جد صعبة ولا سيما عند طبقة الموظفين اللذين عاشوا شطرا ً من حياتهم يصرفون شؤون الدولة ومصالح الناس في الإدارة والقضاء باللغة التركية . وانبرى كبار الأدباء ورجال الفكر ممن اشرب قلبهم حب العربية إلى مزاولة مهمة تعريب الكتب المدرسية المقررة بعد أن أضحت لغة التعليم في جميع المدارس هي اللغة العربية . ولعب ساطع الحصري وكان وزيرا ً للمعارف في حكومة فيصل دوراكبيرا لوضع برامج تربوية سليمة وتزويد الطلاب بأوفر كمية من الكتب باللغة العربية ، ومحمد كرد علي الذي عمل على تأسيس ( المجمع العلمي العربي ) فكان أعظم دعامة لنشر اللغة العربية في تلك الفترة حيث قام كالحارس الأمين لتقويم الألسنة وتصحيح أغلاط الكتاب وإمداد الدواوين بالاصطلاحات .وقد بذل هذان الرجلان – كل واحد في نطاق عمله – مجهودا ً كبيرا ً مهد للغة العربية أن تسير سيرها الطبيعي في جو حر تستعيد به مكانتها الأولى .
كان تأسيس المجمع العلمي العربي ظاهرة حية في تاريخ الفكر العربي في سورية .
برئاسةمحمدكردعلیكصحفيومؤلفوباحث, غايته بعث تراثنا القديم وتطوير اللغة , ونشر الذخائر الثمينة من مخطوطاتنا , ولا يزال اكبر الأثر في نهضتنا الأدبية . وكان للمحاضرات التي يلقيها الأعضاء في قاعة المجمع أثرها غير المذكور في تلقيح عقول الناشئة وتزويدها بثمار المعرفة , وهكذا , كان للمجمع العلمي العربي في أول تكونه وهو ثمرة الحكومة العربية أثره الكبير في بعث النشاط الفكري , وفي تقويم اعوجاج الألسنة , وتصحيح لغة الكتاب , إلى إشاعة العربية في مختلف الأوساط والحفاظ على قدسيتها من كل طارئ دخيل .
ثمة ظاهرة لا تقل أهمية عن تأسيس المجمع العلمي العربي أريد بها ( الجامعة السورية ) فقد بدأت عملها بداية متواضعة ، ففي الخامس من شهر حزيران سنة 1923 أسست ( الجامعة السورية ) مؤلفة من المجمع العربي ومن مدرستي الطب والحقوق لتكوين جامعة عربية للشام بالمعنى الجامعي الذي يفهمه العلماء .
وبدأت عملها , وبدأت تتعثر في سيرها . وكان للتدريس في الكليتين باللغة العربية, وكانت ( كلية الطب ) في الجامعة السورية وما تزال أول كلية في الشرق العربي تدرس الطب بلغة عربية فصيحة . وما نقوله عن كلية الطب نقوله على كلية الحقوق التي أغنت العربية أيضا بمجموعة من الكتب , وأخذت العربية تزدهر في هذه البيئة الجامعية . وكان لا بد لاستكمال عناصر الجامعة بفروعها المختلفة من إنشاء كلية الآداب وأخرى للعلوم وكلية الهندسة وكلية التربية ومعهد المعلمين العالي – وتم تأسيس هذه الكليات عام 1946 م وبذلك تكونت الجامعة السورية تكوينا ً واسعا ً وأصبحت بنية علمية ازدهرت العربية في ربوعها ازدهارا ً حسنا ً. وقد كان الفرنسيون يحولون دون إنشاء هذه الكليات , وحاولوا أكثر من مرة أن يغلقوا كلية الحقوق التي اعتبروها بيئة خطرة ضد النفوذ الفرنسي , وكانوا يحسبون أكبر حساب لثورة الشباب الجامعيين وتكتلهم , وكانوا يلقون منهم العناء وهم في المدارس الثانوية , لذلك حاولوا بقوة دون تأسيس كليات الجامعة , وكانوا يأملون من البعوث التي يرسلونها إلى جامعاتهم في فرنسا أن يعودوا (( متفرنسين )) – وقد خمد شعورهم الوطني – فخاب ظنهم ورجع أكثرهم مزودين بثقافات علمية وهم أكثر وطنية واشد حماسا ً .
وحين تم الجلاء اخذ العهد الوطني على عاتقه أن ينشئ هذه الكليات : الآداب والعلوم والهندسة والتربية وهي تقوم اليوم بدور خطير في إنشاء جيل عربي واع , وقد استكمل عدته من العلم والمعرفة , وأخذ يعمل لوطنه ولعروبته , وينهض بالعبء الفكري بقوة واعتزاز .
وقد تنوعت الدراسات الأدبية , فنشرت المخطوطات وترجمت الروائع وألفت كتب تتناول مشاكل العلم , ومشاكل المجتمع وما يتصل بالتطورات العلمية والمذاهب الاجتماعية , ولم يهمل المجمع العلمي العربي , واجبه فنشر طائفة من الكتب الكلاسيكية – تلك الذخائر الثمينة من أدبنا القديم وتراثنا الفكري النفيس –في الشعر وفي الأدب والتاريخ والمنطق .
وهناك كثير من المفكرين يغذون حركة النشر بمؤلفاتهم المترجمة والموضوعة في شتى ميادين المعرفة . والجانب الأدبي أغلب من بقية الجوانب , لأن الأدب الصق بالحياة من سائر فروع العلم , وهو الأداة التي تعبر عن نوازعنا وترسم خطط سيرنا , وتثيرنا للنضال في كفاحنا وثوراتنا التحررية .
فقد عرف السوريون –قبيل جلاء الأتراك – عدة صحف عربية محدودة النطاق ، ثم كان الحكم العربي فصدرت عدة جرائد , ثم دخل الفرنسيون فحدوا من حرية الصحافة ..
وكبر على فرنسا أن تستقل سورية . وأن يقوم فيها حكم عربي , فما كان منها إلا أن هجم الجيش الفرنسي على هذه المملكة لتقويضها ونشبت معركة ضارية في ميسلون في الرابع والعشرين من شهر تموز سنة 1919 بين القوات الفرنسية وفصائل من قوات الجيش العربي المسرح بقيادة يوسف العظمة وزير الحربية لم تدم غير يوم واحد كانت الغلبة فيه للفرنسيين , واستشهد القائد البطل في تلك المعركة , وفي اليوم الثاني أي في يوم 25 تموز سنة 1919 دخلت قوات الاحتلال الفرنسية دمشق عاصمة سورية . واضطر الملك فيصل أن يغادر دمشق إلى فلسطين . ومنها إلى بريطانيا .
وهكذا قد انهار العهد الاستقلالي الأول , وبدأ عهد الانتداب الفرنسي الذي عانت منه البلاد مرارة الاحتلال .
وكان من جراء ذلك أن قامت الثورات في جميع أنحاء البلاد ..




وكانت البلاد في غليان شديد والنفوس ثائرة .. والهياج من تصرفات الفرنسيين بالغ أشده . ولا سيما نفوس الكتاب والشعراء ورجال السياسة . وضاق الفرنسيون بهذه الثورات تنبثق من هنا وهناك وكانت حملاتهم العسكرية تنتقل من بقعة إلى بقعة ومن سهل إلى جبل , وتكبد الفرنسيون من جراء هذه الثورات الكثير من الضحايا وقد نشبت في سورية وحدها.. في عام 1922 خمس وثلاثون ثورة , دفن فيها خمسة آلاف جندي فرنسي .
وعمد الفرنسيون إلى تقطيع أوصال البلاد وأقاموا عدة دويلات في سورية , فجعلوا من حلب دولة ومن دمشق دولة ومن جبال العلويين دولة ومن جبل الدروز دولة ومن لواء الاسكندرونة (( دوقية )) فرنسا . ونشبت الثورة السورية الكبرى في أواخر شهر تموز 1925 ثم سرت إلى حماة ودمشق وقرى الغوطة ووادي التيم والى أطراف حمص بما فيها القلمون . والى شمال لبنان وبعلبك ودامت أكثر من سنتين , ولما لم يستطيعوا إخمادهم بقواتهم لجئوا إلى تحقيق بعض الأمنيات التي يطالب بها الشعب .. أعلنوا وحدة البلدان التي أقاموا منها دويلات هزيلة , ولوحوا بأسطورة الحكم الذاتي , وبإجراء انتخابات حرة لوضع الدستور , ثم إلى عقد معاهدة إلى غير ذلك من محاولاتهم الكاذبة التي ترمي إلى دوام سيطرتهم ., وبقي الشعب في نضاله إلى أن تم الجلاء في الساعة التاسعة صباحا ً في 17 نيسان سنة 1946 في عهد شكري القوتلي الذي خاطب الشعب في ذلك اليوم بخطاب تاريخي استعرض فيه الأدوار التي مرت فيها البلاد السورية ومما قاله :
(( هذا اليوم تشرق فيه شمس الحرية ساطعة على وطنكم فلا يخفق فيه إلا علمكم ولا تعلو فيه إلا رايتكم .... هذا يوم الحق تدوي فيه كلمته ويوم الاستقلال تتجلى عزته . يوم يرى الباطل فيه كيف تدول دولته , وكيف تضمحل جولته )) . هذه الثورات التي نشبت قد أهاجت النفوس وأثارت قرائح الشعراء . وهزت ضمائر الكتاب والصحفيين .
فالشعراء قد عبروا عن أحاسيسهم وأحاسيس قومهم بقصائد تختلف في مضمونها وطريقة تعبيرها . منهم من لجأ إلى الرمز خشية بطش الغاضبين , ومنهم من المع وأبان عن قصده بوضوح ولكنه لم يستطع نشر شعره في الصحف الخاضعة لسيف الرقابة المصلت فتناقلته الألسن ووعته الصدور .
فشفيق جبري في مقطوعته الشعرية ( حنين العندليب ) عمد إلى الرمز في تصوير حرمان السوريين من البوح بما في صدورهم:
دع العندليب على غصنه يردد على الغصن أحزانه
فلم أرى في لحنه كلفة تهجن إن ناح ألحانه
لئن دون الناس أشعارهم لقد جعل الروض ديوانه
وإن قيد الوزن أفكارهم لقد أطلق الشدو أوزانه
وحين ناجى الحرية في قصيدة ثانية – ناجاها بأسلوب رمزي فخاطب الدهر بدلا ً من مخاطبة الفرنسيين مباشرة . فكانت أبياتها غمزا ً ولمزا ً وتقريعا ً :
هاج نسيم الريح لي أمرها بالله يا ريح ابعثي ذكرها
تجهز الدهر لإقلاقها ما حمدت في ليلة دهرها
وخير الدين زركلي يندب وطنه الذي آل أمره إلى قراصنة الاستعمار , فلا يعمد إلى الرمز بل يبين عن قصده بوضوح وقد كتب أكثر من قصيدة وطنية ثائرة , فمن إحدى أغنياته الحزينة :
متى ترى تبسم لي يا زمان ألا حنان ؟
أسلمتني لا انس لي لا أمان للحدثان !
ابكي ربوعا ً لا تطيق الهوان رهن امتهان
ثم يقول :
يا زمن الشؤم , سقيت الشآم كاس الحمام
القبلتان اشتكتا والمقام مما نسام
إلى متى نبقى اسارى انقسام ونستضام
مصر تناجيك .... ودار السلام مل المقام
وتتوالى صيحات الشعراء منذ تقوض عرش فيصل إلى أيام الثورة الكبرى إلى يوم الجلاء – صيحات انبعثت من أفئدة الشعراء وفي طليعتهم محمد البزم , وخليل مردم , وشفيق جبري ومحمد الفراتي وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة وعمر يحيى وغيرهم ويقول بدر الدين الحامد أحد شعراء حماة من قصيدة له في يوم الجلاء ذاكرا ً الماضي الأسود الذي مرت به البلاد :
هذا التراب دم بالدمع ممتزج تهب منه على الأجيال انسام
ست وعشرون مرت كلما فرغت جام من اليأس صرفا ً اترعت جام
لولا اليقين ولولا الله ما صبرت على النوائب في أحداثها الشام
ثم يقول :
فيا فرنسا ارجعي بالخزي صاغرة ذكراك في صفحة التاريخ آثام
وهكذا فان الأحداث قد هزت شعراء الشام فكتبوا قصائد تصف الشعور العارم الذي يختلج في ضمير الشعب , كما وصفوا النقمة الصارخة على رسل الانتداب ولا سيما حين نشبت الثورة التي لم يقتصر وصف لهيبها المندلع على شعراء سورية بل تعداه إلى شعراء الأقطار العربية . فرأينا أمير الشعراء احمد شوقي يخص الثورة , يقول :
وقفتم بين موت أو حياة فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وللأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
ومن قصائده :
فرنسا ليس في حوران لحم يسر بينك يا أم الضباع
وهل لاقيت في حوران إلا مآسد خلتها جهلا ً مراعي
وكانت الصحافة أداة صادقة للتعبير عن هيجان النفوس ورسم هذه الخلجات التي تجول في ضمير الأمة , بل لعبت دور في تقويض سلطان الأجنبي فكانت بحق صوت الوطن المدوي ولسانه الذرب المعبر , وكانت المقالات الافتتاحية برغم سيف الرقابة المسلط , شواظا ً من نار , كانت لا ترسم سياسة الوطن الذي ينشد حريته وسيادته فحسب بل كانت بإلهابها النفوس وبأسلوبها الناري تقض مضاجع المحتلين متحملة في سبيل مبدئها الكثير من الأهوال وكثيرا ًما لقي الصحفيون العنف والإرهاق والنفي والاضطهاد وشردوا عن أسرهم ووطنهم فلم يثنهم كل ذلك عن أداء حق الوطن فصمدوا للأعاصير وقارعوا الأحداث وكافحوا بإباء وصبر وشمم .
وكان لهذه الأحداث أثرها في لغتهم وفي أسلوبهم . وكان ذلك مدعاة لتطور لغة الصحافة التي كانت أداة اتصال مباشر مع الجمهور ولعبت دورها الخطير في ثقافته
وكانت صحافة سورية كانت متجاوبة مع صحافة مصر .. أي كان للكفاح القومي في مصر وسورية أثره في لغة الصحافة التي أخذت تعبر عن المشاعر الوطنية والأحاسيس الملتهبة الثائرة , , وكان من الطبيعي أن يسير الأدب في طريقه المتكامل . وأن يكثر محصولنا من الأدباء والشعراء . وأن يتجهوا اتجاهات مختلفة في التعبير عن ( ذاتهم وعن مجتمعهم ) وعما يعانيه وطنهم من أحداث .
والصحافة كعامل كبير من عوامل تطور الحركة الفكرية وخاصة الصحافة الأدبية التي يرجع تاريخها في سورية إلى نصف قرن تقريبا ً.
والصحافة الأدبية يبدأ في سورية بصدور مجلة ( المقتبس ) سنة 1906 لمحمد كرد علي فهي أول مجلة صدرت في دمشق لتعنى بحركات الفكر . ثم تحولت إلى جريدة سياسية . وظهرت في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الكبرى عدة مجلات لم تعش طويلا ً . ولكنها كانت سجلا ً للتيارات الفكرية التي ترسم هواجس الأدباء والشعراء في تلك الفترة .
ثم صدرت مجلة ( المجمع العلمي العربي ) وقد جعلها الأستاذ محمد كرد علي سجلا ً صادقا ً لمباحث الأكاديميين في اللغة وما يمت بصلة إلى ترقية اللغة العربية وصدرت أيام الانتداب الفرنسي مجلة ( الرابطة الأدبية ) وكانت ذات نزعة حرة , جعلت الأدب وسيلتها لرسم الخوالج القومية . وهي لسان حال جمعية ( الرابطة الأدبية التي ضمت الأدباء والشعراء ليتباحثوا في شؤون الأدب بعد غفوته الطويلة , دعا إلى تأسيسها الأستاذ خليل مردم الذي رأى أن الأدب العربي في حاجة إلى نهضة توقظه من سباته , , وقد ضاق الفرنسيون بالجمعية وبالمجلة معا ً فأغلقوها .
وفي سنة 1923 صدرت مجلة الميزان وهي مجلة أسبوعية أنشأها أحمد شاكر الكرمي , وكانت صحيفة تعنى بالأدب والنقد . التف حول محررها طائفة من الشباب المجددين الذين أخذوا على عاتقهم مجاراة التيارات الفكرية الحديثة وفي الفترة التي حمى فيها الصراع بين المجددين والقدماء في مصر صدرت مجلة ( الحديث ) تحمل رسالة التجديد ,
وأصدر الأستاذ خليل مردم ونفر من أصحابه مجلة ( الثقافة ) وكانت مرآة صادقة للثقافة العربية الحية , تحرص على جمال الأدب القديم حرصها على روعة الأدب الحديث ، ثم صدرت عدة صحف ومجلات أدبية كانت من العوامل القوية لدعم الحياة الفكرية يلتقي على صفحاتها الأدباء والشعراء
وكان مصطفى صادق الرافعي على رأس أنصار الأدب القديم . وكان طه حسين على رأس أنصار الأدب الحديث , وقد وقعت بينهما خصومات أدبية عنيفة . ومع اختلافهما في المنهج كانا يتشددان في الحرص على سلامة اللغة .
اخذ الأدب خلال هذه الفترات التي مرت بين الحربين العالميتين ينمو ويتطور . وقد اتجه اتجاها ً قوميا ً يعبر عن أحاسيس الوطن وشعور الأمة ووجدانها . ويتغنى بماضي العرب وزهو حضارتهم . وكان للترجمة – أريد ترجمة روائع الأدب العالمي – أثرها في التفكير . كما كان للأدباء الشباب الذين اغترفوا من جامعات الغرب ودرسوا أدب الغرب إثرهم في تلقيح أدبنا ونموه . وككل حركة جديدة لا بد لها من أن تأخذ طريقها للسير إلى الأمام ومجاراة المذاهب الأدبية الجديدة – أخذت الحركة الأدبية في سورية لونها الجديد , وهي تختلف كل الاختلاف عن الاتجاهات السابقة , شعراء يصورون عواطفهم ويصورون الأحداث التي تنتاب وطنهم . وهذه الفئة تأثرت إلى حد كبير بالآداب الغربية . وبالحياة الأوروبية , وبهذه المقاييس الأدبية التي رسمها زعماء التجديد في مصر




وقد حاول الأدباء الشباب بجرأة ولباقة . كتابة أقاصيص تصور المحيط والبيئة ورسموا أخلاق الناس وطباعهم . وما يقاسيه المجتمع من بؤس وشقاء , فصدرت طائفة من الأقاصيص والروايات تمتاز ببعدها عن المبالغات والتهويل . وترسم النماذج البشرية والصور الإنسانية التي تطفو على وجه الحياة بنزعة فنية صحيحة وشعور حي .
لقد كان معروف الارناؤوط أول من حاول كتابة الرواية التاريخية الطويلة فكتب رواية ( سيد قريش ) و ( عمر بن الخطاب ) و ( طارق بن زياد ) و ( فاطمة البتول ) وتبعه فؤاد الشايب برواية ( تاريخ جرح ) ثم الدكتور شكيب الجابري بروايات ( نهم ) و ( قدر يلهو ) و ( قوس قزح ) أما القصة القصيرة فعالجها الدكتور عبد السلام العجيلي ووداد السكاكيني ومظفر سلطان وألفة ادلبي ومطاع الصفدي وغيرهم من الشباب الذين تأثروا بالقصص الغربي فاخذوا يصورون بيئاتهم ومجتمعهم بأسلوب قصصي شائق .
وبالرغم من ذلك فما يزال الفن القصصي عندنا في بدايته . ولما تصدر بعد روايات طويلة تصور مجتمعنا وتكون مادة يستطيع المؤرخ الأدبي أن يجعلها موضوع دراسة ونقد . وكل ما نستطيع قوله أن النزعة القصصية وقد خطت في مصر خطوتها الكبيرة – قد لامست ضمائر الكتاب الشباب فاخذوا يحاولونها بحذق محاولة طيبة ولكنها ما تزال في بداية الطريق .
ثم جاءت مدرسة كرد علي الفكرية التي نشأ في ظلالها أدباء وشعراء في طليعتهم محمد البزم وخير الدين زركلي وخليل مردم وشفيق جبري ومعروف الارناؤوط وجميل صليبا وكامل عياد . وكان أدبهم المنظوم والمنثور يتميز بجزالة الأسلوب وقوة المعنى , وقد اتجه حتى في البحوث الفكرية اتجاها ً تترقرق بين سطوره النزعات القومية.
وفي ظلال هذه الفئة نشأ شعراء توالى تفاعلهم مع مجتمعهم وترديدهم هذه الأهازيج التي ينبض بها عهد النضال – اتخذ أكثرهم الرومانسية مادة للتعبير عن منازعهم الذاتية , وفي طليعتهم عمر أبو ريشة وعمر يحيى وبدر الدين الحامد وأنور العطار ونديم محمد وزكي المحاسني ورضا صافي ورفيق فاخوري وسايمان العيسى وشارل الخوري ومنير العجلاني وأمجد الطرابلسي وصلاح المنجد وعلي الطنطاوي وسامي الدهان ومحمد روحي فيصل وغيرهم وغيرهم .
ثم كانت الفترة التي بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فعرف الأدب السوري انطلاقات جديدة في معالجة حياتنا الفكرية وتفهم ألوان الأدب على اختلاف مذاهبه , في طليعتهم عبد الله الدائم وشاكر مصطفى وعمر النص وسامي الدروبي ونزار قباني وغيرهم .
وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم المراحل التي مرت بها الحياة الأدبية إلى :
1- الفترة التي مرت بين الحربين العالميتين ( 1919 – 1939 ) .
الفترة التي نعيش في ظلالها منذ سنة 1940الى-1970-.
ميزات هذه الفترة الأدبية :
سار الأدب في الفترة الأولى في طور محدود من التأملات الذاتية والصيحات القومية .
وإذ كان السجع هو المسيطر على طبيعة الأدباء آنئذ فقد تمشت الركاكة في أدبهم . وكأنه قد شد إلى أدب عصر الانحطاط بامراس متينة إلا من استطاع أن يفك تلك الانطمة ويثور على قيود السجع والمحسنات البديعية , 3-إن الأدب في تلك الفترة كان يتمخض عن ولادة عسيرة إذ كان يتسم بطابع السجع المتكلف الذي يحاكي أسلوب المقامات .
4-التعبير بلغة قاموسية عن الآراء التي تدعو إلى الثورة والتحرر والانطلاق وبذر بذور الحرية ومكافحة السلطان الجائر والتي تجيش بالصدور وكانوا يعانون الأمرين لإلباس تلك المعاني صورا ً قشيبة غير بعيدة عن ذوق القارئ وفهمه .
5-قطع الأدباء صلتهم بفن السجع ومحسنات البديع .
6- تطور الدراسات الأدبية وترجمة روائع كبار الأدباء .
7-والرجوع بالأساليب إلى جزالتها المشرقة .
8-مساهمة البواعث القومية في إثارة الكتاب والشعراء للتعبير عن نوازعهم والتفاعل مع الأحداث وتصويرها
9-تحرر إن أدباء هذه الفترة من المحاكاة والتقليد وأطلقوا لأنفسهم الحرية للتعبير عن كل خالجة من خوالج الحياة والمجتمع .
10-امتلاء نفوس الأدباء بالصور الحية من الأدب العالمي التي جعلتهم يتفاعلون مع مجتمعهم ويعبرون التعبير الصادق عن تجارب أمتهم ومواطنيهم ولا سيما في كارثة فلسطين , وثورة الجزائر , ونضال بورسعيد , إثر العدوان ( الإنكلو فرنسي الإسرائيلي ) على مصر
11-تعبيرالأدباءعن تجارب ذاتهم في شتى ألوانها . بصورً مشرقة من القيم الفنية والقيم الجمالية ,
12- الثورة على قيود الأدب الكلاسيكي منطلقين أبعد ما يكونون عن الموضوعات التجريدية والوجدانيات الحالمة . هدفهم أن يصوروا الروح الجديدة التي تتمثل فيها اليقظة والعمل والكفاح – كفاح أمتهم ونضالها المرير .
إن أدباء هذه الفترة وقد تجاوبوا مع مجتمعهم والمجتمع العربي بشتى أقطاره . ثاروا أو ثار أكثرهم على قيود الأدب الكلاسيكي واثروا الانطلاق .
ففي الشعر مثلا ً امنوا بنظرية الشعر الحر غير المقيد . وهو في نظرهم أصعب ألوان الفن , لأنه (( لا يعتمد كالشعر القديم على الإيقاع والتناسب وتوازن أجزاء البيت والألاعيب البلاغية .
وهذا الاتجاه الذي ألزم نزار القباني نفسه به في الدفاع عن نظرية الشعر الحر يمثل رأي شعراء الشباب اصدق تصوير . وهو رأي قد لا يقره عليه الكثيرون . ولكنه لون يعالجه أكثر من شاعر , ويقول به أكثر من أديب في سورية بل في أكثر الأقطار العربية .
وليس معنى هذا أن شعراء الشباب ثاروا كلهم على الأوزان التقليدية وعلى الأساليب القديمة , ولكن شعرهم بمضمونه وبتعبيره يختلف عن شعر من سبقهم من الأدباء .
والظاهرة الجديدة في الشعر الجديد أنك تلمس في شعر بعض الشعراء ( نزعة إنسانية عميقة تستقي تارة من الوجدانيات الرومانتيكية وأخرى من المبادئ السياسية , وثالثة من النكبات القومية ولكنها تلتقي دوما ًعند منهل واحد هو الشعور بكرامة الإنسان .
وممَّا امتازت به هذه الفترة سعي بعض الكتبة إلى انتقاد المطبوعات النثرية والشعرية كمحمد عباس العقاد وكزكي مبارك وزكي أبي شادي وحسن صالح الجدَّاوي والأب انستاس الكرملي وقسطاكي حمصي... وإنما نود أن يكون هذا الانتقاد برواقٍ وهدو إظهاراً للحق لا تشفيا من خصم أو تحقيراً لأديب ومن خصائص هذه الحقبة أيضاً واتساع فن الكتابة بين الأوانس وربات الخدور فمنهن من يتصدر للخطابة ويلقين المحاضرات أو من ينشئن المجلات وينشرن فصولاً في الجرائد والبعض منهن يتضمن القصائد اللطيفة الرائقة


الباب الرابع
جماعات ومدارس الشعر العربي الحديث
الباب الرابع
الفصل الأول
(مدرسة الديوان – الرابطة القلمية -جمعية أبولو -العصبية الأندلسية)
وكذلك أخذ الشعراء بعد مرحلة النهضة والتجديد يثورون على الشعر القديم منذ أواخر العقد الأول من القرن العشرين رافضين التقيد بصوره ومعانيه وأوزانه ووسائل تعبيره وكذلك ثاروا على اتجاه الشعر نجو الحياة العامة والمجتمع والوطن وترك النفس الإنسانية وخلجات الخير والشر فيها والكون وحقائقه .
وقد انطلقت حركات الشعر في هذه الفترة بشكل نقدي عنيف ( مدرسة الديوان – الرابطة القلمية ) وبشكل هادئ ورزين ( جمعية أبولو والعصبية الأندلسية ) ثم انتهت هذه الحركات بالدعوة للشعر الحر
1-مدرسة الديوان : فقد ظهرت مدرسة الديوان أولا ً ( العقاد – المازني – شكري ) معلنة عن ضرورة تطوير الشعر العربي من خلال تحكيم أصنام الأدب عن طريق النقد العنيف للهدم ثم البناء بعد تأثرهم بالشعر الانكليزي بسبب اختلاط معاني شعر أصحاب هذه المدرسة بالشعر الانكليزي وأنشأ العقاد والمازني ( كتاب الديوان ) حيث تخصص العقاد بنقد شوقي وتخصص المازني بنقد المنفلوطي وأصدر شكري ديوان ( ضوء القمر ) 1909 م ضمنه قصائد وجدانية ثم نشر المازني الجزء الأول من ديوانه وقدم له العقاد بالطريقة الشعرية الجديدة القائمة على وصف آلام الإنسانية وأناتها وأحزانها ثم نشر العقاد ديوانه عام ( 1916 ) ونشر المازني الجزء الثاني من ديوانه ( 1917 ) م ونشر شكري دواوينه ( 1919) م وهاجم شوقي (1921 ) م وكشف عن جوهر الشعر وحقيقته ووظيفة التشبيه فيه وأن الشعر جعل لنقل الشعور بالأشكال والصور والألوان لرسمها رسما ً ظاهريا ً مطبقا ً رأيه على رثاء شوقي ( رثاء مصطف كامل ) داعيا ً إلى توفر الوحدة العضوية لان القصيدة عملا ً فنيا ً تاما ً والحقيقة أن مرد ذلك إلى اختلاف طريقة قرض الشعر عند الشاعرين ( شوقي والعقاد ) وفهم معنى الشعر. وتفرق أعضاء هذه المدرسة ولم يبق من المدرسة إلا العقاد حيث جمع ديوانه وسماه باسمه ( 1928 ) م ( ديوان العقاد ) وهي الأربعين – أعاصير مغرب – بعد الأعاصير . وسجل تجديده في ( هدية الكروان 1933 – عابر سبيل 1937 م) وهو بهذين الديوانين يريد أن يثبت ن الشعر هو الغناء وتوسيع دائرة الموضوعات التي تصلح للشعر ( مجالات الحياة كلها ) .
وقد شارك العقاد شعراء المهجر الجنوبي بهذه الموضوعات المتعلقة بأصحاب المهن ( ساعي البريد – الشرطي – البناء ) والشعر العربي زاخر بذلك في وصف ابن الرومي للأعمى الحمال والخباز وقالي الزلابية .
وقد عبر شكري عن معنى الشعر بأنه ( عاطفة ومنطق وقلب لا عقل ) وركز المازني على وجوب توفر الصدق في الإحساس وتصور الآلام البشرية من خلال نفس الشاعر ولم تبلغ آراء أصحاب مدرسة الديوان مدى عميقا ً يصل إلى معنى مدرسة شعرية أو مذهب فني فقط , هم ثاروا على الأساليب الشعرية القديمة والصور والمضامين القديمة وتمردوا على التقاليد الشعرية القديمة وبقي العقاد والمازني في ظل الخيال الرمزي العنيف وشكري يغرق في العاطفة .
2-الرابطة القلمية : ثم ظهرت دعوة الرابطة القلمية : في المهجر الشمالي للولايات المتحدة الأمريكية والتي تدعو إلى ما دعت إليه مدرسة الديوان من قبل المهاجرين السوريين واللبنانيين وذلك لتخليص الأدب مما ران عليه من التقاليد القديمة وبث روح التجديد فيه وكان من بينهم ميخائيل نعيمة الذي بث آرائه في مجلة ( الفنون ) التي يصدرها نسيب عريضة وجبران أبو ماضي ورشيد أيوب وعبد المسيح حداد وندوة حداد ووليم كاتسفليس ووديع باحوط والياس عط الله وغايتهم المثلى النهوض بالأدب م , ترأسها جبران ومستشارها نعيمة وخازنها كاتسفليس وجميع الأعضاء للرابطة متقاربين في ميولهم الأدبية وأذواقهم الفنية وغير متكافئين في مواهبهم وإنتاجهم ومجلة الفنون مسرحا ً لأدبهم مع أنها احتجبت لقلة مواردها المالية فتحولوا إلى جريدة ( السائح ) مؤسسها عبد المسيح حداد ومن هنا لقيت رواجا ً كبيرا ً عند الناس ثم صدرت مجلة ( الرابطة القلمية ) / 1921/ تحمل كل ما يكتبه أعضاؤها حيث تلقف الأدباء إنتاجها بالدراسة وبقي الياس عطا الله المتذوق الوحيد الذي يبدع إنتاجه فيها وقد وصف دستورها نعيمة بالقواعد :
1-بث روح نشيطة في جسم أدبنا العربي
2-الخروج بالأدباء من دور التقليد إلى الابتكار
3-قطع الصلة مع الأقدمين
4-الرابطة القلمية حركة تجديدية ثورية في الأدب العربي .
5-جعل الأدب رسولا ً لا معرضا ً للأزياء اللغوية والبهرجة العروضية
6-طرق الأدب عن طريق النفس لا عن طريق المعجمات .
وكان المؤثران الأساسيان في الرابطة جبران ثم نعيمة ولما مات جبران تشتت شملها بعد أن توفي جبران في / 1931 / واستمرار الرابطة ( 11) سنة .
ولما جاء عام / 1957 / م توفي جميع أعضاء الرابطة عدا نعيمة الذي عاد للبنان وعاش بعدهما وقد اتجه جبران للكتابة بالانكليزية في جميع كتبه النثرية ولم يكتب شعرا ً إلا ( المواكب ) بينما نظم نعيمة قصائده بين ( 1917 – 1926 ) م ومن ضمنه ( همس الجفون ) و ( الغربال ) و أبو ماضي فله ( تذكار الماضي ) (1911) و( الجداول) و ( الخمائل ) ثم (تبر وتراب ) وأما عريضة فكان له ( الأرواح الحائرة ) وقد توفي ( 1946 ) وأما رشيد أيوب فله (الأدبيات – أغاني الدرويش – هي الدنيا ) وأما ندرة حداد فله ( أوراق الخريف ) ولقد كون أعضاء الرابطة ثقافتهم من الإنجيل وتعاليمه لكونهم مسيحيين وكلهم درس الابتدائية في المدارس الطائفية ومنهم من درس في الجامعة كنعيمة فتمكن من العربية والروسية والانكليزية بعد أن درس في روسيا واستقر في أمريكا ثم أتقن الفرنسية وكان كاتسفيلس يتقن الفرنسية ويقرأ الانكليزية وأما جبران فقد أجاد الانكليزية وألف فيها عريضة فكان يتقن الروسية والباقون ثقافتهم عربية طوروها بالجهد الشخصي والخبرات الشخصية وشعورهم بالغربة الوطنية والنفسية وقد اشتركوا بالاتجاه إلى النزعة الرومانسية والتحرر من قيود التقاليد الشعرية ولجئوا إلى الإبداع والابتكار في الأدب وقد كان كتاب الغربال لنعيمة دستورهم في المقاييس الأدبية التي ترجع للحاجات النفسية الثابتة التي مجملها :
1- الحاجة إلى الإفصاح عما ينتابنا نفسيا ً من رجاء ويأس وفوز وإخفاق وإيمان وكره ولذة وألم .
2- الحاجة إلى نور الحقيقة لنهتدي في الحياة .
3- الحاجة إلى الجميل في كل شيء لأن في الروح عطش لا ينطفئ إلى الجمال .
4- الحاجة إلى النغمية لأن في الرقة ميلا ً إليها من خلال الأصوات والألحان الجميلة فالروح تهتز لقصف الرعد وخرير الماء وحفيف الأوراق .
ولهذه الرابطة دور بارز في تجديد حركة الشعر العربي من ناحيتين :
الأولى :ناحية المضمون حيث نبغ رواد هذه المدرسة في
1-الشعر التأملي الذي التفت فيه شعراء هذه المجموعة إلى عوالم مجهولة فيها أسرار ما وراء الكون والطبيعة والحياة حيث فكروا بالخالق والحقيقة وماهية الإنسان وهل هو مسير أو مخير وما هي النفس الإنسانية وما هي الحياة والموت وما هو الخير والشر , ويعد أبو ماضي أبرزهم في هذا النوع من الشعر متأثرا ً بفلسفة الغرب والشرق وفلاسفة الإسلام وقد كتب قصيدة العنقاء متحدثا ً عن الحقيقة أو النفس متأثرا ً بقصيدة بن سينا ( الروح ) التي يقول فيها :
هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف وهي التي سفرت ولم تتبرقع .
ويقول أبو ماضي :
حتى إذا نشر القنوط ضبابه فوقي فغيبني وغيب موضعي
عصر الأسى روحي فسالت أدمعا ً فلمحتها ولمستها في أدمعي
وعلمت حين العلم لا يجدي الفتى أن التي ضيعتها كانت معي
وكذلك نعيمة يتساءل عن حقيقة النفس في قصيدته ( من أنت يا نفسي ) وقد عبر نعيمة عن وحدة الوجود حين قال :
هلمي هلمي نحيي القبور ونمتص منها رحيق الدهور
عسانا إذا ما رأينا عظاما ً يفيق منها الربيع الزهور
عرفنا بأن الفناء بقاء وأن الحياة قبور تدور
أما ندرة حداد فقد اعتبر النفس سر لا يدري حقيقته إلا الله :
ظنها بعضهم معرفة أخطئوا لم تك إلا نكرة
ليس يدري غير من أبدعها ما مصير النفس بعد المقبرة .
ثم أبدع أبو ماضي قصيدة الطلاسم والتي عيبها الفلسفي ( لست أدري)
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا ً فمشيت
وسأبقى سائرا ً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي ؟ لست أدري
أما قصيدته ( الأسطورة الأزلية ) فهي تأملات مستمدة من صميم الحياة والنفس الإنسانية لأنها تمثل نزوع النفس إلى معاكسة الحالة التي يعيش فيها المرء ، فالشاب يريد أن يصبح شيخا ً للتخلص من الطيش والشيخ يريد أن يصبح شابا ًلأن روحه بلا أمان :
لما وعى الله شكايا الورى قال الحكم كونوا كما تشتهون
فاستبشر الشيخ وسر الغني والكاعب الحسناء والـحيزبون
لكنهم لما اضمحل الرجا لم يجدوا غير الذي ما يكون .
2-الشعر الإنساني : حيث نقلوا روحانية الشرق إلى البيئة الأمريكية المادية التي تفتقر إلى فلسفة روحانية حيث دعا أعضاء هذه الرابطة إلى حرية الإنسان والى الحق والسلام والعدل والمساواة وقد مثل ذلك خير تمثيل أبو ماضي في قصيدته ( الطين )
نسي الطين ساعة أنه طين حقيرفصال تيها وعربد
وكسا الخرز جسمه فتباهى وحوى الماء كيسه فتمرد
يا أخي لا تمل بوجهك عني ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
وهنا نعيمة يجعل كل المعاني في الإنسانية في قصيدته ( ابتهالات ) :
واجعل اللهم قلبي واحة تسقي القريب والغريدة
ماؤها الإيمان أما غرسها فالرجا والحب والصبر الطويل
جوها الإخلاص أما شمسها فالوفا والصدق والحلم الجميل .
وكذلك عبر ندرة حداد عن المحبة والتعاطف والتسامح في قصيدة ( سر معي ) , والإنسانية تفنى من وجهة نظر الرابطة القلمية شعور الإنسان أيضا ً مع الحيوان والنبات كما في قصيدة الفراشة :
لو كان لي غير قلبي عند مرآك لما أضاف إلى بلواه بلواك
وقد عبر هؤلاء الشعراء عن هذه المعاني الإنسانية بأسلوب سهل وألفاظ مباشرة مشرقة واضحة مع استخدام للرمز أحيانا ً .
3-الحنين للأوطان : بسبب غربتهم عن أوطانهم والحديث عن شعر الحنين عند شعراء الرابطة يطول فكل شيء في الغربة يذكرهم بأوطانهم .
سلة الفواكه عند حانوت ( نسيب أبو عريضة ) السماء المشابهة لسماء لبنان ( أبو ماضي ) الحجارة المشابهة لحجارة حمص ( نسيب عريضة ) الثلج المشابه لثلج لبنان – رؤية أبناء الوطن ( ندرة حداد ) .
يقول رشيد أيوب :
يا ثلج قد هيجت أشجاني ذكرتني أهلي بلبنان
بالله قل عني لإخواني ما زال يرعى حرمة العهد
ويتساءل نسيب عريضة عما إذا كان سيعود إلى وطنه بعد موته :
يا دهر قد طال البعاد عن الوطن هل عودة ترجى وقد فات الظعن
عد بي إلى حمص ولو حشو الكفن واهتف أتيت بعاثر مردود
الثانية :ناحية الشكل وطرق التعبير التي جددوا فيها
1-فتسامحوا بألفاظ اللغة
2-تلاعبوا بأوزان الشعر واعتمدوا البحور الشعرية الخفيفة خارجين بالأدب من التقليد والجمود إلى الابتكار في الأساليب الجميلة والمعاني الرائعة حيث نجدهم في اللغة يجددون شبابها ويبسطون معانيها ويحرروها من الجمود متعامين عن الخطأ اللغوي ما دام الغرض مفهوما ً واللفظ مفيدا ً، كما وأن جبران نشط في مسالة اللغة فكتب مقالته ( لكم لغتكم ولي لغتي ) ناقدا ً لغة البديع والمنطق وكذلك قال أبو ماضي :
لست مني أن حسبت الشعر ألفاظا ً وأوزانا ً
خالفت دربك دربي وانقضى ما كان منا
3- جعلوا الشعر أفكار وشعور ومعان وإبداع: حيث جعلوا الكلمة الشعرية تتسع لمضامين من الحياة الاجتماعية والفكرية والمشاكل النفسية دون أن تخرج عن إطار البساطة والوضوح ويعبر عن بساطة اللغة وعذوبة الألفاظ أبو ماضي :
وطن النجوم أنا هنا حدق أتذكر من أنا
أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت ها هنا
أنا من مياهها قطرة فاضت جداول من سناها
أنا من ترابك ذرة ماجت كواكب من منى
أنا من طيورك بلبل غنت بمجدك فاغتنى
4-في الأساليب يعتنون بالصياغة الأنيقة وقد يجمعون الجزالة والسهولة معا ً كما في قول نسيب عريضة :
يا نفس ما لك والأنين تتألمين وتؤلمين
عذبت قلبي بالحنين وكتمته ما تقصدين
وأهم ما يميز أسلوب شعراء الرابطة البعد عن القوالب الجاهزة المحفوظة المستعارة من فحول الشعراء وإيثارهم العبارة الشعرية الرقيقة والابتعاد عن التكلف والتقليد فهم يعبرون عن ذواتهم بصدق وعمق ومن هنا كان شعرهم شعرا ً مفهوما ً على حد قول مندور .
5- في الأوزان فقد تفنن شعراء الرابطة في
أ-تنسيق الأوزان الشعرية القديمة وتغيير قوافيها ورويها بين المقاطع :
فأصغي إلى همس الجداول جاريات في السفوح
واستنشقي الأزهار في الجنان ما دامت تفوح
من قبل أن يأتي زمان الضباب أو الدخان
لا تبصرين به الغدير ولا لذلك الخرير
ب- لجؤوا إلى الموشحات انفلاتا ً من القيود في القافية الموحدة والبحر الواحد والقصيدة الواحدة كما في موشح ( النسر ) متمثلا ً نفسه :
أنت حر شاعر أنت أمير في الورى محسود
فهنيئا ً لك في الجو المطير والمدى المحدود
لست مثلي قائما فوق الأثير في الليالي السود
ج-أكثروا من الأوزان الشعرية القصيرة والمجزورة والمشطورة تجاوبا ً مع موجات أنفسهم المتحسرة . يقول نعيمة في أوراق الخريف :
تناثري تناثري يا بهجة النظر
يا مرقص الشمس ويا أرجوحة القمر
يا رمز فكر حائر ورسم روح ثائر
يا ذكر مجد غابر قد عانك الشجر
تناثري تناثري
د-جاءت هذه الخطوة في التفنن في الأوزان مقدمة لشعر التفعيلة الحر التي بدأها نسيب عريضة في قصيدة ( النهاية ) :
كفنوه /
وادفنوه /
اسكنوه /
هوة اللحد العميق /
واذهبوا لا تندبوه /
فهو شعب /
ميت ليس يفيق/
3-جمعية أبولو : ثم ظهرت جمعية أبولو في مصر بسبب الاتصال بالغرب وثقافته ومذاهبه الأدبية بزعامة احمد زكي أبو شادي ( 1829 – 1955 ) الذي يعد نموذجا ً لهذا التأثر فهو طبيب والده محام كبير هو ملتقى الوجهاء والمثقفين ووالدته ( أمينة نجيب ) تنظم الشعر وتنشده وممن كان يحضر مجلس والده ( خليل مطران ) الذي يعد أستاذ أاحمد الشعري والذي قدم لديوانه ( أطياف الربيع ) /1933/ وأشاد بعبقريته ومن خلال مذهب الحرية الفنية الذي جاء به مطران والذي يحترم استقلالية الشاعر واستقلال الشعر عن الصناعة والبهرجة والأناقة الزخرفية , أسس أبو شادي جمعية أبولو ( 1932 ) م وعلل التسمية بالتغني بزعامة الشعر. رأس جلسة الجمعية الأولى شوقي ثم مات بعد أربعة أيام فخلفه مطران رئيسا ً حيث كان أبو شادي أمين سرها وقد كان ( أحمد محرم – حسن كامل الصيرفي – وعلي العناني – د . إبراهيم ناجي – محمود أبو الوفا – أحمد الشليب – أحمد ضيف – علي محمود طه – كامل الكيلاني .... ) من أعضائها ثم انضم إليها ( مصطفى السحرتي – مختار الوكيل – صالح جودت – عبد العزيز عتيق ) وتضم المجموعة شعراء ذوي اتجاهات متعددة وأمزجة مختلفة منهم المرح علي محمود طه – والحزين إبراهيم ناجي – والانطوائي التأملي حسن كامل الصيرفي – والثائر المتمرد الشابي ) أجمعوا جميعهم على تشجيعهم إنتاج الأقلام الناشئة بنشر إنتاجهم وقد حدد أبو شادي أهداف الجمعية بـ :
1- السمو بالشعر العربي .
2- توجيه جهود الشعراء توجيها ً شريفا ً .
3- مناصرة النهضة الفنية في الشعر .
4- ترقية مستوى الشعراء أدبيا ً واجتماعيا ً وماديا ً .
5- الدفاع عن كرامة الشعراء .
6- عدم الالتزام باتجاه أدبي معين .
وقد جمع شعر أبي شادي بتيارات أدبية مختلفة ناتجة عن اطلاعه على مذاهب الغرب الشعرية بعد دراسته الطب في انكلترا ( الواقعية – الرومانسية – الرمزية ) وأنواع الشعر القصصي ( الغنائي – التمثيلي ) .
يقول أبو شادي موقضا ً شعبه وباثا ً فيه الوعي الوطني :
أيا شعب قم وانشد حقوقك فالخنوع هو الممات
تشكو الغريب وعلة الشكوى الزعامات الموات
كذلك يقول في قصيدة ( الشريد ) :
جن قلبي في التياع المضطرب وبكت نفسي بصمت المنتحب
آه من ضيق تعالى فوق صدري دافنا ً روحي فصدري مثل قبري
كشريد والرعود القاصفة أسلمته لجنون العاصفة .
وكتب أبو شادي القصة الشعرية متأثرا ً بمطران وكذلك شعر الطبيعة :
يا ساعة عند الغروب كأنها خطفت من الأحلام والأجيال
ما بال هذي الشمس ترسل وجدها فوق اللهيب على المياه حيالي
ما بال هذا الجو أشبع روحه بالخوف والآلام والآمال
وقد مثل أبو شادي مجموعته الذي كان منهم الوطني الثائر والرومانسي الحائر والمنطوي المتشائم والمرح والمتفائل وقد جمع شعراء أبولو بين تراث الشعر العربي والاطلاع على الآداب الأجنبية مما جعلهم يغنون أدبنا بالجديد , وقد كان تجديدهم في الشكل ( عروض الشعر – الرباعيات – الشعر المرسل – كل بيتين يروي واحد – التنويع بالقوافي والروي – تقسيم القصيدة إلى مقاطع ) وكذلك تحدثوا عن موضوعات إنسانية وذاتية جديدة .
4-العصبة الأندلسية : ثم جاءت العصبة الأندلسية التي كانت في أوج ازدهارها بعد موت جبران وقد عاش شعراؤها في أمريكا الجنوبية وخاصة في البرازيل والأرجنتين في نهاية الحرب العالمية الأولى والثانية فركزوا على إنشاء الصحف والمجلات كمجلة ( الجالية ) لسامي الراسي و ( الشرق ) لموسى كريم ( والأندلس الجديدة ) لشكر الله الجر الذي عزز أدب الشعراء العرب هناك بعد أن جمع شملهم وأعلن مولد ( العصبة ) في ( 1933 ) م في سان باولو واختير ميشال معلوف رئيسا ً لها ثم خلفه رشيد سليم الخوري بعد ست سنوات ثم شفيق معلوف والذي بقي حتى تشتت شملها وقد كان أعضاؤها متعاونين ثقافيا ً فمنهم من يتقن لغة أجنبية ومنهم لا يعرف إلا العربية ومنهم من لا يعرف قاعدة نحوية ( فرحات ) ولكن موهبتهم أهلتهم لإنتاج شعر له قيمة في أدبنا وقد نشر الأعضاء إنتاجهم في مجلة الأندلس الجديدة حتى أسسوا مجلة العصبة ورئيسها الشيخ حبيب مسعود وسميت بهذا الاسم تيمنا ً بالتراث العربي في الأندلس وقد اتفق أعضاء العصبة على :
1- النضال في سبيل الأدب من حيث هو فن .
2- ترسم أساليب الفصحى .
3- التقيد بأحكام اللغة قدر الإمكان .
4-عدم البحث في السياسة والدين .
أما نظام العصبة فيمكن استخلاصه من الاطلاع على أهدافها وغاياتها التي يمكن حصرها في :
1- جمع الأدباء العرب في المهجر .
2- تعزيز الأدب العربي في المهجر .
3- تأسيس منتدى أدبي صرف .
4- إصدار مجلة تنطق باسم العصبة .
5- ربط التواصل الأدبي بين العصبة والأندية العربية الأخرى .
6- رفع مستوى العقلية العربية .
7- مكافحة التعصب الديني والإقليمي .
8- إبعاد أي صبغة سياسية أو دينية أو إقليمية عن العصبة .
9- اطلاع العالم العربي على بدائع الفكر العربي وخاصة في البرازيل عن طريق المجلة .
وقد حققت العصبة معظم أهدافها ولا سيما الصلات مع الأندية العربة الأدبية ونشرت بعض الدواوين مثل ( الوافد وزنابق الفجر ) لشكر الله الجر و ( عبقر – لكل زهرة عبير – نداء المجاديف )
لشفيق معلوف ( وأحلام الراعي لالياس فرحات وكذلك نشرت مجموعات الشاعر القروي ( البواكير والزمازم والأزاهير ) في مجلد وألقيت في مقر العصبة ألاف المقالات عن أدبنا العربي .
ومن فصائل الرابطة :
1- التمسك باللغة العربية الفصحى .
2- عدم التضحية بقواعد اللغة في سبيل التجديد .
3- التجديد في المضامين مع المحافظة على قوالب اللغة العربية وقواعدها .
4- الاتجاه نحو القضايا الوطنية والقومية .
5- استغلال المناسبات الوطنية والقومية لقول الشعر .
وقد لقب الشاعر القروي ( بقديس الوطنية العربية ) وهو القائل :
أنا العروبة لي في كل مملكة إنجيل حب وقرآن إنعام
سل عهد شامي وبغدادي وأندلسي عن عمق فلسفتي عن عدل أفكاري
ما اخضوضر الشرق إلا تحت أقدامي وازهوهر الغرب إلا تحت أعلامي
ومن المضامين الشعرية عندهم :
1- الحث على النهوض والتآخي .
2- الحديث عن المجاعة في لبنان في الحرب العالمية الأولى .
3- الثورة ضد الاستعمار الفرنسي .
4- التنديد بالنزاعات الإقليمية ( الفينيقية )
5- الإحساس بالارتباط الإسلامي بين العروبة والترك .
6- الاعتزاز بماضي العرب وأثرهم .
7- تقريع العرب التقاعس عن الجهاد في سبيل الله .
8- الحديث عن معظم المناسبات القومية البارزة . ( شهداء السادس من أيار – الثورة العربية الكبرى –ثورة زغلول في مصر – واقعة ميسلون في سوريا – الثورة السورية – جلاء فرنسا عن سوريا – قضية فلسطين – ثورة الجزائر / 1953 / م تأميم قناة السويس 1956 م – ثورة 14 تموز في العراق 1962 – الوحدة بين سوريا ومصر 1958 – ثورة اليمن - ثورة الفاتح بليبيا 1969 – .
وأعظم ما عبر عنه شعراء هذه الرابطة أن وطنهم العربي أضحى قرة أعينهم باستقلال أقطاره وقد عبر عن ذلك إلياس فرحات :
إنا وإن تكن الشآم ديارنا فقلوبنا للعرب بالأجمال
نهوى العراق ورافديه وما على أرض الجزيرة من حصى ورمال
وإذا ذكرت لنا الكنانة خلتنا نروى بسائغ نيلها السلسال
كنا وما زلنا نشاطر أهلها مر الأسى وحلاوة الآمال
أما الحنين إلى الأوطان فحدث ولا حرج فقد كان رومنسيا ً وطنيا ً بينما كان عند الشماليين رومانسيا ً صرفا ً فقد كان عند الجنوبيين ممزوجا ً بالحسرة والألم لرؤية الوطن مكبلا ً بالاستعمار مباحا ً للغرباء محرما ً على أبنائه تتقاسمه الطائفية والحزبية فهذا ( رياض معلوف ) في قصيدة لبنان يصبح ريشة من طير وطنه وقطرة من نهره وقطعة من أرزه :
أنا ريشة من طيرك الصداح في الجو الرحيب
أنا قطرة من نهرك الصخاب بالموج الغضوب
أنا قطعة من أرزك العلم المفدى بالقلوب
وقد تحولت حجارة حمص السوداء عند ميشيل مغربي إلى كنز أغلى من قصر فرساي في باريس :
أما نصر سمعان فيرد على من لامه على حبه وطنه قائلا ً :
قالوا أتصبو إلى حمص فقلت لهم قلبي بغير هواها غير خفاق
تلك الخمائل جنات منورة بكل زهر زكي الطيب عباق
ولقد نظم شعراء الرابطة في الجوانب الإنسانية من ابتسام وتفاؤل ومرح وكرم وجود فقد قال أبو ماضي :
من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنه أحمق بالبخل ينتحر.
وركزوا على عواطف الأمومة والأبوة والأخوة وفي ذلك يقول معلوف :
قدست أمك يا أمي يا من حملت العمر همي
كل العواطف دون عطفك كلها وهم بوهم
إلا عواطفك النبيلة نزهت من كل ذم
ويقول توفيق بربر في صغيرته
صغيرة بيتي وحبة قلبي وزهرة عيشي وثمرة حبي
كأن النسيم الحنون حياها أدق المعاني لنسبي وقصتي
تزقزقت حولي فنشرت شمسي ويزهر قفري وتورق دربي .
وكتب شعراء الرابطة في ما هية الإنسان ومن أين جاء والى أين سينتهي , كذلك تحدثوا عن أصحاب المهن ( أقلام أوراق – ساعي البريد – بناء ) .






الباب الرابع
الفصل الثاني
أحوال الشعر العربي في العصر الحديث
أ-حالة الشعر في بلاد الشام العصر الحديث 1916 -1970
في سوريا ولبنان
تعد الثورة العربية الكبرى 1916 بقيادة الحسين ضد الأتراك مدخلا وباعثا على خلق شعري حديث وعاد معظم شعراء الشام إلى التراث وفتراته الزاهية من خلال نهضة عربية جديدة تريد اكتشاف الذات الجمعية بالرجوع للماضي من خلال موقف حضاري كرد فعل على المستعمر ونهوضا بالهوية القومية للعرب والتعبير عن وجدان الأمة وإرادتها وقيمها من منفذ الشعر وقد التفت شعراء الشام إلى مدرسة مطران والديوان والمهجر وتأثروا بها كما تأثروا بمدرسة التقليد وبرز مجموعة من الشعراء في سوريا ولبنان الزركلي – محمد البرم – خليل مردم - شفيق جبري بدوي الجبل - وديع عقل - يوسف غصوب –وبشارة الخوري وقد بلغ الشعراء هنا الذروة في موضوع النضال القومي والوطني كما وكيفا مع عدم إغفال التعبير عن المشاعر الخاصة من خلال ديباجة متميزة وصياغة لفظية صارمة وسلامة في التراكيب مع صنعاء ووضوح وجوس ومتانة وحسن سبك مع فخامة في المفردات
سوريا : وقد اتجه الشعراء في سوريا نحو تقليد التراث الفكري والأدبي لإحياء التراث ووضعه في متناول الناس وتمثلهم له، وقد تمسك محمد البرم باللغة والقواعد من التراث وعله على شعره وطلابه
ولأمضين عزيمة عربية لا الموت يرهبني ولا أهواله
فأقيم حيث المجد مؤتنق السنى والفرقد عم الربى هطاله
والزركلي لا يريد من القصيدة إلا التوازن بين التجربة الشعورية وإيقاع النص بمفردات مناسبة وتراكيب سلمية
العين بعد فراقها الوطنا لا ساكنا القت ولا سكنا
كانت ترى في كل سانحة حسنا وباتت لا ترى حسنا
وخليل مردم يبحث عن التوازن واللياقة والأناقة ومن شعره
كل الفين انضوى شملها اقبلا فاعتنقا أي اعتناق
لو صببت آلاء بينهما لم يكد يخلص من فرط اعتلاق
وبدوي الجبل يتمسك بالقديم في صوره وألفاظه وعباراته
يا سامر الحي هل تعنيك شكوانا رق الحديد وما رقوا لبلوانا
ضل العتاب دموعا لا غناء بها وعاتب القوم أشلاء ونيرانا
لبنان : واهتم شعراء لبنان بالنص المبدع من خلال الاطلاع على النماذج الغربية مع عدم تناسي التراث واستلهامها الواقع وقد مثل ذلك الشاعر يوسف غصوب في تأمله وتشاؤمه وغنائيته الذاتية المعبرة عن الطبيعة والغربة
شربت الحياة بكل كاس وما نفذ الشراب ولا رويت
وما خمري إلا الأم نفسي ترافقني ضحى وبها قد أبيت
ومثله الأخطل الصغير الذي كان شعره صورة لنفسه فهو شاعر مولع بالجمال المرأة الطبيعة يختار مفرداته للتعبير عن هذا الجمال
يبكي ويضحك لا حزنا ولا فرحا كما شق خط سيرا في الهوى وهما
وتحولت مهمة الشاعر من نديم إلى خطيب يعبر عن أحداث عصره وصار مقياس الشعر نماذج من الاحتفاء بالمحسنات إلى القيمة التعبيرية عن النفس والعصر ولعل الخمسة عشر عاما من 1935 -1948 شهدت تغيرات في بنية التركيب اللسانية والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والتحول نحو التجارة ودخول المرء نحو التغيير والانفتاح نحو الغرب فكرا وانتشرت الصحف والمجلات وما حملته من عراك وولدت أجناس أدبية جديدة القصة القصيرة – الرواية – المسرحية – والمقالة – والسيرة مع اشتعال للثورات الوطنية ثم الاستقلال وسلخ لواء اسكندرون ونكبة فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي وقد تركت هذه المتغيرات السياسية مناهضة المستعمر – قبول المنحى الحضاري للاستعمار – ضرورة التكيف مع الواقع سمات جديدة للشعر منها
-بلبلة العقول تجاه المتغيرات الجديدة
-اختلاط المذاهب الأدبية وتعايشها في القصيدة الواحدة
-تداخل الرومانسية مع الواقعية حيث عاش الشعراء حزنا على الأحداث المؤلمة ---الاحتلال الفرنسي
– نكبة فلسطين
وكانوا واقعيين بفعل التحول الجديد وقد مثل هذه الفترة ( أنور العطار – نديم محمد - عمر أبو ريشة - - وصفي قرنفلي – عبد السلام عيون الوز – عبد الباسط الصوفي – والياس أبو شبكة – وصلاح لبكي – وسعيد عقل )
ولقد عبرت الكلاسيكية الرومانسية عن عهدها تمام التعبير من خلال:
- الرفض للشعر التقليدي قديم ومعاصر
– التأثر بالشعر العالمي
– الاستقلالية والخصوصية
– ازدواجية التعبير حيث الشكل القديم والمضمون الحديث
-وكذلك تميزت الرومانسية المتمردة
1-بالثورة على التقليد
والانتقال نحو الذاتية
والاندفاع نحو التجديد من خلال سمات التمرد على كل التقاليد الأدبية والموضوعات الاجتماعية
الحساسية الفائقة إلى حد المرض السوداوي
جمال القبح
اختراق الشكل الكلاسيكي.
والرمزية استخدمت
1-الألفاظ وسيلة للتصوير والإيحاء وتقدر الدلالات من خلال المثاقفة
2-والأخذ عن الغرب
3– واللغة الشاعرية الخاصة
4– وجرس أصوات المفردات المتناغم
5– والاهتمام بالعلاقات القائمة بين الألفاظ
6– اعتبار منطقة اللاشعور هي وسيلة التعبير الوحيدة حيث نشوة الحلم وكثافاته وامتلائه
7- التوقيع بالتلميح والإيحاء والاندماج مع النص وإعادة التلقي واستحضار الحالة على النفس والعقل عن طريق الوحي والاستلهام مع الوقوف قبالة المعنى وبهذه الفترة الشعرية ملامح شعرية تمثلت في .
أ-وجود معطيات اجتماعية تمثلت بكون الشعراء من الطبقات الكادحة على الأغلب والبرجوازية قليلا وسياسة من خلال الاحتلال الفرنسي ونكبة فلسطين وثورات ضد الظلم وفلسفية صورت ارتباط الشعر بالتجربة المعايشة للشاعر وفلسفة الحياة ونفسية تتمثل بمجموعة مشاكل ضاغطة حولت حياة الشاعر إلى حزن واسودادية فنية دفعت الشاعر إلى البحث عن التلقائية والعفوية
ب- تأكيد ذات الفرد وذات الجماعة دارت حولها غنائية الشعر واعتبار الشاعر رسولا إلهيا وشعره إلهاما روحيا واعتبار الخيال قوة خالقة
ج-تعدد موضوعات الشعر (شعر الكفاح السياسي – شعر الطبيعة – شعر اجتماعي – شعر الحب والمرأة )
وقد قدم الرومانسيون شعرهم بالشكل الكلاسيكي والشكل المستحدث فالياس أبو شبكه بحياته القصيرة وألمه العميق على اغتيال والده وهو في العاشرة وعجزه أمام الموت وانغماسه في الشهوات وأن مع غير زوجته جعله يعيش بين الرغبة التلقائية والشعور بالخيبة وقد ظل طوال حياته يعاني الخوف والقلق وشعره قد عكس ذلك في غلواء – أقاعي الفردوس – الألحان .
أطفئ ضياك واظلم مثل أظلامي
وخليني في كوابيسي وأحلامي
فرب نيرة يا ليل توقظني
إلى العفاف فانسي عبئ آثامي
وعبد الباسط الصوفي بحياته القصيرة أيضا وجه للمرأة وإحساسه بالموت جعله يعيش حياة الم وتمزق وصراع وبحث عن المثالية ثم الانتحار
تسير فيضحك منك السراب وتغنى بيسرائك القاحل
تسير فتسخر منك الدروب وتطويك أشداقها القاتلة
- حالة الشعر في بلاد الشام الأردن وفلسطين في العصر الحديث 1916- 1970
طرأت على الحياة الأدبية في هذا العصر تغيرات متعددة بفعل التغيرات الحياتية من جهة وبفعل تطور المعارف وتكاثر الحوادث ابتدأ من الثورة العربية الكبرى 1916وصولا إلى نكبة حزيران ومرورا بالحربيين العالميتين وتقاسم المستعمرين للبلاد العربية ونكبة فلسطين وقد مثل هذه المرحلة عدد من الشعراء من أمثال إبراهيم طوقان (1905 – 1941 )(عبد الكريم الكرمي أبو سلمى -1909 -1980 ) (كمال ناصر 1925 – 1973 ) يوسف الخطيب 1931 مصطفى وهبي التل 1899 – 1949 وقد مثل طوقان الصورة الكلاسيكية العامة مع التأثر بالرومانسية حيث تحول الشعر عنده إلى نكتة مع إيمانه بان الشعر عبارات نثرية موزونة وبدا ذلك في قوله في العلم ردا على شوقي :
ويكاد يفلقني الأمير بقوله كاد العلم أن يكون رسولا
لو جرب التعليم شوقي مرة لقضى الحياة شقاوة وخمولا
ولقد طوع طوقان العامية لشعره وإن كان مجددا في معجمه ومواضيعه من خلال استعمال تراكيب وصور خاصة به وفي سبيل تحقيق مقام السخرية كان يستخدم التراكيب التراثية ومالت به اللغة مايشبه الشعبية حيث استخدم العلاقات اللغوية المألوفة في الصفة والموصوف متأثرا ببعض أشعار الأقدمين معاني وصور وتراكيب ويغلب عند طوقان الأسلوب الرومنتيكي في حديثه عن ذاته وعن الحب وعن الطبيعة والأسلوب الكلاسيكي في المدح والفخر والهجاء والرثاء ويتميز شعره بالقدرة القصصية من خلال قصيدة المكتبة – مصرع جليل وقد طور طوقان شعره في شكل القصيدة بما يضمن التعبير عنريته كما في قصيدة الفدائي .
صامت لو تكلما لفظ النار والدما
قل لمن عاب صمته خلق الحزم أبكما
وقد بلغ طوقان شعره ذروة الحب والشهوة والوطن من خلال توزيع درامي خارج نطاق الغنائية الذاتية أما عبد الكريم الكرمي أبو سلمى فقد انعكست على صيحات شعره ملامح المعجم الرومنتيكي صورا وتركيبا كما في قصيدته سنعود ,
خلعت على ملاعبها شبابي وأحلامي على خضر الروابي
فقد كانت لفتة متنوعة بين العامية ومعظم الطبقة العاملة والمعجم التراثي التي تشيع فيه الأمثال والأقوال والاقتباسات والتضمنيات واصطناع التعابير وقد يستخدم علاقات جديدة في لغته الشعرية (صهوة الجراح – تنام على راحتيك النجوم) ومن خلال حرية تشكيل موسيقي يتمثل بالوشح وقد كانت موضوعات شعره مقسومة بين المرأة المحبوبة وفلسطين المسلوبة وقد خلط الحزن كلا الموضوعين .
وأما الشاعر عبد الرحيم محمود فقد قتله الهم الوطني واصطبغ شعره بالدم في استشهاده في معركة الشجرة 1948.
ساحمل روحي على راحتي والقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق وأما ممات يغيض العدا
ونفس الشريف لها غايتان ورود النايا ونيل المنى
وشعره قريب من التقليد محافظ ولكن ذا عقيدة صارمة وعاطفة حقيقية .
وأما الشاعر كمال ناصر فقد عاش متأثرا بالقديم ومتمثلا الرومانتيكية تجزل لغته وتسرق حسب الموضوع المطروح مع مجنح يقترب من الصوفية .
يا فلسطين لا تبالي فإنا قد روينا والخصم ظمآن صاغر
ما اغتصبنا المجد الأثيل ولكن قد ورثناه كابرا عن كابر
وقد مال معظم شعره للكآبة والشعور بالإحباط مع تأثر بمعجم السياسة والعقائد والأفكار والصافة .
لن نستريح
فيا بقايا الخيام
أما سئمت المقام
والعار في دنيا الأذى واللئام
وقد تابع هذا الاتجاه الشاعر محمد سليم الحوت – يوسف الخطيب – هارون قاسم رشيد مع ميل للصور التقليدية والصياغة القوية متحدثين عن اللجوء والخيام والعودة والتحرير وحسني فريز حسني زيد الكيلاني وعبد المنعم الرفاعي والرفاعي كان تلقائيا في تعابيره عن وجدانه وهموم نفسه ومجتمعه وتتبدى شخصيته الشعرية في قصيدته عمان .
عمان يا فجر حلم لاح واحتجبا عفوا إذا محت الأيام ما كتبا
وقد اتضحت الرؤية الرومنتيكية عند فدوى طوقان وحسن البحيري ومطلق عبد الخالق وإحسان عباس وأقام الشعراء علاقة مع الوطن والطبيعة والذات .
وأما الشاعر عرار فقد جمع بين التيارين التقليدي والرومنتيكي أفاد من لغة العامة والسنة الشعوب من أمثال وأقوال كغيره من شعراء هذه الفترة وان كان هو أكثر عمقا منهم ولم يكتف بذلك بل استفاد من القوالب الجاهزة والمعجم التقليدي المحافظ والمعجم الشعبي والعبارات العامية الدارجة في عصره وأناشيد الحصادين والرعاة من الشعر القديم والقرآن الكريم حيث يضمن شعره ويقتبس من غيره ويشطر شعره فهو قلق وحساس يشعر بالكارثة التي ألمت بشعبه ويتميز شعره بالعفوية وان كان للتراث الشعري القديم سطوة في شعره معنى وأسلوبا فهو أحيانا يقف على الأطلال ويخاطب صاحبيه ويتحدث عن غزله كما يتحدثوا ومما قاله مصطفى وهبي التل (عرار)
أهكذا لا حتى مرحبا لله أشكو قلبك القلبا
أهكذا لا حتى نظرة المج فيها ومض شوق جنا
أهكذا لا حتى لفتة انعم منها عرفك الطيبا
وقد سار على نهج عرار مجموعة من الشعراء منهم حيدر محمود الذي يقول مستلهما لغة الشاعر عرار .
يا شاعر الشعب صار الشعب مزرعة لحفنة من عكاريت وزعران
وإذا كانت مهمتنا في هذا البحث التعريف بحركة الشعر في هذه الفترة لا البحث عن السابقين في مضامير التجدد فان شعراء هذه الفترة بعضهم قد اتجه باتجاه شعر التغطية كغيرهم من شعراء العربية في هذا العصر فدوى طوقان ومعين بسيسو وكمال ناصر وعبد الرحيم عمر وأمين شتار وخالد الساكت وحكمت العتيلي وفايز صباغ وتيسير سبول يفرغون فيه مشاعرهم الرومانتيكية ترافق ذلك مع منشاة القضية الفلسطينية وهذا الاتجاه الشعري يبحث عن شكل جديد مع استمرار المضامين المعاصرة يقول معين بسيسو .
يا سهير
أنا في المنفى اغني للقطار
واغني للمحطة
أي هزة
حينما توقظي في عيني غزة
حينما تلمع أصوات الرفاقي
وهكذا فقد جاءت نكبة فلسطين ثم نكسة حزيران لتوقظ الشعر الوطني والقومي وتصبح هاتان القضيتان الهم الأساسي لشعراء الأردن وفلسطين مع بقاء القضايا الاجتماعية والعاطفية قضايا ثانوية وقد استخدم الشعر في هذه الفترة الأدوات الفنية الجديدة ( الرمز الأسطورة- التضمين- الوحدة العضوية- التركيز- التجدد – التراث الشعبي– الصورة الكلية – رموز الثقافة المسيحية – رموز الثقافة اليونانية –)
ومن أبرز قضايا الشعر الجديد الذي جاء استجابة لواقع جديد تتمثل في :
1- قضية الأرض والوطن من خلال نكبة فلسطين التي شردت شعب فلسطين وأصبح الشعراء بين مدافع عن أرضه وهو تحت الاحتلال وبين مطالب بأرضه وهو في المنفى يقول سميح القاسم من قصيدة دمي على كفي مؤكدا على صموده في أرضه .
ما دامت لي من أرضي أشبار
ما دامت لي زيتونة وليمونة
بئر أو شجرة صبار
ما دامت في بلدي كلمات عربية
وأغان شعبية
وظهرت فكرة التشبث في الأرض والمقاومة حتى النهاية يقول محمود درويش في قصيدة بطاقة هوية .
سجل أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف
وقد عبر عن تمسكه بأرضه وعروبته وان هذه الهمجية الصهيونية زائلة كزوال نيرون
يا دامي العينين والكفين أن الليل زائل
نيرون مات ولم تمت روما بينما تقاتل وقد كانت أشعار المقاومين في هذه الفترة المقدمة لشعر الانتفاضة والذي يتأمل شعر المنفى الفلسطيني بعد هزيمة حزيران يلمسا حسا جديدا يبث روح المقاومة ويلهب مشاعر الناس في داخل فلسطين للثورة على الصهاينة
2-قضية الحرية المتمثلة بالحرية الفردية الوطنية والحرية القومية والإنسانية وقد تحدث الشعراء عن الحرية الفردية وقمع الحاكم لها وعن الحرية الوطنية والقومية بعد نكبة فلسطين 1948 ونكسة حزيران 1967 وقد عبر عن الحرية الفردية التي ضيقها السلطان على الناس في قصيدة في قصيدة المجد لأحمد جورء .
أنا بيت سرك فأحفظ الأسرار
وان المخبر الثرثار لم يحضر ليمدح
المخبر الثرثار باع لسانه
وإقامة بين الحظ والإيماء
3-قضية الحب والمرأة التي أفراد لها شعراء الأردن وفلسطين قصائد خاصة ممتزجا بحب الوطن إلى درجة الاتحاد فالمرأة عند محمود درويش الأم والحبيبة والأرض وكذلك عند عبد الرحيم عمر وسميح القاسم وقد عبر عن ذلك فدوى طوقان وسلمى خضراء الجيوسي وتأخذ الحديث عن المرأة شكلا صوفيا مرتبطا بالقضية الفلسطينية وقد عبر بعض من الشعراء عن مواقف مختلفة من المرأة محمد القيسي – أمين شنار – وليد سيف – زهير أبو شايب .
4- قضية التراث التي اتصل بها شعراء الأردن وفلسطين بصورة قوية من خلال الإيمان بهذا التراث والاعتزاز به مثل توفيق زياد امن خلال الإيمان بالتراث مع التوق للتغير الحضاري دون إدانة الماضي محمود درويش وهناك من يحاول الثورة على التراث حيدر محمود وهكذا بقي التراث ملهما للشعراء في دعوتهم للثورة سواء أكان تراثا قديما أو شعبيا وهكذا برزت ظواهر فنية جديدة في هذا الشعر تميزت ب
أ- السخرية المقاومة عند طوقان وعرار وأبي سلمى كما في قصيدة تقدموا .
تقدموا تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل ارض تحتكم جهنم
يموت منا الطفل والشيخ ولا يستسلم
وتسقط الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلموا
ب-ترك الغموض في التعبير لأنه شعر يهيم بعنصر التوصيل والشعر المقاوم رسالة واضحة تفضل أن تصل بسهولة للمتلقي من خلال الاقتراب من لغة الحياة اليومية
ج-الاحتفاظ بإيقاع القصيدة التقليدية دون الخروج إلى إيقاعات أخرى غير منسجمة معها.





الباب الرابع
الفصل الثاني
حالة الشعر في الجزيرة (في العصر الحديث
1916 – 1970
1-(السعودية )
تسللت أفكار النهضة الأدبية إلى الحجاز منذ ثورة 1916 أو قبلها بسنوات معدودة بوفود أدباء من أمثال فؤاد الخطيب وكامل القصاب وعمر شاكر الكرمي إلى موطن الثورة مكة المكرمة وبثهم أفكارهم الإصلاحية في ثيابها من خلال القصائد المقالات في الصحف الهاشمية وصدر كتاب أدب الحجاز 1926 وخواطر مصرحة 1927 اللذان أسهما في نهضة الحركة الأدبية في المملكة بعد وحدتها وظهر أدباء من مثل محمد حسن العواد – عبد الوهاب اشي – محمد سعيد العامودي – محمد سرو الصبان متأثرين بنصوص المهجريين ورواد النهضة العربية وشهدت القصيدة السعودية بعض التجدد متأثرا بمدارس ابيولو الديوان والمهجر وبحماس الشباب للإصلاح على الرغم من وجود تيار إحيائي يقلد النماذج القديمة المميزة وقد مثل الإحيائيين الشاعر محمد بن عبد الله عثيمين أسلوبا واعتزاما وأغراضا وصياغة وقد مدح الملك عبد العزيز وقد كان هذا التيار يشمل احمد إبراهيم الغزاوي – فؤاد شاكر – عبد الله بن بلهيد – عبد الله خميس – محمد علي السنوسب تحدثوا جميعهم عن مآثر الملك عبد العزيز الذي اتخذ من الشاعر الغزاوي رفيقا له .
لك في الصدور مهابة ووقار وعليك من حلل اليقين دثار
واليك تستبق الوفود كأنها سحب وتشخص نحوك الأبصار
وقد كان العواد ابرز دعاة التجديد ومحاربة الجمود والتخلف في كتابة خواطر مصرحة على غرار الديوان والغربال معتزا بنفسه صلبا برأيه كأنما يترسم خطا العقاد على أن نقدر صدق نشاطه الأدبي لإيقانه أن للأدب وظيفة إصلاحية وقد كان متحمسا للتجدد في الوزن والشعر الحر والشعر النثور يعلي من شان الفلسفة والفكر وصلتهما بالشعر على حساب العاطفة والخيال .
قالت النفس قم نصلي إلى الله فشر النفوس من لم تصل
قلت يانفس سبحي الله طوعا واصيحي واستنكري أن تملي
سبحي الله فالطبيعة يقظى وتعالي قرب الخصم نصلي
وبدا الشعر في هذه المرحلة يعبر عند البعض عن الذاتية الحالمة الحزينة الهاربة من الواقع المتطلعة إلى الثل الأعلى في تقديم وإصلاح المجتمع على يد زملاء العواد حسين سرحان – حمزة شحاتة – حسين عرب – محمد حسن فقي – إبراهيم الغلالي – احمد قنديل – طاهر زمرخشي فقد كان حسين سرحان بقصائده فضاء رحبا من التمزق النفسي والحزن الفلسفي بسبب كثرة الأمراض التي حلت به فقده لولده وعدم تحقيق أحلامه والهام هاجس الموت عليه
كأني سوف أبصر عن قريب يدا للموت لا شلت يداه
وعاني للغناء فخف روح حثيث الخطو لبى من دعاه
ولقد اشتبكت أحزانه مع عاطفة الرثاء وبقيت علاقته مع الشعر التقليدي وطيدة وان كان يستروح أحيانا في حدائق الحداثة الشعرية وقد كان حمزة شحاتة مصدوما بمحور الغدر والخيانة في العلاقات الإنسانية يحس بالعزلة والغربة وعبثية الحياة بسبب انتكاس القيم والفضائل وفشل تجربة زواجه غير الموفق والمرأة في شعره رحمة وعذاب حق ووفاء خيانة وبلاء وقد كان نفسه الشعري طويلا فقد كتب في مدينة جدة قائلا .
النهي بين شاطئيك غريق والهوى فيك حالم لا يفيق
ورؤى الحب في رؤاك لا شتى يستعز الأسير منها الطليق
أية فتنة الحياة لصب عهده في هواك عهد وثيق
وكان محمد حسن فقي معظما لنفسه مكبرا الأناة شاكيا من الحياة وسوء الحظ ذا إنتاج غزير الإنتاج المتكرر المضامين ذي الأغراض التقليدية جامعة بين الرومانسية وعالم الفكر في تأملاته مع صراع نفسي بين الموت والحياة
منذ عهد من الزمان بعيد لست ادري عن بدئه وانتهائه
كنت طيرا مرفرفا فوق غصن مائس باخضراره وروائه
وكان الشاعر احمد قنديل قد كرس معظم شعره في الحديث عن البسطاء والفقراء عفويا عاشقا للفن والحياة كاتبا بلديا بعيدا عن الحزن والتشاؤم يظهر فلسفة تأمل غير معقد اللغة وغير جان الأسلوب وقد تسللت روح الفكاهة والبساطة إلى روحه وشعره
واتيت بابك في الصخر وسألته كعوائدي
ولبثت انتظر الجواب
جرس يرن ولا مجيب
وصدى يطول به العذاب
ففزعت من طول السكون
وتجمع الجيران حولي يسالون
وكان إبراهيم الغلالي الذي عاش في مصر صديقا لعلي محمود طه يكتب شعره بخصوصية تنطبع تجاربه الشعرية بعواطفه وانفعالاته لا تتجاوز تأمله الفلسفي إثارة الأسئلة والتسليم بالقدرة الإلهية مع تعبير عن انعدام للعدل والحرية وتقهقر الخير أما طاهر زقمرشي فقد جاء شعره منسجما مع سمات الرومانسية ضمن خواطر عابرة ولم يكن شعره يمثل قضية ولا ينبع من رؤية للكون عميقة أهدر شعره في المناسبات أكثر من الابتهالات والتوبة والاستغفار والندم وأما حسين عرب فشعره يميل إلى الوضوح والبساطة يوصل أفكاره بلغة سليمة وصور موحية مع خلو قصائدهم الهمزات الموترة فهو يعيش بين الرومانسية المجنحة والكد الذهني والتأمل العقلي في الشك والتشاؤم وهناك شعراء آخرون من أمثال إبراهيم قودة محمد هاشم رشيد عبد السلام محمد حافظ محمد سعيد المسلم محمد سعيد الخيتموزي محمد الحجي عبد الله الجشي عبد الحميد الخطي حسن صيرفي محمود عارف عبد الله بن إدريس عبد الله الفيصل محمد سعيد الحبشي ماجد الحسيني ثريا قابل إبراهيم العلاف غادة الصحراء أسهموا في حركة الشعر في العصر الحديث الذي تميز بسمات عديدة منها.
1- التقليد من خلال تصنيف الدواوين إلى أغراض وأبواب .
2- توظيف الشعر لقضايا الإصلاح
3- التركيز على الاهتمامات السياسية والفكرية
4- سيطرة النزعة التعليمية الوضيعة
5- مخاطبة عقل القارئ لا أحاسيسه
6- اعتماد الفخامة والجزالة والنبرة الخطابية
7- التأثر بشعر مدارس التجديد في الشعر العربي
8- التأثير بالمزاج الرومانسي المتشائم الحزين
9- بروز الذاتية الممزقة الحائرة أمام لغز الحياة
10- امتلاء الكثير من القصائد بالتساؤل والتأمل
11- الانحياز للطبيعة والمرأة
12- الوقوع بنرجسية تعظيم الذات بسبب الهم الشخصي
13- زحزحة التيار التقليدي والانعتاق من أثره
14- إقامة توازن بين العنصر الذاتي والموضوعي بين الفكرة والعاطفة
15- تطور لغة الشعر في المضامين من خلال حيوية خالية من التعقيد .
2-الكويت في العصر الحديث (1916 – 1970 )
بدأت الكويت منذ دخول القرن العشرين ببوادر نهضة ثقافية تمثلت في إنشاء أول مدرسة نظامية 1912 وأول مكتبة 1922 وأول نادي أدبي 1924 ودخلت الكثير من الصحف العربية للكويت وأنشئ المجلس الاستشاري 1921 وزاد ركب التطور الاجتماعي مثل ذلك الشاعر عبد العزيز الرشيد 1883- 1936 واصدر أول مجلة في الكويت 1928 وظهر مجموعة من الشعراء صقر الشبيب – خالد الفرج – محمود الأيوبي – عبد اللطيف الغصف – راشد السيف ثم ظهر تيار شعري جديد على يد الشاعر فهد العسكر الذي ركدت حركة الشعر بعد موته 1951 بسبب المشاكل السياسية التي عطلت الصحافة - الأندية - الثقافة وكان إعلان الاستقلال 1961 بداية انطلاق الحياة الكويتية وبرزت أصوات شعرية علي السبتي محمد الفايز عبد العتيبي يعقوب السبعي خالد الزيد خليفة الوقيان وتناوب حركة الشعر تيارات تيار تقليدي أكثر امتدادا في الزمن منذ ظهور الشعر الفصيح ومثل التيار العدساني الفرج الدحيان زين العابدين بن حسن عبد العزيز الرشيد المشاري صقر الشبيب خالد الفرج راشد السيف محمود الأيوبي صبحي بن قاسم الحجي عبد الله النوري عبد اللطيف النصف خالد العدساني داود الجراح عيسى مطر محمد الحبيب إبراهيم الجراح محمد ملا حسين عبد الله سنان احمد السقان احمد السيد عمر جاسم النصر الله عبد الله الأنصاري عبد الله الجوعان عبد الله حسين فاضل خلف سليمان الجار الله يعقوب الرشيد محمد المشاري عبد العزيز سعود البابطين العدساني وخزنة بور سلي عدنان الشياجي وقد كان بعضهم مقلا ومحدود الإنتاج وقد كان أسلوبهم جبل السبك وصين العبادة وتيار تحدث عن الأغراض التقليدية (مدح – رثاء – غزل )وتحدثوا عن القضايا الاجتماعية والوطنية والقومية مشكلة تعليم البنات مشكلة الماء والغلاء وقد تحدث صقر الشبيب عن امرأة فقيرة تبيع البيض
ومحزونة في الدرب تبكي وتلطم وتعول من طول المصاب وترزم
فأخرجت من جيبي دراهم خمسة ولم يك عندي غيرها تيك درهم
فناولتها ما يسر الله قائلا اعذري إني كمثلك معدم
وتحدث عبد الله سنان الأعمى الصياد البائع المتجول وقد كتب عن الاستقلال والدستور عبد الله سنان قائلا .
طال احتباسك عنا أيها القمر فما أخالك بعد اليوم تستر
ابزغ علينا وبدد كل مظلمة فما لنا قط عن رؤيا ك مصطبر
3- قطر في العهد الحديث 1916 – 1970 م
نهض الشعر القطري في العصر الحديث مع احمد بن يوسف الجابر وعبد الرحمن المعاودة حيث بدا الشعر القطري يتحسس أبعاد الحياة التي يعيشها الشاعر ولم يشكل الشاعران السابقان تيارا جديد ا في الشعر ويمثل شعر الجابر الصورة التقليدية للشعر باستثناء الوقوف على الأطلال وموضوعاته مدحية سياسية ودينية واجتماعية وصوره ومفرداته مستمدة عن سابقيه
عسى لمحة من عارض استخيله تحقق أمالي فيحيا محيله
وظهر بعد الخمسينات من القرن العشرين الشيخ عبد الله آل ثاني والشاعر الذي أغدق على الشعراء المال ونشر أشعارهم ولم يتجاوز الشعر في هذه الفترة أغراض المدح والمناسبات الدينية والعامة لقوادة المعاودة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.
ياخير هاد لقد تاهت مواكبنا وقادنا بمهاوي الذل كل غبي
تراثنا الضخم لم نحفظ نفاسه وما أخذنا إلى التجديد من نسب
والاتجاه الإصلاحي هي المواضيع المسيطرة على الشعر في تلك الفترة ولقد لعب الشعر دورا بارزا في ذلك وخاصة شعر الماودة الذي كان على الرغم من نبرته الخطابية المباشرة صادق الانفعال عميق التجربة وينطبق على شعر الشيخ علي بن سعود ال ثاني مفهوم الشعر التقليدي بسبب ثقافته التقليدية ونهجه القديم وقد تنوعت قصائده بين قصائده بين مواضيع الغزل والدين والوصف والقضايا العربية والإسلامية .
حالة الشعر في عمان من 1916 – 1970 م
كتب الشعراء العمانيون في هذه الفترة من أغراض كثيرة العزل الرثاء – الوصف – المديح إضافة إلى الشعر الاستنهاضي والشعر الديني .
ففي مجال الشعر الاستنهاضي كتب الشعراء العمانيون في الوطنية والقومية تبعا لما شهده وطنهم عمان وأمتهم العربية من أحداث تمثلت بالقيود وكبت الحريات فقد كتب في الشعر الوطني سعيد بن خلفان وأبو مسلم الرواحي وعبد الله الطائي واعين النهضة وطنهم يقول أبو سلام الكندي .
عمان انهضي واستنهضي الشرق والغربا ولا تقعدي واستصبحي الصارما لغصبا
ويقول عبد الله الطائي
يا أمنا الكبرى عمان تفالي فالعلم سوف يبدد الظلماء
وقد هاجر قسم من الشعراء العمانيين إلى زنجبار وعرفوا هناك ألوانا من الأجناس الأدبية يقول أبو صيم واصفا رياض زنجبار الفناء .
ارض مباركة الأنوار شاملة الافياء طيبة الأرجاء والدمني
وقد بكى الشعراء العمانيون سقوط زنجبار بقول الشاعر عبد الله الخليلي .
إخوتي إخوتي أنوما هنيئا وعلى زنجبار أنياب فرس
وكتبوا في الشعر القومي في قضايا العروبة وفلسطين وثورات العرب ضد الاستعمار .
يقول الشاعر عبد الله الخليلي في نضال الجزائر . جزائر الحرة لا تجزعي من مطبق الباب على قفله
ويقول هلال بن بدر .
أيه مصر وحسب قومي مصر أنها العز والوفاء والإباء
وقد اخذ التحول في شعر هذه الفترة من مضامين المدح الشخصي إلى تمجيد الأحداث العظيمة وقيم الحرية والعدالة وقد قال الشاعر أبو مسلم في مدح الأمام سالم بن راشد .
جاءت إمامته والأرض مظلمة والناس فوضى وأهل الجود ذوبان
فأشرق العدل في أرجائها ولقى عز الناسك إرهاق وإيهان
وتحول الرثاء من رثاء ذي قربى أو بسبب حاجة إلى التعبير عن اثر الفجائع التي أصيب بها العمانيون اثر موت العلماء وأبطال الحروب والفضلاء والسلاطين كما في رثاء أبي سرور للعلامة خلفان بن جميل السيابي
أذوب أسى ومالي لا أذوب ودمعي على الخدود له شحوب
أبا يحيى إمام عمان علما وزهدا ماله فيه ضريب
واستخدم الشعر الموشحات وتجددت بعض قوافيه وتنوعت في القصيدة الواحدة .
4- الإمارات في العصر الحديث 1916 – 1970
عايشت الإمارات العربية المتحدة كغيرها من مناطق الساحل الشرقي للجزيرة حالة من الاستعمار استمرت حتى 1971 م وعايشت التغيرات الحياتية والفكرية والاقتصادية والسياسية وبرز على هذه الساحة شعراء من أمثال سالم بن علي العويسي – خلفان مصبح – صقر بن سلطان القاسمي اعتمدوا على أنفسهم في التثقيف من خلال الإذاعة والصحف والمجلات متابعين التطورات الخارجية والداخلية للساحة العربية شعريا ومعتمدين الأسلوب التقليدي من حيث الشكل وقد اتجه شعراء الإمارات ثلاث اتجاهات من حيث الشكل وتمثلت في الطريقة التقليدية في عرض المضامين التي تمثلت في الطابع الروحاني والديني مضمونا وقد كان أكثر الشعراء تحمسا لهذه الطريقة الشاعر هاشم الموسوي مستخدما أسلوب الرمز في فضح جرائم المستعمر ومحاربة الظلم والاستبداد ومن أهم قضاياهم الاستعمار الغربي – اغتصاب فلسطين – الأحداث العالمية وممن كتب في القضية القومية العربية سالم بن علي العويسي – وخلفان بن مصبح الذي هاجم إقامة قاعدة انكليزية في بلده ويعد الشاعر صقر بن سلطان القاسمي من أكثر الشعراء دعوة للقومية العربية ثم جاء من بعده احمد أمين المدني – مانع سعيد العتبة ولم يتركز الحديث في أشعارهم عن القضايا الزاهرة في الحياة المعاصرة كقضية الشهيد يقول احمد أمين المدني
هو نور الحياة في الأجيال وحوت الخلود رغم الزوال
فوق ما يدرك التصور فيه من معان كريمة وخصال
نذر العمر للحياة عطاء هو أعلى من الأماني القوالي
وتحدث مانع سعيد العتيبة عن دعوة الشباب لاقتحام معاقل الصهاينة في تل أبيب
سأثيرها حربا على الأوغاد نارا تضطرم
أنا قادم مع إخوتي ولتل أبيب سنقتحم
الخلد للشهداء والباغي الدخيل له العدم
ومن شعر هاشم الموسوي الديني .
أيها الثوار هذا قرنكم آت للوعد وفاء منتظر
بقي الإسلام عملاق النهى شامخ الطود عظيم المعتبر
5-حالة الشعر البحريني في العصر الحديث 1916 – 1970
نشا في البحرين بحكم أسبقيتها في إنشاء الأندية الأدبية والتعليم والصحافة تيار أدبي إحيائي مقلدا الصورة والقصيدة العربية الموروثة ومثل هذا التيار الشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة – الشيخ سلمان التاجر – الشيخ محمد بن عيسى الخليفة وقد كانت أغراض الشعر لديهم لا تتعدى المدح الفخر – الغزل – الشكوى – الحنين للماضي ضمن إطار شكلي يعتمد على جزالة الأسلوب ومتانته العبارة ونبره حماسية ثم جاء من يطور أسلوب هؤلاء الشعراء مبقين على أسلوبه التقليدي عبد الله الزايد – عبد الرحمن العودة – قاسم الشيراوي ومركزين على المناسبات الدينية والقومية وما لبث الشعراء أن ثاروا على التيار الإحيائي مهتمين بالرومانسية من خلال شعر إبراهيم العريضي وقد التف الشاعر حول الذات الشعرية المتمثلة في ذات الشاعر – مكوناته الفنية مع الاهتمام بموضوع المرأة والطبيعة والمحيط العربي المحلي والوطن والإنسان وقد مثل السمات السابقة الشاعر احمد محمد الخليفة .
الباب الرابع
الفصل الثالث
حالة الشعر اليمني في العصر الحديث 1916 – 1970
عاش اليمنيون في العصر الحديث كما عاش غيرهم حالة من الجمود وتنفسوا بعدها نسائم إحياء الحياة منها الأدب ولم يكن للشعر ذكر في اليمن من قبل الحرب العالمية الثانية فهو لا يخرج عن النظم الفاتر الذي يكتبه القضاة الشعراء وشعراء القصر ممن يقلدون شعراء عصر الانحدار والانحطاط يواصلون السير على نهجهم وخطاهم في كتابة قصائد التهاني والمرائي والتاريخ للمواليد والوقائع والمعارك المهمة فهو صورة للاجترار وصدى للبيئة الراكدة ومنعكس لمعطيات التخلف والجمود وكان الحال على حاله بعد الحرب العالمية الثانية وكان الشعر والأدب غارقا في عزلة مرعبة إلا ما تركه الاحتلال الانكليزي وسمح به من إصدار للصحف وانتشار الجمعيات حيث تكون لدى الناس بداية وعي من خلال ابعاث الطلاب اليمنيين للدراسة في مصر والسودان وتسربت بعض الكتب الأدبية ودواوين الشعراء العاصرين من مصر قد استقبلت عدن هذا التعبير سياسيا وأدبيا وقامت الثورة الدستورية 1948 وقد سجل ذلك الشعر على لسان محمد محمود الزبير .
سجل مكانك في التاريخ يا قلم فها هنا تبعث الأجيال والأمم
هنا الشريعة من مشكاتها لمعت هنا العدالة والأخلاق والشيم
أن القيود التي كانت على قدمي غدت سهاما من السجاد تنتقم
وكانت قصائد الشاعر محمد عبده غانم مثل حياته خالية من الانفعالات مليئة بالحب والإيثار وحب الإبداع ضمن سياق القصيدة في شكلها التراثي وقد تأثر محمد غانم بحكم دراسته في الجامعة الأمريكية ببيروت بالشاعر بشارة الخوري ومن ذلك .
حمرة الجلنار في وجنتيك وبياض الاتاح في عارضيك قد سألنا الضياء أن يأتينا فسرعان ما أشار إليك
وقد تحول اليماني إلى الشعر المسرحي وقد بقيت القصيدة اليمنية الحديثة تتحرك في نطاق المدرسة الإحيائية الصورة جزء من الاستعارة – والتشبيه – وتركيب الجملة تقليدي مع الاقتراب إلى العصر وقضاياه وذا كان الزبير والغانم قد نجحا في الانفتاح على العصر والاقتراب من الاتجاه الرومنتيكي فان شعراء من أمثال احمد الشامي – إبراهيم الخضراني – لطفي جعفر أمان لقد نجحوا بالخروج من الأغراض التقليدية المتوارثة وتعرف لطفي على الشاعر السوداني الهجاني البشير وتأثره ورثاه
أنا هذا وأنت في القبر ثاو لأشقاء ولا لهيب شكاة
كنت مثلي تضيق بالعالم الرحب وتهفو مضرج النفثات
وقد صار الشعر تعبيرا عن اكبر العواطف وأعمقها وصدى صادقا للإحساس والاتصال بالأشياء والحياة مما يعني الالتحام الداخلي بين القصيدة والشاعر عبر الذات والمكان والزمان يقول الشاعر احمد الشامي .
أنا لا انظم شعرا
فلقد نسيت أوزان القصيد
إنما انثر أشواقا ودمعا
شوق قلب مغرم
وفؤاد ملهم
وقد أضحى الشعراء اليمنيون مع ظهور قصيدة القفيلة القصيدة التقليدية وفي غياب حرية التفكير والكتابة ووسائل النشر بقي الشعراء يحاولون إيصال صوتهم الشعري ولو من خلال قصائد مدح الحكام من خلال إبراز صورة الشعب الظلوم بأسلوب ذكي واسترق الناس صوت الشعر من خلال الإذاعة والمناسبات العامة ولمعت أسماء شعراء محمد سعيد جرادة – عبد الله البردوني – علي بن علي صبره – عبد الرحمن الأسير وبرزت قصيدة المدح السياسي ذات المضمون السلبي المارج والتي مع ذلك فضحت مخازي الواقع الذي يدين أنظمة القمع وكان شعر جرادة كفاحا من اجل الحرية والاستقلال .
ارضي وفيها طعنة مسمومة تدمي فؤاد الشاعر المتألم
فيها القراصنة اللئام صلاتهم بشريعة الغابات لم تتصرم
وقد وصف الشاعر سرقة البريطانيين لخيرات البلاد
لقد سرقوا مال الجنوب وقطنه وجروه في أغلاله جائعة عاري
كما شردوا أبناءه ونساءه ففي كل كهف منهم بعض أثار
وكان عبد الله البردوني يمزج بين مدح الحاكم والهجوم في فضح المظالم
عيد الجلوس اعبر بلادك مسمعا متسالك أين هناؤها هل يوجد
للشعب يوما تستنير جراحه فيه ويقذف بالرقود المرقد
وكذلك كتب الشاعر علي بن علي صبره قصائد المودات الوطنية التحريضية ضد النظام القاسي الذي عايشه والتي لم ينشرها إلى بعد الاستقلال خوفا من البطش .
الباب الرابع
الفصل الرابع
حالة الشعر العراقي في العصر الحديث 1916 – 1970
شهد المجتمع العراقي بعد عام 1916 أحداث هزت أركانه للمرة الأولى ابتداء من الانقلاب العثماني إلى إعلان الدستور فالحرب العالمية الأولى فثورة العشرين فاقامة الحكم الوطني 1921 فالتفت الشعر العراقي إلى واقعة يتحرى تفاصيله فكان شعر الزهاوي والرصافي ومن جايلهما يتحدث عن هموم الناس وتحول الشعر عند الرصافي إلى موجه للناس .
وما الشعر إلا أن يكون نصيحة تنشط كسلانا وتنهض ثاويا
حيث استعاض الرصافي وكذلك الزهاوي عن شعرية القصيدة إلى أفكارها واستبدلوا جماليتها بموضوعها وقد كانت السلطة الحاكمة المرتبطة بالأجنبي موضوع هجاء الشاعرين يقول الزهاوي
فيا ويح قوم فوضوا أمر نفسهم إلى ملك عن فعله ليس يسال
ويقول الرصافي
من يقرا الدستور يعلم انه وقفا لصك الانتداب مصنف
وقد دار في فلك هذين الشاعرين شعراء لم يبلغوا ما بلغا من أمثال (محسن الكاظمي – محمد الشبيبي – مهدي البصير – علي الشرقي ) وقد عالج الزهاوي والرصافي قضية المرأة وحقها في التعليم والعمل والمشاركة في الحياة وقضايا البؤس والسياسة والأدب مقتربين من لغة الحياة ومبتعدين عن التكلف في الصياغة وقد دعا الزهاوي إلى إلغاء القافية واعتماد الشعر المرسل لأنها بداية سلاسل وقيود وابتكار أوزان جديدة ولم يكتب الشعر المرسل بل ظل أسير الواقع الماش .
ثم جاء الجواهري ليجسد بموهبته الشعرية مستوى مختلفا عن التلاحم بين الواقع العراقي المتفجر في الفكر السياسي والمجتمع وبين الشعر .
ماذا يضر الجوع مجد شامخ إني أظل مع الرعية ساغبا
يتبعني حون بان موجا طاغيا سدوا عليه منافذا ومساربا
كذبوا فمل فم الزمان قصائدي أبدا تجوب مشارقا ومغاربا
فالمواضيع التي عالجها الشاعر تقع داخل ذاته يتصرف بالغة كعجينة يطوعها لأفكاره فهو شاعر يمتلك صلابة في الموقف صادقة ولم يجنح الشعراء العراقيون إلى الرومانسية بسبب الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي المنحرق باستثناء رومانسية علي الشرقي وأكرم الوتري وحافظ جميل وعبد القادر رشيد الناصري وحسين مروان وعبد الأمير الحصري ولم يكن شعر هؤلاء يخرج عن حدود المرأة والخمر ولم تخرج القصيدة عندهم عن القصيدية التقليدية في الصور والصياغة والإيقاع وقد كان لأحمد الصافي النجفي نبض جديد له إيقاعه الخاص من خلال موضوعاته
الحياتية شدية البساطة فحياة التشرد التي عاشها والفقر والانطواء هي ميدان قصيدة الشاعر ولم يكن وقع التغيرات بعد الحرب العالمية الثانية بمنأى عن الشعر العراقي فقد شاركت نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في صنع القصيدة الحرة كظاهرة عروضية أولا في قصيدة هل كان حبا للسياب والكوليرا والرمز والإيحاء .
من الذي يسمع أشعاري
فان صمت الموت في داري
والليل في نار
أواه يا جيكو لو تسمعين
كي يبصر الساري
نجما يضيء الليل للتائهين
وقد تجلت حداثته الشعرية عبر اللغة مع تلاحم متميز بين حياته وشعره (مرض – فقر – مطاردة – الم )أما عبد الوهاب البياتي فقد جعل لغة شعره هي لغة الحياة اليومية وحرارة الحوار اليومي والسخرية المرة مع انه انتقل بعد ذلك إلى لغة الحلم والخروقات الصوفية والانزياحات المناخية واستخدام مجموعة من الرموز ظلت تتصادى في قصائده .
معجزة الحب الخالد لارا
تنهض من تحت رماد الأسطورة عنقاء
تتألق نجما قطبيا
وتهاجر مثل الأنهار
وقد كان لمسيرة محمود البريكان وسعدي يوسف دورقي الاندفاع بالقصيدة الحديثة خطوات هامة مع كوكبة من الشعراء من أمثال (رشيد ياسين – شاذار طاقة –بلندا الحيدري – موسى النقدي – كاظم جواد – صلاح نيازي –يوسف الصائغ – محمد سعيد الصكار – مظفر التواب –لميعة عباس عمالاة –عبد الرزاق عبد الواحد رشدي العامل ) وقد كتب البريكان مجموعة من القصائد لامست تخوفا جديدا في البناء والرؤيا وهو شاعر ذو الصالة عظيمة ونظرة كونية يقدم موضوعاته دون تذوق لفظية أو إفراط في اليوم الوجداني وقصائده تنشغل بحركة المشهد عبر تفاصيل مشحونة وفكر الشاعر لا تحملها إلينا أناه لأنها تختفي وراء مشهد موضوعي ولفتة خالية من الترف الغنائي يتحدث عن هموم الإنسان الآنية ومحنته الشاملة وشعره مملوء بالقلق الإنساني المصيري .
عند خطوط الحدود
تندمج الأزمنة
يبتسم الأموات للإحياء
ترتسم الطفولة البيضاء
في صفحة النهاية ويتحدث سعدي يوسف عن شقاء الإنسان اليومي من خلال عذاباته وأحلامه الصغيرة فلفته بسيطة شديدة الإيحاء مسكنها الوجع الإنساني .
شجر صاف وسماء خضراء
برائحة من موميا سايبتل الماء
ورد ازرق وسماء حمراء
أما الشاعر شاذل طاقته فقد نبرته الشخصية مستفيدا من الموروث الفول كلوري من خلال تنويع إيقاع القصيدة وإثرائها بالاجتهادات العروضية الجديدة ومضى أيوب في محنته يرقى إلى الموت جسورا
وهدى الطاعون تغري قلبه تذر البذورا
والردى يمتص روحه
وقد كتب قصيدته على ثلاثة بحور المديد المتدارك الرمل أما بلندا الحيدري فقد عرف بلغته الرومانسية المتقدة بالضجر والألم والحنين ولغته وسطا في التعبير عن عناء الإنسان وضياعه اليومي اعتمد على البناء الدرامي في قصيدة حوار عبر الأبعاد الثلاثة مع مزاوجة بين لغة الشعر والنثر وكذلك كان رشدي العاملي فتى الرومانسية الذهبي منتميا للوطن والمرأة بعمق وقصائده صافية شجية وفي مجموعته هجرة الألوان تتحول المرأة إلى مخادعة خائفة .
مجنون من يحسب أن امرأة تعشقه وحده
أواه لو عرف أسرار خيانة النسا
ثم خطا الشعر بعد 1960الى الوضوح بسبب الخيبة والشك والرفض بعد نكسة 1967حيث لا يوجد لدى الشاعر يقين فكري أو سياسي مطمئن يسكن الهاجس التجريبي شديد التنوع والقصيدة عنده رؤيا لا موضوعا يمتزج فيها النص والموقف تتماهى فيها اللغة بالدلالة الشكل بالمضمون ودافع كتابة النص هو التماس مع الحقائق وقد كان الشاعر فاضل العزاوي صوتا تجريبيا محرضا وبقي بعض الشعراء ينظرون إلى القصيدة كتطور عضوي حيث الشكل احد مقومات الرؤيا وقد بقي الشعر في حالة تجريب على يد حسب الشيخ جعفر سامي مهدي وفوزي كريم وحميد سعيد وياسين طه حافظ وصادق الصائغ وهي تجارب ترتفع وتنخفض حسب شخصية الشاعر الشعرية .
الباب الرابع
الفصل الخامس
حالة الشعر في مصر والسودان وليبيا
1-حالة الشعر المصري في العصر الحديث 1916ـ 1970
بعد انفجار الثورة العربية ظهر جيل جديد من الشعراء والكتاب الذين وطدوا علاقاتهم بالتراث الأدبي العربي والفكر الغربي على السواء هم العقاد – المازني – شكري بحطم الصداقة التي تربط بينهم ونزوعهم للشعر وكسبت كتاباتهم مساحة واسعة في الساحة الأدبية مع أن أصوات شوقي وحافظ ومطران كانت ما تزال صاحبة السيادة في ساحة الذوق الشعري فقد استمر شوقي في الدفاع عن القضايا الوطنية والقومية وكذلك حافظ إبراهيم واخذ أعضاء مدرسة الديوان ينظرون للشعر ويكتبونه وركزوا كثيرا على ماحية الشعر ووظيفته وينظر العقاد للشعر على انه عمل جاد في الحياة بينما يعتبره شكري عملا يجاوز العقل الفردي والنفس البشرية الفردية ليصبح تعبيرا عن العقل البشري والنفس البشرية وقد تناول العقاد والمازني بالنقد أشعار شوقي وكتابات المنفلوطي وأشعار شكري وقد وقع المازني في اسر الصياغة الشعرية التقليدية التي تمنح من التراكيب الجاهزة وقد نأى الشعراء الثلاثة عن أغراض المديح والهجاء والمناسبات الاجتماعية والأغراض المستهلكة وأحداث وعي جديد في الشكل والمضمون يقول العقاد .
يا له من فم يا لها من شفة
بالشهد بها كدت أن ارشفه
بالزهر بها كدت أن اقطفه
ويقول المازني
يا قرة العين حسبي لولاك ما أثمرت غصوني
لولاك لم احتمل حياتي ولم أطق صفقة العينين
وقد كان تنظير الشعراء الثلاثة أعمق من شعرهم ثم جاء بعد ذلك طروحات جماعة ابولو بزعامة احمد زكي أبو شادي 1932 في جو من الحرية وبروز الطبقة الوسطى وصدرت لها مجلة عاشت عامين وقد جذبت إليها اصواتا شعرية متعددة في الشعر الوجداني والوصفي وشعر الحب والرثاء والشعر التمثيلي والغنائي وشعر التصوير والشعر الفلسفي وقد كتب أبو شادي شعره في الحب الحزين ووصف الطبيعة والرثاء يقول في رثاءه للشاعر إبراهيم تاجي
اسالوا الشاحب القمر واسالوا الدامع الزهر
واسألوا النجم حائرا واسالوا الشمس في حذر
كيف قد غاله الروى فجأة قاهرا وفر
وقد بقي شعراء هذه الفترة الرومانسية يلوحون جميعهم على الحرية الفردية يقول إبراهيم تاجي مخاطبا محبوبته .
سناك صلاة أحلامي وهذا الركن محرابي
به ألقيت آلامي وفيه طرحت اوصابي
ويقول محمود حسن إسماعيل مخاطبا الفراشة
تعالي نطر في سماء الخيال ونهف بجنته النائية
بعيدا عن الكون حيث المنى ترف بإظلاله هانية ويقول الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري مخاطبا محبوبته .
أنتي أغريتني بان ألقاك خلف سور الحياة فوق رباك
غير إني بحثت عنك طويلا وأخيرا نعست تحت ذراك ويقول الشاعر علي محمود طه في قصيدته الله الشاعر .
لاتقرعي يا ارض لا تحرقي من شح تحت الدجا عابر
وبصعب علينا حصر عدد الشعراء الرومانسيين من أمثال عبج الرحمن الخميس وعبد القادر محمود وخليل جرجسي وجميلة العلايلي – وجليلة رضا – وروحية العليني – وشريفة فتحي وقد بقيت تجارب هؤلاء الشواعر تدور في فلك المواجد العاطفية النازعة للبراءة والتطهر تقول شريفة فتحي في قصيدتها قولوا له .
قولوا لمن حفظ الهوى ورعاه إني على طول المدى اهواه
سأصون عهد وداده في مهجتي مادام يذكرني ولن أنساه
وتقول ملك عبد العزيز في قصيدة لماذا .
لماذا قد تجمدنا وحطمنا جنا حينا
وفي الطين العميق الغور غصنا ملء ساقينا .
2-حالة الشعر السوداني في العصر الحديث 19160- 1970
شهدت السودان تطورات اقتصادية وسياسية وفكرية بعد أن أسقطت الدولة المهدية وغدا الحكم الثنائي الإنكليزي المصري يعتمد على نمط جديد من التعليم المدني وان كان التعليم ظل في الشريك المصري لان لغة التعليم لا يمكن لها أن تتجاوز العربية واستغرق المثقفون في الإرث الإسلامي ومحاربة الشق الكافر من الحكم الانكليزي وعبروا عن ذلك بقصائد تلقى في الموالد النبوية وظهر شعراء مثل محمد عمر البنا – أبو القاسم محمود هاشم – الطيب احمد الهاشم – عمر الأزهري وقد كان عبد الرحمن شوقي أول من ادخل تقليد إلقاء القصائد في احتفال المولد .
فحدث عن بني النيلين قوما بأدنى النيل أو أعلى الفرات
بانا ننتمي حسبا وجدا إلى ما بالجزيرة من رفات
وقد كان الشعر السوداني في هذا العصر امتدادا للشعر المصري يتحدث عن الجامعة الإسلامية الخلافة الإسلامية والذي كان رمزه الهلال كما تبين ذلك من نتاج الشعراء عبد الله عبد الرحمن – صالح بطرس .
يا ذا الهلال عن الدنيا أو الدين حدث فان حديثا منك يشفيني
وقد اخذ الشعر السوداني في البحث عن هوية خاصة به على يد حمزة الملك طمبل مع انه بقي مقلدا للقديم في الصور والأخيلة والأسلوب ووضح الأستاذ سعيد ميخائيل مختارات شعرية لأربعين شاعر سودانيا من مثل عبد الله محمد عمر البنا – وعبد الله بن عمر عبد الرحمن – واحمد محمد صالح – وعبد الرحمن شوقي – وصالح عبد القادر وحسن عثمان بدري والشيخ حسيب علي حسيب ومعظم شعراء هذا الجيل من التقليديين
الرمل عند ضفاف النيل تحسبه لعس الشفاه جلاها بيض أسنان
ما أجمل الريف مصطفا ومرتبعا وغادة الريف في عيني وغزلان
ويبدو أن الشاعر محمد سعيد العياسي قد اخذ قسطا كبيرا من الشعر واعتباره أمير للشعر في السودان على الرغم من كونه شاعر تقليديا مجده منشئ الطريقة السمانية حيث حفظ القرآن الكريم وقرا علم العروض والقوافي والتحق بالكلية العسكرية المصرية ثم تركها لعشقه لحياة البادية وتعلقه بحريته الشخصية وقد كان شعره رضيا جزلا خاليا من الركاكة والنثرية والعامية ومن أجمل قصائده
أرقت من طول هم بات يعروني يثير من لاعج الذكرى ويشجيني
ما أنسى لا أنسى إذا جاءت تعاتبني فتانة اللحظ ذات الجانب النوني
وقد تناول شعره مختلف المواضيع والأغراض بواقعية بدوية مع مشاركة الشاعر بالعمل الوطني العام يشيد بكفاح الشرق ضد الاستعمار الأوروبي وبعد دعوة البريطانيين لرفع شعار السودان للسودانيين دعا الشاعر السوداني حمزة الملك طمبل إلى سودانية الأدب السوداني متأثرا بالمدرسة الرومانتيكية الانكليزية ومما قاله في قصيدة الامتزاج الروحي
تكاد لشدة أشواقنا تلامس مهجتها مهجتي
أحس إذا ابتعدت لحظة وان غبت عن عينها حنت
وقد كان أسلوبه يمزج بين جزالة الفصحى ومحلية الكلمة السودانية كما وتحدث الشاعر التجاني بشير عن رقة الصوفية السودانية وتغنى بالجمال وبالطبيعة ولو طال به العمر لسمعنا شعرا مختلفا وبعد عام 1924 حظر البريطانيون أي نشاط علني للمثقفين فانشأ المثقفون جمعيات وحلقات للقراءة في الإحياء مدرسة أبي رؤوف والفجر واخذ الشعراء ينهجون نهج التجديد كما كان في شعر الشاعر سعد الدين فوزي الذي ادخل على القصيدة كثيرا من سمات الرومانسية .
ولد الحب على مهد الربيع
ونما طفلا لدى الروض البديع
كالفراش النضر كالطفل الوديع
صار يلهو فوق مخضر الربوع
ودخل في ساحة التجديد عبد الله الطيب – محمد كرف – محمد محمد علي – الناصر قريب الله – محمد مهدي المجذوب – طبعوا جميعهم بالعلم والدين والصوفية واللغة والحرفات الثقافية والشعرية وقد ظهر في الخمسينات من القرن العشرين المدرسة الواقعية الاشتراكية وانخراط عدد من الشعراء السودانيين فيها جيلي عبد الرحمن – تاج السر حسن – محمد الفيتوري – محي الدين فارس – مبارك حسن خليفة وهؤلاء رفضوا الأوزان التقليدية وتنبؤا الأشكال الشعرية الجديدة متأثرين بمحمد المجذوب على الرغم من عدم قدرتهم على الفكاك من المخزون الوجداني وكان الشاعر محي الدين فارس قد اخذ يقترب بمضامين شعره من الحياة اليومية حياة الناس وأصبح شعره تعبيرا صادقا وبسيطا عن آلامهم وآمالهم ومشاكلهم ومشاعرهم ومن شعره.
بيني وبينك ألف صحراء
وأسوار من الأشواك
والطرقات مقفلة ومقبرة وباب
والصمت حراس تحدق من شبابيك الضباب
وإما محمد الفيتوري فقد كان تكوينه العرقي وتنشئته الثقافية والنفسية وكونه عربي سوداني مصري ليبي هاجسا يناشد من خلاله اللون والعنصر
قلها لاتجبن لاتجبن قلها في وجه البشرية
أنا زنجي وأبي زنجي الجدوامي زنجية
3-حالة الشعر الليبي في العصر الحديث 1916 – 1970
بدأت مرحلة احتلال ايطاليا لليبيا منذ 1911 م واخذ يسكن الايطاليين في الأرض الزراعية لكن ثوار ليبيا وقفوا له بالمرصاد وقاوموه وضحوا بأرواحهم بزعامة الشيخ عمر المختار وبقيت ليبيا ثلاثة عقود تحارب المستعمر الايطالي حتى جاءت الحرب العالمية الثانية 1939 حين استعمرت فرنسا فزان وانكلترا طرابلس وبرقة واستقلت ليبيا 1957 تحت حكم الملك محمد إدريس السنوسي وانضمت ليبيا إلى الجامعة العربية 1953 وأسست الجامعة الليبية عام 1958 وكلية العلوم في طرابلس 1959 ثم أزيح الملم بانقلاب عسكري من معمر القذافي 1969 وقد كان شعراء ليبيا يدعون إلى وحدة الأرض الليبية كما في قصيدة احمد الشارف طرابلس- فزان -برقة
قد طالما قلت في شعري وفي أدبي يا أخت برقة في مجد وفي حسب
شقيقتان لكل منهما عقب والمجد من عقب يجري إلى عقب
أن قلت فزان للأختين ثالثة قد قلت حقا وما في الحق من ريب
وكذلك قال في استقلال ليبيا الشاعر احمد قنابة
العرش والإيوان والسلطان والتاج في حكم النهر صنوان
وقد أشار الشعر في استقلال ليبيا إلى انهزام جيش المحور وحلف هتلر وموسليني وانهزام الايطاليين وقد مجد الشعراء أبطال ليبيا وعلى رأسهم عمر المختار وكذلك تحدثوا عن الثورات العربية كالثورة الجزائرية وتحدثوا عن ضياع الحقوق .
عصرية تداس به الحقوق وتهضم وسياسة الباغي به تتحكم
وفيه با نور الحضارة واضحا وبطيها تنار المظالم تضرم
وقد استمر شعراء ليبيا يتغنون بالقران الكريم واللغة العربية وكتبوا بمعظم الأغراض الشعرية وقد برز في هذه الفترة مجموعة من الشعراء منهم حسن السوسي – ورجب الماجري – وعبد ربه الغنابي – وعلي صدقي عبد القادر وخليفة التليسي وعلي الفزاني وراشد الزبير السنوسي ومحمد سعيد الكشاط ومحمد عبد السلام الشلماني وعبد اللطيف المسلاتي ومفتاح العماري ومحمد الكيش ومحفوظ محمد أبي حميدة وحسن توفيق وغيرهم والشاعرة أم العز الفارسي وخديجة الصادق وعائشة المغربي وفاطمة محمود وأنيسة التائب وتهاني دروبي ودلال المغربي ورؤى واحمد وكريمة محمد حسين ومديحة النعاس وفوزية شلابي وقد كتبت شعراء هذه الفترة الشعر التقليدي الموروث مع انصراف إلى الشعر الحر المعتمد على التفعيلية كما عند علي الرقيعي 1934 – 1966 وكتب هذا الشاعر الشعر العامودي والشعر المتنوع القوافي .
الباب الرابع
الفصل السادس
حالة الشعر المغاربي
1-في الجزائر 1916 – 1970
تنسمت الجزائر نسمات منعشة في الصافة قبل الحرب العالمية الأولى من خلال جريدة الفاروق التي صدرت 1913 من قبل عمر بن قدور الجزائري الذي عرف بعمله الصحافي وشعره الذي كان ينشره في صحافة الشرق والغرب في جريدة اللواء القاهرية 1906 وصحيفة التقدم التونسية 1907 وصحيفة الحاضرة والمشير 1911 وجريدة الحضارة في الآستانة 1911 وقد عالجت قصائده تطور ملامح المحنة الإسلامية مع انهيار الخلافة العثمانية وكذلك كتب في الغزو الايطالي لطرابلس فتاة طرابلس الغرب 1912
رعى الله قوما في طرابلس الغرب تبين فضل الشرق منهم على الغرب
خلاصة أسلاف كرام وأمة تلاشت نعوت النير في نعتها الرحب
وقد كان ابن قدور ينشر في جريدته القصائد الحداثية وكذلك أسهم الشاعر سعد الدين الخمار في المزج بين القالب الغزلي والمضمون السياسي في شعره من خلال قصيدته التغزل السياسي
أراك سليب الفكر ناهزك الغد وخافية الإنسان يدلي بها الجهر
وتلاحم الفكر المشرقي مع المغاربي من خلال حافظ وشوقي وإسماعيل صبري وطه حسين واحمد أمين - والنغلوطي – والزيات- ومحمد عبده - ورشيد رضا - وعبد العزيز- جاويش – وطنطاوي- جوهري- والمرصفي - وعلي يوسف - وتوفيق ذياب - وقد تأثر أيضا الشاعر محمد بن دويدة بشعراء عصره من مصر وقد صادفت النفحة الإيحائية يقظة في الشعور الوطني وصحوة في الإحساس القومي بفعل مظالم المستعمر الفرنسي في تضيقه علي الدين والمساجد ومحاصرة اللغة العربية وقد بدت الجزائر مملكة البؤس والحرمان يقول الزهاري متحسرا على حالة الجزائر 1927
ويلا هذا هل خاطري عما بي ما بالجزائر من اليم عذاب
فنسيت من بؤس الجزائر كل ما ألقاه في الدنيا من الأتعاب
وقد خيمت القتامة الشعورية على كل الشعراء الذين ولد معظمهم في بداية القرن العشرين ومات بعضهم هما وغما في الثورة عن ثلاثين عاما ويعود الفضل لمأساة الاحتلال في تجاوز عصر الانحطاط والإطلالة على عهد جديد في الشعر وقد قيم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أشعار الشعراء في تلك الفترة وينفرد شعر الأمير عبد القادر الجزائري بالنفس البطولي ضد الفرنسيين على غرار عمرو بن كلثوم وعنترة العبسي وقد أدان الناقد الشاعر رمضان حمود ظاهرة التقليد في الشعر والنظم الباهت والرصف الرتيب ومن نقده لذلك قوله في دراسة لحقيقة الشعر وفؤاده
اتو بكلام لا يحرك سامعا عجوز له شطر وشطر هو الصدر
وقالوا وضعنا الشعر للناس هاديا وما هو شعر شاعر لا ولا نثر
وقد أدان رمضان حمود الشعر غير المستكثف الجامد وثار عليه وحمل رمضان على مدرسة الإحياء وزعيمها شوقي مع العلم أن شوقي كانت له صدارة المجالس الأدبية في الجزائر وقد بشر في التجديد الشعري شعراء من أمثال محمد العيد الزهراوي – محمد الهادي السنوسي – مفدي زكريا – أبو اليقظان ويظهر تحدي الجزائريين للمستعمر الفرنسي في الذكرى المئوية لاحتلال فرنسا للجزائر 1931 م حيث وقف محمد العيد منشدا قصيدته في نادي الترقي .
وأنا لشعب يعلم الله انه كريم حصيف الرأي مرتفع الكعبي
سليل جدودنا بهين أعزة مغاوير شوس كالضراغمة القلب
وتشهد القصيدة الشعرية عمقا والبناء القصيدي تماسكا وكان للعلماء في الدين دورا بارزا في الحفاظ على الهوية الإسلامية والعروبية للجزائر
حي العروبة في جمعية العلماء وحي ويحك فيها الدين والشيما
هذي الجزائر كانت في الورى عدما بين الشعوب ومن ذا يبعث عدما
وقد أتى علماء الدين واندفعوا يستنهضون إلى إصلاحها الهمما
ويعملون على نشر العلوم بها أضحت تشابه في أعمالها الامما
وتنشطت الأحزاب السياسية وتصدت للمد الاستعماري وكان الشعر رسول المشاعر الحبيسة وبوح الأنفاس المكتومة وقد رابط الشاعر الجزائري مدافعا عن الشخصية الوطنية الجزائرية عقيدة ولغة وتاريخا وحضارة وصرخ شاعر النضال السياسي مفدي زكريا في سجنه قائلا .
اعصفي يا رياح واقصفي يا رعود
وانحني يا جراح واحدقي يا قيود
قد سئمنا الحياة في الشقا والهوان
لا نمل الكفاح لا نمل الجهاد
في سبيل البلاد
وكذلك انبرى الشعراء من خلال جبهة المطالب السياسة يدعون لاستقلال الجزائر بعد أن وصلت الجبهة الشعبية المؤلفة من أحزاب اليسار في فرنسا للسلطة على اعتبار أنها أحزاب اشتراكية تناصر المضطهدين وقد كانت مأساة الشاعر محمد العيد تكمن في وطنه الذي سلبوه عن أخوته العرب والمسلمين .
وطني الذي هموا به ودليله كدليل يوسف ثوبه المقدود
اليت ما للحادث مبارز إلا على أعقابه مردود
وقد تلمست القصيدة الجزائرية متنفسها على صفحات جرائد ومجلات من مثل الشهاب والإصلاح والبصائر وفي النوادي والجمعيات والمواسم والأعياد وبرزت أسماء جديدة مثل احمد سحنون – الأخضر السائحي – الظاهر بوشوشي – محمد جريدي – الربيع أبو شامة – عبد الكريم العقون .ومما أغنى مضامين الشعر مجموعة حوادث حصلت في العالم العربي من أهمها
1-تأسيس جمعية العلماء الذي أخذت على عاتقها الدفاع عن الجزائر
2-انعقاد المؤتمر الإسلامي 1963 الذي وحد كلمة الجزائريين في الحفاظ على كيانه
3-وصول الجبهة الشعبية للحكم في باريس المناصرة للمظلومين
4-قيام حزب الشعب الذي يمثل المد الثوري على الصعيد السياسي والرافض للتبعية للمستعمر الفرنسي
5-المذابح التي وقعت 1945 إبان احتفال العالم بالسلام واستشهاد 45 ألف جزائري
6-قيام الجامعة العربية التي أنعشت آمال الشعوب العربية
7-ضياع فلسطين ومحنة الشعب الفلسطيني التي غطت كل المحن
كل ذلك شكل مضامين جديدة للشعر أهمها المضمون الثوري وفي ذلك يقول مفدي زكريا
نطق الرصاص فما يباح كلام وجرى القصاص فما يتاح ملام
السيف اصدق لهجة من أحرف كتبت فكان بيانها الإبهام
وقد عرف الشاعر مفدي مع أبناء وطنه السجن والزنازن والتشريد والتيه في الأرض والموت وقد توزع بعض الشعراء من أمثال أبو القاسم سعد الله – واحمد معاش – وصالح الخرفي – وأبو القاسم خمار – وصالح بادية – وصالح خباشة – وصالح باجو – على مساحة الأقطار العربية ينشدون الشعر لثورة الجزائر وقد حملت الثورة الجزائرية مع المضامين الجديدة قوالب جديدة لهذه المضامين من خلال التخلص من البحور الخليلية إلى التفصيلية وقصيدة النثر وأول المقدمين على تجربة الشعر الحر أبو القاسم سعد الله في قصيدة الإنسان الكبير
يارفيقي أنا إنسان طريقي
لم تزل تنشد في الكون حكايا وهدايا عربية
تعبر الأحلام للشمس السخية
وتتحول المناضلة جميلة بوحيرد إلى أسطورة للدفاع عن الوطن وفي ذلك يقول صالح الخرفي 1958 .
ما هو الموت وقد جرعته دنيا طويلة
أن يكن موتك هذا فاطلبيه يا جميلة
غيلر أن الموت أحيانا له كف نحيلة
ولم يكن للغزل في شعر الشعراء الجزائريين أي اثر ومعظمهم في ريعان الشباب آلاما كان يرمز للجزائر بسلوى وليلى .
سلوى أناديك سلوى مثلهم خطا لو أنهم أنصفوا كان اسمك الرمقا
يا لائمي في هوا ما أنها قبس من الجزائر والأمثال تنطبــــــق
أو كما قال الخرفي قبل استقلال الجزائر بسنة .
يا حبيبي ذكريات الأمس لم تبرح خيالي
كيف تغفو مقلتي عن حبنا عبر الليالي
غير أن القلب هزته نداءات شجية
فوهبت الحب قربانا وبايعت الجزائر
نعم لقد كتب شعراء الجزائر معظم شعرهم في النضال السياسي والثورة وكتبوا في الوصف الشجي الحزين المأساوي والغزل المناضل والطبيعة المشرقة الحزينة ضمن رومانسية قاتمة وواقعية تفاني الشعر في قضية شعبه المنكوب .
موسوعة تاريخ الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية حسين علي الهنداوي
2- في تونس في العصر الحديث 1916 – 1970
تطورت حركة الشعر بعد القرن العشرين في تونس من خلال توسع آفاق الثقافة مما دعا جريدة الحاضرة إلى الدعوة إلى ما يسمى بالشعر العصري والخروج من التقليد مع الاقتباس من الغرب بقدر لا يطمس الخصوصية العربية الإسلامية ولقد كان الشاعر صالح السويسي 1878 – 1941 وأول من طبق سياسة الشعر العصري من خلال قصيدته
أفيقوا يا بني الوطن المعلى فقد طالت بكم سنة الرقاد
وبدا الشعر التونسي مرحلة جديدة أفرجته مرهقات النخامة والجزالة وشرف المعاني والنماذج المطلقة وقد تحدث الشاعر صالح السويسي عن مواضيع حياة موطنه القيروان ومعاناته في سبيل الشعر حتى انه باع خاتمه .
أنفقت عمري في القريض حسارة بغت من التعسر خاتمي
وكذلك لم يكتب الشاعر في المواضيع التقليدية وإذا ما تحدث في الأغراض التقليدية فانه يتحدث بلغة العصر وقد كان هذا الشاعر شانه شان شعراء تونس يبحث عن الشعر الصافي النابض بالحياة والعامر بالصدق مع الابتعاد عن الخضوع لسلطان الملوك والأمراء ونبذ النوح والمدح واخذ الشعراء يتحدثون عن القضايا الاجتماعية والوطنية وخدمة التوجه الإصلاحي وساعد على ذلك صدور جريدة النهضة والسعادة العظمى وجريدة خير الدين ونشر الشيخ سالم بو حاجب 1828 – 1924 ينشر قصائد الإصلاح الديني في جريدة النهضة وفتح محمد خضر الحسين 1873 -1958 جريدة السعادة العظمى لنشر هذا النوع من الشعر العصري وقد أسهم الناقد عبد العزيز المسعودي في تعميق جوهر الكتابة الشعرية نفسها بتأكيده على أن الشعر ليس وقفا على طريقة مخصوصة بقدر ما هو رسالة يجب أن توصل قضاية الناس من خلاله ولكن الحركة الأدبية التونسية تعطلت بعد نشوب العالمية الأولى وصدور قانون تعطيل الصحف والمنشورات وتقييد النشاط الأدبي فقد عطلت أحداث الجلاز 1911 م الصحف لمواقفها الوطنية والإسلامية من المستعمر وخاصة الايطاليين واعتدائهم على طرابلس ثم تأسس الحزب الدستوري 1920بعد إعلان الرئيس الأمريكي ولسن مبادئ الديمقراطية وعول التوانسة على أنفسهم في تطوير حياتهم ومنها الثقافة والأدب وبقي النص الأدبي منفتحا على سياقه الخارجي وغدت لهجة الشعر مباشرة وتحولت القصيدة إلى ما يشبه الوعظ واختلف الشعراء في أساليبهم فشعر الشاعر الشاذلي الخزندار 1881 – 1954 مختلف في أسلوبه عن شعر الشاعر الطاهر الحداد 1988 – 1935 وعن شعر أبي بكر 1899 – 1948 وان اشتركوا في الغرض واتفقوا في وظيفة الشعر فالخزندار يحافظ على عمود الشعر ويدخل الأغراض الجديدة في القوالب القديمة ومثال أمير الشعراء احمد شوقي والطاهر حداد ناثر تحول للشعر لما للشعر في عصره من اثر في حياة الناس يكتب الفكرة والخاطر على شطو شعر و الشاعر سعيد أبو بكر يبحث عن كل ما هو جديد في الإيقاع حيث استخدم الأوزان الجديدة التي ابتكرها شعراء المهجر بينما كان أبو القاسم الشابي 1909 – 1934 ويطرح أسئلة الإنسان الكبرى ويربط النص بأعماق الذات الكاتبة ينشد أنشودة العود الأبدي ويحكي مأساة الإنسان المطرود من الجنة وقد لهج الشاعر خزندار بحب تونس وكتب في الشعر الوطني والاجتماعي مع إيمانه أن للشعر خطة و وظيفته وانه يجب تحويله عن أغراضه التقليدية إلى أغراض جديدة من خلال قوله .
دع التشبب في الولدان والحور والهج بحرية واهتف لدستور
وانه على الشعر أن يتحولوا عن مهمة الشعر في اللهو وملء الفراغ إلى بناء التقدم وبعث الروح في الحقائق وخدمة الوطن التي هي جزء من خدمة الحق والهدى والدعوة للقضية الأخلاقية وقام زين العابدين السنوسي بإنشاء مطبعة العرب ومجلة العالم الأدبي 1930 – 1936 منبر الجيل وحامله مشعل النهضة الأدبية والتي كانت الحامل لمساجلات ومعارك الشعراء ويعود الفضل لهذه المجلة في اكتشاف الشابي ومناصرة حرية الرأي والدفاع عن المجددين ووقفت إلى جانب الطاهر الحداد وتبنت نشر قصائد الشعراء بمختلف أجيالهم ونشر المترجم من الشعر والانفتاح على الثقافات الأخرى وكذلك اشتهر من شعراء تونس في هذه الفترة الصادق مازيغ 1906 – 1992 ذو الثقافة الفرنسية والمترجم إلى اللغتين العربية والفرنسية والذي كان من المتوقع أن يواصل تجربة الشابي لكنه بقي بصدر عن صنعة رغم ثقافته الفرنسية واشتهر أيضا محمد زيد 1916 الذي غلبت عليه الثقافة الأصلية وطفا على شعره الاتجاه الوطني تراجعت حركة الشعر بعد اختفاء جريدة المباحث 1947 وخبت الروح الوطنية بسبب الصدام المسلح مع المستعمر واستقلت البلاد 1955 وبرز الشاعر مصطفى خريف 1910 – 1967 كممثل للمثل الأعلى تساميا بالنفس وعروجا بالروح إلى عالم الطهارة مترسما خطا التقليد في التيار الإيحائي وظهر الشاعر عبد الرزاق كرباكة 1901- 1945 كزعيم للشعر في مجلة العالم الأدبي لزين العابدين السنوسي بموافقة الشابي وقد كان ملتزما بالعمود الشعري والمعيار الأدبي والأخذ بالشعر الغنائي أما الطاهر العقاد 1899 – 1988 فقد كان تقليديا لا يفسح المجال لماجته للتحدث وان كان من ابرز الشعراء الإحيائيين وكذلك كان الشاعر محمد المختار الوزير 1912 – 1983 ينهج أسلوب التقليد وان أضاف للشعر موضوع التأمل وكان الشاعر منور صمادم 1931 صدى تجربة متميزة بغزارة الإنتاج وبقدرة على تحقيق الحرية والكرامة للإنسان وقد تشبعت الروح الوطنية بالخطاب السياسي الجديد في شعر الشعراء التوانسة وتشربت الأفكار النقدية بالروح الثورية وكثرت الدواوين الشعرية بعد الاستقلال بعد إنشاء دور نشر المؤسسات الحكومية لرصد الجوائز التشجيعية للإبداع الشعري والمساهمة في المشروع الثقافي الحضاري وكتبت مقالات جادة ودراسات وافرة وبدأت طريقة الشعر الحر الطريقة الجديدة في الكتابة ومع ذلك لم تتجاوز أغراض الشعر الدين – الوطن – الذات فاختص البعض بالشعر الديني ابتهال إلى الله مدائح نبوية احتفال بالمناسبات الدينية واختص الشعر الوطني بمدح صاحب السلطة العليا في الدولة كما صنع الشاعر احمد اللغماني 1923 وجمع بين الشعر العمودي والشعر الحر حسين مدم الحبيب جور قيبة وقد عاشت تونس في الستينات من القرن العشرين تجربة الطموح للعدالة الاجتماعية وتوفير الحياة مع نهج جديد للدفاع عن المستضعفين من خلال اعتناق الاشتراكية نهجا سياسيا والواقعية والالتزام مذهبا أدبيا ومن أشهر من دعا لذلك الشاعر الميداني بن صالح 1929 الذي عرف تجربة الشعر الحر وتغنى بالعمال والحرية والعدالة الاجتماعية وقد كتب ألواحا شجية موحية قرط أمي عاد بعدها إلى الشعر الباشر الذي تحول في قصيدته جيل النكبة
أجيل النكبة الحائر
قيودك ثر ومزقها
وأهدافك انشدها
ونشط في هذه الفترة شعراء من أمثال جعفر ماجد 1940ونور الدين حمود 1932 ومحي الدين خريف 1932 الذي عزز إنتاجه بتنوع التجارب .
3- في المغرب مراكش 1916 – 1970
حاولت الحركات الإصلاحية التي قادها عبد الله السنوسي وأبو شعيب الدكالي أن تحرر العقيدة الإسلامية من الخرافة والدجل والشعوذة وظهرت أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا حيث اقبل الشعراء على كتابة الشعر الداعي لنشر المعارف والعلوم والدعوة إلى تحرير الفكر وإنشاء المدارس والمعاهد العلمية على غرار دعوات الرصافي لبناء المدارس وأصبح الشعر ذا شخصية مستقلة نسبيا وتغيير الشعر طال مواضيع لا أسس منه يقول الشاعر عبد الله القباج متحدثا عن التمدن .
ليس التمدن بالتزويق مسخرة أن التمدن ما أولاك مفتخرا
ليس التمدن ما تهواه من بدع وماله شرعنا والله قد حضرا
ويعلق الشاعر محمد البحزولي على ما تفعله بعض الفرق الدينية من رقص وتناول طعام وقرع الطبول ولحن المزامير في ذكر الله دون أن تعمل على تطبيق الشرع قولا وعملا
وان الدين عند الله قــــــول وفعل لا كرقص الراقصين
وان الذكر ليس بقرع طبل ومزمار علا ذقنا ملينا
ولقد كانت معظم موضوعات الشعر متصلة بالفكر الإصلاح السائد ثم ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين شعراء شباب تواصلوا مع المدرسة الإيحائية للشعر في المشرق بعد أن اطلعت على ثقافة الرافعي – العقاد طه حسين – الزيات معلنة عن ميلاد شعر النهضة في الغرب وتلاحم شعر محمد المختار السنوسي مع شعر حافظ إبراهيم في تأتيهما حيث أسس السنوسي قصيدته على قصيدة حافظ وتحدث شعراء المغرب عن التجديد كما قول الحسن التناني
والشعر أن لم يك التجدد يغمره فإنما هو محض اللغو والصخب
وقد احكم الشعراء الشباب سيطرتهم على ميدان الشعر وكشفت الساحة الأدبية عن صراع جاء بين أنصار الجديد وأنصار القديم ومن أسباب سيطرة الشباب على ساحة الشعر
1- تطور البنية الثقافية والاجتماعية
2- تواصل المغرب مع المشرق العربي ثقافيا كتب ومجلات
3- ظهور حركة نقدية اهتمت بالقديم والجديد من الأدب وقد أفرزت الحركة النقدية اتجاهين الأول تجديدي يهدف إلى تطوير الحركة الأدبية والشعرية في ضوء التجارب الجديدة والثاني تقليدي يرمي إلى الحفاظ على الموروث في بناء اللغة الشعرية وقد تصدى الشاعر القيام لشعراء المناسبات المتكسبين بالشعر والمتخذين الشعر وسيلة للمال والجاه والوظيفة لان محاكاتهم للقيم في شعرهم تعبر عن قرائح جافة بعيدة عن روح الفن غير صادقة تعبر عن القصور والعجز في الرؤية التعبيرية أما في أربعينيات القرن العشرين فقد ساد مفهوم الشعر الوجداني الذي استمد مقوماته من الشعر الرومانسي والمذهب الرومانسي بفعل ازدياد الوعي الأدبي واستمرار احتكاك المشرق والمغرب والاطلاع على المدارس الأدبية المشرقية ابولو – الديوان – المهجر ومواصلة نشر الدرامات الأدبية والنقدية وازدياد عدد الصحف والمجلات ومن شعراء هذه الفترة عبد الكريم بن ثابت – مصطفى المغداوي – عبد السلام العلوي – عبد المجيد بن جلون – علال الهاشمي – البو عناني – محمد السرغيني فقد نهل هؤلاء الشعراء الشباب من صور الشعر الجديد وصفيته الجديدة من خلال الشابي أبي ماضي أبي شادي وأصبح الشعر عندهم روح الحياة وجوهرها متجاوزين الشعر الوطني إلى الشعر الذاتي منطلقين من كون الشعر تعبيرا عن الوجدان والذات وفي ذلك يقول علال بن الهاشمي الغيلالي .
رفرفي يا صلاة روحي إلى الله وتيهي في وهلة الغيب زهوا
وأطلقي الروح في تقاليد كون أنت في عالم الطلاسم أقوى
والشعر الرومانسي في هذه الفترة نوعان نوع يتوحد مع الأشياء ويذوب فيها ونوع يهتم بالنزعات الفردية دون احتواء ذوات الآخرين ولم يسلم الشعر الرومانسي من نقد الراقعين الذين شكلوا ملحمة صراع مع الشعر الرومانسي لان الأدب الواقعي يعتبر الأدب معاناة تحمل الرؤى والتطورات وقد أصبح مفهوم الشعر يتمثل في .
1-ضد خدمة وجدان الإنسان الفرد
2- المنادى بالواقعية انطلاقا من وجدان الجماعة
الجمع بين وجدان الفرد والجماعة .
الباب الرابع
الفصل السابع
حالة الشعر الموريتاني في العصر الحديث 1916 – 1970
احكم الفرنسيون سيطرتهم على موريتانيا لمدة ستين عاما بدأت منذ مطلع القرن العشرين ولم يستطع الفرنسيون اختراق الجدار الثقافي الموريتاني ورغم وجود نشاط ثقافي فرنسي قبل الاستقلال بخمس سنوات إلا أن معركة الهوية العربية لموريتانيا ضد اللغة الفرنسية جعلت الشعراء الموريتانيين ينجحون في دفع الفرنسيين الثقافي .
يقول الشاعر الموريتاني محمد ولد احمد فال المتوفي 1969
لسان الضاد ويحك ما الجواب لما فعل الغطارفة النواب
فما رأي الرئيس وعامليه فهل هذي مغامرة صواب
ويقول الشاعر محمد ولد بارك الله
سمية العربية قضية وطنية
تهم كل أبي ذي همة زجلية
وقد انتقد الشاعر فال ولد احمد محمود المتوفي 1993 التحفظ الذي واجهت به الأقطار العربية استقلال موريتانية .
ما للعروبة قطعت أرحامنا أو ليس للشعب الغريب نصير
أي الأواصر ليس يربط بيننا دين واصل واحد ومصير
وقد رأى الشعراء الموريتانيون أن الاستعمار الفرنسي وان رحل بجنوده فقد ترك استعمار ثقافيا بغيضا.
تغزى الشعوب لا تسيل دماء غزو الثقافة والسلاح سواء
لا تنفع الشعب الفقير الثورة الخضراء والحرية الحمراء
حتى تكون ثقافة وطنية لضامنتين نقية بيضاء

الباب الرابع
الفصل الثامن
حالة الشعر العربي في المهجر في العصر الحديث 1916-1970
أولا – في المهجر الشمالي:
حال الاستبداد العثماني دون بقاء الكثير من أهل الشام في بلادهم فهاجر قسم منهم إلى الأمريكيتين وكان من هؤلاء المهاجرين جبران خليل جبران وأمين الريحاني ونسيب عريضة وإيليا أبو ماضي حيث لعبت مجلة فنون التي أنشاها عريضة 1913 دورا مهما في جمع أدباء المهجر وتفجير رؤى الإبداع لديهم وقد نشر جبران خليل جبران والريحاني في بداية القرن العشرين نتاجهم فاصدر جبران نبذة في الفن والموسيقى 1905 عرائس المروج 1906 والأرواح المتمردة 1908 واصدر الريحاني المحالفة الثلاثية 1903 باحثين عن الحرية والتحرر من القيود الخارجية والداخلية ثم اصدر جبران الأجنحة المتكسرة 1912 واصدر نسيب عريضة مجلة الفنون 1913 وفتحت لعينيه بابا لموهبته النقدية وتجمعت الشخصيات الأدبية في نيو يورك مع الريحاني ونسيب عريضة وعبد المسيح حداد صاحب مجلة السائح وقدم جبران من بوسطن ونزح إليها أبو ماضي من أوهايو يجتمعون في مكتب مجلة فنون ثم بعد توقفها في مكتب مجلة السائح وأسسوا الرابطة العلمية 1920الجمعية الأدبية التي أنجزت أساس الرومانسية الدببة العربية وثورة الشعر على الموروث نظرية الشعر الجديد والثورة في شكل القصيدة لغة وقد كانت حياة الريحاني تحمل مسحة رومانسية وكان جبران الرومانسي الأول في أدبنا حديثا مع العلم أن مطران المؤسس الرومانسي في الشعر العربي وثار شعراء المهجر على الأوزان الشعرية الموروثة واللغة الجامدة والجمود والتقليد وكتب الريحاني وجبران آراءهما عن الشعر وبرز تعتيمية ناقدا متميزا ذا موقف ثوري انقلابي وتبادل الإعجاب بكتاب الديوان للعقاد والمازني حيث أرسل لهما كتاب الغربال وكانت لغة الشعر قد ورثت تركة مترهلة من ألفاظ التزويق سطحت المعنى فوقف الريحاني وجبران موقفا متوازنا من اللغة لا يهاجمونها ويسعون لجعلها قادرة على مواجهة الحياة الحديثة مع قدرتها على تنمية اللغة وتنمية اللغة أكثر ما تكون على يد الشاعر لأنه أمام اللغة واللغوي يتبع الشاعر وكتب الريحاني وصاياه للشعراء
1- التحرر من القيود الحائلة دون الإبداع
2- اخذ المواضيع من لوح الوجود
3- أطلاق الخيال وراء الحقائق الكونية
4- الاقتصاد في استعمال الألفاظ
5- الحفاظ على التوازن بين الصيغة والمعنى
6- تجنب السخف في الفكرة والصورة
7- أن يكون للقصيدة بداية ونهاية
8- أن تكون للشعر وظيفة إباء عدل شرف قوة شجاعة
9- الابتعاد عن الحزن والبكاء
وقد لعب دورا أساسيا في تغير اللغة الشعرية وتغيير الأساليب المعتمدة فيه وقد كان جبران من الانقلابين المبدعين في اللغة والأسلوب لان حياة اللغة الشعرية رهين بخيال الشاعر والوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي في قلب الشاعر أما نعيمة فقد لعب دورا كبيرا في تفتيح العقول وتأكيد أهمية الثورة الشعرية في اللغة والوزن في الشكل وكون الإنسان هو محور الشعر في المضمون ويعتبر نعيمة غاية النقد الغربلة بحيث يكون الناقد مبدعا مولودا مرشدا ويعتبر أن للأدب قدرة على تفجير ينابيع القوى الكامنة في الإنسان والشعر يهيئ للإنسان التعبير عن نفسه – الكشف عن نور الحقيقة رؤية الجميل – الحاجة للموسيقى ويجب إلا نغفل عن الريحاني أبو الشعر المنثور في العربية حيث كتب إيحاءاته الشعرية بالنثر كما وان جبران شكل لنا أسلوبا سمي باسمه الأسلوب الجبراني وترك في شعرنا مآثر مهمة بحيث كان أول الرومانسيين العرب لأنه أول من أطلق تياره وكان أول من أسس الشعر المنثور كقالب شعري جديد وحقق تغيرا جذريا في لغة الشعر وصور هو أسلوبه وقد كان أسلوبه في شعره المنثور متأثرا بالثورة مع تأثر بأسلوب مواش وقد كان جبران شاعر في نثره أكثر من شعره ولم يكتب نصيحة الشعر إلا عشر سنوات 1917- 1926 فشعره صدى لتجربته الشخصية يجنح فيه إلى التأمل والصوفية حقق تغيرا جوهريا في عنصر اللهجية في الشعر والاقتراب من اللغة العادية لتأثره بالأغنية الشعبية اللبنانية على الرغم من فقدان عنصر التوتر في شعره ونجد في شعر نسيب عريضة شفافية رائعة وشخصية مستقلة وعكوفا على التجربة الذاتية وقدرة على إعطائها أبعاد شمولية وميتافيزيقية يتحسس المواجع وأكثر ما يميز نسيب عريضة التأمل في الذات تطوير رموز جبران وإعطائها إبعادا شخصية – الاستعمال الناجح للأسطورة إجرائه تجارب ناجحة في بنية الشعر العربي ولهجته الحميمة الواعدة وكذلك كان إيليا أبو ماضي الذي تأثر بجبران ونعيمة يحمل رسالة الحب الإنساني والجمال البشري من خلال بنية قوية متماسكة ولغة مشرقة سليمة وقد بنيت قصائده على أفكار لا تجارب شخصية حيث يأخذ الفكرة ويكسوها بالعاطفة ثم يحولها إلى قصة وهو يرى أن الحياة لا تستطيع أن تحل مشاكل الإنسان على الأرض وقد اصدر مجموعة من الدواوين الشعرية0( تذكار الماضي 1911) ( الجداول 1929)(الخمائل 1940).
ثانيا ـ حالة الشعر العربي في المهجر الجنوبي 1916- 1970
إذا كانت هجرة بعض العرب إلى المهجر الجنوبي الأمريكي قد بدأت من ثمانينيات القرن التاسع عشر فقد أتت النهضة الأدبية ثمارها بداية القرن العشرين في جريدة السلام في الأرجنتين 1905 لصاحبها وديع شمعون الرجل المتأدب الذواقة حيث اجتمع حوله عبد الملك ولم يكتب شعراء المهجر الجنوبي في أغراض الشعر التقليدي بمعطياته القديمة وقد تميز شعر المهجر الجنوبي بالواقعية الوجدانية والمبادئ القومية والروحانية الدينية شكر الله الجر ونعمة قازان المؤمن بفلسفة ميخائيل نعيمة من خلال حلاوة الكلمة وسلاسة الأسلوب وجمال الصياغة .
رأيت القطرة الصغرى تودي غلة النهر
وسالت بعد إذا نهرا إلى آماله يجري
فضاعت عند شط البحر بين المد والجزر
وإذا كان الشعر الجنوبي قد ظهر بعد الشعر الشمالي بعشر سنوات وانهارت الرابطة العلمية في المهجر الشمالي بموت جبران- ونسيب عريضة - وندرة حداد وعودة الريحاني – وميخائيل نعيمة للبنان فقد رحل الأدب إلى البرازيل سان باولو ولم يبقى في الشمال سوى أبي ماضي صاحب الأسلوب السهل الممتع وتشكلت العصبية الأندلسية 1932 في البرازيل و انشات مجلة باسمها برئاسة حبيب مسعود وانطوى الأدباء تحت لوائها القروي – الياس فرحات – شفيق معلوف شعارها ما تهدمه السياسة يبنيه الأدب وتلازمت قصائد القروي وفرحات في كل مناسبة قومية وقد دعي الشاعران لحفل تكريم ذكرى الملك فيصل الأول وأعجب بالشاعر بين الشاعرين الشاعر الأندلسي من أصول عربية فيلا سبيزا واقترنت كذلك اسم الشاعر شفيق معلوف وشفيق معلوف شاعر الصناعة وشاعر الواقعية وشاعر الخيال وشاعر العاطفة الواقعية الوجدانية – يجنح إلى الرمز المغطى بغلالة شفافة لا تحجب ما وراءها من صور وملحمته عبقر تشكل وحدة موضوعية والشعراء الثلاثة يحبون أوطانهم ويريدونها موفورة الكرامة يقول شفيق معلوف
وطني موطئ الغريب ولا املك منه حتى الحصى والترابا
وقد قدس الشاعر القروي الحرية ودعا إلى نبذ العصبيات الإقليمية كما ودعا إلى وحدة الصف العربي وفي ذلك يقول .
ما الشام ما بيروت في البلوى سوى عيني مولهة وحدي فيصل
شمس العروبة عيل صبر المجتلي شقي حجابك قبل شق الرمس لي
وسار على خطاهم جورج حيدر – زكي قنصل- جورج عساف وغيرهم يقول جورج حيدر في موشحة دمشق الجريحة على اثر نسف الفرنسيين لها بالقنابل
هتكوا الشعر ودهموا بالصفية
اكذا يستام عرض الهاشمية
ويقول زكي قنصل في تحية إلى دمشق
دمشق من طالع التاريخ قابله في كل سطر عن استبسالها خبر
وقد رثى القروي وفرحات فيصل الأول ومن رثاء فرحات قوله
من للعروبة بعد فيصل الذي دحرت ببرق فرنده الظلماء
وكذلك تحدث شعراء المهجر الجنوبي عن مشاكل العرب والمسلمين ومنها فلسطين التي تنبه شعراء الهاجر قبل غيرهم وتحسسوا وقوعها قبل أن تقع يقول الياس فرحات
لبيك لبيك يا ريحانة العرب يا بنت عدنان يا معصومة الغصب
يفديك كل فتى في نفسه قبس من نور وجهك تياه على الشهب
ويتحدث القروي عن وعد بلفور المشؤم قائلا
الحق منك ومن وعودك اكبر فاحسب حساب الحق يا متجبر
لو كنت من أهل المكارم لم تكن من جيب غيرك محسنا يا (بلفور)
وقد كتبت في هذه الكارثة كل شعراء المهجر وكانت النزعة الإنسانية في شعرهم حاضرة حيث تحدث القروي عن ضرورة جعل الأرض جنانا
اجعل الأرض حيث أنت جنانا أن تكن قد هجرت منها جنانا
وتحدث الياس فرحات عن الراهبة والحديث عن شعر الحنين عند شعراء المهجر بشكل عام ظاهرة متوفرة في كل القصائد وخاصة للام والوطن ومرابع الطفولة يقول الشاعر زكي قنصل ,
حياك مغترب يا شام حييه لاتتركيه غريقا في ماسيه
كذلك المرأة تمثل عندهم الطهر والقداسة يقول الشاعر جان زلاقط .
هوانا أغاني الأماني العذاب وزهو الحياة بفجر الشباب
ويقول الياس فرحات
قل هن والتزم الأدب وابعد بهن عن الريب
هبة السماء لعالم ضرب الشقاء به الطنب
وقد رثى الشعراء الزعماء والقادة والأقارب ومن ذلك رثاء فرحات لطفلته سعاد.
ينهيك لوفك يا سعاد كأنه نوم الرضيع على ذراع المرضع
ومن شعراء المهجر الجنوبي أبو الفضل الوليد الذي أعلن إسلامه 1916 وترك اسمه السابق الياس عبد الله طعمة ومن شعره
يأيها السجد العاني بقرطبة هلا تذكرك الأجراس تأذينا
تلك الماجد صارت للعدا بيعا بعد الأئمة لا تهوى الرهابين
وكذلك من آدابه الأديب الشاعر عبد اللطيف يونس الذي قاوم المستعمر الفرنسي في سوريا ورحل إلى البرازيل 1964 وانشأ أسبوعية الأنباء بالغتين العربية والبرتغالية ثم انشأ أسبوعية الوطن في بونس ليرس وقد كتب قصيدة مؤلفة من 440بيت تحدث فيها عن معاناته وفلسفته وغربته
خذها إليك تحية عربية فيها نقاء إخوة وصفاء
أنا ما أسفت على ربيع مربي لكن أسفت لأنها حرباء
دنيا تغير كل يوم لونها صبح أغر وليلة ليلاء
يا سائرين على التراب ترفقوا تحت التراب عواطف خرساء



الباب الخامس
مواقف الشعر العربي الحديث من قضايا العصر
أ - الموقف من الزمن
لا خلاف حول أهمية " الزمن " في تيارات الأدب الحديث والدور الذي " يلعبه " في المنعرجات الفكرية هذا " التجميد " للماضي هو انتصار على الزمن وتشبث بالبقاء، ببقاء اللحظة الجميلة، متمثلة بالحاضر،
و ترى أن خليل حاوي يتحدث كثيرا عن الماضي، ويحلم كثيرا بالعودة إليه، ورغم إيمانه بجمال الطفولة، فإنه لا يعدها ملاذا وحمى، وهو في هذا يفارق ؟مثلا - شاعرا مثل السياب، عاش طول حياته يحلم بالطفولة والعودة إلى الأم - ويجد في الماضي عزاء عن الحاضر، بل هو يزخرف الماضي لأن في ذلك التمويه تعويضا عن قسوة الحاضر، ولهذا كان موقف السياب من الزمن ؟ومن ثم من الموت - بسبب تعرض السياب لتحولات مختلفة في نظرته الفكرية فهو في قصائده يقترب من خليل حاوي في تصوره نفسه ميتا يبعث، رامزا بذلك إلى بعث الأمة العربية، وذلك هو ما غلب عليه في عهد اتجاهه القومي، ولعل قصيدته " في المغرب العربي " خير مثال على ذلك، وفيها يتخيل أنه ميت ؟مع موت المجد العربي والحضارة العربية - إلا أن هذا الموت، سيستفيق ولا بد لأنه ؟لا يمكن أن يحيا دون الماضي، فهما يهبان معا من القبر:
ومن آجرة حمراء مائلة على حفرة
أضاء ملامح الأرض
بلا ومض
دم فيها فسماها
لتأخذ منه معناها
لا عرف أنها أرضي
لأعرف أنها بعضي
لأعرف أنها ماضي، لا أحياه لولاها
وأني ميت لولاه، أمشي بين موتاها
و للسياب ؟ موقفان من قضية الموت والزمن أحدهما إلى نظرته للدمار اكلي قد يعم العالم بسبب القنبلة الذرية، وهذا هو ما تعبر عنه قصائد متعددة تمتد من أقصى تطور تقني إلى أخيلة القروي الذي يتصور الموت ثعلبا والناس " دجاج القرى " والثاني هو في مواجهته موته الذاتي، يطل عليه من خلال المرض المزمن، وفي هذا الموقف اليائس يصبح الإنسان مترددا بين العودة إلى الطفولة والأم والقرية، ليحس بالنجاة المؤقتة من مخلب الموت، وبين استدعاء الموت نفسه لأنه أهون من مكابدة المرض. ويدرك الشاعر أن العودة للطفولة مستحيلة:
وهيهات ما للصبا من رجوع
أن ماضي قبري وأني، قبر ماضي
موت يمد الحياة الحزينة؟
أم حياة تمد الردى بالدموع
ولهذا فهو يصرخ مستدعيا الموت:
منطرحا أصيح انهش الحجار
أريد أن أموت يا اله
بل أنه حين يعود إلى الطفولة، إلى القرية، يحس بالتغير ؟أي بفعل الزمن، ولهذا فإنه يتساءل حائرا:
جيكور ماذا؟ أنمشي نحن مع الزمن
أم أنه الماشي
ونحن فيه وقوف؟
أين أوله؟
وأين آخره
هل مر أطوله أم مر أقصره الممتد في الشجن؟.ومهما يكن من شيء، فإن الزمن عند خليل (طفل ؟غول)، ربما كان مخيفا ولكنه رغم شكله المخيف ما يزال طفلا، كما أن الزمن عند السياب " ثعلب " - يصطاد دجاج القرى، وقد يكون في شكل آخر أكثر أخافة، ولكنه حقا لا يبلغ صورته المخيفة عند نازك، التي تراه في صور مخيفة مقيتة فهو حينا " الأفعوان " الذي يسد كل الدروب، مطاردا، خانقا كل شيء، يقتفي الخطوات، ويتجسد في كل اتجاه، حتى أنه ليغلق كل باب للفرار،
ذلك الغول أي انتعاق
من ظلال يديه على جبهتي الباردة
أين أنجو وأهدابه الحاقدة
في طريقي تصب غدا ميتا لا يطاق
أين أمشي، وأي انحناء
يغلق الباب دون عدوي المريب
أنه يتحدى الرجاء
ويقهقه سخرية من وجومي الرهيب
؟
أين أين أغيب
هربي المستمر الرتيب
لم يعد يستجيب
لنداء ارتياعي وفيم صراخ النداء!
وهو حينا سمكة ميتة، تكبر وتكبر، لتحول بين المحبين، وتنذرهما بالأفتراق،
ومشيا لكن الحركة
ظلت تتبعنا والسمكة
تكبر تكبر
حتى عادت في حضن الموجة كالعملاق
وصرخت رفيقتي أي طريق
يحمينا من هذا المخلوق
لنعد فالدرب يضيق يضيق
والظلمة محكمة الإغلاق
ومن ثم تختلف نازك في موقفها إزاء الزمن ؟من خليل حاوي والسياب - فهي ترى في الزمن قوة جبارة مطاردة، والإنسان يحاول أن يهرب منها، ولكنه لا يملك أن ينجو، أو لا يكاد يملك ذلك.
تعبر نازك تعبيرين مختلفين عن هذا الماضي، في أولاهما تصور الخوف الرهيب من الزمن ؟ومن الموت - وتحاول أن تتخذ فكرة تحجبها عن عيون السنين، وأن تشير إلى موضع قائم في المدى المرتمي محجوبا بالظلال، حيث يتم العبور إلى موطن لا يستطيع الزمان البليد أن يصل إليه، إلى عالم حافل بالوعود، ولكنه ليس الأمس:
سنمحو الزمان، وننسى المكان
هناك ونقسم ألا نعود
إلى أمسنا المنطوي
سر بنا!
ولهذا فإن النجاة من الاثنين ؟الماضي والمستقبل - إنما يتم باللجوء إلى دائرة " اللازمان " ، وهي الدائرة التي
تسميها الشاعرة " يوتوبيا " منطقة يتعطل فيها حكم الزمن، وتتخذ صفة الكمال والخلود، ولكن الشاعرة تتصور يوتوبيا هذه على ألوان فمرة تراها عالما يموت فيه الضياء، ومرة عالما يبقى فيه الضياء ولا تغرب الشمس، ومرة ثالثة حيث ديانا(ربة القمر) تسوق الضياء، ولكن الصفة الثابتة لها أنها أفق أزلي لا يدركه الفناء.
وبين ألامس الميت والغد الرهيب يقع الحاضر، وهو في الغالب يمثل الفراغ، والزمن فيه بطيء العبور، تتمطى دقائقه تمطيا، ولذلك يوصف الزمن هنا بأنه بليد، وتمثل " الساعة " آلة بغيضة بلهاء، لأنها مقترنة بعد الدقائق البطيئة:
دقت الساعة في الظلمة تسعا ثم عشرا/
تململت الساعة الباردة على البرج/
وأنا أصغي وأعد دقائقها القلقات،
ويمكن التغلب على حركة الانتظار هذه بمشاهدة المتحركات في الزمن، كالقطار مثلا حيث يشكو الآخرون البطء " هذي العقارب لا تسير " ويتساءلون: كم مر من هذا المساء متى الوصول؟/ وتدق ساعته ثلاثا في ذهول/ فان مراقبة هذه المتحركات تأمل في زمن الاخرين، وتخفيف من ثقل الانتظار. كما يمكن التغلب على هذا الحاضر بالسير المستمر في المكان - دون وصول - ( لان الوصول يعني الموت) والسير في مكان يتجاهل فيه عامل الزمن ينقذ من العودة التي سيكشف للأعين أن كل شيء مررنا به وخلفناه وراءنا قد تغير:
لماذا نعود
أليس هناك مكان وراء الوجود
نظل إليه نسير
ولا نستطيع الوصول
مكان بعيد يقود إليه طريق طويل
يظل يسير يسير
ولا ينتهي
غير أن المكان غير موجود، مثله مثل يوتوبيا، ولذلك كان لا بد من العودة والمرور بالتغيرات التي تحول الأمكنة إلي أمكنة أخرى والشخص إلى شخص ثان، وذلك يعني التعايش مع أشياء لم تؤلف من قبل، ومع أن هذا التجدد كان يمكن أن يخلق بهجة متجددة، فإنه عند الشاعرة نذير بالسأم والضيق، مثله مثل الركود الزمني، لا يخلق سوى الإحساس بالضجر في شعر نازك صور مختلفة، توازي التعبيرات المتعددة عن بطء الزمن، وعن الإحساس بالفراغ، وليس التعبير عن " البطء " من أجل التأمل في الزمن، أو للاستسلام للحلم، وإنما هو صورة لاستثقال الحاضر والفزع من الآتي. ويجدر بنا أن نتأمل هنا في موقفين أحدهما: تجسيد الزمن في صورة قوة خارقة، قوة تكاد تكون مرئية، هائلة في قدرتها على المطاردة، وسد جميع المنافذ والدروب، والثاني: الزمن البليد البطيء المتثاقل الذي تتشابه لحظاته في رتابتها، بحيث لا تعنى الشاعرة أبدا بالإمساك بأية " لحظة " مفردة فيه واستدامته والاحتفاظ بها، وهاتان الحالتان يمثلهما الرمزان الكبيران: الافعوان الذي يرمز إلى الجبروت والمطاردة، والسمكة الميتة التي تكبر وتتضخم رغم موتها، وهي ترمز ؟بحركتها - إلى بلادة الزمن، وتثاقله، وهذا الزمن في حاليه - في صراع مستمر مع الحب، ولا تكافؤ، لأن الحب دائما خاضع له أو منهزم، بل أنه في بعض الحالات يقتل الحب بخلق العداوة، والبغض، وأحداث التغير في الناس والأشياء.

وينحسر هذا الظل المديد الذي يمثله الزمن في شعر نازك ؟انحسارا غير قليل - في ديوانها " شجرة القمر " ، وسر ذلك أنها اكتشفت التعويض عنه بالفن، وإلى هذا ترمز قصيدتها " شجرة القمر " نفسها، فهي مبنية على قصة طفل كان يحلم أن يصيد القمر، فلما تحقق حلمه ثار الناس عليه يريدون استرجاع قمرهم، فما كان من الطفل إلا أن زرع القمر، واستنبت منه شجرة تتدلى من أغصانها أقمار فضية، ثم رد القمر الأصلي إلى السماء، فالقمر عند نازك يرمز إلى الطبيعة (وهو في الوقت نفسه صورة للزمن)، والطفل هو الفنان، والشجرة هي فنه المستمد من الطبيعة، المستقل عنها في آن معا، وبه وجد الطفل (الفنان) رضى عوضه عن الطبيعة والزمن كذلك، وتقول نازك أنها استعارت الأسطورة دون رموزها - من قطعة شعرية إنكليزية مما يكتب للأطفال، ولعلها لو لم تقرأها هنالك لخلقت مثلها، فإن رغبة الطفل في صيد النجم (أو القمر) موجودة في شعرها من قبل، وإنما كانت تلك الرغبة بحاجة إلى تطوير:
وافقنا وانتهى الشيء الذي خلناه حبا
وتبقت حولنا الذكرى التي تسخر منا
من خيالات صغيرين بدأ نجم فظنا
أن في وسعهما أن يمسكاه فأشرابا
لحظة ثم تهاوى السلم
في برود وتلاشى الحلم
فهذا النجم الذي كان " طفلان " يريدان صيده هو " الحب " ن وكان صيده وهما تلاشى من بعد، ولكن هذا النجم حينما أصبح " فنا " استطاع الطفل أن يحوزه، وأن يخلق مثله، وبانتقال الصراع من دائرتي الزمن والحب إلى

ب-موقف الشعر العربي من المدينة
تمثل المدنية لدى الشاعر العربي الحديث " صدمة حضارية " التي أحسها دي فيني إزاء القطار؟! إن كثيرا من الباحثين يميلون إلى مع أن المدينة في العالم العربي ليست سوى " قرية " كبيرة، وأن الشاعر حين يحس بتضايقه من المدنية يتحدث عن الغربة والقلق والضياع ؟مجرد محاكاة - شعراء الغرب حين والقلق والضياع إنما يحاكى ؟مجرد محاكاة - شعراء الغرب حين يضيقون ذرعا بتعقيدات الحضارة الحديثة، وبالمدينة الكبيرة ممثلة لها.
وقد ذهب كثير من علماء الاجتماع إلى أن كثيرا من الإحباطات التي يحس بها ساكن المدينة إنها هي نتيجة صراع أساسي بين القيم: بين الذات والمجموع، بين الحرية والسلطة، بين التنافس الحاد والمحبة الأخوية ، وأن الفرد يحس أن قيما عزيزة على نفسه قد تحولت عن طبيعتها، وفي النفور من هذا الوضع يحاول المرء أن يجد لنفسه مهربا أو مسربا، وإذا كان ساكن المدينة يحس بذلك كله فإن المهاجر اليها من الريف لا يملك إلا أن يكون أحساسه به حادا طاغيا.

وقد كانت صورة بغداد عند السياب إنها " مبغى كبير "
ودمشق أدونيس امرأة، إلا أنها كثيرا من صفات المجتمع العربي عامة، تلك الصفات التي يحاول أدونيس أن يحطمها (وبذلك تختلف غايته من حديثه عن المدينة عن غايات الشعراء الآخرين):
يا امرأة الرفض بلا يقين
يا امرأة القبول
يا امرأة الضوضاء والذهول
يا امرأة مليئة العروق بالغابات والوحول
أيتها العارية الضائعة الفخذين يا دمشق
إن النفور من المدينة والحنين إلى الريف ؟ممتزجا مع الحنين إلى الأم وإلى الطفولة ؟نزعة رومنطقية أصيلة، وقد وجدت لها تعبيرات مختلفة في الأدب العربي في هذا القرن، كما وجدت لها بدائل أخرى في الحنين إلى الماضي الذهبي أو في العودة إلى الطبيعة ؟الغاب - (عند المهجرين) أو التشوف إلى يوتوبيا عند نازك)، أو في خلق مدن مسحورة تغني الشاعر عن مدينة الواقع المليئة بالآلام والعذاب، تلك هي المدينة المسحورة التي يصورها البياتي في قوله:
مدينة مسحورة
قامت على نهر من الفضة والليمون
لا يولد الإنسان في أبوابها الألف ولا يموت
يحيطها سور من الذهب
تحرسها من الرياح غابة الزيتون،

أما أسباب النفور من المدينة فلأنه ضياع فب الخطوات في شوارع هذه المدينة الكبيرة، وأما السياب فإنه لم يستطع أن ينسجم مع بغداد لأنها عجزت أن تمحو صورة جيكور أو تطمسها في نفسه (لأسباب متعددة) فالصراع بين جيكور وبغداد، جعل الصدمة مزمنة، حتى حين رجع السياب إلى جيكور ووجدها قد تغيرت لم يستطع أن يحب بغداد أو أن يأنس إلى بيئتها، وظل يحلم أن جيكور لا بد أن تبعث من خلال ذاته، (وقد بعثت رغم أندثارها لأنه خلدها في شعره، ومنحها وجودا لا يبيد)، وحين تحدث السياب عن جيكور التي شاخت، كان يرثي الماضي كله ويرثي نفسه وهو يستشرف الموت:
آه جيكور، جيكور؟
ما للضحى كالأصيل
يسحب النور مثل الجناح الكليل
ما لأكواخك المقفرات الكئيبه
يحبس الظل فيها نحيبه

ج-موقف الشعر العربي من التراث
التراث جزء مهم من الحاضر والمستقبل عند الناس جميعا وعند الشاعر بشكل خاص وإن الذين يدعون إلى الثورة على التراث يدركون مدى حضور الماضي في الحضارة الحديثة فالفرق بين الشعر الكلاسيكي والحديث: أن الشعر الكلاسيكي يبدأ بالفكرة الجاهزة ثم يحاول أن يعبر عنها أو بترجمتها، وأن الشعر الحديث ؟على النقيض من ذلك، إنما تكون العلاقات فيه امتدادا للفظة، حتى لكأن اللفظة " عمل " ليس له ماض مباشر، وكل ما أعنيه هنا: أن أشد الشعراء أصالة وتفردا، يحور إلى موروث، ويقع في ما يسميه بارت " التذكر " ، وأن الانفراد المطلق أمر يعز على أي إنسان، إلا إذا شاء إلا يقيم أية علاقات بين الألفاظ.
أن الشاعر الحديث الذي يؤمن بالثورةعلى التراث، لا يريد أن يقف عند حدود التطور الطبيعي للغة، بل يريد أن يطورها ؟عامدا - من خلال منظوره الخاص، رافضا كل قيمة تفرض عليه من الخارج، ومن ثم ارتبط الشعر بقانون التطور والتحول، حتى غدا الشاعر في مسابقة مع الزمن، ومسابقة مع شعره نفسه وأصبح التطور لا يعني انتقال سمات مذهب شعري ؟في حقبة ما - إلى سمات مذهب آخر - في حقبة أخرى، بل أصبح حركة متسارعة بعدد الأفراد الذين يقولون الشعر، وبذلك قضي على فكرة " الخلود " الكلاسيكية، وأصبح التميز ؟في الدائرة الشعرية – مرحلياوفذهب صلاح عبد الصبور إلى أن من العسير على الشاعر أن يتجرد كليا من التراث، وهو يرى أن الشاعر العظيم هو الذي يستطيع أن يتجاوز التراث مضيفا إليه شيئا جديدا. وتحدث أدونيس في مواضع كثيرة من كتابه " زمن الشعر " عن التراث، وخلاصة رأيه: يجب أن نميز في التراث بين مستويين: الغور والسطح. السطح هنا يمثل الأفكار والمواقف والأشكال، أما الغور فيمثل التفجر، التطلع، التغير، الثورة، لذلك ليست مسألة الغور أن نتجاوزه، بل أن ننصهر فيه؟. الشاعر الجديد ؟إذن - منغرس في تراثه، أي في الغور، لكنه في الوقت ذاته منفصل عنه. إنه متأصل لكنه ممدود في جميع الآفاق " وكما فعل أبو تمام في القديم حين أتهم بأنه خرج عن عمود الشعر (أي عن التراث الشعري) فجمع ديوان الحماسة ليثبت ما يعجبه في الشعر القديم، كذلك فعل كل من صلاح عبد الصبور وأدونيس، حين أعتمد كل منهما ذوقه الذاتي في صنع مختارات - صالحة للبقاء - من الشعر العربي القديم أيضا.
وأما في الموقف الشعري (أي في التعبير عن الموقف من التراث شعرا) فإن الشعراء يتفاوتون بشدة، فهناك من يؤمنون بالتراث ويعتزون به مثل توفيق زياد الذي أن كسر الردى ظهره سنده " بصوانة من صخر حطين " ، وهناك الذين يتوقعون إلى التغيير الحضاري، ولكنهم لا يدينون الماضي، وإنما يدينون " تعهر " الماضي بين يدي السادة في الحاضر، ومن هؤلاء الشعراء محمود درويش في قوله:
نعرف القصة من أولها
وصلاح الدين في سوق الشعارات وخالد
بيع في النادي المسائي بخلخال امرأة.
فمحمود يميل إلى محاكمة الحاضر، وفضح أساليبه، وهو
في هذا يختلف عن سميح القاسم الذي تتعرض علاقته بالماضي إلى الاهتزازات المتتالية. فبينما تجده حينا يهتز بالتراث وبالماضي
دم أسلافي القدامى لم يزل يقطر مني
وصهيل الخيل ما زال وتقريع السيوف
ويستمد القوة من كل أنواع التراث:
ما دامت مخطوطة أشعار
وحكايات عنترة العبسي
وحروب الدعوة في أرض الرومان وفي أرض
الفرس؟.
أعلنها حربا شعواء
باسم الأحرار الشرفاء
والشاعر الحديث يتعامل مع هذا التراث من زوايا مختلفة، نستطيع أن نعد منها أربعا هي: (التراث الشعبي –الأقنعة-المرايا-التراث الأسطوري)
(1) التراث الشعبي:
يمكن أن يضم هذا التراث الناحية الأسطورية، وأن يؤدي دور الرمز، وللتراث الشعبي ميزة هامة، لأنه تراث قريب حي، وحين يلجأ إليه الشاعر لا يحس أنه مثقل بما في الماضي الطويل من خلافات ومشكلات، وقد وضح هذا بقوة في الأعمال المسرحية، فلو فرضنا أن مسرحيا كتب روايته الشعرية عن زهران (أو الفتى مهران) أو عن جميلة بوحيرد أو عن طانيوس شاهين، أو عن أمثال هؤلاء (مثل عبد الكريم الخطابي أو عمر المختار أو عز الدين القسام) لكان بذلك يختار " بطلا " ممثلا لظرف تاريخي لا يدور حوله خلاف كبير، بينما إذا أختار الحلاج أو الحجاج أو محمودا الغزنوي أو الغزالي فإنه لا بد أن يبذل جهدا مضاعفا، لتخطي الحقائق التاريخية الراسخة في النفوس ؟على اختلاف في هذه الحقائق - لدى مشاهدي مسرحيته.
وتكمن الجاذبية في التراث الشعبي في أنه يمثل جسرا ممتدا بين الشاعر والناس لإيقاظ الشعور القومي وإبقائه حيا،


ولعل الشعر السوداني ؟في هذا المجال - أكثر من سائر الشعر الحديث، اتصالا بهذا التراث، ومن ثم، تفردا في اللون الإقليمي، وخاصة في شعر محمد مهدي المجذوب (في ديوانه الشرافة والهجرة) وفي شعر صلاح أحمد إبراهيم،
(2) الأقنعة:
يمثل القناع شخصية تاريخية ؟في الغالب - (يختبئ الشاعر وراءها) ليعبر عن موقف يريده، أو ليحاكم نقائض العصر الحديث من خلالها، ويشترك الشعر مع المسرحية الشعرية (الحلاج وليلى والمجنون لصلاح عبد الصبور مثلا) في استخدام هذه الوسيلة، كما تشترك في ذلك القصة القصيرة (قصص زكريا ثامر: الجريمة، المتهم؟والخ)، ولعل البياتي أكثر الشعراء لجوءا إلى هذه الوسيلة عن وعي عامد، ولهذا نجده يقول في كيفية استخدامه للقناع: " حاولت أن أقدم البطل النموذجي في عصرنا هذا وفي كل العصور (في موقفه النهائي) وأن أستبطن مشاعر هذه الشخصيات النموذجية في أعمق حالات وجودها، وأن أعبر عن النهائي واللانهائي، وعن المحنة الإجتماعية والتخطي لما هو كائن إلى ما سيكون " . والقناع عند البياتي يشمل الأشخاص (الحلاج. المعري. الخيام. طرفة. أبو فراس. هملت. ناظم حكمت) ويشمل المدن (بابل. دمشق. نيسابور. مدريد. غرناطة؟) وقد كثر استعمال القناع في الشعرالحديث فمن أقنعة أدونيس: مهيار الدمشقي (شخصية متخيلة) وصقر قريش، ومن أقنعة محمد عفيفي مطر: عمر بن الخطاب، وهكذا نجد الشعراء المعاصرين يتفننون في اتخاذ القناع، للتعبير عن ذواتهم. فعمر بن الخطاب يعبر عن الموقف من الجوع والأثم، وصقر قريش يعبر عن التحول التاريخي، ومهيار يعبر عن التحول متخطيا التاريخ، والخيام يعبر عن الحيرة المستبدة تجاه اوجود، وهكذا.
(3) المرايا:
هذا الأسلوب من النظر إلى الماضي يكاد يكون قاصرا على أدونيس، ، والمرآة من الوجهة النظرية أشد واقعية من القناع، وأشد حيادية، لأنها لا تعكس إلا الأبعاد المتعينة على شكل صورة أمينة للأصل، ولكنها في الحقيقة تستطيع أن تكون بعيدة عن الموضوعية، لأنها في النهاية صورة ذاتية، ومن المفروض أن تكون كذلك، إذ لو كانت مكتملة الموضوعية لكانت أقرب إلى الواقعية الطبيعية، التي تحاول رسم الأمور هي دون تحريف، أو لكانت أشبه بالصور الفوتوغرافية.
والمرآة أوسع مجالا من القناع لآنها تصلح أن ترفع للماضي، كما تصلح أن ترفع في وجه الحاضر، وأن تعكس الأشياء مثلما تعكس الأشخاص، بينما لا يصلح القناع إلا للماضي، ولاستحضار شخصيات أصبحت في تضاعيف التاريخ نموذجية،
والمرايا عند أدونيس، (- مرايا الشخصيات التاريخية: زيد بن علي، زرياب، الحجاج، معاوية، وضاح اليمن، أبو العلاء.
-مرايا شخصيات غير محددة بزمان أو مكان: الطاغية، السياف، رجل يروي، الفقير والسلطان، الممثل المستور، فارس الرفض، شاهد مقتل الحسين.- مرايا شخصيات رمزية: عائشة.- مرايا شخصيات معاصرة: خالدة.- مرايا المجسدات، رأس الحسين، حسد العاشق.- مرايا زمانية: الحاضر، الوقت، الزمان المكسور، الحلم، التاريخ، القرن العشرون، جثة الخريف، (العين) والزمن.- مرايا مكانية: مسجد الحسين، بيروت، الطريق، الأرض.- مرايا الأشياء: الكرسي، الغيوم، الزلاجة السوداء.- مرايا مجردات: السؤال، الطواف، النوم.- مرايا أسطورية: أوفيوس).
(4) التراث الأسطوري:
تحتل الأسطورة مقاما هاما في كثير من العلوم الإنسانية الحديثة، وهي لا تنطبق إلا على ما نبع عند البدائيين من " حكايات " لإرضاء حاجات دينية عميقة، أي أنها تعبير ديني اجتماعي، وبعد استغلال الأسطورة في الشعر العربي الحديث من أجرأ المواقف فيه، ، لان ذلك استعادة للرموز الوثنية، وهكذا ارتفعت الأسطورة إلى أعلى مقام، حتى إن التاريخ قد حول إلى لون من الأسطورة لتتم للأسطورة سيطرتها الكاملة وذهب الشاعر الحديث يبحث عن الأسطورة، ويعتمدها أنى وجدها، لا يعنيه في ذلك أن تكون بابلية (عشتاروت تموز) أو مصرية (أوزوريس) أو حثية (أتيس) أو فينيقية (أدونيس، فينيق) أو يونانية (أورفيوس. بروميثيوس. عولس. (أوديس). سيزيف. أوديب؟ الخ) أو

مسيحية (المسيح. لعازر. يوحنا المعمدان) بل أنه ذهب إلى بعض الحكايات الجاهلية ورمزها الوثنية (زرقاء اليمامة.. اللات) وعامل القصص على المستوى نفسه مثل قصة الخضر وحديث الإسراء والمهدي المنظر (أو صاحب الزمان)، واتخذ من كل ذلك رموزا في شعره، تقوى أو تضعف، بحسب الحال، وبحسب قدرته الشعرية، وحين اضطر إلى مزيد من التنويع ذهب إلى خلق الأقنعة والمرايا والاستعانة بالأدب الشعبي ؟كما بينت فيما تقدم.
ومن الأصناف أن أقول أن الشعراء يختلفون في مقدار شغفهم بالأسطورة فبعضهم يكثر منها مثل السياب، وبعضهم قليل الالتفات إليها مثل محمود درويش، وأن شعراء العراق ولبنان ؟على وجه العموم - لا يجدون غضاضة في تطلبها من أي مصدر، بينما شعراء مصر ؟مثلا - يتحفظون تجاه بعضها ويقبلون على بعضها الآخر، ومهما يكن من شيء فإن الشاعر المتميز، حين يشعر أنه في غير حاجة كبيرة إلى الأسطورة ؟يخلق أساطيره ورموزه الخاصة به. ولاستعمال الأسطورة دلالات ثلاث:
1 - التعبير عن القلق الروحي والمادي
2 - التعبير عن البحث والتجدد
3 - التعبير عن العذاب والآلام التي يواجهها الإنسان المعاصر
وقد كان السياب بحكم موقعه الزمني، شديد البحث عن الرمز لا يهدأ له بال، وكانت حاجته إلى الرموز قوية بسبب نشوبه في أزمات وتقلبات نفسية وجسمية، وقصيدته مدينة بلا مطر " تصلح أن تكون أكثر قصائده تعبيرا عن إتقانه للرمز المتصل بالجدب والخصب،
د-موقف الشعر العربي من الحب

الحديث عن الحب في الشعر العربي واسع وشيق من خلال النسيب أو الغزل ولكنه في العصر الحديث اتخذ شكلا جديدا ،فقد أكثر نزار الحديث عن الحب ؟معتبرا إياه عالما ذا أبعاد متميزة تكفل له الوجود المستقل ؟في شعره - حتى سماه بعضهم " شاعر الحب " وسماه آخرون " شاعر المرأة " ، وشغل نزار بقصة الحب كقوله:

لم يبق نهر أسود أبيض إلا زرعت بأرضه راياتي
لم تبق زاوية بجسم جميلة إلا ومرت فوقها عرباتي
فصلت من جلد النساء عباءة وبنيت أهراما من الحلمات
مأساة هارون الرشيد مريرة لو تدركين مرارة المأساة
الجنس كان مسكنا جربته لم ينسه حزني ولا أزماتي
والحب أصبح كله متشابها كتشابه الأوراق في الغابات
أنا عاجز عن عشق أية نملة أو غيمة.. عن عشق أي حصاة
مارست ألف عبادة وعبادة فوجدت أفضلها عبادة ذاتي
كل الدروب أمامنا ممدودة وخلاصنا في الرسم بالكلمات
ومن درس شعر نزار وجد أن استغرابه الشعري بدأ أولا بتناول أشياء المرأة، والألوان التي تربط بينها وبين الطبيعة ثم أخذ التنبه يحرك نظراته نحو حالات المرأة وحركاتها (وهي تمشط شعرها، وهي تمر في المقهى، وهي تنزل من السيارة، وهي مضطجعة، ؟) مع الإلحاح على مزيد من أشيائها (قلم الحمرة، المشط، الجورب، المانيكور، ، ثوب النوم الوردي مما يصح معه أن نقول أنه يبعثر " المرأة ولا يلمها في خلق سوي، كان يجزئ، ويركز نظره على المفردات، لأن كل عنصر مفرد منها، كان يحميه من المرأة مكتملة، إذ كان يجد فيه صورة قصيدة ثم يحوله ؟دون ريب - إلى قصيدة جميلة، كان يرى الجمال الطبيعي والمصنوع، ويفتنه، فيدخل في كونه (الفم، الشفة، الاسم، الغرفة، الظفر المصبوغ، كم الدانتيل) دخول الطفل الذي تفتنه الفراشة، ويعود جذلان لأنه استطاع أن يقبض " شعريا " على تلك الفراشة، وأقول " شعريا " لا لنفي المتعة الجسدية، بل لاؤكد جانب التعبير، والتصوير، فإن الدخول إلى هذه الجزئيات، لم يكن مما


الحب بمعنى رؤية الجمال وضروب الصراع في الحياة والمشاعر هو الملاذ الأخير، لأنه وحده رابطة.
أما صلاح عبد الصبور فإنه حين أصبح شاعرا كان قد فقد القدرة على استعادة " فرحة الطفل " بالإشياء، تلك الخاصية التي تميز شعر نزار قباني، وإذا كان يشترك مع نزار في الوقوف عند المظاهر الحسية من عالم المرأة، مقلدا نشيد الإنشاد: "
وجه حبيبتي غيمة من نور/
شعر حبيبتي حقل حنطة/
خدا حبيبي فلقتا رمان؟
فما ذلك إلا لقاء عارض لا يلبث أن يضمحل " .

هـ-موقف الشعر العربي من المجتمع
هناك من يعتقد دون ريب أن الفرد والمجتمع يمثلان طرفي صراع، كما أن هناك من يثبت، أن الوضع الإنساني كله، لا يتعدى الصراع بين الطبقات في المجتمع الواحد.

الصراع بين الفرد والمجتمع؟؟ طرفان في المعادلة لا يستويان،
أن الصراع بين الفرد والمجتمع، ليس تعويضا عن السير في المجتمع، حين يأخذ المد الطاغي مجراه، ويبدو لي أنه لا بد لوضع هذه القضية في موضعها الصحيح من أن نميز ؟في الصراع بين الفرد والمجتمع - مواقف متفاوتة: فهناك الغربة (أو الاغتراب) وهناك الثورة على المجتمع، وهناك العزلة الكلية عن المجتمع. فالغربة تتم في نطاق المجتمع (لا خارجه)، ولهذا فإنها رغم ما يصاحبها من الآم وخيبة، لا تحول بين صاحبها وبين خدمة المجتمع، والثورة ليست سوى اصطدام بالنقائض التي يعاني منها المجتمع، وليست محاولة لتحطيمه، وإنما هي محاولة لتنبيهه أو إيقاظه أو تطويره، والثائر في مثل هذه الحال، يصارع من أجل أن يحقق الانسجام الاجتماعي، على نحو أشد فعالية من المغترب، وأن كان مطلب الاثنين واحدا، وقد يكون التأقلم
وحين نقبل هذا المفهوم لوظيفة الشعر، علينا أن نضيف: أن إنسانية الإنسان ليست قيمة مصمتة، وإنما هي واقع أصيل، يتأذى بشتى الاعتبارات: هي حتمية يؤذيها الإهمال والانغلاق والخطأ في زاوية الرؤية، والخوف من التطور، وكثير غير ذلك، ولكن أكثر ما يؤذيها أيضا الإيمان بالتفاوت الطبقي (أي ضياع العدالة الاجتماعية، وعدم الوعي على التمييز العنصري أو اللوني، وتمجيد القوة لمجرد أنها قوة يسحق فيها الضعيف والفقير، ويضيع الحق الإنساني، ؟ الخ).
وهي من ثم ؟رغم واقعيتها - قيمة مطلقة، وكل خروج عنها يمثل شرخا أو جرحا في وظيفة الشعر، وإذا كان الأمر كذلك فإن الإلحاح على صراع الطبقات ؟في المجتمع - أهم بكثير من الإلحاح على الصراع بين الفرد والمجتمع، لأن الأول يحقق مفهوم الالتزام، أكثر مما يحققه الثاني، وإذا كنا نقول أن الالتزام يكاد لا ينعدم، فيجب أن نسارع أيضا إلى القول، بإن درجات الالتزام متفاوتة، وفي كل موقف يتضح هذا التفاوت، سواء أكان ذلك الموقف صورة للعلاقة بالزمن أو بالمدنية أو بالتراث أو ؟.الخ، فالشاعر الذي يرى في علاقته بالزمن صورة التجدد، ويستشرف في رؤيته للمدينة صورة الحضارة التي تكفل سلامة إنسانية الإنسان، ويستطيع في موقفه من التراث أن يربط بين الماضي والمستقبل، ربطا لا يطغى فيه أحدهما على الآخر، هو أكثر التزاما ممن يقع دون ذلك في تصوراته وأفكاره.
ولعل خير ما يلخص حقيقة الأمر أن يقال أن الالتزام هو الجانب الإيجابي من علاقة متبادلة بين الشاعر والمجتمع، وهي ليست علاقة أخذ أو عطاء ولا علاقة انصهار أو ذوبان، وإنما هي علاقة تطابق، فقد يصف الشاعر البحر لأنه أحب منظره، أو تأثر بروعة امتداده ولكنك تحس وهو يتحدث عنه أنه يعبر بذلك عن حرية الإنسان، أو عن عمق الوجود الإنساني أو سعة التجارب الإنسانية، دون أن يصرح ؟في الحالين - مخبرا أو مقررا - بهذه الرابطة الوثيقة السرية بينه وبين البحر، وتكون كل حركة أو صورة أو موجة موسيقية في قصيدته صورة لذلك التطابق، وهذا التطابق قد يوحي بالتفارق أو التقابل أو التناسب أو التحاور ولكنه لا يوحي أبدا بالانفصال.
وليست صفة الإيجابية في هذه العلاقة تعني المهانة، إذ أن هذه الأخيرة قد تكون بدورها سلبية محضا، ولهذا

كان الالتزام مرتبطا بالثورة، وأن أوحت كلمة " التزام " بتقبل مواصفات معينة، كأنها آتية من الخارج، إذ أن هذه المواصفات قد تكون ثورية وقد تكون غير ذلك. ولكن أية ثورة نعني؟
لنأخذ ثورتين متصلتين اتصالا وثيقا بتطور الشعر الحديث، وبرسم الوجهات التي يسير فيها، وهما الثورة السريالية والثورة الماركسية، فماذا نجد؟ نجد أنهما رغم التقائهما في بعض الأصول والظواهر تفترقان في أمور جوهرية، فالاولى ثورة من خلال المشاعر، والحلم واشعر والجنون، بينما الثانية ثورة عملية تعتمد تنظيما واعيا وتؤمن بأن العمل هو الرابطة بين الإنسان والطبيعة، وتحتكم إلى التاريخ، بينما يرفض السرياليون التاريخ، ولا يؤمنون بأي موجه يجيء من خارج الرغبة الإنسانية. وما دام التحويل للمجتمع ماديا هو الذي يخلق أشكالا فكرية لم تكن في الحسبان ؟في رأي المادية التاريخية - فإن المنادين بالثورة الماركسية يعتقدون أن الثورة هي المهمة الضرورية الوحيدة للإنسان، وهذا شيء لا يأخذ به السرياليون لأنهم يرون الثورة إحدى المهمات الإنسانية، وحسب، وإذا كان الفن ؟أو الشعر - جزءا من النشاطات الإنسانية التي تحقق تلك الثورة لدى الماركسيين، فإنه لدى السرياليين عالم قائم بذاته، صنو للثورة، وقد يسعفها في بعض المراحل، إلا أنه يجب إلا يصبح أداة فيها.


ومن يدرس الشعر الحديث لا تخطئ عيناه فيه اتجاهه إلى التصرف، بقوة، حتى ليغدو الاتجاه الصوفي أبرز من سائر الاتجاهات في هذا الشعر، ولعل ذلك راجع إلى طول عملية التقدم والتراجع في الحياة السياسية، واليأس الغالب والسأم من متابعة الكفاح، كما ان هناك قسطا من التصوف يربط بين الاتجاهات الثورية المتقدمة، ثم أن هذا الميدان خير ميدان تتفتح فيه ذاتية الشاعر وفرديته، فهو ينفصل عن المجتمع ظاهريا، ليعيش آلامه ؟التي هي نفسها آلام المجتمع - بوجد مأساوي، ثم أن في هذا اللون من التصوف محاولة للتعويض عن العلاقات الروحية والصلات الحميمة التي فقدها الشاعر، وتلطيفا من حد المادية الصلب الخشن. ونحن نجد مظاهر هذا التصوف في ( الحزن العام الهادئ اللائب، - الإحساس بالغربة والضياع والنفي- اتحاد الشاعر بالرموز المثقلة بالتضحية وارتياح الشاعر إلى عالم الأرواح، عالم الخلود- اتحاد الصوفي والشهيد في التراث - اتحاد الشاعر والشهيد المقاتل على نحو مجازي وحقيقي.- الحلولية الكونية - اتحاد الشاعر والأرض والحبيبة، أو فناء المحب في المحبوب الحب الجسدي أو غير الجسدي. - اكتشاف منطقة شبحية يلوذ فيها الشاعر من الموت ويحتمي من جبروته.- التسامي بالصدمات العاطفية- خلط المحسوسات معا، والمزج بين المحسوس والمتخيل، وانسياح القيم دون حواجز مميزة.- الإعلاء من شأن الجنون - الغيبوبة الحلمية التي تتجاوز الحد الطبيعي للحلم ؟القصيدة - الظمأ النفسي لمعانقة المتوقع،
ومع أن التصوف تيار كبير عام، فإن لكل واحد من الشعراء تصوفه الخاص به، فتصوف محمد الفيتوري حزن عميق يشوبه الإخفاق العاطفي والإحساس بالغربة،
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى اهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استحياء
والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء
تاج السلطان القاتم تفاحه
تتأرجح أعلى سارية الساحه
تاج الصوفي يضيء
على سجادة قش
صدقني يا ياقوت العرش
أن الموتى ليسوا هم هاتيك الموتى
والراحة ليست هاتيك الراحه
؟.
يا محبوبتي..
ذهب المضطر نحاس
قاضيكم مشدود في نقعده المسروق
يقضي ما بين الناس
ويجر عباءته كبرا في الجبانه


لن تبصرنا بمآق غير مآقينا
لن تعرفنا ما لم نجذبك فتعرفنا وتكاشفنا
أدنى ما فينا قد يعلونا يا قوت
فكن الأدنى، تكن الأعلى فينا؟..
موضوعات الشعر في العصر الحديث / 1916 – 1970 /
1- الشعر الوطني والقومي – حافظ – شوقي
2- الشعر الإنساني – الرصافي
3-الشعر الإسلامي ( العقيدة )
4- الشعر العلمي – الزهاوي
5- الشعر المتحدث عن الموضوعات اليومية – العقاد
6- شعر التشاؤم – عبد الرحمن شكري
7- شعر البحث عن الحرية – مطران – جبران –ألشابي
8- شعر الإحساس بألم الحياة – ألشابي
9- شعر التفاؤل –أبو ماضي



الباب السادس
اتجاهات الشعر العربي في الأدب الحديث

الاتجاه الإسلامي

من الحقائق التي لا يملك أحد طمسها و نكرانها- إذ هي أقوى من أن تطمس واظهر من أن تنكر- أن الإسلام منذ بواكير شروقه على العالم قد صبغ الحياة بصبغته التوحيدية البارزة وترك بصماته على كل شيء لمسه ووقع تحت تأثيره ? في النفس والمجتمع ... وفي الحياة والكون ... كما أن تأثير الانقلاب الجذري الذي صاحب الدعوة المحمّدية منذ إشراقه " اقرأ باسم ربّك الذي خلق" الأبجدية الأولى للعمل الإسلامي- لم يقف مدّه عند مساحة المفاهيم العقيدية والمسألة الاجتماعية والأعراف والخلق ... وإنما امتد قدما ليلمس أيضا الخطاب الثقافي السائد في المجتمع العربي حينذاك فيبعث فيه روحا إبداعيا جديدا.

وإذا كانت الظاهرة القرآنية قد شغلت- بإبداعية خطابها المؤثر وعمق مضامينها وجدّة أسلوبها- العرب عن قول الشعر والانبهار به وأخرست بإعجاز بيانها السنة الفحول عن النطق به فإن ذلك لا يعني أبدا كون الإسلام جاء ليحطّ من قيمة الشعر ويلغي دوره في الحياة ويعلم حربه على الشعراء ... وإنما الذي يجب أن يقر في الذهن أن القرآن قد اضعف من سيطرة الشعر على المجتمع الأدبي الإسلامي بعد أن كان هو اللون الأساسي في الحياة الأدبية الجاهلية. وإذا كان لبيد بن ربيعة قد فكّر في أن يحطّم قيتارته - بعد أن اسلم وملك عليه الإسلام كيانه- فقد كان هناك غيره- مع دخولهم حظيرة الإيمان والإسلام- قد احتفظوا بقيثاراتهم دون أن يحطموها وإذا كانت الآراء قد اختلفت حول تقييم الشعر الإسلامي- قديمه وحديثه- فمنها ما يلحّ على صفة الضعف فيه ومنها ما يجزم بقوّته وازدهاره... فنحن مع الرأي الذي يرى أن الشعر- في ظلال الحياة الإسلامية- قد شهد أزهى فترات تقدمه وإبداعه وذلك بما تهيأ له في المناخ الإسلامي من أسباب القوة والتقدم والنهوض ? كالمصداقية وحرية التعبير والالتزام المسؤول إذ يكفي أن نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمّد شاعر الإسلام الأول حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه- بالأسباب المشجعة على القول والإفصاح من مثل قوله له ?" لندرك مدى المصداقية والمكانة التي يتبوؤها الشاعر- والشعر- في المجتمع الإسلامي". وقد فهم الشعراء هذا الدور الذي أولاه لهم هذا الدين ووعوا أبعاده... فكرّسوا قرائحهم في خدمة الدعوة وشحذوها لتحصين القيم والمثل السامية وترشيد الحياة الإسلامية والتغني بجمال الكون وإبداع الخالق... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر....
كما انهم وطّنوا أنفسهم على الالتزام بقضايا الأمة وترجمة هموم المسلمين والإفصاح الصادق عن المعاناة الإسلامية .... ونظرة منصفة للتراث الشعري القيّم الذي تمخّضت عنه القريحة الإسلامية تشهد بصدق ما نقول...
لقد تميز الشعر الإسلامي منذ العهود الأولى بسمو الموضوعات التي عالجها ونبل الغاية التي قصد إليها ? فموضوعاته هي الإسلام ودعوته. وغايته إخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن ضيق الكفر إلى سعة الإسلام
وكان الشعر عبر رحلته الإسلامية يقود معارك الحرية ضد الاحتلال الأجنبي ويوقد نيران الحماس في الجماهير التي تنطلق بين الحين والحين لتدافع عن وجودها المادي والأدبي..
ولا ننسى هنا شهادة العلامة بن خلدون في مقدمته الرائعة حول الشعر الإسلامي عموما حيث يقول? " إن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهليين في منثورهم ومنظومهم ... والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام من القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها. فكان كلامهم في نظمهم ومنثورهم احسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك وارصف مبنى واعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي."
والذين رضوا الحق والصدق بتبنيهم الفكرة الإسلامية لم يرضوا أبدا أن يغطوا أفكارهم أو يصبغوا أشعارهم برمزية معقدة بل اتخذوا الوضوح منهاجا في كل ما يكتبون يقينا منهم أن ما يفعلونه هو من "العبادة" ومن باب العمل الصالح الذي يتقربون به إلى الله مولاهم الحق. والعبادة في إسلامنا الحنيف- كما نعلم- بعيدة عن الطلاسم والرموز والتعقيد بل هي في غاية الوضوح والجلاء. والشعراء الإسلاميون- من هذا المنطلق- هم الذين يحيون تحت مظلة الاستثناء في القرآن الكريم ? "... إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا...")
ولنا في أقوال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت شاعر الإسلام الأول الأسوة الحسنة ? "نافح عنا وروح القدس يؤيدك " " اهجم وجبريل معك" .
كونه ? دعوة ...
لقد اهتمت الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى بالشعر والشعراء و أحلّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الشعراء مكانا بارزا في الإعلام الإسلامي فأدّى الشعراء الرسالة التي أنيطت بهم وتصدوا لشعراء المعسكرات المناوئة للدعوة آنذاك ?للمشركين واليهود والمنافقين فأبطلوا باطلهم وردوا افتراءهم ووفّقوا في ذلك التوفيق كله.
وقد واكب الشعر الإسلامي مراحل الفتوحات والحرب والجهاد منذ بدايتها وعاش معها في كل مراحلها وتطوراتها المختلفة وحمل الشعراء على عواتقهم عبء الدعوة ومقاومة المحتلين وتوحيد الجهود الإسلامية المشتتة.
وكذلك استمر شعراء الإسلام على مر العصور هداة وجنودا حماة يرفعون صوتهم بالدعوة إلى الله ويرمون بشعرهم أعداء الإسلام . وكيف لا يفعلون والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول ? "ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم" .
ومن هنا أصر الشعراء الإسلاميون على أن يكون شعرهم قذائف حقّ تطيح بالأعداء ودعوة ناصعة تبلغ إلى الجماهير العريضة على مختلف مستوياتها وأصواتا تسمع وألحانا تفهم دون ترجمان . وهذا لا يمكن أن يتيسر إلا متى كانت نفثات الشاعر واضحة المعنى قوية المبنى موسيقية النفس.
وعموما فالشعر الدعوي في معظمه كان صادرا عن عاطفة جياشة ودافع إيماني ولهذا كان طبيعيا أن يفرغ الشعراء مضمون قصائدهم في صور فنية جميلة تبرز روعة المعاني وتصوغ الأفكار صياغة محسوسة دقيقة .
فهذا الشاعر جمال فوزي وهو في غياهب السجن يعلن للعالمين عن منهجه في الحياة ?
سأظلّ حراّ ما حييت مندّدا بالبطش بالجبروت والطغيان
روحي على كفّي فداء عقيدة في ظلّها الوافي اتخذت مكاني
ويظلّ صوتي ما حييت مجلجلا ذوق المهانة ليس في إمكاني
وهذا الشاعر احمد فرح يرسم خيوط الهزيمة وينبش عن أسباب الارتكاس ?
لهفي على العرب أعلاما ممزقة وراءها كل طبّال و زمّار
تقسّمتنا شعارات يروّجها في شعبنا كل طاغوت وغدّار
و صوّروه عدوا متّهما وسلّطوا كل هتّاف و ثرثار
إن الشعوب إذا ضلّت حقيقتها أمسى بها العبد نخّاسا لأحرار
والجيش من دون إيمان ومعتقد ظأن يساق إلى حانوت جزّار
وهذا الشاعر محمد محمود الزبيري قد تغلغلت في أعماقه هموم شعب مهدد بالإعدام والتمزق وجرحته مأساة الجماهير المحطمة تحت سندان الظلم والبغي فلم يهنأ حتى صرخ مزمجرا كالليث بصوت مدوّ مفهوم لا التواء في كلماته ولا غموض في معانيه ?
علت بروحي هموم الشعب وارتفعت بها إلى فوق ما كنت ابغيه
وخوّلتني الملايين التي قتلت حق القصاص على الجلاّد أمضيه
أحارب الظلم مهما كان طابعه البرّاق أو كيفما كانت أساميه
سيّان من جاء باسم الشعب يظلمه أو جاء من- لندن- بالبغي يبغيه.
وبعد...
إن الشاعر الذي يعيش قضايا أمته ويتخذ من الكلمة الشاعرة سلاحه في الميدان ?يحمي بها عقيدته ويلوذ بها عن دعوته يتحتّم عليه الابتعاد عن أي طلسم أو غموض حتى تكون كلمته حيّة نابضة فاعلة ومؤثّرة ذلك أن الكلمة الغامضة والمبهمة هي- في تقديري- كلمة ميتة لا حسّ لها إذ حياة الكلمة بمدى تأثيرها وصدقها وشفافيتها وتغلغلها العفوي في الرأي العام.
وكثيرة هي هموم المسلمين في هذا العصر.. ومتشعّبة ومحزنة ... فلا تكاد تخلو سجلات عصر من العصور المنصرمة دون تسجيل اضطهادات في صفوف المسلمين وجراحات وآلام قد تحملها الجسد الإسلامي وقاسى من ويلاتها ...
فإن هذا العصر- رغم الشعارات الحضارية البراقة التي يرفعها ? كاحترام الحريات وحقوق الإنسان والإخاء البشري والسلام العالمي والديمقراطية - قد فاضت دفاتره بما سجلت من معاناة أمة الإسلام دون غيرها من أمم الأرض وما يلقاه اتباع عقيدة التوحيد وأحباب محمد صلى الله عليه وسلم من التنكيل والتآمر ومن سموم مخططات الإفناء الأدبي والمادي ومن الاستفزاز الحضاري بوجهيه ? الثقافي والتقني ... على طول خارطة الوجود الإسلامي.
ذلك أن القوى العالمية الغاضبة والحاقدة في صميمها على دعوة الحق قد رمت المسلمين بالموتقال تعالى (( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا )) ( البقرة 217) وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير كما يقول سيد قطب رحمه الله - ?
" ... يكشف الإصرار الخبيث على الشر وعلى فتنة المسلمين عن دينهم بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة الإسلامية في كل ارض وفي كل جيل ... وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ولكن الهدف يظل ثابتا ? أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا وكلما انكسر في يدهم سلاح اتخذوا سلاحا غيره وكلما كلّت في أيديهم أداة شحذوا غيرها ... والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام ... ".
ويعكس الشعر الدعوي بصدق هذه الهموم وتعبر بعمق عن مشاعر هذه الأمة وأحاسيسها وتجلو أحزانها وترسم بواقعية مبدعة ملامح معاناة ملايين المسلمين واهتماماتهم وطموحاتهم ... فلن تكون هذه المرآة غير الشعر الإسلامي الملتزم ? ذلك أن لهذا الشعر رسالة تملي عليه خدمة الإسلام والذود عن حمى عقيدته والإفصاح عن هموم المسلمين حيثما كانوا ... وهو متى تخلّى عن هذه المهمة وفاته أن يكون سلاحا من أسلحة الدعوة ومنبرا من منابرها ... فهو باطل من القول وزور.
والمطلوب من الشاعر الإسلامي المعاصر هو أن يشارك في رسم صورة لحياة المسلمين بكل ما تحويه هذه الحياة من آمال وطموحات وآلام وأفراح وأحزان وهجرة وجهاد ونصر وفتح وسيادة وتمكين ...

أيها الناس أجيبوا دعوة الحق المبين
إنها دعوة إيمان برب العالمين
شرعت ما يسعد الإنسان في دنيا ودين
أطلقت فيه قوى الخير وروح الطامحين
ارجعوا لله للحق ... وكونوا مسلمين


... ثم بلهجة المتحدّي الواثق ?
قالوا? العروبة. قلت ? دين محمد إنّا به لا بالعروبة نهتدي
هي قالب الإسلام إمّا أفرغت منه فقد صارت مطيّة ملحد
يا من يريد الجاهلية منهجا يدعو إليه ويا لسوء المورد
أيقال إنّك نابه متقدّم كذبوا عليك ... لقد نصحتك فاقعد
بل أنت في رجعية مذمومة وتقهقر نحو المتاه الأبعد
ثم يلتفت الشاعر إلى الدعوة ليجدد لها وفاء الأنصار على العهد وبقائهم على الود وإصرارهم على النصرة وإفرادها بالولاء ?
يا دعوة الحق إنّا لا نزال على درب العقيدة لم نحجم ولم نخب
نغدو على ساحة الإسلام عن ثقة ولو صلبنا على الأعواد والقصب
وهذا الجزم والإصرار والثبات على المبدأ قد كلّف المؤمنين الصادقين ثمنا باهظا وذاقوا في سبيله شتّى ألوان التنكيل والتآمر ... بل قد مسّهم البأساء والضرّاء من أعدائهم بمجرد إعلان الانتماء الواعي للإسلام.
نجد هذا في شكوى الشاعر المسلم الذي يرسم في هذه الأبيات النابضة الصارخة معاناة ملايين المسلمين الذين زجّ بهم في السجون وذاقوا ألوانا من العذاب البربري الحاقد لا لشيء إلا لأنهم اختاروا الإسلام عقيدة ومنهاجا ?
الهي قد غدوت هنا سجينا لأني انشد الإسلام دينا
وحولي اخوة بالحق نادوا أراهم بالقيود مكبّلينا
فطورا مزّقوا الأجسام منّا وطورا بالسّياط معذّبينا(24)
هكذا يتضح لنا من خلال ما عرضنا من أمثلة مختارة ومختصرة بأن هموم العقيدة قد تبوأت مكانا بارزا في الشعر الإسلامي المعاصر وأولاها الشاعر المسلم اهتماما رئيسا لائقا بمقامها حتى جعل الروح لها فداء ?
روحي على كفّي فداء عقيدة في ظلّها الوافي اتخذت مكاني
.... إن هموم الشعر الإسلامي تمثل بالأرض المحتلة سواء أكانت هذه الأرض فلسطين أو لبنان أو أفغانستان أو غيرها من التراب الإسلامي الممتد شرقا وغربا ... وما تحويه من تشريد وتقتيل وتدمير وجراح وآلام ودماء وجوع وعطش وفقر وحرمان ... لم تهملها القريحة الإسلامية ولم تسقطها من اهتماماتها فقد رسمتها ريشة الألم وصورت عذاب اليتامى ودموع الثكالى وغصص المشردين وشكاوى المظلومين المهجّرين من ديارهم وأوطانهم ?
كل ما أدريه أني ذات ليلة
كان لي طفل صغير ... ذبحوه
كان لي بيت جميل ... دمّروه
وخرجنا ...
وعبرنا النهر في جنح الظلام ...
ونساء الحي تمضي ذاهله ...
تتهاوى كالورود الذابله
ومتاعي ذكريات حائله
كما ترجمت في الوقت نفسه معاناة الأمهات المسلمات في الأرض المغصوبة ? ذلك أن المتمعّن في صفحات الشعر الإسلامي المعاصر يجد لوحات حية تنبض بالصدق والشاعرية في رسمها لخلجات الأمومة المكابدة وتصويرها لكثير من أشكال معاناتها وآلامها ? فكم من أم مؤمنة سهرت على تربية وليدها ومنحته كل عطفها الصادق وحنانها الواعي وأولته رعايتها الحانية من أجل أن يشبّ مؤمنا مسلما ملتزما مجاهدا فتساهم به في تعزيز الصف الإسلامي وتقوية كتائب الإيمان ?
حملته في أحشائها ربّته في أحضانها
ودعت اله الكون أن يرعاه من أعماقها ...
وتفتّحت آفاقه ... وتحققت آمالها

وفي الزاوية المقابلة ? ارتعاشة الأمومة ولوعة القلب الحاني في الأم الواجمة وهي ترى فلذة كبدها تنهشه الظلمة وتنغرس فيه أظافر البغي والعدوان فماذا يمون جوابها يا ترى ?
صرخت وقالت ? ويحكم
ماذا جنى أطهارها ؟
همّت بلثم جبينه
فيزدّها أشرارها
إنها هموم آلاف الأمهات المسلمات في فلسطين ولبنان وأفغانستان ? ... إنها معاناة الأمومة الصادقة المفجوعة في أكبادها والملوعة في أحبابها تترجمها القوافي الغاضبة والكلمات النابضة بالألم والاحتجاج ... والتحدّي ...
وإذا كانت القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة أو القوى العالمية الأخرى تحت الضغط الصهيوني ومن خلال تأثير الجذور الصهيونية والصليبية الممتدّة في مؤسساتها وهياكلها تصرح - بين الحين والآخر- بحقّ اليهود في فلسطين ... فإن ما يؤمن به المسلمون أنه لا مكان لليهود في أرضهم مهما كانت الدعاوي والشكاوي والأضاليل ... وهذا لا يفصح عنه الخطاب السياسي المعلن في المحافل الدولية ولكن الشاعر الإسلامي الملتزم يترجم بشعره هذا الإيمان ويصدع بهذا اليقين ?
أمّا اليهود فليس في أرضي مكان لليهود
وليعطهم بلفور من إنجلترا بدل الوعود
وبذكر بلفور أقول لكل ذي كرم و جود
أنا ما رأيت كمثل بلفور صفيقا في الوجود
يعطي اللصوص على هواه من الوعود بلا حدود
وبرغم ذلك فما البليّة عند بلفور الحقود
بل عند من يتجاهلون بأنها أرض الجدود ...
وبالمناسبة نقف هنا لنسأل متى استطاع المقص الصهيوني والصليبي أن يقضم أطرافا من الجسد الإسلامي ؟ ... هل عندما " احتمينا بالنصوص جاء اللصوص " كما أكّد على ذلك جهرة على مسامع المسلمين ودون حياء من يسمونه بشاعر الأرض المحتلّة ؟؟ ... أم أن المخلب الصهيوني توغّل في أرضنا الإسلامية عندما تخلّينا عن النصوص ? قرآنا وسنّة وتلبّد فهم الرأي العام لصريح الأمر والنهي فيهما وتهنا بين عقائد الشرق والغرب ؟؟
إن لدى الشاعر الإسلامي الجواب الفصل ?
فلسطين ضاعت يوم ضاعت عقيدة وبات فساد الحال اقبح مقتنى
أيجحد دين العرب سؤددا وينقض ما شاد النبي وما بنى ؟؟
ليرضى علينا الغرب حينا ويحتفي بنا الشرق أحيانا ... ونفقد ذاتنا
و ما زادنا هذا التذبذب عزّة ولكن حصدنا دونه الشوك والعنا .. بينما- وهذا يشهد به التاريخ - يوم كنا على ميراث الدعوة محتمين بالنصوص ومقتفين آثار الصالحين ومتخذين القرآن دستورا والله غاية ومحمد صلى الله عليه وسلم أسوة وقائدا ... يومها حزنا المجد كله والنصر كله ... ?
حين كنّا ...
نتغذّى من عقول الفضلاء
وتربّينا شريفات النساء
آلت الأرض إلينا ...
والسّماء
اشرق النور فينا ...
وتباهينا ...
بجيل العظماء
***
وسقطنا ...
إذ رضعنا كلمات الآخرين
وطعمنا من فتات الغالبين
أوهمونا
أننا نطفو
بإغراق السّفين
أننا نحيا
بدفن السّابقين
فتسابقنا
لسبّ العلماء
وتندّرنا بقول الأنبياء... (32)
وبعد ...
هذه بعض الهموم الإسلامية المعاصرة التي شغلت مساحة محترمة من شعر الإسلاميين وأولاها هؤلاء اهتماما خاصا فجاء تصويرها إبداعيا واقعيا شفافا يأخذ القلوب وينم عم صدق الإحساس وعمق الشاعرية.
ثم إن هموم العقيدة والدعوة وهموم الأرض المحتلة ليست هي كل ما تمخّضت عنه معاناة الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر ... بل هناك هموم أخرى لا تقل أهمية قد ترجمها الشاعر المسلم في قوافيه ورسم ظلالها في منظوماته كالهموم الثقافية والهموم السياسية والهموم الاجتماعية ... وهي موجودة في مكانها من الدواوين والمجلات.

لقد كان الشاعر المسلم ولا يزال منذ بواكير الفتح الإسلامي المبارك ملتزما التزاما واعيا وصادقا بقضايا أمته ومسخّرا- في إطار هذا الالتزام وتحقيقا لدوره ورسالته في المجتمع - كل مواهبه وإبداعاته.
ذلك أنه منذ أن رسم شاعر الإسلام الأول حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه مستنيرا ومسترشدا بالتوجيه النبوي الشريف معالم رسالة الشعر الإسلامي ومهمّة الشاعر المؤمن والرسالي في الحياة ودوره في المجتمع ... ظلّ الشعراء المسلمون أوفياء لهذا الدور وملتزمين بهذه الرسالة ? فكانت مشاركتهم في ترشيد المجتمع الإسلامي وتحصين الحياة الإسلامية ... صادقة وواعية وفاعلة.
وإن المتأمل بعمق في واقع العالم الإسلامي المعاصر- والعالم العربي جزء منه- يحزنه ما يرى من أسباب السقوط ومظاهر التخلف السائد في شتى المجالات الحياتية ? السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ... ويؤسفه ما يلاحظ من غياب المشاركة الإسلامية في مختلف مناحي الإبداعات الحضارية الحديثة العلمية منها والتقنية والفكرية ...
وتزداد وطأة هذا الإحساس بسوء هذا الحال لدى الشاعر المسلم بحكم وعيه ورقّة شعوره إذ تصطدم بتلك الصورة الرائعة التي يحتفظ بها في أعماق فكره ووجدانه عن الإسلام والمسلمين حتى أن الشاعر محمود مفلح تتملكه الحيرة مما يرى من تناقض بين انتماء هذه الأمة وبين واقعها الحاضر ?
ما هم بأمة أحمد ... لا والذي فطر السماءا
ما هم بأمة خير خلق الله بدعا و انتهاءا
ما هم بأمة سيدي ... حاشا.. فليسوا الاكفياءا
ما هم بأمة على الأفلاك قد ركزوا اللواءا
من حطّم الأصنام من أرسى العدالة والاخاءا
من قال أن الله رب ّ الناس خالقهم سواءا
لا فضل إلا للصلاح فلا انتساب و لا ادعاءا
كما يعجّ الأسى بأعماق شاعرنا محمود غنيم ويعصره الأليم كلما جال ببصره في أرجاء العالم الإسلامي ?
ويح العروبة كان الكون مسرحها فأصبحت تتوارى في زواياه
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه
كم صرّفتنا يد كنّا نصرّفها وبات يحكمنا شعب ملكناه
كما يتساءل الشاعر الملهم محمود صيام بمرارة عن الأسباب التي اختصّت امتنا دون سواها بالمعاناة والسقوط ?
فما لهذا الزمان اختصّ امتنا بالحادثات و غطّتها بلاويه ؟
وما لها ما رأت من قبله زمنا نكراء أيامه سوء لياليه
أمن قليل عتاد أم ترى سبب غير العتاده تعاني من تفشّيه
ويبقى أن نسأل الآن عن موقف الشاعر الإسلامي الملتزم من هذا الواقع ?
* هل كان بكائيا هروبيّا ؟
* أم كان موقفا نقديا بنّاء ؟
في الحقيقة إن موقف الشعر الإسلامي المعاصر من الواقع الإسلامي من خلال استقرائنا لمختلف الدواوين الشعرية لم يكن انهزاميّا بل كان نقديا فاعلا ? فقد سطّر الشاعر المسلم أسباب السقوط وكشف عن علل التخلّف وعرّى عن مكامن الانحطاط كما رسم في نفس الوقت شروط نهضة أمته وانبعاثها . وكان في كلتا الحالتين موضوعيا لم يجنح به خيال الشعراء ولم تبطره مثالية الفلاسفة.
وإذا كان الخطاب السياسي للأنظمة الحاكمة يركّز في تحليله لهذه الأسباب على عامل الاستعمار الذي ابتليت به الأمة ردحا من الزمن ...
فإن الشاعر المسلم نجده يتجاوز هذه التفسيرات التبريرية والسطحية ليرسم بكل صدق وموضوعية وشجاعة الأسباب الحقيقية العميقة التي ساهمت ولا تزال تساهم في تعميق التخلف في ربوع العالم الإسلامي ?
فهو لا ينفي دور الغرب المستعمر في دعمه لكل ما يساعد على تخلف المسلمين وسقوطهم سواء عن طريق استعماره المباشر عسكريا وثقافيا أم عن طريق زرع الجرثومة الصهيونية في الجسد الإسلامي ... وقد صدع الشاعر المسلم مبكّرا بهذا محذّرا أولي الأمر وأصحاب القرار ?
يا قادة الشرق المهيض استيقظوا فالغرب أعلن حربه شعواء
حربا تمسّ الدين في تقديسه وتبيد أطفالا لكم و نساء
وتزعّمتها إنجلترا و هي التي عقدت لحرب المسلمين لواء
بالأمس مكّنت اليهود فأنشأوا وسط المهازل دولة عرجاء
... وكان اشد ما حرص عليه الغرب الصليبي في عدوانه على العالم الإسلامي هو نسف الفاعل الديني وتقليص تأثيره في الحياة الإسلامية وذلك ليقينه بأنه يشكّل الروح التي يحيا بها الشرق الإسلامي ومن ثمّ سعى جادا إلى تقويض هذه الروح بأساليب شتّى ?
يا قادة الأمة الغرّاء ... أمتكم إذا رمت بسوى الإسلام لم تصب
لما رأى خصمنا في الدين قوتنا مضى يضللنا بالهدم و الكذب
ويوهم النشء أن الدين ليس سوى رجعيّة تركس الإنسان في النصب
إلا أن شعراءنا لم يحمّلوا الغرب كل الأسباب بقدر ما حمّلوها المسلمين أنفسهم قادة وشعوبا مستأنسين بالتوجيه القرآني ? (( قل هو من عند أنفسكم)) ذلك أن العوامل المباشرة كانت ذاتية قبل أن تكون موضوعية ( وهذا لا يعني التقليل من قيمة هذه الأخيرة) .
فالشاعر الفيلسوف محمد إقبال رحمه الله نجده في تحليله لواقع المسلمين في الهند يحصر علل التخلّف في أربعة عناصر ذاتية وهي ?
فساد العقيدة وتحوّل التوحيد الإسلامي إلى وثنية متسترة ... مع انجذاب للأوهام.
2 - الجهل المطبق بأساليب الحياة الناجحة والعلوم العملية وأساليب المدنية والتنظيم الاجتماعي.
3 - الزهد في الحياة وانتشار الطريقة بانتشار الروح الجبرية والتواكلية.
4 - التهافت لدى الشباب المتوثب على الحضارة الغربية والانبهار بقوتها ومفاتنها.
هذه الأدواء أو الأمراض تشكل في رأي إقبال عوائق نفسية تحول دون الانبعاث والتجديد .
وإذا تعدّينا إقبال والهند إلى شعراء آخرين في أرجاء أخرى من عالمنا الإسلامي واستقرانا الإنتاج الشعري الغزير الذي وضعوه بين أيدينا وجدناهم يرجعون الأسباب إلى ?
أ- فساد السلطة السياسية ? التي عملت على تعطيل أحكامه في القضايا المصيرية للامة وتقليص تأثيره في الحياة الإسلامية ?
ساسة الحكم نابذوا شرعة الله فحفّت ديارنا البأساء
كم أضاعوا باسم الشعوب شعوبا طحنتها المكائد الهوجاء
واحتضنت النموذج الغربي مسترشدة باختياراته وتوجهاته دون مراعاة لخصوصيات الواقع الإسلامي ودون اعتبار لمشاعر المسلمين الذين هم تحت سلطتها حتى أن الشاعر ليحتار في هؤلاء شكلا وانتماء ?
كم من زعيم في الشكل من صنع باريس وفي العقل من عصور الجليد
... " وارتبطت بمراكز القوى الكبيرة في توجيه السياسة العالمية العلنية منها والسريّة بدعوى الانسجام في المبدأ والتخطيط في السياسة المشتركة والاعتماد على قوة أخرى وانتهت إلى التمزّق بين أجزاء الأمة الإسلامية لا سيما الأمة العربية الواحدة وأدت هذه الكارثة التاريخية الكبيرة إلى ضياع وحدة الأمة عقيدة وحضارة وهدفا ومصيرا " ...
وهذه السلطة برموزها السياسية الهشّة وأشكالها المستغربة وانتماءاتها المتباينة قد خيّبت أمل المسلمين في أن يجدوا فيها الأسوة القيادية الصالحة والقدوة المشرّفة وخيّبت ظنّهم في أن يروا ظلال لعمر وخالد وصلاح الدين ... يثأرون لكرامة الأمة المجروحة ويعيدون إليها اعتبارها كأمّة شاهدة ورائدة لها مجدها وشرفها وحضارتها, وهذه رسالة كل من يتولّى أمر هذه الأمة ويتربّع على سدّة الحكم فيها, إلاّ أن رموز السياسة في عالمنا العربي والإسلامي كانت همومها وطموحاتها متناقضة ومتضاربة مع رسالة الأمة وتوجّهاتها, ومع تطلّعات شعوبها ومعاناتها, إذ لم تذق هذه الأخيرة في ظلال حكمها وولايتها غير الأزمات الحادّة والنكبات المرّة والهزائم المشينة, ولم تجن من وراءها إلا مزيد الحرمان والتخلّف والضياع . فبينما يحدّثنا التاريخ أننا شعب :
نرث البطولة عن جدود حطّموا كل الطغاة
ومضوا لإصلاح الحياة يرونهم هدي الإله
سقياً لعهد أولئك الغر ّ الميامين الأباه
كم أدّبوا دولا وكم في الله قد داسوا جباه
نجد الواقع المعاصر يصدمنا بنماذج مغايرة وصور باهتة :
واليوم تخلفهم زعانف ما لها في الأمر حيلة
رتب و تيجان و سلطان و أخبار طويلة
وتخيفهم يا للفضائح والأسى عصب دخيلة
ولكي تمدّ في أنفاسها وتركّز وجودها, عملت هذه القيادات منذ انتصابها على خلق وترسيخ واقع متخلّف ومائع ومنبتّ عن أصالته وتراثه, له معاييره الخاصة وموازينه العجيبة وقيمه الغريبة وقد أبدع الشاعر أحمد فرح في رسم ملامحه النّكدة :
كل الرذائل ليست عندنا خطرا أماّ الفضائل فهي البعبع الضّاري
إذا رأوا حانة قرّت بلابلهم و إن رأوا مسجدا ثاروا بإنذار
ذو الدين في عرفهم تخشى غوائله فما يقرّب إلا كل خمّار
إذا سكرت ففي أمن و في دعة و إن تصلّ فمحفوف بأخطار
حريّة الشعب في أبواق دعوتهم حكم المباحث و الإرهاب و النار

ب- ضعف الإيمان وفساد الأخلاق :
لماّ تركنا الهدى حلّت بنا محن وهاج للظلم والإفساد طوفان
ومن ثمّ بهتت في نفس المسلم مقوّمات الخلق القويم وانقلبت موازين الحق والخير والعدل وزعزعت مقاييس الشرق والرجولة والبطولة وأبح المجتمع يعجّ بأنماط شاذة من السلوك ونماذج بشرية غريبة في أشكالها وانتماءاتها وهمومها :
هذا إلى صنم يطيف به وذا عبد النّساءا
وهذا من ظنّ الرّياء براعة فغلى رياءا
والمال آلهة فقدّسه .... وكان له فداءا
والموبقات العاشقات ضربن بينهم النّجاءا
ويبيّن الشاعر وليد الأعظمي ما آلت إليه حالنا عند هجرنا للدين وما أثمر هذا الهجر من مآسي :
فمن هجرنا للدين صرنا بحالة يكاد لها قلب الحليم يقطع
وقد أصبحت كل المدارس عندنا تصدّ عن الدّين الشباب و تمنع
وقد طبعتنا كل طبع مدنّس وللمرء من دنياه ما يتطبّع
فمنها سرت روح التفرنج بيننا وما زال فينا عقرب الجهل يلسع
وقد عمّت الفوضى البلاد بأسرها فلم ينج بيت من أذاها ومجمع
وكم من سجايا حلوة قد تبدّلت بأنفسنا ممّا نراه و نسمع
فحلّ محلّ الاحترام تذبذب و حل ّ محلّ الاتّزان تنطّع

ج - الاغتراب الثقافي وموضة الشعارات : التي انتشرت في ديارنا وصارت لها متاجر تروّجها
أتتركون كتابا فيه ذكركم وتشترون به مسموم أفكار
مبادئ الكفر قد جرّت هزائمنا وصيّرت عارنا نشرات أخبار
تقسّمتنا شعارات يروّجها في شعبنا كل طاغوت وغدّار
ويبيّن منذر الشعار بعض ملامح هذا الاغتراب في خطاب تهكّمي يقرع به آذان أنصاره وجنوده ومروّجيه :
تبعتم درونا ً في كل واد وقول الله فوقكم سنيّ
وما يهدر فرويد فهو حقّ و يترك للغبار الشافعيّ
وحتّى الشعر احضر من علوج وأسكت ذو البيان اليعربيّ
وصوّر بعضكم صورا وأرخى سوالفه فقيل الألمعيّ
لحقتكم كل زي من فرنج وغيّبت العمائم و اللّحيّ
وهكذا اجتاحت بلاد الإسلام على طول رقعتها مفاهيم هجينة وظواهر مستحدثة تحت اسم الفنّ والعلم (؟؟) وتحت شعار الحريّة والتقدميّة ... إلى آخر القائمة ... تستهدف نسف مقوّمات أخلاقية عريقة في علاقاتنا الاجتماعية, وتقوم على دعاوي مدمّرة تسخر من أصولنا الفكرية والعقائدية :
و إن لبسوا مرقّعة لبستم و مزّق ثوب خزّ أتحميّ
وإن ركبوا الجرائم فهو فنّ وإن نشروا الرذائل فهو طيّ
وإن كفروا بربّ العرش قلتم علوم حجّا رآها المعيّ
وإن رفعوا لكم صنما سجدتم فأين محمد يا جاهلي ّ؟؟
وهكذا ساهمت الفنون والثقافة المستهجنة التي غزت ربوعنا في تخلّفنا :
وسقطنا...
إذ رضعنا كلمات الآخرين
... قد دحرنا.
يوم صار الفنّ مأخوذا كبيرا
يوم أضحى الشعر كأسا ...
وسريرا
لقّنونا :
لا يكون الحبّ حبّا
دون عري الركبتين
فسمعنا
وأطعنا
... ما قتلنا
أو سبينا
بصواريخ الفنا
حقنونا
فانتحرنا
بمزامير صنعنا لحنها ...
كالبلهاء ..

" ويشترط الشعراء الإسلاميون للنّهوض بالأمة والقيام بالدور الحضاري لتغيير مجرى الحياة الإسلامية من دور الركود إلى دور الفعالية والتأثير ثلاث شروط :
أولا : الرجوع الصادق إلى الله تعالى : للشرق داء لا يرجى برؤه إلا إذا أخذ الكتاب دواء
والله جلّ الله أخبر أن في آياته للمؤمنين شفاء
ورجوع أيضا إلى الرعاية الحانية المقتدرة, ورجوع إلى مصدر الفاعلية والتشريع الشامل :
يا سادة الحقل للإسلام قاعدة إذا رعينا حقوق الله يرعانا
شتّان ما بين تشريع السماء لنا وبين تشريع أهل الأرض شتّانا
روّضوا على منهج القرآن أنفسكم يمدد لكم ربّكم عزا و سلطانا

ويرى الشاعر محمد صيام في العودة الواعية إلى الله سبحانه نجاة من الشقاء وإنقاذا من الضلال :
يا أيها الناس فلتنجوا بأنفسكم ولا تكونوا كمن ضلّت مساعيه
عودوا إلى الله ينقذكم برحمته من الشقاء الذي بتنا نعانيه
ولتستقوا من كتاب الله منهجكم فليس في الأرض منهاج يدانيه
خاصة وقد جرّبنا كل المناهج الأرضية وبلونا كل النظم الوضعية واسترشدنا بشتّى الشعارات الشرقية منها والغربية, اليمينية واليسارية فما جنينا غير الخسران والانحطاط :
بلونا كل أنظمة البرايا نروم العدل للدنيا و نقفو
و جربنا دساتيرا كثارا مهلهلة عن البلوى تشفّ
متى رمنا الصّلاح بها فسدنا ومن خزي إلى أخرى نسفّ
وقد ذقنا التوى منها إلى أن جزمنا أنها ظلم و زيف
ذلك أن الذي يوقن به كل مسلم صادق وكل مؤمن واع أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها :
العقل والحق والتاريخ أعلنها ما في سوى دينكم حظّ لمختار
كما أن سيرنا إلى المجد والريادة يأخذ منطلقه من مدرسة المسجد:
من جانب المحراب يبدأ سيرنا للمجد لا من جانب الماخور
ثانيا : بناء الذات المبدعة: وبعث الشخصية الإسلامية الفذّة والفاعلة, قوم إذا داعي الجهاد دعاهم هبّوا إلى الداعي بغير توان
وبنعمة الإسلام عاشوا إخوة شركاء في الأفراح والأحزان
... محرابهم بالليل معمور بهم يتضرّعون تضرّع الرهبان
وإذا انقضى الليل البهيم وجدتهم بنهارهم يا صاح كالفرسان
و هتافهم الله أكبر إنهم لم يهتفوا بحياة شخص فان وحول أهمية الدور الذي تلعبه الذات المسلمة في البناء والتغيير والإصلاح يقول الدكتور عبد الحليم عويس : إن عودة هذه " الذات المسلمة " بكلّ شروطها الإيجابية وبكل تفاعلها مع الرسالة وبكل التزامها بالدور الإنساني العام ... والتي تتصدّى لحمل الأمانة ودور القيادة أمر ضروري ... ليس للذات المسلمة وحدها ولا للأمة المسلمة وحدها, بل من أجل جميع الإنسانية الضّالة ...
ولكي تستمرّ حضارة الإنسان على هذه الأرض إذا ما كان مقدّرا لها في علم الله أن تسير آمادا أخرى في التاريخ....
ثالثا : إعادة دور الأمومة الواعية:
من لي بتربية البنات فإنها في الشّرق علّة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيّب الأعراق
ولهذا نرى الشاعر الإسلامي المعاصر يولي اهتماما خاصا بالأم المسلمة ويلمح في صلاحها واستقامتها وإيمانها والتزامها شارة النصر والنهوض ويرى في أدائها لدورها الرئيس : دور الأمومة - مسؤوليتها الكبرى وأمانتها العظمى, لذا يلفت نظرها إلى الجزم في أداء هذا الدور الجليل وتحقيق هذه الرسالة , حتى نقترب من النصر ونحقق الانبعاث والسيادة :
يا أخت أنت رعاك الله عدّتنا لخلق جيل قويّ غير مشبوه
فلقّني طفلك الإسلام فهو له كالمنهل العذب ما ينفكّ يرويه
وأبعديه عن الشيطان يفتنه بجنده الكثر في الدنيا ويغويه
وسلّحيه بما في الدين من أدب ومن محبّته البيضاء فاسقيه
ونشئيه على هدى الكتاب ومن آياته الغرّ يا أختاه غذّيه (57)
وهكذا يكون الشاعر المسلم قد ساهم في موقعه , في دفع الأمة نحو التقدم والنهوض بما كشف من علل التخلّف وأسباب السقوط وبما رسم من شروط يرى فيها سبيل النجاة والانبعاث .

الفصل الثاني
الاتجاه القومي:
الأدب القومي – 1916 – 1970
لم تدم فرحة العرب طويلا بعد طرد العثمانيين عام 1916 حيث اقتسم المستعمرون البلاد العربية في اتفاقية ( سايكس بيكو ) حيث لم يلبث العرب أن أفاقوا وأخذت براكين الثورة تتفجر فكانت الثورة المصرية عام 1919 م ضد الانكليز واعتقالهم لسعد زغلول الذي تقدم يطالب باسم شعب مصر إنهاء الاحتلال وقد شارك في هذه الثورة جميع أفراد الشعب حتى النساء حيث قطعت السكك الحديدية والتلغرافات والتلفزيونات وعبر ذلك توفيق الحكيم عام 1927 في روايته ( عودة الروح ) ونجيب محفوظ في روايته بين العصرين ) والشاعر حافظ إبراهيم في قصيدته
ذهب الغواني يحتجبنه ورحت ارقب جمعهن
وكانت الثورة الوطنية في العراق عام 1920 وذلك بعد أن احتل الانكليز العراق أواخر 1916 واعتقلوا الزعماء الوطنيين وقد عبر عن ذلك الشاعر محمد الناقر قائلا :
يا شعب كيف حمى علاك يدام وبنوك بعد العز كيف تضام
هم يطلبون على العراق وصاية عجبا فهل أبناؤه أيتام
وكانت الثورة السورية الوطنية 1925 بعد احتلال مناطق الساحل والشمال ومنطقة حارم وبقية المناطق السورية حيث ثار هنانو وصالح العلي وهب الشعب عام 1925 يقاوم الاحتلال بكل ما يستطيع ثم كانت الثورة الفلسطينية 1936 بعد أن أعطى الانكليز وعد بلفور 1917 لليهود باحتلال فلسطين وفي ذلك يقول بشارة الخوري :
يا جهادا صفق المجد له لبس الغار عليه الارجوانا
شرف باهت فلسطين به وبناء للمعالي لا يداني
وتفجر الوعي السياسي بأعاصير الثورات الوطنية متحدية الاحتلال وداعية لوحدة العرب فحمل الأدباء العرب في كتاباتهم محتوى وطنيا تمثل في الدعوة للتضحية في سبيل الوطن وتحريره يقول عمر أبو ريشة :
في سبيل المجد نحيا ونبيد
كلنا ذو همة جبار شماء عنيد
لا تطيق السادة الأحرار أطواق العبيد
أن عيش الذل والإرهاب أولى بالعبيد
وحمل الأدباء في أشعارهم محتوى قوميا تمثل في انتماء العرب لوطنهم الكبير كما في قول فخري بارودي
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان
وقد خاص العرب في هذه المرحلة معركة التحرر الوطني من خلال فضح أساليب الاستعمار وجرائمه
باتت دمشق على الطوفان من لهب يا ويح قلبي من خطب يكابده
والتنديد بالفساد السياسي الناشئ من وضع حكومات تابعة للمستعمر كما يقول الرصافي يفضح إحدى هذه الحكومات .
قال صديقي يوم مرت بنا من هذه الغادة ذات الحجاب
قلت له : تلك لأوطاننا حكومة جاد بها الانتداب
تحسبها حسناء من زيها وما سوى جون بول تحت الثياب
وتمجيد البطولة والفداء من خلال رثاء الأبطال كما في رثاء شوقي للبطل عمر المختار
ركزوا رفاتك في الرمال لواء يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويحهم منارا من دم يوحي إلى جيل الغد البغضاء
وكذلك خاض العرب معركة التحرير القومي من خلال الدعوة للوحدة العربية وقد عبر عن ذلك الزهاوي قائلا :
ليس يبقى من الشعوب إذا ما وطئتها الوغى سوى أقوالها
لا يعز العرب البهاليل إلا وحدة قد وددت إني أراها
وقد شارك الأدباء العرب في الدعوة للوحدة وتأكيد مقوماتها المتمثلة في وحدة اللغة والتاريخ المشترك والأرض الواحدة والشعور والمصير المشترك وكذلك وحدة لا لام والآمال المشتركة يقول الشاعر حليم موسى
أنا كيف سرت أرى الأنام أحبتني والقوم قومي والبلاد بلادي
بردى كدجلة والفرات محبة والنيل كالأردن طي فؤادي
ويقول عمر أبو ريشة :
لمت الآلام منا شملنا ونمت ما بيننا من نسب
فإذا مصر أغاني حلق وإذا بغداد نجوى يثرب
بورك الخطب فكم لف على سهميه أشتات شعب مغضب


لم يظهر الاتجاه القومي أو الوطني في الشعر كغرضٍ مستقل إلاّ بمطلع القرن العشرين بعد نشوء الرابطة القومية ومحاملة الدول تبني النظرة القومية ذلك أن هذه الرابطة كانت متداخلة مع الرابطة الدينية من خلال ارتباط مصلحة العرب بمصلحة العثمانيين، وقد عبر عن ذلك شوقي قائلاًُ:
الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدّد خالد العرب
وفي قول مصطفى كامل في إحدى خطبه بباريس:
(حقاً سياسة التقرب من الدولة العلية لأحكم السياسات وأرشدها)
ومع ذلك فقد ارتفعت أصواتٌ لشعراء في العصر العثماني تهاجم هذه الدولة كما صنع اليازجي والزهراوي والرصافي :
حتّام نبقى لعبةً لحكومةً دامت تجرّعنا نقيع الحنظل
تنحو بنا طرق البوار تحيّفاً وتسومنا سوء العذاب الأهول
وما إن أطل القرن العشرون حتى ارتفعت أصوات الشعراء بشكل كبير، وانفجرت الثورة العربية ورفعت راية الحرية ولكن المستعمر الغربي وأد هذا النصر واقتسم البلاد باتفاقية (سايكس بيكو) تحت تسمية الانتداب والوصايا ويقول الشاعر اسكندر الخوري مندداً بالانكليز والفرنسيين:
أتوا باسم الصليب وهم براءٌ من اسمٍ لطّخوه مجرمينا
هي الأطماع يا قومي دعتهم إلى عمل أباه المرسلونا
وقد عزّ على الشعراء أن يكون الوطن العربي فريسة بين مخالب أولئك الذئاب، فحثوا الشعوب على طرد الناجين ، يقول خير الدين الزركلي:
فيم الونى وديار الشام تقتسم أين العهود التي لم ترع والذّمم
ما بال بغداد لم تنبس بها شفة وما لبيروت لم يخفق بها علم
كما وأن الأدباء صوّروا جرائم المستعمرين، يقول حافظ إبراهيم مشيراً إلى جريمة (دانشواي):
قتيل الشمس أورثنا حياة وأيقظ هاجع القوم الرُّقود
كما وأنّ شوقي صوّر ما صنع الفرنسيون في دمشق عام 1945
دم الثوّار تعرفه فرنسا وتعلم أنه نورٌ وحقُ
بلادٌ مات فتيتها لتحيا وزالوا دون قومهم ليبقوا
ثم صور الأدباء تضحيات الشعوب وفرح جلاء الأجنبي عن البلاد العربية وما حدث بعد ذلك من معارك حاسمة متمثلة في معركة (بور سعيد) والثورة الجزائرية وحرب تشرين التحريرية التي أعادت للعربي كرامته المهدورة ، يقول سليمان العيسى:
تشرين .............. أمطارك الخضر التي كتبت
أعمارنا ............. لم يكن بالأمس لي عمر
دم الشهيد أعاد اللون لون دمي
وارتدَّ ملء جفوني الضوء والبصرُ
ثم تابع الأدباء الدعوة إلى الوحدة العربية وأكدوا على مقوماتها ووقفوا يحاربون الدعوات الاقليمية المنحرفة كما صنع علي الجازم:
تذوب حشاشات العواصم حسرة إذا دميت من كفّ بغداد إصبع
ولو صدّ عن في سفح لبنان صخرة لدكّ الأهرام هذا التصدُّع
ولو بردى أنّت لخطب مياهه لسالت بوادي النيل للنيل أدمع
وقد برز في الاتجاه القومي أدب تمثل مهمة هي قضية فلسطين واتخذ منحىً خاصاً وسمي : أدب الأرض المحتلّة .
الأدب القومي أدب الأرض المحتلة.
وهو الأدب الذي صور فيه الأدباء العرب احتلال اليهود لفلسطين صوراً فيه الواقع العربي قبل النكبة وبعد النكبة.
أدب ما قبل النكبة :
وهو الأدب الذي تحدث عن اغتصاب فلسطين وإعطاء وعد بلفور، ودعا الأدباء فيه الشعوب العربية لمساعدة الفلسطيني لما يقدمه من تضحيات كبيرة يقول أبو سلمى في رثاء شيخ من شيوخ المقاومة الفلسطينية:
ونحن الذين نثور على الظلم والجهل في كلِّ حين.
ونحن الذين أنرنا الطريق وكنا مشاعل حقٍّ ودين.
ونحن الذين حملنا الرسالة للأولين ولللآخرين.
أدب ما بعد النكبة :
وقد ظهر فيه تيار يدعو إلى اليأس وعدم توقع رجوع اللاجئين :
يا صاح لا تحلم بأنك عائدٌ للربع فالأحلام قد لا تصدق
وتيار يدعو إلى التفاؤل وبالتمسك بالأرض والإيمان بقدرة الإنسان على التحرر كقول محمود درويش :
وطني!
يعلّمني حديد سلاسلي
عنف النسور
ورقّة المتفائل
ما كنت أعرف أنّ تحت جلودنا
ميلاد عاصفةٍ
وعرسُ جداول........
وقد رسم لنا توفيق زياد صورة التشبث بالأرض قائلاً :
هنا على صدوركم باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج كالصبار
وفي عيونكم ....زوبعة من نار
إنا هنا باقون.
وقد ندد الأدباء بمذابح اليهود التي قاموا بها في داخل فلسطين ضد الفلسطينيين ، كمذبحة كفر قاسم التي يقول محمود درويش في وصفها :
آه ! يا خمسين لحناً دمويّاً
كيف صارت بركة الدم نجوماً وشجر ؟
الذي مات هو القاتل يا قيثارتي
ومغنّيك انتصر
وقد أكد الأدباء على بطاقة العروبية كهوية قومية حيث حاول اليهود واقتلاع السكان من الأرض .
يقول محمود درويش:
سجِّل أنا عربي
أنا اسمٌ بلا لقب
صبورٌ في بلادٍ كلّ ما فيها
يعيش بفورة الغضب
الفصل الثالث
الأدب الملتزم
لقد صار الالتزام – ضرورة ملحة وتعبيرا عن الوعي الثوري الذي اخذ ينضج في نار الأحداث انه يتطلب من الأديب أن يتخذ موقعا صلبا وواضحا وأن يدرك مسؤوليته تجاه قضايا أمته إدراكا تاما وأن يعيش تجربة الجماهير في تجربته من خلال المشاركة في معارك النضال والمعاناة الروحية والفكرية لمشكلات الحياة في إطار قضايا الجماهير الكبرى التي رفعتها شعارات على رايات نضالها وهي : الوحدة والحرية والاشتراكية .
1-الالتزام وقضية الوحدة :
خرجت قضية الوحدة – في هذه المرحلة – من إطار الأمنيات إلى ساحات العمل والكفاح من اجلها وكان البعث العربي الاشتراكي أول تنظيم سياسي يطرح قضية الوحدة شعارا على الجماهير ويحفز الكفاح لها على امتداد الساحة العربية . وتندفع الجماهير بوعي وإصرار ترفض الحدود المصطنعة والتجزئة وتناضل بشجاعة لتوحيد الأقطار العربية .
وقد كان سليمان العيس ابرز شاعر يلتزم هذه القضية في شعره :
فتتوهج قصائده أوجاع الوطن العربي المجزأ تعبيرا عن إحساسه بأنها أوجاع المخاض الثوري .لقد كان يشعر بحسه القومي أن كل ثورة وطنية عربية هي شوط من المسيرة التاريخية الشاقة إلى الوحدة فكان يطرب لها ويلهب روح الجماهير بكشف أبعادها القومية لتأيدها ها هو ذا يتحمس لثورة الجماهير في الأردن التي هبت تسقط الاستعمار الجديد عام 1956 فيرى حركتها وثبة ظافرة إلى الوحدة :
هل رأى السفاح إعصار الحياة العربيا
حين تشق الرمال السمر عن شعبي أبيا
هادرا : عن وحدتي الكبرى سأثني ساعديا
ويعيش قضية الثورة الجزائرية في كل خلجة من وجدانه ويستشرف أبعادها القومية فيراها إحدى معارك الوحدة فيطلق حنجرته يغني لها أروع القصائد القومية :
لم أزرها أرض أجدادي التي ماجت رعودا
غير إني لم اعش في خلجة عنها بعيدا
تتخاطهم ضحايانا سهولا ونجودا
وليقيموا ما يشاءون على الرمل الحد ودا
وتتلبد السماء العربية بغيوم التجزئة وتشتد المؤامرات على الأرض العربية بعد عدوان الخامس من حزيران ويبحث الشاعر عن نافذة للخلاص فلا يراها إلا في الوحدة ولو كان الطريق إليها مفروشا بشوك جهنم:
خلاصي سالت اليأس عنه فردني إلى أمل يقتات شوك جهنم
اطلي على ليل اختناقي تيبست لهاتي وملتني أناشيد مأتمي
اطلي علينا وحدة طيف وحدة بريقا سرابا كيفما شئت فأقدمي
وهبتك عمري ما وهبت سوى الظمأ إليك أنا الحادي القتيل أنا الضمي
الالتزام وقضية الحرية:
2-الالتزام بقضية الحرية : لقد شغلت قضية الحرية اهتمام الأدباء الملتزمين فتغنوا بها وكافحوا لها وكان النضال من اجل الحرية هو الممارسة الفعلية لمناها. وقد دفع الأدباء الملتزمون من اجلها ثمنا غاليا فعانوا الاضطهاد والسجون واستشهد بعضهم بشرف وشجاعة في ساحات النضال لها.
لقد خاض الشعب العربي بعد الحرب العالمية الثانية معارك تاريخية من اجل الحرية فاسقط الاستعمار القديم وتصدى للاستعمار الجديد بأخلاقه ومشروعاته ومؤامراته وحطم أغراضه على صخرة نضاله وصموده .
ففي عام 1948 هب الشعب العراقي بكادحيه ومثقفيه واسقط معاهدة بور تسموث وغسل عارها بدماء شبابه المناضلين وكان اخو الشاعر محمد مهدي الجواهري واحدا من الضحايا فوقف في موكب تشييعه يستثير الجماهير للثار من الحكام السفاحين والمستعمرين :
أتعلم أن جراح الشهيد تظل عن الثار تستفهم
تقحم لعنت – أزير الرصاص وجرب من الحظ ما يقسم
فأما إلى حيث تبدو الحياة لعينيك مكرمة تنغم
وأما إلى جدث لم يكن ليفضله بيتك المظلم
وحين أممت مصر العربية قناة السويس وكانت أضخم قلاع الاستعمار القديم شن الاستعمار القديم مع مخلبه الصهيوني العدوان الثلاثي لكن الشعب العربي حطم العدوان وكانت معركة بور سعيد معركة الحرية وقد خلد الشعراء بطولاتها قال بدر شاكر السياب يمجد صمود الشعب العربي في مصر ويعتز بانتصاره :
يا قلعة النور تدمى كل نافذة فيها وتلظى ولا تستسلم الحجر
أحسست بالذل أن يلقاك دون دمي شعري واني بما ضحيت انتصر
لكنها باقة أسعى إليك بها حمراء يخضل فيها من دمي زهر
وقد التزم الأديبان الشهيدان : غسان كنفاني وكمال ناصر قضية الحرية وكافحا من اجلها وسجلا بدمائهما سطورا مجيدة في ملحمتهما لقد كان أبطال قصص الكاتب غسان كنفاني رجالا شجعانا امنوا بحرية الوطن وكافحوا لها وقد جسد الكاتب مواقفه في مواقف أبطاله ومصا يرهم المأسوية وقاوم كمال ناصر الطغيان بوعي وثبات وكان بحسه النضالي يعرف مصيره فكتب قبل سنوات من استشهاده إلى أمه التي ودعته ذات يوم خائفة مطرقة وهو ذاهب إلى المعركة :
ولا تطرقي
فان جراح الحياة بصدري
تعذب صدري
وأن نداء القدر
يلون بالثار عمري
ويقذفني للخطر
ويحيا على خاطري في عذاب
وينسجني في الركاب
فامشي إلى مضرعي
ويمشي أبائي معي
وتمشي بدربي جراح الشباب
3-الالتزام وقضية الاشتراكية:
حملت قضيتا الوحدة والحرية في محتواهما في هذه المرحلة فكرة الاشتراكية فأعطتها مضمونا يخرج الكادحين من أسار العبودية التاريخية إلى رحاب وطن عربي حر موحد لا استعمار فيه ولا استغلال وكانت الاشتراكية حافزا للكادحين على النضال وملهما للأدباء الملتزمين بالدعوة لها وقد برز التزام الأدباء بالاشتراكية في عدة مظاهر:
1- تأييد الجماهير الكادحة والالتزام بقضايا تحررها من الظلم والاستغلال وتجسيد ذلك كفاحا للقضاء على المأساة قال كمال عبد الحليم :
كل يوم يمر ليس من العمر إذا لم تعشه يوم كفاح
وحرام عليك أن تبصر الشعب دماء تجمدت في جراح
وحرام عليك أن تبصر القو م عراة في عاصفات الرياح
يتشاكون بالدموع – فتبكي لبكاهم – وتكتفي بالنواح
2- فضح قوى الاستغلال من الإقطاع والبرجوازية ومن الاحتكارات الاستعمارية التي تنهب ثروات الشعب العربي قال الشاعر كاظم جواد يفضح النهب الاستعماري ويخاطب لندن عاصمة البريطاني :
سأقول انك توقدين
مصباح عارك من دم الموتى وجوع الآخرين
مهلا وانك تشربين
مائي وبترولي وانك تبصقين
آلاف آلاف الرجال وتقتلين الطيبين
3- الدعوة للاشتراكية نظاما يقضي على الاستغلال ومظالم المجتمع .
قال الشاعر العربي الجزائري محمد آل خليفة يتغنى بمكاسب الثورة الاشتراكية في الجزائر العربية :
الاشتراكيون ساد نظامهم ومضى بلا رجعى احتكار الحاكر
هذي الجزائر قد تساوى كل من في حكمها من عامل أو تاجر
واستثمر الفلاح كد يمينه فنجا به من كل فقر فاقر
وأزال حكم الشعب كل معمر غصب البلاد ومستغل فاجر
كم من بنين من التشرد أنقذوا كم من بواد شيدت كحواضر
الالتزام وقضايا التحرر العالمية :
لقد أدرك الأدباء الملتزمون صلة حركة التحرر العربية بحركة التحرر العالمية .
لأن هزيمة الاستعمار في أي مكان من العالم تحمل له الهزيمة على الأرض العربية .قال الشاعر عبد الكريم الكرمي يؤكد هذه الحقيقة ويبرز وعيه لها :
أيها الثائرون في العالم الرحب على الظالمين في الآفاق
حطموا النير فهو من اثر الوحش على الأرض واعصفوا بالوثاق
وامسحوا الظلم والجهالة والفقر من الكون بالدم المهراق
أينما كنتم فنحن رفاق وحدتنا حرية الأعناق
لذلك عد الأدباء الملتزمون معارك نضال الشعوب جزءا من معارك تحررهم فأيدوها ونددوا بجرائم الاستعمار كتب الأديب عبد الرحمن الشرقاوي يخاطب المستعمر الغربي الذي تآمر على مصر ويحتج على جرائمه المنكرة التي ارتكابها في فيتنام :
ماذا يضيرك أن يصوغ الشعب في فيتنام فجر سعادته
وعدالته
بإرادته
لم يشتعل البركان فوق حياته وحضارته
أتراه حين يعيش يسلب منك أنفاس الحياة
أتراك سوف تموت أن لم تجترع عرق الجباه ؟
المؤتمرات الأدبية :
كان الأدباء يشعرون في غمرة تفاقم الأخطار وتعاظم التحديات أن الالتزام بقضايا الأمة لا يجوز أن يبقى أمرا فرديا أن التحديات تتطلب تعبئة كل الأسلحة التي تملكها الأمة العربية لمواجهتها والأدب سلاح فعال يجب أن يعبا للمعركة لذلك كان الأدباء يتنادون إلى عقد مؤتمرات دورية يحددون فيها الأخطار وأبعادها ويضعون المقررات والتوصيات لمواجهتها بما يناسب الظروف الموضوعية للمرحلة التاريخية جاء في البيان العام الذي أصدره المؤتمر الثامن للأدباء العرب في دمشق سنة 1971 :
أن الأدباء العرب يدركون أن معركة المصير تتمثل في مقاومة قوى الامبريالية والصهيونية والاستعمار والعنصرية لإرساء قواعد الحرية والتقدم والبناء الاشتراكي والسلام والعدالة الاجتماعية والازدهار الروحي والثقافي والحضاري للإنسان )



الفصل الرابع
الأدب والقضية الفلسطينية
كانت القضية الفلسطينية اخطر قضية سياسية واجهت الإنسان العربي في هذا القرن وقد كانت واسعة الأبعاد نسج خيوط مؤامراتها الاستعمار الطامع بثروات الوطن العربي وموقعه الاستراتيجي متحالفا مع الصهيونية الباغية التي التحمت مصالحها بمصالح الاستعمار فإذا هو يوليها كل دعمه وتأييده في إنشاء دولة صنيعة تقوم على العدوان والتوسع .
وقد انطلقت الجريمة إلى واقع التنفيذ من وعد بلفور عام 1917 وأخذت الأحداث تتصاعد متأزمة وتتكشف أبعادها وأخطارها على الوجود العربي حتى كانت نكبة 1948 ونكسة حزيران 1967 وقد صور الأدب تطور هذه القضية في مراحلها المتعددة ورصد أزمة الضمير العربي خلالها .
1-الأدب قبل النكبة :
تصاعدت الحركة الوطنية الفلسطينية – منذ مطلع الثلاثينات – لمواجهة التآمر الاستعماري والصهيوني وتصاعد معها الاهتمام العربي وعلى الرغم من انشغال الأقطار العربية – في هذه المرحلة – بمعارك نضالها مع الاستعمار فان مصائبها لم تشغلها عن القضية الفلسطينية لقد كانت موضع قلقهم واهتمامهم وكثيرا ما هب رجال شجعان من الأقطار العربية إلى رحاب فلسطين يقاتلون الاستعمار والصهيونية ويريقون دماءهم على أرضها المقدسة فيؤكدون بذلك وحدة التراب العربي ووحدة شعبه ومصيره ونضاله . قال الشاعر محمد الفراتي يرثي الشهيد سعيدا العاص الذي اندفع من مدينة حماة مع غيره من الثوار ليدافع عن عروبة فلسطين ويموت على ثراها الطاهر عام 1936 :
عزيز علينا أن يحل بك الردى وترتع في البيت العتيق سوام
وأن بني الأحرار في عقر دارها على الرغم منا – يا سعيد – تضام
مضيت كريما في الجهاد وكم مضت من العرب في ساح الجهاد كرام
وقد صور الأدب العربي كل أبعاد هذا الاهتمام بالقضية الفلسطينية وأبرزها :
أ- تنبيه الوعي لدى الشعب العربي الفلسطيني وإثارة العزائم لدرء الخطر المحدق . قال الشاعر أبو سلمى يدعو الشعب إلى التضحية والفداء :
قوموا اسمعوا من كل نا حية يصيح دم الشهيد
تتزاحم الأجيال دا مية الخطا حول اللحود
إيه فلسطين أقحمي لجج اللهيب ولا تحيدي
لا تصهر الأغلال غير جهنم الهول الشديد
ب- الدعوة إلى مساعدة الشعب العربي الفلسطيني وتأييد كفاحه :
قال الشاعر بشارة الخوري الأخطل الصغير يهيب بالعرب أن يساعدوا شعب فلسطين وهو يخوض محنة الأذى والاستعمار :
قم إلى الأبطال نلمس جرحهم لمسة تسبح بالطيب يدانا
قم نجع يوما من العمر لهم هبة صوم الفصح هبة رمضانا
إنما الحق الذي ماتوا له حقا نمشي إليه كانا
ويدعو الشاعر علي محمود طه الزعماء العرب الذين اجتمعوا لتأليف الجامعة العربية أن ينقذوا شعب فلسطين من محنته :
اقضوا حقوق إخاء تستجير به اجت لكم في صراع الدهر عزلاء
ج- التنديد بوعد بلفور كل عام فقد أصبح يوم إعلانه ذكرى مشئومة لدى الشعب العربي تكشف فيه الأخطار وتعبر الجماهير عن رفضها للتآمر الاستعماري وتصميمها على إحباط المؤامرة قال الشاعر محمد مهدي الفلسطيني من خلال الجماهير المحتشدة على الكفاح والتضحية :
خذي مسعاك مثخنة الجراح ونامي فوق دامية الصفاح
ومدي بالممات إلى حياة تسر وبالعناء إلى ارتياح
فتاريخ الشعوب إذا تبنى دم الأحرار لا يمحوه ملح
د- التحذير من المصير الفاجع الذي يتهدد فلسطين بالضياع وإعادة مأساة الأندلس .
قال الشاعر علي الجارم في نبوءة شعرية يحذر وينذر :
قلبي وفيض دموعي كلما خطرت ذكرى فلسطين خفاق وهتان
لقد أعاد بها التاريخ اندلسا أخرى وطاف بها للشر طوفان
ميراثنا في فتى حطين أين مضى ؟ وهل نهايتنا يتم وحرمان ؟
على أن الأحداث كانت تتدافع متسارعة إلى النكبة فقد كان حجم المؤامرة من طاقات الواقع العربي الحضارية والسياسية في تلك المرحلة فوقعت النكبة عام 1948 .
2- الأدب بعد النكبة :
أذلت النكبة الناس وأذهلتهم واعتصر نفوسهم حزن وجيع جمد الدموع في المآقي وغشى الوجوه بسحابة الذل والانكسار :
ا- تحمس الأدباء لبدء الحرب لتحطيم الأسطورة وإسقاط المؤامرة وغمرهم الرجاء بالنصر ولم تلبث حماستهم أن تجمدت غصة خانقة لدى سماعهم أنباء الهزيمة فأحسوا التمزق وانطوت نفوسهم تجتر مرارة الهزيمة والهوان قال عمر أبو ريشة يعبر عن هذا التمزق الأليم :
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرق خجلا من امسك المنصرم
ويكاد الدمع يهمي عابثا ببقايا كبرياء الألم
ب- ويتلفت الأدباء في سورة الغضب يتلمسون عوامل الهزيمة بوعيهم الذي طغت عليه العاطفة والثورة فيجدونها في الحكام العرب آنذاك

فيحملونهم وزر الجريمة لأنهم لم يكونوا على مستوى المسؤولية والقضية قال الشاعر سليمان العيسى :
لو كان في كفي قياد القدر
غسلت جفني أمتي بالشرر
ألهبت بالثورة حتى الحجر
طهرت ارضي من ظلال العبيد
عندئذ ألقى عدوي العتيد
ويتاح بعدئذ لوعي بعض الأدباء أن يرى القضية موضوعية واضحة فتتكشف له أبعاد المؤامرة وأطرافها لقد كانت الجريمة من فعلة الامبريالية العالمية التي يقوم لمصالحها الاقتصادية واحتكاراتها في الوطن العربي مجال واسع فأيدت الصهيونية لتستخدمها في أغراضها الاستعمارية ويبقى دور الحكام جزءا من الفئة التي كانوا يمثلونها والتي أعمتها مصالحها المادية من أن تستشرف أبعاد المؤامرة بوضوح فوقفت موقف المساومة والحذر والتخاذل قال بدر شاكر السياب يفضح دور الامبريالية العالمية في ويلات الشعوب وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني :
ولولا الذي كدسوا من نضار
به يستضيئون دون النهار
تجوع الملايين عن جانبيه
وينحط في كل يوم عليه
دم من عروق الورى أو نثار
كذر الغبار . .
لما هزت الأمهات المهود
على هوة من ظلام اللحود
ولا بات في الصرصر اللاجئون
ولآلاء يافا تراه العيون
وقد حال من دونه الغاضبون
ج- وأخذت مشاهد بؤس اللاجئين تلطم العيون في كل مكان لقد شردتهم النكبة فخرجوا يضربون في الآفاق تعصف بهم أعاصير البؤس والجوع والمرض قال الشاعر نديم محمد يصور شقاء هؤلاء البائسين ويدين الجريمة التي نكبتهم بأهلهم ووطنهم :
وعلى الطريق سخاب أطفال وسائلة زريه
قذفوا بها وبهم ضحايا من فلسطين الضحية
والموت يحصدهم بأنياب الوحوش الآدمية
د- ويستيقظ في نفوس الأدباء الشعور بالخطر لدى رؤيتهم هذه المشاهد المؤلمة وتتجسد أبعاد الكارثة أمام أعينهم فيذرون وينذرون أن أطماع الصهيونية بعيدة عريضة فلتقرع أجراس الخطر في كل بيت ولتبق العيون مفتوحة على المؤامرة السوداء على المأساة التي تكبر وتتسع .
يقول سليمان العيسى :
الخائنون أمانة الأجيال نحن الكافرونا
الغادرون إذا اشحنا الوجه واخترنا السكونا
وطن العروبة لا يعيش عليه إلا لا جئونا
وغدا سيلفظنا غدا أن لم تفجره جنونا
تمضي بحافرها الحياة على رقاب الخانعينا
ه- ويثور في قلوب المشردين شوق إلى الأهل وحنين إلى الوطن وحزن لفراقه تمر عليه الأيام فلا تخمد له نار لنستمع إلى الشاعر يوسف الخطيب يناجي عندليبا مهاجرا ويبثه حنينه إلى الوطن الحبيب :
لو قشة مما يرف ببيدر البلد
خبأتها بين الجناح وخفقة الكبد
لو رملتان من المثلث أو ربا صفد
لو عشبة بيد ومزقة سوسن بيد
أين الهدايا مذ برحت مرابع الرغد
أم جئت مثلي بالحنين وسورة الكمد
وهذا أبو سلمى يهتف بأحبائه الذين ما زالوا على أرض الوطن السليب :
يا أحبائي بالمروج النشاوى بالنسيم الذي يهب جنوبا
بالسفوح الموشحات جهادا بالروابي المجرحات خطوبا
يا أحبائي يا رفاق الأماني قبلوا عني التراب الخضيبا
وتتوزع النفوس وتتمزق بين اليأس والتشاؤم بعدما طال ليل الغربة والنزوح ثم يشرق عليها الأمل بالمقاومة التي تفجرت تتحدى الظلام وتمزق أستاره عبر الدماء والتضحيات سائرة إلى فجر النصر والخلاص .
3-أدب الأرض المحتلة :
بقي على أرض فلسطين بعد عام 1948 قسم ليس بالكبير من سكانها العرب حاول في ظروف قاسية من الاحتلال والتعسف ان يواصل حياته وقد برز في غياهب ليل الاحتلال أدباء شبان جعلوا الأدب سلاحا في معركة الصمود والبقاء على الأرض : يعمق الوعي ويعزز حب الأرض ويبث الإيمان بقدرة الإنسان على الخلاص وجدوى كفاحه .
سمات أدب الأرض المحتلة وأبعاده :
كتب الشاعر محمود درويش في إحدى مقالاته يحدد الإطار العام لأدب الأرض المحتلة فقال : أن جوهر أدبنا الرفض والدينونة
تمثلت المقاومة في أدب الأرض المحتلة فكان أدبا كفاحيا يربط الكلمة بالممارسة النضالية اليومية لأساليب الاضطهاد وكانت رؤيته للحياة واقعية اشتراكية تدرك الحقيقة إدراكا موضوعيا فترى الظواهر الخاصة في ارتباطاتها العامة وتدرك صلة الاحتلال الصهيوني بالامبريالية العالمية ويمزج الأدب تصوير الواقع المأساوي بالتفاؤل الثوري الذي يعزز الثقة بحركة التاريخ وبالقدرة على النصر من خلال الصمود والنضال .
يقول محمود درويش :
يا دامي العينين والكفين أن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل
نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل
ومن الواضح أن نيرون هنا رمز الاحتلال والطغيان وروما رمز المقاومة .
وقد تميز هذا الأدب بعدة أبعاد تمثل مواقف الكفاح والمقاومة للهجمات الصهيونية الشرسة على عروبة الإنسان العربي الفلسطيني ووجوده وشخصيته الإنسانية .
ا- الدفاع عن الشخصية العربية التي هاجمها الاحتلال بالتمييز العنصري والاتهامات الباطلة بقصورها الحضاري فواجه الأدباء هذا الهجوم بالاعتداد بعروبتهم ودفع تهمة القصور والعجز يقول محمود درويش :
نعم عرب ولا تخجل
نعرف كيف نمسك قبضة المنجل
وكيف يقاوم الأعزل
ونعرف كيف نبني المصنع العصري والمنزل
ومن خلال هذا الشعور القومي بمضمونه الإنساني المتقدم تحسسوا لحركات التحرر في العالم بعامة وفي الوطن العربي بخاصة فأيدوا نضال الشعب الجزائري وكفاح الشعب المصري قال الشاعر توفيق زياد يشيد بصمود الشعب العربي في مصر في معركة بور سعيد :
يا بور سعيد وأنت رعب قاتل للزاردين القيد حول المعصم
يكفيني النكد العصي وغضبة إني بعيد عن حماك المظرم
ب- التنديد بجرائم الاحتلال وفضحها : لقد قام الوجود الصهيوني منذ البداية على الإرهاب والعدوان فارتكب مذابح بشعة لإبادة الإنسان العربي واجتثاث جذوره من الأرض العربية قال الشاعر سالم جبران يندد بمذبحة كفر قاسم :
الدم لم يجف والصرخة ما تزال
تمزق الضمير . . . والقبور
مفتوحة في فمها أكثر من سؤال
ولم يزل مدخل كفر قاسم
مروعا من هول تلك الليلة السوداء
اكره أن أجثو على القبور والجزار
يسحب حقل الأرض من تحتي ويعطي للرياح الدار
ج- التشبث بالأرض والتنديد بالنزوح والخروج من معركة البقاء لقد كان غرض كل تلك الجرائم والقهر والتمييز العنصري والاستيلاء التعسفي على الأرض . . هو دفع البقية الباقية إلى النزوح يقول توفيق زياد معبا وعي الإنسان الفلسطيني للبقاء والثبات على الأرض فاضحا أساليب الاحتلال الباغية في قهر الإرادة مؤكدا الصمود والمقاومة لها :
هنا على صدوركم باقون كالجدار
ننظف الصحون في الحانات
ونملا الكؤوس للسادات
حتى نسل لقمة الصغار
إذا عطشنا نعصر الصخرا
ونأكل التراب أن جعنا . . ولا نرحل
وبالدم الزكي لا نبخل , لا نبخل , لا نبخل
هنا لنا ماض . . وحاضر . . ومستقبل . .
د- الشوق إلى لقاء الأهل المشردين بنبرة كفاحية مؤثرة : لقد كان أدب الأرض المحتلة شعرا ونثرا يفيض بشوق حار إلى الأهل والأحبة الذين شردتهم النكبة وكان يمازح هذا الشوق تصميم على الصمود وتفاؤل باللقاء يقول محمود درويش :
أصوات أحبائي تشق الريح تقتحم الحصون
يا أمنا انتظري أمام الباب أنا عائدون
هذا زمان لا كما يتخيلون
بمشيئة الملاح تجري الريح والتيار يغلبه السفين
الفصل الخامس
الأدب بعد نكسة حزيران عام 1967
كانت نكسة حزيران زلزالا عنيفا هز الإنسان العربي ووضعه موضع الاتهام أمام نفسه وقد عكس الأدب هذه الأزمة القاتلة بأسلوبين متناقضين :
ا- أسلوب سلبي . . اتجه إلى سلبيات الواقع العربي وجسمها وحملها مسؤولية ما حدث وقد مثل الشاعر نزار قباني هذا الأسلوب في معظم القصائد التي كتبها بعد الخامس من حزيران .
وها هو ذا عبد الوهاب البياتي يلقي مسؤولية النكسة على الخلافات الصغيرة التي شغلتنا عن القضية الكبرى والاستعداد لها فيقول :
طحنتنا في مقاهي الشرق حرب الكلمات
والأكاذيب وفرسان الهواء
شغلتنا الترهات .
ب- أسلوب ايجابي . . اتجه إلى المقاومة الفلسطينية التي أخذت تثبت أقدامها على أرض الكفاح وتفرض نفسها وكان خير من صورها الشهيد غسان كنفاني في اغلب مجموعاته القصصية فقد رسم صورة ايجابية للإنسان العربي الفلسطيني الذي حطم كلمة لاجئ ليكون فدائيا مقاتلا يرفض الهزيمة وتوالت أناشيد شعراء المقاومة في داخل الأرض المحتلة وفي خارجها تتحدى القوة الغاشمة في وعي وإصرار ولا ترى في النكسة إلا غماما اسود لا يستطيع أن يحجب عن أعينها مستقبل هذه الأمة وقدرتها على تحرير الأرض والإنسان .
الفصل السادس
أدب حرب تشرين التحريرية
وفي السادس من تشرين الأول عام 1973 اندفع المقاتل العربي يعبر قناة السويس ويرقى جبل الشيخ وربا الجولان ويسقط عنه كل الاتهامات الظالمة التي وصمه بها الأعداء ويبدد الشكوك التي أحدقت بقدرته وأصالة قيمه .
لقد اثبت الإنسان العربي أصالته القومية على كل صعيد وابرز قدرته الحضارية وتصميمه على النصر والتحرير مهما كان الثمن وقد تأكد ذلك في نهوض الوطن العربي من أقصى مغربه إلى مشرقه يشارك في هذه الحرب المجيدة وامتشق للمعركة كل الأسلحة العسكرية والسياسية والاقتصادية والفنية .
لقد دخل الأدب الحرب واستنفر جيش الأدب منذ الساعات الأولى للمعركة كتب نزار قباني دعوة عاجلة لاحتياطي الأدب فقال
إذا كانت الدول العربية قد استنفرت جيوشا ودعت احتياطييها خلال ثمان وأربعين ساعة فان على ضباط الأدب العربي واحتياطيه وقدماء محاربيه أن يتجمعوا هم أيضا خلال ثمان وأربعون ساعة ومعهم أوراقهم الثبوتية وأقلامهم ووطنيتهم أما مكان الاجتماع فيمكن أن يكون في أي مكان في الشوارع في الأزقة على أغصان الأشجار على أعمدة النور . . أيها الأدباء
كل القطر مسافرة إلى الجبهة . . كل القطر مسافرة إلى المجد . . فتجمعوا بسرعة لأنكم إذا لم تكتبوا اليوم فلن تكتبوا أبدا . . . ))
وكان الأدباء العرب على مستوى المسؤولية التاريخية لقد انفعلوا بعمق وعنف بمعارك التحرير وبطولاته وتجاوزوا عقدة الذنب التي شلت أقلامهم وسودت أدبهم باليأس والتشاؤم فمضوا يكتبون في مختلف الأشكال الأدبية التي تستوعب الانفعال المباشر ففاضت انهار الصحف بالقصائد والخواطر والمقالات ثم القصص القصيرة .
لقد عبر أدب تشرين وما تلاه عن المعاني الايجابية التي فجرتها حرب التحرير وتمثلت بالحماسة والتفاؤل والاعتزاز بالبطولات والانتصارات .
لكن شيح الماضي الأسود كان ثقيلا على أدبائنا فقد ظل يلقي ظلاله القاتمة على أدبهم فيتذكرون كابوس الخوف والأسى وهم يتطلعون بالعجاب والحماسة إلى ما يحققه المقاتلون في المعارك كتب الأديب علي كنعان في خاطرة صحفية يسجل فيها هذه المفارقة في الإحساس :
قبل هذه الحرب كانت لدينا مخاوفنا الصغيرة أو الكبيرة واليوم وبعد حوالي أسبوعين من القتال البطولي نشعر بأننا لم نخسر إلا تلك المخاوف وأننا ربحنا الكثير ربحنا الأمل بالحياة والثقة بالمستقبل وربحنا الإرادة الحرة في مواصلة القتال حتى النصر والتحرير . . . ))
ومن العراق ينهض الأديب علي الحلي في تشرين ليشيع أحزان الماضي الوجيع ويستقبل طلائع الفجر الجديد بحماسة وفرحة :
في السادس من تشرين العظيم تطايرت خيام الشجن وتمزقت غمامات الإحساس بالبؤس وتدفقت ينابيع الفرح الطفو لي الغامر ترش النسمات التي غضنها اعتصار الألم المرتشف ببشائر الفارس العربي القائد مع طلائع البعث والثورة .
فيا مرحبا بفرسان الزحف المقدس . . ومرحبا ببطولات تشرين وهنيئا للزنود السمر التي تشد أصابعها الفتية على السلاح والنار دحرا أكيد للتنين الهارب على رمال سيناء وتلال الجولان وسحقا أبديا لكل أعداء الشمس العربية . . . ))
وقد صور الأدب بطولات الشعب العربي جماهير ومقاتلين كل اخذ دوره في المعركة وكل شيء عبئ لها لقد كان الوطن كله ساحة قتال وكان للبطولة أكثر من وجه . . . كتب الأدبية غادة السمان تصور باعتزاز بطولة جماهير الشعب
دمشق هانوي العرب . . . صحيح أن عشرات البيوت تهدمت فوق رؤوس أصحابها والسيارات انفجرت بأهلها وأغصان الأشجار في الشوارع حملت ثمار الحرب البشرية الممزقة الدامية المعمدة بعرس الدم إلا أن الشمس عادت تشرق من جديد في عيون أهلها ففي كل شارع وكل زقاق وعلى سطوح المنازل وفي شقوق الأرض المحفورة بالقنابل وفي مسام التراب يفور المقاتلون الشبان : الرشاش في كتف وسل الأكل في الكتف الأخرى دمشق الحرائق تضيء منارة في ليل ذلنا الطويل . . . ))
ورسم الأدب صورة رائعة للمقاتل العربي أبرزته بطلا ايجابية واعيا يجسد آمال أمته في التحرير ويبذل اعز ما يملك الرجال من اجل هذا الهدف هذا سليمان العيسى يقرا في دفتر مقاتل عربي ويبرز هذه السمات :
أقاتل كي أرد إلى خدود رمالنا السمرة
مفاتيح البيوت . . وطا ل طال الشوق والهجرة
أرد لجبهة التاريخ كل تألق الغرة
أرد كرامة الإنسان معنى ارضي الحرة
لقد أعطى المقاتلون الشجعان الواقع العربي وجها جديدا يشرق بكبرياء العزة والكرامة ويمحوا أثار الهزيمة والمذلة .
تشرين مضى . . وروحه المجيدة باقية في المقاتلين في الجماهير حتى يتم التحرير وتستعاد الأرض السليبة قال سليمان العيسى يسجل إحساسه بهذه الروح ويؤكد أن المقاتلين الذين نفروا إلى أداء الواجب ما يزالون في الميدان :
تشرين لم ينته الشوط الذي بدأت خيولك البيض . . في الميدان من نفروا





الفصل السابع
الاتجاه الاجتماعي:
لمس العرب مظاهر التخلف الحضاري والاجتماعي الذي مُورس عليهم في نهاية الحكم العثماني بالمقارنة مع ما رأوه من تحضر اجتماعي وتفتح إنساني ، وأدركوا أن العلم والمعرفة هما السبيل الأمثل لإزالة هذا التخلف فهذا هو الصافي في تنبيه الشباب العربي إلى ضرورة بالعلم والمعرفة:
ألم تروا الأقوام بالسعي خلّدت مآثر يستقصي الزمان خلودها
وساروا كراماً رافلين إلى العلا بأثواب عزّ ليس يبلى جديدها
ودعا بعضهم إلى الاقتداء بالغرب للوصول إلى ما بلغوه يقول الشاعر عبد الرحمن البنّاء :
فاقتدوا بالغرب كيما تدركوا ما مضى واجنوا من العلم ثمارا
وحارب الأدباء أمراضاً اجتماعية تسربت إلينا من المجتمعات الغربية كالمسكرات والمخدرات ودور اللهو والقمار
يقول الشاعر رضا الشببي:
تظنون هذا العصر عصر هداية وأجدر لو تدعو عصر ضلالات
كما وأن الأدباء عالجوا مشاكل اجتماعية تفاقمت بعد الحرب العالمية والاستغلال فعالجوا التشرد والتسول والجوع يقول علي الجارم مستنجدا بالأغنياء لمساعدة الفقراء:
أيها الأغنياء أين نداكم بلغ السيل عاليات القلال
هم عيال الرحمن،ماذا رأيتم أو صنعتم لهؤلاء العيال
وهذا هو حافظ إبراهيم يدعو المصلحين للمساهمة في القضاء على الفقر :
أيها المصلحون حناق بنا العيش و لم تحسنوا عليه القياما
و أغيثوا من الغلاء نفوساً قد تمنت مع الغلاء الحماما
وطفت على السطح مشكلة المرأة من حيث التعلم والوظيفة ودعا الأدباء للاهتمام بها. يقول حافظ إبراهيم :
من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علًه ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
وأخذت جماهير الأمة ترفض الحنوع ، فصور الأدباء خروج هذه الجماهير للثورة ضد الملوك يقول عبد الوهاب البياتي:
صيحات الفقراء ...... فقراء بلادي
في باب القصر ...... في الفجر الأحمر
كالصخرة.....كالقطرة.....في بحر الثورة.......
وقوله : يا بذرة في ظلمة الجليد والرماد
تدوسها الأرجل في بلادنا.

الأدب الاجتماعي في العصر الحديث
كان الأدب في كنف الملوك والأمراء أو من يتصل بهم من أرباب الثورة والجاه أما الشعب فلم يكن ذا منزلة كبيرة إذ كان الملك أو الأمير محور الحياة السياسية والاجتماعية وعليه لا على الجمهور كان يتوقف رواج البضائع الأدبية .
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر أخذت الثقافة الجديدة تنتشر في البلدان العربية التي أتيح لها الاحتكاك بالعالم الغربي فنهض أبناؤها بعد سبات عميق وأصبح الشعب قوة لا يستهان بها وهو عند التحقيق معتمد الأدب ومصدر نشاطه الأغزر ومهما يكن نفوذ ذوي السلطة فيه فان الجمهور هو الذي يغذيه لأجله ينظم الشعراء ويكتب الكتاب وقد أصاب من قال أن أدبنا الحديث أدب ديمقراطي فبعد أن كان الأديب يعيش على موائد الأمراء ومن عطائهم وهباتهم أصبح يعيش على موائد الشعب ومن عطائه وهباته .
ومما لا يختلف فيه اثنان أن الوطن العربي كان قبيل النهضة في حالة من التأخر الاجتماعي حيث كان الجهل سائدا والحياة العمرانية في الحضيض فمن الطبيعي أن يكون الأدب شديد الاهتمام بحاجة الناس إلى الاحتكاك بالحضارة الغربية وأدراك أهمية العلم والاقتداء بمن تقدموا لذا كانت الدعوة إلى العلم عامة تتردد على أقلام الأدباء وألسنتهم إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى .
وقد هال كثيرين من الأدباء ما رأوه في العصر الحاضر من طغيان الفساد الاجتماعي والبؤس الاقتصادي فتناولوهما في أدبهم بأشكال مختلفة .
ولعل أهم اتجاه في أدبنا الاجتماعي هو ما يتعلق بالطبقات البائسة والبؤس أشكال شتى يجمعها اثنان أساسيان هما البؤس الاقتصادي والبؤس الاجتماعي ولعل الأول أصلها جميعا فان مسالة الغنى والفقر مسالة قديمة العهود وقلما نجد امة خلت آدابها الاجتماعية من ذكرها والاهتمام بها أو عصرا لم يقم فيه من يجاهد بلسانه أو قلمه فيحمل على جور السادة وجشع الأغنياء ويدعوا إلى إغاثة المحتاج وأنصاف المظلوم كان هم العبد والفلاح والعامل أن يعيشوا امنين في ظل سادتهم ومالكي أمرهم ولم يكن يطلب من السيد أو الغني إلا أن يكون عطوفا عليهم راثيا لبلواهم محسنا إليهم .
أما اليوم فقد قضي على عبودية الفرد وأصبح العدم وصمة عمرانية يجب محوها أو تخفيف وطأتها وتفاوت الطبقات عيبا منافيا لحقوق الإنسان مانعا من تقدم العمران وبانتشار العلوم الإنسانية في القرن العشرين وتزايد الاتصال بالغرب ازداد تنبه الأدب العربي إلى هذه المسالة وكثر لهجة بذكر الطبقة البائسة وطلب اليسر لها وليس بغريب أن يكون للأدب يد قوية في هذا الأمر فالأديب كما قال محمد لطفي جمعة :
ارق شعورا وارق إحساسا وأرهف سمعا وأنفذ بصرا من غيره فهو يشعر بمرارة الحياة في أفواه الفقراء ويلمس مواقع سهام الزمن في أحشاء المنكوبين والمظلومين والمحرومين فإذا نظم أو نثر أو خطب أو تحدث فإنما ليطلب عدلا للمظلوم ورحمة للضعيف ونصفه للفقير والمسود وعزة للذليل وفرجا للمكروب وبهذا يؤدي بعض رسالته أو كلها .
وانك لتجد هذه الرسالة الأدبية في كثير من المؤلفات التي ظهرت خلال نهضتنا الأدبية من خطب ورسائل .
أما الرسالة الشعرية فلها في كل إقليم صبغة خاصة ولو راجعت نفثات الشعراء أمثال الزهاوي والرصافي ونظر لشعرت فيها بروح ناقمة على الأوضاع الحاضرة شديدة الحملة على ترف الأغنياء وسوء تصرفهم إزاء الطبقات المحرومة التي تعيش عيشة الشقاء والانحطاط وقلما نجد مثل هذه النقمة الثائرة والحرارة الغائرة في دواوين شعراء مصر كشوقي وحافظ وسواهما التي يغلب فيها الحض على الإصلاح واستعطاف الأغنياء والدعوة إلى تعليم الفقراء وتيسير سبل الرزق لذوي الخصاصة ولكنها دعوة على شدتها أحيانا تؤمن بواقع الحال فلا تطالب بثورة أو انقلاب وغاية ما يرجون أن تلين قلوب الأغنياء فيمدوا يد الإحسان وقد تبلغ الدعوة حد الألم المر تنطق بلسان عامل بائس متألم من ظلم الحياة فيصف حياته وما يلحق به من حيف وما يعانيه من بؤس ومرض ولا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا أن الشكوى وطلب الإصلاح لم يشتدا بين الأدباء المقيمين في سورية ولبنان إلا إبان الحرب العالمية الأولى وبعدها .
وكما يتألم الأدب الحديث لحال البائسين من الناحية الاقتصادية يتألم لحالهم من الناحية الاجتماعية وأكثر ما يكون البؤس الاجتماعي في البيئات الحضرية ولا سيما المدن الكبيرة حيث تتوافر أسباب اللهو والفساد التي تحمل الشقاء إلى كثير من الأفراد والعائلات فالحياة الاجتماعية في الحواضر واسعة سوداء تعكس ما فيها من فساد وألم وشقاء .
الأدب الاجتماعي الإصلاحي الحديث
لابد للأديب – في أي عصر كان – من موقع يواجه منه الحياة ويتخذ من خلاله موقفا إنسانيا يبرز للحياة وشكل رؤيته لها.
وقد رأينا أن مواقع طائفة من الأدباء – في الماضي – كانت في العصور فسخروا لها مواهبهم بأمجاد الأمراء والسلاطين ونظروا إلى الناس والحياة من خلال أفكار الطبقات السائدة فكانت مواقفهم من الشعب سلبية يبرز فيها الأعراض عن هموم عيشة والتنكر لمشكلات الحياة .
غير أن العصر الحديث دفع الجماهير المتوسطة والكادحة والمحرومة إلى مسيرة التاريخ والعمل السياسي فاحدث ذلك تغيرا في مواقع الأدباء ومواقفهم فاخذوا يقتربون من الشعب ويصورون حركة تطوره التاريخية ويعالجون مشكلاته وأزمات حياته وصارت مواقفهم ايجابية يظهر فيها الرفض لما يعوق تقدم الشعب وتحرره من مظاهر الظلم والفساد .
وقد تنوعت مواقف الأدباء بتنوع نزعاتهم ورؤيتهم للحياة وفهمهم لطبيعة المشكلات الاجتماعية فكانت هناك :
ا – المواقف المثالية الإصلاحية التي صاحبت نهوض الطبقات المتوسطة وظهور مشكلاتها وأزماتها الاجتماعية .
ب – المواقف الواقعية الثورية التي رافقت نهوض الوعي لدى الطبقات الكادحة والمحرومة وكفاحها للتحرر من الاستغلال والظلم الاجتماعي .
وسنحاول فيما يلي أن نفصل الحديث عن المواقف المتنوعة في الأدب الاجتماعي الحديث .
الأدب الاجتماعي الإصلاحي والموضوعات التي عالجها :
طلعت شمس النهضة الحديثة على العرب وقيود السيطرة الأجنبية من الحكم العثماني المستبد إلى الاحتلال الاستعماري المستغل تكبل إرادة الإنسان العربي وتعوق حركته إلى التقدم والتحرر فكان لا بد من الكفاح السياسي لتحطيم هذه القيود وطلاق الإرادة العربية من عالقها تسعى لحياة حرة كريمه .
كانت ظروف هذا الكفاح السياسي عسيرة شاقة أثرت في طاقاته وإبعاده فجعلتها محدودة . وامتدت مسيرة النضال عبر انتكاسات وكبوات كثيرة كان ذلك يرجع إلى ضعف المجتمع العربي على الصعيد الفكري والروحي والإنساني وكان الأدباء خلال معارك النضال يحسون تأثير الضعف الاجتماعي في الكفاح السياسي فقاموا يدعون لترميم بناء المجتمع وإصلاح جدرانه المتصدعة ليستطيع تحمل أعباء معارك النضال والتحرير وكانت نزعتهم الإصلاحية تتجه بهم إلى إضاءة جوانب الضعف وكشف أشكالها وبيان آثارها السلبية في حياة المجتمع العربي والاحتجاج عليها في لهجة تحذير وتنبيه وتقريع وغضب حينا آخر . كانت هذه النزعة تصدر عن رؤية مضطربة تشوبها المفاهيم المثالية القديمة وأفكار الثقافة البرجوازية الحديثة فكان الأدباء يحسون ظواهر الفساد ولكنهم لا يدركون طبيعتها إدراكا واضحا لذلك راحوا يعالجون المفاسد الاجتماعية مجردة من محتواها التاريخي والاجتماعي ومنفصلة عن علاقاتها بالتركيب الاجتماعي فذهب احتجاجهم عليها إلى الإصلاح في صيحات عاطفية غاضبة تستصرخ ضمائر الحكام وأخلاق الناس إلى الاستقامة والرشاد .
وقد تركز إحساس الأدباء – نتيجة لذلك – في معالجة هذه الموضوعات :
تخلف الوعي والفكر وفساد الأخلاق والعادات ومظاهر الشقاء الإنساني .
1- تخلف الوعي والفكر :
كان تسرب الوعي إلى وجدان الشعب في مطلع عصر النهضة بطيئا وكانت وطأة القهر السياسي تثقل شعور الأدباء فيتطلعون إلى النهضة بأحلام رومانسية هاض الواقع المتخلف أجنحتها فتمزق نفوسهم بالألم ويكتبون المقالات الثائرة والقصائد الغاضبة يهيبون بالشعب الغافل الجاهل أن يتنبه وينهض ولكن الشعب الغارق في لجيج التخلف والجهل لا تصل إليه الصرخات الثائرة إلا كأنها رجع نداء بعيد لقد كان بين الأدباء وبين آذان الشعب سدود كثيفة من الجهل والغفلة قال الزهاوي في ضجر من هذه الحال
نصحت للقوم في شعري فما سمعوا كأنما القوم في أذانهم صمم
على أن الأدباء – رغم ضجرهم – لم يهنوا في أيقاظ الوعي فقد أدركوا حقيقة الأمر ورأوا أن سبيل الخلاص من هذا الواقع المتخلف هو : العلم فهو الذي يهيئ للعقول الوعي ويجعلها تدرك واقعها وتتجاوزه بالرفض والنضال .
كتب الأستاذ رشيد رضا في إحدى مقالاته في جريدة المنار يعبر عن هذا الإدراك :
سعادة الأمم بأعمالها وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها فكل امة ترغب عن العلم فمالها إلى الشقاء شقاء الاستعباد وفقد الاستقلال لا يعصمها منه اتساع ساحة بلادها ولا كثرة أفرادها . . . )
لقد رأى الأدباء أن المسافة بين الغرب القوي والشرق الضعيف هي مسافة العلم فقد نهض الغرب حين اخذ بأسباب العلم في حياته وظل الشرق مترديا في التخلف لبقائه في ظلمة الجهل قال الزهاوي :
العلم لاح لأهل الغرب فيه سنا العلم قدمهم والجهل أخرنا
بالعلم نالوا من الأيام كل منى بالعلم قد فهموا أن الحياة وغى
وأن من لم يلذ بالعلم يندحر
ولذلك رأوا أن التحرر السياسي لا بد أن تمهد له نهضة علمية عربية فكانت القصائد والمقالات في هذه المرحلة تكاد لا تخلوا من إشارة إلى ضرورة العلم لتحقيق التقدم والخلاص قال الرصافي ينبه الشباب العربي إلى هذا الطريق
تريدون للعليا سبيلا وهل لكم إليها وانتم جاهلون سبيل
إلا نهضة علمية عربية فتنعش أرواح بها وعقول
وكتب احمد لطفي السيد ( سر تطور الأمم )
. . . أن رقي الأمة لا يكون بالمصادفة ولكنه جهاد غايته فتح معاقل العلم والتربية وحصول الأمة منها على مقادير تسمح لها بالمزاحمة في معترك الحياة العامة . . .
لكن هذه الحقيقة التي أدركها الأدباء من اجل تقدم الشعب وتحرره فبشروا بها ودعوا إلى الأخذ بها كانت تقف في وجهها عدة عوائق مانعة :
ا- فالحكم العثماني المستبد كان يحارب أسباب العلم والتنوير بشتى أساليب الإرهاب والتضييق لإبقاء الشعب في حالة من التخلف تسهل التحكم به والتسلط عليه كتب عبد الرحمن الكواكبي يفضح دور الاستبداد في مقاومة العلم :
لا يخفي على المستبد أن لا استعباد ولا اعتساف ما لم يكن الرعية حمقاء تخبط في ظلام جهل وتيه عمياء أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل . . .
ب – وسلك الاستعمار السبيل نفسه لأن بقاء الاحتلال مرتبط بتخلف الشعب وجهله ولذلك عمد الاستعمار البريطاني في مصر إلى إغلاق المعاهد لحجب نور العلم عن الشعب قال حافظ إبراهيم يودع اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني ويندد بأعماله
يناديك قد أزريت بالعلم والحجا ولم تبق للتعليم يا لورد معهدا
قضيت على أم اللغات وانه قضاء علينا أو سبيل إلى الردى
ج – وكان الإقطاع عدوا لدودا للعلم يتصدى له ليغلق نوافذ الوعي على الفلاح ويشل إرادة التحرر من الاستغلال والعبودية كتب الأستاذ محمد تيمور في قصته في القطار يفضح هذه العقلية المعادية في شخص رجل سليل الإقطاع :
سافر القطار ونحن جلوس لا ننبس ببنت شفة حتى اقترب من محطة شبرا فإذا بالرجل سليل الإقطاع يحملق في ثم قال موجها كلامه إلي : هل من أخبار جديدة يا أفندي . . . فقلت وأنا امسك الجريدة بيدي ليس في أخبار اليوم ما يستلفت النظر اللهم إلا خبر وزارة المعارف بتعميم التعليم ومحاربة الأمية .
ولم يمهلني الرجل حتى أتم كلامي لأنه اختطف الجريدة من يدي دون أن يستأذنني وابتدأ بقراءة ما يقع تحت عينيه فمكث قليلا يقرا الجريدة ثم طواها وألقى بها على الأرض وهو يحترق من الألم وقال : يريدون تعميم التعليم ومحاربة الأمية حتى يرتقي الفلاح إلى مصاف سادته وقد جهلوا أنهم يجنون جناية كبيرة فالتقطت الجريدة من الأرض وقلت : وأية جناية ؟ قال : انك ما زلت شابا لا تعرف العلاج الناجح لتربية الفلاح قلت : وأي علاج تقصد وهل من علاج أنجع من العلم .
فقطب الرجل حاجبيه وقال بلهجة الغاضب :
هناك علاج آخر . .
وما هو ؟
فصاح بملء فيه آفاق لها الأستاذ من نومه وقال :
السوط أن السوط يكلف الحكومة شيئا أما التعليم فيتطلب أمالا طائلة ولا تنسى أن الفلاح لا يذعن إلى للضرب لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد . . . )
د – وكانت عامة الشعب من الطبقة الفقيرة – بسبب وضعها الاجتماعي المتخلف – لا تدفع لتعليم أبنائها فكانت ترسلهم إلى المدارس في حذر وتردد كتب الأستاذ احمد لطفي السيد يعلل تردد عامة الشعب في الإقبال على العلم :
طريق التربية والتعليم هو الموصل الوحيد ولكنه كما يقولون – لا براق الرداء ولا حاضر النتيجة فانه لا يفرح به العوام جهلا بنتائجه ومن جهل شيئا عاداه . . . )
وكان عذر الطبقة الفقيرة في هذا التردد والأعراض عجزها عن دفع نفقات التعليم وحاجتها إلى تشغيل أبناءها في سن مبكرة لمساعدة الأهل على كسب العيش وقد سبب ذلك مضاعفات اجتماعية أبرزها استمرار الفساد وتفاقمه وانتشار التشرد .
غير أن الفئة المتوسطة التي تقدمت مع التطور الاجتماعي جعلها طموحها إلى السلطة والجاه والشهرة تدفع أبناءها إلى المدارس للتعلم ليكون لهم أن يشغلوا مناصب حكومية في الدولة وتحقق من خلال أبنائها ما عجزت هي عنه قال محمد المويلحي على لسان أحد شخوص قصته حديث عيسى بن هشام ) أن تعليم أبناءنا في المدارس يفيدنا فائدة عظيمة وهي دخولهم في سلك الموظفين في الحكومة وارتقاؤهم المراتب والمناصب ويا ليت آباءنا كانوا التفتوا إلى تعليمنا في المدارس فكنا استغنينا عن ممارسة التجارة وذل البيع والشراء وكساد السوق وترويج السلعة بالأقسام والإيمان فما العيش إلا عيش الموظفين )
وكتب الدكتور طه حسين في قصته صنعاء يصور نموذجا من هذه الفئة يتطلع أن يكون ابنه موظفا فيدفعه إلى التعلم ليجد سبيله إلى الوظيفة :
وقد طمع الأب في أن يرفع ابنه عن المنزلة التي كتب له هو في الحياة فلم ينشئه في التجارة ليخلفه على الحانوت حين تقعد به السن وإنما أرسله إلى المدرسة المدنية بعد أن اختلف إلى التاب عاما وبعض العام واضمر فيما بينه وبين نفسه إلا يكتفي بالمدرسة الابتدائية وأن يرسله إذا استطاع إلى القاهرة ليتعلم في بعض مدارسها وليكون موظفا من موظفي الحكومة وليسلك بنفسه طريقا جديدة غير الطريق التي سلكها هو وسلكها أبوه من قبله . . .) .
وقد عمد الأدباء لترغيب الناس المعرضين عن العلم أن يبينوا الجوانب الايجابية فيه والمنافع المباشرة التي تعود منه على حياتهم قال الرصافي :
كفى بالعلم في الظلمات نورا يبين في الحياة لنا الامورا
إذا ارتوت البلاد بفيض علم فعاجز أهلها يمسي قديرا
على أن معالجة الأدباء لمشكلة الجهل والتخلف الفكري وقضاياها لا تخرج في شكلها ورؤيتها عن عاطفة مخلصة تسدي النصائح وترغب في العلم وتحذر من الجهل وعواقبه لكن رؤيتهم لم تكن من الشمول والعمق لتدعوا إلى ثورة ثقافية تنهي مظاهر التخلف بشكل حاسم وحازم على كل صعيد لأن الإقبال على العلم ظل محصورا في إطار الفئات المتوسطة والميسورة وعلى نطاق محدود جدا في الجماهير الفقيرة بسبب أوضاعها الاجتماعية القاسية .
2 – الأخلاق والعادات والحضارة الحديثة :
حملت النهضة الحديثة إلى المجتمع العربي تطورا واسعا في تركيبه السياسي والاجتماعي والفكري لقد وفدت الحضارة إلى الوطن العربي على جسور البعثات العلمية والرحلات والعلاقات الاقتصادية والغزو الاستعماري وتمثلت هذه الحضارة في مؤسسات علمية وسياسية واتجاهات فكرية حديثة كان من نتائجها تبدل عميق في الأخلاق والعادات .
كان التطور دراميا دفع الإنسان العربي ثمنه غاليا دفعه من حياته وروحه ونفسه إذ تمزقت روحه بالتناقضات والأزمات : حاضر قاصر مثقل بتركة باهظة من التخلف ورواسيه تجتاحه تحديات حضارية عاتية تمتحن وجوده وبقاءه بقسوة وروح رومانسية تحس بجسامة التحديات وتتطلع إلى مستقبل أكثر تقدما وتطورا فاضطربت نفس هذا الإنسان وتمزقت بصراع درامي بين الحلم والواقع تمثل في أزمات روحية واجتماعية عنيفة .
ا- الحضارة الغربية وموقف الإنسان العربي منها :
تأجج إحساس المثقف العربي بواقعه المتخلف بعد أخذه بأسباب الحضارة الحديثة فاضطرمت في المجتمع نار صراع عنيف بين القديم المتخلف والجديد المتقدم وانطلق شعار الحرية الذي رفعته الطبقة المتوسطة يتحدى القيم السائدة والعلاقات القديمة وبرز هذا الصراع في كل مجال في مجال الأسرة الآباء والأبناء وبرز في مجال الأدب والفكر بين تيارات الفكر المعاصر والثقافة القديمة وفي مجال الأخلاق والعادات .
وقد رصد الأدباء أزمات هذا الصراع وتناقضاته وصوروا المواقف المتباينة من الحضارة الحديثة .
كان موقف بعض الأدباء من الحضارة الحديثة سلبيا إذ كانت رؤيتهم قاصرة فاستبهمت عليهم الظواهر والأسباب كانت المتاعب شديدة والمفاسد كثيرة والآلام ثقالا ولم يميز بعض الأدباء بين الاستعمار وبين الحضارة فالتفتوا إلى الحضارة يتهمونها شرور الاستعمار وآثامه يقول الشاعر رضا الشبيبي :
خداع وكذب واقتراف وقوة وظلم أهذا العالم المتمدن ؟
أن هذه الصورة هي صورة الاستعمار وليست صورة الحضارة ولا التمدن ولكن وعي فريق آخر من الأدباء كان أوسع فجعلهم يقفون مواقف صحيحة من هذه الحضارة فميزوا الجوانب السلبية والايجابية من الحضارة الحديثة ودعوا إلى اخذ الجوانب الايجابية لتطوير المجتمع العربي كتب محمد المويلحي يبدي رأيه في الحضارة الحديثة على لسان شخصية الحكيم في قصته حديث عيسى بن هشام ) لهذه المدينة الكثير من المحاسن كما أن لها الكثير من المساوئ فلا تغمطوها ولا تبخسوها قدرها وخذوا معشر الشرقيين ما ينفعكم ويلتئم بكم واتركوا ما يضركم وينافي طباعكم واعلموا على الاستفادة من جليل صناعاتها وعظيم آلاتها واتخذوا منه قوة تصد عنكم أذى الطامعين وشره المستعمرين .) .
ويحدد توفيق الحكيم السبيل القويم إلى الحضارة الحديثة
كل ألوان المعرفة نأخذها ولا نترك لونا واحدا ما من شعب في هذا ألمترك العالمي الحاضر يغتفر له الجهل بعلم من العلوم أو أدب من الآداب أو فن من الفنون ولن تقوم للشرق نهضة حقيقية إلا إذا أحاط بكل معارف الأرض إحاطة شاملة ثم صهرها في قلبه وأخرجها مرة أخرى للناس معدنا نفسيا يشع أضواء جديدة .وقد صور الأدباء الأزمات الروحية التي تفجرت في نفس الإنسان العربي لدى التقائه الحضارة الحديثة في أوروبا ثم عودته إلى الوطن يحمل تأثيرها في نفسه فكتب توفيق الحكيم روايته عصفور من الشرق وكتب يحيى حقي قصته قنديل أم هاشم وفي كلتا القصتين محاولة لتصوير القلق والضياع والتمزق الذي عاناه كثير من المثقفين العرب عندما وجدوا أنفسهم في قلب هذه الحضارة الغربية الحديثة .
ب- الأخلاق :
عاش الوطن العربي قرونا في ظل المجتمع البدوي والإقطاعي فتأثرت بها أخلاق الناس وعاداتهم لقد فرض الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي على الإنسان العربي حالة من الاستلاب والجمود فانحنت الرقاب للظلم واستكانت النفوس للاضطهاد والذل .
وقد أثارت الأدباء – في مطلع عصر النهضة – هذه الحال من أخلاق الناس التي كونتها ظروف المجتمع على الاستغلال وعلاقاته الإنسانية القاسية فقام الأدباء يصورونها ويكشفون آثارها السلبية في حياة المجتمع ويدعون إلى انتباذها ويستنهضون الهمم للتقدم والتحرر كتب عبد الرحمن الكواكبي يصور هذه الحالة الأخلاقية المتردية في نبرة غضب وتقريع :
وهؤلاء الواهنة عقولهم يحق لهم أن تشق عليهم مفارقة حالات ألفوها عمرهم كما يألف الجسم السقم فلا تلذ له العافية فإنهم منذ نعومة أظافرهم تعلموا الأدب مع الكبير يقبلون يده أو ذيله أو رجله وألفوا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق وألفوا الانقياد إلى المهالك وألفوا أن تكون وظيفتهم في الحياة دون النبات ذاك يتطاول وهم يتقاصرون .
لقد قلبت هذه الحالة الأخلاقية المتردية معاير القيم الإنسانية في مداركهم فصارت الرذائل فضائل وبدت المحاسن نقائص ويرصد الكواكبي ذلك في غضب واحتجاج :وهكذا فان طول الألفة على هذه الخصال قلب في فكرهم الحقائق وجعل عندهم المخازي مفاخر فصاروا يسمون التصاغر أدبا والتذلل لطفا والتملق فصاحة واللكنة رزانة وترك الحقوق سماحة وقبول الإهانة تواضعا والرضا بالظالم طاعة كما يسمون
دعوى الاستحقاق غرورا والخروج عن الشأن الذاتي فضولا ومد النظر إلى الغد أملا والإقدام تهورا والحمية حماقة والشهامة شراسة وحرية القول وقاحة وحب الوطن جنونا. ...)
وتدفع النهضة بعواملها السياسية والاقتصادية والعلمية الفئات المتوسطة لتطفوا على سطح حياة المجتمع نشيطة رافعة راية الحرية على كل صعيد وتكافح لتثبيت مواقعها المادية وهي تسمو إلى عالم المال والشهرة والسلطة لكن وضعها الاجتماعي والنفسي كان هشا لا يحتمل التناقضات في داخله فتتمزق شخصية البرجوازي الصغير وينفصم سلوكه عن كلامه وتكون الازدواجية والانهيارات الروحية ويصبح المجتمع قلقا ضائعا في مضطرب عنيف من القيم والأخلاق المتصدعة ولا يدرك الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي حقيقة هذا الواقع فيمضي بروحه الرومانسية يبحث عن الفضيلة فلا يعثر لها على اثر في مظانها فتتملكه الحيرة من أمرها :
فتشت عن الفضيلة في حوانيت التجار فرأيت التاجر يبيعني بدينارين ما ثمنه دينار واحد فعلمت انه سارق للدينار الثاني فتشت عن الفضيلة في مجالس القضاء فرأيت أن اعدل القضاة من يحرص الحرص كله على إلا يهفو في تطبيق القانون الذي بين يديه هفوة يحاسبه عليها من منحه الكرسي فتشت عنها في كل مكان اعلم انه تربتها وموطنها فلم اعثر بها فليت شعري هل أجدها في الحانات أو في مغارات اللصوص أو بين جدران السجون ؟ . ) .
توفيق الحكيم من برجه العاجي إلى هذا المجتمع فيعروه القلق ويشعر بالعجز في بحثه عن طريق الخلاص :
انه ليخا لجني الآن شيء من القلق إذ انظر حولي فلا أكاد أرى في مصر أثرا لهذه الفئة العظيمة فناموس اليوم هو وطء الفكرة بالأقدام ركضا خلف الجاه الزائف والمال الزائل وإنكارا الرأي والجبن عن إعلانه حرصا على الراحة وإيثار للطمأنينة وهكذا قد خلت صفحة تاريخنا من أسماء العظماء هذه السنوات وعجبت بلادنا بأصحاب الألقاب وحملة الشارات وراكبي السيارات وحق لنا أن نسال هذا السؤال : ما المعجزة التي تنهض هذا البلد وهو على هذا الخلق . . . )
لقد عانت الفئات المتوسطة أزمات عنيفة نتيجة اضطراب القيم الأخلاقية في حياتها وكان نجيب محفوظ ابرع كاتب عربي صور حياة هذه الفئات وأخلاقها مجسدة في سلوكها وأزماتها يقول احمد عاكف بطل رواية خان الخليلي ) :
. . . إذا أردت التفوق في مجتمعنا فعليك بالكذب والرياء ولا تنسى نصيبك من الغباوة والجهل . . . ) .
لقد كان هذا الانهيار الروحي والأخلاقي شاهدا على تفسخ علاقات المجتمع مجتمع الاستغلال والمال وقد صوره الأدباء – كما رأينا – بغضب واحتجاج ودانوه من خلال الفواجع التي حطمت الناس وانتهت بهم إلى مصير مأسوي اليم .
جـ - العادات :
سادت الوطن العربي عادات وتقاليد تكونت في ظل الحياة القبلية والمجتمع الإقطاعي وحالة الجهل , وتلونت هذه العادات بألوان البيئات المحلية وبرزت فيها قسوة العلاقات الاجتماعية وقصور الوعي وتخلفه .
وقد أحس الأدباء وطأة هذه العادات والتقاليد على حياة المجتمع وحركته وتقدمه فكشفوها وعمقوا الإحساس بآثارها السلبية وابدوا مواقف النقد والرفض لها .
فعلى صعيد الأسرة , كان الأب نموذجا للسيد المستبد , له السلطة المطلقة تحوط شخصيته الهيبة المخيفة , فترتعد فرائض الزوجة والأولاد أمامه . اسمه ( السيد ) وهو السيد فعلا ً ومن سواه عليه الطاعة والخضوع , وقد رسم نجيب محفوظ في شخصيته ( السيد ) احمد عبد الجواد صورة للأب القديم :
(( . . . خطر لها – للزوجة – مرة في العام أول أن تعلن نوعا ً من الاعتراض المؤدب على سهره المتواصل , فما كان منه إلا أن امسك بأذنيها وقال بصوته الجهوري في لهجة حازمة :
أنا رجل . . أنا الآمر الناهي لا اقبل على سلوكي أية ملاحظة وما عليك إلا الطاعة فحاذري أن تدفعيني إلى تأديبك .
فتعلمت من هذا الدرس وغيره مما لحق بها أنها تطيق كل شيء إلا أن تحمر لها عين الغضب , فعليها الطاعة بلا قيد أو شرط , وقد أطاعت وتفانت في الطاعة حتى كرهت أن تلومه على سهره ولو في سرها , ووقر في نفسها أن الرجولة الحقة والاستبداد والسهر إلى ما بعد منتصف الليل صفات متلازمة لجوهر واحد . . . )) .
وعلى صعيد المجتمع والحياة العامة فيه , كانت تحكم سلوك الناس وتصرفاتهم عادات وتقاليد قديمة فاسدة , بلغ بعضها في تأثيره مدى الجريمة والدمار .
كانت عادة الثار في الريف تمزق حياة المجتمع وتعقد مشكلاته وقد عالجها توفيق الحكيم في مسرحيته القصيرة ( أغنية الموت ) وكشف أبعاد هذه العادة الذميمة في حياة الأفراد والجماعة . لقد فجعت بطلة المسرحية ( عساكر ) مرتين بهذه العادة فجعت في أول حياتها الزوجية بمصرع زوجها انتقاما ً منه وفجعت في النهاية بابنها لإصرارها على أن يأخذ بثأر أبيه , فدفعت ابن أختها لقتله لأنه رفض أن يجاري رغبتها في الانتقام لأبيه , لقد جعلتها عادة الثار إنسانا ً شرسا ً يستبد به ظمأ رهيب للدم والموت .
وفي المدن تفشى القمار بين الناس , وزرع الدمار في حياة الأسرة وشرد أبناءها وجلب لهم الماسي . قال نجيب حداد ينتقد هذه العادة ويكشف أبعاد ضررها :
هو الداء الذي لا برء منه وليس لذنب صاحبه اغتفار
تشاد له المنازل شاهقات وفي تشييد ساحتها الدمار
نصيب النازلين بها سهاد فإفلاس فيأس فانتحار
وتفشت عادة التسول في الطبقات الفقيرة , فكان بعض الفقراء يؤثرون التسول على العمل والسعي , وفي السبيل أن يستدر المتسولون عطف الناس عليهم , كانوا يشوهون أجسامهم بالعمى أو الكسر أو البتر لخلق عاهة تؤثر في شعور الناس وتحملهم على التصدق , وقد رسم نجيب محفوظ صورة لـ ( زيطة ) صانع العاهات في روايته ( زقاق المدق ) :
(( كان يصنع العاهات , لا العاهات الطبيعية المعروفة , ولكن عاهات اصطناعية من نوع جديد , يقصده الراغبون في احتراف الشحادة , فبفنه العجيب يصنع لكل ما يوافق جسمه من العاهات . يجيئونه صحاحا ً ويغادرونه عميانا ً أو كسحانا أو احدابا أو مبتوري الأعضاء أو الأرجل . . ) .
وفي مجال المناسبات الخاصة في الحياة كالولادة والزواج أو المرض والوفاة . كانت هناك عادات وتقاليد تحكم هذه المناسبات . لقد كانت العادات والتقاليد التي تتبع في معالجة المرض موجعة فاجعة . كانت الأمراض تعالج بأساليب بدائية تنتهي إلى التشويه والأذى . كتب يحيى حقي في قصته ( قنديل أتم هاشم ) يصور العادة الشعبية في علاج الرمد في مصر : ورأى إسماعيل أمه وفي يدها زجاجة صغيرة , وترقد فاطمة على الأرض وتضع رأسها على ركبة الأم فتسكب من الزجاجة في عينيها سائلا تتأوه منه فاطمة وتتألم , سألها إسماعيل :
- ما هذا يا أمي ؟
- هذا زيت قنديل أم هاشم تعودت أن أقطر لها منه كل مساء . لقد جاءنا به صديقك الشيخ دردريري , أنه يذكرك ويتشوق إليك . هل تذكره أم تراك نسيته ؟
قفز إسماعيل من مكانه كالملسوع . أليس من العجيب انه – وهو طبيب عيون – يشاهد في أول ليلة من عودته بآية وسيلة تداوى بعض العيون الرمد في وطنه ؟
تقدم إسماعيل إلى فاطمة فأوقفها وحل رباطها وفحص عينيها فوجد رمدا قد اتلف الجفنين واضر بالمقلة , فلو وجد العلاج المهدئ المسكن لتماثلت للشفاء ولكنها تسوء بالزيت الحار الكاوي , فصرخ في أمه بصوت يكاد يمزق حلقه :
حرام عليك الأذية حرام عليك . أنت مؤمنة تصلين فكيف تقبلين أمثال هذه الخرافات والأوهام ؟
وصمتت أمه وانعقد لسانها تحاول أن تتمتم ولا تبين . . ) .
على أن مد هذه العادات والتقاليد قد اخذ ينحسر من حياة الناس ويضيق نطاقه بتطور الحياة وانتشار الثقافة والوعي الصحي والاجتماعي ونقد الأدباء والمفكرين لها فاسقطوا مكانتها من النفوس وحطموا أسس الاعتقاد بها .
3- الشقاء الإنساني :
اخذ الأدباء – في هذه المرحلة – يتأثرون بشقاء الإنسان وتهز وجدانهم مشاهد البؤس , فصوروها في مظهر تعاطف مع الضعفاء واحتجاج على الظلم والفقر , وقد تميزت معالجتهم لمشكلات الشقاء بروحها الإصلاحية إذ كان الأدباء يتوجهون إلى الحكام يستصرخون ضمائرهم للعمل على تخفيف وطأة الشقاء عن هؤلاء المساكين ولم تكن معالجتهم تتجاوز ذلك إلى البحث عن أسباب وجودها والتحريض على تغييرها .
1- شقاء الكادحين :
شقاء الفلاح قديم قدم الإقطاع والاستبداد مثل على أرضنا العربية أقسى مأساة للإنسان , لقد حمل الفلاح في حياته كل الظروف القهر السياسي والاجتماعي , صحب الأرض كدا وعملا وعطاء واستنزف عمره وعافيته في جهد لم يجن ثمراته لقد أعطى ولم يأخذ حتى القليل فظل محروما مظلوما . كانت أول صيحة احتجاج صرخة جمال الدين الأفغاني في أحد مجالسه نادى بها الفلاحين قائلا ً :
(( عجبت لك أيها الفلاح , تشق الأرض بفأسك باحثا عم رزقك لماذا لا تشق بهذا الفأس صدور ظالميك . . )) .
وقد تأثر تلميذه عبد الله النديم بدعوته فتركزت في بؤرة شعوره مشكلة الفلاح فاخذ يعرض لها من حين إلى آخر في خطبه ومقالاته . كتب في إحدى مقالاته يطرح المشكلة على هذا النحو مخاطبا ً رجل الإقطاع :
(( تعال فانظر إلى سلم رفعتك ومعدن حياتك ومنبع ثروتك , إلى أخيك – استغفر الله – خادمك الفلاح , انظر إلى ثوبه المهلهل ولبدته التي لا تستر يافوخه ورغيفه الذي لا تسكره قوتك وطعامه الذي تعاف النظر إليه وهو يسقي الزرع والطين إلى فخذيه والشمس تشوي وجهه وجسمه يقطع يومه في عذاب وعمل وهو صاحب الفضل عليك , وأنت لا تنظره إلا بعين مقت ولا تعامله إلا بيد الاهانة , ولسان السب . . . )) .
على هذا النحو العاطفي أخذت المشكلة تطرح في لهجة استعطاف وتنبيه لإصلاح الحال , وقد عمل على ذلك مواقف الأدباء المثالية ورؤيتهم الرومانسية لطبيعة المشكلة , لقد نظروا إلى المشكلة في ظاهرها فرأوها جوعا ً وبؤسا ً , ولم ينظروا إليها في حقيقتها أنها استغلال الإنسان للإنسان وقد طرق الأدباء المشكلة من خلال هذه الرؤية وتناولوا منها هذه القضايا :
أ- صوروا واقع عمل الفلاح وظروف حياته , وكشفوا المفارقة القاسية بينهما . انه يعمل ويكدح لا تفتر له عزيمة ولا يهدأ له نشاط , بالرغم من ظروف القهر التي تسحقه . فهو ينتهي من عمله وتعبه إلى بؤس ما بعده بؤس , في المأكل والمشرب والمسكن , كتب أديب اسحق يفضح هذه المفارقة : (( تخيلتكم بين السواقي والأنهار تشتغلون سحابة اليوم لتجتمعوا على القصعة السوداء , فتلتهموا فتات الشعير , وتنكبوا على الترعة فتشربوا الماء الكدر , ثم تعودون إلى الأرض الممرعة تزرعونها والغلة الوافرة تحصدونها لتنصرفوا إلى أكواخ بالية تشبه قبورا ً توالت عليها السنون فتجتمع من حولكم صغار لا تعرف أبدانهم الوقاء , ونساء ٌ تعوضن الأقذار عن الكساء , تحصدون البر ولا تأكلون وتملكون الأرض ولا تسكنون . . . ))
وكان بعض الأدباء يتمادون في الانسياق معه روحهم الرومانسية فيصورون حياة الفلاح البائسة في إطار الطبيعة الجميلة ويخلقون جوا ً شاعريا ً مضللا ً ويجعلون جمال الطبيعة تعويضا ً عن قبح حياة الفلاح وحرمانه فيفرعون المشكلة من جوهرها وهو الحرمان كما فعل الدكتور محمد حسين هيكل في قصته ( زينب ) ومحمد عبد الحليم عبد الله في روايته ( بعد الغروب ) . كتب الدكتور هيكل :
(( في هاته الليالي الساهرة هاته الليالي البديعة يموج في جوها نسيم الصيف البليل وتتلالا في سمائها الكواكب اللامعة يقوم جماعة الفلاحين فيعتاضون بها عما يناله المترفون من أسفارهم إلى أجمل بقاع الأرض , وعن دثرهم الناعمة يستعيضون القمر الساهر , يكلؤهم بحراسته وفي جوف الظلمة الصامت الأمين يرسلون بآمالهم وأمانيهم ويحمل هواؤها الحلو أغانيهم على جناحه ويملا بها السموات والأرض . ) .
ب – وفضحوا قوى القهر السياسي والاجتماعي وأساليبها التي سحقت الفلاح . كتب عبد الله النديم يصور طريقة تحصيل الضرائب ونهب ثمرات جهده واضطهاده :
(( كانت طرق تحصيل الضرائب تقشعر لها الأبدان , قوامها الإذلال والاهانة والإيلام , فإذا هبط المأمور قرية الأشراف على تحصيل الضرائب , طلب سكانها واحدا بعد واحد , فمن دفع نجا من عذاب اليم ولا يناله إلا بعض السياط تشبع نهم المأمور للضرب , ومن قصرت يده ألقاه الجلادون على الأرض وقطعوا أهابه بالسياط فإذا نجا من الموت أودع السجن . . )) .
جـ - على أن الأدباء صوروا الفلاح سلبيا مذعنا لواقعه البائس مستسلما ًللظلم لا يدفع عن نفسه اعتداء ولا يرد تسلطا ً . كتب الدكتور محمد حسين هيكل يعلل هذا الاستسلام تعليلا ضحلا قاصرا ً :
(( قد تعودوه كما تعوده آباؤهم من قبلهم تعودوه من يوم مولدهم فانتقل إليهم بالوراثة وبالوسط , وتعودوا ذلك الرق الدائم ينحنون لسلطانه من غير شكوى ومن غير أن يدخل إلى نفوسهم قلقا ً , يعملون أبدا ً من غير ملال ويرقبون بعيونهم نتائج عملهم ثم يقطف ثمرتها سيد مالك . . . )) . وهكذا قسا هؤلاء على الفلاح بهذه النظرة – مع عطفهم عليه – فلم يروه رؤية واقعية صحيحة , ولم يروا تطوره التاريخي . لقد شهد الوطن العربي عددا غير قليل من الحركات الثورية العفوية قام بها الفلاحون يعبرون عن رفضهم للاستغلال والظلم والقهر , لكن أكثر الأدباء بروحهم المثالية لم يدركوا مضمونها الاجتماعي ولا معناها التاريخي .
أما معالجة الأدباء – في هذه المرحلة – لمشكلة شقاء العمال فقد كانت سطحية عابرة أيضا ً , لقد شهدت بدايات هذا القرن تكون الطبقة العاملة مع دخول الآلات الحديثة , وكانت ظروف العمل قاسية وحياة العمال البائسة . قال مصطفى لطفي المنفلوطي يصور الأحوال السيئة التي يعاني منها العامل في مصر فينطق بلسان أحد هؤلاء الكادحين سوء حاله :
اقضي نهاري مقبلا ً مدبرا ً كأنني الآلة في المعمل
وصاحب المعمل لا يرضي مني بغير الفادح المثقل
فإن شكوت النزر من أجره برح بي شتما ولم يجمل
حتى إذا عدت إلى منزلي وجدت سوء العيش في المنزل
وعالج عبد الحميد جودة السحار في روايته ( الشارع الجديد ) حياة الطبقة العاملة وكانت رؤيته غير واضحة شأنه شأن غيره من الأدباء الذين آثارهم شقاء العمال . . لقد اكتفوا بتصوير مظاهر الشقاء والحرمان والضياع في حياتهم فلم يلحظوا الوعي الذي بدأ يظهر لديهم , ويبرز في حركاتهم الاضرابية العفوية والمنظمة , فجهلوا معناها وتجاهلوا أمرها , وراحوا يسدون النصائح إلى هؤلاء العمال بالصبر على التعب والإتقان في العمل والرفق في طلب الحق . كما فعل احمد شوقي :
أيها العمال افننوا العمر كدا ً واكتتابا ً
واعمروا الأرض فلولا سعيكم أمست يبابا
اطلبوا الحق برفق واجعلوا الواجب دأبا
واستقيموا يفتح الله لكم بابا ً فبابا
2- شقاء الأولاد :
إن بؤس الفقراء والمادحين والمصائب التي تجتاح حياتهم , تظهر آثارها في حياة الأولاد مجسمة صارخة , تخرج فيها المشكلة من إطار المأساة الفردية إلى نطاق الكارثة الاجتماعية .
وقد انفعل الأدباء بعمق بشقاء الأولاد وعالجوه معالجة وافية فصوروا مظاهره ودعوا إلى رعاية الطفولة في كل مناسبة .
إن مشكلة الأولاد تبرز في مظاهر متنوعة لكنها جميعا تجري إلى نهاية واحدة وهي ضياع الأولاد وترديهم في مهاوي الرذيلة والجريمة وانتهاؤهم إلى السجون أو القبور . إن تفرق الأبوين الفقيرين كارثة مدمرة لحياة الأولاد تعمق مأساة الحرمان المادي وتجعل لها أبعادا روحية قاسية إذ يفقد الأولاد حنان الأم وحدب الأب . وقد عالج الدكتور طه حسين في قصته ( صالح ) هذه المشكلة . لقد كانت طفولة هذا المسكين غير طفولة رفيقه في المدرسة ( أمين ) .
هذا عاش في بيت سوي ميسور يظفر من أهله بالهدايا وقطع السكر , ويلبس أجمل الثياب , أما صالح فقد تفرق أبواه وساءت حاله وشقي بعيشه :
(( نظر الصبي أمين إلى صالح فراعه ثوبه الممزق قد ظهر منه صدره أكثر مما ينبغي , وقد انشق عن كتفيه فظهرتا نابيتين , والثوب مع ذلك رث قذر يظهر من جسم الصبي الصغير أكثر مما يخفي , كأنه أسمال , قد وصل بعضها ببعض وصلا ما , وعلقت على هذا الجسم الضئيل الناحل تعليقا ما لتستر منه ما تستطيع , وليقال إن صاحبه لا يمضي به متجردا ً عريان , ثم رفع الصبي رأسه إلى وجه صالح فرأى بؤسا شاحبا ً يشبع فيه ورأى ابتسامة فيها كثير من حزن وكثير من أمل )) .
وكان الطفل صالح يلقى في الكتاب قسوة من معلمه بالضرب المبرح لأنه فقير , وكان حساسا ً فلم يحتمل قسوة الحياة فأردى نفسه . ) .
وعالج المشكلة نفسها مصطفى لطفي المنفلوطي بأسلوبه الرومانتيكي في قصة ( الشهيدتان ) . وإذا كانت أحداث القصتين تختلف فإن مصير الولدين فيهما واحد . . لقد هجر الأب زوجه وانتزع طفلته منها فلم تطق الطفلة صبرا على فراق أمها , فذوى عودها وماتت . . وماتت أمها حزنا ً عليها .
وليس موت أحد الوالدين بأقل شأنا ً من فراقهما . إن مشكلة الأيتام الفقراء في المجتمع حادة . أنهم يعانون الحرمان بشكليه المادي والروحي , فتتمزق نفوسهم وتتفتح إمامهم مسارب الشقاء والضياع . لقد خرج الشاعر معروف الرصافي صباح العيد فرأى يتيما غريبا ً عن فرحة العيد , فقال يصور ألمه وبؤسه . إن وجوده يفقد العيد معناه ويجعله مجالا لتناقضات الحياة :
وقفت أجيل الطرف فيهم فراعني هناك صبي بينهم مترعرع
عليه دريس يعصر اليتم ردنه فيقطر فقر من حواشيه مدقع
يليح بوجه للكآبة فوقه غبار به هبت من اليتم زعزع
له رجفة تنتابه وهو واقف على جانب والجو بالبرد يلسع
ويأتي تشرد الأولاد وجها ً آخر لشقاء الأولاد , إن الجوع الذي ينهش الأحشاء يدفع البطون الصغيرة أن تبحث عن لقمتها خارج البيت حيث الرذيلة والجريمة , يتسكع الصغار مشردين بلا جناح يظلهم ولا كنف يحميهم من عوادي الفساد , فراشهم الأرض العراء , ودثارهم جو الفضاء , ومالهم في الطريق العاثر إلى الموت أو الجريمة . قال علي الجارم يصور مأساة هؤلاء المساكين :
كم شارد في مصر يا كثرة من عدد يسخر من حصره
مدرسة النشل وسل المدى أسسها الشيطان في حجره
وقد ألقى الأدباء وزر شقاء الأولاد على المجتمع وحملوه مسؤوليته , ورأوا في ماساتهم كارثة وطنية واجتماعية . قال الرصافي يصور شقاء الأولاد وأبعاده الوطنية والإنسانية:
ومن اللؤم أن ترى عندنا الأطفال تفنى لأنهم فقراء
لا غذاء في جوفهم لا كساء لا وطاء من تحتهم لا غطاء
ولعل الطفل الذي مات منهم مات عقل بموته ودهاء
وعالج الأدباء هذه المشكلة بالدعوة إلى رعاية الأطفال والعناية بأمرهم لإنقاذهم من ويلات الشقاء وإنقاذ الوطن من عواقب ضياعهم الوخيمة . قال حافظ إبراهيم يدعو إلى دعم الجمعيات الخيرية التي تعنى بشؤون الأولاد :
أنقذوا الطفل في شقوة الطفل شقاء لنا على كل حال
إن يعش بائسا ً ولم يطوه البؤس يعش نكبة على الأجيال
أيدوا كل مجمع قام للبر بجاه يظله أو بمال
3- شقاء المرأة :
كان الوضع الاجتماعي للمرأة في الوطن العربي سيئا ً أفسدته عهود طويلة من التخلف والظلم وجعلها ترزخ تحت وطأة ثقيلة من علاقات المجتمع الإقطاعي وما فيها من استبداد واستعباد وقهر , فعاشت امة ذليلة ليس لها كيان اجتماعي حر تتحقق فيه إرادتها وشخصيتها الإنسانية . كانت خاضعة لوليها يتحكم بها ويقرر مصيرها في إطار الأوضاع والعلاقات السائدة المستبدة , فكانت حياتها مأساة إنسانية تجسدت فيها كل عوامل القهر والظلم وبرزت في أحداث درامية قاسية .
وقد أبدى الأدباء موقفا إنسانيا ً وايجابيا ً من واقع المرأة فاحتجوا على المظالم التي تثقل حياتها ودعوا إلى إصلاح وضعها الاجتماعي وتحريرها فصوروا مظاهر شقائها ودانوا العوامل التي تسبب هذا الشقاء .
أ- كانت العلاقات الاجتماعية القديمة تحزم المرأة أن يكون لها كيان مستقل فكان موت الأب أو الزوج ضربة قاصمة لحياة المرأة في الطبقات الفقيرة والمتوسطة إذ يحرم الأسرة معيلها ويرديها في ضياع اقتصادي لا يلبث أن يحمل إلى حياة المرأة في كثير من الأحيان ضياعا نفسيا ً واجتماعيا , إذ تشتد الحاجة ويثقل العوز فتتفجر المأساة . وقد حكى الشاعر بشارة الخوري في قصته الشعرية الواقعية (من مآسي الحرب ) حكاية فتاة طاحت المجاعة بوالديها وتركا لها أخا صغيرا فحطمت الحاجة حياتها إذ استغل متصرف جبل لبنان شقاءها وغدر بها , وحكى في قصته الشعرية ( الريال المزيف ) مأساة الزوج التي انتزعت الحرب زوجها من البيت وتركتها وابنتها تواجهان الفاقة والبؤس والضياع .
ب- وكان جهل بعض الآباء أو فقرهم يدفعهم إلى تزويج بناتهم من رجال غير أكفاء لهن سنا ً أو علما أو خلقا ً فتستحيل حياة المرأة مع زوجها غير الكفء جحيما ً وعذابا . كتب مصطفى لطفي المنفلوطي يدين هذه العقلية لدى الأهل ويكشف دوافعها :
(( متى بلغت الفتاة سن الزواج , سواء أكان ذلك على تقدير الطبيعة أو على تقدير أولئك الجهلاء , استثقل أهلها ظلها وبرموا بها , وحاسبوها على المضغة والجرعة والقومة والقعدة , ورأوا أنها عالة عليهم وأن لا حق لها في العيش في منزل لا يستفيد من عملها شيئا ً , وودوا لو طلع عليهم وجه الخاطب أي خاطب كان يحمل في جيبه أية البشرى بالخلاص منها , إن قوما هذا مبلغ عقولهم وقلوبهم من القسوة , وهذه منزلة فلذات أكبادهم من نفوسهم لا يمكن بحال من الأحوال أن يفاوضوها في اختيار الزوج أو يحسنوا الاختيار لها حين يختارون . . . )) .
وقد دان الشاعر احمد شوقي هذا الزواج في مسرحيته ( الست هدى ) على لسان أحد الشخصيات في المسرحية , حين أدار هذا الحوار بين الست هدى وبهية إحدى فتيات الجيران :
الست هدى : وأنت يا ابنتي ؟
بهية : خطبت من زمن !
الست هد=ى : من زمن . . ؟ تبارك الله لمن ؟
بهية : لضابط في الجيش ! .
الست هدى : ضابط ؟
بهية : اجل .
الست هدى : أحسنت أحسنت تخيرت الرجل !
بهية : ما اخترت يا عمتي ولكن أبي وأمي تخيرا لي
بنات مصر يخطبن لكن لا يتناقشن في الرجال
نباع يا عمتي ونشتري ما نحن إلا عروض مال ))
وأثار الدكتور عبد السلام العجيلي في قصته ( قطرات دم ) هذه المشكلة , لقد كانت بطلة القصة فتاة مثقفة من أسرة ميسورة حملها أهلها على أن تتزوج من رجل ثري جاهل . تقول الفتاة :
(( كيف تقدر حالي يا دكتور حين ابلغوني ذاك . أنا أتزوج شيخا ً عمره ستون سنة يفكر على طريقة القرون الوسطى . . . )) .
ورفضت الفتاة هذه الصفقة ودفعت بنفسها إلى التهلكة :
(( لذلك فقد نشدت ذات مساء خلاصها من المصير الأسود الذي تساق إليه بأن ألقت ينفسها في حضن البحر , إلا أن سابحا كان قريبا ً منها خف إليها وعاد بها إلى الشاطئ يسألها عن الدافع على جريمتها النكراء . . . ) .
ج- وكان الطلاق في بعض الأحيان , سيفا ً قاتلا ً في يد الكثير من الجهلاء يدمرون به حياة كثير من الزوجات المسكينات بدافع من الجهل والطيش والنزوات العابرة , وقد عالج الرصافي وجها ً لهذه المشكلة في قصته الشعرية ( المطلقة ) فدان جهل الأزواج وأساليبهم الطائشة إذ يوقعون الطلاق في كثير من الحالات من غير سبب أو علم من الزوجة , هذا زوج ارعن اقسم بالطلاق في حالة غضب وخلاف مع بعض صحبه , فحطم حياة زوجه بحماقته وجهله .
فغاضب زوجها الخلطاء يوما ً بأمر للخلاف به نشوب
فأقم بالطلاق لهم يمينا ً وتلك آلية خطأ وحوب
وطلقها على جهل ثلاثا ً كذلك يجهل الرجل الغضوب
فظلت وهي باكية تنادي بصوت منه ترتجف القلوب
3- الأدب الاجتماعي الثوري الحديث
اخذ المجتمع العربي – خلال الحرب العالمية الثانية وما تلاها من سنوات عاصفة – يشهد تطورات سياسية واجتماعية عميقة راحت فيها حركات الكفاح السياسي تأخذ محتوى اجتماعيا , فالتحم التحرر السياسي بالتحرر الاجتماعي في رؤية قومية إنسانية للحياة استوعبت مصالح الجماهير الكادحة والبناءة للحياة والمجتمع .
وقد اشتد التآمر الاستعماري – في هذه المرحلة – على الوجود العربي وتعاظم شأن البرجوازية الكبيرة وأسقطت من يدها راية الكفاح الوطني واتجهت إلى المساومة مع الاستعمار , فازدادت وطأة استغلالها للجماهير وتفاقم تفسخ العلاقات الاجتماعية الإقطاعية , وتعمق الوعي الاجتماعي واتسعت آفاقه لدى الجماهير الكادحة فاشتد إحساسها بواقعها , واقع البؤس والظلم والفساد وصار المثقفون من الطبقات المتوسطة والفقيرة يشعرون بعجز النزعات الإصلاحية وقصورها وعقم صيحات الغضب العاطفي والاحتجاج واخذ وعيهم يدرك ضرورة النضال والثورة لتغيير العلاقات وإقامة مجتمع جديد تحكمه علاقات إنسانية عادلة .
لقد أدت هذه التطورات إلى تعمق التناقضات الاجتماعية وتأجج نارها في صراع حاسم نهضت فيه الجماهير تزيح عن كاهلها نير التسلط والاستغلال فاصطدمت قوى التحرر من الكادحين والمثقفين الثوريين بقوى الاستغلال من المستعمرين والمستغلين .
وبدأت الجماهير المتوسطة والكادحة تفرز من صفوفها أدباء نما لديهم الوعي الثوري وأدركوا دورهم التاريخي في معارك التحرر والمصير , فحملوا مسؤولياتهم بشرف وشجاعة تجاه وطنهم وأمتهم وتسلحوا برؤية اشتراكية للحياة تلتزم مصالح الجماهير وتجعل ذات الأديب تلتحم بوجدان الجماعة , فتصبح هموم الأدباء الخاصة جزءا ً من هموم الجماهير العامة ويتجاوزون سلبية الاستعطاف والاحتجاج فيدخلون ميدان الكفاح والعمل , إن صيحات الغضب ودموع الحزن والرثاء عقيمة لن تغير شيئا ً , بل كثيرا ما تردي في هوة اليأس والتشاؤم فلا بد من الالتحام الواعي بالجماهير والنضال النشيط معها للتحرر والخلاص . يقول الشاعر العربي المصري كمال عبد الحليم .
يا رفيقي في العري والجوع والكد كفانا عهود عري وجوع
ذهب العمر كالخريف بوادينا وماتت أزهارنا في الصقيع
أنا ابكي وأنت تبكي ولكن لن يفل الحديد غير الحديد
فانطلق وانفجر معي يتعالى ذلك الصوت صارخا ً بالوعيد
ويمضي الأدباء يبشرون بالثورة الشاملة . الثورة القومية ذات المضمون الاجتماعي الإنساني التي تنهي التخلف والظلم والفساد وتقيم مجتمعا ً عربيا ً جديدا ً تسوده علاقات اشتراكية جديدة يخرج فيه الشعب من ليل الشقاء إلى حياة حرة كريمة زاخرة بالحب والعمل والتعاون .
وقد نهج الأدباء الثوريون في أدبهم منهج الواقعية الجديدة , فصوروا حياة الجماهير الكادحة من موقف نشيط يلتزم قضايا هذه الجماهير , وفي رؤية اشتراكية ترى الحياة وتصورها في حركتها التاريخية الثورية , فتدرك ارتباط الظواهر الاجتماعية بالبناء العام للمجتمع , وتعمق الإحساس بضرورة تغيير البناء وعلاقاته المشوهة .
إن أدب الواقعية الجديدة وسيلة لمعرفة الحياة معرفة موضوعية ولفهم جوهر العلاقات الاجتماعية السائدة , بفضح جوانب السلبية المتخلفة , وكشف العناصر الايجابية الجديدة وتعميمها يجسدها الأديب في صورة البطل الايجابي الذي يمثل الجماهير التي نهض فيها الوعي الثوري وأخذت تحس بواقعها وترفضه فخرجت من حالة السلبية والركود لتدخل في صراع الحياة والعصر مصممة على الخلاص من واقعها القاسي , ومناضلة بعناد لبناء حياة حرة جديدة ينحسر فيها ليل الظلم والتخلف ويشرق فيها فجر الحق والعدل والسعادة .
وقد تفاوت مستوى الإبداع الفني لدى الأدباء في هذه الطريقة الجديدة فتعثر بعضهم في فهم طبيعة الصراع الاجتماعية , وأسرع بعضهم بالبطل الايجابي إلى النصر عبر مصاعب مصغرة تجاوزها بكفاح يسير , فيه الكلام الحار عن النضال أكثر مما فيه من ممارسة وعمل , وابرز الجوانب التي تناولها الأدباء بهذه الطريقة هي :
وعي الجماهير الكادحة وكفاحها :
كان الأدب الاجتماعي الإصلاحي يرى الكادحين رؤية قاصرة , فيرى مظاهر الشقاء من جوع وبؤس ومرض ويرثي لهم بعطف ويصورهم خانعين لواقعهم باستكانة وضعف .
لكن أدباء الواقعية الجديدة تسلحوا برؤية اشتراكية , فعالجوا مشكلات الجماهير الكادحة معالجة ايجابية شاملة , فنظروا إلى واقع الكادحين نظرة عميقة استطاعوا أن يلحظوا فهيا الجديد الذي اخذ يتولد ويظهر في حياة هؤلاء البائسين , انه الإحساس العفوي بالألم والشقاء وتطوره إلى وعي ثوري , فصور الأدباء كد الكادحين وعملهم في ظروف الاستغلال والاستلاب القاسية وابرزوا وعيهم وتذمرهم في حركات المقاومة لقوى القهر السياسي والاجتماعي , وعمموا هذا التحرر في أبطال ايجابيين يجسدون الروح الجديدة روح النضال والنزوع إلى التحرر وقد تناول الأدباء ذلك في مختلف وسائلهم الفنية التعبيرية .
كانت استجابة الشعراء لذلك التطور سريعة ومباشرة , فصوروا نهوض الوعي لدى الجماهير لكفاح ثوري ترفض فيه بوعي واقعها المتخلف المثقل بالمظالم والمفاسد . قال وصفي القرنفلي يصور وعي الجماهير الفقيرة لواقعها وفهمها لأسباب ماساتها , لقد خرجت من سراديب الذل والقناعة إلى ميادين الرفض والكفاح :
فقراؤنا قد حطموا حكم القناعة واستفاقوا
الجوع ليس من السماء فمن إذا ؟ وهنا أفاقوا
ومضوا فمن متسولين
على الرصيف لثائرين
يتناقشون ويضغطون
على الشفاه ويسألون
الجوع . . . صنع الناهبين الشعب , صنع الأثرياء
اخذوا المعامل والحقول , وطوقونا بالقضاء
اسمع هدير الكادحين
الموت للمستعمرين
الموت للمستثمرين
ويعمم محمد الفينوري هذا الوعي وهذا الكفاح , فيبرزهما في حركات ملايين الكادحين , لقد نهضوا في أطراف الوطن العربي من تحت نير الاستغلال يرفضون علاقات المجتمع القديم , ويناضلون لبناء مجتمع عربي جديد , إنهم في بعث جديد :
الملايين أفاقت من كراها ما تراها ملأ الأفق صداها
خرجت تبحث عن تاريخها بعد أن تاهت على الأرض وتاها
حملت افؤسها وانحدرت من روابيها وأغوار قراها
فانظر الإصرار في أعينها وصباح البعث يجتاح الجباها
وعالج الكتاب هذا الواقع الكفاحي الجديد في الرواية القصصية فابرزوا الوعي من خلال أشخاص يكدحون ويتألمون ويشعرون بالمظالم التي تثقل حياتهم والأخطار التي تتهددنا , فإذا هم يتذمرون ويتضامنون ويخوضون معارك النضال يقاومون فيها قوى الاستغلال ويدافعون عن مصالحهم الاجتماعية وكرامتهم الإنسانية . لقد كتب الأديب العربي المصري عبد الرحمن الشرقاوي رواية ( الأرض ) صور فيها كفاح الفلاحين وتمسكهم بالأرض رغم عوادي الطبيعة والظلم الاجتماعي . . فالأرض يتهددها الجفاف بالدمار والموت ويتهددها الإقطاع بالاستلاب , وينهض الفلاحون للدفاع عن الأرض , يكدحون ويشقون لمقاومة الجفاف , ويدخلون في معارك مع قوى القهر السياسي والاجتماعي , فيقف الكادحون في جبهة والإقطاع وزبانية السلطة وجيش الاحتلال في جبهة أخرى , فتتحدد المواقف وتنفرز القوى الاجتماعية في مواجهة تاريخية تبين اتجاه مسيرة التطور .
ويجد الكاتب هذا الوعي في بطل ايجابي هو ( عبد الهادي ) إذ يدرك هذا البطل أن أسلوب الشكاوى من الظلم والاستعطاف لا جدوى منه وأن أسلوب المقاومة والصراع مع السلطة , هو الأسلوب الوحيد الذي يجب أن تدخل فيه القرية . إن عبد الهادي رجل القرية ومصدر كبريائها وأشجع رجالها وأكثرها جرأة وأقواهم بدنا ً يعبر عن عواطفهم بمواويله الحزينة , وشهامته مضرب المثل , يملك فدانا ً يتمسك به ويعمل فيه ويسقيه بعرقه ويجد فيه منبع الكثير من صفاته ورجولته (( إن هذه الأرض الواسعة التي تمتد إلى جواره لتملؤها نفسه إحساسا ً بالثبات والرسوخ والشرف )) . ويصر الكاتب محمد صدقي في قصته ( أمينة ) وعي العمال وكفاحهم من اجل مطالبهم ودخولهم في معارك مع قوى الاستغلال . إن الظلم الذي كان العمال يعانون منه دفعهم إلى أن يقرروا الإضراب , يقول البطل الذي كان ينظم الإضراب ويدرس حركته مع رفاقه :
((كنا نفكر في كل شيء كنا نعد لكل احتمال منتظر موقفا ً واضحا ً منه , شريفا ً حازما ً يرعى مصالح العمال . لم نترك صغيرة ولا كبيرة دون بحثها , فالدروس التي تعلمناها من تاريخ نضالنا خلال سنين طويلة كانت في تلك اللحظة مائلة حية كلها أمام أعيننا . )) .
(( وحدث الإضراب حدث كما اتفقنا تماما ً وكانت هناك مكاسب لكن كما يحدث في كل إضراب وجدت نفسي آخر الأمر وراء قضبان من حديد ومن بين قضبان النافذة الحديدية الباردة كنت أرى أقدام زملائي العمال عند أعلى شارع النيل والأزقة المتفرعة منه , وقد بدؤوا يملئون الطريق . أرى أقدامهم من بعيد حافية وفي أحذيتها وهم قادمون يخترقون ضباب الصباح بوجوههم السمر ذاهبين إلى المصنع بعد أن نجح الإضراب , ألوف من الأقدام كانت تقترب , تزحف جرارة عبر الطريق العريض تتضح أمامي شيئا ً فشيئا ً بأيدي أصحابها الخشنة وصدورهم العريضة ورؤوسهم وهم يقتربون . أرى وجوههم السمر القوية والصفر الهزيلة فاعرف بعضهم , اعرف الكثير منهم , أكاد أناديهم بأسمائهم أكاد أصيح بهم وهم ذاهبون إلى المصنع يديرون الآلات التي هشمت لحمي واستنزفت دمي وضاعت بين ضجيجها أيام حياتي خليطا ً من ساعات الكفاح والعذاب . )) .
ولم يكن عطف الأدباء على الكادحين والتزامهم لقضاياهم رخيصا ً فقد عانى الأدباء اذاة الاضطهاد والسجن والموت والمطاردة , وبرز في الواقعية الجديدة لون جديد هو أدب السجون , صور فيه الأدباء تجارب كفاحهم من وراء القضبان , فابرزوا معاني التحدي لقوى القهر , والصمود في وجه الطغيان والثقة بانتصار قضية الشعب وانهيار قوى الظلم مهما طال المدى , قال سليمان العيسى ينشد أغنية التحدي من وراء القضبان:
هذا هو السجن الرهيب فهل تراه أحس ما بي ؟
أتراه يبصر سورة حمراء تومئ بالحساب ؟
إني لأنذره – وسوط الموت فوقي – بالخراب
إني لأنذره واجهل كم يطول به غيابي
للموت ما رفع الطغاة من السدود وللتباب
مجتمع عربي جديد :
تصعد إحساس الكادحين بالآم البؤس والشقاء فصار دافعا إلى النضال ومحرضا ً إلى التغيير, وقد أسهم الأدباء الثوريون في تصعيد إحساس الجماهير العفوي وتطويره إلى وعي اشتراكي يرفض علاقات المجتمع القديم ويتطلع إلى علاقات إنسانية جديدة ينتفي منها التسلط واستغلال الإنسان للإنسان . وقد عبأ الأدباء الثوريون روح الجماهير بالإصرار والرفض وعززوا فيهم الأمل في الخلاص والتفاؤل التاريخي في النصر مهما كانت الآلام قاسية وصعوبات النضال شاقة .
إن الكفاح الواعي عبر الآلام والتضحيات هو طريق التحرر وجسر الخلاص .
كان الأدباء الثوريون يصورون الآلام الدرامية التي يعانيها الكادحون في حياتهم وكفاحهم وكانوا يدركون معناها التاريخي العميق , أنها أوجاع المخاض الثوري الذي يبشر بميلاد النصر والخلاص من حياة الظلم والاستغلال . قال بدر شاكر السياب يعبر عن هذا الإدراك لمعنى الآلام :
في كل قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
ويبشر الأدباء بالاشتراكية نظاما ً للمجتمع العربي الجديد وعبروا عنها في أسلوب فني غير مباشر , ورمزوا لها بألفاظ تحمل معنى التغير والجديد , فأكثروا من الرمز للثورة بالبعث وبالفخر وبالصباح الجديد . قال يوسف الخطيب يؤكد حتمية انتصار الكادحين وخلاصهم من الظلم والاستغلال , فينطق بلسان المناضلين :
لم نزل نرقب الخلاص ولا بد سيأتي بعث لنا ونشور
يوم نمضي إليك يا أيها العاتي ويوم الحساب يوم عسير
وقديما ً كانت لنا هذه الأرض ولسنا اقنانها يا أمير
وإذا نفخة من البعث في الصور فتهتز في الرحاب القبور
ثم شعت أعماقنا البيض بالفجر وماج السنا وضج النفير
والعيون الظلماء للنور في الكهف أفاقت وقد جلاها النور
ويتطلع الأدباء إلى المجتمع الجديد في تصويرهم للطفولة والدفاع عنها .
إن الآباء اليوم ليكافحون لينهوا زمن الرعب والظلم وليخلقوا للأطفال مستقبلا ً عربيا ً يموج بالسعادة والفرح . قال الشاعر شوقي بغدادي يعبر عن حبه للأطفال رمز الحياة الجديدة وعن ثقته بانتهاء الليل وطلوع الفجر :
ولي ثقة أن الطريق ستنتهي كما يشتهي الطفل الخلي ويحلم
لنا زمن الرعب الممض وإنما له الزمن الحلو الرضي المنعم
سيعرف غير الأرض هذه صغيرنا وغير دروس الحقد سوف يعلم
وتترع بالألوان كل خزانة ويصدح بالأعياد بيت ميتم
لأمثالهم نبني ونرفع عالما ً على الأرض يحيا الطفل فيه ويسلم
ويحمل الشاعر سليمان العيسى وعي إحدى بطلات أناشيده بفرحة الفجر الجديد والمستقبل العربي المجيد , ها هي ذي ( عبير ) تتغنى بالسعادة وبهجة وتعانق أبويها وهي تحمل الكتاب :
تقول له : أنا فجر جديد
ومستقبل عربي مجيد
وتمضي عبير شراع حرير
يموج يموج بحلم كبير







الفصل الثامن
الاتجاه الوصفي :
اهتم الأدباء بالوصف منذ القديم وتابع الشعراء في العصر الحديث هذا الباب، فوصفوا الطبيعة والريف والبحار والأنهار ووصفوا تأملاتهم في الكون والحياة والإنسان والموت والشقاء والسعادة. يقول الرحمن شكري أحد أعضاء مدرسة الديوان واصفاً الأمل في الحياة:
والشقيُّ المحروم من لا يرى في العيش فرضاً ينأى به عن شقاء
ذاك من مات قلبه وهو حيٌّ وغدت نفسه كقفرٍ خلاء
وقد عبر إيليا أبو ماض زعيم المهاجرين في قصيدته الطلاسم
عن تأملاته في الكون وأسرار الموت والحياة:
أتراني كنت يوماً نغماً في وتر؟
أم تراني كنت قبلاً موجةً في نهر؟
أم تراني كنت في إحدى النجوم الزّهر؟
أم أريجاً ، أم حفيفاً ، أم نسيماً؟
لست أدري
كما وصف الشعراء المخترعات الحديثة ، ووصفوا المدن بعد هجرتهم من القرى . يقول أحمد عبد المعطي حجازي:
الناس حولي ساهمون.....
لا يعرفون بعضهم .....هذا الكئيب
لعله مثله غريب
أليس يعرف الكلام؟
ويقول صلاح عبد الصبور واصفاً زحمة المدينة:
في زحمة المدينة المنهمرة
أموت لا يعرفني أحد
أموت لا يبكي أحد
الفصل التاسع
الاتجاه الغزلي :
استمر تطرق الشعراء للغزل والحديث عن المرأة والحب، وكتب معظم الشعراء في هذا الاتجاه، وكان أكثرهم إجادةً الشاعر نزار قباني ، فقد تحدث عن الغزل بمعظم أشكاله وأبرز تأثير المرأة بجوانبها المعنوية والمادية ومن ذلك قصيدة نهر الأحزان:
عيناك كنهري أحزان
نهري موسيفا، حملاني
3- لوراء وراء الأزمان
4- نهري موسيفا قد ضاعا 5- سيّدتي ...ثمَّ أضاعاني
6- الدمع الأسود فوقهما 7- يتساقط أنغام بيان
8- وأنا في المقعد محترقٌ 9- نيراني تأكل نيراني
وقد تداخلت المرأة والأرض والوطن عند شعراء الأرض المحتلة فأبرزوا تمردهم ، وتعانقوا مع الأرض وعجنوا ترابها بالدماء ..... ومن ذلك مناجاة الحب لمحمود درويش واختلاط هذا الحب بالمرأة والأرض :
عيونك ، شوكة في القلب
توجعني.....وأعبدها!
وأغمدها وراء الليل والأوجاع ..... أغمدها!
فيشعل جرحها ضوء المصابيح
ويجعل حاضري غدها
أعزّ علي من روحي
وأنى ، بعد حين ..... في لقاء العين بالعين
بأنا مرّة كنا، وراء الباب.....اثنين!!.....
















الباب السابع
الأشكال الشعرية في الأدب العربي الحديث

أولا -الشعر الجديد ( الحر ) :

الشــعر الحــديـث
أ- مقدمة:
تعود ولادة هذا النوع من الشعر الحديث إلى منتصف القرن العشرين على يد الشاعر بدر شاكر السياب و الشاعرة نازك الملائكة ، و إن كانت بذوره الأولى قد ظهرت عند الشعراء العرب المهاجرين كأمين الريحاني و ذلك تأثراً بالطريقة الأروبية في كتابة الشعر ، و قد سمّاه البعض بشعر التفعيلة أو الشعر الحر أو الشعر الحديث .
ب- سمات مرتكزات هذا اللون من الشعر :
1- التشكيل الموسيقي :
تبرم الشعراء المحدثون من التشكيل الموسيقي القائم على الوحدة الموسيقية المتكررة في كل بيت ضمن سياق واحد و خط معين . و اعتبروا أن القصيدة الحديثة هي بنية ايقاعية ترتبط بحالة شعورية معينة تعتمد التفعيلة بحيث تتحرك الموسيقا في كل شطر وفق التي تموج في نفس الشاعر . يقول بلندا الحيدري :
يا صديقي ( فاعلاتن )
لم لا تحمل ماضيك و تمضي عن طريقي (فاعلاتن –فعلاتن – فعلاتن-فاعلاتن)
قد فرغنا و انتهينا (فاعلاتن- فاعلاتن )
و تذكرّنا كثيراً ونسينا . (فعلاتن-فاعلاتن-فعلاتن ) .
و الغالب على هذا النوع من الشعر استخدام البحور الشعرية
الخليلية و عدم الخروج عن البحور الصافية ( ذات التفعيلة الواحدة )
إضافة إلى مزج ثلاثة بحور في قصيدة واحدة كقصيدة (جيكور أمي) البدر شاكر السياب.
وقد اتهم أصحاب هذا اللون مسألة القافية بأنها تحدّ من انفعال الشاعر ، وتقطع أنفاسه وتضطره للبدء من جديد ،واعتبروا أن القافية في الشعر هي نهاية السطر الموسيقي باستخدام أية كلمة يستدعيها السياق.
يقول صلاح عبد الصبور في أغنية حبّ:
صنعت مركباً من الدخان والمداد والورق؟
ربّانها أمهر من قاد سفيناً في خضمّ
وفوق قمة السفين يخفق العلم
وجه حبيبي بيرقي المنشور
جبت الليالي باحثاً في جوفها عن لؤلؤة.
2- وحدة القصيدة:
وهو ما يسمى الوحدة العضوية حيث اعتبر الشعراء المحدثون القصيدة كلٌّ لايتجزأ وتتضافر أجزاءه في ايصال المعنى فالقصيدة كالإنسان كما أن كل عضو فيه يؤدي دوراً متكاملاً مع الأعضاء الأخرى ، كذلك مقاطع القصيدة الحديثة تتكامل في ايصال الموضوع الواحد على عكس الشعر التقليدي الذي اتخذ البيت وحدة عضوية.
3- اللغة الشعرية:
وقد اهتم المحدثون باللغة على أنها قاموس خاص يعكس شخصية الشاعر نفسه إذ لكل شاعر لغة خاصة به ولم يعد يبحث هؤلاء المحدثون عن الفخامة والجزالة والتركيز والايحاء بل يفتش الشاعر عن الكلمات المفعمة بالنبض والمعبرة عن الانفعال بيسر وراحة.
يقول محمد الفيتوري:
كلماتي أشواق سجين عاش، وثأر سجين مات
كلماتي أجساد ضحايا مصلوبين على الطرقات
كلماتي أحشاء حبلى تتلّوى تحت الطعنات
كلماتي أصوات حياة لا تعرف موت الكلمات
4- الرمز والأسطورة:
وقد أكثر المحدثون من استخدام الرموز أدوات للتعبير على اعتبار أن بين الرمز والتجربة الشعرية التمام شديد يخلقه السياق الشعري، وقد تناول الشعراء المحدثون الرموز الشعبية والأساطير القديمة والموروثة ، فمن الرموز التي استعملها الشعراء:
حفّار القبور-الكوليرا لنازك الملائكة .
أما الأساطير فقد أكثر الشعراء من استخدامها سواء ما تعلق بالأساطير البابلية أو الرومانية ، كتحوز وعشتار وأوديس- الفينيق والسندباد.
يقول بدر شاكر السياب في قصيدة رحيل النهار:
رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السّفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواطف والرعود
هو لن يعود
رحل النهار
فلترحلي هو لن يعود.
5- الصورة الشعرية :
وتعني أن يرسم الشاعر بكلماته شهداً تصويراً يعتمد على المجاز أكثر من اعتماده على الاستعارة والتشبيه كما كان يصنع الشعراء القدماء. قال نزار قباني:
في مرفأ عينيك الأزرق
أمطارٌ من ضوء مسموع
في مرفأ عينيك الأزرق
يتساقط ثلج تموز
وقد لجأ الشاعر في تصويره الحديث إلى إظهار الواقع اللاشعوري وأشرك حاسة السمع في عملية الرؤية، وهي تصور تخالف منطق العقل، ولكن الخيال يقلبها ، وقد يفتت الشاعر الحديث في صوره الأشياء الواقعية ويفقدها تماسكها البنائي ،ثم يعيد بناءها وترتيبها وفقاً لحالته النفسية ، وقد يميل الشاعر الحديث إلى إضفاء شيء من الغموض والإبهام على الصورة الشعرية بحيث يحدد بعض معالمها كما في قول الشاعر محمد عمران:
أدور في مدار برتقالة زرقاء
أو كما قال أدونيس في بعض قصائده:
أتكئ على قلمين.
أو كما قال أحدهم في عنوان لكتابه:
سأخون وطني.



بعد حركات الشعر المختلفة التي رأينا شعرائنا يسيرون في نظمها وفق مأثورات الشعر القديم – في غالب الأحيان – من حيث العروض والموسيقا شهد القرن العشرون شعرا ً ذا لون موسيقي جديد , أطلق عليه اسم الشعر الجديد أو الحديث المعاصر أو الحر , وكل هذه التسميات تطلق على مسمى واحد هو الشعر الذي يعتمد الشاعر فيه على ( التفعيلة ) – لا البيت ذي التفعيلات المتعددة – أساسا ً للنظم ويختلف فيه عدد من التفعيلات من بيت إلى بيت . مع العلم أن كل سطر في هذا الشعر الجديد هو بيت سواء أكان فيه تفعيلة واحدة أم عدة تفعيلات , يوزعها الشاعر حسبما تقتضيه ذبذبات شعوره , ودفقات عاطفته كما يقولون .
ومن هنا نرى أن الشعر الجديد لم يعد فيه الوزن والقافية على النحو القديم بل طرأ عليهما تغير كبير , فلم يعد الوزن مرتبطا ً بتفعيلات متساوية العدد في شطرين كما لم يعد الشاعر ملتزما ً فهي بقافية واحدة ولا روي واحد يتكرر أو تنوع حسب نظام ثابت محدد . ولنضرب مثالا ً عليه مقطعا ً من قصيدة الشاعر العراقية ( نازك الملائكة ) عنوانها ( إلى العالم الجديد ) تقول فيه معبرة عن نفسها البائسة المتشائمة :
يا عام لا تقرب مساكننا فنحن هنا طيوف
من عالم الأشباح ينكرنا البشر
ويغرمنا الليل والماضي ويجهلنا القدر
ونعيش أشباحا ً تطوف
نحن الذين نسير لا ذكرى لنا
لا حلم لا أشواق تشرق مني
آفاق أعيننا رماد
فذا قطعنا هذه الأبيات وجدنا أنها منظومة على تفعيلة واحدة هي ( متفاعلن ) التي يبنى عليها الشعر ( الكامل ) المؤلف كما نعلم من ست تفعيلات , ثلاث في كل شطر . أما هنا ففي كل من الأسطر الثلاثة الأولى أربع تفعيلات . وفي السطر الرابع تفعيلتان, وفي كل من الخامس والسادس ثلاث تفعيلات وفي السابع تفعيلان .
وسنعرض لأوزان هذا الشعر بشيء من التفصيل فيما بعد ولكن يجب قبل هذا أن نتعرف على أصوله وبداياته فمتى بدأ ينظمه ؟ ومن هم رواده ؟
تاريخه وبداياته : اختلف الدارسون والنقاد في تحديد بواكير هذا الشعر , فذهب بعضهم بعيدا ً حين ارجع أصوله إلى الموشحات الأندلسية , وزعم فريق آخر – ولا سيما الذين مارسوا نظمه – أن أولياته نظمت في أوائل العقد الرابع من هذا القرن . وتوسط فريق ثالث بين هذين فارجع بداياته إلى أواخر الحرب العالمية الأولى . فأي هؤلاء الفرقاء كان الاصوب ؟
أما الفريق الأول الذي زعم أن الموشحات أصل الشعر الحر فيرى أن الموشحات التي لا تسير على أوزان العرب المعروفة قد حطمت البحور العروضية , وكثرت أوزانها . واعتمدت على التفعيلات الملائمة للألحان لان الموشحات إنما نظمت أصلا ً للغناء – ومما لا ريب فيه أن هذا النوع من الموشحات فاق – من حيث العدد – النوع الآخر الذي نظم على أوزان الشعر العربي , وقد تنوعت أشكاله وأوزانه حتى قال عنه ( ابن خلدون ) في مقدمتهم وهو محق في قوله – انه (( الكثير )) الجم والعدد الذي لا ينحصر والشارد الذي لا ينضبط . وكنت أردت أن أقيم له عروضا ً يكون دفترا ً لحسابها , وميزانا لأوتادها وأسبابها فعز ذلك وأعوز لخروجها عن الحصر وانفلاتها من الكف ومالها من عروض إلا التلحين .
ولنضرب مثالا ً للدلالة على شرود الموشحات وعدم انضباطها موشح – أبي بكر – محمد بن عبد الملك – بن زهر الأندلسي – الذي يتذكر فيه أياما قضاها على الشاطئ الخليج في أحضان الطبيعة :
هل تستعاد أيامنا بالخليج وليالينا
أو يستفاد من النسيم الأريج مسك دارينا
أو هل يكاد حسن المكان البهيج أن يحيينا
روض أظله دوح عليه أنيق مورق الأفنان
والماء يجري وعائم وغريق من جنى الريحان
من هذا المثال وغيره يتضح لنا أن الموشحات ليست كالشعر الجديد وان كانت تشبهه في أنها شعر حر من حيث تنويع العروض , واستحداث إيقاعات تناسب أنغام الغناء , ولكن بينهما فرقا ً واضحا ً ولو كان ضئيلا ً .
وأما الفرق الثاني الذي يرجع بدايات الشعر الجديد إلى أواخر العقد الرابع من هذا القرن فتتقدمه ( نازك الملائكة ) زاعمة أن أول قصيدة نظمت فيه هي قصيدتها ( الكوليرا ) التي نظمتها – على وجه التحديد – يوم 27 / 10 1947 م وأرسلتها إلى مجلة ( العروبة ) في بيروت في عددها الصادر أول كانون عام 1947 م وقالت نازك في كتابها ( قضايا الشعر المعاصر ) الذي صدر عام 1962 م – " وكنت قد كتبت تلك القصيدة أصور بها مشاعري نحو مصر الشقيقة خلال وباء الكوليرا الذي داهمها موقد حاولت فيه التعبير عن وقع أرجل الخيل التي تجر عربات الموتى من ضحايا الوباء في ريف مصر وقد ساقتني ضرورة التعبير إلى اكتشاف الشعر الحر "
فنازك إذا ً تزعم أنها سباقة إلى اكتشاف الشعر الحر والى النظم به , وتلفت النظر إلى أن قصيدتها ( الكوليرا ) مبنية على وزن البحر المتدارك ( الخبب ) ومنها هذا المقطع :
طلع الفجر
أصغ إلى وقطع خطا الماشين
في صمت الفجر أصغ انظر ركب الباكين
عشرة أموات عشرونا ً
لا تحص , أصغ للباكينا
اسمع صوت الطفل المسكين
موتى موتى , ضاع العدد
موتى موتى , لم يبق غد
في كل مكان جسد يندبه محزون
لا لحظة إخلاد لا صمت
هذا ما فعلت كف الموت
الموت الموت الموت
تشكو البشرية تشكو ما يرتكب الموت
وتقول نازك بعد هذه القصيدة , انه صدر في النصف الثاني من كانون الأول عام 1947 م ديوان
( أزهار ذابلة ) لبدر شاكر السياب وفيه قصيدة حرة الوزن من بحر الرمل , عنوانها ( كل كان حبا ً ) فهي إذا ً تسود أن تنسب لنفسها السبق في ميدان هذا الشعر , ثم يأتي بعدها السياب – الشاعر العراقي أيضا – ومن بعده شعراء الأقطار العربية الأخرى .
ونتسائل هنا هل يمكن أن يولد هذا الشعر مرة واحدة – كما زعمت نازك ؟ وهل صحيح أن ضرورة التعبير ساقتها إلى اكتشافه فكانت هي السباقة إلى نظمه ؟ أليس هناك شعرا ء آخرون قبلها نظموا على هذا النسق ؟ هذا ما سيتضح لنا بعد قليل .
أما الفريق الثالث فيرجع بواكير الشعر الحر – كما ذكرنا إلى أواخر الحرب العالمية الأولى والى شعراء المهجر الشمالي – على وجه التحديد – وقد ذكرنا في كلامنا على الرابطة القلمية أن شعراءها تفننوا في استخدام الأوزان الخليلية وتنسيقها – وتعبير قافيتها ورويها بين مقطع وآخر كما قلنا إن نعيمة كان أكثرهم تفننا ً في هذه الناحية , ففي أواخر الحرب العالمية الأولى كان ( نعيمة ) جنديا ً أميركيا ً في فرنسا عام 1917 – بعد أن حصل على الجنسية الأمريكية – وسمع انباء الحرب وما جرته على سورية ولبنان ( بلاد الشام ) من موت بعض السكان وجوع بعضهم الأخر , فراح يوازن بينهم وبين الغربيين الذين عادوا بعد الحرب إلى أوطانهم ليحرثوا أرضهم ويزرعوها ويبنوا دورهم ليسكنوها , فنظم قصيدته الإنسانية ( أخي ) التي نوهنا بها من قبل , فكيف بناها من حيث العروض والموسيقى ؟ لنعد إلى مقطع منها يقول فيه :
أخي من نحن ؟ لا وطن ولا أهل ولا جار
إذا نمنا إذا قمنا ردانا الخزي والعار
لقد خمت بنا الدنيا كما خمت بموتاها
فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقا ً آخر
نواري فيه موتانا
فإذا قطعنا هذه الأبيات وجدناها مؤلفة من تفعيلات على النحو التالي :
مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن
مفاعلتن مفاعلتن
فالقصيدة إذا من مجزء ( الوافر ولكنه رتبها في مقاطع بكل مقطع يتألف من أربعة أبيات ووضع آخر المقطع تفعيلتين , والمهم كذلك انه لم يلتزم بروي واحد , لا في القصيدة ولا في كل مقطع من مقاطعها وترى مثل هذا التعبير عند شاعر مهجري آخر هو (نسيب عريضة ) الذي نوهنا بتنويعه كذلك في الموسيقا والوزن والقافية , فنظم عام 1918 م قصيدته ( أنا في الحضيض ) ليعبر عن قلقه وغربته فتلاعب بوزنها وترتيب تفعيلاتها كما يلي :
أنا في الحضيض وانأ مريض
أفلا يد تمتد نحوي بالدوا
وتبث في جسمي ملامسها القوى
وتقلني من هوتي نحو الذرى
فأسير مستندا ً إليها في الورى
دربي بعيد وانأ وحيد
أفلا رفيق أو دليل في الطريق
أفلا سلاح أو دعاء من صديق
وارحمتاه لمن يسير بلا وطاب
بين القفار وقد تعلل بالسراب
فها هنا كذلك لو قطعنا قسما ً منها لوجدنا تفعيلاته مرتبة على النحو التالي :
متفاعلان
متفاعلان
متفاعلن – متفاعلن – متفاعلن
متفاعلن – متفاعلن – متفاعلن
متفاعلن – متفاعلن – متفاعلن
فالقصيدة من مجزء الكامل ولكنه رتب تفعيلاتها بشكل مخالف الأصل هذا البحر , فضلا ً عن تغيير الروي كذلك في كل مقطع من مقاطعها .
ولو عدنا إلى دواوين بعض الشعراء الآخرين , لوجدنا قصائد عديدة نظمت على هذا النحو من التلاعب بالأوزان والتفعيلات كما في شعر ( يوسف البعيني ) من المهجر الجنوبي و ( الشابي وأبي شادي وناجي ) من جمعية ابولو . وهذه القصائد كلها – وإن لم تكن من حيث توزيع نغماتها , والتلاعب في تفعيلاتها ورويها متطابقة كل التطابق مع الشعر الجديد , لكن بينهما فارقا ً ضئيلا ً في توزيع عدد التفعيلات على اسطر متوالية مع العلم أننا لوعدنا إلى بعض قصائد هذا الشعر الحر وحاولنا جمع تفعيلاتها المشتتة في اسطر , لأضحت قصيدة مشابهة للشعر المهجري الذي ذكرنا , أو مطابقة له . وربما كان العكس صحيحا ً أي لو حاولنا توزيع قصيدة من قصائد الشعر المهجري حسب طريقة الشعر الحر لأضحى مطابقا ً له .
ولعل هذا ما جعل بعض الدارسين يعتقدون – حسبما تراءى لهم – أن قصيدة ( النهاية ) لنسيب عريضة التي سبقت الإشارة إليها , هي من الشعر الحر الجديد , وهي التي نظمها عام 1917 وقد التهبت روحه , وتفجرت غضبا ً وحزنا ً على ما جرى إبان الحرب العالمية الأولى في ساحتي بيروت ودمشق , حين شنق الأحرار الشهداء فضلا ً عن الحرب الطاحنة التي كدست الموتى من الجوع , وقد انشدها في حفلة أقيمت بنيويورك لإغاثة المنكوبين , ولا باس أن نورد بعضا ً منها , لنجري عليه التجربة التي ذكرنا ولنر النتيجة . يقول عريضة :
هتك عرض
نهب ارض
شنق البعض
لم تحرك غضبه
فلماذا نذرف الدمع جزافا
ليس تحيا الحطبة
لا وربي
ما لشعب
دون قلب غير موت من هبة
فدعوا التاريخ يطوي سفر الضعف
ويصفي كتبه
فهذه القصيدة تبدو – في صورتها للوهلة الأولى من الشعر الحر وتفعيلاتها في كل ستة اسطر ( تؤلف مقطعا منها )موزعة كما يلي :
فاعلاتن
فاعلاتن
فاعلاتن
فاعلتن فعلن
فاعلاتن فاعلاتن فعلاتن
فاعلاتن فعلن
فها هنا جاء توزيع التفعيلات بحيث تكون واحدة تارة وتفعيلتين تارة , وثلاثا ً مرة أخرى وهذا ما قد يوحي – من حيث الشكل – أنها من الشعر الجديد , لكن لو أعدنا ترتيب كلماتها في الكتابة لأصبحت كما يلي :
هتك عرض نهب ارض شنق البعض لم تحرك غضبه
فلماذا نذرف الدمع جزافا ليس تحيا الحطبة
لا وربي ما لشعب دون قلب غير موت من هبة
فدعوا التاريخ يطوي سفر الضعف ويصفي كتبه
وهنا يتضح لنا من بحر الرمل مع تغيير جزئي واستخدام الترصيع .
ولنحاول أن نجري التجربة الثانية المعكوسة , فنأخذ قصيدة من الشعر الحر , ولنعد ترتيب اسطرها لنرى ماذا يحدث , ولتكن القصيدة قصيدة نازك نفسها التي ذكرناها في أول الكلام على الشعر الحر :
يا عام لا تقرب مساكننا فنحن هنا طيوف
من عالم الأشباح ينكرنا البشر
ويغرمنا الليل والماضي ويجهلنا القدر
ونعيش أشباحا ً تطوف
نحن الذين نسير لا ذكرى لنا
لا حلم لا أشواق تشرق مني
آفاق أعيننا رماد
تلك البحيرات الرواكد في الوجوه الصامتة
ولنا الجبال الساكتة
لا نبض فيها إلا اتقاد
نحن العراة من الشعور ذوو الشفاه الباهتة
الهاربون إلى العدم
فلو جزأنا هذا القسم من القصيدة , وفرزنا الأسطر المتساوية الطول من حيث التفعيلات , لوجدناها مؤلفة من ثلاثة مقاطع , الأول من مجزؤه الكامل وهو :
يا عام لا تقرب مساكننا فنحن هنا طيوف
ويفر منا الليل والماضي ويجهلنا القدر
تلك البحيرات الرواكد في الوجوه الصامتة
نحن العراة من الشعور ذوو الشفاه الباهتة
متفاعلن - متفاعلن متفاعلن – متفاعلن
والمقطوعة الثانية من الكامل أيضا ولكنه مشطور وهو :
من عالم الأشباح ينكرنا البشر
نحن الذين نسير لا ذكرى لنا
لا حلم لا أشواق تشرق لا مني
الهاربون من الزمان إلى العدم
متفاعلن – متفاعلن – متفاعلن
أما المقطوعة الثالثة فهي ذات وزن قصير , مؤلف من تفعيلتين فقط هما ( متفاعلن متفاعلن ) مع بعض التغيير في الأخيرة أحيانا ً وهي :
ونعيش أشباحا ً تطوف
آفاق أعيننا رماد
ولنا الجبال الساكتة
لا نبض فيها إلا اتقاد
متفاعلن – متفاعلان
ومن هنا نستدرج أن هذه القصيدة وغيرها كثير مما يشبهها , ولم تخرج على التفعيلات العروضية الخليلية , وإنما اختلف أسلوب ترتيبها , فأصبح الشاعر فيه يملك حرية التعبير , دون التقيد بمقياس محدد مفروض عليه وبذلك استطاع أن يطيل العبارة أو يقصرها حسبما تمليه عليه المعاني .
ويمكن – مما سبق – أن نصل إلى أن قول ( نازك الملائكة ) إن أولى باكورة الشعر الحر هي قصيدتها ( الكوليرا ) محض ادعاء حسبما تبين لنا من أمثلة الشعر المهجري , لان طبيعة أي تطور , تأبى الطفرة , بل تقتضي السير بخطوات هادئة متتابعة , وإلا فلن يكون تطورا ً واعيا ً متزنا ً إذا انبثق مرة واحدة .
يبقى علينا – في هذه الناحية التأريخية – أن نعرف هل هذا الشعر وجد – في الأصل – نتيجة لتأثر الشعراء العرب بالشعر الغربي ؟ وبعبارة أخرى , هل هو أجنبي المصدر ؟ أم انه عربي أصيل ؟
أعربي هو أم أجنبي ؟ : حين بدأ الشعر الجديد ينتشر في الأقطار العربية لاقى قبولا ً واستحسانا ً من بعض النقاد فناصروه لاعتقادهم انه يعبر عن مشاعر المرحلة التي انبثق فيها , كما لاقى هجوما ً عنيفا ً من الآخرين – وجلهم من المحافظين – لأنهم رأوا في طريقة نظمه ولغته ما يخالف طرائق القدماء ولغتهم . ولكن كلا الفريقين اجمع على انه أجنبي المصدر , إذ نجم عن تأثر الشعراء بالغربيين في طريقة متابعة قصائدهم , فنازك تعترف في مقدمة ديوانها ( شظايا ورماد ) أن أسلوبها الطريف في قصيدتها ( الجرح الغاضب ) مقتبس مباشرة عن الشاعر الأمريكي ( إدغار ألن بو ) في قصيدته ( البديعة ) . وبدر شاكر السياب يصرح بقوله " إن الشعراء الغربيين الذين تأثرت بهم في بداية الأمر شيلي وكيتي ثم إليوت ثم ايدث سيتويل هما الغالبان . وحين استعرض هذا التاريخ الطويل من إنتاجي الشعري – لا سيما في مرحلته الأخيرة – أجد اثر هذين الشاعرين واضحا ً , فالطريقة التي اكتب فيها قصائدي الآن هي مزيج من طريقة أبي تمام وطريقة ايدت ستويل : إدخال عنصر الثقافة , والاستعانة بالأساطير والتاريخ والتضمين , في كتابة شعره .
ويقول في موضع آخر . انه لاحظ الشعر الانجليزي فوجد أن الضربة تقابل التفعيلة والسطر أو البيت عندهم يختلف عدد تفاعيله فجرب ذلك , واستعمل الأبحر ذات التفعيلات الكاملة على أن يختلف عدد التفعيلات من بيت إلى آخر . "
ويربط بعض الباحثين بين طريقة النظم الجديدة وبين " التجارب المعنوية التي يعاينها ابن هذا الجيل , فالقلق الذي من مصادره عدم الاستقرار والخيبة , وحقارة الإنسان حيال جبروت الطبيعة , وطغيان المادة وحس الاغتراب , القلق هذا يعصف بالأوروبي ويهزه عنيفا ً في جذور كيانه "
ويشير د محمد النويهي في كتابه قضية الشعر الجديد , إلى المدارس الأجنبية التي تأثر بها شعراؤنا وأولها مدرسة ( ازرابوند ) في نيويورك , ومدرسة ( توماس ستيرن اليوت ) في لندن ومدرسة ( جاك بريفير وسان جون بارس ) في باريس ويمكننا أن نلخص معالم التجديد عند هذه المدارس فيما يلي : تقييم مدرسة بوند في نيويورك :
1- على التعبير عن شعور مواطنيه بمشاكل العصر وأحداثه وأزماته ومن ورائها مشكلات الإنسانية جمعاء .
2- يرى بوند أن هذه المشكلات الحديثة , تتطلب أطرا ً جديدة من الأوزان , لان الأطر القديمة لم تعد ملائمة للاوضاع الراهنة .
مدرسة ( ت . س . اليوت ) تأثرت بالمدرسة السابقة لكن اليوت ذهب ابعد من بوند فيما نظم من قصائده مثل ( الأرض الخراب ) و ( الرجال الجوف ) و ( أربعاء الرماد ) وغيرها وأحس اليوت بان القافية عقبة تحول دون الانطلاق في التفكير فحاول تخطيها , ورأى انه ليس من الضروري أن تأتي في نهاية البيت بل يمكن أن تأتي في داخله , فتوفر للقصيدة إيقاعا ً داخليا ً .
أما مدرستا ( برفير وباريس ) في باريس فقد اتفقتا أيضا مع المدرستين السابقتين على ضرورة معالجة المشاكل الإنسانية مع الاعتماد على الديباجة الصافية الهازجة , والسعي إلى وحدة القطعة الشعرية لا إلى وحدة البيت .
ويمكننا القول بعد هذا . أن هذا التغيير الذي طرأ على الشعر العربي الجديد يرجع في أساسه إلى هذه المصادر الأجنبية التي اعترف أكثر شعرائنا بتأثرهم بها , وإن ظلت أوزانه عربية أصيلة من حيث الاعتماد على التفعيلات العروضية المعروفة . ولكنها اختلفت عنها – كما رأينا – من حيث اعتمادها على وحدة التفعيلة والحرية في عددها وترتيبها في السطر الواحد , حتى اشتط بعضهم في ذلك فأضحت الأوزان فوضى لا ضابط لها ونوعا من العبث حوله كثير من إخلاء على الشعر , حتى أضحى ما يكتبه بعضهم ضربا ً من الكلمات الموصوفة الجوفاء , أو الهذيان الذي لا طائل تحته .
ظواهر وقضايا في الشعر الجديد : مما لا ريب فيه أن الشعر الجديد اقتضى من الشعراء استعمال لغة جديدة , وتراكيب ومصطلحات جديدة , ما داموا قد تأثروا بالشعر الغربي كما رأينا في اعتراف كل من ( نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ) ويلاحظ في هذا الشعر بعض الظواهر التي لم تكن موجودة في الشعر العربي كظاهرة تكرار بعض الكلمات أو العبارات , واستخدام بعض الرموز والاستفادة من الأساطير , والاستعانة بالتاريخ وذكر بعض أعلامه واستعمال بعض الكلمات الأجنبية والعامية لكن الظاهرة الكبرى التي بلغت النظر فيه هي اتشاح هذا الشعر بالغموض والإبهام . وسنحاول الإلمام ببعض هذه الظواهر . أولا ً الغموض والإبهام : لا نريد أن ندخل هنا في تفاصيل عروض لها بعض الباحثين , حين فوقوا بين الغموض والإبهام . لكننا نشير إلى أن أنصار هذا الشعر . وأصحاب التجارب فيه يعترفون بهذه الظاهرة , فكيف يمكن أن نتذوق قصيدة ما إذا غمض علينا معناها أو بعض جوانبها ؟ ولو كان هذا الغموض راجعا ً إلى لفظه لغوية ما كما هي الحال في العشر العربي القديم , لهان الأمر ولكن الغموض يتأتى غالبا – من استخدام اللفظ رمزا ً لفكرة معينة , لا رمزا ً يشف عما وراءه بل رمزا ً يتحول إلى لغز مبهم في كثير من الأحيان وتتحول القصيدة كلها – بعد هذا – إلى تعابير وألفاظ جوفاء لا معنى لها ولنضرب مثالا على ذلك قول محمد عمران :
دخت دخلت كهنوت الماء
أشرعيهما
الليل أمحى
النهار مات
الشمس ماتت القمر
دخلت في مدار برتقالة زرقاء
في تفاحة
رجعت بذرة أولى
اعتنقت رحم التراب
لا اسم لي
أنا بوابة الأسماء .
فما معنى هذا الكلام ؟ وما المقصود – خاصة – بقوله ( دخلت في مدار برتقالة زرقاء ) ؟ إن بعض المدافعين عن مثل هذا الغموض يعد هذه التعابير من قبيل الإيحاء غير المباشر , كما يعدها آخرون من شطحات (( اللا وعي ) فكيف يمكن أن يتقبلها العقل الواعي , بل كيف يتقبلها الذوق الفني ؟
وقد يمعن بعض الشعراء في هذا الغموض , حين ينتقلون شعرهم بعض الرموز الثقافية والتاريخية والأسطورية , فتغدوا القصيدة عند ذلك أفكارا ً مهوشة مشوشة ولا رابط بينهما ولا منطلق كقول ( فايز خضور ) : شطحنا , لجأنا إلى واحة العقل أودى بنا
الكشف عدنا لبحر التوحد , شبنا وذبنا
رجعنا إلى معبد بوذا
قرأنا الأناجيل حتى مزامير داوود حتى
نشيد الإنشاد لم ننس , شهنامة في الزمان
رأينا رعايا يهوذا
فهل يريد الشاعر هنا أن يعرض علينا ثقافته وسعة اطلاعه على ما أثقل به هذا المقطع من رموز تاريخية وأدبية ؟
ويدافع أنصار الشعر الجديد عن ظاهرة الغموض هذه فيقول د . عز الدين إسماعيل إن الشعر لا يستخدم اللفظ المعتاد بدلالته المحدودة التي نتعلمها ... وهو كذلك لا يستخدم اللفظ بدلالته التي نقصدها حين نستخدمه في حياتنا اليومية , ثم انه كذلك لا يفسر لنا الأشياء تفسيرا ًمنطقيا ً يقبله العقل , ومن ثم أننا نصف الشاعر بأنه غامض والحقيقة أننا لا نحكم عليه بهذا الحكم إلا لأننا منطقيون ولأننا اعتدنا أن نتعامل باللغة في وضوح . أما الشاعر فيدرك الأشياء إدراكا ً ابعد مما نصنع , وهو لذلك لا يجد في لغتنا الناجزة من الألفاظ وصور التعبير , ما يشرح به هذا الإدراك في دقة وإتقان , ومن هنا يذهب إلى الاختراع , اختراع الألفاظ واختراع صور التعبير . فإذا للكلمات من حيث دلالتها – أبعاد جديدة وإذا الصور رموز اخترعها الخيال لأفكار ومدركات .
ونحن متفقون مع هذا النصير للشعر الحر , في أن الشعر لا يستخدم الألفاظ بدلالاته المحدودة المستعملة في حياتنا اليومية , لان لغة الشعر ومعانيه أسمى من المعاني والدلالات اليومية المعتادة , وصحيح كذلك لا نتفق مع هذا الناقد الباحث في أن الشاعر يلجأ إلى اختراع ألفاظ , ليعبر بها عن ادراكاته في دقة وإتقان بل انه ربما يخترع صور التعبير وطرائقه , لان الألفاظ قد تخترع في اللغات الناشئة غير الأصلية المحدودة الألفاظ والمشتقات لا كما هي الحال في لغتنا العربية . ولنفرض أن الشاعر أحب أن يجعل ألفاظ اللغة رموزا ً لأفكار ومدركات حتى تكون لها أبعاد جديدة فهل يكتب الشاعر لنفسه أم لقرائه ؟ أليس الجدير به أن إذا أن يجعل عباراته وصوره مفهومة واضحة ما دامت اللغة أداة توصيل من الشاعر إلى المتلقي شعره ؟
ومن جهة ثانية أليست وظيفة الشعر نقل عدوى المشاعر والأفكار ؟ فكيف تتحقق هذه الوظيفة إذا كانت الأفكار والعبارات غامضة غير مفهومة ؟ إن ألفاظ اللغة يمكن تجديدها , وإضفاء الحداثة عليها بجدة تراكيبها وطرافة أسلوب التعبير بها , لا باختراع لغة جديدة , ومصطلحات غريبة عنها
ثانيا ً : التاريخ والأسطورة والرمز : يزعم أصحاب الشعر الجديد أنهم يستهدفون في شعرهم تجسيد الوجود حيا نابضا ً وإذا فلم تعد اللغة عندهم وسيلة لترجمة المشاعر والأفكار وحسب بل لا بد من اتحادها مع الوجود والتجربة المعاناة , ولما كانت اللغة المباشرة غير قادرة في رأيهم – على التعبير المركز المصفى فقد أكثروا من استخدام التاريخ والأساطير والرموز , أدوات للتعبير . حتى حلت هذه الأدوات محل قوالب التعبير القديمة التي عابوها وثاروا عليها , زاعمين أنها لكثرة استعمالها – أضحت بالية مستهلكة .
والأساطير والرموز إنما تستمد من التاريخ واللغة وهي اصطلاحات تشير إلى مضامين معينة , ولكنها ترتبط في الشعر بالتجربة الشعورية التي يعاينها الشاعر , فتمنح الأشياء مغزى خاصا ً . وقد استخدم ناظمو الشعر الحر رموزا ً تاريخية وأسطورية مثل ( السندبابد – يهوذا – عشتروت –شهريار – أيوب – سقراط – أبي ذر- اوديب – أبي الهول -) وغيرها . فالسندباد مثلا ً كما نعرفه في الحكايات الشعبية من التراث العربي – تاجر سواح , بحري مغامر , يطوف البلدان بحثا ً عن الطرائف ويتعرض لمواقف محرجة مثيرة , لا يخرج منها إلا بعد معاناة شديدة . وأما يهوذا فاحد تلاميذ المسيح الاثني عشر باع معلمه بثلاثين من الفضة , فصار اسمه عنوان للخيانة , وأما عشتروت فهي معبودة الفينيقيين ربة الحب والخصب والحرب الخ .... وأما باقي الشخصيات فلكل واحدة تجربتها الخاصة سواء أكانت واقعية أم ممكنة الوقوع . ويرمز بها إلى معنى خاص محدد .
ولبدر شاكر السياب قصيدة بعنوان ( السندباد ) يصف فيها بغداد في عهود الظلام , حين سيطرت عليها فئة طاغية , تقمع كل من يخالفها في الرأي وتعلقه على أعواد المشانق , يقول في مقطع منها موحيا ً بهذه المعاني :
أهذه مدينتي خناجر التتر
تغمد فوق بابها وتلهث الغلاة
حول دروبها ولا يزورها القمر
أهذه مدينتي أهذه الحفر
وهذه العظام
يطل من بيوتها الظلام
وتضيع الدماء بالقتام
أهذه مدينتي جريحة القباب
فما يهوذا احمر الثياب
يسلط الكلاب
على مهود إخوتي الصغار والبيوت
تأكل من لحومهم وفي القرى تموت
عشتار عطشى ليس في جبينها زهر
وفي يديها سلة ثمارها حجر
ترجم كل زوجة به وللنخيل
في شطها عويل
ففي هذه القصيدة ألفاظ وتعابير موحية مثل ( الطلول ) التي توحي بالخراب و ( تلهث الغلاة ) توحي بالفقر الشديد , و ( ولا يزورها القمر ) توحي بالظلام المخيم على المدينة , ومثلها ( يطل من بيوتها الظلام ) وتوحي بحال اهلها الذين يعيشون في خوف ورهبة .
وما دمنا بصدد الرموز فها هنا رموز ثلاثة هي ( التتر – يهوذا – عشتار ) فالأول معروف في تاريخنا العربي يوم دخل هؤلاء بغداد وعاثوا فيها فسادا ً . والثاني ( يهوذا ) رمز الخيانة والثالث ( عشتار ) رمز الحب والخصب ) لكنها عطشى وقد خلا جبينها من الزهر .
وتحولت ثمار سلتها إلى ( أحجار ) , ويتوج هذه الرموز كلها عنوان القصيدة ( السندباد ) الذي عاد إلى مدينته من إحدى رحلاته فلم يعرفها لان وجهها القاتم المظلم قد بدل معالمها فراح يعرب عن دهشته بالاستفهام الذي تكرر ( أهذه مدينتي ) وقد وفق الشاعر في استخدام هذه الرموز جميعها لان كلا ً منها يشف عما وراءه , ولم يتحول إلى لغز غامض .
أما الشعراء الآخرون فليسوا على هذه الدرجة من التوفيق , لا بل إن بعضهم قد اخفق في استخدام الرموز , إذ لم يحسن إيرادها في موضعها المناسب , وبعضهم كدسها في مقطوعة واحدة , فلم يعد لها في نفس القارئ مجال حيوي لتمثلها وتذوق ما وراء مما يفترض أن تشف عنه , من ذلك ما فعله ( محمد عمران ) في ( الدخول الثاني ) من ( الدخول في شعب بوان ) إذ يقول
أفلاطون ينبت في حذائه محارب
سقراط رأس فوق هامة جندب
قارون شحاذ
وهابيل قتيل
ووجه يوسف احدب
هيلين عذراء
وهارون يصلي نصف عام ثم يغزو
نصفه الثاني
مسيح في يهوذا
كيمياء تبدل الأشياء .
فها هنا حشد محمد عمران رموزا ً كثيرة , عرضها في أسماء إغريقية وتاريخية وغير عربية , ورصها وراء بعضها فافقدها إيحاءاتها وفوت على القارئ فرصة تمثلها في إطارها الرمزي الصحيح , فضلا ً عن الغموض الواضح في العبارات كلها والاضطراب في تفصيلاتها .
ولم يقتصر بعض الشعراء المعاصرين على استخدام الرموز المرتبطة بالأساطير القديمة بل وتجاوزوا ذلك إلى إيجاد رموز جديدة ربطوها بشخصيات واقعية , ولكنها أضحت أسطورية بعد اتخاذها , رمزا ً من ذلك شخصية ( جميلة بوحيرد ) التي لم تعد تلك المناضلة الجزائرية الوطنية بل أضحت شخصية أسطورية على يد الشعراء , فاتخذوا منها رمزا ً للنضال في سبيل التحرر وتمثلت لنا على هذه الصورة في كثير من القصائد . ومثلها كلمة ( الناي ) الذي رمز به الشعراء إلى المشاعر الحزينة بسبب ما توحي به أنغامه من حزن .
ثالثا ً : تكرار الألفاظ : يلاحظ في الشعر الحديث ظاهرة تكرار الألفاظ أو العبارات وقد رأينا هذا في قصيدة نازك ( الكوليرا ) إذ كررت فيها كلمة ( الموت ) ثلاث مرات , وفي سطرين متتاليين , ويزعم أصحاب الشعر الحر أنهم يلجئون إلى ذلك ليعبروا عن نوازع الحزن أو اليأس أو السخط أو السأم أو غير ذلك من الأحاسيس أو المشاعر ولا يجدون وسيلة لتثبيت الفكرة في نفس القارئ , سوى تكرار الكلمة أو الجملة , ليسبروا عن تلك النوازع , فصلاح عبد الصبور مثلا ً يتحدث في قصيدته ( نكروما ) مصورا ً مأساة إفريقيا في فترة ما فيقول :
كلماني أشواق سجين عاش وثأر سجين مات
كلماتي في أجساد ضحايا مصلوبين على الطرقات
كلماتي أحشاء حبلى تتلوى تحت الطعنات
كلماتي أصوات حياة لا تعرف موت الكلمات
فها هنا كرر ( كلماتي ) في أول بيت ليثبت ما بعدها من معان في نفوس السامعين , وكأنه يتخيل انه يخاطبهم وجها لوجه .
وفي قصيدته الأخرى ( الظل والصليب ) يتحدث عن ( الشام ) من رتابة الحياة وسخفها وخوائها , فكأنه هنا يجري الوجوديين في هذا الموضوع إذ يقول :
أنا رجعت من بحار الفكر دون فكر
قابلني الفكر ولكني رجعت دون فكر
أنا رجعت من بحار الموت دون موت
حين أتاني الموت لم يجد لدي ما يميته وعدت دون موت
أنا الذي أحيا بلا أبعاد
أنا الذي أحيا بلا آماد
أنا الذي أحيا بلا أمجاد
أنا الذي أحيا بلا ظل بلا صليب .
ولا ريب أن الشاعر هنا يود أن يثبت الفكرة في نفوسنا , فكرة السأم واليأس , وتفضيل الموت على الحياة , وكأنه تحيل نفسه أما جمهور من الناس فراح يكرر العبارة بشكل متتابع كما يفعل الخطباء .
وقد يمعن بعض الشعراء في التكرار حتى تغدو قصيدته خطابا ً مسئما ً وتكرارا ً مملا ً مثال ذلك ما قاله ( سميح القاسم ) :
وانأ القتيل على الرصيف
وانأ الأشداء الوقوف
وانأ الأشداء الوقوف
وانأ ا لبيوت ... البرتقال
أنا العذاب
أنا الصمود
أنا المئات
أنا الألوف
والشعر كما نعلم , يمتاز عن الخطبة والقصة والرواية وغيرها , بالإيجاز والتكثيف , كما تكثف روائح الأزهار العديدة في زجاجة . عطر صغيرة , وعندئذ تكون العبارة أكثر إيحاء وتأثيرا ً وأقوى في نقل عدوى المشاعر والأحاسيس , وقد لاحظنا في المثالين السابقين أن الكلام قد انبسط وطال حتى أضحت العبارات مسطحة ممططة , فأضاعت على القارئ لذة الإيحاء والتأثير .
فضلا ً عن هذا كله نلاحظ في الشعر الحر بعض الكلمات الأجنبية أحيانا . والعامية أحيانا أخرى , كما نجد بعض العبارات النثرية الخالية من الوزن . الخارجة على نظام التفعيلة الذي أشار أنصار الشعر الحر إليه , وأضحى من السهل على أي إنسان أن يكتب كلاما ً منثورا ً يسجع بعض عباراته ويرتبها بشكل يوحي انه شعر ويكتب غلاف ما ويطبعه كلمة ( شعر ) حتى يوهم بعض القراء بشاعريته , وهكذا غدت أمور الشعر فوضى لا ضابط لها ولا قوالب أو قواعد يمكن حصرها بحال من الأحوال , وهذا يشبه ما حصل في الموشحات الأندلسية الشاردة التي اقل عنها ابن خلدون انه ما استطاع ضبطها لانفلاتها من الكف , وان حاولت ( نازك الملائكة ) أن تحدد اوزان الشعر الحر واعارضيه في كتابها ( قضايا الشعر المعاصر ) لكنها لم تفلح لأنها كما أشار بعض الدارسين قد وضعت قواعد هذا الشعر كما تصورته ونظمته وأخرجت منه ما لا يخضع لمقاييسها , لا كما فعل الخليل بن احمد حين اكتشف علم العروض , إذ نظر فيما وجد عند العرب من شعره فاستقراه , ثم وضع له أوزانه في البحور المعروفة . والملاحظ أخيرا ً أن الذين تجربتهم في الشعر الحر هم – في الغالب –الذين عرفوا الأوزان الخليلية , وتمرسوا بها , ونجحوا في نظم قصائدهم عليها , فبدت خطواتهم في التجديد , والاتجاه إلى الشعر الحر ثابتة متزنة أمثال : ( بدر شاكر السياب , ونازك الملائكة , ونزار قباني , وفدوى طوقان ) وغيرهم
ومع هذا مله , فمن الإنصاف أن نذكر أن الشعر الحر قد لاءم فن القصة بما فيه من حرية في توزيع التفعيلة ومرونة الوزن , لهذا سنرى أن القصة الشعرية التي نظمت بطريقة الشعر الجديد , كانت أنجع من تلك التي نظمت بالشعر الموزون المقفى . وسنوضح هذا بعد قليل عند الكلام على القصة الشعرية .
ونود قبل أن نعرض للفروق التي يمكن الإشارة إليها بين هذا الشعر والشعر العربي القديم – أن نلمح إلى ما أطلق عليه اسم ( الشعر المنثور ) وهو الشعر الذي لا وزن له ولا قافية , فكثيرا ً ما نقرأ في الصحف والمجلات والدواوين المنشورة كلاما ً نثريا ً , ولكنه يوضع تحت عنوان ( شعر ) من ذلك مثلا ً ما جاء في ديوان ( البير اديب ) المسمى ( لمن ؟ ) ومنه ( حياة ) إذ يقول :
أموت صامتا ً
كما عشت صامتا ً
غريبا ً عن الناس
غريبا ً عن أهلي
غريبا ً عن نفسي
كلمتي
احتضرت في حلقي معي
بعد أن عاشت
في فؤادي معي
أموت وأنسا
لم استطع
أن ألهب بها شفتي
فهذا كلام نثري عادي لا يغرنا بتقطيعه ولا يوهمنا برصفه في اسطر توحي انه شعر . إذ لا وزن فيه ولا قافية ولا روح الشعر أو رائحته وهو – بالطبع – غير النثري الفني الشرقي الذي نقرؤه في كتب الرافعي , مثل : ( السحاب الأحمر وأوراق الورد ) وفي بعض كتب جبران مثل ( رمل وزبد) وفيما كتبه ( أمين الريحاني ) وخاصة في كتابه ( هتاف الأودية ) الذي جمعه أخوه ألبرت مما كان مثبوتا في تضاعيف ( الريحانيات ) .
ومنه قطعة بعنوان ( دجلة ) يقول فيها :
أصافحه والقلب في يدي
أحييه والروح على لساني
أقف أمامه فتنكشف أمامي أعاجيب الزمان
له كلمة تخيف , وكلمة تثير , وكلمة تحيي وتميت
وهو يسير في سبيله هادئا ً مطمئنا ً
يحمل الخير من الشمال إلى الجنوب
من إقليم إلى إقليم يجيء بفيضه
يتحول غربا وشرقا ً لتعم بركاته البلاد
تقول له الجبال : اقرأ السهول أمامنا
ويقول هو للسهول : اقرئي سلامي قحطان ومضر
وتمتاز هذه القطعة – كما نرى – بالعبارات الشاعرية والخيال التصويري الجميل ولكنها على كل حال ليست شعرا ً .
الفروق بين شعرنا القديم والجديد : بعد استعراضنا لهذه الحركة الأخيرة في شعرنا , يمكننا أن نقول : أن هذه الحركة التجديدة , كانت نتيجة احتكاكنا بالتيارات الأدبية والفنية الغربية . عن طريق الاطلاع المباشر عليها . أو عن طريق النقل والتعريب وتفاعل بعض شعرائنا بها ثم نسجوا على غرارها , فاعتمدوا على التفعيلة وتصرفوا بها تصرفا ً حاولوا أن يجعلوا منسجما ً مع الشكل والمضمون , فما الفروق إذا بين هذا الشعر القديم والجديد .؟
1- الشعر القديم يقيم على نظام ثابت ملتزم في الوزن والقافية بينما الشعر الجديد عبث بصورة هذا النظام , ووقع في الفوضى , إذ لم يعد للبيت الشعري المعروف وجود . صحيح أن التفعيلة هي اساس النظام في الشعر الجديد ولكنها لا تسير – من حيث العدد – في السطر الواحد على نظام معين.
2- الشعر القديم تتنوع بحوره فبعضها ذو تفعيلات منوعة أو ما يسمى بالبحور الممزوجة مثل : فعولن مفاعيلن أو مستفعلن فاعلن أو مفاعلتن مفاعلتن فعولن أو ( فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ) وبعضها الآخر ذو تفعيلات متساوية – أو ما يسمى بالبحور الصافية – أما الشعر الجديد فالتفعيلة الواحدة المكررة , هي الغالبة عليه , عدا بعض التجارب القليلة التي أدخلت على القصيدة تفعيلة أخرى كما أشارت نازك الملائكة .
3- كان عدد الأوزان العروضية القديمة بأبحرها الكاملة والمجزئة والمشطورة , وما يشتق عنها من أشكال أخرى يقارب الثمانين وزنا , بينما أشكال الشعر الجديد ( تفعيلاته )لا تتجاوز السبعة إذ لا تخرج عن استعمال ( فعولن – متفاعلن – مستفعلن –فاعلن – فعلن – مفاعيلن – فعلاتن ) .
4- أما من حيث القافية فقد كان الشعر القديم ذا قافية واحدة وروي واحد من أول القصيدة إلى آخرها أما الشعر الجديد فانه وان لم يلغ القافية ولا الروي لكنه لم يلتزمهما وإنما يضعهما – كما يزعم أصحابه – حينما يحس الشاعر بالحاجة إلى وضعهما في اسطر عديدة , تخلصا من رتابة الالتزام المطلق .

5- من حيث المضمون تبدو على الشعر الجديد في الغالب ظاهرة الغموض والإبهام وكثرة الاعتماد على التاريخ والأساطير والرموز , كما رأينا فيما مر معنا من أمثلة , في حين أن الشعر القديم أوضح في معانيه , اللهم إلا بعض المعاني التي تنشأ أحيانا ً عن الألفاظ الحوشية الغريبة , أو عن التعقيد في التراكيب .
ويتبع ما سبق أن الشعر الجديد يقصد – كما يزعمون – الإيحاء بالمعنى أكثر من إيضاحها والإفصاح عنها , أما الشعر القديم فهو وإن كان يقصد كذلك إلى الإيحاء , لكن معانيه أوضح وأبين .
6- توسع الشعر الجديد بمعنى الوجدان فلم يعد ذلك الوجدان الضيق المحدود الذي يقتصر فيه الشاعر على تصوير وجدانه الذاتي المنعزل عن وجدان الآخرين . بل أضحى الشاعر يعبر عن تجارب وطنه وأمته والإنسانية جمعاء .
القصة في الشعر الحديث : مما يلفت نظر الباحث وهو يطالع الشعر العربي الحديث ظاهرة تسترعي الانتباه , هي عناية كثير من الشعراء بالحوار , أو الصورة القصصية , أو القصة الكاملة وتعد هذه الظاهرة تجديدا ً في الشعر . إذ لم تكن قديما على هذه الشاكلة من الكثرة , ولا من الفن كما سنرى , لذلك ناسب أن ندرسها بشيء من التفصيل .
من قديم الزمان والناس مولعون بالقصص يتحلقون في سهراتهم وأوقات فراغهم وأسمارهم حول القصاص يحكي لهم حكايات عنترة وعبلة والزير سالم وأبي زيد الهلالي وألف ليلة وليلة وغيرها من القصص التي كانت وما زالت تشدهم وتستحوذ على مشاعرهم .
ومنذ عهد بعيد نسمع الشعراء الجاهليين , والصعاليك منهم خاصة يحكون لنا عن أحوالهم ومغامراتهم يسردونها سردا ً إخباريا ً متتابعا ً وكان منها الواقعي ومنها الخيالي كأخبار الجن والغيلان .
وفي العصرين الإسلامي والأموي تطالعنا قصة الخطيئة الفريدة التي تصور كرم الضيافة العربية . وأولها :
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما ً وهنالك أقصوصة حوارية لجميل بثينة ومثلها الكثير مما في شعر عمر بن أبي ربيعة . المملوء بمثل ( قال – قلت – قالت ) .
فإذا انتقلنا إلى العصر العباسي وجدنا في شعر ( أبي نواس ) حكايات كثيرة تدور حول مجالس لهوه ومجونه وغالبا ً ما تكون قصصيا ً يعتمده على الحوار . ولكن ل ( ابن الهبارية ) كتاب بعنوان ( الصادح والباغم ) نظمه في أراجيز على أسلوب ( كليلة ودمنة ) فجاء ثلاثة أبواب هي ( باب الناسك وباب البيان ومفاخرة الحيوان وباب الأدب ) وكل باب منها يتضمن قصصا ً متعددة , متصلا ً بعضها ببعض , ممهدا ً آخرها لتاليها عن طريق حكمة أو سؤال يطلب فيه سرد القصة التالية . لكن هذا الكتاب ادخل في باب الشعر التعليمي , كما هي الحال في نظمه لكتاب ( كليلة ودمنة ) أيضا ً .
والملاحظ أن هذا الشعر القديم في جملته , كان صورا ً قصصيا ً ينقصها الكثير من عناصر القص بالمعنى الفني الصحيح , كما يفتقد فيها البناء ورسم الشخصيات والعاطفة والخيال التي لا بد منها في القصة .
أما في العصر الحديث , فقد كثرت القصص الشعرية وتنوعت فكان منها التاريخية والأسطورية والرمزية والوعظية التعليمية , والعاطفية الوحدانية والاجتماعية الواقعية والوطنية والقومية , وكان منها الأقاصيص أو القصص القصيرة كما أن منها المطولة .
ومما لا ريب فيه أن القصة – من حيث النوع الأدبي – تمت إلى الشعر بصلة وثيقة , فهي كالشعر يتوصل إلى التعبير عن أهدافها بالخلق والإيحاء والتأثير ثم أن لقوة الإيحاء الأثر المباشر الأول في كل القصة . تماما ً كما هي الحال في الشعر . ثم هي كالشعر في حاجة كل منهما إلى الخيال الخصب . هذا بالإضافة إلى أن بينهما تشابها ً في " تتبع جزئيات التجزئة الشعورية , وتصوير الانفعالات والخواطر المصاحبة لها خطوة بخطوة . ليشارك الآخرون صاحبها انفعالاته , وجوه الشعوري العام " فكيف لو جمع هذان الفنان معا ً ؟
وإذا كانت القصة تصور الحياة نفسها في جميع دقائقها ولحظاتها فان القصة الشعرية تجمع بين هاتين الصورتين وتجعلنا نحيا التجربة النفسية الواحدة في نطاق أوسع . وافق أرحب , فهل وفق شعراء العصر الحديث في نظم قصصهم واستطاعوا أن يثبتوا أن الشعر قالب ملائم للفن القصصي ؟ هذا ما سنكشف عنه في آخر هذا البحث .
يلاحظ الباحث أن الدواوين التي طبعت أوائل هذا العصر ,خصص بعض أبوابها للمنظومات القصصية مثل ديوان كل من ( خليل مطران وشوقي وادوار مرقص ) , وقد عالجوا الصورة القصصية والأقصوصة والقصة , ونظم بعضهم قصصا ً مطولة كانت تقارب الرواية في روحها العامة لا في دقائقها وتفاصيلها . وسنجتزئ بعض أنواع القصص الشعرية .
القصة التاريخية : ليس بين موضوعات القصة الشعرية المعاصرة موضوع نال اهتمام الشعراء بقدر التاريخ الذي وجدوا فيه مادة غزيرة بالاستيحاء فاستقوا كثيرا من الأحداث الهامة وأحيوها , وضمنوا قسما ً منها تأريخ ما أهمله التاريخ , كما ابرزوا في الجانب الخلقي , فعرضوا مآثر الغرب ومناقبهم , والجانب البطولي منهم فنسجوا حول بعض الشخصيات البارزة قصصا ً شعرية ناجحة .
ولو اجلنا الطرف في هذا القسم لرأيناه متنوع المصادر فمنه ما اخذ من قصص القرآن ومنه ما استقيت موضوعاته من تاريخنا الأدبي أو من تاريخنا القومي واختلفت أهداف هذه القصص فبعضها كان يستهدف مجرد تصوير الحادثة لطرافتها وبعضها الآخر كان يصور مأثرة من المآثر . أو جانبا ً مظلما ً يمثل نقيصة من النقائص قصد العبرة والموعظة .
ولن نستطيع الإحاطة بها كلها في هذا البحث الموجز . لذلك سنكتفي ببعض الأمثلة ولعل الشاعر المصري ( خالد الجرنوسي ) كان أكثر الشعراء اهتماما ً بالتاريخ عدا انه يكاد يكون الشاعر الوحيد الذي وقف على الشعرية ديوانا ً كاملا ً هو ( اليواقيت ) الذي نال عليه جائزة ( المجمع اللغوي ) في القاهرة . ومن قصصه التي استقاها من القران قصة النمرود مع النبي إبراهيم حين حطم الأصنام . وأراد النمرود وأصحابه أن يلقوا به في النار ومنها ( ملك وغانية وهدهد ) وتدور حول قصة النبي سليمان وبلقيس ومأساة قارون وتحكي قصة قارون وكنوزه وتجبره , ثم ما حل به إذا خسفت به وبداره الأرض .
وكان التاريخ القديم والحديث وتاريخ الأدب العربي منبعا ً ثرأ استقى الشعراء منه كثيرا ً من الحوادث , وكان بعضهم يشير إلى ملخص الحادثة قبل عرضها شعرا ً , كما كانوا يتقيدون بواقع أحداث القصة إلا في بعض الأحوال النادرة , إذ نلمح الخيال الذي يلعب بدوره في موضوعها وترتيب أحداثها , وتصوير شخصياتها .
ولعبد الرحمن شكري قصة تشف عما كان عليه العرب من تقدير للمروءة والوفا فهذا هو ( النعمان ) يموت نديماه فيحزن عليهما , ويجعل يوم موتهمها يوم نحس , يخرج فيه كل سنة إلى البادية , فيمسك باول رجل يصادفه ويذبحه على قبرهما فداء لهما . وحدث ذات يوم أن امسك بشاعر ليذبحه فاستأذنه هذا بوداع أهله فطلب النعمان منه أن يحضر أحدا ً يكفله , فجاء بشيخ تعهد أن يحل محله أن لم يعد , ثم حان موعد مجيء الشاعر , إلا انه تأخر , فأتى بالشيخ بدلا ً منه وكاد النعمان أن يقتله فإذا فارس يعود متلهفا ً يسال عن الضامن وإذا هو الشاعر يعتذر عن تأخيره بسبب سيل اعترض سبيله , وعندئذ يهتز النعمان لموقف الشاعر وبره بوعده فيقول ( شكري ) عنه :
فقال له النعمان لا تخشى بأسنا
فان تامين ابيض الود صادق
وما كانت ادري أن في الناس من له
على نفسه منها رقيب بعينه
ووالله ما ادري أواف بعهده
أحق بإجلال الفتى أم ضمنينه
وهكذا كشف لنا عبد الرحمن شكري النقاب عن سبب صفح النعمان عن هذين الرجلين تقديرا ً للإخلاص والوفاء ثم اصطفاهما نديمين له . واقلع منذئذ عن يوم بؤسه هذا حتى مماته .
ويستفيد احمد عبد المعطي حجازي من تاريخ مصر القريب فيتحدث عن قصة ( مذبحة القلعة ) وسنفردها بالتحليل لأنها تختلف عن غيرها في أنها من الشعر الجديد الذي يقول الداعون إليه والمدافعون عنه أن له أثرا كبيرا ً في اغناء تراثنا الشعري وخاصة في الميدانين العظيمين اللذين لا يزال شعرنا قديمه وحديثه مقصرا ً فيهما أفدح تقصير , ميدان الشعر القصصي , وميدان الشعر الدرامي . إذ الشكل التقليدي للقصيدة يعجز عجزا ً تاما ً عن النهوض بهذين الفنين .
يبدأ الشاعر حجازي قصته هذه بوصف موجز لبيئة الأحداث وجوها العام على النحو التالي :
الدجى يحضن أسوار المدينة
وسحابات رزينة
خرقتها مئذنة
ورياح واهنة
ورذاذ وبقايا من شتاء
ثم يتبدد الصمت على وقع حوافر في جبل المقطم , ويبدو في الظلام فارس يتقدم , كما يبدو في القلعة حارس متجهم , ثم تتابع الأحداث فنسمع صيحة من داخل البرج ويستدير باب القلعة , فيحدث صوتا ً شديدا ً ويغيب الفارس في أحضانها ثم يصعد إلى الباشا يحمل له النبأ التالي ( المماليك جميعا ً في المدينة ) ثم ينتقل بنا الشاعر نقلة جديدة إلى جو جديد , يصوره بكلمات المقطع الأول نفسه , ثم إذا نحن في حواري المدينة نسمع المنادي ينادي ( يا أهل المدينة سوف يمضي جيش طوسن وابن البنا الكبير باكرا ً إلى الحجاز لقتال الكافرين الخارجين عن ولاء أمير المؤمنين , حامي الآستانة وسيمضي الناس إلى القلعة في ركب كبير بين الأفراح والزينات , والمماليك واعيان المدينة لوداع الجيش قبل السفر ) وهنا يطل من احد البيوت شيخ يتمتم ( ما لنا نحن وطوسن يا حمار ) ؟ ويغلق الباب وراءه في حقد ثم يضمحل الصوت والصدى , ويعود الصمت يلف الحوار , حيث الرسوم الفاطمية والشركسية والدمن المنتشرة هنا وهناك والعفن الذي يفوح منها والبيوت المملوءة بالجياع ... ونمضي من جديد إلى مكان آخر , إلى دروب الأزبكية حيث نسمع كذلك صوت الرياح الواهنة التي تهوي على مياه البركة الخضراء , حيث يبدو لنا قصر مملوك جميل روع الإفرنج حينما أتوا بخيولهم لتبول في صحن الأزهر , انه ( أمين بك ) ذلك الفارس الشهم الذي جمع جنود المدينة حوله ودعاهم لغسل العار بدمائهم . ويا الله ما كان أروع أصوات الجموع عندما سارت إليه تقول له : نعم يا أمين بك أنت منا فقد تربيت بيننا , حتى بائع الثياب القديمة استجاب لدعوته وقال : هيا بنا . وهنا نمضي إلى مكان جديد فالدجى ما زال يغشى المدينة , ونباح يسمع من بعيد ثم يختفي الصياح فيموج السوق بالذكر الحكيم , ويرى السقاء يحمل مبخرة يطوف ببيت قديم ينادي ( يا كريم ) وفي مقابل ذلك كله نسمع ضحكات ناعمة لجوار تحلم بالحرير والعطور كما نسمع أصوات الصخب والضجيج , ومن ورائها نلمح الحزن العميق , وفجأة يلعلع صوت بوق , فإذا عسكر الباشا يقطع الطريق ويثير الغبار يتقدمهم فارس يركب بغلة تتهادى في وقار , قاصدين القلعة للاحتفال . أما المماليك فكانوا فوق خيولهم العربية . بثيابهم الموصلية , ذات الفراء السيبيرية , ورنت إليهم العيون وقالت : ( آه يا عيني لقد أضحوا يتامى مثلنا ) ويتهادى الركب إلى القلعة , فسمع صوت بوق ثم دار بابها في صوت شديد , ومضى المماليك يغذون السير بين الأسوار والبرج والتفوا حولهم مرتابين , فإذا الباب يرتد وراءهم ويغلق , وإذ صوت من خلف الباب يقول : ( أطلقوا ) انه صوت قائد الارناؤوط . وأطلق الرصاص فنزل عليهم كخيوط المطر وتسمع أصوات من هنا وهناك تقول : آه يا نذل لقد خنتنا ) وهكذا يهوي المماليك كالحصيد . أما أمين بك فقد كان إلى جانب السور وسيفه في يمناه ولكن ماذا يفيد السيف آنذاك ؟ ومضى يعود بحصانه ثم علا سور القلعة ونظر إلى المسافة التي تفصله عن الأرض , وهمس في إذن حصانه بحنان ( هيا طر بي ) وإذا الفارس عقاب يطير في الجو ويقفز عن حصانه حينما يقارب الأرض بينما يسقط الحصان أشلاء مبعثرة على التلال .
وينظر الناس حولهم , وتتردد على شفاههم العبارة التالية : ( لقد نجا أمين بك ) ثم يمضون كمن يعود من مقبرة بينما يمتد السكون ويلف الكون من جديد .
على هذا النحو صور ( حجازي ) مذبحة القلعة المشهورة فتمثلت لنا من خلالها المعاني الإنسانية العميقة , واللحظات النفسية الرقيقة وقد بدأت القصة – كما رأينا في تلخيصها برسم جوها العام الذي يمهد للأحداث فالأمر المبيت خطير , انه خدعة دبرت في الظلام لقتل المماليك الذين أوهموا بأنهم سيشهدون احتفالا ً كبيرا ً , ويلي هذا تمهيد آخر يركز حول الشخصية الأولى في هذه القصة يرسم فيه الشاعر لمحات في بطولات المملوك الشارد , ثم يبدأ من الحدث بتصوير جميل للمكان : الظلام المسيطر على المدينة , النباح من بعيد , الصباح والشمس الخ ...وهكذا يبدو لنا الجو كله مشعرا ً بالسكون الذي نذر بالعاصفة ويقطع الطريق لماذا ؟ هذا ما يوضحه الشاعر بعد قليل حين أطلق الرصاص على المماليك , وأبيدوا ’, ويكاد ينتهي الحدث لولا حدث آخر يبرز من خلال الأزمة , فأمين بك كان بجانب السور يشهد قصة الغدر , ثم تدور في رأسه فكرة ما يلبث أن ينفذها وعند ذلك يتجلى الموقف تماما ً وتنحسر الأزمة مع نهاية القصيدة إذ يقول :
قد نجا منهم أمين بك يا رجال
قالها والناس على ظهر التلال
ومضوا كالدافنين
ثم يمتد السكون
وحصان يهبط القلعة وحده
مطرقا ً يمضغ في صمت حزين
ويكشف تحليل القصة عن مدى التوفيق الذي حالف الشاعر في نظمها من حيث التصوير والحبكة , ومن حيث إبراز الحدث وتدرجه في النمو والتكامل حتى يصل إلى ذروته ثم ينحدر إلى النهاية .
وليس في هذه القصة حدث واحد لا يخدم الموقف الأصلي , حتى الصور التي وشى بها قصته كانت روافد للهدف , ساعدته في تحليل المواقف ودعم سياق الأحداث وتسييرها ونموها تدريجيا ً حتى نخلص من القصة وقد اكتظت مخيلتنا بفيض عارم منها مثال ذلك قوله نداء المنادي مخبرا ً أن جيش طوسن سيمضي للقتال :
ويمد العين شيخ خارج من باب دار
متوار ويتمتم :
في جهنم
مالنا نحن وطوسن يا حمار
وبهذه الكلمات العفوية تأتي الصورة حية ناطقة تنم عن الحقد , والشعور بالسخط على هؤلاء الحكام , لتعبر عن الهواة التي تفصل بينهم وبين الشعب في قوله ( مالنا نحن وطوسن يا حمار ) .
ومنها الصورة التي ينقلها من داخل القلعة حينما بلغ الحدث ذروته فأطلق الرصاص واختلطت بأصوات البشر والخيل فأضحى المكان كله مزيجا ً من الحركة الصاخبة :
وجنود الارناؤوط
من قريب وبعيد
من على من تحت أيدي اخطبوط
تطلق النار فكم فر حصان
ملقيا ً سيده فوق الدماء
فترش السقطة الجدران دم
وألم
لا يا نذل
ويهوي كالحجر
والخيول
همهمات وصهيل
ترفس الصخر فينطلق الشرر
والصخب
-أنت محصور فخذها
-لاتفكر في الهرب
-أنت ودعت الحياة
ثم يهون كسنبل
تحت منجل
إن هذه الصورة الدقيقة الزاخرة بالحركة , أضاءت كثيرا ً من جوانب القصة , وجعلتنا نعيش في أعماقها , وننفعل مع أحداثها في كل لحظة , وما ذلك إلا لان الشاعر استطاع أن يوزع أضواءه على الحركات التي تحتاج إلى التنوير .
والواقع انه قد اهتم بالتحليل النفسي أكثر من اهتمامه بالجانب السياسي للواقعة , ولكنا لا نحب أن نبالغ في التركيز على هذا الجانب فنقع في المغالاة التي وقع فيها ( رجاء النقاش ) حين حلل هذه القصيدة واوجد صلات وثيقة بينها وبين ( الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر والرؤى التي تملأ دنياه ) إذ تصور جانبا ً تراجيديا ً لهؤلاء المماليك الذين كانوا متأهبين للفرح بالحياة , وبينما كانوا كذلك إذا الكارثة تقع و ( هكذا يقع الاعتراض على الرغبة في الحياة , على الرغبة في الفرح . وهذا ما يحدث لشاعرنا الإنسان كل يوم ,رغبة عارمة في الفرح , رغبة عارمة في الحياة , ولكن هذه الرغبة العارمة ما تكاد تولد حتى تعترضها العقبات تلو العقبات , ومن هنا ترتد هذه الرغبة النابعة من مكامن الفرح في الذات الإنسانية , لتصبح جزءا ً من أحزان تلك الذات وآلامها ) .
إن رجاء النقاش إذ يقول هذا يقع في مبالغة كبيرة , وافتعال واضح إذ يجعل هذا الجانب هو الخيط الذي امسك به الشاعر في ( مذبحة القلعة ) ونحن نلحظ سيطرة التحليل النفسي , والتصوير الموحي على أجزاء القصة , كما نلاحظ إجادة الشاعر في العرض , مما يدلنا على انفعاله بأحداثها , ذلك الانفعال الذي يوحي بوجود علاقة وثيقة بينها وبينه حتى هزته ودفعته إلى النظم .
وعلى الرغم من ذلك نقول : إن هذا ليس الخيط الوحيد الذي امسك به الشاعر , بل أن هناك خيوط كثيرة أخرى في هذه المأساة , لعلها ترجع إلى حس إنساني مرهف يتحلى به الشاعر , فيجعله ينفعل بالمآسي التي تنطوي على مطلق الظلم والغدر , كما يثور وينفعل بالمواقف التي تنم عن قلة اكتراث بالقيم الإنسانية العامة , واستخفاف بالمثل السامية خاصة . وتتضح هذه الحقيقة حينما نطالع قصته الأخرى العاطفية ( قصة الأميرة والفتى الذي يكلم المساء ) .
وهناك كثير من القصص الشعرية التاريخية الأخرى استقى الشعراء بعضها من تاريخ الأدب مثل ( الملك الضليل وعنيزة ) لشيلي الملاط , و ( إن من البيان لسحرا ً ) لخليل مطران , و ( عروة وعفراء ) . للأخطل الصغير و ( كأس ) لعمر أبي ريشة . كما عنوا بقصص الشخصيات البطولية مثل ( ملكة تدمر ) لشلبي الملاط زو ( طارق بن زياد ) لخالد الجرنوسي , و ( خالد ) لعمر أبي ريشة وغيرها . وجدير بالذكر أن معظم هذه القصص التاريخية بدا اهتمام الشعراء فيها بالحدث أكثر من اهتمامهم بعناصر القصة الأخرى . وكان نظمهم لها اقرب إلى السرد التقريري منه إلى الصياغة الفنية , عدا قصة ( مذبحة القلعة ) التي حظيت من الشاعر بنصيب فني كبير , وربما يعود هذا إلى اعتماده على شعر التفعيلة الذي استطاع أن يتحرك فيه بشكل أرحب وأكثر حرية .
القصص الوعظية التعليمية : أكثر القصص الوعظية التعليمية تجري على الحيوان ويرمز كل حيوان فيها إلى شخصية إنسانية يشف عنها بوضوح لذلك ناسب أن تأتي هذه بعد التاريخية لما بينهما من تشابه وهذه القصص اقرب إلى الحكايات التي تتخذ الطابع الخلقي والوعظي التعليمي . ويعني الرمز هنا المعنى اللغوي العام , لا الرمز في ( معناه أن يعرض الكاتب أو الشاعر شخصيات وحوادث على حين يريد شخصيات وحوادث أخرى عن طريق المقابلة والمناظرة , بحيث يتتبع المرء في قراءتها الشخصيات الظاهرة التي تشف عن شخصيات أخرى عميقة , تترامى خلف هذه الشخصيات الظاهرة ) وقد سبق أن اشرنا إلى ( ابن الهبارية ) الذي نظم كليلة ودمنة , وتمضي العصور فلا نكاد نلمح في إنتاجنا الشعري قصة واحدة على لسان الحيوان , حتى نصل إلى أواخر القرن التاسع عشر وعلى وجه التحديد إلى عام 1867 م حين اصدر الشاعر ( رزق الله حسون ) ديوانا سماه ( النفثات ) ضمنه حكايات خلقية على لسان كل من الإنسان والحيوان , وذكر في مقدمته انه نقلها إلى العربية من شاعر الصقالبة (كريلوف ) على طريقة ( بيدنا ) الهندي .
وفي أوائل القرن العشرين ( 1906) طلع علينا ( محمد عثمان جلال ) بديوان ( العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ ) وذكر في مقدمته انه أخذه من ( ايسوب ) اليوناني .
وفي ديوان الشوقيات – الجزء الرابع – قسم خاص بالحكايات على لسان الحيوان نظمها شوقي اثر اطلاعه على الأدب الفرنسي ولا سيما ( أمثال لافونين ) التي تأثر فيها بالحكيم الهندي ( بلباي ) أي ( بيديا ) الذي رويت حكايات ( كليلة ودمنة )على لسانه , كما تأثر بما كتبه ايسوب اليوناني من هنا نعرف أن كل من نظم حكايات على لسان الحيوان بدا متأثرا بالأصل الهندي أما مباشرة وأما عن طريق تأثره بمن اخذ عنه , ونرى أن الشعراء الثلاثة الذين نظموا هذه الحكايات الوعظية التعليمية في عصرنا الحاضر , جعلوا حوادثها تدور على لسان الإنسان تارة وعلى لسان الحيوان والإنسان تارة أخرى . وعلى لسان الحيوانات في أكثر الأحيان .
ونضرب مثالا على هذه الحكايات ( صاحب المال والنعال ) لمحمد عثمان جلال , وتروي هذه الحكاية أن احد الأغنياء كان جارا ً لنعال وكان الغني لا يذوق طعم النوم وهو عاكف على ماله يجمعه ويحسبه بينما بدا النعال قانعا ً ينام ملئ جفونه مستريح البال وجاء ذات يوم جاره الغني وسأله عن حاله , فحمد الله انه يملك قوت يومه , وانه كثيرا ً ما ينام بلا عشاء وربما اجتزأ بالخبز على الإفطار , ولكنه سعيد في حياته فرق الغني له , وأعطاه مئتي ريال ليسري بها عن نفسه فأخذها فرحا ً , وراح إلى داره نشوان فطار نومه وعدم راحته واخذ يتقلب في فراشه ثم قام عند الصباح : وحمل الكيس إلى صاحبه وجاءه في داره صاح به
وقال : خذ مالك واردد نومي فما غفلت ليلتي ويومي
وأنني رضيت بالقناعة أحسن من مال ومن بضاعة
وقد ذيلت الحكاية كما رأينا بالعبرة المقصودة , وهي ( أضرار المال ومتاعبه ) ونضرب مثالا ُ على قسم الحكايات التي تجري حوادثها بين الإنسان والحيوان , حكاية ( صل ونمام ) لرزق الله حسون ويستهدف من ورائها بيان أن النمام شر من الأفعوان وان جزاءه النار , فقد جاء إبليس يوم الجحيم صل ونمام واقتربا من الباب يريد كل منهما ان يسبق الآخر في الدخول وتشاجرا طويلا ً والعادة في الجحيم أن يكون الأكثر إضرارا ً وكيدا ً أعظم جاها ً وخطرا ً وهكذا طال الشجار بينهما وفغر كل منهما فاه نافثا ً سمه وفاز الصل وتقدم . وتأخر النمام وأحجم لكن إبليس قام معترضا ً في الباب مستنصرا ً للنمام , وقال للأفعوان : تأخر فان شرك يعرفه الناس جميعا ً , لكن هذا لا ينجو منه احد عند الوشاية , إذ لا تقف البحار ولا القلاع ولا الجبال دون نميمته , فهو أعظم شرا ً منك , فكم من جنودي ساروا في ركابه وقال الشاعر في النهاية :
منذ ذلك اليوم كما قد اشتهر أن كل نمام على بني البشر
مخصص له المقر في سقر
والملاحظ في هذه الحكاية أنها تجرد المعنى المقصود وتصوره في شخصين اثنين رمزا ُ للشر القاتل , وكلاهما أسوأ من الآخر وإذا كانت أحداهما إنسانية فان اقترانها بالأخرى المتمثلة في احد الحيوانات السامة , أضفى عليها طابعا ً رمزيا ً زادها إيضاحا ً وشفافية لذلك المعنى المقصود .
أما الحكايات التي كانت على لسان الحيوان فكثير منها أصبح عنوانه رمزا ً لمضمونه , كحكاية ( الغراب والثعلب ) التي أخذت أصلا ً عن أمثال الشاعر الفرنسي لافونتين والهدف منها بيان نتيجة الاغترار بالتملق والانخداع بالمدح الكاذب ومثلها ( النملة والصرصار ) التي هي رمز للجاد المجتهد والكسول الخامل وغيرهما الكثير مثبوت في الدواوين التي اشرنا إليها .
وفي حكايات شوقي أمثلة كثيرة على لسان الحيوان لعل أطرفها حكاية ( فأر الغيط وفأر البيت ) فقد كانت أم الفأر الأول علمته كيف يدخل وكيف يخرج وينتقل في الغيط , كما علمته النط على الخيوط وتحصيل القوت , بينما الثاني - فأر البيت - كان متكبرا ً يريد غزو البيوت ويطمع في التجول بين الرفوف ليحظى بالجبن والسمن والعسل وكانت أمه تحذره دائما ً وتخاف عليه فيضحك منها ثم يمضي ويأتي أمه كل أسبوع ومعه بعض المآكل ومضت عليه مدة وهو على هذه الحال ثم افتضح أمره وعاد مرة إلى أمه مضربا ً فسألته أين ترك ذيله , فأجابها لقد غاص في الشهد , وجاءها ثانية خجلا ً يداري عنها إحدى رجليه , فسألته عنها فقال :
رف لم أصبه عال صيرني أعرج في المعاني
وفي المرة الثالثة اخلف زيارته لامه فشغل قلبها عليه وسارت مسرعة إليه :
فصادفته في الطريق ملقى قد سحقت منه العظام سحقا ً
فناحت الأم وصاحت واها إن المعالي التي قتلت فتاها
وواضح أن شوقي في حكايته هذه – كما في حكاياته الأخرى – كان حريصا ً على أن يجمع المتعة الفنية إلى جانب الفكرة العامة التي يصورها من خلال التصوير شفافة وواضحة دونما حاجة إلى تدخل الشاعر لشرحها وإيضاحها أو ملئها بالمواعظ المباشرة .
ولابد من الإشارة هنا إلى أن هذا النوع من القصص الشعرية بأشكاله وشخصياته , كان الهدف منه – في الأغلب – اجتماعيا ً وان كان بعضها ذا مغزى سياسي أو أنساني وخاصة في حكايات شوقي .
ولا يفوتنا أن نذكر أن الشعراء قد حرصوا في هذه القصص على توفير التشابه بين الشخصيات الخيالية التي تستخدم رمزا ً , وبين الشخصيات الحقيقة التي تمثل المرموز إليهم بحيث تذكر صفات الأولى بالثانية , دون أن تطغى أحداهما على الأخرى .
ومن هنا نفضي إلى ملاحظة أخرى , وهي أن للخيال أثرا كبيرا ً في تشخيص الحيوانات أولا ً ثم في تسيير الحوادث ثانيا ُ وتحريك الأشخاص وإبراز طباعها عن طريق التصوير والتمثيل لكل من الرمز والمرموز إليه .
وفضلا ً عما تقدم نلاحظ أن معظم هذه الحكايات كان يعتمد على الحوار أكثر من اعتماده على العرض أو التعقيد أو الحل , وهو حوار سريع مركز .
القصص الاجتماعية : تستغرق القضايا الاجتماعية جزءا كبيرا من القصص الشعرية ويعد الاهتمام بها سمة واضحة من سمات عصرنا الحاضر وقد أبدى الشعراء اهتماما ً كبيرا ً بالعطف على البائسين وثاروا على الحضارة لأنها جرت معها كثيرا ً من الموبقات التي جرفت الشباب في تيارها , وأدت إلى عواقب وخيمة , ومآس أليمة كما ثاروا على الفروق الاجتماعية والتفاوت الطبقي مما أدى إلى الفقر والجهل وغيرهما من الأمراض الاجتماعية .
وقد صور الشعراء نماذج بشرية تمثل ألوان البؤس وما يتبعه من جوع ويتم وسرقة وإجرام , وطالبوا – تصريحا ً وتلميحا ً – بمعالجة هذه الأدوار عن طريق محاربة أسبابها وعلى رأسها الحاجة والبطالة , كما حاربوا الفساد الخلقي الذي جرته الحرب العالمية الأولى وما نجم عنها من أخلاق سيئة , ونددوا بكثير من المفاسد الاجتماعية كالغش والخداع والحسد والحقد والغدر والكيد والكبرياء والرياء , والرقص والتهتك , واهتموا بالمرأة خاصة وبقضايا الزواج عامة وشجبوا فيه إيثار الغنى على الصفات الخلقية في هذا الرباط المقدس , وكشفوا عن اثر البيئة الفاسدة في نشأة المرأة , وفي مقابل هذا دعوا المثل العليا التي يجب أن يرسي المجتمع قواعده عليها فمجدوا الفضائل السامية كالشرف والعفة والأمانة والوفاء , وأشادوا عموما بالخلق الكريم .
ومما يلفت النظر في ها المجال أن بعض الشعراء عرض لنا الأمراض الاجتماعية في صور قصصية متشابهة في مضمونها متقاربة في عنوانها يدور معظمها حول الفقر واليتم , فالرصافي يحكي عن اليتيم في العيد – أم اليتيم – الأرملة المرضعة – المطلقة – والزهاوي يقص علينا حكاية ( أرملة الجندي ) وغير ذلك مما هو ادخل في باب الصور القصصية الاجتماعية .
أما المجموعات الأخرى فقد نظمت في اطر فنية قصصية , حاول الشعراء فيها أن يميطوا اللثام عن العلل التي دفعت الشخصية إلى الانحراف وعن الدوافع الخفية التي أدت إلى ارتكاب بعض الجرائم والموبقات فجعلونا نتعاطف مثلا ً مع هؤلاء المنحرفين بدل أن ننحي باللائمة عليهم فالسرقة مثلا ً من الأمراض الاجتماعية المستقبحة , ومع هذا أن عرفنا أن الفقر أو الحاجة يكون الدافع لارتكابها في بعض الظروف والأحيان فقد نسوغ للسارق جرمه , وقد تتجاوز خطيئته , ونلقي اللوم على المجتمع الذي فقدت فيه العدالة ولم توفر فيه فرص العمل المتكافئة . وهذا ما فعله كثير من الشعراء الذين عالجوا هذا الموضوع , فهذا هو ( علي صدقي عبد القادر المحامي ) يرسم في قصيدته ( مجرم ولكن ) صورة متهم بسرقة القمح , يحكم عليه القاضي بالشنق . فيقف أثناء المحاكمة معارضا ً قرار الاتهام , ويدافع عن نفسه فيسكته القاضي ويطلب منه أن يجيب – سلبا ً أو إثباتا ً هل سرق القمح أم لا , فيجيب : نعم ولكنني ما كنت لأفعل لولا العطالة ولولا أسرتي التي مضى عليها أربع ليال جائعة , ولولا أطفالي الذين يتضورون جوعا ً ثم ينامون من التعب واليأس ولولا أبي المريض وزوجتي الصبور اللذان ينتظران عودتي مساء بالدواء وبرغيف الخبز وحزمة من الفجل , لكني كنت أعود خجلا ً خائبا ً خالي الوفاض بعد أن أكون قد أمضيت يومي في السوق بحثا ً عن عمل شريف دون جدوى , وهكذا انسللت إلى مخزن القمح حيث كدسه ذلك المحتكر الذي يجر المجاعة للبلاد كي يبيعه بثمن باهظ عند اشتداد الجوع , وقطعت النيابة كلام المتهم , وأطلقت الحكم عليه قائلة :
باسم الجماعة والنظام
فليلق هذا المجرم الوغد اللئيم
حكما ً شديدا ً قاسيا ً
ليكون عبرة غيره
لمن اعتبر
للاثمين من البشر
ثم يلمع صوت النيابة قائلا ً ( محكمة ) كي يردع المتهم ويجر إلى السجن مغول اليدين وتضيع من ورائه أسرة ويشرد أطفاله عبر الأزقة والدروب .
وهكذا يضاف إلى هذا المجرم كل يوم متهمون آخرون يموتون وهم أحياء .
وقد وفق الشاعر في اختيار عنوان القصة كما وفق في تصوير شخصياتها ورسم أحداثها والمواقف فيها بمنتهى الدقة , وقد ابتدأ من منتصفها , ليزيد تشويقنا إلى معرفة أول القصة وافتتحها قائلا ً :
الحارس المنفوخ يصرخ محكمة
في الحاضرين
ولصوته الخشن الأجش
يقف الجميع كما يشاء الحارس الاجف الغليظ
وتردد الجدران صرخة محكمة
والقاضي في هذه القصة يمثل إحدى شخصياتها الرئيسية , فكيف يرسم الشاعر صورته أمام الجماهير ؟ يقول :
بجبينه غاض ابتسام الياسمين
وغضون جبهته كوديان تخيف المتهم
ويفرك الورق الكثير
على عجل
ضمن الملف المرعب الخطر الكبير
ذاك الملف الأحمر اللون الممدد مثل صل
وينفذ الشاعر ببصيرته إلى ما تحتويه أوراق هذا الملف فيمتد خياله بعيدا ً ويتراءى له المتهم من خلال حبل المشنقة متدليا ً كما يتراءى له أن السين والجيم غمدتا على الورق ( فأسين ظلا ينبشان قبرا ً في مهمه ) وينتزع لنا كذلك صورة حية من هذه المحاكمة :
ويتمتم القاضي ينادي باسم متهم نحيل
يهتز كالعرجون في رأس النخيل
ويحملق الجمهور بالمقهور في القفص الجديد
وكأنه وحش الفلاة
ويقوم من اسماه متهما ً قرار الاتهام
متثاقلا ً بادي السقام
وبلا كلام
من بعد ركل الحارس القاسي الشرس
ويظل مرتعشا ً ذليلا ً
من خلف قضبان الحديد
تتلى عليه التهمة النكراء تهمة سارق
وتكاد القصيدة لا تخلو في أي موضع من التصوير حتى لنخالها كلها لوحة تصويرية قصصية .
وتبدو عناية الشاعر واضحة كذلك في إبراز الغرض الرئيسي والدفاع عنه على لسان المتهم نفسه وهو يقصد بيان سبب الإجرام , فلولا البطالة لما غدا هذا المجرم مجرما ً ولولا الفقر والحاجة والأسرة التي خلف أفرادها جياعا ً لما أقدم على السرقة وقد أحسن كذلك في ختامها إذ يقول متكئا ً على الهدف نفسه :
لا يوقف الطاحون سجن الأبرياء
ولا أنين للمريض
لم تثنه صرخات طفل جائع
سجنوا أباه
لم تثنه دمع الأمومة
ويظل طاحون الحياة بنا يدور
أبدا ً يدور ....
وقد بدت المواقف فيها معبرة عن الغرض اصدق تعبير , وتجلى هذا بوضوح في دفاع المتهم عن نفسه , فبدت شخصيته منطقية في تصرفاتها وأفعالها منسجمة مع الغاية منها , دون أن نحس في أي موقف نبوا ً أو افتعالا ً بل قامت به بمحض إرادتها , دون أن يضطر الشاعر إلى دفعها حتى تسير وفق هواه ولهذا اختفت شخصيته وراءها توجهها وتحركها من بعيد دون أن تطفو على السطح .
وهذا الشاعر كسابقه ( احمد عبد المعطي حجازي ) نظم قصته شعرا ً حديثا ً فبرهن على أن هذا الشعر قادر – إذا توفرت له البراعة الفنية – على التعبير في وحدة موضوعية متماسكة , تعبيرا ً قصصيا ً موفقا ً .
ومن موضوعات القصة الشعرية الاجتماعية ما استوحاه الشعراء في الحرب العالمية الأولى , والمجاعة التي حصلت أثناءها ولا سيما في بلاد الشام ومنها ( الريال المزيف ) لطانيوس عبده وبالمضمون والعنوان ذاتيهما – مع بعض التعبير – قصيدة لبشارة الخوري ( الأخطل الصغير ) وأخرى مشابهة أيضا بعنوان ( من ماسي الحرب ) ويشير الأخطل الصغير بعد العنوان إلى أنهما حادثتان وقعتا أثناء الحرب العالمية الأولى اثر المجاعة التي فتكت بنصف سكان لبنان . وتلخص القصتان بان فتاة حسناء اضطرها الجوع أثناء الحرب إلى الانحراف الخلقي والتردي في مهاوي الرذيلة , وذات مرة أعطاها فتى ريالا ً فلما ذهبت به إلى البقال لتشتري به طعاما ً لها ولطفلتها الصغيرة فوجئت وهي تدفع الثمن حين اخبرها البائع بان الريال مزيف واسترد منها ما اشترته من طعام .
ولسنا ندري أكان محض مصادفة اختيار عنوان واحد لهذه القصيدة ة التي سبقتها , أم أن الشاعر اللاحق تأثر بالسابق تأثرا ً جاوز الإطار العام إلى تفصيلات بعينها . كالجزء الخاص بالريال المزيف ورد الطباخ أو البقال له , لكن المدقق في القصيدتين يلاحظ أن قصيدة ( الأخطل الصغير ) أغزر معنى وامتن أسلوبا ً وسبكا ً من قصيدة طانيوس عبده وفيها تحليل عميق للصراع الذي قام في نفس تلك المرأة بين أن تضحي بشرفها أو تضحي بابنتها وحياتها , من ذلك قوله على لسانها :
يا رب قالت وهي جاثية له إن شئت حل من الحياة وثاقي
قد عشت عمري ما عرفت بريبة وعبدت بعدك عفتي وخلاقي
والآن والأيام ملأى بالأذى قد أصبحت وقرا ً على الأعناق
زوجي يحارب في التخوم وطفلتي فوق الفراش تزيد في إرهاقي
من أمها تبغى الغذاء لجيمها من أمها تبغي الدواء الواقي
وطرقت أبواب الكرام فأوصدوا أبوابهم فرجعت بالإخفاق .
وينتهي الصراع باختيارها التضحية الأولى إذ تقول عن ابنتها :
لا , لا تموت فإنها لبريئة حسناء ما شبت عن الأطواق
وعلى الرغم من أن القصيدة بدت اقرب إلى النظم , لكن الشاعر أحسن في رسم شخصية الفتى المعتدي تصيرا ً يستثير سخطنا واحتقارنا له كما يستدر شفقتنا وعطفنا على تلك المرأة الضحية .
ونود أن نشير إلى أن القصص الاجتماعية الأخرى وان الهدف منها الإصلاح الاجتماعي الموجه , لذلك غلب عليها الوعظ , فكان مما يؤخذ على الشعراء في مثل هذه القصص قطعهم الأحداث أحيانا لإقحام عظة أو دس نصيحة , وكثيرا ً ما كانوا يستطردون إلى المناجاة ( المونولوج الداخلي ) مما أساء إلى فن القصة أحيانا ً وأدى إلى تجزئته أوصالها , أو عرقلة حركتها واندفاعها نحو النهاية .
وفوق هذا كله يستشف من وراء القصص الاجتماعية نزعة إنسانية واضحة ولا سيما في ماسي الحرب والمجاعة .
القصص الوطنية : حظي هذا اللون من القصص بالدرجة الثالثة من اهتمام الشعراء سواء أكان هذا من حيث الكثرة والتنوع أم من حيث المضمون .
وقد واكبت هذه القصص الوعي الوطني والقومي , ورافقتهما في جميع مراحلهما فانعكست صورهما فيها , ولكنها كانت ضبابية وانية , تعتمد على التلميح حينا ً وقوية واضحة تتخذ طابع التصريح حينا ً آخر .
وقد أشار الشعراء بشجاعة المرأة وبطولتها في مواجهة الاستعمار وضربوا أمثلة من نساء الأمم الأخرى , كما صور بعضهم ظلم الطبقة الحاكمة , منددين باستبدادها , ودعوا إلى الثورة على المظالم والتحرر من الإقطاع والتحكم , كما ضمنت بعض القصص لقطات من المأساة الوطنية القومية لفلسطين .
فهذا هو حافظ إبراهيم يرسم لنا صورة قصصية عن ( غادة اليابان ) وهذا ( فؤاد الخطيب ) يعطينا صورة لعجوز يابانية متأثرا ً بحافظ في وزن القصيدة وقافيتها وبعض عباراتها وان اختلف مضمونها , شبه بهذا بعض قصص ( خليل مطران ) مثل فتاة الجبل الأسود , وغيرها , وهذه الصور القصصية تعكس لنا الوطنية تلميحا ً لا تصريحا ً وربما كان الضغط الاستعماري هو السبب في اللجوء إلى هذه الطريقة من التعبير , أما القصص التي يندد الشعراء فيها بظلم الحكام وغدرهم , فمنها ( الشاعر والأمة ) لإيليا أبو ماضي , و ( فنجان قهوة والعقاب ومقتل بزر جمهر ونيرون ) لخيل مطران وغيرها الكثير .
وهناك قصص تدور حول الاستعمار وتندر به وتحذر منه كقصة ( العذراء ) التي يحكي فيها خير الدين زركلي بأسلوب رمزي كيف تم احتلال الفرنسيين لسورية فأسرة ( العذراء ليى ) تتألف من أب عجوز وأخ شاب ( الهيثم ) وأخوات ثلاث صغيرات وكانت هذه الأسرة تقيم في كوخ على ساحل البحر , وفي ليلة من الليالي تسمع ليلى طرقا ً على الباب فتهب من نومها لترى من الطارق , فتعجب إذ ترى ضيفا ً في تلك الساعة المتأخرة من الليل ويصحو والدها ويسال الضيف عن حاجته فيتلعثم أول الأمر , ثم يحاول أن يتودد إلى الشيخ بعبارات تملق طويلة , فيسأم منه الأب ويلم في استفساره عن حقيقة حاجته , فإذا هو يطلب أن يقبله زائرا ً جار صباح ومساء – وحينما يعتذر الشيخ لضيفه يدعي هذا انه جاء ليقدم العون لتلك الأسرة فيرفض الأب وابنته معونته , وعندئذ يدرك الضيف أن حيلته لم تنطل عليهما , فيلجأ إلى اتهام ليلى بأنها أحبته , وان أباها يرتضيه صهرا ً له :
قال مهلا ً يا مهاة الحي أني بك أدرى
أنت قد أحببتني والأب راض بي صهرا ً
بهتت من قوله فأضربت يا للسماء
أي فاري فرية يلصقها بي بازائي .
ثم يفيق الهيثم على اثر الضوضاء ويرى أباه وأخته على تلك الحال من الغضب فيلتفت إلى الوافد الثقيل ويعنفه , وعند ذلك يضطر هذا إلى الكشف عن رغبته الحقيقية ويقول :
أنا لي أمنية ليس لكم منها مناص
لي عذراؤكم ما إن لها مني محاص
جرحتني بهواها والجراحات قصاص
بيننا السلم إذا شئت وإلا فالرصاص
فينفجر الفتى صارخا ً في وجهه , رافضا ً العار ثم تدور معركة صاخبة بينهم وبين الباغي الأثيم بمفاجأة حينما :
حسر العاني نقابا ً فإذا عبد تردى
برداء المجد ساء العبد للإشراف ندا
صرخت ليلى أخي هيثم زين النبلاء
اطعن العبد ورد الأرض منه بالدماء
لكن الهيثم ما يلب ثان يسقط صريعا ً فينحني الأب وابنته على الجريح الصريع , والدمع ينسكب من أعينهما , ويفتح القتيل جفنيه ويناجي أفراد الأسرة ملقيا ً وصيته قبل موته :
أبت لا تنسى واحم فتاة الطهر انتا
فإذا أدركك الموت كما مت عذرتا
كفكفي دمعك يا ليلاي كوني لي أختا ً
تاجها ً العفة لا ترضى بغير الطهر بتا
يا طفيلات أبي أصلحكن الله نبتا
كن عونا لأبيكن وخلين بكائي
وتناقلن حديثي انه رمز الإباء
ثم يلفظ أنفاسه الأخيرة فيدنوا القاتل من الأب والأخت مصرحا ً انه لن يغادر ذلك البيت بعد اليوم , وخير لهما أن يقبلا به ضيفا ً , ولكنهما يأبيان ويعربان عن استعدادهما للموت فيضحك القاتل من قولهما , ثم ينسل ليدعو عصابة كامنة تنهال على البيت وتأسر من فيه وتكم الأفواه وتوقر الأسماع , وتحار الألباب وتفقر الربوع ....
الرمز واضح في هذه القصة , فالعذراء ليلى هي سورية والفتى الهيثم هو الشهيد يوسف العظمة الذي استشهد في معركة ميسلون حين دخل الفرنسيون سورية والضيف الطارق الثقيل هو المستعمر الفرنسيين الدخيل . أما أحداث القصة فقد بدت منسجمة متماسكة مهد لها الزركلي بتصوير تلك الأسرة الراضية ثم بدأها بوفود ذلك الطارق ليلا ً وتتطور الأحداث فتفاجأ بتلك التهمة التي يلصقها الزائر بالعذراء وهنا يتأزم الموقف , وخاصة حين يفصح الدخيل عن رغبته في الحصول على العذراء بأي ثمن , يبلغ التأزم ذروته حين تشتد المعركة بينه وبين أفراد الأسرة , لكن العقدة تبدأ بالحل حين يصرع الهيثم , ويأتي أعوان الضيف ليحتلوا البيت , وبفضل هذه الأحداث المتطورة تجمعت خيوط القصة لتنتهي إلى مركز واحد ونقطة واحدة توضح من هو هذا الضيف , ومن هي هذه العذراء , ومن هو الهيثم الشهيد , ولماذا اختار الطارق الليل دون النهار إلى غير ذلك من خيوط القصة . وبفضل الرمز توفرت للقصة متانة النسج , وإحكام السبك , ومما ساعد الشاعر في هذا نظمه لها بقالب الموشح الذي مكنه من تغيير القافية وانتقاء كلمات أكثر تنويعا ً , وبالتالي بدت لغته أكثر مرونة واتساعا ً . فإذا رجعنا بذهننا إلى ما قلناه حين تحدثنا عن حياة هذا الشاعر وكيف حكم الفرنسيون عليه – غيابيا ً – بالإعدام مرتين , بسبب مواقفه الوطنية من الاستعمار , ثبت لنا أن هذه القصة نابعة من عاطفة صادقة ساعدت – بلا ريب – على نجاحها
ومن القصص الوطنية ( شنق زهران ) لصلاح عبد الصبور ) ونعود هنا مرة ثانية إلى الشعر الحر لنرى كيف نجح الشعراء في استخدامه للقصة , وتدور هذه المرة حول جانب من حادثة دنشواي المعروفة التي اشرنا إليها في شعر حافظ وشوقي , فقد كان من بين من شنق من أهل القرية رجل يدعى ( محمود درويش زهران ) الذي جعله عبد الصبور بطل قصته , وقد بدأها من تدلي رأس زهران على حبل المشنقة , ورسم لنا صورة عنه فقال :
كان زهران غلاما ً
أمه سمراء والأب مولد
وبعينيه وسامة
وعلى الصدغ حمامة
وعلى الزند أبو زيد سلامة
ممسكا ً سيفا ً وتحت الوشم نبش كالكتابة
اسم قرية
دنشواي
ثم شب زهران قويا ً ضحوكا ً ولوعا ً بالشعر والغناء ثم نمت في قلبه زهرة حب , أنها الفتاة ( جميلة ) التي زفت إليه فيما بعد :
كان يا ما كان أن زفت لزهران جميلة
كان يا ما كان أن أنجب زهران غلاما ً وغلاما
كان يا ما كان أن مرت لياليه الطويلة ونمت في قلب زهران شجيرة
ساقها سوداء من طين الحياة
فرعها احمر كالنار التي تحرق حقلا ً
عندما مر بظهر السوق يوما ً
ذات يوم
فماذا رأى وما هذه الشجيرة التي نمت في قلبه ؟ أنها شجيرة الحقد , ولم ؟
مر زهران بظهر السوق يوما ً
ورأى النار التي تحرق حقلا ً
ورأى النار التي تصرع طفلا ً
كان زهران صديقا ً للحياة
ورأى النيران تجتاح الحياة
مد زهران إلى الأنجم كفا ً
ودعا يسأل لطفا ً
ربما سورة حقد في الدماء
ربما استعدى على النار السماء
ثم وضع النطع , وتم الإعدام , وتدلى رأس زهران ...
من هنا نرى أن الشاعر لم يقص علينا مأساة دنشواي كما حدث , بل أوجزها وركز على جانب واحد منها , وبدأها من النهاية , ثم عاد إلى ( زهران ) إلى طفولته وشبابه , إلى خلقه وخلقه , إلى زواجه وإنجابه , حتى وصل بنا إلى دفاعه عن قريته وتدلي رأسه . فكانت نهاية حياته , وقد رسم الشاعر صورا ً كثيرة ألف منها اللوحة الكبيرة , فالحمامة وشم على صدغ زهران , وعلى زنده أبو زيد علامة لأهل القرية , ثم نمت زهيرة حب في قلبه , ولكنه لما رأى الحقول تأكلها النيران حلت محلها شجيرة الحقد التي وصفها بان ساقها ( سوداء من طين الحياة ) وفرعها ( احمر كالنار التي تحرق حقلا ً ) الخ ... وهذا كله أضفى على الصورة جوا ً خاصا ً , وافرغ عليها مشاعر أضاءت جوانب الحدث حين أطلق في نهايتها تلك العبارات الجميلة :
قريتي من يومها لم تاتدم إلا الدموع
قريتي من يومها تخشى الحياة
كان زهران صديقا ً للحياة
مات زهران وعيناه حياة
فلماذا قريتي تخشى الحياة ؟
وكلمة ( الحياة ) – كما هو واضح – كررها الشاعر في مواضع عديدة ليؤكد هذا المعنى الإنساني ( الحياة وحب الحياة وخشية الحياة ) ومما زاد في تأثير القصية هذه الموازنة بين أمس الفتى زهران المملوء بالحب والأمل وبين يومه الذي شنق فيه .
ولا يفوتنا أن نشير إلى لغة القصة السهلة المنسابة مع معانيها انسيابا ً طبيعيا ً , ولا سيما في أولها حين يقول : ( كان يا ما كان ...) ولكن لا يفوتنا كذلك أن نشير إلى انه ليس القالب الشعري هو الذي يطبع الشعر بطابع الإبداع أو التقليد وليس الشعر القديم أو الجديد هو الذي يتحكم في الجودة ولكنها الشاعرية الفذة والأصالة الفنية .
بعد هذا نلاحظ أن القصص الوطنية وغيرها مما يشابهها من القومية ليست من الكثرة والتنوع بحيث تؤلف اتجاها ً شعريا ً واضحا ً له خصائصه ومزاياه – على الرغم من اختلاف أساليبها ومضامينها – ولكن من الملاحظ أيضا ً أنها تطورت – كما يبدو من تاريخ نظمها – فكانت تعتمد على التلميع لا التصريح أولا وعلى ضرب الأمثلة الوطنية من الأم الأخرى , أو قد يلجأ الشاعر فيها إلى الرمز أحيانا – كما في قصة ( العذراء ) للزركلي وربما كان ذلك راجعا ً إلى الضغط العثماني والاستعماري في تلك الفترة , لكن القصة الشعرية الوطنية أضحت فيما بعد صريحة يعتمد فيها على التصريح الجريء المباشر .
وواضح أن القصص التي نظمت على طريق الشعر الجديد , بدت العناية فيها بالصور الموحية , واللمحات النفسية المركزة التي ترسم الموقف بدقائقه , كما تعني بتصوير التفاصيل والجزئيات , فتساعد على جلاء الحدث , وما إلى ذلك إلا لان طريقة النظم الحديثة تمد الشاعر بقدرة اكبر , ومرونة اكبر في التصرف بالكلمات والعبارات , فتسمح له بحرية التعبير على نطاق أوسع مما هو في الشعر الموزون المقفى ومع هذا يخيل إلينا أن الشعر القديم بدا في القصة أكثر تماسكا ً في عباراته وأسلوبه بينما شاب جمل الشعر الجديد بعض العبارات المفككة المتقطعة .
وفي هذا الركام من القصص الشعرية – على اختلاف أنواعها ومضامينها – لا نلمح من حيث البناء القصصي – أن وراءها خطة فنية إلا في القليل النادر , بل نلاحظ اتباع أكثر الشعراء لطريقة السرد لذلك بدا نسيج بعض القصص واهبا ً والبناء الفني ضعيفا ً , ومع ذلك لا نعدم وجود قصص فنية , بحس القارئ معها أن الكل خطوة فيها , تصميما ً معينا ً , وكان لموضوع القصة اثر في إجادة الأسلوب , فكان يسف ويضعف تارة ويسمو ويقوى تارة أخرى , تبعا ً لمدة انفعال الشاعر بالمضمون , وعمق تجربته وشعوره . ويبقى هنا تساؤل أخير : ترى إلى أي مدى استطاع السرد القصصي إذا أن يؤثر في الأسلوب الشعري وبطوعيته ليكون أكثر قدرة على القص والحكاية ؟ وهل تمكنت القصة الشعرية من أن تؤدي رسالتها الفنية المستهدفة على خير وجه .
إن كثيرا ً من الذين نظموا القصة الشعرية , وفي مقدمتهم ( خليل مطران ) نوه بأنه توخى من نظمها أن يبرهن للطاعنين على اللغة العربية , القائلين بجمود آدابها , على أن لغتنا كائن حي قابل للنمو والتطور , لكن العيب – في الحقيقة – يرجع إلى جمود القرائح وتطوحها في مجاهل القديم , فلغتنا العربية تتسع – كما يقول ادوارد مرقص – " لهذا النوع من الشعر القصي بما فيه من بلاغة تعبير ورشاقة سياق , وجمال ترتيب وتبويب , وروعة مباغتات ودقة وصف وتفصيل ... وهذه الخصائص لا يزال الكثيرون يزهمون جهلا ً منهم أو توهما ً أو نعتا ً أن بياننا العربي يعجز عنها وان طبيعة الشعراء لا تحتملها " وهذا – دون ريب – هدف قومي , ومطلب أدبي ولغوي في آن واحد إلى جانب الأهداف الأخرى التي توخاها الشعراء في كل قسم من أقسام القصص المختلفة . ولا أظنني بحاجة إلى القول : إن ظهور القصص الشعرية في أدبنا المعاصر على الصورة التي نوهنا من الكثرة والتنوع يعدد حدثا ً مهما ً في الدراسات الأدبية , إذ خطا الشعر العربي خطوات واسعة أكسبته مرونة في القص , وقدرة على السرد وزادته اتساعا ً وخصبا ً وإمتاعا ً .
وبعد فنستطيع أن نقرر في ختام هذا البحث , أن القصة الشعرية هي صنف القصة النثرية , كانتا كغصنين سمقا من منبت واحد , بل كزهرتين تفتحا في غصن واحد , وكان من الطبيعي أن تتالق القصة النثرية على النحو الذي نعرفه من الحيوية والنضارة , بينما حالت دون ازدهار القصة الشعرية ونموها عقبات جمة , وعوائق كثيرة من القيود التي تحتمها طبيعة الشعر , ومع ذلك فقد كانت كالنبتة التي تنبثق من التراب , متحدية الصخور والاوشاب , حتى إذا وجدت اليد الصناع , اهتزت وربت واتت أكلها , إذ امتزج فيها الشعر الذي هو فن العرب الأول والأصيل , بالقصة التي هي – بأسسها الفنية المعروفة – فن حديث , كما يمتزج العطر واللون في الأزهار والورود
الباب السابع
المذاهب الشعرية الأدبية في الأدب العربي الحديث
آ- تعريف المذاهب: المذهب جملة من الاتجاهات التعبيرية المبنية على أسس ومبادئ أخلاقية وفلسفية وجمالية متلاحقة ، ولّدتها حوادث التاريخ ووجهتها حالات نفسية وشعورية ، وهذا المذهب هو جهود جيلٍ من الأدباء والمبدعين والنقاد.
المذاهب التي انتشرت في الوطن العربي:
1- المذهب الاتباعي:
نشأت الاتباعية كتيار أدبي عربي في مرحلة استيقاظ الشعور القومي وأفول الاستعمار ومن خلال الثورة على اللغة التركية التي أصبحت لغة رسمية بديلة عن العربية وقد حاكت الاتباعية العربية نظيرتها الغربية القدماء واعتمدت على الثقة بالعقل البشري والتزمت القواعد ومبادئ منتظمة، وقد كان البارودي زعيم هذه المدرسة اعتمد في معظم شعره على محاكاة القدماء من ذلك قوله :
فيا قوم هبّوا إنّما العمر فرصةٌ وفي الدهر طرقٌ جمّةٌ ومنافعُ
أصبراً على مسِّ الهوان وأنتم عديد الحصى: إني إلى الله راجعُ
وقد اعتمد الاتباعيون كحافظ إبراهيم وأحمد شوقي واسماعيل صبري ومحمد عبد المطلب وخليل مطران في بناء قصائدهم على الجزالة في الألفاظ والمتانة في التركيب والإشراق في الديباجة والعودة إلى المعاني القديمة والأساليب السابقة.
2- المذهب الإبداعي :
وهو مذهب جاء كرد فعل على الاتباعية في الإحساس والتفكير والتعبير وقد رفع الإبداعيون عيون شعار تمجيد الفرد والألم والطبيعة واعتبروا أن الأدب هو خلق جديد للحياة وإبداع لها ، أداة الأدب القلب والإحساس والخيال، وقد انتقل هذا الأدب إلى أدبنا عن طريق الترجمات والبعثات الفكرية، وساهم عبد الرحمن شكري المازني والعقاد في إبراز الثقافة الألمانية والفرنسية والانكليزية ، وقد أدرك أصحاب مدرسة (أبولو) جوهر الإبداعية وعلى رأسهم أحمد زكي وأبو شادي .
وأسهم أيضاً في إظهار هذه الإبداعية أصحاب الرابطة القلمية جبران خليل جبران ، وقد مجدّت الرابطة القلمية ظاهرة العودة إلى الطبيعة وامتلأت بالكآبة والألم والنفور من حياة المدينة والثورة على العادات والتقاليد وقدست شرعية الحب.
وثارت على الشكل واهتمت بالمضمون ، وحطمت القوالب اللغوية الصلبة ، وبرز من شعراء المرحلة الشابي إياس أبو شبكة وأنور العطار ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ولبذا الحيدري.
يقول إيليا أبو ماضي موضحاً سمات هذا المذهب:
السحب تركض في الفضاء الرحب ركض الخائفين
والشمس تبدو خلفها صفراء عاصبة الجبين
والبحر ساجٍ صامتٌ فيه خشوع الزاهدين
لكنّما عيناك باهتتان في الأفق البعيد
سلمى بماذا تفكرين ؟
سلمى بماذا تحلمين؟
3- المذهب الرمزي:
وقد نشأ هذا المذهب معتمداً على فلسفة مثالية تعتقد أن العلم لا يرى إلاّ الظواهر الخارجية والمحسوسة من الأشياء بينما الفلسفة تدرك حقيقتها ، وإن حقيقة الإنسان تكمن في منطقة اللاشعور التي ترى أنها المحرك الأساسي للسلوك والأفعال ، ومن هنا كان همُّ الأدباء والغوص في أعماق الطبيعة البشرية والاندفاع وراء الجمال الغيبي ، وقد اعتبر أصحاب هذا المذهب أن الشعر ايحاء وليس تعبيراً ، وأن الإبهام هو مفتاح الأعماق والأحلام ، وأن هذه اللغة لابّد أن تمنح حيوية جديدة باعطاء كلماتها معان جديدة كالانطلاق من الدمع الطاهر إلى الدمع الأسود وقد استعمل أدباؤنا هذا الرمز على نطاق واسع ومن هؤلاء خليل حاوي- أدونيس- صلاح عبد الصبور- محمود درويش- بدر شاكر السياب- أحمد عبد المعطي حجازي.
يقول خليل حاوي في قصيدة الناي والريح وهما رمز الاستقرار والعنف:
بيني وبين الباب أقلامٌ ومحبرةٌ
صدى متأفف
(كوم) من الورق العتيق
هم العبور
وخطوة أو خطوتان
إلى يقين الباب
ثم إلى الطريق
4-المدرسة الواقعية:
وقد نشأت هذه المدرسة على أعقاب انتشار الآلة واستبداد أصحاب الصانع بالعمال ورأت أن مهمة هذا الأدب هي خلق الواقع بصورة ممكنة التحقق بحيث يكون الأديب مؤثراً في عصره ، لا مراقب ثورياً في تفكيره وقد اهتمت هذه المدرسة بالجماهير الفاعلة . وبنت رؤيتها على الاشتراكية ويعد مكسيم غوركي مؤسس هذه المدرسة وقد تأثر بها أدباؤنا كالبياتي والعياب وسميع القاسم ومحمود درويش وسليمان العيسى . يقول وصفي القرنفلي في وصف ثورة الجماهير:
فقراؤنا قد حطموا حكم القناعة واستفاقوا
الجوع ليس من السماء فمن إذاً؟
وهنا أفاقوا......ومضوا فمن متسوّلين
على الرصيف ، لثائرين
الجوع.....صنع الناهبين الشعب، صنع الأثرياء.......











موسوعة تاريخ الأدب والنقد والحكمة لعربية والإسلامية
في العصر الحديث
-2-
المجلد الحادي عشر


حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية





حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية

مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط

ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب




الباب الثامن
رموز الشعر العربي الحديث

معروف الرصافي / حديث /
هو اكبر شعراء العراق ولد في جانب الرصافة بمدينة بغداد عام 1875 م وكانت الدولة العثمانية ما تزال مسيطرة على ولاية بغداد آنذاك شب معروف في عصر توالت فيه أحداث العالم العربي فنشهد فترة تحول مستمر فيه منها ضعف الدولة العثمانية , ثم حركة الإصلاح والتجديد فيها ومنها إعلان الدستور العثماني الذي تلاه نشوب الحرب العالمية الأولى فالثورة العربية الكبرى , ثم انفصال البلاد العربية من الدولة العثمانية وقيام الحركة الفيصلية .
نشأ الرصافي في أسرة فقيرة تتألف من أب كردي هو عبد الغني محمود وأم اسمها فاطمة بنت جاسم , تنتسب إلى عشيرة القراغول وهي من بطون قبائل شمر العربية وكان أبوه شرطيا كثير التغيب عن البيت لذلك ترعرع الرصافي في أحضان أمه فكان شديد الارتباط بها , حتى انه لما توفيت – وهو غائب عن بغداد – لم يقو على رؤية البيت الذي كان يعيش معها فيه .
بدأ معروف حياته الدراسية في أحد الكتاتيب فتعلم القرآن وختمه كما تعلم مبادئ الكتابة ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية وقضى فيها ثلاث سنوات التحق بعدها بالمدرسة الرشدية العسكرية ولما رسب في الصف الرابع منها ترك الدراسة فيها واتجه نحو العلوم الدينية والأدبية فالتحق بالأستاذ العلامة ( محمود شكري الالوسي ) الذي كان له ديوان – أشبه بالمنتدى – يلتقي فيه أهل الأدب والشعر وتدار فيه مناظرات ومناقشات وتروى فيه قصائد وتتناقل أخبار الأدب , فكان معروف الرصافي يحضر مجلس الالوسي هذا ويتلقى العلم على يديه فأضحى أستاذه ونبغ في الدراسات الدينية وصار من اشد المتصوفين , حتى أطلق عليه أستاذه الالوسي اسم ( الرصافي ) تشبيها له بالشيخ ( معروف الكرخي ) المتصوف الإسلامي الكبير وقد لازم أستاذه اثني عشر عاما ً أفاد منه خلالها علما وأدبا لهذا نراه يحفظ له هذا الجميل ويرثيه حينما توفى في قصيدتين كانت أحداهما عند وفاته والثانية في اربعينيته وقد قال في الأولى معترفا ً بفضله :
محمود شكري , فقدنا منك حبر هدى للمشكلات بحسن الرأي حلالا
قد كنت للعلم في أوطاننا جبلا إذا تقسم فيها كان أجبالا
وبحر علم إذا جاشت غواريه تقاذف الدر في لجيه منهالا
لاشكرنك يا شكري مدى عمري وأبكيتك إبكارا وآصالا
فأنت الذي لقنتني حكما بها اكتسبت من الآداب سريالا
أما قصيدته الثانية وهي بعنوان ( في موقف الأسى ) فلا تخرج في معاني الحسن والتفجع عن هذه , ومطلعها :
لمن تركت فنون العلم والأدب أما خشيت عليها مزيد العطب
ويبدو أن معروفا وقع في ضائقة مالية فاضطر إلى العمل فكان أول ما بدأ به التعليم في بعض المدارس الابتدائية ثم انتقل إلى الثانوية لتدريس الأدب , وكان في أثناء عمله ينظم الشعر , وينشر قصائده في بعض الصحف المصرية كالمؤيد والمقتطف وهكذا ذاع صيته وشعره في البلاد العربية لا بل في المهاجر الأمريكية أيضا ً .
وازدادت شهرته حين أعلن عبد الحميد إعادة الدستور عام 1908 م إذ ترجم معروف النشيد الوطني التركي إلى العربية بوزن يصلح أن يقرأ باللحن التركي نفسه فاختير اثر هذا لتحرير القسم العربي من جريدة ( بغداد ) فترك التدريس .
وفي هذا الوقت أيضا دعي إلى الآستانة ليساعد رئيس تحرير جريدة ( إقدام ) في إصدار نسخة عربية منها فذهب إلى عاصمة الخلافة ولكنه خاب أمله لأن رئيس التحرير لم يستطع الحصول على معونة لتحقيق هذا المشروع فعاد الرصافي إلى بغداد ومر في طريق عودته ببيروت فاحتفى به أهل الأدب هناك ولا سيما ( أمين الريحاني ) وأعوزه المال وهو في بيروت فبادر إلى بيع مجموعة شعره فصدر له أول ديوان عام 1910 م وقد قوبل بالاستحسان والتقريظ والدراسة فكتب عنه الأب ( لويس شيخو ) والشيخ ( عبد القادر مغربي ) ثم عاد إلى بغداد ليستأنف عمله في الجريدة وظل فيها حتى أغلقت .
ولعل نجاحه في العمل الصحفي جعل جمعية أصدقاء العرب في استانبول تدعوه لتولي رئاسة تحرير جريدة الصحيفة العربية ( سبيل الرشاد ) وسافر شاعرنا وتولى هذا العمل وكان خلال وجوده هناك يلقي محاضرات في المدرسة الملكية العليا عن اللغة العربية ومثلها في مدرسة الواعظين وقد نشرت محاضراته هذه في كتاب بعنوان ( نفح الطيب في الخطابة والخطيب ) كما نشرت له بعض القصائد .
ثم اختير نائبا ً عن لواء ( المنتفك ) في مجلس المبعوثان العثماني ( النواب ) عام 1912 وقد حيا هذا المجلس بقصيدة كافية قال فيها :
يا شرق بشراك أبدى شمسك الفلك وزال عنك وعن آفاقك الحلك
هذا هو المجلس الرحب الذي وسعت أحكامه الناس من عاشوا ومن هلكوا
قد أصبح الأمر شورى بيننا فيه على الرعية لا يستأثر الملك
وقد تزوج آنذاك بفتاة من أزمير ثم طلقها كما قيل لضيق ذات يده , وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرصافي في هذه الفترة على الرغم من عيشه في استانبول كانت فكرة العروبة واضحة في ذهنه فحين أسس شباب العرب في الآستانة ( المنتدى الأدبي ) وأقيم حفل لهذه المناسبة دعي لإلقاء قصيدة فألقى ميمية وجه كلامه فيها ( إلى الشبان العرب ) يحثهم على طلب العمل ويذكر أمجاد العرب في العلوم دون أن يوجه أية كلمة ولو عابرة , إلى رجال الحكم الأتراك لرعايتهم هؤلاء الشباب .
وحين هاجم الطليان ليبيا انطلق صوت الشاعر في قصيدته ( إلى الحرب ) يدعو الشرق إلى الثورة على الغرب وعلى الطليان خاصة , لأنهم يتظاهرون بالتمدن ويقتلون النفوس دونما ذنب .
وحين حقق العرب في ليبيا انتصارا على الأعداء إذا هو يحييهم بقصيدته ( في طرابلس ) وهكذا لم يترك فرصة تمر دون أن يستنهض قومه لاستعادة أمجادهم وحرياتهم , حتى انه لما قدم شباب العرب في الآستانة مسرحية عن ( وفاة السمؤل ) ودعوا الرصافي إليها ألقى قصيدة بعنوان ( إلى الأمة العربية ) وقال في أحد أبياتها موجها خطابه إلى قومه بعد أن صور آلامهم وبكى على حالهم :
ولو أن فيكم وحدة عصبية لهان عليكم للمرام وصول
ولكن إذا مستنهض قام بينكم تلقاء منكم بالعناد جهول
ولا ريب في أن هذه الجرأة من الشاعر حين يدعو قومه إلى ( وحدة عصبية ) أمام رجالات الترك وفي عاصمتهم , قد بلغت الغاية .
وحين قامت الحرب العالمية الأولى واشتركت فيها تركيا إلى جانب ألمانيا أطلق الرصافي في صيحته المدوية ( الوطن والجهاد ) ولكنه هذه المرة دعا المسلمين جميعا إلى الجهاد عن الوطن فقال :
يا قوم إن العدا قد هاجموا الوطنا فانضوا الصوارم واحموا الأهل والسكنا
واستنفروا لعدو الله كل فتى فمن نأي في أقاصي أرضكم ودنا
ثم انتهت الحرب العالمية الأولى بعد أن تراجعت أمامها القوات العثمانية .
وفي عام 1918 دخل فيصل الأول سورية وانشأ مع مجموعة رجالاتها ورجالات العراق وفلسطين , حكومية عربية تولى رئاستها وأراد الرصافي أن يعود إلى وطنه ولكنه رأى أن الانجليز احتلوه فلم يعد له مكان فيه , فتوجه إلى دمشق على أمل أن تتلقاه الحكومة العربية بالترحيب ولكنه قوبل بالإهمال , لأنه كان قد هجا الشريف ( حسين بن علي ) والد فيصل حينما قام بالثورة العربية , وجاءته في هذه الأثناء دعوة من القدس للتدريس في مدرسة المعلمين هناك , فتوجه إلى القدس وكان موضع تقدير وتكريم , عوضه عن الإهمال والإعراض الذي لقيه في دمشق إذ نراه يقول فيما بعد عندما نزح إلى بيروت عام 1922 م :
لاجعلن إلى بيروت منتسبي لعل بيروت بعد اليوم تؤويني
قد كان في الشام للأيام مذ زمن ذنب محته الليالي في فلسطين
إذ كان فيها النشاشيبي يسعفني وكنت فهيا خليلا ً للسكاكيني
وكان فيها ابن جبر لا يقصر جبر انكسار غريب الدار محزون
إن كان في القدس لي صحب غطارفة فكم ببيروت من غر ميامين
وظل الشاعر في القدس حتى تلقى برقية من (عبد الرحمن الكيلاني وطالب باشا النقيب) للحضور إلى بغداد لإصدار جريدة تحبط اختيار فيصل بن الحسين لعرش العراق , وتدعو إلى اختيارهما بدلا منه فعاد إلى بغداد وبدأ الاستعداد لإصدار جريدة في الوقت الذي كان فيه فيصل يتوجه إلى العراق , ولكن الانجليز قبضوا على ( طالب النقيب ) حين شعروا بقوته ونفوذه , ونفوه إلى الهند , وهكذا لم يتم مشروع إصدار الجريدة دخل فيصل العراق , واضطر شاعرنا أن يعمل في الحكومة ليكسب قوته فوظف نائبا لرئيس لجنة الترجمة والتعريب في وزارة المعارف ولكنه كان يشعر بأن هذه الوظيفة اقل بكثير مما يستحق ولما ضاق ذرعا بها وشعر بالاضطهاد والحيف , سافر إلى بيروت بإجازة أواخر عام 1922 م , وقرر إلا يعود إلى وطنه ولكنه ما لبث أن سمع بعزم حكومة العراق على انتخاب مجلس تأسيسي فعاد إلى بغداد عام 1923 م ورشح نفسه للنيابة في هذا المجلس بعد أن استقال من وظيفته وتبدل موقفه الثائر على الانجليز واخذ يدعو المواطنين إلى المساهمة في الانتخابات ويعلن سياسة المهادنة ولكنه مع ذلك لم ينجح وهكذا لم يبق له مورد رزق , ولكن فيصلا صفح عنه وأعاده إلى الوظيفة إذ عينه مفتشا ً للغة العربية بوزارة المعارف أواخر عام 1923 م كما درس العربية وآدابها في دار المعلمين العالية ببغداد , ولكنه ما إن شعر بالاستقرار حتى انصرف إلى مهاجمة الحكومة والانتداب معا ً , واخذ يدعو في قصائده إلى الثورة على الأوضاع الخداعة القائمة من ذلك قصيدته التي يقول فيها :
ابكينا من الدولات أنا تعلق في الديار لنا البنود
وأنا بعد ذلك في افتقار إلى ما الأجنبي به يجود
وكم عند الحكومة من رجال تراهم سادة وهم العبيد
كلاب للأجانب هم ولكن على أبناء جلدتهم اسود
وليس الإنجليز بمنقذينا وإن كتبت لنا منهم عهود
وعاد ثانية فهجا الحكومة والانتداب في قصائد أخرى منها ( غادة الانتداب ) و ( حكومة الانتداب ) وقد بلغ فيهما حدا كبيرا من الجرأة .
وعلى الرغم مما سبق فقد فسح له المجال عام 1928 م لدخول مجلس النواب فاستقال من وظيفته ونجح في الانتخابات الجديدة فكانت هذه الفترة اسعد أيام حياته , ولكن أحداثا سياسية متوالية أدت في النهاية إلى حل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة بعد سنتين ونيف من المجلس السابق , وكان هذا اثر المعاهدة العراقية الانجليزية عام 1930 م ولما تم انتخاب المجلس كان الرصافي كذلك من أعضائه وحين عرضت المعاهدة على المجلس الجديد تمت الموافقة عليها ولكن الرصافي كان من الذين عارضوها وألقى في المجلس بيانا قويا يعد وثيقة تاريخية هامة .
ودخل العراق عصبة الأمم عام 1932 وكان لا بد من إعادة النظر في أوضاع البلاد اثر المسؤوليات الجديدة , فالفت وزارة جديدة عمدت إلى حل مجلس النواب وهكذا خرج الرصافي من المجلس بلا عمل ولا مورد رزق فقرر ترك بغداد إلى مدينة الفلوجة بعد أن استضافه أحد معارفه هناك فقدم له دارا مؤثثة لسكناه بلا مقابل , ونعم الرصافي بحياة هادئة مستقرة , فألف أثناء مقامه بهذه المدينة الكتب التالية :
1- الرسالة العراقية .
2- على باب سجن أبي العلاء .
3- آراء أبي العلاء .
4- الشخصية المحمدية أو ( حل اللغز المقدس ) وهو أهم كتبه .
وظل في الفلوجة حتى عام 1941 م عندما دخل جيش الانجليز إليها بعدما أخفقت ثورة العراق ضدهم بقيادة ( رشيد علي الكيلاني ) ومن ثم ترك هذه المدينة وعاد إلى بغداد , فسكن ضاحية الاعظمية حتى مات عام 1945 .
كان بيت الرصافي في الفلوجة وفي بغداد منتدى أدبيا يجتمع فيه الشباب ويتحدثون في السياسة والعلم والأدب , وكان هو يتحدث إليهم بصراحته المعهودة وجرأته المعروفة , دون أن يهاب أحدا وكان عنده خادم يدير أمور عيشه ويعنى بشؤونه وقد لازمه منذ صغره حتى وفاته .
أما صفاته وشخصيته , فقد تحدث عنها معظم الدارسين واجمعوا على انه كان جبارا ً وعملاقا في خلقته وخلقه إذ كان واسع الصدر عريض المنكبين ممتلئ الجسم مفتول العضل متين البنية وكان قليل الاهتمام بملبسه ومأكله , ولكنه كان شديد الحرص على كرامته , وكان رزينا ً وقورا ً كما كان موضع إجلال الناس واحترامهم , على الرغم من تعرضه لأحوال ومواقف لو تعرض لها غيره لهبط تقدير الناس له , ولكان هدفا ً لسخريتهم وامتهانهم .
أما علمه وأدبه فقد شهد له بهما ( طه الراوي ) الذي كان عالما وأديبا ً وعضوا في المجمع العلمي في كل من العراق ودمشق – إذ قال عنه : " لو قلت لك إنني لم الق في عمري أديبا أوسع منه معرفة باللغة ,و خصائص مفرداتها وبالصرف والنحو وما يتصل بقواعدهما من قيود وشروط , لم اعد الواقع . وهو يعتبر حامل لواء التجديد في الشعر على ضفاف دجلة من غير منازع " .
كما شهد له بالشاعرية الأديب ( احمد حسن الزيات ) فقال عنه : " وظل هو والزهاوي وشوقي وحافظ ومطران حقبة من الدهر يؤلفون الأوتار الخمسة لقيثارة الشعر العربي الخالص , ولكل وتر درجته في الرنين والجهارة والأثر " .
وأما مؤلفاته فبالإضافة إلى ما ذكرنا في ثنايا حياته من ديوانه وما ألفه أثناء ممارسته التدريس وحين كان في الفلوجة أشار الباحثون إلى الكتب التالية :
1- الرؤيا : وهي رواية للأديب التركي ( نامق كمال ) ترجمها إلى العربية ونشرت عام 1909 ببغداد .
2- الأناشيد المدرسية : وهي مجموعة أناشيد نظم معظمها في القدس حين اشتغل بالتدريس في دار المعلمين ونشرت هناك عام 1920 م .
3- محاضرات الأدب العربي : وهي التي ألقاها على مدرسين المدارس الرسمية عام 1921 م حين كان نائب رئيس لجنة الترجمة والتأليف في وزارة المعارف , وقد طبعت في بغداد عام 1921 م .
4- دروس في تاريخ اللغة العربية : وهي الدروس التي كان قد ألقاها على طلاب دار المعلمين العالية ببغداد عام 1928 م عندما كان مفتشا ً للغة العربية .
5- دفع الهجنة في اتضاح اللكنة : وهي ألفاظ وكلمات جمعها من اللغة التركية منها ما هي عربية استعملها العثمانيون في غير معناها العربي ومنها ما ليس عربية وهم يحسبونها عربية ثم أخذها العرب منهم فاستعملوها استعمالهم وهم لا يدرون , طبع في الآستانة عام 1931 م .
6- رسائل التعليقات : وتتضمن رسائل ثلاث , الأولى تعليقاته على كتاب التصوف الإسلامي للدكتور ( زكي مبارك ) والثانية تعليقاته على بعض فصول كتاب ( النثر الفني ) لزكي مبارك أيضا , والثالثة تعليقاته على كتاب ( التاريخ الإسلامي ) للمستشرق الايطالي ( لئونا كايتاني ) وقد طبعت عام 1944 م .
وقد ذكرنا له من قبل كتاب ( نفح الطيب في الخطابة والخطيب ) وكتاب ( على باب سجن أبي العلاء ) وكتاب ( آراء أبي العلاء ) وكتاب ( الشخصية المحمدية ) فضلا عن ديوانه الأول والثاني .
شعر الرصافي – الجديد فيه :
نظم الرصافي الشعر في أغراض كثيرة هي : الغزل ووصف الطبيعة والإنسان ومظاهر الحضارة والعمران للبلاد التي زارها , ونظم في تراجم بعض الشخصيات التاريخية الشعرية منها وغير الشعرية كالعمري والمتنبي والرازي وجبران , كما نظم في الشعر الوصفي والإنساني والاجتماعي والفلسفي , وله قصائد في الكون والتأمل والسياسة والشعر الوطني والقومي , وهناك منظومات عديدة في المرأة خاصة , فضلا عن المقطعات في موضوعات شتى , ولن ندرس جميع هذه الأغراض , فقد أشبعها الدارسون بحثا ً وتقصيا ً لكننا نود أن نعرض الجديد في شعره لنعرف ماذا أضافه إلى هذا الفن .
الجديد في شعره :
قلنا إن الرصافي يقف في صف واحد مع بناة الشعر الآخرين بعد البارودي ومزية هؤلاء جميعا أنهم اخذوا يعبرون عن كل ما يتعلق بمجتمعاتهم وأمتهم من آمال والآم تعبيرا صادقا تنعكس فيه مشاعرهم وأحاسيسهم .
وكما تأثر البارودي بالقدماء وحاكاهم , كذلك كان شأن الرصافي إذ حاكى فحول الشعراء القدماء وقد استطاع الباحثون أن يعيدوا بعض قصائده إلى زهير وعنترة وطرفة وامرئ القيس وأبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري وغيرهم , ثم انه مجد بعض هؤلاء الشعراء , كما في قصيدته عن المعري إذ نراه يتغنى بشاعريته وشعره ويمجد فكره ويتحدث عن ابرز سماته كما يتحدث عن أرائه في تحكيم العقل , ويعده ( شاعر البشر ) ويجعل قصيدته فيه رباعيات تربو على العشرين , منها قوله :
حل في ذروة الأدب أتيا منه بالعجب
لا تقل شاعر العرب انه شاعر البشر
عبقري بشعره عالمي بفكره
جعل الصدق ديدنا تاركا هذه الدنى
وفي قصيدته ( أبو الطيب المتنبي ) يتحدث عن نفس هذا الشاعر الكبيرة العزيزة ويثني على شعره المبتكر ثناء يدل على إعجابه به فيقول :
كان أبو الطيب امرءا قوله يبتكر الشعر مذكيا شعله
صاحب نفس كبيرة شرفت فشرفت حله ومرتحله
كان هو الشاعر الذي انتشرت أشعاره في البلاد منتقلة
اوجد للشعر دولة عظمت به فعزت من قبله دوله
من كل معنى آخر مؤتلق في لفظه كالعروس في الحجلة
وربما رق لفظه فبدت في شعره كل كلمة ثملة
وربما لم تبن مقاصده لأنها فيه غير مبتذلة
في شعره حكمة مهذبة وروعة بالذكاء مشتعله
ونغمة بالشعور صادقة وصنعة بالفنون متصلة
ولا ريب أن الرصافي كان على اتصال بشعراء عصره إذ نراه ينظم قصيدة في مبايعة شوقي بإمارة الشعر ( في حفلته ) كما يرثيه عند وفاته , ويمتد اتصاله بالشعراء إلى المهجر فيعجب بجبران خليل جبران ولذلك يرثيه بأبيات عنوانها ( أين جبران ) يلجأ فيها إلى أسلوب طريف , ( فلا كسوف شمس ولا خسوف قمر , ولا بكاء سماء كم اعتاد المقلدون , وإنما عمد إلى وصف صبي جميل يعزف على قيثارة وهو يبكي فلما سأل الشاعر الناس عنه قالوا : انه الشعر وقد أضحى يتيما بفقدانه أبيه الخالد جبران ) ومنها هذه الأبيات :
من سامع قصة لي كنت شاهدها على الربى الخضر من جنات لبنان
فقد رأيت غلاما صيغ منفردا بالحسن يصبو إليه كل إنسان
عليه ثوب بديع النسج طرته من صيغة المجد قد زينت بألوان
أبصرته واقفا يبكي وأدمعه توحي إلى كل قلب وحي أحزان
يبكي واللحن موسيقاه مشجية تهفو بأفئدة منا وأذان
فقمت بين أناس حوله وقفوا مستعبرين وكل نحوه ران
حتى سألت عن الباكي وقصته فقيل هذا هو الشعر ابن جبران
أبوه جبران أفناه الردى فغدا من بعده رهن يتم حلف أشجان
فقلت لم يفن جبران بميتته من خلف ابنا كهذا ليس بالفاني
وقد عد بعض النقاد هذه القصيدة من الجواهر المكنونة في رثاء جبران ووصف شعره وتجديده .
رأي الرصافي في الشعر :
قبل أن نعرض لجوانب التجديد في شعر الرصافي , لا باس أن نطلع على رأيه هو في الشعر ومقوماته , لنرى ما إذا كانت أقواله تنطبق على فنه وقد ذكر د.( بدوي طبانة ) عن الشاعر قوله : " والشعر لا بد فيه من الوزن والقافية " ثم يلح على هذه الفكرة فيقول : " إن حقيقة الشعر قائمة بالوزن , لأنه بالوزن وحده يصلح للغناء " ولعل خير ما يلخص رأيه كذلك قوله هو في شعره وكيف حاول فيه العناية بالألفاظ والمعاني في أن واحد فقال عنه :
طابقت لفظي بالمعنى فطابقه خلوا ً من الحشو مملوءا من العبر
إني لانتزع المعنى الصحيح على عري فاكسوه لفظا قد من درر
وأجود الشعر ما يكسوه قائله بوشي ذا العصر الخالي من العصر
وهذا القول كان الدلالة على ولعه بالتجديد ولا سيما في البيت الأخير , إذ يريد للشعر أن يكون عصريا جديدا ً , معبرا ً عن البيئة والعصر الحديث ففيم كان تجديده إذن ؟
المدقق في شعر الرصافي يلحظ بوضوح انه كان مرتبطا بعصره ارتباطا وثيقا فقد شارك في الأحداث السياسية الوطنية والقومية قبل الدستور وبعده ودافع عن حرية الفكر حينما كرم شوي في مبايعته بإمارة الشعر كما دافع عنها في قصيدته ( الحرية في سياسة المستعمرين ) فقال منها :
يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوم
وتأخروا عن كل ما يقضي بأن تتقدموا
ودعوا التقدم جانبا فالخير إلا تفهموا
وتحدث في قصائد أخرى عن العدالة الاجتماعية ودافع عن حقوق الطبقة الفقيرة في الحياة والتعليم والعمل والتداوي , واهتم ببعض الجوانب الإنسانية الاجتماعية , فنظم في ( الأرملة المرضعة والمطلقة وأم اليتيم واليتيم في العيد ) وغيرها ونعى على قومه غفلتهم وجهلهم وفتح أعينهم على الظلم والاستبداد الذي حاق بهم , وحثهم على النهوض ومقاومة الفساد , ولا سيما في قصيدته ( تنبيه النيام ) التي يقول فيها :
أما آن أن يغشى البلاد سعودها ويذهب عن هذي النيام جمودها
أما أسد يحمي غضنفر فقد عاث فيها بالمظالم سيدها
برئت إلى الأحرار من شر امة أسيرة حكام ثقال قيودها
ويتوجه إلى أبناء وطنه مقرعا فيقول :
بني وطني ما لي أراكم صبرتم على ثوب أعيا الحصاة عديدها
أما آدكم حمل الهوان فانه إذا حملته الراسيات يؤدونها
أتطمع هذي الناس أن تبلغ المنى ولم تور في يوم الصدام زنزدها
ومن رام في سوق المعالي تجارة فليس سوى بيض المساعي نقودها
وهذه القصيدة وغيرها تعبر عن روح العصر الذي عاش شاعرنا فيه , وعن مرحلة انحلال الحكومة العثمانية , وخنق الحريات وظهور حركة التتريك .
وتفتحت في ذهنه فكرة العروبة فدعا إلى الوحدة العربية واستبشر بيوم ينهض فيه العرب ويجتمع شملهم ولعل دعوته هذه كانت أولى الدعوات إلى الوحدة العربية إذ يقول :
أما آن أن تنسى من القوم إضغان فيبنى على أس المؤاخاة بنيان
أما آن أن يرمي التخاذل جانبا فتكسب عزا بالتناصر أوطان
إلى أن يقول :
سننهض للمجد المخلد نهضة يقربها حوران عينا ولبنان
وتعتز من أرض الشام دمشقها وتهتو من أرض العراقين بغدان
وتطرب في البيت المقدس صخرة وترتاح في البيت المحرم أركان
وتحسن للعرب الكرام عواقب فيحمدها مفت ويشكر مطران
وطرق الرصافي بعض الموضوعات في قالب قصصي وقد عد بعض الباحثين ذلك أهم باب من أبوابه ومن ذلك قصيدته ( الفقر والسقام ) الاجتماعية , التي استوحى موضوعها من حياة عامل يدعى بشير , كان يعمل ويعول أخته فاطمة , ولكنه أصيب بمرض القلب والمفاصل فترك العمل وكانت أخته تكسب مبلغا ضئيلا ً لا يكفيهما فكانا يضطران أحيانا إلى شرب الماء وحده عوضا عن الطعام , وكانت النهاية أن مات بشير ثم لحقته أخته بعد بضعة أشهر وينهي القصيدة موضحا السبب في هذه المأساة حين يخاطب الأغنياء ويلقي التبعة عليهم فيقول :
أيها الأغنياء كم قد ظلمتم نعم الله حيث ما إن رحمتم
سهر البائسون جوعا ونمتم بهناء من بعد ما قد طعمتم
من طعام منوع وشراب
كم بذلتم أموالكم في الملاهي وركبتم بها متون السفاء
وبخلتم منها بحق الإله أيها الموسرون بعض انتباه
أفتدرون أنكم في تباب
ومن قصصه الناجحة قصة ( أبو دلامة والمستقبل ) يصور فيها حياة هذا الشاعر العباسي وحبه للسلام الذي به استطاع أن يعلم خصمه درسا في المحبة وحقن الدماء , وقتله ولكن بالقول لا بالسيف , وكأنه يسوق هذه القصة للاتعاظ , ليدعو من ورائها ساسة البلاد إلى نبذ الخلاف والعمل على الوفاق بدليل قوله في بعض أبياته :
ما ضر من ساسوا البلاد لو أنهم كانوا على طلب الوفاق عيالا
امن السياسة أن يقتل بعضنا بعضا ليدرك غيرنا الامالا
هذا بالإضافة إلى قصائد أخرى تصور – في قالب قصصي – بعض أناسي المجتمع الفقراء , كما اشرنا من قبل – عند الكلام على اجتماعياته .
وهناك قصائد أخرى تدخل في باب التجديد أيضا وهي التي سميت في ديوان الشاعر ( الفلسفيات ) وفيها يتحدث ( عما وراء القبر وعن وجه ادم وحياة الورى , وعما بين الروح والجسد وعن خواطر شاعر ) وغيرهما مما يدور معظمه حول الحديث عن النفس وما وراء الحياة والتأمل في الطبيعة والكون , يقول في ( وجه ابن ادم ) :
لله سر في الأنام مطلسم حار الفصيح بوصفه والأعجم
برأ ابن ادم وهو إن لم تلقه في الخلق أقدم فهو فيه مقدم
وإذا نظرنا في العجائب نظرة ظهر ابن ادم وهو منها الأعظم
أما العجيب من ابن ادم فهو ما نسق الكلام به إذا نطق الفم
إلى جانب هذا نجد قصائد نظمها في المخترعات الحديثة مما أطلق عليه اسم ( الكونيات ) وهي القسم الأول في الديوان , ومعظمها في المسائل العلمية يتعلق بالأرض ومركز الإنسان منها , والنجوم والشمس والليل والنهار الخ . . . وهي في جملتها ليست في مستوى شعره الآخر , لذلك قال عنها العلامة الشيخ عبد القادر المغربي, مقدم الديوان : " فقصائده ( تجاه اللانهاية ) و من أين من أين ) و ( نحن على منطاد ) و ( الأرض ) و ( الكسي يا ضياء ) و ( معترك الحياة ) وغيرها لو حولت إلى نثر لكانت من خير المقالات التي وصفت بها الكائنات وصفا منطبقا على آخر نظريات العلم الحديث ففيها بيان أو شرح لوحدة المادة والجاذبية والأثير والكهربية وأشعة رونتجن وآراء داروين في النشوء , مذهب ديكارت في التوصل إلى اليقين والشك . " .
وأخيرا ً فما جدد فيه شاعرنا باب سماه ( النسائيات ) جعله وقفا على المرأة والدعوة إلى تحريرها , ومنه ( المرأة في الشرق نساؤنا حرية الزواج عندنا , التربية والأمهات , هوان المرأة عندنا ) وغيرها , وأشهر هذه ( التربية والأمهات ) التي حظيت باستحسان كثير من الناس في عصر الرصافي وبعده يقول فيها :
هي الأخلاق تنبت كالنبات إذا سقيت بماء المكرمات
تقوم إذا تعدها المربي على ساق الفضيلة مثمرات
ولم أر للخلائق من محل يهذبها كحضن الأمهات
فحضن الأم مدرسة تسامت بتربية البنين أو البنات
وأخلاق الوليد تقاس حسنا بأخلاق النساء الوالدات
إن هذه الأبواب كلها جديدة في مضمونها وأغراضها إذ لم تكن موجودة عند الشعراء القدماء جديدة لأنها مستمدة من روح العصر ومن صميم البيئة التي عاش فيها الرصافي .
أما من حيث الأسلوب فهو – وأن كان يجري على الأساليب القديمة من حيث الأوزان والقوافي والصياغة والتراكيب لكنه جدد أحيانا في الرنة الموسيقية مع السهولة والوضوح , من ذلك قصيدته ( إلى أبناء الوطن ) التي نظمها بعد رجوعه من بيروت إلى بغداد عام 1923 م يقول في أولها :
سر في حياتك سير نابه ولم الزمان ولا تحابه
وإذا حللت بموطن فاجعل محلك في هضابه
ومنها قوله معبرا ً عن مشاعره نحو وطنه :
آب المسافر للديار على اضطرار في إيابه
لو كان يجنح للإياب لما تعجل في ذهابه
أما العراق فإن لي كل الرجا بأسد غابه
ينجاب يأسى بالرجاء إذا نظرت إلى شبابه
ففي هذه القصيدة تعبير نفسي صادق عما يجول في مخيلته من آمال في الشباب وهي كسابقاتها جديدة في معانيها وصياغتها وموسيقاها .
ويشهد كثير من الباحثين للرصافي بلغته الشعرية الخاصة التي يستقل بها عن غيره , من لاحظ هذا الشيخ ( عبد القادر المغربي , إذ لفت النظر في تقديمه الديوان إلى أن في شعره تعابير خاصة به , وقد قال هو عن نفسه :
لست بالشاعر الذي يرسل اللفظ جزافا لكي يصيب جناسه
أنا لا ابتغي من اللفظ إلا ما جرى في سهولة وسلاسه
إنما غايتي من الشعر معنى واضح يأمن اللبيب التباسه
فها هنا يشير شاعرنا إلى انه يتوخى السهولة في الألفاظ والسلاسة في العبارات والوضوح في المعاني وجماع هذا كله البعد عن التكلف والتصنع وهذه صفة بارزة في اغلب قصائده , وقد شهد له بها في عصره ( أمير البيان شكيب ارسلان ) حتى رأى أن من الواجب أن يلقب ( بأمير البيان في الشعر ) كما لقب هو أمير البيان في النثر :
أما عبد القادر المغربي , فقد ذكر أن الذي ( حبب الرصافي وشعره إلى النشء العربي الجديد انه يمشي بمصباح بيانه بين أيديهم فهو يقول ما يفهمون , ويعبر بما يقول عما يحسون ويشعرون ) , كما يرى المغربي أن الطريق الموصل إلى الاستقلال هو السياسة , ولكن هناك سياسة هي أتم وأكمل في هذا الإيصال , اعني بها سياسة الأدب والثقافة وهيا لسياسة العليا وهذه السياسة لا تفي بالغرض ولا تنقذ الأمة من ربقة الجهل والاستعباد ما لم تكن ذات لغة تجمع بين الصحة في اللفظ والأسلوب وبين الوضوح في المعنى والمقصود , بحيث يتأثر بها جمهور الأمة , فتجمع كلمتهم وتوحد ميولهم وتوجه إلى المثل الأعلى عزائمهم , وهذا ما نكاد نلمسه لمسا ً في كل جانب من شعر الرصافي ولا يحتاج القارئ إلا أن يتصفح ديوانه فيرى الشواهد الكثيرة عليه .
ومن مظاهر تجديده : التزامه بالوحدة الموضوعية في القصيدة وأن لم تتوفر فيها الوحدة العضوية , صحيح أن الغرض واحد من أول القصيدة إلى آخرها – لا كما لاحظنا عند البارودي – ولكنها ليست ذات نفس شعري مترابط , بحيث يختل معناها إذا حذفنا بعض أجزائها أو قدمنا وأخرنا في مواضع أبياتها .
وهناك ظاهرة أخيرة قد يكون لها صلة بخصائص شعر الرصافي هي عنايته بموسيقى الوزن والقافية فعلى الرغم من انه يستخدم الأوزان الخليلية المعروفة ولا يخرج عنها , لكنه يعني بروي القصيدة فيجعله مناسبا لمعناها وقد يلتزم قبله بحرف المد أو يثبت ألف الإطلاق بعده حينما يحتاج المعنى إلى جهارة الصوت , ومد النفس وغالبا ما يكون ذلك في قصائد المناسبات السياسية الوطنية التي كان يلقيها في احتفال من الاحتفالات الخطابية , وقد رأينا نماذج عديدة لها في ثنايا حياته وشعره .
وقد يسكن الروي ويجعله مقيدا ً وهذه ظاهرة بينة تتجلى في كثير من قصائده , فتنشأ عنها موسيقى ناعمة حينا وحزينة حينا آخر , ولنضرب مثلا على هذا قصيدته ( قصر الحمراء ) التي نظمها متحسرا على مجد العرب في الأندلس , والتزم بعد الروي بهاء ساكنة , لعبر عن الحسرة يقول فيها :
قف على الحمراء واندب مضر الحمراء فيه
واسأل البنيان ينبئك بأنباء ذويه
ويحدثك حديث المجد والعيش الرفيه
بكلام محزن اللهجة يبكي من يعيه
يقول في قصيدة أخرى بعنوان ( وحدة الوجود ) :
ما للحقيقة من بداية كلا وليس لها نهاية
خفيت ولكن كم وكم ظهرت لها في الكون أية
إلى آخر هذه الأبيات الفلسفية التي نحس ونحن نقرؤها , أن شاعرنا يطلق نفسه في آخر كل بيت من أبياتها , مع هاء هذه القافية المقيدة ومثلها قصائده التالية ( العلم – المرأة المسلمة – من مطبخ الدستور – إلى أبناء الوطن ) فضلا عن قصيدتيه ( المتنبي وشاعر البشر ) , اللتين سبقت الإشارة لهما .
ولو أردنا أن نجمل أهم ما أضافه الرصافي من تجديد إلى الشعر العربي بالقياس إلى البارودي لوجدنا انه وضع قاعدة الالتزام الحديث في الأدب , إذ جعل له رسالة نبيلة سامية هي رسالة الأكثرية الساحقة من أبناء الشعب وحتم على الأديب أن يضع نفسه في خدمة المجتمع , ويستوعب آلامه وآماله وأهدافه , وهذا ما لم يتوفر في شعر البارودي كما لم يتجل لنا بوضوح في شعر شوقي وحافظ كما سنرى فيما بعد .
منزلته في الشعر العربي الحديث : في المقدمة المطولة التي عرف بها العلامة ( عبد القادر المغربي ) ديوان الشاعر حينما طبع للمرة الثانية , حاول أن يحلل شعره وشاعريته ويبين مواطن القوة فيهما واهم الأغراض التي أبدع فيها , والمزايا التي امتاز بها , كما أشار إلى بعض معانيه المبتكرة وعرج ببعض التعابير المحدثة المقبولة وغير المقبولة , ثم قال عنه : " هذا هو الرصافي الشاعر الكبير الذي شغل العالم العربي فترة طويلة من الزمان والذي استمر إنتاجه متدفقا أكثر من خمسين عاما ً , هذا هو الرصافي شاعر العرب وشاعر العراق وشاعر النضال الوطني , والكفاح المتحرر المتوثب من اجل النهضة والتقدم لبلاده وأمته " , وهذه الشهادة من علامة معاصر له تدل على مبلغ ما وصلت إليه منزلة هذا الشاعر في عصره فهو يلقبه مرة بشاعر العرب وأخرى بشاعر العراق , وثالثة بشاعر النضال الوطني ومثل هذه الألقاب نراها عند الدارسين الذين ألفوا كتبا عديدة عن حياته وشعره , ( بدوي طبانة ) يسميه شاعر العراق الكبير , وعبد الجبار الجومر وسعيد البدري يطلقان عليه اسم شاعر العراق الأكبر , وهناك باحثون آخرون وصفه بعضهم بأنه ( شاعر العرب الكبير ) أو شاعر العرب الأكبر , وبالغ بعضهم مبالغة شديدة فقال عنه منير القاضي رئيس المجمع العلمي العراقي , مكانة شاعر العراق الأوحد في عصره بل شاعر العروبة الأوحد في وقته , في الذروة فهو المجلي بين جميع شعراء عصره ومكانته بينهم مكانة المتنبي من شعراء عصره .
ومهما كانت صحة هذه الألقاب فلا شك أنها تدل على إقرار الباحثين بعظمة هذا الشاعر على الرغم من تفاوتهم في تضخيم هذه العظمة أو الاعتدال في التعبير عنها , لكن بعض النقاد فضل عليه الزهاوي أو شوقي , أو حافظ أو مطران المعاصرين له .
على أن لكل شاعر من هؤلاء جانبا ً يختلف فيه عن الآخر أضافه إلى الشعر الحديث , فبم امتاز شاعرنا إذن ؟
امتاز الرصافي عن هؤلاء جميعا بما يلي :
1- بجرأته في القول وصراحته في التعبير عما يراه حقا ً , دون أن يهاب أحدا سواء كان رجلا من رجال السلطة أو الشعب , ولعل هاتين الصفتين هما اللتان لفتتا أنظار الأدباء في عصره حتى ظن بعضهم أن الرصافي اسم وهمي أو مستعار , ومن هؤلاء الشاعر اللبناني بشارة الخوري , والصحفي اللبناني نعوم لبكي , وكان الرصافي يجهر بهاتين الصفتين ويعتز بهما في شعره وهو الذي قال في قصيدته ( في سبيل الحرية ) : وجردت شعري من ثياب ريائه فلم اكسه إلا معانيه الغرا
اضمنه معنى الحقيقة عاريا فيحسب جهالها منطقا هجرا
ويحمله الغاوي على غير وجهه فيوسعني شتما وينظرني شزرا
رويدك إن الكفر ما أنت قائل وإن صريح العرف ما خلته نكرا
هل الكفر إلا أن ترى الحق ظاهرا فتضرب للأنظار من دونه سترا
وأن تبصر الأشياء بيضا نواصعا فتظهرها للناس قانية حمرا
إذا كان في عري الجسوم قباحة فأحسن شيء في الحقيقة أن تعرى
2- ويمكننا كذلك أن نستشف منزلته في الشعر العربي الحديث من خلال بعض المزايا التي شهد له بها معظم من تناول شعره بالدراسة .
حافظ إبراهيم / حديث
في ذهبية ( سفينة ) على شاطئ النيل قرب ديروط في أسيوط من صعيد مصر رأت عينا ( حافظ إبراهيم ) النور لأول مرة عام 1870 وفي بعض الكتب قبل 1871 وقد ولد لأب مصري كان مهندسا واسمه ( إبراهيم فهمي ) كان يشرف على قناطر ديروط , ولام تركية اسمها ( هانم بنت احمد البورصلي ) ولم يكن لوالده غيره ولم يعثر بعد ولادته طويلا , إذ كان في الرابعة من عمره حين توفى فانتقلت به أمه إلى بيت أخيها في القاهرة , فاشرف على تربيته – وكان مهندسا أيضا ً – وادخله الكتاب أولا ثم المدرسة الابتدائية ثم نقل عمل خاله إلى طنطا , فصحبه معه , فكان هناك يتردد على الجامع الأحمدي , الذي كانت تلقى فيه دروسا ً على شاكلة الأزهر فكان حافظ إبراهيم يحضر بعضها أحيانا دون انتظام ولكنه بدأ يشعر بميله إلى الأدب والشعر وكان في السادسة عشرة من عمره حين تعرف على الشيخ عبد الوهاب النجار , الذي كان طالبا بالجامع الأحمدي وقد وصفه بالظرف واللطف والبديهة المطاوعة وسرعة الخاطر , والنادرة الحاضرة فكانا يتطارحان الشعر يتذكران في نوادر الأدب , ودل ذلك على جيد ما حفظ من الشعر , وما أولع به من المطالعة وهكذا أنشأ ( حافظ ) نفسه بنفسه لكثرة عكوفه على كتب الأدب فكان يكثر من مطالعة كتاب الأغاني الذي قراه مرات عديدة , كما قرأ دواوين الشعراء القدماء كبشار ومسلم بن الوليد , وأبي نواس وأبي تمام والبحتري والشريف الرضي وابن هاني والمعري , وغيرهم , وكان يحفظ أكثر شعرهم وظل حافظ يعيش هذه الحياة غير المنتظمة لا في دراسته ولا في عيشته حتى مل خاله هذه الحال وربما أشعره بذلك فنظم بيتين تركهما لخاله قال فيهما :
ثقلت عليك مؤونتي إني أراها واهية
فافرح فإني ذاهب متوجه في داهية
وقرر أن يشق طريقه بنفسه ليكسب عيشه وكان أمامه أحد الطريقين أما أن يكون معلما في مكتب – كما كان يفعل غيره – وأما أن يكون محاميا لأن المحاماة كانت مهنة حرة , لا قيد فيها ولا شرط وربما استشعر حافظ بنفسه القدرة على المداورة والمحاورة , لطلاقة لسانه , وسرعة بديهته فذهب إلى أحد المحامين واشتغل في مكتبه واخذ يترافع في القضايا ويكسبها لكنه اختلف مع صاحب المكتب فانتقل إلى مكتبين آخرين ثم مل من جديد ولا سيما لأن المحاماة تقتضي العكوف على دراسة القضايا وكتابتها مما ليس من شيمه , فقرر أن يترك المحاماة ويدخل المدرسة الحربية , كما فعل من قبل أستاذه البارودي الذي كان معجبا ً به , مهتديا بهديه وظل في المدرسة الحربية حتى عام 1891 م حين تخرج وهو في سن العشرين وعين بعد تخرجه في وزارة الحربية مدة ثلاث سنوات , ثم نقل إلى الداخلية في بلدة بني سويف , حيث أمضى عاما ونيفا ثم عاد إلى وزارة الحربية وسافر إلى السودان مرافقا لحملة اللورد كيتشنو , ولكنه ما لبث أن ضاق ذرعا بعمله هناك وقد قال في ذلك واصفا حاله , متعجلا العودة إلى القاهرة :
متى أنا بالغ يا مصر أرضا أشم بتربها ريح العلاب
ولما حدثت ثورة السودان عام 1899 اتهم مع غيره من الضباط بإثارتها فحوكموا وأحيلوا على الاستيداع فطلب هو إحالته على المعاش ( التقاعد ) واخذ يبحث عن عمل جديد فعرض نفسه على جريدة الأهرام , لكنه رفض فظل فترة من الزمن بلا عمل يتردد على مجلس الأستاذ محمد عبده , وأتيحت له – عن طريقه - فرصة الاتصال بالأدباء والعظماء أمثال ( سعد زغلول وقاسم أمين ومصطفى كامل ) ونحوهم فكان يسمع منهم كثيرا من المسائل العلمية والسياسية والاجتماعية التي تعرض فيها الحلول المختلفة ويلقي هو عليهم شعره ونوادره , ثم عين عام 1911 رئيسا للقسم الأدبي بدار الكتب المصرية , وظل في هذه الوظيفة حتى وفاته في ( 21 يوليه ( تموز عام 1923 ) وذلك بعد أربعة أشهر ونصف من إحالته على المعاش .
أخلاقه :
عرف حافظ – كما قلنا – بالبديهة الحاضرة , والنكتة الظريفة وظرف الحديث وكأنه عوض بذلك عن البؤس الذي حالفه والشقاء الذي لازمه منذ صغره حتى وفاته ولكن شخصيته المرحة هذه لم تكن تبدو في شعره إذ يتراءى فيه حادا يدافع عن وطنه ومجتمعه وشعبه .
وعرف حافظ بالملل فهو لا يستقر على حال حتى ينتقل إلى غيرها فقد رأيناه يسام من الدراسة والمدرسة فينتقل إلى المحاماة فما يلبث أن يملها فيغادرها إلى المدرسة الحربية .
وكان كريما واسع العطاء ( كسابا وهابا ) كما قال عنه إحدى أصدقائه فكان إذا امتلأ جيبه بالمال تمتع بما يشتهي فأكل خير مأكل , ولبس خير ملبس وانفق على أصدقائه , حتى إذا ضاقت به الحال وذاق البؤس والحرمان عرف كيف يقتصد ويصبر .
وكانت نفسه كما قال د . طه حسين : بسيطة يسيرة لا حظ لها من عمق ولا تعقيد وكانت لهذه الخصال نفسها محببة إلى الناس مؤثرة فيهم .
3نتيجة لما تقدم كان حافظ صديق الشعب كله صديق الفقراء والأغنياء وأوساط الناس صديق العلماء , والمستنيرين وصديق غيرهم من الذين لا حظ لهم من ثقافة أو ليس لهم من الثقافة إلا حظ ضئيل , تراه في كل بيئة وتراه في الشوارع يماشي أصدقائه باسم الثغر مشرق الوجه , مظلم النفس ضاحكا مما يحزن ومما يسر .
ومما عرف عن حافظ انه كان يتسع صدره لنقد شعره وكثيرا ما دعا اصحباه وخصومه إلى نقده ودلالته على مواضع الضعف , ومواضع نقض في قصائده قبل أن تنشر وبعد أن تنشر على الجمهور , أما إذا نشر في الصحيفة أو كان على ملأ من الناس فكان يغضب اشد الغضب , ولا يثبت للنقد والخصومة .
مما تقدم من حياة هذا الشاعر وأخلاقه نستطيع أن نعرف المؤثرات التي تركت بصماتها واضحة فيه وهي :
1- البيئة المصرية الفقيرة التي ترعرع فيها فقد انعكست آثارها على نفسه وشعره فبؤسه دفعه إلى الكرم ونقمته على الشقاء دفعته إلى الفكاهة الحلوة , والنادرة المستملحة فضحك من البؤس وسخر من الحياة حتى تناقلت الصحف والمجالس والمقاهي نوادره وفكاهاته .
أما اثر هذه البيئة في شعره فقد انعكس في مناصرته للفقراء والبائسين والدفاع عن المجتمع والوطن حتى غدا شعره السياسي الوطني وشعره الاجتماعي في مقدمة الأغراض التي جدد فيها .
2- وتأتي الثقافة العربية لتكون فكره وذوقه , فقد رأينا تأثره بالكتب والدواوين العربية القديمة , وكان في هذا يسير على خطا أستاذه البارودي وإن هذا أوسع منه ثقافة وإطلالا إذ حذق اللغتين الفارسية والتركية ثم تعلم الانجليزية حين كان في النفي أما حافظ فقد الم بالفرنسية الماما مكنه من ترجمة ( البؤساء ) لفيكتور هوغو – بتصرف فيها – ولم يحذق سوى اللغة العربية وكانت حافظته قوية تسعف ذوقه ولكنه لم يكن منظما في قراءته بل كان – كما وصفه د . احمد أمين , - كالنحلة تنتقل من زهرة إلى زهرة , وترتشف من هذه رشفة ومن تلك رشفة حتى إذا وقع على أسلوب جميل أو معنى دقيق اختزنه وأفاد منه .
3- ولكن هناك رافد آخر لمكوناته وثقافته هو اختلاطه بمجالس العلماء وقادة الرأي الذين كان يتصل بهم ممن اشرنا إليهم قبل قليل وكلهم عرف بالزعامة في الأدب أو السياسة أو الإصلاح .
4- إذا أضفنا إلى هذا كله تجاربه الشخصية الواسعة التي كانت نتيجة تعرضه للبؤس والفقر و الشقاء وامتزاجه بالناس على مختلف طبقاتهم ومشاركتهم في الخير والشر , والسراء والضراء لاحظنا الفرق في التكوين بينه وبين شوقي من جهة وبينه وبين البارودي من جهة أخرى .
شعره : نظم حافظ الشعر في أغراض كثيرة مثل المدح والتهنئة والهجاء والوصف والغزل والقضايا الاجتماعية والسياسية الوطنية والرثاء والاخوانيات .
ويمتاز شعره على سابقيه ( البارودي وشوقي ) بأنه توجه فيه إلى الجمهور لا إلى الطبقة الخاصة فكان يبسط لغته ويصوغ بأسلوب سهل حتى يكون مفهوما لدى الناس أجمعين وكانت صلته بالناس – كما رأينا في حياته – واسعة شاملة , فما كان يعيش لنفسه إنما كانت مصر كلها – كما يقول د . طه حسين – بل الشرق كله بل الإنسانية كلها في كثير من الأحيان , تعيش في هذا الرجل تحس بحسه وتألم بقلبه وتفكر بعقله وتنطق بلسانه . فكانت طبيعته مرآة صافية صادقة لحياة نفسه ولحياة شعبه .
ووهب حافظ فوق هذا عاطفة قوية وذوقا رفيعا فعمد إلى تقليد القدماء والنظم على غرارهم ثم عابه النقاد وزميله شوقي في اتجاههما نحو القديم فإذا هو ينظم قصيدته المشهورة مخاطبا الشعر :
ضعت بين النهى وبين الخيال يا حكيم النفوس يا بن المعالي
ضعت في الشرق بين قوم هجود لم يفيقوا وأمة مكسال
قد اذالوك بين انس وكاس وغراء بظبية أو غزال
ونسيب ومدحة وهجاء ورثاء وفتنة وضلال
وحماس أراه في غير شيء وصغار يجر ذيل اختيال
إلى أن يقول :
آن يا شعر أن نفك قيودا قيدتنا بها دعاة المحال
وهذه الصرخة طيبة والشاعر محق بها , ولكنها بقيت نظرية لأنه هو نفسه لم يستطع أن يفك قيود الشعر بل ظل ينظم – كما ذكرنا من قبل قليل – في الأبواب الشعرية التي يقول انه ( أذيل بينها ) ولم يجدد في الأوزان ولا الأسلوب ولا الخيال ولكنه جدد – كما سنرى – في بعض الموضوعات السياسية الوطنية والاجتماعية وبرع في الرثاء ومزيته في التجديد – تتركز – كما قال احمد أمين : " في انه تبلورت في شعره بآمال أمته أولا وآمال الشعب العربي ثانيا " فأين نجد هذا في شعره ؟
لعله يتجلى أوضح جلاء في قصائده الوطنية التي نظمها في المناسبات السياسية من ناحية وفي قصائده التي دفعته إلى تدبيجها مناسبات اجتماعية من ناحية ثانية , وأخيرا في رثائه لبعض الشخصيات في عصره الوطنية والعلمية والإصلاحية .
1- شعره الوطني :
يكاد شعر حافظ الوطني يساير معظم المناسبات السياسية التي جرت في عصره إن لم نقل كلها وكان اختلاطه بزعماء مصر سببا في صقل شعوره الوطني , إذ كان عصره عصر انقلاب وتحول وقلاقل وحماية وتخاذل من بعض الحكام , ووعي من بعض الزعماء الوطنيين الذين كانوا يلهبون حماسة الشعب ويحاولون إيقاظه من غفلته فينبري حافظ ليشاركهم بشعره في مناسبات عديدة منها قصيدته إلى الأسير ( حسين كامل ) الذي كان رئيس مجلس الشورى وقبل أن يتوجه بخطابه إليه يصور الشعب محاولا ً توعيته واضعا يده على أساس الداء الذي هو التواني والانقسام فيقول :
أرى شعبا بمدرجة العوادي تمخخ عظمه داء عقام
هلاك الفرد منشؤه توان وموت الشعب منشؤه انقسام
وإنا قد ونينا وانقسمنا فلا سعي هناك ولا وئام
فساء مقامنا في أرض مصر وطاب لغيرنا فيها المقام
فلا عجب إذا ملكت علينا مذاهبنا وأكثرنا نيام
ثم يوجه خطابه للأمير , ويطالبه بنشر العلم والأخذ بالدستور ويعرج بعد هذا على الحدث السياسي الاقتصادي الذي زعزع كيان مصر وهو ( حفر قناة السويس ) فيقول :
حمونا ورد ماء النيل عذبا ً وقالوا انه موت زوءام
وما الموت الزوءام إذا عقلنا سوى الشركات حل لها الحرام
فيا ويل القناة إذا احتواها ( بنو التاميز ) وانحسر اللثام
وحين سمع بأمة اليابان وشجاعتها التي انتصرت فيها على روسيا التفت إلى أمته فقرعها , وأسف على تخاذلها وتعشقها للأجانب دون أن تحس بالخطر الداهم فقال في قصيدته ( غادة اليابان :
أنا لولا أن لي من أمتي خاذلا ما بت أشكو النوبا
امة قد فت في ساعدها بغضها الأهل وحب الغربا
لا تبالي لعب القوم بها أم بها صرف الليالي لعبا
ثم ضرب المثل للأمم الناهضة بقصة هذه الغادة اليابانية التي ذكرت له أنها تود الدفاع عن وطنها بخدمة الجرحى ومواساة المنكوبين لأن ملك اليابان ( الميكادو ) هكذا علمها فاستطاع أن يأخذ بيد أمته نحو المعالي :
هكذا الميكادو وقد علمنا أن نرى الأوطان أما وأبا
وإذا بدا حافظ في القصيدتين السابقتين ناصحا معتدل النبرة تارة ومن وراء ضرب المثل للأمم الناهضة تارة أخرى , فانه يبدو ارفع صوتا وأصرح عبارة في قصيدته ( مصر ) التي انشدها في الحفل الذي أقيم لتكريم المرحوم ( عدلي باشا ) بعد عودته من أوروبا قاطعا المفاوضة مع الانجليز ومستقيلا من الوزارة وقد جعل القصيدة على لسان مصر تتحدث بنفسها فقال في مطلعها : وقف الخلق ينظرون جميعا ً كيف ابني قواعد المجد وحدي
ثم يبث في أبناء شعبه الوعي ويفتح عيونهم على خطر الاستعمار الغربي المحدق بالوطن ويدعوهم إلى الوئام والتآلف فيقول :
إن في الغرب أعينا راصدات كحلتها الأطماع فيكم بسهد
فاتقوها بجنة من وئام غير رث العرا وسعي وكد
نحن نجتاز موقفا تعثر الآراء فيه وعثرة الرأي تردى
ونعبر الأهواء حربا عوانا من خلاف والخلف كالسل يعدي
ونثير الفوضى على جانبيه فيعيد الجهول فيها ويبدي
فقفوا فيه وقفة الحزم وارموا جانبيه بعزمة المستعد
وفي قصيدة أخرى نظمها في أواخر حياته بعنوان ( في شؤون مصر السياسية ) يخاطب الانجليز الذين يزعمون أنهم محايدون , فيجابههم بحقيقة شعور المثريين نحوهم ويقول:
لم يبق فينا من يمني نفسه بودادكم فودادكم أحلام
امن السياسة والمروءة أننا نشقى بكم في أرضنا ونضام
إنا جمعنا للجهاد صفوفنا سنموت أو نحيا ونحن كرام
وتتبع هذه القصيدة بقصائد عديدة أخرى يوجهها إلى الانجليز أيضا منها ( إلى الانجليز – إلى المندوب السامي – الأخلاق والحياد – ثمن الجياد – الحياد الكاذب ) وكلها تعبر عما يضطرم في نفسه ونفوس المصريين من مشاعر وطنية .
ولا يفوتنا أن ننوه بمأساة ( دانشوي ) التي حدثت حين خرج بعض ضباط الانجليز لصيد الحمام قرب هذه البلدة عام 1906 م فاصابت إحدى رصاصاتهم الطائشة امرأة فثار الاهلون وهاجموا الجنود الانجليز فقتلوا واحدا منهم , وأصابت ضربة الشمس آخرين من الهاربين فاماتته فثارت ثائرة اللورد كرومر , المعتمد البريطاني آنذاك وطالب بمحاكمة سكان هذه البلدة فالفت محكمة خاصة لمحاكمتهم وقضى المدعي العام ( إبراهيم المهلباوي ) فيها بمعاقبة المجرمين أقسى عقوبة فاعدم أربعة شنقا على مرأى من الاهلين كما حكم على الباقين بالجلد والسجن لمدد مختلفة فثار الرأي العام لهذا الحكم الجائر أما شوقي – شاعر القصر آنذاك فظل صامتا ً ثم نظم قصيدة بعد عام في ذكرى الحادثة يبدو فيها كما سبق أن ذكرنا , التكلف الذي يراد به تمويه العاطفة الواهية .
وأما حافظ فقد طلع على الشعب بقصيدة بعد صدور الحكم بخمسة أيام ثم نظم قصيدة ثانية بمناسبة استقبال الحاكم الانجليزي اللورد كرومر اثر عودته من المصيف بعد الحادثة , واتبعها بثالثة نظمها عند استقبال غورست معتمدا جديدا بدلا من كرومر وهو في الأولى يخاطب الانجليز تارة فيقول مشيرا ً إلى من قتل بضربة شمس :
أيها القائمون بالأمر فينا هل نسيتم ولاءنا والوداد
لا تقيدوا من امة بقتيل صادت الشمس نفسه حين صادا
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو أنفوسا أصبتم أم جمادا
ليت شعري أتلك محكمة التفتيش عادت أم عهد نيرون عادا
وتارة أخرى يوجه خطابه إلى رئيس المحكمة , فيلين له القول ثم يغلظه قائلا ً :
ايه يا مدره القضاء ويا من ساد في غفلة الزمان وشادا
أنت جلاد فلا تنس أنا قد لبسنا على يديك الحدادا
وهكذا نرى شاعرنا يقف في شعره الوطني جنبا إلى جنب مع رفاقه زعماء الجهاد ليعانق قلمه وشعره خطبهم ونضالهم .
شعره الاجتماعي : كما كان اتصال حافظ بزعماء مصر الوطنيين والإصلاحيين سببا ً من أسباب صقل شعره الوطني كذلك كانت صلته بهم في اتجاهه نحو الشعر الاجتماعي هذا بالإضافة إلى انه عاش كما قلنا مع الشعب يلتقي بمختلف طبقاتهم ويشاركهم حياتهم فلا عجب أن يشخص أمراضه , ويشير إلى طرق معالجتها ويستنهض الهمم في سبيل حياة أفضل ومجتمع راقي , فإذا حدث غلاء في الأسعار اخذ يدعو المصلحين إلى محاربته , ومعالجة الفقر وآثامه ويقول في قصيدته :
أيها المصلحون ضاق بنا العيش ولم تحسنوا علينا القياما
وبعد أن يصور حال الفقير الذي عز عليه الحصول على قوت يومه , فصار يبيت على الطوى , يلتفت ثانية إلى المصلحين منبها إلى قضية اجتماعية مهمة مشيرا إلى أن الفقر سبب كبير من أسباب الإجرام :
أصلحوا نفسا اضر بها الفقر واحيا بموتها الاثاما
وتظفر إلى ذهن الشاعر هنا قضية وطنية يصل بينها وبين هذه الناحية الاجتماعية فقد غدت مصر مرتعا للدخيل الأجنبي , وخيراتها مطمعا ً للمستعمر الغربي دون أبنائها الذين يموتون جوعا وعطشا ً :
أيها النيل كيف نمسي عطاشا في بلاد رويت فيها الاناسا
يرد الواغل الغريب فيروى وبنوك الكرام تشكو الاداما
ثم يعود إلى مخاطبة المصلحين من جديد ليرفقوا بالقوم الذين تمنوا الموت حين وقعوا فريسة الغلاء .
واثر حادثة اجتماعية أخرى حدثت في بقعة من بقاع مصر , اهتز حافظ وثارت شاعريته فراح يصور ( حريق ميت غمر ) تصويرا يستدر الرحمة من القلوب وينتزع الإشفاق من النفوس , في لوحة تعبيرية بديعة بعد أن شاهد الحريق بعينه , إذ كان مع أعضاء لجنة المنكوبين الذين رأسها الأستاذ الإمام محمد عبده والذين رأوا عظم هذا الحريق الذي اهلك خلقا كثيرا ودمر عددا كبيرا من الدور والمحال فجاء تصوير حافظ لهذا الحريق تصويرا واقعيا يقول في بعضه :
سائلوا الليل عنهم والنهارا كيف باتت نساؤهم والعذارى
كيف أمسى رضيعهم فقد الأم وكيف اصطلى مع القوم نارا
كيف طاح العجوز تحت جدار يتداعى وأسقف تتجارى
أين طوفان صاحب الفلك يروي هذه النار فهي تشكو الأوارا
أشعلت فحمة الدياجي فباتت تملأ الأرض والسماء شرارا
فأغارت وأوجه القوم بيض ثم غارت وقد كستهن قارا
أكلت دورهم فلما استقلت لم تغادر صغارهم والكبارا
أخرجتهم من الديار عراة حذر الموت يطلبون الفرارا
وبعد أن ينتهي من هذا التصوير الذي يستدر فيه الرحمة والإشفاق , يتوجه بخطابه إلى الرافلين في حلل الوشي يجرون للذيون افتخارا . فيحضهم ويخص بعض الأغنياء منهم , على البذل والإعانة .
ويتلفت حافظ حوله فيرى أن المرأة التي هي نصف المجتمع ما زالت في ظلمات الجهل أسيرة التأخر فينادي بوجوب تعليمها وتربيتها وتحريرها مستعيرا بعض آراء معاصريه وصديقه ( قاسم أمين ) واشتهر ما نظمه في هذا المجال قافيته التي انشدها في حفل أقيم ببورسعيد عام 1910 لإعانة (مدرسة البنات ) فيها وقد ترددت أبياته الأخيرة منها والمتعلقة برعاية المرأة على كل شفة ولسان , وخاصة تلك التي يتحدث فيها عن رأيه في ( تربية النساء ) ومنها قوله :
من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
الأم أستاذ الأساتذة الالى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
ولعله كان يخشى من الفئات التي كانت تعارض تعليم المرأة خوفا من أن تشتط في التحرر ونزع الحجاب فأبان رأيه هنا بوضوح , وأشار إلى رسالة الأمومة والبيت أولا ً لكن دعا إلى رفع الظلم والحيف عن المرأة , وعدم الإسراف في التضييق عليها فقال حاضا ً على التوسط في هذا الأمر حاثا ً على العناية بتربيتها الخلقية :
فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا فالشر في التقييد والإطلاق
ربوا البنات على الفضيلة أنها في الموقفين لهن خير وثاق
وعليكم أن تستبين بناتكم نور الهدى وعلى الحياة الباقي
وفضلا عما تقدم فقد دعا حافظ إلى افتتاح الجامعة المصرية وأثنى على من أسسوا الجمعيات الخيرية وجمعيات العناية بالأطفال ومنها القصائد التالية ( رعاية الأطفال – ملجأ رعاية الأطفال – الجمعية الخيرية الإسلامية – جمعية إعانة العميان – ملجأ الحرية ) وغيرها . ومنها قصيدته في مدح السيدات اللاتي انشأن ( جمعية الطفل ) عام 1928 والتي يقول فيها :
أيها الطفل لا تخف عنت الدهر ولا تخشى عاديات الليالي
قبض الله للضعيف نفوسا تعشق البر من ذوات الحجال
أي ذوات الجمال عشتن للبرود متن قدوة للرجال
وحافظ فوق هذا تحدث عن اللغة العربية حين انتشرت الدعوة العامية ونبه إلى أنها تتسع للعلوم الحديثة المختلفة , لا كما يتهمها أعداؤها فيبدو في موضوعه هذا اجتماعيا وقوميا في أن واحد يقول في بعض أبياتها على لسانها :
رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجوع لقول عداتي
وسعت كتاب الله لفظا وغاية وما ضقت عن أي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
أيطربكم من جانب الغرب ناعب ينادي بوادي في ربيع حياتي
ومما يزيد في قيمة هذه القصيدة من الناحية الوطنية والقومية فضلا عن الاجتماعية إشارة حافظ إلى انصراف أبناء العربية عنها إلى اللهجات العامية التي تسربت إليها كلمات أجنبية رقعت بها :
أيهجرني قومي – عفا الله عنهم إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى لعاب الأفاعي في مسبل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات
وكثيرا ما كان حافظ يوجه شعره إلى الشباب , وينعي عليه انصرافه عن جد الحياة إلى لهوها , وتسكعه في الشوارع وازدحامه في المقاهي , وقد أشار إلى هذه النواحي بعض الباحثين إلا أننا لا نعثر في ديوانه على شيء من هذا , اللهم إلا في ثنايا بعض القصائد الأخرى كما في قصيدته ( سورية ومصر ) التي ضرب فيها المثل في الجد والطموح بشباب الشام الذين ضربوا في الأرض وهاجروا , وزادوا المناهل سعيا وراء الكسب واغلب الظن أن باقي القصائد المشابهة لهذه ضاعت فيما ضاع من شعر حافظ الذي كان يضن به على الصحف والمجلات , إما لعدم رضاه عنه وإما لأنه كان يكتفي بإنشاده في مجالس الأصدقاء ونوادي الأدباء .
شعره في الرثاء :
آخر غرض شعري أجاد فيه حافظ إجادة واضحة تفوق على أقرانه من شعراء العصر هو الرثاء , وإن لم يجدد فيه تجديدا واسعا وقد اعترف له قرينه شوقي بهذا حين رثاه , إذ توفي قبله بما يقارب من ثلاثة أشهر , فقال في مطلع قصيدته في رثائه :
قد كنت أؤثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء
وقد تنكون عنايته بهذا الغرض ونجاحه فيه أثرا من أثار خوفه من الموت حتى لقد نعى نفسه إذ كان يتألم من الشيخوخة ويتوهم المرض , فكان موت أحد أصدقائه أو معارفه نذيرا لموته ويؤلف قسم الرثاء أكثر من نصف الجزء الثاني من ديوانه , وقد رثى رجالات عصره السياسيين منهم والأدباء والشعراء والمصلحين الذين كان يخالطهم ومنهم الزعيمان مصطفى كامل وسعد زغلول ومنهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده , ومنهم الشاعران محمود سامي البارودي وإسماعيل صبري , والمصلح الاجتماعي قاسم أمين , ومنهم بعض رجال الصحافة مثل علي يوسف صاحب جريدة المؤيد , ومحمد أبي شادي صاحب جريدة الظاهر , وأمين الرافعي صاحب جريدة الأخبار ويعقوب صروف صاحب المقتطف ومحمد المويلحي مؤلف كتاب حديث عيسى بن هشام , ورثى من الأدباء جرجي زيدان منشئ مجلة الهلال , وصاحب الروايات التاريخية الأدبية , وباحثة البادية ملك حنفي ناصيف , فضلى الكاتبات الباحثات صاحبة كتاب النسائيات , وغير هؤلاء من أصدقائه أو مشاهير عصره .
وكان رثاؤه في مطلع شبابه تقليديا ً ضعيف العاطفة كثير المبالغة في تعداد مآثر الميت ولكنه أضحى حينما نضجت شاعريته واستوى فنه صادق العاطفة مرهف الإحساس وثيق الصلة بنفسه طافحا بالوفاء والإخلاص وقد علل د. طه حسين إجادته لهذا الغرض وبراعته فيه بكون نفسه تمتاز بصفتين خاصتين أولاهما قوة الحمر وصفاء الطبع واعتدال المزاج , وثانيهما النفس الرضية الوفية التي لا تستبقي من صلاتها بالناس إلا الخبر , ولا تحتفظ إلا بالمعروف ولا ترى إلا الإحسان والبر جزاء يعدل الإشادة به والثناء عليه .. وسواء كان رثاؤه تقليديا كثير المبالغة أم من النوع الثاني الصادق العاطفة فقد كان حسن النظم جيد المعاني والصور وإن كان النوع الأول لا يستطيع أن يهز القلوب والمشاعر ولنضرب مثلا على اللون الأول رثاء لأحد رجال الأباظية ( سليمان أباظة ) يحاكي فيه المعري بقصيدته ( غير مجد في ملتي واعتقادي ) فيقول :
أيهذا الثرى الأم التمادي بعد هذا أأنت غرثان صادي
أنت تروي من مدمع كل يوم وتغذي من هذه الآجاد
قد جعلت الأنام زادك في الدهر وقد إذن الورف بالنفاد
لست ادعوك بالتراب ولكن بقدود الملاح والاجياد
ففي هذه الأبيات – كما رأينا – يبدو تأثره بالمعري لا في الوزن والقافية وحسب بل في بعض المعاني الفلسفية الخاصة بالموت وإن لم يبلغ شأوه .
ولكنه في اللون الثاني من رثائه تبدو إجادته واضحة ولا سيما لأنه استطاع أن ينقل الرثاء من مسالة فردية إلى مسالة اجتماعية فموت الشيخ محمد عبده نكبة على مصر وعلى العالم الإسلامي , وموت مصطفى كامل كارثة على مصر وعلى الوطنية , يقول في رثاء الإمام محمد عبده :
سلام على الإسلام بعد محمد سلام على أيامه النضرات
على الدين والدنيا على العلم والحجا على البر والتقوى على الحسنات
لقد كنت أخشى عادي الموت قبله فأصبحت أخشى أن تطول حياتي
تباركت هذا الدين دين محمد أيترك في الدنيا بغير حماة
تباركت هذا عالم الشرق قد قضى ولانت قناة الدين للغمزات
ثم يستعرض سيرة حياة الإمام ووقوفه في وجه أعداء الدين ويجعل فقده كارثة على العالم الإسلامي كله فيقول :
بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة وضاقت عيون الكون بالعبرات
ففي الهند محزون وفي الصين جازع وفي مصر باك دائم الحسرات
وفي الشام وفي الفرس نادب وفي تونس ما شئت من زفرات
بكى عالم الإسلام عالم عصره سراج الدياجي هادم الشبهات
إلى آخر القصيدة التي تزدحم فيها المعاني الفردية والاجتماعية والعاطفة الذاتية الصادقة التي تنم عن حبه وإكباره لهذه الشخصية أضف إلى هذا رصانة الألفاظ على الرغم من مألوف المعاني , وبعدها عن الإبداع والابتكار .
ولعل حافظا كان أطول نفسا في رثائه حين رثى ( سعد زغلول , زعيم ثورة مصر عام 1919 ضد الانجليز فقد بلغت قصيدته فيه تسعين بيتا كان رثاؤه فيها رثاء الوفي لعهده الباكي المتأثر لفقده , وهو يبدؤها بتصوير وقع النبأ في نفوس الناس فيقول :
إيه يا ليل هل شهدت المصابا كيف ينصب في النفوس انصبابا انه مقطع عالي النبرة مجلجل الألفاظ يسترعي الانتباه ثم يستمر في تصوير كسوف النيرات بموته وإظلام الكون من بعده ويستعير بعض عبارات القدماء في الرثاء , ليفرغها على سعد , فهو شهاب أنور وكوكب اسطع ومهند أمضى إلى غير هذه العبارات التقليدية ولكنه ينتزع إعجابنا حين يبتكر بعض المعاني الجديدة فيقول :
خرجت امة تشيع نعشا قد حوى امة وبحرا عبابا
حملوه على المدافع لما اعجز الهام حملة الرقايا
حال لون الأصيل والدمع يجري شفقا ً سائلا ً وصبحا مذابا
وسها النيل عن سراه ذهولا حين ألفى الجموع تبكي انتحابا
ظن يا سعد أن يرى مهرجانا فرأى مأتما وحشدا عجابا
ثم يدع جانبا من حياة هذا العظيم النضالية , ولا من مواقفه البطولية إلا ويفصل الكلام فيه , ويطمئنه إلى أن الشعب سيسير على هديه وسيتابع نضاله من بعده .
وهكذا يتضح أن شعره في الرثاء مرآة صادقة لقلبه تجاه المرئي كما هو مرآة صادقة تنعكس عليها الأم الشعب تجاهه لأنه يتكلم من المرثيين ولا سيما العظماء والصالحين بلسان شعبه ويعرب عن عاطفته لذلك يترك رثاؤه أثرا بالغا في نفوس القراء فضلا عن أن مراثيه سجل الأحداث عصره الاجتماعية والتاريخية في مصر خاصة والعالمين العربي و الإسلامي عامة .
نود بعد ما تقدم أن نعرف ما منزلة حافظ في الشعر ؟ وما الذي امتاز به عن غيره من البناة ؟
يمتاز حافز بقوة العاطفة ولا سيما الوطنية والاجتماعية كما رأينا كما يمتاز بحسن السبك والصياغة بالإضافة إلى جمال الرنة الموسيقية ولكنه وصم بضعف الخيال , وقلة الحظ من التصوير والابتكار .
أما قوة العاطفة فقد لاحظناها فيما نظمه من موضوعات وطنية واجتماعية كما اتضحت لنا بجلاء في رثائه وأما متانة السبك والصياغة فقد عرف عنه انه كان " يعمد إلى الأساليب يتصفحها ليوائم بين المعنى واللفظ والأسلوب , وقد بالغ في ذلك حتى كان جهده في اختيار الألفاظ والأساليب يفوق جهده في ابتكار المعاني , كما يقول احمد أمين .
وأما جمال الموسيقى فواضح في شعره كذلك إذ كان – كما قيل عنه – ينظم البيت فيردد على أذنه ليوائم فيه بين موسيقى اللفظ وموسيقى الأسلوب وموسيقى الوزن وموسيقى القافية حتى إذا ارتاحت له أذنه عرضه على أذان الناس .
روى الدكتور طه حسين انه سأل حافظا ذات يوم : كيف يتصور القبر جاثيا حين قال في رثاء مصطفى كامل :
أيا قبر هذا الصيف آمال امة فكبر وهلل والق ضيفك جاثيا
فأجابه : " دعني من نقدك وتحليلك ولكن حدثني : أليس يحسن وقع هذا البيت في أذنك ؟ أليس في نفسك الحزن ؟ أليس يصور من جلال ؟ قلت بلى ولكن . . وقال : دعني من لكن واكتف مثلي بهذا " .
من هذا كله يبدو لنا أن قيمة شعره تأتي من عنايته بهذه العناصر الثلاثة السابقة , على الرغم من ضعف خياله التصويري , فهو يعدينا بعاطفته ويهزنا بأسلوبه وموسيقاه مع بساطة في التعبير وسهولة المعاني , وهذا ما سماه الدكتور طه حسين بالعبقرية الشعرية الشخصية ولعل هذا ما حببه إلى الناس , إذ كان قريبا من نفوسهم بشخصه وبشعره , وقد كان د . طه حسين على حق حين قال في الموازنة بينه وبين شوقي : " إن الناس أعجبوا بشوقي وأحبوا حافظا ً ثم مات حافظ فحزنت عليه مصر والشرق حزن المحب ومات شوقي فحزنت عليه مصر والشرق حزن المعجب " .
ونحن مع د.طه حسين كذلك حين قال في معرض الموازنة بين شوقي وحافظ في مجال التجديد : " كان شوقي مجددا ً ملتوي التجديد وكان حافظ مقلدا صريح التقليد , ويمضي الزمن على حافظ وشوقي فإذا تقليد حافظ يستحيل – لا أقول إلى تجديد , بل أقول إلى نضوج غريب وقوة بارعة وشخصية تفرض نفسها على الأدب فرضا ً وإذا تجديد شوقي يستحيل شيئا فشيئا إلى تقليد حتى إذا كانت أعوامه الأخيرة كانت قصائده كلها تقليدا ظاهرا لقدماء من الشعراء . . . يلتمس عندهم مثله الأعلى . " .
ولكن دور كل منهما في حركة الشعر واضح فكلاهما قد غذى قلب الشرق العربي نصف قرن أو ما يقرب من نصف قرن بأحسن غذاء وكلا الشاعرين قد أحيا الشعر العربي , ورد إليه نشاطه ونضرته ورواؤه وكلا الشاعرين قد مهد أحسن تمهيد للنهضة الشعرية المقبلة . لكن شوقي لم يبلغ ما بلغ حافظ من الرثاء ولم يحسن ما أحسن حافظ من تصوير نفس الشعب وآلامه وآماله , ولم يبلغ شوقي من هذا ما بلغ حافظ وهو بعد هذا أخصب من حافظ طبيعة وأغنى منه مادة وأنفذ منه بصيرة , واسبق منه إلى المعاني , وابرع منه في تقليد الشعراء المتقدمين لأن حافظا كان يقلد في الألفاظ والصور وشوقي كان يقلد فيها وفي المعاني أيضا ً " .
أحمد شوقي / حديث
هو أمير الشعراء واحد بناة الشعر بعد البارودي كان في مقدمة المجددين وتجلى هذا فيما أبدعه في ارخيات حياته من مسرحيات شعرية ولا بد قبل الكلام على هذه الناحية من الإلمام بحياته التي تلقى الضوء على شعره وفنه .
ولتيسير الاطلاع على حياته يمكن أن نقسمها إلى مراحل ثلاث :
الأولى : من مولده حتى نفيه أي من 1868 – 1915 م .
الثانية : حياته في المفنى حتى عودته عام 1919
الثالثة : حياته بعد عودته من المنفى وحتى وفاته عام 1932 م .
المرحلة الأولى : ولد احمد شوقي في القاهرة عام 1868 م وقيل 1969 م في بيت تعاونت على تكوينه عناصر متعددة من الجنسيات فقد كان جده لأبيه كرديا اسمه احمد شوقي وهو الذي سمي شاعرنا باسمه وكان قد قدم إلى مصر أيام محمد علي , فضمه إلى حاشيته وكان يجيد اللغتين العربية والتركية , وقد تزوج فتاة شركسية ومن هنا اتصل نسب شوقي بالعنصرين الكردي والشركسي وقد ترقى هذا الجد في الوظيفة حتى أصبح أمينا للجمارك المصرية في عهد سعيد باشا , وجمع ثروة واسعة بددها ولده علي – أبو شوقي – وابنه شاعرنا فيما بعد .
أما جده لامه فقد كان تركيا جاء هو أيضا إلى مصر ولكن أيام إبراهيم باشا وأعجب به هذا فقربه منه وزوجه معتوقة يونانية كانت قد نشأت في القصر وما زال هذا الجد يترقى أيضا حتى أصبح وكيلا للخديوي إسماعيل ولما توفي أمر الخديوي بأن يؤول مرتبه إلى أرملته .
من هنا نرى أن شوقي تعاورت على تكوينه عناصر شيء من الدماء لذلك يقول حين ترجم لنفسه في مقدمة ديوانه الذي طبع لأول مرة : انه عربي تركي يوناني , كردي شركسي , ويبدو انه نشأ في بيئة ارستقراطية موسرة إذ كانت جدته لامه إحدى وصيفات القصر – كما قلنا – فأخذته من المهد وكفلته وكانت محبة له تحنو عليه .
حدثته أنها دخلت به مرة على الخديوي إسماعيل – وكان في الثالثة من عمره – وشكت إليه أن بصره لا يتحول عن السماء من اختلال أعصابه فطلب الخديوي بدرة من الذهب ونثرها على البساط عند قدميه فوقعت عيناه على الذهب فاشتغل بجمعه واللعب به فقال الخديوي لجدته : اصنعي معه مثل هذا فانه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض فقالت له قولها المشهور : ( هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي ) , فأجابها : جيئي به إلي متى شئت إني آخر من ينثر الذهب في مصر .
هكذا نشا الصبي في حضن جدته لامه في قصر إسماعيل وقد اعترف بهذا الجميل وظل وفيا لهذا الخديوي , لذلك نراه يقول فيما بعد :
أأخون إسماعيل في أبنائه ولقد ولدت بباب اسماعيلا
أما دراسته فقد بدأها بالكتاب شأنه شأن كل أطفال ذلك العصر فدخل مكتب الشيخ ( صالح ) وهو في الرابعة من عمره ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية ( المبتديان ) فالتجهيزية وكان في الخامسة عشرة , حين بدت عليه مخايل النبوغ والتفوق , وتحركت موهبته الشعرية فنظم آنذاك بعض المعارف الجيولوجية والجغرافية ثم تخرج فيها عام 1885 م .
في هذه الفترة تلقى العربية على يد حسين المرصفي – أحد علماء الأزهر وصاحب كتاب الوسيلة الأدبية – فكان لهذا الأستاذ وكتابه اثر بعيد في رياضة الخيال عند شوقي , إذ استفاد منه في الاطلاع على شعر البارودي الذي تعلم منه أمرين :
1- محاكاة شعر الأقدمين ومعارضتهم .
2- أن الأسلوب العربي الجيد الذي غاب عن الأدب العربي خلال عصور الانحطاط وأوائل عصر النهضة , يمكن أن يبعث حيا على لسان أهل العصر .
ثم رأى له أبوه أن يلحقه بمدرسة الحقوق والترجمة حيث لبث سنتين فيها ونال شهادتها في الترجمة وقد وصفه أحد طلابها الذين كانوا معه وهو احمد زكي , فقال عنه : " كان في جملة الوافدين عام 1885 م فتى نحيل هزيل ضئيل قصير القامة وسيم الطلعة تقريبا فتى بعيون متألقة تحقيقا ً , ولكنها متنقلة كثيرا ً فإذا نظر إلى الأرض دقيقة واحدة فللسماء منه دقائق متمادية وإذا تلفت صوب اليمين فما ذاك إلا لكي يومي ببصره نحو الشمال , وهو مع هذه الحركات المتتابعة المتنافرة هادئ ساكن وادع , كأنما يتحدث بنفسه إلى نفسه ,أو يتلاغى مع عالم الأرواح ما كان يلابسنا فيما نأخذ فيه من اللهو والمزاح ولا يتهافت معنا على تلقف الكرة بعد الفراغ من تناولا لغذاء , أو حينما نتنفس الصعداء لانتهاء مواقيت الدراسة " .
وهذا النص يدل على تحليق شاعرنا في السماء وبعده عن زملائه لانشغاله بعرائس الشعر وخيالات النظم وقد بدأت أعنة الفن تسلس له قيادها اثر تعرفه في هذه الدراسة على أستاذه محمد البسيوني البيباني , وكان هذا يجيد النظم فيرسل القصائد في مدح الخديوي توفيق في المناسبات المختلفة فلما انس من تلميذه شوقي الموهبة الشعرية كان يعرض عليه قصائد قبل أن يرسلها إلى القصر لتنتشر بعد ذلك في ( الوقائع المصرية ) أو غيرها من الصحف فكان شوقي ببراءة التلميذ النجيب – يصلح فيها كلمة أو يمحو ويعدل ويسقط بعض الأبيات , وأستاذه مغتبط به اشد الاغتباط , ثم اخذ يثني عليه أمام الخديوي فصار شوقي ينظم في مدحه بعض القصائد بين الحين والآخر وظل كذلك حتى تخرج فيها عام 1887 م من قسم الترجمة بعد أن أتقن الفرنسية إلى جانب العربية فضلا عن التركية التي كان قد ثقفها في البيت وهكذا تضافرت هذه اللغات الثلاث في تكوينه الثقافي .
كانت قصائده في المدح قد سبقته إلى القصر – كما ذكرنا – فما لبث أن عينه في معيته , كما عين أباه مفتشا في الخاصة الخديوية , بعد أن عطل من الخدمة , وبعد بضعة أشهر أوفده إلى فرنسا لدراسة الحقوق , وأشار عليه أن يجمع بينها وبين الآداب الفرنسية .
وهكذا سافر شاعرنا إلى فرنسا للدراسة فركب البحر إلى مرسيليا ومنها إلى مونبيلييه على أن يقضي فيها سنتين ثم ينتقل إلى باريس ويقضي فيها عامين آخرين , وفي أثناء دراسته كان يتجول في بعض المدن الفرنسية ويستمتع بمناظرها الرائعة ومجالسها الشائقة , كما زار لندن ورحل إلى الجزائر اثر مرض شديد أصيب به فنصحه الأطباء بقضاء فترة تحت سماء افريقية , فمكث أربعين يوما وكان في هذه الفترة ناعم البال – كما قال سعيد الحال .
وقد أفاد أثناء إقامته في باريس من الاطلاع على الأدب الفرنسي كما كان أوصاه الخديوي فكان دائم القراءة لأدبائها وشعرائها ولا سيما هوغو ولافونتين ولامارتين ودوموسيه , وهذا الخير نقل بعضا من شعره ونثره إلى العربية ولا سيما كتابه ( اعترافات فتى العصر ) .
وشغف كذلك بالمسرح الفرنسي , فكان يتردد عليه ويحضر عروضه التي كان بعضها مسرحيات لكورني وراسين حتى تمكن فيما بعد من نظم مسرحياته الشعرية التي تعد تجديد كبير في ميدان الشعر العربي إذ لم يسبقه أحد إليها وقد بدأها وهو في باريس بمسرحية ( علي بك الكبير أو ما هي دولة المماليك ) .
وحين أتم دراسته ونال شهادته رأى الخديوي أن يقضي في باريس ستة أشهر فيها ليتمكن من معرفة أهلها وزيادة خبرته بها ثم عاد إلى القاهرة عام 1892 م فعين في الخارجية ( القسم الإفرنجي في القصر ) وظل ينطق بلسان الخديوي الذي انعم عليه بلقب ( شاعر الأمير ) وقد عاش هذه الفترة هانئا ً في حياته رخيا في عيشه وكان منزله الذي سماه كرمة ابن هانئ , ملتقى الأدباء والشعراء وتزوج ثرية كانت له مثال الزوجة الصالحة ورزق منها ابنه ( علي وحسين ) وابنته ( أمينة ) لكنه بدا – في هذه المرحلة – فقير التجارب الإنسانية والوطنية والاجتماعية يدلنا على هذا انه وقف شعره على القصر ومدائح الخديوي , وفي عام 1894 ندب لتمثيل حكومته في مؤتمر المستشرقين الذي عقد في جنيف عاصمة سويسرا فمكث هناك شهرا ً وانشد في المؤتمر قصيدته المطولة التي عنوانها : كبار الحوادث في وادي النيل ) ومطلعها :
همت الفلك واحتواها الماء وحداها بمن تقل الرجاء
ويدلنا على فقر تجاربه موقفه من حريق ( ميت غمر ) ومن حادثة دنشواي اللتين لم يقل فيهما شعرا يدل على تأثره لما حل بهما بل بدا – كما قال عنه أحد الدارسين – كالطفل المدلل الذي يقف في شرفة بيته ليطل على ما يجري من بعيد , وهو يتسلى بقطعة من الحلوى , يقول في قصيدته الأولى ( حريق بيت غمر ) :
الله يحكم في المدائن والقرى يا ميت غمر خذي الفضاء كما جرى
ما جل خطب ثم قيس بغيره إلا وهونه القياس وصغرا
هذي طلولك أنفسا وحجارة هل كنت ركنا من جهنم مسعرا
مازلت اسمع بالشقاء رواية حتى رأيت بك الشقاء مصورا
وعلى هذا النحو يصف القرية المحترقة وصفا ظاهرا باردا لا يحرك عاطفة ولا يهز شعورا ً .
ويقول في حادثة دانشواي بعد عام من حدوثها :
يا دنشواي على رباك سلام ذهبت بأنس ربوعك الأيام
شهداء حكمك في البلاد تفرقوا هيهات للشمل الشتيت نظام
مرت عليهم في اللحود أهلة ومضى عليهم في القيود العام
كيف الأرامل فيك بعد رجالها وبأي حال أصبح الأيتام
وهو هنا أيضا لا يبدو متأثرا لما حل بهذه القرية وكأن الأمر لا يعنيه , أو كأنما وقعت الحادثة في منطقة غير وطنه .
وهكذا ظل شوقي في هذه الفترة يعيش للخديوي فيرضى عمن وعما يرضيه أو يغضب لما يغضبه , يدلنا على هذا موقفه من بعض الشخصيات مثل اللورد كرومر واحمد عرابي , فحين كان كرومر معتمدا لانجلترا في مصر وكان الخديوي راضيا عنه أول الأمر ثم حدثت بينهما بعض المواقف التي أدت إلى المشاحنات وسببت نقله من مصر , فأقيمت له حفلة وداع وخطب فيها منددا بإسماعيل وعصره وذم أهل مصر لأنهم لم يقدروا منن الانكليز عندما حدث هذا ثار شوقي للخديوي وأسرته فألقى قصيدة حماسية قال فيها لكرومر :
أيامكم أم عهد اسماعيلا أم أنت فرعون يسوس النيلا
أم حاكم في أرض مصر بأمره لا سائلا أبدا ولا مسئولا
لما رحلت عن البلاد تشهدت فكأنك الداء العياء رحيلا
هكذا يغضب للقصر – لا للشعب المشتوم كما في موقفه من الثورة العرابية التي كانت ضد القصر والانجليز معا فنراه يستقبل زعيمها ( عرابي بعد عودته من منفاه بقصيدة يقول في أولها :
صغار في الذهاب وفي الإياب أهذا كل شأنك يا عرابي
عفا عنك الأباعد والاداني فمن يعفو عن الوطن المصاب
والحق أن عرابي قام بالثورة ضد الاحتلال وكان زعيما مخلصا فلم يلحق به الصغار حين نفي ولا حين عاد من المنفى وتاريخ مصر اليوم قد أنصفه وشهد له بهذا , ولكنها نظرة القصر الساخطة , ولم يكتف شوقي بهذه القصيدة بل كان قد نشر قبلها قصيدة ملأها السخر والتهكم اللاذعين قال في بعض أبياتها :
أهلا وسهلا بحاميها وفاديها ومرحبا وسلاما يا عرابيها
وبالكرامة يا من راح يفضحها وقدم الخير يا من جاء يخزيها
وانزل على الطائر الميمون ساحتها واجلس على تلتها وانعق بواديها
وبض لها بيضة للنصر كافلة إن الدجاج عقيم في نواحيها
ولا ريب أن هاتين القصيدتين سوداوان في شعر شوقي , ويبدو انه أحسن بظلمه لهذا الزعيم وبخطل رأيه فيه وموقفه منه , لذلك لقد سقطت القصيدتان من الشوقيات التي نشرت للمرة الأولى في حياته ثم كشف النقاب عنها في الشوقيات المجهولة .
وحين قامت الحرب العالمية الأولى عام 1914 م كان عباس متغيبا عن البلاد في تركيا فأعلنت انجلترا الحماية على مصر , ومنعت الخديوي من العودة إليها وعينت السلطان ( حسين كامل ) مكانه وكانت أعين المستعمرين مفتوحة على شاعر الخديوي الذي يحبه ويكن له الوفاء وانتظر الناس منه الإعراب عن موقفه فطلع عليهم بقصيدة في السلطان حسين كامل تحدث فيها عن الانجليز مادحا فقال عنهم :
حلفاؤنا الأحرار إلا أنهم أرقى الشعوب عواطفا وميولا
وتحدث عن وفائه لإسماعيل فقال :
أأخون إسماعيل في أبنائه ولقد ولدت بباب إسماعيلا
وتبدو فيها نفسه المضطربة القلقة , فبينما يقول هذا في الخديوي إذا هو يحاول أن يرضي حسين كامل فيقول عن عهد الحكم قبله :
هل كان ذاك العهد إلا موقفا للسلطتين وللبلاد وبيلا
لكنه يضيف إلى هذا قوله مشيرا إلى أن الانجليز ما زالوا يبيتون الشر لمصر فيقول :
دفعت بنا فيه الحوادث وانقضت إلا بنتائج بعدها وذيولا
وانفض ملعبه وشاهده على أن الرواية لم تتم فصولا
وهكذا بدا هنا كأنه يصانع الانجليز والخديوي الذي يأمل عودته تارة ويحابي السلطان الجديد تارة أخرى , فكأنه يمسك بالعصا من وسطها ليترقب ما ستتجلى عنه الأحداث إلا أن الانجليز لما سمعوا هذه القصيدة خافوا أن ينظم قصيدة أخرى ذات نبرة اشد وأقوى فأمروا بنفيه عن مصر فاختار الأندلس .
المرحلة الثانية : شوقي في المنفى :
حل شوقي أول ما وصل اسبانيا في برشلونة وهي مدينة تقع شمال شرق اسبانيا على البحر المتوسط ثم انتقل إلى ضاحية جميلة من ضواحيها تدعى فلفيديرا , تحيط بها غابات الصنوبر ومشاهد الطبيعة الرائعة وترتفع عن سطح البحر ارتفاعا يمكن من التمتع به من بعيد , وعلى الرغم من هذا كله فقد بدا شاعرنا حزينا لفراق أصدقائه ووطنه وقد عبر عن حزنه هذا في سينيته التي صرح في مقدمتها انه عارض سينية البحتري في وصف إيوان كسرى , وقال معربا عن حنينه إلى وطنه :
اختلاف الليل والنهار ينسي اذكرا لي الصبا وأيام انسي
وسلا مصر هل سلا القلب عنها أو أسا جرحه الزمان المؤسي
أحرام على بلابلة الدوح حلال للطير من كل جنس
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه بالخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني شخصه ساعة ولم يخل حسي
وفي مقدمتها كذلك يشير إلى تجوله في مدن اسبانيا ولا سيما الأندلس – مهد الحضارة العربية – مثل قرطبة وغرناطة واشبيلية فقال : " فكنت كلما وقفت بحجر أو أطفت بأثر تمثلت بأبياتها / يعني أبيات قصيدة البحتري / وهكذا مضى يصف الأندلس ويتحدث عن دولها فيصور قصر الحمراء في غرناطة وساحة السباع فيقول :
مشت الحادثات في غرف الحمراء مشي النعي في دار عرس
لا ترى غير وافدين على التاريخ ساعين في خشوع ونكس
نقلوا الطرف في نضارة آس من نقوش وفي عصارة ورس
وقباب من لازور وتبر كالربى الشم بين ظل وشمس
وترى مجلس السباع خلاء مقفر القاع من ظباء وخنس
مرمر قامت الأسود عليه كلة الظفر لينات المجس
تنثر الماء في الحياض جمانا يتنزى على ترائب ملس

وأتيح لشاعرنا أثناء إقامته باسبانيا أن يتعمق في دراسة تاريخها وأبطالها وشعرائها وأعجب بابن زيدون خاصة فعارضه في قصيدته المشهورة ( أضحى التنائي بديلا من تدانينا ) التي يتغزل فيها بولادة , فنسج على غرارها قصيدة عبر فيها عن حنينه إلى مصر , ووصف كثيرا من مشاهدها ومعاهدها كما ناجى أحبابه ومنها قوله :
لكن مصر وإن أغضت على مقة عين من الخلد بالكافور تسقينا
على جوابنها رفت تماتمنا وحول حافاتها قامت رواقينا
ملاعب مرحت فيها مآربنا وأربع أنست فيها أمانينا
بنا فلم نخل من روح يراوحنا من بر مصر وريحان يغادينا
ثم قال فيها معبرا عن عجزه الرجوع إليها :
لو استطعنا لخفنا الجو صاعقة والبر نار وغى والبحر غسيلنا
سعيا إلى مصر نقضي حق ذاكرنا فيها إذا نسي الوافي وباكينا
وفي هذه الفترة بدا شاعرنا غنيا في عواطفه ومشاعره فقد ذاق الحرمان وصهرته الآلام وظل يترقب العودة حتى انتهت الحرب العالمية الأولى فسمح له بالعودة الى وطنه .
المرحلة الثالثة : بعد عودته من الأندلس حتى وفاته :
عاد شوقي من الأندلس فاستقبلته أفواج من الشعب في الإسكندرية حين علموا بقدومه وحملوه على الأكتاف , فكانت قصيدته البائية التي مطلعها :
أنادي الرسم لو ملك الجوابا واجزيه بدمعي لو أثابا
فاتحة شعره بعد عودته وقد أشاد فيها بذكر بلاد الأندلس شكرا لها على إيوائه فقال :
وداعا أرض أندلس وهذا ثنائي إن رضيت به ثوابا
تخذتك موئلا فحللت أندى ذرى من وائل واعز غابا
ثم التفت إلى وطنه فحياه ببضعة أبيات منها قوله :
ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا
وعلى الرغم مما واجهته هذه القصيدة من نقد وخاصة من عباس محمود العقاد وميخائيل نعيمة لكن قيمتها تتجلى في أنها أول قصيدة يتوجه فيها الشاعر إلى طبقات الشعب , إلى شباب النيل , لأنه نظمها لتنشد في اجتماع لجان التموين بالأوبرا الملكية عام 1920 م اثر الحرب العالمية الأولى , كما سنوضح فيما بعد .
ثم اخذ يتجه بعدها في الشعر نحو الشعب والوطن ولم يعد يفكر في القصر بل انطلق إلى آفاق أرحب فبدأ يشارك الأقطار العربية الأخرى مصائبها وآلامها فحين عاد كانت أرض مصر ما تزال ندية من دماء شبابها الذين قضوا في الثورة الوطنية – ثورة سعد زغلول عام 1919 م – لذلك نراه حين يموت هذا الزعيم عام 1927 يرثيه بقصيدة بليغة بعد ما كنا رأيناه ينصرف عن زعيم ثورة أخرى ( احمد عرابي ) بل يهجوه بقصيدتين سبق أن نوهنا بهما – عند عودته من المنفى وذلك كله إرضاء للخديوي الذي كان ينطق بلسانه , ولولا انه انطلق من أسار القصر واخذ ينعم بالحرية لما اتسعت نظراته ولما أحسن بأن العرب ذوو رحم واحدة حتى قال حين أقيمت حفلة تتويجه بإمارة الشعر عام 1927 م مخاطبا وفود العرب الذين حضروا إلى مصر لمبايعته :
قد قضى الله أن يؤلفنا الجرح وأن نلتقي على أشجانه
كما أن بالعراق جريح لمس الشرق جنبه في عمانه
وعلينا كما عليكم حديد تتنزى الليوث في قضبانه
نحن في الجرح بالديار سواء كلنا مشفق على أوطانه
وكان حافظ إبراهيم أول من بايعه حين انشده في قصيدته :
أمير القوافي قد أتيت مبايعا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
واعترض بعض الأدباء على هذه الإمارة لأن شوقي لم ينظم الشعر التمثيلي وكان قد بدأ بنظم مسرحية ( علي بك الكبير ) وهو نزيل باريس عام 1893 م فعكف على تنقيحها وإتمامها لكنه لم يصدرها إلا عام 1932 بل أصدر قبلها ( مصرع كليوباترا ) ومسرحيات أخرى سنعرض لها فيما بعد , استمد موضوعاتها من التاريخ المصري والتاريخ العربي والحياة العربية , وهكذا كان له الفضل في إقحام هذا الفن من الشعر الذي تابعه من بعده الشاعر المصري عزيز أباظة والشاعر السوري عدنان مردم ) .
وفي ليلة الرابع عشر من تشرين الأول عام 1932 انتهت حياة هذا الشاعر واسلم الروح إلى بارئها فرثاه كثير من الشعراء والكتاب العرب منهم الرصافي وبشارة الخوري وخليل مطران . وغيرهم .
شعره : قلنا أن شوقي أتقن اللغتين العربية والفرنسية بحكم تعلمه لها في الدراسة وفي فرنسا , إلى جانب التركية التي تلقاها في البيت فإذا أضفنا إلى هذا اضطلاعه العميق على كتاب الوسيلة الأدبية , للمرصفي , الذي ضمنه نماذج من الشعر القديم فضلا عن شعر البارودي عرفنا المكونات التي أسهمت في شعره وشاعريته فكما عكف البارودي على الشعراء القدماء , وخاصة العباسيين يعب من ينابيعهم كذلك فعل شوقي , إذ كان إعجابه بالغا بهؤلاء القدماء ولا سيما ( البحتري والمتنبي ) لهذا اخذ يعارضهما في بعض القصائد رغبة منه في احتذاء الصياغة القديمة وإحيائها وعارض كذلك البوصيري في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام في قصيدته البردة والهمزية , وقد رأينا مثالا لمعارضته البحتري في سينيته , وابن زيدون في نونيته , وتبدو هذه المعارضة واضحة كذلك في ميميته التي رثى بها والدته إذ عارض فيها المتنبي في رثاء جدته لامه فاستعار منه الوزن والقافية فقد قال المتنبي في مطلعها :
إلا أرى الأحداث مدحا ولا ذما فما بطشها جهلا ولا كفها حلما
أما مطلع قصيدة شوقي فهو :
إلى الله أشكو من عوادي النوى سهما أصاب سويداء الفؤاد وما اصمى
وكما ماتت جدة المتنبي – التي كانت بمثابة الأم بالحمى وهو غائب عنها كذلك ماتت أم شوقي محمومة حين كان منفيا في الأندلس ولعل هذا التشابه في الميتتين وظرفهما هو الذي دفع شوقي إلى معارضته المتنبي , ولو دققنا في كل من القصيدتين للاحظنا التشابه في بعض المعاني من ذلك قول شوقي :
إلى حيث إباء الفتى يذهب الفتى سبيل يدين العالمون به قدما ً
وهذا البيت يشبه بل يكاد يكون هو نفسه البيت الثاني من قصيدة المتنبي وهو :
إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى يعود كما أبدى ويكري كما أرمى
وكما قال المتنبي مخاطبا جدته :
لك الله من مفجوعة بحبيبها قتيلة شوق غير ملحقها وصما
قال شوقي يخاطب أمه :
لك الله من مطعونة بقنا النوى شهيدة حرب لم تقارف لها إثما
ولكن سائر الأبيات يختلف في كل من القصيدتين .
ثم استطاع شوقي بعد معارضته الأقدمين أن يكون لنفسه أسلوبا يعبر عن ذاته وما يجول فيها من أفكار , وعن عصره وما يدور فيه من أحداث وهو في هذا الأسلوب يشبه أستاذه البارودي الذي لم يتخل عن القديم , بل جعله منطلقا للتجديد كما يشبهه في جزالة الألفاظ ورصانة الأسلوب , ومتانة الصياغة وأن كان شعره : " أكثر سلاسة من شعر أستاذه وموسيقاه أكثر صفاء وعذوبة من موسيقى البارودي , وخاصة من حيث الصوت وما يتصل به من أنغام والحان ولعل ذلك ما جعل شعره أطوع للغناء من شعر صاحبيه البارودي و حافظ معا . فقد أكثر المغنون في عصرنا من تلحين شعره وتوقيعه .
وقد نظم شاعرنا في أغراض عديدة متنوعة منها المدح والفخر والمناسبات السياسية والاجتماعية والوصف والحكمة والغزل ثم المسرحيات وقصص الأطفال .
أما قصائده التي نلمح فيها التجديد فأولها قصيدته الهمزية ( كبار الحوادث في وادي النيل) صاغ فيها تاريخ وادي النيل من عهد الفراعنة إلى زمن محمد علي وألقاها – كم ا نوهنا سابقا – في مؤتمر المستشرقين في جنيف عام 1894 م ومطلعها :
همت الفلك واحتواها الماء وحداها بمن تقل الرجاء
وبلغ عدد أبياتها 264 , بيت ’ فالقصيدة في مقدمة مطولاته حتى لقد أطلق عليها اسم ( ملحمة ) وأن كانت لا تتسم بمقوماتها المعروفة ويأتي التجديد فيها أولا من انه عدل عن المديح الذي اعتاد أن يوجهه إلى الخديوي واتجه نحو الكلام على تاريخ مصر وقد سار على هذا المنوال في نظم تاريخ مصر وآثارها في قصائد أخرى مثل ( انس الوجود – على سفح الأهرام – أبو الهول – توت عنخ آمون ) وغيرها فخلع عليها ثوب البقاء والخلود وربما كانت هذه القصائد صدى لاطلاعه على الأدب الفرنسي وعلى تأثره خاصة بفيكتور هوغو في ديوانه ( أساطير القرون ) التي تغنى فيها وغيره من شعراء فرنسا بالأطلال اليونانية والرومانية لكننا نعجب مع د . شوقي ضيف , أن يكون شوقي في باريس في أثناء الحركة الرمزية وغيرها من المذاهب الحديثة كالبرناسية والواقعية والفنية وحين كان يعيش ( فرلين وبودليير ومالارميه ) ولا يكون لأشعارهم أي ظل في فنه وقصيده , وكأنه لم يهتم مطلقا بالتجديد الذي كان يخوض فيه شعراء فرنسا في أثناء وجودهم بين ظهرانيهم وتخوض فيه مجلاتهم وصحفهم .
ولعل تجديده يبدو واضحا فيما عرضنا له في المرحلة الثالثة من حياته اثر عودته من منفاه في الأندلس إذ اتجه نحو الشعب المصري والأقطار العربية الأخرى , فهو في قصيدته البائية ( بعد المنفى ) التي كانت أول قصيدة له نظمها بعد عودته من الأندلس يتوجه بخطابه إلى الشباب – بعد أن يشكرهم على استقبالهم له – فيقول :
شباب النيل إن لكم لصوتا ملبى حين يرفع مستجابا
فهزوا العرش بالدعوات حتى يخفف عن كنانته العذابا
ثم ينهي قصيدته بالكلام على موقف التجار المستغلين من الفقراء المساكين :
فيدعو ربه أن يرقق قلوبهم ويهديهم إلى البر والإحسان والمدقق في هذه القصيدة يرى أن شوقي بدا خافت الصوت لا يحسن الإعراب بقوة ووضوح عن كل ما يريد أن يقوله , فماذا يقصد في البيتين السابقين بالصوت الملبى المستجاب حين يرفع ؟ اهو صوت الشعب إلى الخالق أم إلى الخديوي وكيف يرفع ؟ وماذا يقصد بقوله ( فهزوا العرش بالدعوات ؟ ما المقصود بالعرش هنا ؟ اهو عرش السلطة الحاكمة أم عرش الرحمن ؟ وكيف يهزونه ؟ لقد بقي المعنى المقصود هنا خفيا غامضا موارى خلف عبارات خافتة , وأن كانت في ألفاظها صريحة واضحة , ومع هذا فإن القصيدة قيمتها عالية – كما قلنا – لأنها كانت أول انعطاف غير الشاعر فيه اتجاهه .
أما شعره القومي الذي دفعه إلى مشاركة بعض الأقطار العربية مصائبها وآلامها , فيتجلى في قصائد عديدة , منها قصيدة ( نكبة بيروت ) التي نظمها حين ضرب الأسطول الايطالي هذه المدينة كما يتجلى في رثائه لبطل طرابلس وزعيمها الوطني عمر المختار الذي أعدمه الايطاليون كما يتجلى في ذكرى استقلال سورية وذكرى شهدائها , لكن مشاركته القومية تبدو أوضح ما تكون في قصيدته نكبة دمشق التي ألقاها في حفل أقيم في القاهرة عام 1926 م لإعانة منكوبي سورية حين قامت بالثورة ضد المستعمر الفرنسي والتي مطلعها :
سلام من صبا بردى ارق ودمعه لا يكفكف يا دمشق
وما كان أحد أن يتصور أن شوقي الذي كان يعيش في برجه العاجي ينطق بمثل قوله :
وللمستعمرين وإن ألانوا قلوب كالحجارة لا ترتق
وفي حديثه عن الروابط التي تجمع أبناء العربية :
وتجمعنا إذا اختلفت بلاد بيان غير مختلف ونطق
خير الدين الزركلي / حديث
1893 - 1976 م
هو علم من أعلام الشعر الحديث في سورية واحد بناته بعد البارودي وهو كما قال في ترجمته الذاتية لنفسه – خير الدين ابن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزركلي ( بكر الرازي والراء ) الدمشقي , ولد ليلة التاسع من ذي الحجة عام 1310 هـ 25 حزيران عام 1893 م , في بيروت وكان لوالده تجارة فيها وهو وأمه دمشقيان .
ثم يتابع ترجمة حياته فنعرف منها انه نشأ في دمشق وتعلم في إحدى مدارسها الأهلية واخذ عن علمائها على الطرقة القديمة وممن درس على أيديهم العلامة الشيخ ( جمال الدين القاسمي ) , إمام الشام في عصره وصاحب العقيدة السلفية فيها ثم أولع بكتب الأدب واخذ في صباه ينظم بعض الأبيات من الشعر ثم أدى امتحان ( القسم العلمي ) , في المدرسة الهاشمية ودرس واصدر في ذلك الوقت مجلة الأصمعي , وكانت أسبوعية , وما لبث الحكومة العثمانية أن صادرتها لأنه نشر فيها صورة كتب تحتها أنها صورة الخليفة العربي المأمون وعندها ترك دمشق وسافر إلى بيروت .
ولا شك أن إصداره المجلة بهذا الاسم واهتمامه بنشر صورة الخليفة العربي يدلان على ولعه بالعروبة واهتمامه بأمجاد العرب وتراثهم كما يدلان على تحديه للسلطة العثمانية آنذاك التي بدأت القيام حركة التتريك .
وفي بيروت دخل الزركلي كلية اللاييك , فدرس فيها بالفرنسية ثم أضحى أستاذا للتاريخ والأدب العربي فيها , وكان في حوالي الثانية والعشرين من عمره .
ثم عاد أوائل الحرب العالمية الأولى إلى دمشق واصدر فيها بعد أن انتهت الحرب عام 1918 جريدة ( لسان العرب ) مع أحد أصدقائه وتسميتها هذه كانت تدل على ولعه بالعرب والعروبة ولكنها أقفلت كما أقفلت الأصمعي من قبل فشارك في إصدار جريدة أخرى تدعى المفيد , وكانت غايتها – كما يقول د . سامي الكيالي – الدفاع عن الفكرة العربية وكان لمقالاته أثرها في التوجيه القومي وفي نقد سياسة الحلفاء الذين تنكروا للعرب بعد الوعود التي قطعوها للملك حسين , وفي أثناء ذلك كان ينظم الشعر فتجمعت له قصائد أعدها للطبع وسماها ( عبث الشباب ) ولكنها لم تر النور إذ التهمتها النار واكلتا صولها ولكنه لم يوضح لنا كيف حدث هذا , ولا ما تضمنته من موضوعات لكن د . سامي الدهان , عثر على قصيدة غزلية له مؤرخة بعام 1914 م عارض فيها قصيدة ( يا ليل الصب متى غده ) في ديوانه الذي طبعه في مصر عام 1925 فكانت وغيرها صورة للشعر القديم مبنى ومعنى .
وحين دخل الفرنسيون دمشق عام 1920 اثر وقعة ميسلون غادر الشاعر دمشق إلى فلسطين ومنها إلى مصر ثم تلقى دعوة من الشريف حسين لزيارة الحجاز فتوجه إلى مكة وفي تلك السنة اصدر الفرنسيون حكما عليه غيابيا بالإعدام , وبحجز أملاكه هو وزمرة من رجال السياسة الأحرار , وخاصة حين اطلعوا على قصائده الوطنية التي نظمها في هؤلاء المستعمرين وبث روح العروبة في قومه ومنها قصيدة مطلعها :
يجني واشكر في الهوى يده وطن شقيت به لأسعده
وقد تناول فيها المستعمرين وأذنابهم بنبرة حادة خشي الفرنسيون بعدها أن يسمعوا اعنف منها فحكموا عليه بالإعدام وقد تلقى هذا النبأ برباطة جأش وقال في ذلك :
نذروا دمي حنقا علي وفاتهم أن الشقي بما لقيت سعيد
الله شاء لي الحياة وحاولوا ما لم يشأ ولحكمه التأييد
وفي عام 1921 م تجنس بالجنسية العربية بالحجاز وانتدبه الشريف حسين لمساعدة ابنه عبد الله إذ كان متوجها إلى الأردن مع جماعة من العرب لإنشاء الحكومة الأولى في عمان , وعين الزركلي آنذاك مفتشا عاما للمعارف , ثم رئيسا لديوان رئاسة الحكومة , وكان في هذه الفترة يرسل قصائده من عمان سرا ً فيستظهرها الناس في دمشق وغيرها ويرددونها في مجتمعاتهم , ولكن خاب أمله وأمل إخوانه لأن انكلترا وفرنسا كانتا في الخفاء تعقدان معاهدة سايكس بيكو , لانقسام بلاد الشام والأقطار العربية الأخرى فترك شاعرنا عمان وسافر إلى مصر حيث أنشأ المطبعة العربية أواخر عام 1923 وطبع فيها بعض كتبه منها عامان في عمان ضمنه ذكرياته عن عمان وخبرته في الحكم والسياسة كما ضمنه دراسة لهذه البقعة من النواحي التاريخية والجغرافية والاقتصادية والسياسية ولكن ساءت صحته في المطبعة فباعها بعد ثلاث سنوات ونيف , وحين ثارت سورية على المستعمرين الفرنسيين عام 1925 م أذاع هؤلاء حكما ثانيا غيابيا عليه بالإعدام , واستجم ثلاث سنوات زار خلالها الحجاز مدعوا بعد ما تسلم آل سعود الحكم عليه , واصدر في هذه الفترة وعلى وجه التحديد عام 1927 م كتابه الأعلام , في ثلاثة أجزاء ترجم فيها لمشاهير الرجال والسياسة ثم أعاد طبعه في عشرة أجزاء أضاف إليها شخصيات كثيرة ومعلومات غزيرة .
ثم سافر إلى القدس عام 1930 م فاصدر مع زميلين له جريدة الحياة , ولكن الحكومة الانجليزية عطلتها فاتفق مع آخرين على إنشاء جريدة في يافا فاعدوا مطبعتها وأصدروا العدد الأول منها ولكن كان قد فوتح بعمل في المملكة العربية السعودية فعين عام 1934 م مستشارا للوكالة ثم المفوضية العربية السعودية في مصر , فترك الجريدة في يافا وتحول إلى القاهرة , ثم مازال يترقى في المناصب ويمثل الحكومة السعودية في المؤتمرات الدولية والأدبية والاجتماعية حتى سمي مفوضا دائما , ومندوبا لدى جامعة الدول العربية عام 1951 م وعين سفيرا ومندوبا ممتازا في المغرب ثم عاد إلى وزارة الخارجية حتى أحيل إلى التقاعد .
فصلا عما سبق اختير الزركلي عضوا في المجمع العلمي العربي , بدمشق منذ عام 1930 وكذلك مجمع اللغة العربية , بمصر عام 1946 م والمجمع العراقي في بغداد عام 1960 .
قام شاعرنا برحلات عديدة فمنها ما كان إلى انجلترا وفرنسا ممثلا للحكومة السعودية في اجتماعات المؤتمر الطبي والدولي في باريس ومنها رحلته إلى الولايات المتحدة الأميركية , بمهمة رسمية حضر خلالها اجتماعات هيئة الأمم المتحدة , ومنها رحلته إلى أثينا عاصمة اليونان بصفته وزيرا مفوضا ومندوبا فوق العادة , وفي طريق عودته منها زار استانبول ومكتباتها وحلب وبيروت والقاهرة , ومن رحلاته رحلته إلى تونس مندوبا لحضور مؤتمر إقامة الحرب الدستوري فيها وعاد منها مارا بايطاليا فطاف في مكتباتها خلال شهرين .
توفي الزركلي في القاهرة صباح الخميس في الخامس والعشرين من تشرين الثاني عام 1976 م .
صفاته :
عرف الزركلي بقامته المديدة وبعينيه الناطقتين وكان عذب الحديث إذا حدث لطيف النكتة عند المزاح لكنه كان شديد الغضب إذا غضب حلو الرضا إذا رضي , وهناك مزايا أخرى ذكرها قريبه وصديقه ( سليم زركلي في مقدمة ديوانه .
آثاره :
للزركلي سبعة أثار مطبوعة ومثلها مخطوطة أما المطبوعة :
1- ما رأيت وما سمعت : ويتضمن رحلته الأولى من دمشق إلى فلسطين فمصر فالحجاز وقد طبع عام 1923م .
2- عامان في عمان : ويجري مذكراته عن عامين قضاهما في عمان عاصمة الأردن وقد طبع الجزء الأول منه عام 1925 م .
3- الجزء الأول من ديوانه وفيه ما نظمه من الشعر حتى عام 1925 م .
4- الأعلام : الطبعة الأولى في ثلاثة أجزاء وطبع عام 1927 م .
5- الأعلام : الطبعة الثانية في عشرة أجزاء .
6- مجدولين والشاعر : وهو قصة شعرية صغيرة .
7- ديوانه ( الأعمال الشعرية الكاملة ) نشر بعد وفاته في مؤسسة الرسالة ببيروت عام 1980 م .
وأما مخطوطاته التي لم تنشر فهي :
1-= الملك عبد العزيز في ذمة التاريخ .
2- صفحة مجهولة من تاريخ سورية في العهد الفيصلي .
3- الجزء الثاني من ( عامان في عمان ) .
4- قصة تمثيلية نثرية سماها ( وفاء العرب ) وقد مثلت أكثر من مرة في بيروت ابتداء من عام 1914 م .
5- مجموعة كبيرة في الأدب والتاريخ قديما وحديثا ً .
6- المستدرك الثاني على الأعلام .
7- الإعلام بمن ليس في الأعلام .
شعره :
يقع ديوان الزركلي الذي جمعه وطبعه عام 1925 م في المطبعة العربية التي أنشأها كما قلنا – في القاهرة في ست وتسعين صفحة ويتضمن ما نظمه في مرحلة الشباب حتى الثانية والثلاثين من عمره . كما يتضمن قصائد وطنية وتأملات ذاتية أكثرها في الحنين إلى الوطن والتألم لما أصابه من كوارث إلى جانب وصف الطبيعة السورية منها :
بردى ودمشق وقاسيون وغوطة دمشق وفي عام 1980 صدر له ديوان يضم الأعمال الشعرية الكاملة , عن مؤسسة الرسالة في بيروت وفي أوله موجز عن حياة الشاعر وتعريف به وبشعره وفي هذا الديوان قصائد كثيرة منها ما هو في الوطنيات والأناشيد الوطنية ومنها ما هو في الشعر الذاتي الذي يعبر فيه عن خوالج نفسه وخطرات فكره وغيرها في الوصف أو المعارضة أو الرثاء أو الاخوانيات أو الشعر الاجتماعي .
وهو في شعره عامة ينحو منحى الأقدمين في أوزانه وقوافيه وفي طريقة تعبيره من حيث الجزالة والمتانة ويرجع ذلك إلى كثرة ما قرأ وحفظ للشعراء القدماء حتى أضحت لغته طليقة وصار الشعر ينثال على براعته انثيالا مع بيان رفيع وأداء نير .
وأكثر شعره نظمه في المناسبات الوطنية والقومية وقد برز فيها كثيرا من شعراء عصره لذلك سنقتصر على دراسة خير ما يمثل هذا اللون في شعره . شعره الوطني :
يمكننا أن نصنف شعره الوطني في مضمونين اثنين : الأول شعر المناسبات الوطنية النضالية والثاني في الحنين إلى الوطن والتغني به من خلال وصفه لبعض الأماكن وذكرياته فيها .
أ- أما شعره في المناسبات الوطنية النضالية فكان أول قصيدة نظمها منه عام 1916 م في ( الشهداء ) الذين شنقهم جمال باشا السفاح والي تركيا على سورية وقائد الفيلق التركي الرابع خلال الحرب العالمية الأولى , زاعما انه عثر على وثائق سرية تتضمن عزمهم على الثورة فقال فيهم :
نعى نادب العرب شبانها فجدد بالنعي أحزانها
نعت لغة العرب من احكموا لسان قريش وتبيانها
وناحت على من بنوا عزها واعلوا بما اثلوا شأنها
جذوع المظالم لو تنطقين فرحت الناس أجفانها
سيومض في الناس برق السلام وتسلو النوادب ارنانها
وحين شدد طغاة الدولة العثمانية قبضتهم على العرب إبان الحرب العالمية الأولى واصلتوا سيوفهم عليهم وساقوهم سوق العبيد نظم ( أحفاد جنكيز ) واتهمهم بالظلم والطغيان وعاد ثانية إلى التنويه بحادثة شنق الشهداء فقال :
عتا أحفاد جنكيز فساقوا سلائل يعرب سوق العبيد
فكم قتلوا من الأخيار صبرا ً وكم ساموا المهانة من عميد
وكم حملوا على الأعواد ظلما ً وكم سقوا المنية من شهيد
وهذه الأبيات على الرغم من أنها ليست عميقة كفاية ولا رفيعة الأسلوب لكنها تدل على غيرة شاعرنا الوطنية وجرأته البالغة .
ولما انتهت الحرب العالمية الأولى وبدت في الأفق بوادر اقتسام ديار الشام بموجب المعاهدة بين فرنسا وانجلترا رأى الشاعر أن حقوق العرب تؤكل وتهضم , نظم قصيدة بعنوان ( فيم الونى ) ندد فيها بتواني العرب عن النضال وسكوتهم عن الاستعمار فقال :
فيم الونى وديار الشام تقتسم أين العهود التي لم ترع والذمم
نسام خسفا ونقصي عن محجتنا ويوثق الفم حتى تخفت الكلم
نسجو على الضيم والأطماع هائمة ونكظم الغيظ والأكباد تضطرم
ولا ينسى في آخر القصيدة أن يوجه خطابا إلى أبناء العرب شاحذا هممهم لتنظيم أمرهم وتوحيد كلمتهم لقراع أعدائهم فيقول :
تأهبوا لقراع الطامعين بكم ولا تغركم الآلاء والنعم
سيروا رويدا إلى تنظيم أمركم لا يصلح الأمر إلا حين ينتظم
واقسموا لا افترقتم يوم ملحمة ولا ونيتم عساه يصدق القسم
ولعل هذه الدعوة إلى اجتماع الشمل واتحاد الكلمة كانت أول صرخة من نوعها ولا سيما إذا عرفنا أن القصيدة مؤرخة كما جاء في الديوان عام 1919 م .
وعلى اثر وقعة ميسلون عام 1920 م نظم شاعرنا قصيدته ( الفاجعة ) ومطلعها :
الله للحدثان كيف تكيد بردى يغيض وقاسيون يميد
وفيها يصور وقع فاجعة الاستعمار في نفسه ويتلهف على وطنه كيف استطاع برابر السنغال أن يستولوا عليه وهم العبيد ثم ينتقل إلى وصف وقعة ميسلون فيقول :
غلت المراجل فاستشاطت امة عربية غضبا وثار رقود
زحفت تذوذ عن الديار ومالها من قوة فعجبت كيف تذوذ
الطائرات محومات حولها والزاحفات صراعهن شديد
يصور هذا كله وهو بعيد عن وطنه ولكن عينيه ظلتا عليه , ترقبانه وتتابعان أحداثه من بعيد لذلك نراه يشارك إخوانه آلامهم حين ضربت دمشق بالقنابل عام 1925 إبان اندلاع الثورة السورية فيقول في قصيدته ( بين الدم والنار ) :
الأهل أهلي والديار دياري وشعار وادي النيربين شعاري
ما كان من الم بجلق نازل واري الزناد فزنده بي واري
ويحس أن دم الثوار الذي يراق في دمشق هو دمه فيقول :
إن الدم المهراق في جنباتها لدمي وإن شفارها لشفاري
دمعي لما منيت به جار هنا ودمي هناك على ثراها جاري
ويصور النار المحدقة بدمشق وبطش المستعمر بأحيائها وقذفها بالقنابل :
الوابل المدرار من حمم اللظى متواصل كالوابل المدرار
والظلم منطلق اليدين محكم يا ليت كل الخطب خطب النار
ويسير على هذا النحو في سائر قصيدته من حيث الأسلوب والعبارات التي كان معظمها مستمدا من القدماء .
ويتابع الزركلي الأحداث التي تجري لا في سورية فحسب بل في بعض الأقطار العربية الأخرى , فيعجب بثورة الجزائر على المستعمر الفرنسي , وينظم قصيدة ( الجزائر ) عام 1961 م وكانت آخر قصائده الوطنية تلك التي نظمها اثر حرب رمضان بين العرب وإسرائيل عام 1973 التي حطمت فيها أسطورة أن إسرائيل لا تقهر , وجعل شاعرنا ذلك النصر مهرجانا للعرب أجمعين فقال في قصيدة بعنوان ( المهرجان ) يقول فيها :
المهرجان المهرجان ضجت له انس وجان
عار محاه أباة هون ما رضوه ولا استكانوا
صغرت بأعينهم عداتهم وما كذب العيان
ويصور فيها كيف انطلقت الصواريخ من دمشق تقذف لظاها على العدو فإذا هي تمحو ما ران على القلوب من أحزان الماضي ويختم القصيدة ببيت يعرب فيه عن ارتياحه للنصر فيقول :
يا عين أبكاك الزمان وعاد يعتذر الزمان
وهكذا يبدو لنا أن شعره كان سجلا للأحداث النضالية الوطنية التي جرى أكثرها وهو بعيد عن وطنه .
ب – أما شعره في الحنين إلى الوطن والتغني به والبكاء على ربوعه فحاله فيه كحال كل من البارودي وشوقي حينما نفيا عن وطنهما في التعبير عن عواطفهما تجاهه , مع الفارق بينهما وبينه انه كان محكوما عليه بالإعدام ففي قصيدته ( زفرة ) التي نظمها عام 1917 م , عبر عن حزنه وبكائه على وطنه لما الم به من سوء .
وفي قصيدته ( وطني ) و ( عصفور النيربين ) اللتين نظمهما عام 1920 يشكو من البعد ويضمنها أفكارا متشابهة فيندد بمن يدعي الوطنية من رجال سورية – على اختلاف طريقة النظم – فهو في الأولى يتحدث بشكل مباشر صريح فيقول في أولها :
يجني واشكر في الهوى يده وطن شقيت به لأسعده
ويلي على وطن يهدمه من كنت أمل أن يشيده
كم صائح وطني حسبت به كشاف غمته ومنجده
أبصرته هدفا له وطني والسهم بين يديه سدده
ولكنه في القصيدة الثانية يناجي عصفورة النيربين كما ناجى أبو فراس والبارودي من قبل الحمامة وهما في المنفى – ويطلب منها أن تترجم همومه وأحزانه فيقول :
عصفورة النيربين غني
واروي حديث الأنين عني
أنا المعنى وما المعنى
غير حنين أذاب مني
شغاف قلبي وحسن ظني
ثم يصور مشاعره الحزينة وهو بعيد عن وطنه والهموم والخطوب التي تجرعها من بلاده وأهله حتى الثمالة ومع ذلك فانه يظل على مودته لهم :
إن اهو لا أهوى غير آلي
دمي فداء لهم ومالي
أحسنت ظني بهم فما لي
خابت أماني في الرحال
ليت الأماني بالتمني
وتلفت سمعنا هنا النغمة الموسيقية الحزينة التي تنبعث من ثنايا القصيدة فتزيدها قوة في التعبير .
أما قصيدته في الحنين إلى الوطن التي نالت شهرة واسعة ورددها الناس ولا يزالون يرددونها ويترنمون بها في الوطن العربي كله فهي ( نجوى ) التي كانت زفرة من زفرات أنينه وحنينه وقد نظمها عام 1924 م يقول في أولها :
العين بعد فراقها الوطنا لا ساكنا الفت ولا سكنا
ريانة بالدمع أقلقها إلا تحن كرى ولا وسنا
كانت ترى في كل ساعة حسنا وباتت لا ترى حسنا
والقلب لولا انه صعدت أنكرته وشككت فيه أنا
وهي كما نلاحظ تمتاز كسابقتها بالموسيقى الحزينة التي تزيد عاطفة الحنين متانة وقوة وهو بعد أن يعبر عن لوعته على وطنه الذي عبث به الزمان . ويتذكر بردى , والأحبة وذكرياته الماضية ويبلغ الذروة في الحنين حين يقول منهيا القصيدة :
إن الغريب معذب أبدا إن حل لم ينعم وإن ظعنا
لو مثلوا لي موطني وثنا لهممت اعبد ذلك الوثنا
ويبدو الزركلي في شعره الوطني كله صادقا في عاطفته قويا في أسلوبه جهير النبرة وكان شعره هذا جديدا , إذ عبر فيه عن روح العصر والمرحلة اللذين عاش فيهما , وإن كانت طرائقه وأساليبه تشبه طرائق القدماء وأساليبهم في العصر العباسي ونود أن نشير أخيرا إلى ظاهرة واضحة في شعره , هي عنايته بالموسيقى المتنوعة الأنغام التي تتجلى فيما نظمه من أناشيد وطنية كثيرة ذات أوزان خفيفة قصيرة أو مجزوءة , لكن بعض قصائده تشبه ما سنراه عند شعراء المهجر – وخاصة الشمالي – من استعمال بعض البحور المجزوءة أو الشطور أو إضافة تفعيلة ليكون النظم مناسبا للمضمون مثال ذلك قصيدته ( يا زمان ) :
متى ترى تبسم لي يا زمان – إلا حنان
أسلمتني لا انس لي لا أمان – للحدثان
ابكي ديارا خلقت للجمال - أبهى مثال
وهكذا تجري القصيدة على هذا اللون من الموسيقى الجديدة التي تختلف عن موسيقى الشعر العربي القديم ويبدو أن الم الحنين إلى الوطن , هو الذي ألجأ الشاعر إلى هذه الموسيقى الحزينة المناسبة للموقف الذي نظمت فيه .
وللبرهان على عنايته بالموسيقى نضرب مثالا آخر قصيدته ( تأملات ) التي تدل نغماتها على تجربته في الحياة الحزينة وفلسفته الحكيمة وخروجه منها بتأملات متشائمة يقول :
تعب أم لعب وجوى أم طرب
ما الحياة المشتهى صفوها ؟ ما العطب
صور تبدو وسرعان ما تحتجب
ويعبر فيها عما يراه في هذه الحياة من متناقضات ومفارقات فها هنا قصور وناعمون وهناك أكواخ وبائسون ثم ماذا ؟
يعجب المرء وما هو إلا عجب
يتمشى صاخبا وعلام الصخب
إن يفته أدب لم يفته نشب
ووزن هذه الأبيات ( فاعلاتن فاعلن ) وهي من بحر ( المديد ) ولكن مع حذف التفعيلة الثالثة في كل شطر وهذا التجديد في الموسيقى لم نره مألوفاً ولا معروفا عند القدماء ولا المحدثين إذ لا مجزؤ لبحر المديد .
وهكذا نرى أن خير الدين الزركلي شاعر أصيل عني بقضايا وطنه وجدد في مضمون شعره وموسيقاه واستطاع أن يحقق في قصائده ما يسمى بالوحدة الموضوعية وإن لم يحقق فيها الوحدة العضوية .
والخلاصة : يتضح مما تقدم من الكلام على رائد الشعر البارودي وعلى بعض البناة بعده أن شعرنا الحديث سار – منذ بداية النهضة – في طريق التجديد لكن مهمته كانت بعث الأساليب القديمة وإحياءها ورد ديباجته المشرقة التي عرف بها في أزهى العصور الماضية وكانت هذه المهمة شاقة عسيرة لكنه مهد الطريق أمام البناة الذين جاؤوا بعده وإن ظلت القصيدة على يديه مفككة الأوصال ذات أغراض عديدة , خالية من الوحدة الموضوعية لا يضيرها تغيير مكان بيت فيها أو تقديمه . لكن من جاء بعده من الشعراء البناة استطاعوا أن يدفعوا حركة التجديد الشعري خطوة ثانية إلى الإمام إذ جعلوا القصيدة موحدة الموضوع , وإن لم تكن ذات وحدة عضوية , كما استطاعوا أن ينزلوا بشعرهم إلى صفوف الشعب فيغنوا آماله ويعبروا عن آلامه ويتحدثوا بلسانه لذلك جدت على أيديهم أبواب من الشعر الوطني والقومي والاجتماعي وهذه الأغراض كلها لم تكن معروفة من قبل لأنها وليدة العصر الحديث , وهكذا أضحى الشعر العربي ديمقراطيا بعد أن كان ارستقراطيا


1 ـ محمد البزم 1887 – 1955
عرفت سورية في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الكبرى طائفة من الشعراء يمثلون مدرسة خاصة في قول الشعر – المدرسة التي تعنى عناية بالمبني, أي بالصياغة , ورأيهم أن المعنى مهما كان حسنا ً لا يأخذ بالقلب ولا يهز النفس ولا يثير الشعور إذا لم يفرغه صاحبه في قالب حسن . وإذا قالوا بالخروج على المتقدمين في معانيهم فلا يقولون بالخروج عليهم في أساليبهم . وشعراء هذه المدرسة هم محمد البزم وشفيق جبري وخليل مردم بك و خير الدين الزركلي وبدوي الجبل . وقد ساروا على نفس النهج الذي سار عليه البارودي وشوقي وحافظ وإبراهيم وعلي الجارم .
الصياغة أولا , ثم تأتي الفكرة في تضاعيف الكلام . وربما كان محمد البزم أكثر زملائه عناية بالصيغة . ومرد ذلك أن ثقافته عربية لا تمت إلى ثقافة الغرب بصلة .
فهو ينهل من معين العربية الصافي وهو بدوي العاطفة جاهلي الخيال – إن صح التعبير , وانه ليحلو له , على ما يعتقد البعض , أن يسمع هذه الصفات يرددها الأدباء والنقاد عنه , وكأن ذلك توكيد لعروبته التي تغنى بها أجمل غناء . وهو أطول شعراء دمشق نفسا ً . فاقل قصائده الكبرى تقارب المائة بيت وهو حريص على لغته كل الحرص , وكثيرا ً ما يلجأ إلى غريب الألفاظ , حتى لتحسب انك تقرأ لشاعر مخضرم . وهو في قصائده الحماسية أشبه بفارس قد استل رمحه في قلب الصحراء واخذ ينشد شعرا ً فيه فتوة العرب الأقدمين .. فإذا دعا الأمة العربية أن تنهض وتتحد وان تكون قوية متماسكة جاءها بأمثلة عربية من الوقائع القبلية الجاهلية – من جديس وطسم , من عاد وجرهم , من غسان وحمير .
ومحمد البزم كأحمد محرم الشاعر المصري . قهما صنوان في النهج والطريقة والأسلوب . فإن اختلفا ففي الميل والهوى . فشعر احمد محرم مصري إسلامي , ومحمد البزم عربي شامي . والعربية والإسلام شيئان يتممان بعضهما بعضا ً في ميدان العربية الفسيح .
ولد شاعرنا في أواخر عام 1306 هـ الموافق لسنة 1887 م في دمشق وكان والده يحترف التجارة وعليها شب ثم هجرها حتى إذا قاربت سنه العشرين لم يعرف من القراءة إلا بعض سور قصار من القران ونزارا ً من الآي التي يكثر جريها على الألسنة مما لقنه عند ( الخوجة ) معلمة الأطفال .
أول كتاب أدبي عرفه – غير أقاصيص وسير كان يسمر بها ليالي الشتاء – كتاب المستطرف للأبشيهي , فاكب عليه بالمطالعة وكان باكورة عدته الأدبية .
وظل هكذا إلى أن قرر دراسة العربية وفنونها فبدأ هو وخير الدين زركلي ينتابان حلقات شيوخ الفيحاء وعلمائها فقآ على العلامة الشيخ عبد القادر بدران شيئا ً من ديوان المتنبي ونحوا ً من مغنى اللبيب لابن هشام وصورا ً من دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني وكتبا ً في الأصول ثم اتصلا بنابغة علماء دمشق العاملين واحد أفذاذها المشهورين السيد جمال الدين القاسمي فقرآ عليه كتبا ً في العربية والبلاغة والمنطق كما قرآ كتبا ً في علمي الكلام والمنطق وأخرى في العربية والأصول على احد علماء تونس وكان قد هبط دمشق وهو المفوه اللسن السيد صالح التونسي .
ثم انصرف إلى المطالعة بنفسه , ويحدثنا البزم عن نشأته الشعرية بقوله : (( أول ما نظمت من الشعر الموزون بيتان وصفت بهما نفسي وقد أعراني احد الرفاق فجرعت من الخمر ما قدرته بعشرين درهما ً فخيل إلي أن الأرض تهوي بي صعدا ً فقلت :
شربت من الصهباء عشرين درهما ً فخيل لي أني صعدت إلى السما
وصافحني المريخ والبدر قال لي ألا عم صباحا ً أيها الخدن واسلما
ومن ثمة أخذت ارمي الصحف بقصائد ومقطوعات قومية من حض العرب على النهوض من إغفائهم والمطالبة بحقوقهم المغصوبة بيد الترك ما لم أزل اقرع وتره وأجرى على نغمته حتى اليوم , والى أن تقدر لي الرحلة إلى عالم التحول المعبر عنها بالموت والفناء .
شجعني على متابعة النشر ما كانت تلقاه تلك القصائد من الحظوة عند ذوي الخبرة بالأدب والشعر , غير أن أمد ذلك لم يطل كثيرا ً حتى شهر الترك النفير العام فكمت الأفواه واشتدت الرقابة وأوصلت السيف فوق أعناق الأحرار من العرب , ومشت الخشية في النفوس , ودب الذعر في اشد القلوب وأقوى الأفئدة ولم يعد احد يجرؤ على القول في جهر ولا سر لكثرة ما بث من العيون وانتشر من الجواسيس فكنت كلما قرضت شيئا ً فيه ذكر العرب وما يقاسونه من إرهاق الترك وخشونتهم دسسته إلى والدتي ورجوتها أن تبالغ في إخفائه والحرص عليه حتى اجتمع لديها من ذلك طائفة صالحة .
وعندما جلا الترك وطلبتها منها فتشت ولكن تفتيشها ذهب سدى وبقي لدي من الحسرة عليها ما يجده من أضاع ما قرضه في سنين ثلاث في ثانية واحدة .
قصارى ما يقال عن حياتي العامة أن حرفة الأدب قد ادركتني قبل أن أدركها أو اسمع بها , فقد لقيت منذ الصغر من إلحاح المصائب , وولع بنات الدهر بي ما ولد في نفسي كرها ً للحياة ونفرة من أكثر أبنائها فلم تبدل لي إلا شمطاء جهمة الطلعة , عبوس الوجه مكروهة الشم والتقبيل .
فمن لي بأرض رحبة لا يحلها سواي تضاهي دارة المتقارب .
وقد امتهن البزم خلال حياته تدريس اللغة العربية في مدارس دمشق الثانوية فظهر فضله وتضلعه في النحو وفنون الأدب .
واستفاد منه تلاميذه الكثيرون مدة طويلة تزيد على عشرين سنة . ونظم في أغراض متعددة أهمها قصائده القومية , وقد يلتزم في شعره ما لا يلزم جريا ً على طريقة أبي العلاء المعري في اللزوميات , وله شعر في معان طريفة منها قصيدة في الشطرنج وأخرى في الشتاء .
وكان واسع المعرفة في اللغة , حسن التحقيق صحيح الذوق تستهويه الجزالة وتعجبه الرصانة وهو واسع الرواية كثير المحفوظ من الشعر والنثر والحكم والأمثال والأجوبة المسكتة وأخبار العرب – شعرائهم وخطبائهم , ونصائحهم , فإذا تحدث في هذا الشأن أسهب وأطال بالمفيد الممتع وقد حبب إليه النحو فتعمق في درسه واطلع على مذاهبه , وكان له رأي في نصرة بعض المذاهب وترجيح بعض الأقوال كما كان له رأي خاص في طريقة تدريسه .
وكان يتهم الفيروز أبادي بالشعوبية في اللغة ويتعصب لابن منظور , من كتبه (( كلمات في شعراء دمشق ) وهي رسالة نشرها متتابعة في جريدة الميزان الدمشقية سبتمبر 1925 وكتاب على نسق ( رسالة الغفران ) لم يبيضه ولم ينته سماه ( الجحيم ) يقول صديقه الأستاذ خير الدين الزركلي صاحب الأعلام إنه في نقد أئمة من النحاة واللغويين .
انتخبه المجمع عضوا ً عاملا سنة 1942 وعهد إليه في بعض الشؤون اللغوية كالنظر في بعض المعاجم والمصطلحات التي عرضت على المجمع .
وقد ألحت عليه الأمراض منذ أكثر من ثلاث سنوات فانقطع عن العمل وأقام في المستشفى العسكري بالمزة حتى وافاه الأجل صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من أيلول 1955 وهو في عشر السبعين من عمره .
وتولى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية طبع ديوانه بعد وفاته فصدر في جزأين جاوزت صفحاتهما الخمسمائة صفحة , وتضمن الجزء الأول قصائد في شؤون الوطن العربي والإلهيات والرثاء والأدب والقوميات أما الثاني فضم مقطوعات متفرقة وأغاريد .








2 ـ محمد الفراتي 1890
شاعر أديب من منطقة الفرات , ومن مواليد دير الزور , نشأ في أحضان الفقر وعاش طوال حياته في جو من الشقاء والبؤس , وفي رحاب المطالعة والدرس .
لم يكد يعي ذاته ويخطو الخطوة الأولى في ميدان المعرفة حتى أحس بظمأ شديد للاستزادة منها والعب من مواردها , فاتجه إلى الأزهر .. وهناك في تلك البيئة الدينية العارمة عاش محمد الفراتي في الرواق الشامي يدرس ويحضر دروس أساتذته في الفقه والمنطق وعلوم العربية , وكان قبل سفره إلى مصر يهجس بالشعر ويحفظ منه الكثير الكثير .
في تلك الفترة من أيام دراسته ونحددها بقبيل الحرب العالمية الكبرى كان العالم الإسلامي يغط في نوم عميق , وكانت رسالة الكتاب والشعراء تقوم على تنبيه الغافلين وإيقاظ الوسنانين للسير في الطريق الشائكة الطويلة التي سلكتها شعوب الغرب .
وكانت أصوات الكاظمي وشوقي والرصافي والزهاوي وحافظ وغيرهم من شعراء الأقطار العربية تعلو في المناسبات القومية والظاهرات الاجتماعية وعاش الفراتي هذه الفترة فارتفع صوته أيضا , وهو في العقد الرابع من عمره :
ترقت شعوب الغرب من حيث إننا من العلم لا قشرا ً أصبنا ولا لبا ً
فهم أعلنوا حربا ً على كل جاهل ونحن على أوطاننا نعلن الحربا
وهم أوضحوا بالعلم كل خفية وبتنا نقاسي من جهالتنا الكربا
ويقول :
بني وطني هبوا جميعا ً إلى العلا فما خاب قبل اليوم من للعلا هبا
دعوت إلى الإصلاح قومي وكم فتى ً إليه دعا قبلي وما احد لبى
ولما رأيت القوم عني اعرضوا ولم يقبلو نصحي ولم يدركوا العقبى
أخذت على نفسي المواثيق أنني سأجعل شعري ما حييت لهم عتبا
وبالرغم من هذه النبرات التي رددها طويلا ً فقد ظل صوته خافتا ً لا ينصت إليه الجمهور إذ ليست له شهرة عمالقة الشعر , ولا سيما ومثله في أروقة الأزهر كثيرون , فانزوى في محيطه يعبر عن ذاته , ويصف مجتمعه , ويشكو ظلم القدر وعنت الدهر .
وتطول سنوات الحرب , وينقطع عن أهله وذويه , ويزداد بؤسه وشقاؤه , ويحاول أن يهجر مصر ويعود إلى وطنه ولكن هيهات والحرب في اشد أيامها , والاتصال بين القطرين منبت , فيندب سوء حظه ويقول :
بلدة لم ترع حقي حق لي عنها الشخوص
كل غال فهو عندي غير آدابي رخيص
أقسمت أن لا تراني أعين في مصر خوص
جحدوني غير بدع ٍ جحدت قبلي النصوص
فأعجبي يا دولة الش ـعر إذا قال الرهيص
أنا في مصر مقيم ما على جسمي قميص
وبشعر غيره من الطلاب السوريين بالفاقة والعوز بعد أن انقطعت عنهم موارد أهلهم وذويهم , ويقام حفل في دار الأوبرا تحت رعاية السلطان حسين كامل إعانة لطلبة الأزهر السوريين , ويشارك الأثرياء والأدباء والشعراء في هذا الاحتفال ,وينشد الفراتي قصيدة تثير الشجن :
لعمرك ما أدرى وإني لصابر متى ينجلي هذا الشقاء المحتم
وإني لأخفي الهم عن كل شامت ٍ ولكن لسان الحال عني يترجم
ثلاثة أعوام أقاسي بها الأسى أجرع كأس الصبر والصبر علقم
ويقول :
أأبقى بليل البؤس حيران تائها ً وفيكم بدور آل مصر وأنجم
وكل أيامه في مصر شكوى وألم وأنين , ويتجلى فيها البؤس من جهة , والحنين إلى الأهل والوطن من جهة أخرى .
ويترك مصر إلى الحجاز إثر إعلان الثورة العربية , ثورة الشريف حسين على الأتراك – أمل العرب آنذاك – ويعيش فترات هناك , وينظم أكثر من قصيدة , من مدح إلى إشادة بالنهضة العربية , إلى وصف حياة البادية وشظف عيشها إلى حنين إلى مسقط رأسه :
هبت من الزور ريح نشرها عبق في طي أردافها المنشور عن وطني
ريح بها ريح ممزوج بقرقفها والزنجبيل وذوب الشهد في المزن
ولا يكاد يستقر في الحجاز حتى يضيق بجوها الذي يحد من حرية الفكر ولا سيما بعد أن نثرت حوله الوشايات التي كادت تزجه في غياهب السجن فيعود إلى مصر منتظرا ً الفرج .
ويجلو الأتراك عن سورية ويرفرف العلم العربي على ربوعها فيعبر عن فرح الملايين بقصيدة أشار فيها إلى عنجهية الأتراك وازدرائهم لحقوق العرب:
إن فتح الشآم أعظم فتح ترتقي مجدها به الإسلام
أبنى الترك فاعلموا اليوم أنا أسد في اللقاء صيد كرام
يا بني العرب هبة من رقاد إن ذاك الرقاد عار وذام
فلأجدى الأمرين إما ممات أو حياة ما بعدها إرغام
قل فسحقا ً إذن لأبناء جنكيز فأمن من بعدهم وسلام
ويعود الشاعر إلى دير الزور فلا يكاد يستقر بها حتى تتقاذفه الأيام فسافر إلى العراق ثم إلى البحرين , ثم يعود إلى سورية ولم ينقطع خلال هذه الفترات عن النظم من شعر قومي إلى شعر اجتماعي , إلى ما يهز ضمير الأمة العربية في صراعها مع مغتصبي أوطانها .
فاجتمع لديه ثمانية دواوين لم يطبع منها غير الجزء الأول سنة 1931 بعنوان ( ديوان الفراتي ) أما البقية فحبيسة خزانته وهي : ( النفحات الأولى – العواصف – الهواجس – صدى الفرات – النفحات الثانية – أروع القصص – سبحات الخيال ) .
هذا والى اهتمامه بالأدب والشعر . فقد دري علم الفلك على بعض علماء الهيئة القدماء , وهذا الذي دفعه على أن يكون على اتصال بالآراء العلمية الحديثة , وحين تأرجح بين قديم هذا العلم وحديثه قفز إلى المريخ على جناح الشعر فكتب كوميدية في بضع مئات من الأبيات بعنوان ( إلى عالم المريخ ) حذا فيها حذو الزهاوي في ( رحلتهم إلى جهنم ) وإن اختلف الشاعران في الاتجاه والنزعات . فالفراتي إلى فلسفته الشكوكية مؤمن كل الإيمان , بخلاف الزهاوي الذي طغت نزعة الشكوكية على إيمانه ويقينه . وتشتمل هذه الكوميديا السماوية على :
1- حلم مربع أو ليلة في عالم المريخ
2- الكوميديا السماوية : من أنا ؟ ومن أين جئت إلى هذا الوجود ؟
3- الساحر .
4- غرور الشباب .
5- في حانة إبليس .
6- إلى أين مصيري في هذه الرحلة الحياة الأولى في كوكب ( هيدا ) وهو سيار يتبع إحدى شموس المجرة في طرفها الشمالي من وراء القطب . وكيف تجردت روحه عن جسده في دنيا ذلك الكوكب وانطلاقها في السدم إلى أعماق الكون البعيدة حيث رأت نورا ً ليس من جنس نور العوالم , فتوهمت أن ذلك النور هو نور الله , جل جلاله , وهنا صادفت روحه روحا ً أخرى أخبرتها بأنه سبحانه تعالى تنزه أن تراه الأرواح المجردة . وان ذلك النور هو نور النبي محمد , وحينما اتصلت روح الشاعر بذلك النور الأقدس صعقت ولم تحس إلا وهي إنسان على هذا الكوكب .
يقول :
خرجت عن المجرة مستحثا ً قوى روحي لتسرع في المسير
فجدت بي وقد لمحت سديما ً يرى كالغيم من ( ذات الشعور )
وطارت ألف عام وهي برق وأعياها مدى ذاك العبور
إذا صوت يرن بسمع روحي غريب الجرس أشبه بالصير
تعالى الله ليس تراه روح مجردة ولا عينا بصير
ولا تجهل فذلك نور طه حبيب الله ذي الجاه الكبير
وتقرب واغترف من فيض نور يحف الكون كالبحر الغزير
والقصيدة طويلة – أزيد هذا المقطع من الكوميدية التي تضمنت أيضا جولته مع كوكب الزنادقة وكواكب الشعراء وكواكب العباقرة – عباقرة العلم – الذين يصفهم بقوله :
أهابت بالطبيعة فاستجابت عناصرها لما تهوى قواها
تحيل إذا تشاء الترب تبرا ً وحر لظى تقطره مياه
وما غير الأثير لها وسيطا ً وكاد يكون في نظري إلها
ويكفي أن تموجه عقول بفكرتها فيبلغها مناها
متى رامت عويصا ً ذللته وكم من مشكل حلت نهاها
والكوميديا في نيف وستمائة بيت .
ولا شك أن لشعراء الفرس القدامى أثرهم في هذا الاتجاه .
ونحن نعلم أن الأستاذ الفراتي يحسن الفارسية كالعربية وقد وضع فيها عدة كتب وترجم عن أكابر شعرائها .
وضع ثلاثة كتب في قواعد اللغة الفارسية وتعليمها باللغة العربية , وهي في 700 صفحة , إلى قاموس فارسي عربي , وآخر للكتابات الفارسية .
وقد ترجم رائعة سعدي الشيرازي – نهلستان – ( روضة الورد ) وهي من أشهر مؤلفاته التي تضمنت كثيرا ً من الحكايات الطريفة والمفارقات التي مرت بحياته إلى ملح وحكم ونكات وأفكار ترمز إلى التوجيه والإصلاح ..
كما ترجم روائع من شعر ثلاثة من أعلام شعراء الفرس وهم جلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي وحافظ الشيرازي – ترجم شعرهم شعرا ً فجاءت الترجمة كما اعترف كبار أدباء الفرس المعاصرين الذين يحسنون اللغتين – جاءت الترجمة كالأصل .
لقد اجتمعت للفراتي ثقافة دينية وثقافية أدبية ( أزهرية الطابع ) وانطلاق في أجواء الأدب الفارسي الكلاسيكي , ومطالعة لما تقذفه ثقافة العصر من نزعات تجمع بين روحانية الدين ومادية العلم , فإذا تفلسف في أسرار الكون والحياة كان مشدودا ً إلى تلك الينابيع الثرة , وهذا ما يلمسه القارئ في كوميديته ( الحلم المريع ) أو ( ليلة في عالم المريخ ) ولكتاب الله الكريم أثره البالغ في ثقافته الدينية والأدبية التي بدت واضحة في كتابه (إعجاز القرآن ) في الآيات الكونية وتطبيقها على احدث نظريات الفلك . وما يزال وقد جاوز التسعين يعيش , بعد أن احتضنت وزارة الثقافة والإرشاد القومي شيخوخته – يعيش في جو من التأليف والترجمة والنظم وكان آخر إنتاجه ترجمته لروائع الأدب الفارسي القديم كما اشرنا آنفا ً .
من شعره : الصواعق المحرقة - وهي التي وصف فيها ذاته قبل خمسين سنة .
أخي ليس ما بي من جنون ولا مس ولكن صرف الدهر افقدني حسي
هو الدهر لم يخلص من اللؤم طبعه فليس على من لم يساعده من بأس
سقاني من الاوصاب نهلا ً وعلني ثلاثا ً فلم اسكر فأترع لي كأسي
فلو كنت مداحا ً ( كشوقي ) لما سفت على السوافي من شقائي ومن تعسي
إذن كنت اكتال المديح لعاهلي فأصبح من نعمى الحياة كما أمسى
ولو كنت بناء ً بنيت كما أشأ قصوري بالآجر والطين والكلس
فأسكنت أطفالي ببيت يكنهم وما أعولت أمي لا شقيت عرسي
ولو كنت نجارا ًلأتعبت ساعدي بكدحي بالمنشار طورا ً وبالفأس
وأحضرت أخشابي لأرضي زبائني من الساج والصفصاف والجوز والبقس
وحددت منقاري وأرهقت مسجحي وأجلست من يأوي لبيتي على كرسي
ولو كنت حلاقا ً ( لزينت ) لحية بدت في أديم الذقن من مطلع نحس
فطالت كليل البائسين فمن لها بموسي إذن تأتي عليها من الأس
لقد نسجت فيها العناكب فاغتدت من العدم والإملاق صفراء كالورس








3 ـ خير الدين الزركلي 1893
أربعة من شباب دمشق ألف حب الأدب بين قلوبهم منذ بداية النهضة الفكرية في سورية , وقبيل الحرب العالمية الكبرى ببضع سنوات إذا أردنا الدقة , فنظموا وكتبوا وكانوا لسورية – كما كان شوقي وحافظ ومطران لمصر – الرواد الأول لديباجة الشعر العربي بعد هجعته الطويلة , وكانوا صدى هذه الأحاسيس التي تختلج في صدور الأمة العربية , وما زالوا ينظمون ويعبرون اصدق تعبير عن أحاسيسهم الوجدية , ومشاعرهم القومية إلى أن أصبحوا حملة لواء الشعر في دمشق , أريد بهم محمد البزم وخير الدين الزركلي وخليل مردم وشفيق جبري .
وخير الدين الزركلي من أسرة دمشقية , ولد سنة 1893 . وبعد أن أتم دراسته الابتدائية , انتسب إلى مدرسة اللابيك في بيروت , وكان قد درس العربية على مشايخ دمشق – على الشيخ عبد القادر بدران والشيخ جمال الدين القاسمي , وغيرهم من الأعلام وتتلمذ على مدرسة محمد كرد علي الفكرية التي كانت تنتزع نزعات حرة في توجيه الأمة نحو الإصلاح .
(( فقد كان محمد كرد علي اكبر مشجع لشباب الشام على مدارسة كنوز الأجداد الأدبية وعلى التزود بزاد العلوم العصرية , ولم تكن محاربة الجهل في الشام من الأمور السهلة في أوائل هذا القرن , فلقد كانت حجب الجهل على العقول مسدولة , وكانت المدارس التي تعلم العلوم العصرية جد قليلة , فحارب الأستاذ الجهل والحجاب والبدع والخرافات . )) .
وإذ تتلمذ الشعراء الأربعة على مدرسة محمد كرد علي , فقد نهجوا نهجه وساروا على طريقته وكانت اجتماعاتهم غير المنقطعة تتناول مدارسة الأدب ورواية الشعر والتحدث في شؤون الوطن العربي .
وكانوا يتسابقون في تصوير خوالج الأمة العربي وإثارة شعور أبنائها لاستعادة المجد الذاهب .
وكان لكل شاعر نهجه في التعبير عن ذاته , وإن تلاقوا جميعا ً عند هدف واحد : وهو التعبير عن الذات العربية , والتغني بأمجاد العرب وإثارة الشعور القومي مع حرصهم على نصاعة الديباجة واشراقة الأسلوب .
وحين جلا الأتراك عن سورية سنة 1918 وتأسست الحكومة العربية في عهد الملك فيصل , زاول خير الدين الصحافة ولما يبلغ الثلاثين من عمره فأصدر مع يوسف حيدر جريدة ( المفيد ) لدفاع عن الفكرة العربية , وكان لمقالاته أثرها في التوجيه القومي , وفي نقد سياسة الحلفاء الذين تنكروا للعرب بعد الوعود التي قطعوها للملك حسين .
وفي صبيحة اليوم الذي دخل فيه الفرنسيون دمشق , ليقوضوا عرش فيصل ويقضوا على ما كان لسورية من استقلال , غادرها الزركلي إلى فلسطين , ومنها إلى مصر حيث تلقى دعوة من الملك حسين لزيارة الحجاز , وتوجه إلى مكة ثم عاد إلى مصر فعمان قبل أن يصل إليها عبد الله بن الحسين .
وكان المجلس العسكر الفرنسي قد اصدر حكما ً غيابيا ً في 11 آب 1920 بإعدام جمهرة من رجال السياسة الأحرار , وبينهم خير الدين الزركلي ولما بلغه الخبر , ابتسم ابتسامة الهزء المرير وانشد:
نذروا دمي حقا ً علي , وفاتهم أن الشقى بما لقيت , سعيد
الله شاء لي الحياة وحاولوا ما لم يشأ , ولحكمه التأييد
ومن عمان اخذ يكتب قصائده الحماسية ضد الغاصبين ... وكان الناس , في سورة , يتلقفون هذه القصائد سرا ً , وسرعان ما يستظهرها الشباب والشيوخ , ويرددونها في مجتمعاتهم الخاصة كنفثة من نفثات شاعر حر , نزح عن وطنه في أقسى الظروف , وحكم عليه بالإعدام بعد أن احتل الفرنسي بلاده ,وكانت نفثاته الحرة تعبيرا ً صادقا ً عن شعورهم الوطني المكبوت .
وفي عمان عين عضوا ً في مجلس المعارف , فرئيسا ً لديوان رياسة الحكومة , وكان يأمل الكثيرين أن تكون عمان مركز الانطلاقة الكبرى لإعادة الحكم العربي إلى سورية , ولكن خاب أملهم لان التفاهم بين الانكليز والفرنسيين كان على أتمه . فغادر عمان إلى مصر .
وفي مصر أسس مطبعة تجارية للتغلب على مصاعب الحياة .
ورأى أن يملأ فراغ وقته بما يعود على قومه بالخير .
وإذ كانت الخزانة العربية في حاجة إلى كتاب يضم شتات ما فيها من كتب التراجم , مخطوطاتها ومطبوعاتها , قديمها وحديثها , يعرف قراءها بمن اجتازوا مرحلة الحياة , وخلفوا أثرا ً يذكر لهم أو خبرا ً يروي عنهم من أصول الأمة العربية وفروعها , وإذ كان العصر الذي نعيش في خضمه يقتضي أن يكون بين أيدي القارئ العربي قاموس يغنيه عن مطولات السير وضخام أسفارها , فقد اضطلع بهذا العمل الخطير وحده , وما زال يعمل بصمت ودأب وصبر وهو منفي في دار غربته تتقاذفه الأسفار – إلى أن أتم وضع قاموس لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين في الجاهلية والإسلام وسماه ( الأعلام ) فصدر سنة 1927 في ثلاثة أجزاء بلغت صفحاته الألف صفحة .
هذا وقد اصطفى خير الدين الزركلي وهو في مصر , غير واحد من الأدباء في طليعتهم إبراهيم عبد القادر المازني – كانوا يجتمعون ويتحدثون عن الأدب والحياة والسياسة العربية , وكان المازني اقرب أدباء مصر إلى نفسه فتحابا وتصادقا , وكان لا يمر يوم دون أن يلتقيا .
ومرة ثانية ترك العمل في فلسطين نتيجة الضغط الذي كان يلقاه من الانكليز ومن حكومة عمان , وكان نهجه يختلف عن نهجها كل الاختلاف , وخلال الأيام التي قضاها في عمان كان قد سجل الكثير من الخواطر والأسرار عن المملكة الهاشمية فاصدر كتابا عنوانه ( عامان في عمان ) كما اصدر كتابا آخر عنوانه ( ما رأيت وسمعت ) وصف فيه وصفا ً شيقا ً ما أصاب وطنه عقب معركة ميسلون .
وفي عام 1934 التحق بالملك عبد العزيز بن سعود فنزل من نفسه أكرم منزلة , وني طبه الكثير من الأعمال الدبلوماسية فمثل المملكة العربية في المؤتمرات التي شهدها وفي سفاراته خير تمثيل .
وكان في جميع مواقفه العربي الزاخر بالشعور , والأديب العف اللسان , وما زال ينتقل من الرياض إلى جدة إلى القاهرة , ومن الشرق إلى الغرب ومن منصب إلى آخر إلى أن استقر به المقام سفيرا ً للمملكة العربية السعودية في المغرب ( الرباط ) .
وحين كان في الرياض كتب كتابا ً عن الملك عبد العزيز بن سعود , ضمنه وثائق ومعلومات وانطباعات ذاتية عن الجزيرة العربية لها قيمتها لصدورها عن أديب شاعر تختلف نظرته عن نظرة الكثيرين ممن كتبوا عن تلك البقاع التي لا تزال تطوي في صدرها الكثير من الأسرار , وما يزال الكتاب في خزانته يعيد فيه النظر ويضيف عليه ما تختزنه ذاكرته عن أيام عاشها واصطبغت أحداثها بالكثير من الملابسات التي ظلت خافية , وربما قدمه للطبع أخيرا ً .
وبالرغم من اضطلاعه بالأعمال الرسمية والمهام الحكومية فيظل الأدب شغله الشاغل .
فنشأته التي قامت على دراسة العلوم العربية من منابعها , ثم بديهته الأدبية ومطالعاته غير المنقطعة لكتب الأدب , إلى حفظه الكثير لشعراء العرب الأقدمين , ومواجهته أحداث الحياة بشتى ألوانها – المتجهمة تارة والمتبسمة تارة أخرى . إلى ملكته الشعرية , إلى شعوره الدافق وإحساسه العارم بالنزعة العربية ثم رحلاته إلى الشرق والغرب , ومكثه سنوات طويلة في قلب الجزيرة العربية يدرس بيئتها وأحوالها , ماضيها وحاضرها , وخلق أبنائها وطباع ناسها , ونثرها وشعرها – كل ذلك جعل منه شاعرا ً من كبار شعراء الأمة العربية , وأديبا ً زاخر المعرفة , وباحثا ً في تراجم الأعلام يكاد يكون فريدا ً بين معاصريه .
وشعره الوطني والعاطفي يؤلف أكثر من ديوان واحد , وان كانت العربية لا تعرف غير ديوانه المطبوع سنة 1925 باسم ( ديوان خير الدين الزركلي ) وهو يضم قصائد وطنية ومقاطع وجدية وتأملات ذاتية , أكثرها في الحنين والألم – الحنين إلى غربة الوطن الجريح – والألم لما قاساه من محن وكوارث ..
وفي جو هذين العاملين كتب شعوره وأناته في قصائد قوية تصور شعور إنسان يحس إحساس قومه وتثيره آلامهم وتفزعه مصائبهم , فتستحيل الكلمة عاطفة ملتهبة تؤرخ أحداثا ً جساما ً .
( وقد نحا في شعره منحى المتقدمين من حيث الجزالة والمتانة والأسلوب وجمع إليه النمط المرغوب عند المتأخرين من حيث الوزن والوضع , فجاء شعره آية في الإجادة وغاية في الإبداع والبراعة , وهو لكثرة ما يحفظ من شعر المتقدمين وأقوالهم قد يمج شيئا ً من كلامهم في شعره حتى يخيل إلى الإنسان انه تعمد الإغارة على معنى سبق إليه ولفظ احكم حوكه غيره كقوله :
وما الموت إلا سبات عميق ففيم البكاء على الهاجع
وهو مأخوذ من قول أبي العلاء المعري :
الموت نوم طويل لا هبوب له والنوم موت قصير بعثه أمم
وقوله : إنما الشعر سلسبيل زلال كيف يدري الزلال من مر فوه
وهو مأخوذ من قول المتنبي :
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا ً به الماء الزلالا
غير أن من عرف ما اوتيه خير الدين من غزارة المادة وجودة القريحة يستبعد منه أن يتعمد مثل ذلك , على أن بين المعاني التي استعمل فيها هذه الكلمات والتي استعملها غيره فيها – فرقا ً بينا ً وخلافا ً جليا ً ) .
هذا ما أخذه عليه الأستاذ سليم الجندي في مجلة المجمع العلمي العربي حين صدر ديوانه قبل نصف قرن , وقد وصف طريقته في نظم الشعر بقوله :
( لخير الدين الزركلي جولة في الشعر يقصر عن لحاقه كثير ممن عنى ) .
( بالشعر وجعله شغله الشاغل , وله عناية شديدة بتنقية شعره , وتهذيبه وربما نظم خمسين بيتا ً ثم عاد عليها بالتمحيص والأخيار حتى أبقى منها عشرين أو ما دون ذلك فيأتي شعره وقد خلص من الركاكة والوهن , وسلم من التكلف الممل. ) .
وقد نظم خير الدين , خلال هذه الفترات أي منذ أربعين سنة , الكثير من القصائد , وهي تؤلف كما قلت , أكثر من ديوان واحد , لما تطبع بعد ولعله يطبع جميع ما لديه من كتب ورسائل ودواوين بعد أن فرغ من طبع معجمه الكبير – قاموس الأعلام – الذي استنفذ منه كل وقته وشغله عن الكثير من مدوناته .
ونثره كشعره فيه طلاوة وجزالة وصفاء . والشعر عنده شعور ينبض به قلبه حين تثيره الأحداث الكبرى , وحين تدغدغه ذكريات الوطن أو ذكريات الأمجاد العربية , وحين يبهجه منظر من جمال الطبيعة أو سر من أسرار الحياة الغامضة .
وشعره سهل واضح بعيد عن الكلام المتعاظل , وهو إلى سهولته ووضوحه جزل , مشرق يمت إلى عمود الشعر العربي الأصيل بنسب وثيق , وهذا الذي يجعله على لسان الكثيرين من شباب الشام حين يرددون ذكريات الوطن الحزين خلال محنته الرهيبة على عهد الفرنسيين .
ومن شعره القومي : وطني
مضى على نظم هذه المقطوعة الشعرية أكثر من ربع قرن وهي تعكس حنين الشاعر إلى وطنه الأول , وكانت سورية عند ما نظم الشاعر هذه القصيدة ترزخ تحت نير الاستعمار الفرنسي :
يا موطنا ً عبث الزمان به من ذا الذي أغرى بك الزمنا
قد كان لي بك عن سواك غنى لا كان لي بسواك عنك غنى
ما كنت إلا روضة أنفا كرمت وطابت مغرسا ً وجنى
عطفوا عليك فأوسعوك أذى وهموا يسمون الأذى مننا
سورية الشهيدة
الأهل أهلي , والديار دياري وشعار وادي النيرين شعاري
ما كان من الم بجلق نازل وارى الزناد , فزنده بي واري
إن الدم المهراق في جنباتها لدمي , وإن شفارها لشفاري
دمعي لما منيت به جار هنا ودمي هناك على أثرها جاري
4 ـ جورج صيدح 1893
شاعر دمشقي تقاذفته الأسفار منذ نعومة أظفاره فلم يكد يشب عن الطوق حتى انتقل من مقاعد الدراسة في عينطورا – لبنان – إلى القاهرة , ومنها إلى فنزويلا والأرجنتين ثم عودة إلى الوطن فمقام في باريس .
هذه السنوات الطوال التي قضاها في الأسفار بعيدا ً عن الأهل والوطن لم تنسه مرابع طفولته , فكلما اشتد به النوى ونأت به الدار حن إلى دمشق التي لا يكاد يذكرها حتى تفيض عيناه بالدمع – ذكرتها نائيا ً والدمع هتان:
دمشق : إن قلت شعرا ً فيك ردده قلي كأن خفوق القلب أوزان
أنا وليدك يا أماه كم ملكت ذكراك نفسي , وكم ناجاك وجدان
دمشق إن أشجت الأوطان مغتربا ً إني لأشجع من أشجته أوطان
يا مسقط الرأس والأرحام تجمعنا حاشا تغيرني في حبك الغير
انسي يميني ولا أنساك يا وطنا ً فيك ابتدا – ليته فيك انتهى – العمر
هذا الشاعر الدمشقي الذي طوحت به الأقدار وعاش فجر شبابه وزهو كهولته في الاغتراب هل يعتبر من شعراء المهجر أم من شعراء سورية . فالواقع , انه لم يستقر في مهجر من المهاجر الأمريكية كما استقر الكثيرون , وإذ خلا كتابه ( أدبنا وأدباؤنا ) الذي أرخ فيه لمائة شاعر وأديب مهجري من سيرة ذاتية له وهو لا يقل عن الكثيرين منهم – رأيت من الواجب بحق الأدب المعاصر أن اسلكه بين أدباء سورية وهو منهم في الصميم , ولا سيما وما من مناسبة قومية أو ظاهرة من ظواهر الحياة في الوطن السوري إلا وصفها أدق وصف , وخص دمشق , الحبيبة إلى نفسه , بشعر يفيض بالحب المزيج باللوعة والشوق والحنين :
هجرت ربوع الشام والقلب مثخن جريح سهام كان اقتلها الهجر
إذا البلبل الغريد فارق روضه فكل رياض الكون في عينه قفر
سقى الله جنات سقتني حنانها كأم على أحضانها الولد الغر
سكرت بها في فجر عمري وها أنا صحوت ولا فجر هناك ولا سكر
هذه الظواهر في حياته هي التي دفعتني أن اسلكه بين أدباء سورية فكتبت إليه اطلب بعض المعلومات عن نشأته والسنوات التي عاشها في غربته فلم يبخل بالجواب وسرعان ما وافاني برسالة غاية في الرقة والتواضع , وإذا هي , على إيجازها , تؤرخ الفترات المتباينة التي عاشها , وها أنا ذا اثبت الكثير من فقراتها لاحتوائها على الكثير من المفارقات في حياة هذا الشاعر الذي ظل في بؤسه ونعيمه وفيا ً لرسالة الأدب , وكان الشعر أداته للتعبير عن خوالجه الذاتية . ففي مصر لم تصرفه أعماله التجارية الضخمة عن حياة الأدب وقول الشعر . فما يكاد يخلو إلى نفسه أو يعيش تلك اللحظات الحالمة التي تثور فيها العواطف حتى ينطلق لسانه بالشعر . يصف هذه وتلك ويتحدث إلى جارته التي لم تشعر بألمه وبالأسى الذي يعصف بفؤاده من جراء وحدته :
أنت لو كنت سمعت أنة ً من جانبيا
ربما كنت رفعت نظرا ً منك أليا
أنت لوكنت فهمت سر قلبي من عيوني
ربما كنت ابتسمت بسمة الأخت الحنون
ويزداد حبه لجارته ويزداد صدودها ... وتخطر على الشرفة فيزداد اوار حبه , ويكون حديث وهمس وعتاب :
أسرفت في قطع العهود وبخلت ... إلا بالصدود
أنسيت ما عاهدتني في حضرة البدر الشهيد
لما التقينا بين أشـ جار ( الجزيرة ) والورود
في ليلة نام الوشا ة بها عن الحب الهجود
هذه نفحة من نفحات خليل مطران , ولا عجب – وهو صادق في تعبيره عن هواجسه – أن ينهج نهجه في هذه المعابثات التي تكررت في أكثر من قصيدة مع ( سائقة السيارة في القاهرة وليلة البحيرة ) في سويسرا :
جذفي ( جانين ) قد طاب السرى ونسيم البحرة الشافي قد سرى
فإذا اذبل جفنيك الكرى فاتركي المجداف للماء الأمين
وتعالي , ننزوي في معطفي
و(( العاصفة في غابة بولون )) وهي قصة من أروع قصص الحب التي يمتزج فيها الإثم بالطهر – قصة الشاعر مع التلميذة الباريسية ( ليدي ) :
جاءت إلى الموعد ذات التقى في يدها سبحتها والكتاب
تقول لي صدقني والدي أني إلى القداس أبغى الذهاب
أتكتفي مثلي بقداسها والقلب قلبي والشباب الشباب ؟
حوصرت في مدرستي طيلة الأسبوع ادعوا الأحد المستطاب
صليت فيها كل يوم ولي في سابع الأيام حق الثواب
وقضيا يوما ً مشرق الأسارير يتساقيان كؤوس الحب , ولكن الطبيعة لم تتركهما ينعمان بهذا اللقاء فسرعان ما تجهم الجو وحجبت الشمس وهطلت الأمطار فلجآ إلى أيكة كثيرة الأفنان بين الشعاب :
إذا التصقنا نتقي رعدة للبرد زدنا رعدة واضطراب
بتنا سجينين بتلك الربى ورب سجن ٍ للمحبين طاب
وتندب ( ليدي ) حظها وترتعد فرائصها وتثور في نفسها العاطفة الدينية فتقول هذا عقاب الهي لأنني أثمت :
أخطأت بالكذب أمام السما فأرسلت يقتص مني السحاب
واخيفتي حين يرى والدي على ثيابي لطخات التراب
ويلي إذا أبت وذى حالتي والويل أدهى إن أبيت الإياب
ويطمئنها الشاعر :
لا تجزعي ( ليدي ) ولا تيأسي أخوك ذو رأي يفل الصعاب
هيا إلى الفندق في المنحنى صاحبه شهم ٌ رقيق الجناب
نعطيه في الغرفة أثوابنا ونصطلي فيها ونحسو الشراب
يردها بعد قليل لنا مغسولة مكوية لا تعاب
ويتهلل وجه الفتاة , ويزايلها الخوف وتنزع ثيابها , وينزع ثيابه ويختليان . ويشاهد الشاعر الحسن مستكملا ً :
أشهى ثمار الروض مقشورها يغري بمجناه وضوح اللباب
والقصيدة وهي من الأدب المكشوف – غاية في براعة التصوير ودقة الوصف .
وقد كثرت مقطوعاته وقصائده التي تروي مغامرات الصبا وغراميات الشباب , وحين دلف إلى الشيخوخة ظل قلبه المشبوب يعيش في الذكريات الحلوة :
ونذرت الزهد لا افشي به نكبة الشيب , ولا أسلو هواك

ويقول :
لا تعذلي بعد الكهولة صبوتي عذري شباب النفس والإحساس
ويترك مصر اثر نكبة مالية حلت به عام 1925 فيخرج مقهورا ً من معركة دامت ثلاثة عشر عاما ً , ويركب البحر , وتجثم على صدره الهموم . ولا يلبث أن ينفس عن صدره بقصيدة عنوانها ( التاجر الخاسر ) الذي عثر به الجد والهوى نجمه فنزح يحمل في طوايا صدره عزة النفس والألم :
صابرا ً ليس يشتكي غير ما فيه من سقم
ما أزالت إباءه عند ما زالت النعم
دونكم ماله فلا تذكروا عرضه بذم
ولا يكاد يصل كاراكاس عاصمة فنزويلا وتطأ قدماه أرضها حتى يشعر بالوحشة فيحن إلى الوطن:
وطني : ما زلت ادعوك أبي وجراح اليتم في قلب الولد
ما رضيت البين لولا شدة ٌ وجدتني ساعة البين اشد
فتجشمت العنا نحو المنى وتقاضاني الغنى عمرا ً نفد
شاعر امتلأ صدره بالعزة والأنفة والكبرياء فلم ييأس مما نزل به بل جدد العزم ودخل المعترك التجاري فوفاه الحظ وعادت بوارق النعمة والثراء تختلج بين جوانحه . ولم يصرفه هذا عن رسالة الأدب , فظل قلبه يفيض بالشعر ويصف شتى ألوان الحياة , ويخوض مع شعراء ( العصبة الأندلسية ) ميدان المعركة القومية التي شغلت العرب , ولا سيما بعد نكبة فلسطين , ويصب جام غضبه على الصهاينة . وعلى الذين خلقوا إسرائيل واخذوا يمدونها بالمال والسلاح :
لا خير في شعب تصهين قلبه فغدا يرابي في الورى ويحابي
سلب العروبة قدسها وأباحه للفاجرين , كناهب وهاب
إن شام في السنجاب ذيلا مذهبا ً أفتى بنحر الليث للسنجاب
بنو فلسطين قطعان مشردة عن الحياة , ملاك الموت راعيها
وكف صهيون بالأقداس عابثة كأنما الله أمر ٌ ليس يعنيها
أما الملوك فلا حس ولا بصر ولا حديث سوى الأسلاب تحصيها
وفي الأرجنتين على اثر مذبحة دير ياسين , تنادى أبناء الجالية إلى الاجتماع , وخطب الخطباء وألقى موشحا ً جاء فيه :
تحت ستر الليل , ستر المجرمين طرق الفجار بيت المقدس
يا فلسطين : على من تعتبين إن تكن نامت عيون الحرس
دير ياسين على الدنيا العفاء إن تكن دنيا الزنيم الأجنبي
ثأرك الصارخ في سمع السماء جمرة تكوي قلوب العرب
قسما ً ما هدرت تلك الدماء وهي في ذمة عيسى والنبي
قد هززنا عرش رب العالمين بدعاء من قرار الأنفس
رب هب أبطالنا النصر المبين وقنا ثانية الأندلس
وديوانه حكاية المغترب يروي فيه قصصه الذاتية وقصص نضال أمته فبينما نعيش معه في واحة من الأنس والنعيم , تطرب للنغم وتسكرنا الكلمة الشاعرية التي تتدغدغ أحاسيسنا , إذ بكلماته تنفلت في بعض المواقف إلى شواظ من نار على رأس المستعمرين وعلى الذين كانوا سبب نكبة فلسطين – حكايات طويلة يرويها عن اغترابه, عن الوجد والحنين , عن الألم والأنين . حكاية النفس الثائرة والروح الحائرة المحلقة في الآفاق فوفاؤه لإخوانه ومعابثاته مع خلانه , ونوازع الجمال التي تثير وجدانه , وليالي الصفو التي تهز مشاعره وترقص كيانه , والأحداث التي تنزل بقومه فتثير أشجانه – كل هذه الألوان المتباينة بآفاقها وأشواقها وأصدائها وأهوائها انتظمت شعرا ً سهلا حلو النغم – ( شعر الديباجة الأنيقة , والنغم المرح الطروب والعاطفة الصادقة المرهفة )
وتجلت موهبة جورج صيدح كباحث أديب حين طلب إليه ساطع الحصري أن يحاضر طلاب معهد الدراسات العربية العالية عن أدب المهجر , فزجه في تجربة الدراسة الأدبية , وإذا به يهادن عالم الشعر وينصرف لعالم الدراسة والبحث فيعيش من جديد مع أدباء المهجر وشعرائه ومفكريه – يدرس أدبهم وشعرهم دراسة أديب عايش أكثرهم وعرف الكثير من حياتهم الأدبية الخاصة منها والعامة , ما ظهر منها وما خفى فاشتملت المحاضرات تاريخ الهجرة وبواعثها وتياراتها وحظ الأدباء منها ونشأة الأدب المهجري ومراحل نموه وأثره في الأدب العربي العام وخصائصه ورسالاته ونواحي نشاطه , إلى مآخذ خصومه عليه. وصدرت هذه المحاضرات في كتاب سنة 1956 في القاهرة بعنوان ( أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية ) ثم أعيد طبعه في بيروت سنة 1957 كما أعيد طبعه للمرة الثالثة سنة 1964 وقد أضاف إليه دراسات جديدة عن أدباء أغفلهم في الطبعة السابقة ولم يعط عنهم معلومات شافية . إلى دراسات أخرى استطاع أن يتوسع في معالجتها بفضل الاتصالات والتحريات والمطالعات التي أتيحت له خلال سبع سنوات مرت على كتابة الطبعة السابقة . وقد برزت مواهبه كأديب محقق وباحث منصف , وناقد لا تفوته الغمزة التي تهدي القارئ إلى الهفوات التي وقع فيها الشعراء أو انزلق إليها الأدباء , والى نقده الموضوعي اللاذع . كان المحامي البارع المتحمس لرسالة الأدب المهجري فأصبح كتابه – على كثرة ما صدر من الكتب والرسالات عن الأدب المهجري – أصبح من اصدق وأوسع وأوثق المراجع له , فهو بحق موسوعة كاملة .
ومن شعره : محمد
قصيدة نظمها بمناسبة المولد النبوي
وجه اطل على الزمان لألاؤه شق العنان
فيه شعاع النيرا ت وفيه أنفاس الحنان
ضاقت قريش به , أما يكفي قريش الأزهران ؟
من ذا رأى طفلا ً ينا غي الله بالسبع المثان
نبذ التمائم وهو في مهد الرضاعة والختان
يا صاحبي : بأي آ لاء السماء تكذبان ؟
لا يعجز الله الذي إن قال كن للشيء كان
أمر الرمال فأطلعت صحراء يثرب أقحوان
للرسل آيات , وهـ ذا الطفل آيته البيان
الروح يملى ما يتر جمه , ونعم الترجمان
بالضاد آذن ربه فتخلدت لغة الآذان
يا صاحبي : بأي آ لاء الرسول تكذبان ؟
شرفا ً حراء الغار : هل كحراء في الدنيا مكان ؟
اخذ الشهادة من شفا ه المصطفى اخذ البنان
في صدره طم النجى وصان معجزة الزمان
وتنزلت أم الكتا ب على اليتيم مع اللبان
فهذي الأعارب ذلك الأ مي بالسور الحسان
أضحوا وفي الدنيا لهم شأن وعند الله شان
يا صاحبي : بأي آ لاء النبي تكذبان ؟
الوحي سطر شرعة ً من لا يدين بها يدان
ورسالة الإيمان تنـ ـشر بالسواعد واللسان
والعرب أخلاق تثو ر على الضلالة والهوان
فتحوا البلاد فذمة ٌ تقضى وأرواح تصان
يوفون بالنذر الذي كتب الكتاب له الضمان
وضعوا الندى في وضعه ووراءه حد السنان
يا صاحبي : باي آ لاء الرسول تكذبان
زهت العروبة وابتنت للمجد ما لم يبن بان
تغزو , ولكن حربها باسم ابن امنة أمان
العدل حائط ملكها وأساسه تقوى الجنان
فرض الزكاة محتم لا من فيه ولا امتنان
والأمر شورى , والخلا فة بيعة للديدبان
هذا كيان الشرق , هل في الغرب يفضله كيان ؟
يا صاحبي : باي آ لاء الرسول تكذبان؟
يا من سريت على البرا ق وجزت أشواط العنان
آن الأوان لان تجدد ليلة المعراج ............ آن
عرج على القدس الشريـ ـف ففيه أقداس ٌ تهان
ضج الحجيج به وريـ ـع ضريحه والمسجدان
والقوم السنة مبلـ ـبلة كأن الحشر حان
هذي سدوم تصاعد الــ نيران فيها والدخان
والذعر يحذو الشارديـ ـن كأنهم قطعان ضان
ماذا دهاهم ؟ هل عصو ك فأصبح الغازي جبان ؟
أنت الذي علمتهم دفع المهانة بالسنان
ونذرت للشهداء جنا ت وخيرات حسان
يا صاحبي : بأي آ لاء النبي تكذبان؟
سمعا ً رسول الحق , ضا ع الحق واختل الوزان
أمم تنازعنا البقا ء كأنها خيل الرهان
باسم السلام تسلحت وتآمرت باسم الحنان
عملت على خنق الشعو ب بما تجود به اليدان
وتأنقت , فالنير في عنق الأعارب أفعوان
لا حرمة الإنسان تر دعها ولا قدس المكان
لأتل من هذا مشى الـ عربي للحرب العوان
فاشفع له , واعنه يا نعم الشفيع المستعان









5 ـ بشارة الخوري
1885 – 1968
حياته
ولد بشارة الخوري عام 1885 م في بيروت في أسرة متوسطة , وأنهى دراسته عام 1905 , كان يميل إلى اللهو والمرح ويعشق الجمال أينما وجد ولغته الفرنسية جيدة واشتغل في الصحافة يكتب فيها شعرا ونثرا ً كتب في عدة صحف ولا سيما – المصباح – ثم اصدر صحيفة خاصة اسماها – البرق- ثم حولها إلى أدبية (( البرق الأدبي )) التي لم تكن تخلو من موضوعات في السياسة ونقد الواقع الاجتماعي المتخلف , وأخيرا ً وفي عهد الانتداب الفرنسي عطلت صحيفته عام 1932 .
الأخطل الصغير : لقب نفسه بالأخطل الصغير وذلك كرمز لاسمه وخوفا ً من بطش الحكام المستبدين أو المنتدبين الفرنسيين فيما بعد , حيث كان يكتب بعض مقالاته ويوقعها باسم رمزي وهو الأخطل الصغير , وكما أن الأخطل شاعر الدولة الأموية العربية , فهو الأخطل الصغير شاعر الأمة العربية هكذا اعتبر نفسه .
بشارة الخوري الشاعر : اخذ ينظم الشعر وهو حينا ً يوفق فيه وحينا آخر يخطئه الحظ . وكان الشعر يستهويه ويأخذ عليه فكره ولبه ومشاعره , وقسم من الأدباء عده صحفيا ً أولا ً ثم شاعرا ً وقسم آخر عده شاعرا ً أولا ثم صحفيا ً .
تكريم الشاعر : اشترك عدد من رجالات الأدب في تكريم بشارة الخوري عام 1961 م وكان وداعا للشاعر وحياته حيث توفي 1968 .
وهكذا مات الأخطل الصغير الشاعر المحب والمخلص في حبه لوطنه وأمته وللإنسانية المعذبة وللجمال والمتعة .
الهوى والجمال
الغزل
لقد كان مفهوم الحب لدى الأخطل الصغير فطريا ً , يستهويه الجمال فيحب يرى فيحب وقد استطاع أن يلون هذا الحب بألوان البهجة والمسرة وتسيطر عليه روح غنائية ويسوده جو ناعم سعيد .
ونشدنا ولم نزل حلم الحب والشباب
حلم الزهر والندى حلم اللهو والشراب
أشكال غزله : لقد أحب الأخطل الصغير في صباه ولم يقدر له النجاح في هذا الحب , سهر , بكاء , قلب , أشواق , استعطاف , تضرع ذليل , غزله معانيه قديمة , وضعيف في وسائله الفنية ونجده يبكي حظه العاثر , وحبه الفاشل . وقد استعار بعض القصائد الفرنسية ليعبر عن تجربة حبه , كقوله :
أنا لو كنت يا سليمى نسيما ً لقطعت الربى وجبت السهولا
وحملت الهوى إليك جريحا ً وتراميت في يديك عليلا ً
وكان يعبر عن تجربته الشعورية في بعض المناسبات السياسية والاجتماعية بشعر قصصي أبطاله فتيات بائسات .
يستهله الغزل , يتغزل بجمال الموصوفة كأنه يتغزل بحبيبته , قال في مطلع قصيدته – ليلى بعد مقتل أبيها :
عشت فالعب بشعرها يا نسيم واضحكي في خدودها يا نجوم
وقال في حديثه عن الفتاة التي غدر بها متصرف لبنان :
المها اهدي إليها المقلتين والظبا أهدت إليها العنقا
وقد ظل إعجابه بالمرأة حتى في شيخوخته وهرمه , ها هو ذا يتغزل بحسناء انتخبت ملكة جمال :
الصبا والجمال ملك يديك أي تاج عز من تاجيك
نصب الحسن عرشه فسألنا من تراها له ؟ فدل عليك
قتل الورد نفسه حسدا ً منك وألقى دماه في وجنتيك
سمات غزله ودلالاته الاجتماعية والفنية :
تأثر غزله بحياته وتلون بعواطفه , ونتيجة لثقافته العربية والفرنسية فقد غدا شعره الجسر الذي انتقل به الشعر في لبنان من التقليد إلى التجديد . كان في أول أمره في غزله مقلدا ً للشعراء الأقدمين , ثم بدأ شيئا فشيئا ً يتجه إلى الأصالة والإبداع فادخل الطبيعة إلى غزله بروح جديدة بث فيها مشاعره , ولكنه لم يسأم في جعل حبه للمرأة ساميا ً نبيلا ً , كان في غزله واقعيا ً حسيا ً يغزل في المفاتن الجسدية . وقد يعطي الحبيبة أحيانا وجها وطنيا ً كما فعل في قصيدته سلمى الكورانية , التي رفضت أن تهجر وطنها مع حبيبها الذي هاجر :
قل للحبيب إذا طال البعاد له ونقل النفس من سلمى لليلاها
إنا إذا ضيع الأوطان فتيتها واستوثقوا بسواها ما اضعنتاها
وأخرا ً نرى في غزل بشارة الخوري الضراعة والتذلل :
بلغوها إذا أتيتم حماها إنني مت في الغرام فداها
الرسم بالكلمات
لقد كان الأخطل الصغير شاعرا ً فنانا ً لنا صورا ً فنية يرسمها بالكلمات , على أن الصورة صورة الإنسان أو الطبيعة لم تكن الغاية لديه وإنما كانت وسيلة لغاية , أنها وسيلة للتعبير عن شعوره , وهذا الأسلوب انضج وسائله التعبيرية وأكثرها عمقا ً .
الإنسان في صور : لقد رسم لنا الإنسان في صور شعرية رائعة , كان يصف لنا الأجزاء التي تهمه من الموصوف , وصف لنا المرأة في حالتي المرح والجمال والشقاء والبؤس , ووصف لنا الرجل في حالات عشقه ومرضه وهو مشلول وعمله وسعيه ونكبته , وصوره أما حسية تعطينا صورة خارجية للموصوف , أو صور نفسية تصور الإنسان من داخله .
وكان يختفي وراء الطبيعة لان المرأة والطبيعة شيئان بارزان في شعر الأخطل وبخاصة في وصفه
أتت هند إلى أمها فسبحان مكن جمع النيرين
فقالت لها : إن هذا الضحى أتاني وقبلني قبلتين
وفر فلما رأى الدجى حباني من شعره خصلتين
ولنسمع إليه يصف المرأة في حالة شقائها :
اخذ الشقاء يدها فسارت خلفه والليل ممدود على الآفاق
سارت فماس الخيزران بقدها ورنت فذاب السحر في الأحداق
وتلوح أثار النعيم بخدها كالفجر قبل تكامل الإشراق
أما الرجل فقد أعطانا صورته وهو مسلول في طريق الموت :
هذا الفتى في الأمس صار إلى رجل هزيل الجسم منجرد
عيناه عالقتان في نفق كسراج كوخ نصف متقد
ويمج أحيانا دما فعلى منديله قطع من الكبد
الطبيعة في صور ومشاهد : كانت الطبيعة جزءا ً أساسيا ً من واقع بشارة , يتفاعل معها بعواطفه وأحاسيسه وهي عالم فيه الصور وفيه تصوير النفوس الإنسانية , وهو يشبه الإبداعيين حيث كان يلجأ إلى الطبيعة ولكنه يختلف عنهم لان الطبيعة لديه ليس عالما ً مثاليا ً بل واقعا ً محسوسا ً , فهي ملعب شباب ومجلس شراب ...
وكان يرسم الطبيعة في صور يجعلها مرآة تعكس حالاته النفسية , أو يجعلها إطار لبعض الموضوعات يسقط عليها مشاعره وخواطره , أو يجعلها في كل الأحيان مصدرا ً لخياله يستمد منها الصور التي يلبس بها معانيه وصوره , وساعدته على ذلك طبيعة لبنان الساحرة .
أيتها الفتانة الصغيرة أنت بتاج ملك جديرة
شاعرك البلبل ذو الإلهام وعودك الدول ذو الأنغام
والغيمة البيضاء مثل القبة كأنها من الحرير جبة
كان يعكس حواسه على الطبيعة ويتفاعل معها ويجعلها تتحرك وتنبض بالحياة وكان يكثر من وصف البلبل بصور مختلفة والطبيعة لديه كنفسه حينا ً ضاحكة مرحة وطورا حزينة متألمة .
قالوا : الربيع , فقلت ما أنكرته رشف الدموع وردهن تبسما
حمل المشاعر لا يمر بربوة إلا وخضب باللهيب وضرما
هذا في وصفه الضاحك وهو سعيد أما حين يصف موضوعا مأساويا فتكون الطبيعة هي مضمار هذا الوصف :
في سكون الليل والناس نيام وفؤاد الكون محموم ٌ كئيب
وعلى النجم من الغيم لثام وهلال الأفق في حضن المغيب
حتى في الرثاء لم يكن يستغني عن الطبيعة التي تمده بالصور وهو يصفها أولا فرحة ثم يصفها متشحة بالحزن والألم :

يا بلدة سعدت بالنهر يغمرها بكل أزهر حالي العود ناضره
بالبلبل المتغني في ملاعبه والسنبل المتثني في غدائره
ناموا على سرر من الأعراس وانتبهوا على صباح بكي الطرف غسائره
على مآتم من طير ومن شجر خرساء كالقبر غرقى في دياجره
وللجداول أنات مجرحة كأنها حمل في كف ناحره
إن الأخطل الصغير في وصفه كله غنائي رقيق يزين شعره بالصور التي تختزن بها نفسه ولم يكن واقعيا في تصوير المشاهد , بل كان ينظر إليها نظرة رومانسية خيالية , تعيش فيها الأشياء حياة جديدة , وتنعكس من خلال رؤيته هو للحياة ومن خلال ما يدور في نفسه من أفراح أو الأم .
صوت الإنسان
(( شعره الاجتماعي ))
تفتح وعي الأخطل الصغير منذ شبابه الباكر , وتفاعل مع مجتمعه وعكس لنا آلامه وآماله , وكانت ويلات الحرب العالمية الأولى أقوى مؤثرا ً في نفس الشاعر بما جرت من مآس وكوارث وكان يرتفع صوته عاليا ً سواء عن طريق الصحافة أو عن طريق الشعر محتجا ً على الحرب وويلاتها والفقر ومآسيه وكان وعيه الاجتماعي عفويا ً يريد الإصلاح بقالب استعطافي وبروح عاطفية انفعالية متأثرة بالواقع الاجتماعي المثقل بمفاهيم متناقضة .
أما احتجاجه على الحرب وويلاتها : فقد كان في ذلك التصوير للفقر والمجاعة وانتهاك الأعراض , والتضحية بالعفة والشرف من اجل اللقمة , والثورة على آلات الحرب الحديثة المدمرة وعلى تجار الحروب بشكل عاطفي سلبي , تنتهي أحيانا بموقف ايجابي رومانسي .
إنها الحرب ولم تترك على سطحها إلا جسوما ً باليه
تشتكي الجوع وتقري العلا عجبا منها جياعا قارية
وتقول في آلات الدمار :
ورموا بالغاز قتالا فإن ينتشر ينشر حبال الأجل
وهذه امرأة بائسة سيق زوجها إلى الحرب وتركها مع طفلتها وشقائها :
زوجي يحارب في النجوم وطفلتي فوق الفراش تزيد في إرهاقي
وكان يهرب أحيانا من هذه الصور والمآسي المفزعة :
أيها الليل استطل مهما تشأ وتحكم يا كرى بالمقل
انسدل تحجب عن الطرف الشقا يا لطرف بالشقا مكتحل
وحينا ً يقف موقفا ً رومانسيا ً ايجابيا ً :
وقف الفولاذ فيهم خاطبا ً بكلام كالرحيق السلسل
قال : لو أنصفت ما كنت سوى سكة أو معول أو منجل
وأما احتجاجه على الفقر ومآسيه : فقد كان انفعالا ً عاطفيا ً يطالب بالإصلاح والعطف على الفقير والإحسان , لقد مثل مرحلة التطلعات الفكرية والنفسية بطابعها الرومانسي الانفعالي . ألمه ما يعانيه المجتمع من فقر ومجاعة وتشريد وحرمان :
لا يرى إذ تطلع الشمس سوى سائل أو عاجز أو وكل
أيها الأغنياء إن غناكم شيدته سواعد الفقراء
ويقول مخاطبا الأغنياء بلهجة استعطاف ضارع :
أيها الأغنياء إن عناكم شيدت سواعد الفقراء
كل شيء لكم هم الفاعلوه فاذكروه لطفا ً ببعض الجزاء
على أن رؤيته لمظاهر الفقر كانت عفوية , لا تخلو من اضطراب , وكان ميدان احتجاجه على الفقر الصحافة والشعر , واستمر هجومه منذ العهد العثماني ثم خلال فترة الانتداب الفرنسي حتى في عهد الحكم الوطني ... كان يفضح قوى الظلم ويدين أعمالها الباغية .
مواقف وطنية وقومية
(( شعره الاجتماعي )) لم يتضح الوعي القومي عند العرب خلال الحكم العثماني بصورة واضحة بل كان مضطربا ً , وحين أعلنت الثورة العربية الكبرى 1916 بدا هذا الوعي يتضح ويسير في طريق النمو . ولم يكن بشارة الخوري يجسد الكلمة إلى ثورة , لم يكن قائدا ً قوميا ً يدعو قومه للنضال والكفاح ويسير هو في المقدمة وإنما كان في شعوره الوطني والقومي يطلق الكلمة حين يأمن عواقبها وإلا فالسكوت أفضل واسلم :
ألجم لسانك ألجم فالموت للمتكلم
لا يأخذونك إن اخذ ت أثمت أم لم تأثم
مواقفه الوطنية : أحب الأخطل الصغير وطنه لبنان وجعل اسمه كاسم الحبيب يتغنى به ويتغزل بجماله :
لبنان !! كم للحسن فيك قصيدة نثرت مباسمها عليها الأنجم
ويقول أيضا :
ليبق هذا التيه لبنان ! فالدنيا قسم
ملعب الأحلام ما أحلاك حلو المبتسم
وكان في حبه للبنان عربيا , يعتبر لبنان جزءا من الوطن العربي ويدعو الشباب اللبناني للعمل من اجل لبنان , كما يدعوا المهاجرين للعودة إلى بلادهم وقراهم ليعمر لبنان وتزدهر القرى بفضل الرجالات الذين خدموا لبنان واخلصوا له , ويهاجم الحكام صنائع الاستعمار , ويعرض بالاحتلال الأجنبي ويستاء من الواقع الاجتماعي الفاسد ويدعوا إلى إصلاحه :
لبنان ... هل إلى أذنيك صاعقة زل تهدارها من أذنك الصما
هذا شبابك يشقى في ضراعته وهو البراكين لكن يجهل الحمما
ويقول :
لبنان مالك إن غمزتك تغضب أيجد غيرك في الحياة وتلعب
مواقفه القومية :
تبدو روح الأخطل الصغير القومية واضحة في شعره , والجانب الوطني في شعره لا ينفصل عن الجانب القومي , وهو لا ينظر إلى العرب كمصريين أو سوريين أو ..... بل ينظر إليهم كعرب أولا وقبل كل شيء , تشرق الشمس على سورية فيحس بها عربية :
وطن أعار الخلد فتونه وسقى المكارم فضله الأقداح
والشمس فوقه سهوله ونجاده عربية الإمساء والإصباح
والعروبة في شعره وشعوره متصلة بالتاريخ وها هو يرثي فوزي الغزي :
كفنوا الشمس بريحان وورس يالشمس آذنت من عبد شمس
ومشى مروان في تثاره بشباب صادقي العزمات خمس
وقد تفائل بسقوط السلطان عبد الحميد بعد أن خدعه السراب :
زال عبد السجود يا أمم الأر ض فهذا عهد السلام الوطيد
ويهاجم المستعمرين الحلفاء حين تنكروا لوعودهم ووعودهم للعرب :
قل لجون بول إذا عاتبته سوف تدعونا ولكن لن ترانا
ذنبنا والدهر في صرعته أن وفينا لأخي الود وخانا
هذه رؤيته للمستعمرين , أنهم أخوة ود ..... لهجة ضعف ليس فيها بعد المناضلين ولا حرارة ثورتهم ..
تشتد لهجته في رثاء فيصل :
حدثونا عن الحقوق فلما كبر النصر أعوزتنا التراجم
وقد هلل للثورة الفلسطينية عام 1936 وأيدها باعتزاز :
يا جهادا ً صفق المجد له لبس الغار عليه الارجوانا
شرف باهت فلسطين به وبناء للمعالي لا يدانى
ودعا إلى دعم الثورة بكل عون مادي :
قم نجع يوما ً من العمر لهم هبه صوم الفصح , هبه رمضانا
وهو في رثاء أي زعيم من زعماء العرب يعتبر أن الكارثة للعرب جميعا ً والمصيبة لهم كلهم :
لبنان يا مصر مصر ٌ في مطامحه كما علمت ومصر ٌ في مفاخره
هل كان قلبك إلا في جوانحه أو كان دمعك إلا في محاجره
أو كان منبت مصر غير منبتيه أو كان شاعر مصر غير شاعره
وقد يرى أن هنالك روابط تربط بين أبناء الأمة العربية وهي وحدة الأصل والتاريخ المشترك ووحدة اللغة وأصالة الشعور العربي في الألم والأمل المشترك .
يقول مخاطبا ً فلسطين :
نحن يا أخت على العهد الذي قد رضعناه من المهد كلانا
ويقول في وحدة اللغة :
ركنان للضاد لم تفصم عرى لهما هم نحن إن رزنت يوما ونحن هم
ويقول في تعاطف العرب :
إن أن أنت له بغداد وانخلعت له دمشق وراح البيت يلتطم
شعره القصصي :
اخذ الأدباء من مطلع القرن هذا يعنون بالقصة في أطرها الفنية الحديثة ويعبرون بها عن أفكارهم وعواطفهم مستوحين ذلك من الأحداث الاجتماعية والمشكلات الإنسانية أو من التاريخ .
القصة عند الأخطل الصغير : لقد كانت للأخطل الصغير محاولات في هذا المضمار , فقد نظم قصصا ً استمد أحداثها من الواقع والتاريخ ومن مطالعاته في الأدب الفرنسي , وكانت هذه القصص ذات دلالات متنوعة أبرزها أنها مطهر لتطور وسائله الفنية وإنها وسيلة لتفريغ نفسه من شجون الواقع وإنها وجه لتفتح وعيه الاجتماعي والسياسي والإنساني ...
موضوعاتها : إما اجتماعية وإما عاطفية تدور حول محور الفقر ودور المال في المجتمعات الاستغلالية .
والمال يخلق التفاوت الاجتماعي , وهو يدفع أشخاص قصصه إلى الهجرة والى السقوط في هاوية الرذيلة . حيث يكون الموت , موت الكرامة الإنسانية والفضيلة بانتظار أشخاص قصصه .
أحداثها ومصادرها :
1- إن قصة الريال المزيف استوحاها من حادثة واقعية , فالأم الفقير وقد رأت ابنتها مريضة مشرفة على الموت اضطرت لتبيع شرفها لقاء ريال تبين لها فيما بعد انه مزيف فكان أن زج بها في السجن لأنها تحمل نقودا ً مزيفة والمجرم ظل طليقا ً . وابنتها غدت مشردة في الطرقات .
طلعت الشمس وهي سجينة وفتاتها ضيف على الأسواق
أما الأثيم فما تزال شباكه منصوبة لنواعس الأحداق
2- وقصة من ماسي الحرب استوحاها من حادثة واقعية حدثت 1917 بطلها متصرف لبنان وضحيتها فتاة قضت المجاعة على والديها وبقيت هي وأخ صغير لها فكان أن وقعت فريسة بين يدي متصرف لبنان الذي استغل فقرها وبؤسها وقضى على عفافها .
3- وقصته المسلول : قد يكون استوحاها من قصة حب الشاعر الفرنسي (( الفردوموسيه )) وخيبته في الحب .
وخلاصتها شاب فقير يقع بين يدي امرأة مستهترة فاقبل على الخمرة واللهو .. إلى أن لاقى المصير المحتوم السل فالموت ....
مات الفتى فأقيم في جدث مستوحش الأرجاء منفرد
كتبوا على حجراته بدم سطرا ً به عظة لذي رشد
هذا قتيل هوى ببنت هوى فإذا مررت بأختها فحد
4- وقصته عروة وعفراء استوحاها من الصحراء ومن الحب العذري حيث أحب عروة ابنة عمه وسافر ليجلب لها المهر الذي طلبه أبوها منه وهو ثمانون ناقة وحين عاد وجداها قد تزوجت لغيره
لم ينظر نظرة عميقة إلى أسباب الداء والى الحل الجذري لكل ما حصل إنما كان يرشد ويعظ ويطلب من السماء الحل والإشفاق ... وأشخاص قصصه كلهم يتلقون مصيرهم باستسلام والقبول بالقضاء المحترم ... دون ثورة وانفعال .
وكان يعطينا لأشخاص قصصه صورة داخلية من نجوى وحوار ومن تعليق مباشر من الشاعر على حالة الأشخاص النفسية هذا بعد أن يعطينا صورة خارجية سريعة لهم ...
أأصون عرضي ؟ وابنتي وحياتها وعلاجها يحتاج للإنفاق
أنا إن أعف قتلتها فعلام لا تحيا بماء تعففي المهراق
رسائله الفنية : لقد كان السرد ابرز عناصر حبكته كان يسرد الحدث القصصي بأسلوب الرواية التاريخية , مع الوصف والتعليق ولم يكن يعتمد على الحوار إلا قليلا ً وكانت النجوى لديه ساذجة وأما الوصف فكانت روح الشعر تطفى عليه :
رجعت وفي يدها الريال ورأسها لحيائها متواصل الإطراق
وكأنما خطرت لها ابنتها وما تلقاه من الم الطوى المقلاق
فأصابها مثل الجنون فتمتمت: بشراك ..!! إني عدت بالترياق
أسلوبه الشعري
لئن كانت روح الأخطل الصغير معاني من الحب والجمال والرقة فان هذه الروح لم تكن معاني مجردة تدرك بالحس بل استطاع الشاعر بموهبته وقدرته الفنية أن يجسدها ألوانا ً في وسائله التعبيرية فجاءت تحمل طابع روحه بارزا ً متميزا ً عن غيره من شعراء عصره واضحة على طريق تطور الشعر العربي المعاصر .
بين التأثير والتكوين : تعرضت موهبة الأخطل الصغير لمؤثرات اجتماعية وثقافية وفنية متعددة تركت جميعها تأثيرات عميقة في أسلوب وأسهمت في تكوين طابعه المميز .
فمن حيث المؤثرات الاجتماعية تأثر بالصحافة وبألفاظها وتراكيبها لقد سيطر على قلمه قاموس اللغة الصحفية وأسلوبها الإنشائي على أن هذا التأثير يخف مع الزمن فتبقى أثار اللغة الصحفية أطيافها , وأثرت عليه مجالس الأنس والمتعة فأعطت لشعره ألفاظا ً رقيقة وكذلك جعلت صوره ومعانيه رقيقة خفيفة . فالضحك والابتسام والغناء والهمسات .. كل ذلك في وجه شعره برقة وعذرية :
يبكي ويضحك لا حزنا ً ولا فرحا ً كعاشق خط سطرا ً في الهوى ومحا
ومن حيث المؤثرات الثقافية , فقد قرأ تراث الأدب العربي والأدب الفرنسي وتأثر بهما .
أسلوبه الشعري :
يبدو أن الأخطل الصغير متأثر بمزيج من الكلاسيكية والرومانسية , وللأخطل الصغير قاموسه الشعري يختار الألفاظ بحس برهف , وتسيطر على هذا القاموس لغة الحب والجمال والبهجة بالحياة , وهي ذات رصيد عاطفي وجرس موسيقي رقيق .
يا ذابح العنقود خضب كفه بدمائه بوركت من سفاح
أنا لا أشيع بالدموع حبابتي لكن ألف جناحها بجناحي
وهو يحرص على فصاحة اللفظ وسلاسته ورقة جرسه .
وتركيبه : تأثرت بالكلاسيكية الجديدة والتحرر الرومانسي وبعمله الصحفي , فهو على الغالب يصوغ التركيب صياغة جميلة يقيم فيها علاقات مجازية بين الألفاظ تجعل التركيب شريطا ً من الصور الشعرية الموقعة توقيعا ً موسيقيا ً .
وأبو الربى صنين قام كشمعة بيضاء تمعن في السحاب وترتقي
على أن تراكيبه في بعض المواقع قد تتهافت وتجنح للنثرية :
يمشي وما هو إن دنا حتى رأى في كوخه المحبوب سحب دخان
فقد آخر إن الزائدة بعد ما النافية .. وقد يقدم الصفة المعرفة على الموصوف المعرفة على غير المألوف :
تتضاحك الزهر النجوم لادمعي في جيدها فإخالها حسادي
وصوره الشعرية : وقد استطاع بخياله الخصب أن يرسم صورا ً شعرية موحية وصنع بها شعره وخلع على أسلوبه روعة وخفة وجمالا ً . وتأتي صوره من رؤية الواقع رؤية شعرية . وكانت الصور البيانية أهم أدواته في رسم هذه الصور :
والغصن في حضن الرياض وسادة نمت على عنقين من تفاح
ويستخدم الاستعارة كثيرا ً :
قتل الورد نفسه حسدا ً منك وألقى دماه في وجنتيك
والفراشات ملت الزهر كما حدثتها الانسام عن شفتيك
ويستعمل التشابيه :
شكت فقرها فبكت لؤلؤا ً تساقط من جفنها وانتشر
الأوزان والقوافي : استخدم الأوزان العروضية بشكلها التقليدي واثر منها البحور ذات الإيقاع الخفيف : كالرمل والخفيف والكامل . وقد استعمل الأوزان بشكلها العمودي حينا ً وفي شكل الموشحات حينا ً آخر , وكانت قوافيه على الغالب مطمئنة مرتبطة بالمعاني والتراكيب بالروابط التقليدية .
6 ـ خليل مطران 1872-1949م:
أ- حياته:
في أسرة عربية عريقة من أسر بعلبك في لبنان وُلد خليل عبده مطران لأب مسيحي كاثوليكي. ولم تكن أمه "ملكة الصباغ" لبنانية الأصل؛ بل كانت فلسطينية، هاجر أبوها إلى لبنان فرارًا من اضطهاد الحاكم العثماني له في بلده، واتخذها وطنًا. وعنها ورث ابنها الشعر إذ كانت أمها شاعرة، أما هي فكانت حصيفة راجحة العقل، وظل يستشعر لها إلى آخر حياته حنانًا وحبًّا عميقًا، مما يدل على أثرها العميق في تكوين شخصيته. وإذا كان قد ورث الشعر عن أمه، فقد ورث عن آبائه بغض الظلم والوقوف في وجه الجبارين.
ولما رأى فيه أبوه مخايل الذكاء اهتم بتعليمه، فأرسله إلى الكلية الشرقية بزحلة، ولا يزال اسمه منقوشًا على أحد مقاعدها إلى اليوم. ولما أتم دروسها ألحقه أبوه بالمدرسة البطريركية للروم الكاثوليك في بيروت، وفيها نهل اللغة العربية على أديب عصره إبراهيم اليازجي، وفي ديوانه مرثية له أشاد فيها به إشادة رائعة، افتتحها بقوله:
رب البيان وسيد القلم ... وفَّيْت قسطك للعلا فنم
وفي هذه المدرسة حذق الفرنسية على معلم فرنسي. ولم يكد يتم دروسه فيها حتى أظهر موهبة غير عادية في نظم الشعر وصوغه، وكانت نفسه أُشربت حب الحرية، فأخذ يتغنى بشعر ضد العثمانيين الذين كانوا يحكمون وطنه حكمًا جائرًا، وكان يخرج مع بعض رفاقه إلى مشارف بيروت، وينشدون نشيد المارسيلييز الفرنسي، ينفِّسون بما فيه من حب للحرية عن أمانيهم القومية. ويقال: إن أعوان الحاكم العثماني رموا فراشه بالرصاص في بعض الليالي، ومن حسن حظه وحظ الأدب أن كان غائبًا، فلم يصبه سوء، إلا أن ذلك دفع أهله إلى أن يرسلوه إلى باريس، حتى لا يغاضبهم الحاكم، وحتى يكفوا ابنهم شر نقمته.
فنزل باريس في سنة 1890، وعكف فيها على دراسة الآداب الفرنسية، واتصل هناك بفريق من جماعة تركيا الفتاة، وهم من حزب تألف في تركيا لمناهضة خليفتها عبد الحميد وسياسته الفاسدة. وخشي على نفسه بعد هذا الاتصال من الرجوع إلى بلاده، ففكر في النزوح إلى أمريكا الجنوبية متأسيًا ببعض من كان يهاجر إليها من مواطنيه، وتعلم لذلك الإسبانية، إلا أنه لم يلبث أن عزم على الهجرة إلى مصر، فنزلها في سنة 1892، وكانت حينئذ ملجأ الأحرار من البلاد العربية، ينزلون بها فرارًا من العثمانين وبطشهم.
ومن هذا التاريخ تبنته مصر، واحتضنته، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في سنة 1949. وبدأ حياته فيها صحفيًّا بجريدة الأهرام، ولم يلبث في سنة 1900 أن أنشأ لنفسه مجلة مستقلة هي "المجلة المصرية"، ثم حولها يومية وسماها "الجوائب المصرية"؛ لكنه لم يلقَ النجاح الذي كان ينشده، فأكب على الأعمال التجارية، إلا أنه خسر كل ماله في بعض المضاربات، وأظلمت الدنيا في عينه، ومدت مصر الحانية عليه يدها إليه، فعُين في الجمعية الزراعية الخديوية، وأخذ يسهم في المجال الاقتصادي بأبحاث دقيقة، كما أسهم من قبل في المجال الصحفي، وجعله ذلك يتصل مباشرة بأحداث مصر المختلفة من اقتصادية وسياسية واجتماعية، فكان صوته يدوِّي في هذه الأحداث.
وتدل دلائل مختلفة على أن ثقافته بالآداب الفرنسية كانت واسعة، ولم يقف بها عند التأثير في شعره، فقد طمح إلى النهوض بالمسرح المصري، وترجم لذلك عطيل وهملت وماكبث وتاجر البندقية لشكسبير. ولعل ذلك ما جعل أولي الأمر يسندون إليه إدارة الفرقة القومية منذ سنة 1935 حتى ينهض بمسرحنا، وأدَّى في ذلك خدمات جُلَّى.
وأحيل إلى التقاعد، ولكن ظلت مصر ترمقه، وأقامت له في سنة 1947 مهرجانًا أدبيًّا في دار الأوبرا تكريمًا له ولشعره، وما أدى لوطنه الثاني، بل وطنه الحقيقي من أعمال وآثار، وجُمعت القصائد والخطب التي قيلت في تكريمه ونُشرت في مجلد ضخم؛ اعترافًا بفضله، وما أدى لمصر والعرب من روحه وعقله.
شعره:
يجري في شعر خليل مطران كما يجري في شعر شوقي تياران من القديم العربي والجديد الغربي، وهما إن كانا يتفقان في هذه الظاهرة العامة فإنها يختلفان بعد ذلك في كل شيء؛ ذلك لأن خليل مطران لا يسرف على نفسه في الصب على القوالب القديمة، فقد كان شوقي وخاصة قبل منفاه يبدو شاعرًا تقليديًّا، فهو يُعْنَى أشد ما يعنى بمعارضة الأقدمين، وهو يصرح بذلك ولا يخفيه كما كان يصنع سلفه البارودي.
أما خليل مطران فلم يلجأ إلى المعارضة والاحتذاء التام على قصائد العباسيين وغيرهم في الوزن والرَّوِيِّ، بل كان يكتفي باللفظ الفصيح والمفردات السليمة من كل شائق في العربية ورائق؛ ومعنى ذلك أنه يحتفظ بشخصيته إزاء القدماء بأكثر مما يحتفظ شوقي، هو يأخذ منهم المادة، ولكنه يدخلها إلى مخيلته ليحملها أفكاره ومعانيه. ومن ثم لا يبدو التقليد واضحًا عنده؛ بل لقد اندفع إلى التجديد حتى في الصياغة والأسلوب، فلم يعد همه التمسك بأهداب القدماء لا في معانيهم ولا في تشبيهاتهم واستعاراتهم؛ بل همه التعبير عما في نفسه تعبيرًا حرًّا مستقيمًا لا تحجبه تراكيب قديمة ولا أصداف خيال قديمة.
ومع ذلك تقرأ فيه فتشعر شعورًا واضحًا بأن صورة الشعر العربي لم تتغير؛ لأنه يحتفظ بالأصول المسبوقة مع التحرر منها، فهو يتابع في الظاهر والخارج، أما في الباطن والداخل فإنه يجدد ويخالف ويعبر عما في نفسه تعبيرًا كاملًا، يصور فيه معانيه العقلية والنفسية، وشرح ذلك أجمل شرح في مقدمته لديوانه؛ إذ يقول : "شرعت أنظم الشعر لترضية نفسي حيث أتخلى أو لتربية قومي عند وقوع الحوادث الجلى، متابعًا عرب الجاهلية في مجاراة الضمير على هواه ومراعاة الوجدان على مشتهاه، موافقًا زماني فيما يقتضيه من الجرأة على الألفاظ والتراكيب، لا أخشى استخدامها أحيانًا على غير المألوف من الاستعارات والمطروق من الأساليب، ذلك مع الاحتفاظ جهدي بأصول اللغة وعدم التفريط في شيء منها إلا ما فاتني علمه، ولم أكن مبتكرًا فيما صنعت، فقد فعل فصحاء العرب قبلي ما لا يُقاس إليه فعلي، فإنهم توسعوا في مذاهب البيان توسع الرشد والحزم".
فهو يعلن أنه يفك نفسه وشعره من القوالب الجامدة ويعود إلى الفطرة والسليقة، وحسبه أنه تمثَّل مادة اللغة العربية، وأنه لا يخرج على أصولها. وهو بذلك يسير خطوة إلى الإمام في الدرب الذي سلكه البارودي وشوقي؛ فقد كانا حريصين على القوالب القديمة وما يتصل بها من تشبيهات واستعارات، أما هو فيرى من الواجب التخلص تمامًا من هذه القوالب والاكتفاء بالإطار بالعام، ولكن لا تظن أنه تخلص وتحرَّر إلى آخر الشوط، فقد كان يصنع ذلك في توازن بارع؛ إذ احتفظ لشعره بالأوزان القديمة ولم يخرج عنها إلا إلى المزدوج والموشح والدوبيت، وكل ذلك عرفه القدماء. وهو كذلك في ألفاظه احتفظ فيها بالجزالة والرصانة اللتين احتفظ بهما البارودي وشوقي؛ لذلك لا نكون مبالغين إذا وضعناه في هذه المدرسة المصرية التي كان يقوم شعرها على البعث والإحياء، وإن كان يبدو أكثر من أفرادها تحررًا، ولكن مما لا شك فيه أنه عاش على نفس المائدة التي بسطها البارودي للشعراء من بعده.
وقد يكون من أهم ما يوضح ذلك عند مطران كثرة نظمه في التهاني والأعراس والمواليد مما يندمج في الشعر العربي القديم، ومما يظهر في دواوينه على شكل رُقع غريبة عن ذوق العصر. ولعل الذي دفعه إلى ذلك ما فُطر عليه من رقة وشعور مرهف وميل متأصل في نفسه إلى مجاملة الناس من حوله؛ ولذلك لا نعجب إذا وجدنا باب الرثاء في ديوانه أكثر الأبواب التي شغلته وهو باب قديم، ومن المحقق أنه لا يبرز فيه على شوقي وحافظ؛ بل إنهما يتفوقان عليه فيه تفوقًا ظاهرًا .
على كل حال، لم ينفصل مطران عن القديم؛ بل له عنده ظواهر مختلفة؛ إذ يجري في شعره، ولكنه لا يجري منفردًا؛ بل يجري معه تيار جديد صب في شعره من الغرب وآدابه، وكان يحس هذا التيار إحساسًا عميقًا، وهو الذي دفعه للاحتفاظ بشخصيته، فلم يفنَ في القديم، بل مضى يجدد على ألوان شتى .
وكان من أهم ما اتجه إليه في تجديده أن يعبر تعبيرًا مستقيمًا عن أحاسيسه غير متكلف لتشبيهات القدماء واستعاراتهم على نحو ما يصنع شوقي، وبذلك أحلَّ الشعورَ الدقيق محل الخيال، وأعطى لشعره فسحة واسعة من الابتكار في المعاني والأفكار.
وتبع ذلك أن القصيدة عنده أصبحت تعبيرًا نفسيًّا متكاملًا، وبعبارة أخرى: أصبحت عملًا ذاتيًّا تامًّا، فتجلت فيها الوَحْدَة الفنية، وأصبحت في مجموعها تعالج موضوعًا واحدًا؛ إذ لم يعد يسلك إلى موضوعاته الأدبية مقدمات القدماء، ولم يعد ينهج نهجهم في بعثرة موضوعات مختلفة في القصيدة الواحدة؛ بل القصيدة تقف عند تجربة نفسية خاصة، والشاعر يصوغها في أبيات متعاقبة، كل بيت فيها جزء في التجربة، فلا نبو ولا شذوذ ولا تفكك بين الأبيات؛ وإنما الالتحام والاتساق؛ إذ هي خيوط في نسيج واحد أُحْكمت صياغته إحكامًا دقيقًا.
ومطران إنما يستمد في ذلك من نموذج القصيدة الغنائية عند الغربيين؛ إذ تصل بين الأبيات فيها وَحْدَة عضوية تامة. وليس هذا كل ما جاءه من الاتصال الأدبي والذهني بالغرب، فقد شعر مثل أدبائهم -وخاصة عند أصحاب الرومانسية منهم- بآلام النفس البشرية، وتغنَّى هذه الآلام غناء مليئًا بالحزن والشجَى، وتمثِّل ذلك قصيدته "الأسد الباكي" وكذلك قصيدته "في تشييع جنازة" وهي جنازة عاشق انتحر يأسًا من عشقه، كما تمثله قصيدة "الجنين الشهيد" الذي صور فيها حزن فتاة أغواها شاب ثم رماها في الطريق.
وهذا الجانب عند مطران يفوح على قارئه بشذى وجداني ينفذ إلى قلبه وأعماقه، وهو يمد عين بصيرته فيه إلى عناصر الطبيعة على نحو ما يصنع شعراء الغرب، فإذا هو يحيلها كائنات حية، تنعكس عليها أحزانه وآلامه وحبه وعواطفه ونوازعه. ومن أروع ما يصور ذلك كله عنده قصيدة المساء التي يستهلها بقوله:
داء ألم فخلت فيه شفائي ... من صبوتي فتضاعفت بُرَحائي
وهو يذكر لنا في مفتتحها أنه كان مريضًا مرضين: مرض الحب والقلب، ومرض الجسد. وأشار عليه أصدقاؤه أن يعزِّي نفسه بالذَّهاب إلى الإسكندرية، وهناك عاوده المرضان، فبث شكواه ومزَج الطبيعة معه في هذه الشكوى، فإذا كل ما فيها صورة من جروحه:
ثاوٍ على صخر أصم وليت لي ... قلبًا كهذي الصخرة الصماء
ينتابها موج كموج مكارهي ... ويفتها كالسقم في أعضائي
والبحر خفَّاق الجوانب ضائق ... كمدًا كصدري ساعة الإمساء
تغشى البرية كدرة وكأنها ... صعدت إلى عيني من أحشائي
وهي قصيدة باهرة، وبها كل طوابع الجديد عند خليل مطران، فهي تجربة شعورية كاملة، صب فيها نفسه المليئة بالأوجاع والآلام، ولم يصبها فقط؛ بل صب أيضًا عناصر الطبيعة من حوله بعد أن أودعها نفس القروح والأوصاب. وتحتل الطبيعة في شعر مطران حيزًا واضحًا، ومن أجمل قصائده "وردة ماتت" و"النوارة أو زهرة المارغريت" و"بنفسجة في عروة" و"نرجسة " و"من غريب إلى عصفورة مغتربة"، وهو فيها جميعًا يبتكر في المعاني، فيحلل الأحاسيس، ويأتي بأخيلة جديدة، ويطوف بك في خواطر وخلجات إنسانية حزينة.
وليس هذا كل ما جاء به في شعره من تأثيرات غربية، فقد حاكى الغربيين في اتجاه جديد لم تكن تعرفه العربية، ولا نقصد اتجاه الشعر التمثيلي الذي جاء به شوقي، إنما نقصد اتجاهًا آخر هو الاتجاه القصصي، وليس قصص الحيوان الذي نجده عند شوقي، وإنما القصص الدرامي الذي يتصل بالحياة الإنسانية، وله فيه طرائف بديعة يستمدها من الحياة اليومية؛ كقصة "الجنين الشهيد" التي أشرنا إليها، ومثلها "الطفلان" وهي قصة طفلة ثرية عشقت طفلًا فقيرًا، وظلت تذكره إلى الممات، و"فنجان قهوة" وهي قصة ابنة أمير عشقت حارس أبيها.
وخليل مطران يسوق هذه القصص في أسلوب درامي لا عهد للعربية به، ولا يقف بهذا الأسلوب عند الحوادث اليومية أو الخيالية؛ بل يوسعه ويدخل فيه بعض حوادث التاريخ؛ كالحرب بين فرنسا وألمانيا من سنة 1806 إلى سنة 1870 وهي من بواكير شعره، فكأن هذا المنزع صحبه منذ تيقظت فيه مواهبه. وكتب بعد ذلك قصيدة "مقتل بزرجمهر" و"فتاة الجبل الأسود" و"نيرون" ولا تلفتنا في هذه القصائد النزعة القصصية أو الدرامية وحدها؛ بل تلفتنا أيضًا نزعة رمزية فيها، فقد كتبها ليصور حياة الشعوب العربية المظلومة التي يظلمها المستعمرون وحكامها الجائرون، فهو يعرض للطغاة وغدرهم بالشعوب، ونراه يدعو دعوة حارة إلى الحرية والكرامة القومية ويستشير الحمية في الأمم الغربية من مثل قوله في قصيدة "نيرون" محرِّق روما المشهور، وقد امتدت إلى أكثر من ثلاثمائة بيت:
من يلم "نَيْرُون" إني لائم ... أمَّة لو كهرته ارتد كهرا
أمة لو ناهضته ساعة ... لانتهى عنها وشيكا واثبجرَّا"
كل قوم خالقو نيرونهم ... قيصر قيل له أم قيل كسرى
ومن هذا الشعر الرمزي قصيدته "شيخ أثينا"، وفيها يصف استيلاء الرومان على أثينا، وكأنه يحذر المصريين من مغبة الاحتلال الإنجليزي. ومثلها قصيدته "السور الكبير في الصين"، وفيها يستثير عزائم المصريين ضد الإنجليز المستعمرين في أثناء محاورة طريفة.
وشارك حافظًا وشوقي في كثير من الأحداث السياسية والاجتماعية، وتبع شوقي ينظم في الآثار المصرية القديمة، وتعظيم الفراعنة والإشادة بأمجادهم، ومن أجمل قصائده في ذلك قصيدته "في ظل تمثال رمسيس" وهي من بدائعه، وفيها يقول:
تاريخ مصر ورمسيس فريدته ... عِقدٌ من الدر منظوم بعقيان1
ولوطنه الأول "لبنان" شعر كثير في دواوينه يدل على شدة تعلقه به، وكان كثيرًا ما يزوره، وأروع قصائده فيه "قلعة بعلبك"، وهو يستهلها بذكرياته السعيدة في الطفولة والشباب، ثم يصف آثارها الفينيقية وصفًا بارعًا. والحق أنه كان شاعرًا ممتازًا من شعراء النهضة الذين بثوا في الشعر العربي الحديث روح العصر، متأثرين بالآداب الغربية مع دعمهم لوَحْدَة القصيدة، ومع الاحتفاظ الشديد بمقومات شعرنا الأصيلة من الجزالة والقوة والمتانة .
7 ـ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:
أ- حياته:
في أسرة مغربية الأصل وُلد عبد الرحمن شكري لأب يُسمى محمد شكري عياد، كان في أيام الثورة العرابية يشتغل معاونًا في "الضابطية" بالإسكندرية، فاتصل برجال هذه الثورة وعلى رأسهم عبد الله نديم، ولم يلبث أن انضم إليهم ، وعمل تحت لوائهم. ولما أخفقت الثورة سُجن مع من سجنوا من الثائرين، ثم عُفي عنه، وظل بدون عمل مدة، ثم عُين ضابطًا في معاونة محافظة القنال ببورسعيد، ومكث في هذه الوظيفة بقية حياته. ورُزق بابنه في هذه البلدة سنة 1886، وتصادف أن مات كل أبنائه الذين يكبرونه، فاهتم به اهتمامًا خاصًّا، وعلق عليه أمانيَّ واسعة. فألحقه أولًا "بالكُتَّاب"، ثم نقله إلى المدرسة الابتدائية، فالمدرسة الثانوية، وتخرج فيها سنة 1904.
وكانت في هذا الأب نزعة أدبية، ولعل هذه النزعة هي التي عقدت الصلة بينه وبين أديب الثورة العرابية عبد الله نديم؛ بل يقال: إنه كان من أدباء هذه الثورة. وكان النديم كثيرًا ما ينزل عليه ضيفًا بعد صدور العفو عنه، كما كان ينزل عليه بعض أدباء العصر مثل الشيخ حمزة فتح الله. وكان يصل ابنه بالرجلين، كما كان يتعجل إيقاظ مواهبه بما يعرض عليه من كتابات العصر ومؤلفاته، وخاصة كتاب "الوسيلة الأدبية" للشيخ المرصفي. وكان في مكتبته ديوان ابن الفارض وديوان البهاء زهير، فعكف عبد الرحمن على هذا كله، ولم تلبث مخايل نبوغه أن تراءت لأستاذه في العربية الشيخ عبد الحكيم، وهو لا يزال في المدرسة الثانوية، فكان يشجعه ويُعجب بما يكتب وينظم والتحق بمدرسة الحقوق، ولكنه لم يلبث أن فُصل منها بسبب تحريضه الطلاب على الإضراب استجابة لزعماء الحزب الوطني. فترك التشريع ودراسة القانون، واتجه إلى دراسة الآداب التي كانت تتفق وميوله، وتحقيقًا لهذه الغاية التحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج فيها سنة 1909. وقد التزم فيها الدرس الصارم للأدبين العربي والغربي، وكان أكثر ما يعجبه من الأدب الأول كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وديوان الحماسة لأبي تمام، وديواني الشريف الرضي ومهيار، فاقبل يعبُّ منها جميعًا، أما الأدب الغربي فوجد بغيته منه في كتاب "الذخيرة الذهبية" الذي وُزِّع عليهم في مدرسة المعلمين، وهو يضم أروع ما لشعراء الإنجليز من شعر غنائي.
وفي هذه الأثناء كان يكتب في صحيفة الجريدة التي يحررها لطفي السيد بعض ما ينشئه من مقالات ومن أشعار، وهي الجريدة التي كانت تحمل راية التجديد حينئذ، وكان يُقبل على الكتابة فيها شباب الأدباء من مثل: محمد حسين هيكل وطه حسين. ومقالاته فيها تدل على أنه يفهم الشعر في ضوء آراء النقاد الغربيين، فهو يكتب عن عَلاقة الشعر بالفنون ونحو ذلك من موضوعات كانت تُعد حينئذ جديدة؛ بل بدعًا جديدًا.
ونراه في سنة 1909 ينشر أول ديوان له، ويسميه "ضوء الفجر". ثم يذهب في بعثة إلى إنجلترا، ويعود من البعثة سنة 1912، ويعين في مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية. وينشر الجزء الثاني من ديوانه، ويقدِّم له العقاد مقدمة رائعة سبق أن تحدثنا عنها في فصل "الشعر وتطوره". وتتعاقب أجزاء الديوان التي بلغت سبعة، وقد ظهر الأخير منها في سنة 1919.
ويتقلب في وظائف وزارة التربية والتعليم بين النظارة والتفتيش، ولا نراه يخرج ديوانًا بعد هذا التاريخ؛ بل يكتفي بما ينشره من قصائد ومقالات في مجلات المقتطف والرسالة والثقافة والهلال، وفي صحيفتي الأهرام والمقطم. وأحيل إلى المعاش سنة 1944؛ ولكن شعلة النشاط لم تخمد في نفسه، فقد ظل يكتب في هذه الصحف والمجلات، واختار بورسعيد -مسقط رأسه- ليمضي فيها بقية حياته، ثم تركها إلى الإسكندرية، وفيها لبَّى داعي ربه في 15 من ديسمير سنة 1958.
ب- شعره:
شعر شكري تعبير واضح عن التقاء العقلين: المصري العربي، والغربي الإنجليزي وغير الإنجليزي، وقد كان الشعراء قبله -ونقصد شعراء النهضة- يتصلون أكثر ما يتصلون بالأدب الفرنسي، أما هو فأكثر صلته بالأدب الإنجليزي.
وأخذ نفسه -منذ أن كان طالبًا في مدرسة المعلمين- بالتعمق في هذا الأدب وبالقراءة الواسعة في الأدب العربي. وتصادف أن قرأ مختارات "الذخيرة الذهبية" فرأى فيها نموذجًا جديدًا لشعر غنائي يخالف الصورة التقليدية للشعر العربي، فليس فيه مديح ولا هجاء، وإنما فيه التعبير الواسع عن العاطفة والتأمل الواسع في آمال البشرية وآلامها وكل ما يتصل بالحياة والطبيعة من أفكار وأنغام.
واستقرت هذه الصورة في نفسه، فلم يعد يعجب بشعرنا التقليدي في أبوابه الكبيرة المعروفة وخاصة باب المديح. وتصادف أن اطلع على كتاب "الأغاني" و"ديوان الحماسة" لأبي تمام فأعجب بما فيهما من غزل وجداني لا تصنع فيه ولا تكلف، واطلع على ديواني الشريف الرضي ومهيار، فوجد فيهما نفس الغزل الطبيعي الذي يشف عن قلب صاحبه، دون أي حجاب كثيف من طباق وجناس وغير ذلك من ضروب البديع.
حينئذ نزعت به نفسه أن يدخل الشعر من هذا الباب ومن الأبواب الواسعة التي فتحها أمامه شعراء كتاب "الذخيرة الذهبية". وديوانه الأول الذي نشره عقب تخرجه من مدرسة المعلمين وسماه "ضوء الفجر" يصور خير تصوير هذا الاتجاه، الذي كان يعد ثورة في أوائل القرن.
والديوان يخلو خلوًّا تامًّا من المديح، وفيه رثاء لزعماء الإصلاح الذين لبوا نداء ربهم؛ وهم: الشيخ محمد عبده ومصطفى كامل وقاسم أمين، وهو رثاء من نوع جديد، يقتصر فيه الشاعر على التفكير في الحياة والموت، ولا نراه يصور حزن الشعب المصري كما صوره حافظ مثلًا في رثائه لهؤلاء الأعلام، فهو مشغول بنفسه وبخواطره الذاتية.
إنه شاعر وجداني ذاتي بالمعنى الكامل الذي يفهمه الغربيون عن الشاعر الغنائي، فالشعر نسيج نفسه وليس نسيج الأحداث السياسية والعواطف القومية، ومن أجل ذلك كان أكثر النغم في الديوان نغم الحب، وهو حب محروم، فيه يأس وشجى. ووراء هذا الحب تصوير واسع للنفس البشرية وأحاسيسها إزاء الكون والطبيعة، وهي أنغام استمدها مما قرأه في الشعر الإنجليزي، وقد طُبعت عنده كما طبعت عند أصحاب المنزع الرومانسي بالحزن والتشاؤم، فهي تذيع أنات الشاعر ويأسه القاتل، حتى ليقول في قصيدة بعنوان "شكوى الزمان":
لقد لفظتني رحمة الله يافعًا ... فصرت كأني في الثمانين من عمري
وفي آخر الديوان قصيدة طويلة من الشعر المرسل الذي يتحرر فيه الشاعر من القافية على نمط ما هو معروف عن شكسبير وغيره من شعراء الغرب، وفيها يصور أحزانه ومطامحه إلى حياة أكمل من هذه الحياة.
ويُرْسَل شكري في بعثة إلى إنجلترا، فتتسع معرفته بالأدب الإنجليزي، ولا يقف بقراءاته عند هذا الأدب؛ بل يأخذ نفسه منذ هذا التاريخ بقراءة آداب الأمم الغربية المختلفة من فرنسية وألمانية وغير فرنسية وألمانية.
ويعود إلى مصر، فتشتد الصلة بينه وبين شاعرين من طرازه وذوقه في فهم الشعر وما ينبغي أن يكون عليه في ضوء الأدب الإنجليزي وغيره من الآداب الغربية؛ وهما: إبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد، ويؤلفون معًا هذا الجيل الجديد الذي ثار على شعرنا القديم كما ثار على شعر شوقي وغيره ممن كانوا يضطربون بين التقليد والتجديد.
ويأخذ شكري في إخراج دواوينه واحدًا تلو الآخر، وتارة يقدم لما يخرج من دواوين، وتارة يقدم له العقاد مما وصفناه في غير هذا الموضع. وألف قصة سماها قصة الحلاق المجنون، وفيها ما يدل على تأثره بالآداب الروسية حينئذ، كما ألف "الاعترافات" وفيها تأثر واضح بما قرأه في الآداب الفرنسية من اعترافات "جان جاك روسو" و"شاتوبريان" وإن لم يجعلها على لسانه فقد نسبها إلى شخص رمز إليه بالحرفين م. ن. وهي اعترافات رائعة؛ إذ كلها تحليلات وتأملات، وقد وصف فيها الشباب المصري بأنه "عظيم الأمل؛ ولكنه عظيم اليأس، وكل منهما في نفسه عميق مثل الأبد".
وشكري بمثل هذا الاعتراف يضع في يدنا مفتاح هذا التشاؤم وهذا الضيق والتبرم اللذين وقَّعتْ مدرسته شعرها على أوتارهما، فقد كان يجثم الاحتلال الإنجليزي على صدر وادي النيل، ولم يكن الشباب المصري حينئذ مبتهجًا؛ بل كان حزينًا حزنًا شديدًا؛ إذ كان يعاني أزمة الحياة، وكان لا يستطيع تحقيق آماله؛ بل كان يرتد دائما عن تحقيقها بائسًا يائسًا. ومن هنا أصبح قرار النغم عنده قاتمًا، فالحياة قاتمة من حوله، ولا يستطيع شاب أن ينال منها غير الضنى والحزن والمرارة.
وهذا هو طابع شعر شكري في جميع دواوينه، وهو طابع حزين لا يستمد فيه من شعر المنزع الرومانسي فحسب؛ بل يستمد فيه من حقائق بيئته وحقائق حياته وحياة الشباب المصري من حوله. ولعل ذلك ما جعله يردد الحديث كثيرًا عن الموت، وهو يفتتح الجزء الثالث بقصيدتين عنوانهما على التوالي: "الحب والموت" و"بين الحياة والموت". ومن قوله في أولاهما:
وما الدهر إلا البحر والموت عاصف ... عليه وأعمار الأنام سفين
وفي نفس الديوان قصيدة بعنوان "الأزاهير السود"؛ إذ تتراءى له كل أزهار الحياة أزهار ضنك وشقاء، ونراه يرثي نفسه في هذا الديوان بقصيدة عنوانها "شاعر يحتضر" يستهلها بقوله:
أألقي الموت لم أنبه بشعري ... ولم يعلم سواد الناس أمري
وفي نفسي من الأبد اتساع ... تدور الكائنات بها وتجري
وأكثر أشعاره في دواوينه من هذا الضرب القاتم الحزين، ونراه يُلقي بظلال حزنه على مشاهد الطبيعة من حوله، ومن قصائده الرائعة في ذلك قصيدته في الجزء الخامس "إلى الريح"، وفيها يقول:
يا ريح أي زئير فيك يفزعني ... كما يروع زئير الفاتك الضاري
يا ريح أي أنين حن سامعه ... فهل بُليت بفقد الصحب والجار
يا ريح ما لك بين الخلق موحشة ... مثل الغريب غريب الأهل والدار
أم أنت ثكلى أصاب الموت واحدها ... تظل تبغي يد الأقدار بالثار
واستلهم في هذه القصيدة قصيدة "أغنية الريح الغربية" للشاعر الإنجليزي الرومانسي شللي؛ ولكنه لم يَسْطُ على معانيه؛ بل اهتدى من بعيد على ضيائه إلى هذه الأنغام العربية الشجية، وكان على هذا النحو دائمًا يستضيء بالنماذج الغربية؛ ولكن لا ينقلها نقلًا في أساليبه العربية، وإنما يكتفي بالإلهام من بعيد، ثم يغني عواطفه وشجونه في شعره. وفي دواوينه أمثلة مختلفة من ذلك، ومن أوضحها قصيدته "نابليون والساحر المصري" في الجزء الثاني، وقد استلهم فيها قصيدة الشاعر "The Bard" لتوامس جراي، وهي كقصيدة "الريح الغربية" من قصائد "الذخيرة الذهبية".
ودائمًا يتردد النغم الحزين في شعره، وصوَّر ذلك في اعترافاته -كما قدمنا- إذ قال عن الشباب المصري: إنه يتقاذفه الأمل واليأس؛ ولكن اليأس كان أشد عنفًا به؛ إذ ينفذ إلينا من أكثر قصائده.
وطبيعي أن يدفعه تفكيره في الحياة وبؤسها إلى تفكير واسع في عالم الكون والغيب وأحواله، وناموس الحياة ووجودها المطلق وحقائقها الكلية. وكل ذلك يتراءى أمامه كأنه بحر بغير ضفاف، ومن خير ما يصور ذلك قصيدته في الجزء الخامس "إلى المجهول"، وهو يفتتحها بقوله:
يحوطني منك بحر لست أعرفه ... ومهمه لست أدري ما أقاصيه
أقضي حياتي بنفس لست أعرفها ... وحولي الكون لم تُدْرَك مجاليه
يا ليت لي نظرة للغيب تسعدني ... لعل فيه ضياء الحق يبديه
كأن روحي عود أنت تحكمه ... فابسط يديك وأطلق من أغانيه
ووقفة شكري أمام الكون وأسراره لا تنتهي به إلى شك ولا إلى قطع حبل الرجاء في معرفة حقائق الوجود وروحه الخالدة. وقلبه من هذه الناحية كان عامرًا بالإيمان، وتصور ذلك أوضح تصوير قصائد مختلفة مثل: "في عرفات" و"عظة الهجرة" و"يا رحمة الله التي عمت الورى"، وقصيدته في الجزء الرابع "صوت الله"، وهو يستهلها بقوله :
أنصت ففي الإنصات نجوى النفوس ... فإن صوت الله دانٍ كليم
ويقول في الجزء الخامس من قصيدته "قوة الفكر":
الفكر نور الله في الوجود ... فعمره كخُلْده المديد
وله في الجزء السابع قصيدة بعنوان "الملَك الثائر"، صوَّر فيها ملَكًا ثار على ربه؛ لما تمتلئ به الأرض من شرور، ونزل إلى الأرض يحاول الإصلاح، فهب في وجهه العصاة والتقاة، وأراد الصعود ثانية إلى الملأ الأعلى، فأغلقت أبواب السماء في وجهه عقابًا على ثورته وعصيانه لربه. وقد زعم بعض النقاد أن قصيدته "حلم البعث" في الجزء الثالث تصور تمردًا على الإيمان بالله واليوم الآخر، وهي ليست أكثر من سخرية بالناس وشرورهم التي لا تفارقهم حتى بعد موتهم.
وله منظومتان في "أبي الهول" و"هرم خوفو"؛ ولكنه لا يذهب بشعره فيهما مذهب شوقي في فرعونياته، فهو لا يعنيه الإشادة بمجد الآباء بقدر ما تعنيه نفسه وخواطره في الكون والحياة. وربما كانت قصيدته في الجزء الخامس "العبد الروماني" رمزًا لحكام الشعب الطغاة، فقد قتل العبد في القصيدة سيده الطاغية، وتغنَّى بالحرية قائلًا:
رضينا بنيرون فكنا بناره ... جديرين إن الأتقياء حُطام
وربما كانت هذه القصيدة هي التي ألهمت خليل مطران قصيدته في "نيرون". وله في الجزء السابع قصيدة تسمى "هز الأنوف" وفيها صور ملِكًا جائرًا حكم شعبه حكمًا ظالمًا، فأمر كل فرد فيه أن يهز أنفه صباح مساء، وأخيرًا ثار عليه أحد أبناء شعبه قائلًا:
إذا نحن طامنا لكل صغيرة ... فلا بد يومًا أن تساغ الكبائر
وعلى هذا النحو كان شعر شكري شعرًا جديدًا؛ بل كان حدثًا جديدًا في شعرنا المصري الحديث، إلا أن الجمهور لم يقبل عليه لسببين: أما أولهما فيرجع إلى أنه لم يكن قد بلغ من النضج العقلي ما يمكِّنه من تذوق هذا اللون الجديد من الشعر، وأما ثانيهما فيرجع إلى شكري نفسه؛ لأنه لم يستطع أن يوازن بين جديده وبين الصياغة القديمة كما وازن شعراء النهضة.
ومع ذلك فله -مع العقاد والمازني- فضل هذه المحاولة الجديدة التي أخرجت شعرنا من دوائر التقليد القديمة، وجعلته يطوف في مجالات أرحب وأوسع، من العواطف الإنسانية العامة، والتأمل في الكون والحياة البشرية تأملا فيه شره عقلي شديد إلى التفكير في كل فكر والإحساس بكل إحساس.


8 ـ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:
أ- حياته:
وُلد أحمد زكي أبو شادي في 9 من فبراير سنة 1892 بحي عابدين في القاهرة لأب كان محاميًا وخطيبًا مفوهًا، اشتهر بمواقفه الوطنية، هو محمد أبو شادي، ولأم كانت تنظم الشعر وتشدوه هي أمينة أخت الشاعر مصطفى نجيب. فالجو الذي نشأ فيه كان جوًّا أدبيًّا. وقد اختلف على شاكلة لداته إلى المدارس الابتدائية فالثانوية، وتفتحتْ فيه مبكرة مواهبه الأدبية والشعرية؛ إذ لا نصل معه إلى سن السادسة عشرة حتى نجده ينشر طائفة من شعره ونثره بعنوان: "قطرة من يراع في الأدب والاجتماع"، ولا يلبث أن يلحقها في العام التالي بقطرة ثانية، ويتبعهما بقطرتين أخريين من النثر والنظم .
وتتضح في هذه الكتب جميعًا ثقافته المنوعة بالآداب العربية والغربية وإحساسه بمشاكل قومه السياسية والاجتماعية ومشاكل الشعر العربي في المادة والشكل والمضمون. ونراه معجبًا بخليل مطران وبآراء "برادلي" أستاذ الشعر حينذاك في جامعة أوكسفورد، ويترجم بعض أشعار غربية، ويعرض لبعض الرسامين، وكأنه يضع تحت أيدينا المؤثرات التي ستظل تؤثر في روحه وفي شاعريته.
وفي إبريل من سنة 1912 أرسله أبوه إلى إنجلترا ليدرس الطب، وأتم هذه الدراسة في ديسمبر من سنة 1915، وظفر بجائزة "وب" في علم "البكتريولوجيا" أو علم الجراثيم، وظل هناك يشتغل بهذا العلم نحو سبع سنوات، وفي أثناء ذلك تيقظ اهتمامه بتربية النحل، وأسس جمعية له، وأسس بجانب الجمعية مجلة عالم النحل. وعُني بالتصوير كما عُني بالشعر، وكأنه كان هناك خلية نحل دويًّا ونشاطًا.
وقد أخذ يعمق معرفته بالأدب الإنجليزي وغيره من الآداب الغربية، وخاصة النزعة الرومانسية التي كان قد أعجب بظلالها عند خليل مطران، فعكف على شللي وكيتس وأضرابهما من شعراء الوجدان الفردي. وأتقن الإنجليزية بحيث أخذ ينظم بها، غير أنه لم ينسَ وطنه وقومه، فكان يرسل بمقالاته وأشعاره إلى الصحف المصرية. وأنشأ جمعية آداب اللغة العربية، وأخذ يجمع أبناء وطنه حوله في النادي المصري بلندن، ويتحدث معهم في شئون بلاده، وتنبهت له الشرطة هناك، فضيقت عليه تضييقًا جعله يؤثر العودة إلى وطنه ومعه زوجته الإنجليزية في ديسمبر سنة 1922.
عاد أبو شادي إلى مصر بنشاطه الجم، فلم يمضِ عليه شهران حتى أنشأ "نادي النحل المصري" الذي حيَّاه شوقي بقصيدته المعروفة "مملكة النحل". وفي إبريل من سنة 1923 تولى إدارة قسم "البكتريولوجيا" في معهد الصحة بالقاهرة. ودار العام فنُقل إلى السويس ثم إلى بورسعيد فالإسكندرية، ولم يمكث طويلًا خارج القاهرة، فقد عاد إليها في سنة 1928.
وكان في كل مكان يحل فيه يؤسس الجمعيات كجمعية رابطة مملكة النحل "والاتحاد المصري لتربية الدجاج" و"جمعية الصناعات الزراعية" و"الجمعية البكتريولوجية المصرية". وبجانب هذه الجمعيات كان ينشئ المجلات التي تخدم أهدافها مثل "مملكة النحل" و"الدجاج" و"الصناعات الزراعية.وكان في أوقات فراغه يُقبل على نظم الشعر في سرعة شديدة، فكثر إنتاجه الشعري كثرة مفرطة، وما نصل إلى سنة 1932 حتى نراه يؤلف جماعة أبولو التي تحدثنا عنها في غير هذا الموضع، والتي ظلت قائمة إلى سنة 1935، وكان لها أثر كبير في نهضتنا الشعرية حينئذ؛ إذ أسس باسمها مجلة فتحتْ صدرها للشباب وغذتهم بآداب الغرب وآراء نقاده في الشعر والشعراء. وكانت مصر في هذه الأثناء تجتاز محنتها بصدقي؛ إذ كان يحكمها بالحديد والنار تسنده حراب الإنجليز الغاشمين، فانطوى شعراؤنا على أنفسهم متغنين بشعر رومانسي حزين، ويظهر أن كوارث مالية حَفَّت بأبي شادي، فرأيناه في بعض أشعاره يفزع إلى صدقي الجائر ومليكه الطاغية، وهي سقطة يشفع فيها لأبي شادي شعره الوطني الكثير الذي ناصر فيه أحرارنا وزعماءنا الشعبيين منذ مصطفى كامل.
ونمضي مع أبي شادي إلى سنة 1935، فتنفضُّ جمعية أبولو وتحتجب مجلتها، وقد أخرج من بعدها مجلتي "الإمام" و"أدبي" ولم يكتب النجاح لهما. ويظل في القاهرة إلى أن تنشأ جامعة الإسكندرية، فيختار أستاذًا "للبكتريولوجيا" بها. وتتوفَّى زوجه، وكأنه ضاق ذرعًا بالحياة بعدها في موطنه فيرحل في سنة 1946 إلى أمريكا. وهناك عاوده نشاطه، فاشترك في الأندية الأدبية، وحرر جريدة "الهدى" العربية، وعمل في "صوت أمريكا"، وأسس "جماعة منيرفا" على غرار جماعة أبولو، ونشر ديوانه "من السماء". وما وافاه القدر سنة 1955 حتى كان قد أعد للطبع أربعة دواوين؛ هي: "من أناشيد الحياة" و"النيروز الحر" و"الإنسان الجديد" و"إيزيس".
وحياة أبي شادي على هذا النحو مكتظة بالنشاط، فقد أسس -كما رأينا- جمعيات ومجلات مختلفة، وكتب مقالات أدبية وعلمية كثيرة، بالإضافة إلى ما كان يذيعه من محاضرات في أجوائنا الأدبية وأحاديث في "صوت أمريكا". وقد نقل إلى العربية من الإنجليزية غير قصيدة ومقطوعة، كما نقل رباعيات عمر الخيام وحافظ الشيرازي. ومن مصنفاته العلمية: "تربية النحل" و"أوليات النحالة" و"الطبيب والمعمل" و"إنهاض تربية النحل في مصر" و"مملكة الدجاج" و"مملكة العذارى في النحل وتربيته". ونُشر له بعد وفاته ثلاثة كتب؛ هي: "دراسات إسلامية" و"دراسات أدبية" و"شعراء العرب المعاصرون".
شعره:
لعل عصرنا لم يعرف شاعرًا كثر إنتاجه الشعري على نحو ما عرف ذلك عند أبي شادي؛ إذ كان الشعر يتدفق على لسانه منذ نشأته تدفقًا. وأتاحت له ثقافته الواسعة بالآداب الغربية أن يطلع على أنواع الشعر هناك من قصصية وغنائية وتمثيلية، وعلى مذاهبه من واقعية ورومانسية ورمزية. ومن ثم مضى يتأثر في شعره بكل هذه الأنواع والمذاهب، وإن كنا نلاحظ غلبة المذهب الرومانسي عليه، وقد اجتمعت ظروف كثيرة دفعته إلى المعيشة الفنية فيه دفعًا؛ إذ اتصل مبكرًا بأكبر من تأثروا من شعرائنا بهذا المذهب في مطالع القرن، ونقصد خليل مطران الذي يسميه في غير قصيدة أستاذه، وهام في حداثته بفتاة تدعى زينب، غير أنها هجرته، فانسكب الألم في قلبه ومضى يتغناه إلى آخر حياته. وكان مما ضاعفه في نفسه البؤس الجاثم على وطنه؛ بسبب تسلط الإنجليز وظلمهم وطغيانهم، وأيضًا ضاعفته حملات شعواء على شعره، جاءته من عدم تأنيه في صنعه. فعاش يجتر الألم والحزن والحب المحروم، باحثًا عن عزاء له في الطبيعة والأساطير القديمة.
ومما لا شك فيه أن أبا شادي بثقافته الواسعة ومواهبه الشعرية كان معدًّا لأن يحتل منزلة رفيعة في شعرنا المعاصر غير أنه كان متعجلًا، لا يستقر عند موقف في الحياة ولا في الشعر؛ بل ينتقل من موقف إلى موقف في سرعة شديدة، وهي سرعة أصابت معانيه بالضحولة وحالت بينه وبين الافتنان في الفكر والخيال؛ ومن ثم كانت كثرة أشعاره مغسولة من كل وميض للذهن إلا ما جاء نادرًا وفي الحين بعد الحين، ولم يأته ذلك من سرعته في نظم الشعر وحدها؛ بل أتاه أيضًا من أنه وزع نفسه في اتجاهات الشعر المختلفة على شاكلة توزيعه لها في حياته العملية؛ بحيث كانت له شخصيات متعددة، فهو طبيب وهو بكتريولوجي، وهو يهتم بتربية الدجاج وبمملكة النحل، كما يهتم بتأسيس الجمعيات المختلفة وإخراج المجلات العلمية والأدبية. وهو على هذا القياس في شعره إذ حاول أن يجمع فيه بين الشعر القصصي والشعر الدرامي والشعر الرومانسي الحزين والشعر الصوفي والشعر الوعظي والشعر الفلسفي والشعر الواقعي والشعر الرمزي والشعر المرسل والشعر الحر. ولم يكتفِ بفن الشعر؛ إذ ضم له عناية بفني التصوير والموسيقى. فتعددت اتجاهاته، وكثر ما يحمله من أدوات؛ إذ كان يحمل في يد مبضعًا ومجهرًا ومجلات علمية، وفي يد قلمًا وريشة وآلة موسيقية ومجلات أدبية، وربَّة الشعر توحي إليه بين ضجيج المعامل وطنين النحل ودويه.
وأول ديوان أخرجه "أنداء الفجر" إذ نشره في الثامنة عشرة من عمره، وتتضح فيه نزعته الرومانسية المبكرة؛ إذ نراه يفسح فيه للحب والطبيعة وأصدائهما في نفسه، غير متناسٍ لمشاكلنا السياسية والاجتماعية. ولا نمضي في قراءته حتى نحس ضعف صياغته ونزارة معانيه وأخيلته؛ لسبب بسيط؛ هو أنه لا يزال ناشئًا، ولم يتمرس بعدُ بصناعة الشعر تمرسًا كافيًا.
ويرحل إلى إنجلترا، ويعود، وقد نظم كثيرًا، وما تلبث دواوينه ومنظوماته أن تتعاقب كالمطر، وكان أول ما ظهر منها ديوانه "زينب" الذي نشره في سنة 1924، وقد اختار له اسم صاحبته القديمة، فذكراها لا تفارقه، والحب والطبيعة هما محور هذا الديوان، وتلقانا فيه قوالب الموشح والدوبيت وقصيدة غزل في زينب "ص16" حاول أن يجدد بها في القوالب الشعرية، ومن خير قصائده فيه قصيدته "الحلم الصادق" التي يفتتحها بقوله:
هات لي العود وغنى ... واسمعي شجوى وأني
تطرحي الأحزان عني ... فأؤدي صلواتي
وفي السنة التالية نشر ديوانين بنفس النغم هما "أنين ورنين" و"شعر الوجدان"، ونجد فيهما مشاعر وطنية صادقة. ونشر في نفس السنة ديوانه "مصريات"، صوَّر فيه أمانيه الوطنية محركًا همم المصريين للخلاص من الإنجليز الغاشمين. ولم يلبث في سنة 1926 أن أخرج ديوانه "وطن الفراعنة"، وفيه يتغنى بأمجاد مصر وآثارها القديمة. ونراه في نفس السنة يخرج ديوانه الضخم "الشفق الباكي"، وهو يقع في أكثر من ألف صحيفة، تسبقها مقدمات وتليها دراسات في شعره. ونراه في هذا الديوان ينظم بعض الأقاصيص ويترجم عن الإنجليزية بعض الأشعار، ويذكر بين يدي بعض منظوماته أنها من الشعر المرسل، وقد تكون من الشعر الحر "ص535".
وقد علق في طائفة من أشعاره على كثير من الأخبار العالمية، وشكا من أعباء مهنته التي تعوق ميله إلى الشعر "ص197"، غير أنه عاد فاعترف بأن ملكة الملاحظة التي تعوَّد عليها في الطب أفادته في شعره، ومن ثم خص مجهره "الميكروسكوب" بقصيدة أطراه فيها، جعل عنوانها "رفيقي الكشاف".
وفي رأينا أن هذه الملكة جارت عليه أكثر مما ينبغي؛ إذ جعلته يحوِّل كل ملاحظاته إلى شعر، ونراه يحتفظ في هذا الديوان بطائفة من قصائده التي نظمها في إنجلترا؛ كقصيدته في سقوط الجليد وحديث البحر وصحبة الآلام. وعلى شاكلة دواوينه السابقة تبرز في "الشفق الباكي" أمانيه الوطنية ومشاعره القومية، سواء في بعث الذكرى لدانشوي ويوم التل الكبير، أو في تحيته لعبد الكريم بطل الريف المغربي، وتألمه لكارثة دمشق حين قذفها الفرنسيون بالمدافع سنة 1925، وقد رد على "كبلنج" الشاعر الإنجليزي الاستعماري في قولته: "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" ردًّا مفحمًا. ودائمًا نجده يرتبط بأحداثنا السياسية وكثير من المشاهد اليومية. ويحدثنا عن أعياد أسرته التذكارية. ولما توفي سعد زغلول خصه بكتيب ضمنه رثاءه له، حتى إذا كانت ذكرى الأربعين نظم فيه مرثية أخرى بعنوان "التراث الخالد".
ولا يكاد يفرغ من نشر ديوانه الكبير "الشفق الباكي" حتى يتخذ العدة لنشر ديوانه "وحي العام"، معلنًا أنه سيصدر كل عام ديوانًا بهذا العنوان على طريقة الحوليات. ونمضي معه إلى سنة 1931، فنراه يخرج ديوانه "أشعة وظلال" نازعًا عن نفس القوس التي رأيناها في الدواوين السابقة، وهو فيه كثيرًا ما يأتي بإحدى الصور لبعض الرسامين العالميين، ويحلل خواطره إزاء موضوعها، كما أنه كثيرًا ما يترجم مقطوعات ومنظومات عن بعض الشعراء الغربيين، وقد يذكر الأصل الذي نقله، ويفجؤنا أحيانًا بوضعه عنوانين لبعض قصائده: عنوانًا عربيًّا وآخر إنجليزيًّا! ولا نصل إلى سنة 1933 حتى نراه يخرج ديوانيه: "الشعلة" و"أطياف الربيع". ويقدم الحب والطبيعة والأساطير المصرية واليونانية أخصب البواعث في الديوانين جميعًا، ولا ينسى آماله الوطنية، فقد كان يحس مشاعر شعبه، ومن قصائده الجيدة في الديوان الأول "الناس"، وفيها يصور صراعهم وعدوانهم بعضهم على بعض. وتلقانا في ديوانه الثاني قصيدته "الفنان"، وفيها يصور حبه الظامئ أبدًا إلى لقاء الحبيبة، على شاكلة قوله:
أمانًا أيها الحب ... سلامًا أيها الآسي
أتيت إليك مشتفيا ... فرارًا من أذى الناس
أطِلي يا حياة الرو ... ح في عينيَّ تحييني
شرابي منكِ أضواء ... وقوتي أن تنجايني
ويخرج في سنة 1934 ديوانه "الينبوع" بنفس المادة والمضمون. ونراه فيه يشكو شكوى مرة من نقاده في قصيدته "المهزلة"، وكثيرًا ما تلقانا هذه الشكوى عنده. وفي سنة 1935 نشر ديوانه "فوق العباب" بنفس الروح ونفس الانطلاق في موضوعات الحب والطبيعة والأساطير القديمة ومشاهد الحياة. ويتكاثر غبار النقد من حوله، فيقف إنتاجه الشعري ولكن إلى حين، فقد أخرج في عام 1942 ديوانه "عودة الراعي"، ونراه لا يزال يفكر في الشعر المرسل فينظم منه بعض قصائده كما نراه يحلم بمثالية إنسانية دقيقة في "حلم الغد". وهو في هذا الديوان -كدواوينه السالفة- يحاول دائمًا إيقاظ الوعي في الشعب المصري وإثارته للحصول على حقوقه المقدسة والثورة على الحكام الفاسدين، على نحو ما نجد في قصيدته "حداد القطن"، وفيها يقول:
يا شعب قم وانشد حقو ... قك فالخنوع هو الممات
تشكو الغريب وعلة الـ ... ـشكوى الزعامات الموات
ويرحل إلى أمريكا، وينشر بها ديوانه "من السماء" سنة 1949، وفيه كثير من صور البحر والطبيعة والحياة هناك. وقد تُوفي -كما أسلفنا- وهو على أهبة إصدار أربعة دواوين.
ودفعتْ أبا شادي معرفته الدقيقة بالآداب الغربية وما رآه عند أستاذه مطران من أشعار قصصية إلى أن يقوم بمحاولات في هذا الاتجاه، وكانت أولى محاولاته "نكبة نافارين" التي نشرها في سنة 1924، وفيها خلد ذكرى القوات البحرية المصرية التي ذادت عن الخلافة العثمانية والترك في موقعة نافارين لعهد محمد علي. وقد صور فيها الأسطول المصري منذ خروجه من قواعده إلى أن حاقت به الهزيمة في صور زاخرة بالحياة، وختمها بندب سيز وستريس للقتلى وبكائهم. وفي سنة 1925 نظم قصة جديدة بعنوان "مفخرة رشيد" خلد فيها ذكرى القوات المصرية التي ردت عدوان الإنجليز الآثم عن هذه المدينة في موقعة إبريل سنة 1807. وأتبع ذلك بقصتين اجتماعيتين هما: "عبده بك" و"مها"، وهو فيهما أقل توفيقًا من الناحية القصصية والشعرية.
وعلى نحو ما عالج القصة في شعره عالج المغناة "الأوبرا"، فقد مضى منذ سنة 1927 يؤلف فيها آثارًا مختلفة، ومعروف أن المغناة لا تعتمد على الشعر والتمثيل فحسب؛ بل تعتمد أيضًا على موسيقى مركبة. وقد يكون اعتمادها على هذه الموسيقى وألحانها أكثر من اعتمادها على التمثيل والشعر. ولعل ذلك هو السبب في أن مغنياته أو "أوبراته" لم تلقَ النجاح المنشود، وكأنه أحس بما كان ينتظرها، فكتب في ذيل مغناته الأولى "إحسان" بحثًا مسهبًا في تعريف المغناة "الأوبرا" وتاريخها ومدارسها الإيطالية والفرنسية والألمانية، مبينًا أن المدرسة الأولى وحدها هي التي تعوِّل فيها على الموسيقى والغناء، بينما تعترف المدرسة الثانية بالنص الأدبي، وتبالغ الثالثة في الاعتماد عليه وتجعله الأساس. وقد مضى مهتديًا بالمدرسة الأخيرة في صنع مغنياته، محاولًا أن تكون لها قيمة درامية مستقلة.
ومما لا شك فيه أنه وفق في الوعاء الذي اختاره لمغنياته؛ إذ اتخذ موضوعها من التاريخ تارة ومن الأسطورة تارة ثانية، غير أنه لم يستكمل لها القيمة الدرامية التي كان ينشدها، سواء في بنائها وعناصرها الفنية أو في رسم شخوصها وتوليد حوارها وتتابعه بينهم. وهو أيضًا لم يستكمل لها القيمة الغنائية الخالصة؛ إذ يقصر شعره عن النهوض بأعباء الغناء والتلحين وما يستلزمان من أناشيد بسيطة عذبة.
وأول ما أخرجه في هذا الاتجاه "مغناة إحسان" -كما قدمنا- وحوادثها تجري في أثناء الحرب المصرية الحبشية التي نشبت في سنة 1876، وكانت إحسان زوجة لابن عم لها ضابط اشترك في تلك الحرب وأظهر بسالة نادرة، غير أنه وقع في الأسر، فأشاع بعض رفاقه أنه مات. وعاد بعد خمس سنوات ليجد امرأته وقرة عينه قد تزوجت ومرضت، وهي في النزع الأخير، وتراه فيُغشى عليها من الدهشة وتموت. وأتبع هذه المغناة بمغناته "أردشير وحياة النفوس" اقتبسها من "ألف ليلة وليلة" وهي في أربعة فصول. وينظم مغناة "الآلهة" وهي مغناة رمزية، يجري فيها حوار بين شاعر فيلسوف وإلهتي الجمال والحب وإلهتي الشهوة والقوة، وهي في حقيقتها حوار خيالي وليست عملًا دراميًّا. ويعود إلى التاريخ فيؤلف مغناة "الزباء" ملكة تدمر.
وعلى هذا النحو كان أبو شادي غزير الإنتاج في شعرنا المعاصر غزارة مفرطة، ومن المحقق أنه لم تكن تنقصه موهبة الشعر، وأنه كان يستطيع أن ينظم توًّا في أي موضوع يعن له أو يفكر فيه، غير أنه استرسل في ذلك استرسالًا حال في أكثر الأحيان بينه وبين نضوج تجاربه الشعرية، كما حال بين كثير من شعره وبين إرضاء الفن فيه والنهوض بحقه.
9 ـ إبراهيم ناجي 1898-1953م
أ- حياته:
في "شَبْرَا" أحد أحياء القاهرة وُلد إبراهيم ناجي سنة 1898 لأسرة مصرية مثقفة، وأخذ يختلف -مثل أقرانه- إلى الكُتَّاب، ثم المدرسة الابتدائية، فالمدرسة الثانوية. ووجد في أبيه الذي كان ينزع إلى قراءة الآثار الأدبية في العربية والإنجليزية موجِّهًا ممتازًا، فقد كانت له مكتبة حافلة بالكتب القيمة في اللغتين، وكان يعرض عليه طرائفهما، ويقرأ معه في كتبهما، فكان يقرأ معه في دواوين الشريف الرضي وشوقي وخليل مطران وحافظ إبراهيم، وكان يقرأ معه آثار الكاتب الإنجليزي ديكنز، ويشرح له ما يغمض عليه من قصصه وأساليبه.
وكان أهم شاعر أُعجب به ناجي في نشأته خليل مطران، وقد تعرف عليه مبكرًا، وكان لذلك أثره في شعره وشاعريته. ولما أتم دراسته الثانوية التحق بكلية الطب، وتخرج فيها سنة 1923 وهو يحذق الإنجليزية. وتعلم الفرنسية وأخذ يقرأ في بعض آثارها الأدبية، وعُين طبيبًا بوزارات مختلفة، وكان آخر منصب تولاه إدارة القسم الطبي بوزارة الأوقاف. وحياته من هذه الجهة كانت حياة هادئة، ليس فيها ما يعكر الصفاء غير أنه كان منهومًا بمتاع الحياة، فعاش مضطربًا قلقًا، لا يستقر على حال . وفتحت له معرفته باللغتين الإنجليزية والفرنسية نافذتين كبيرتين، وكان شغوفًا بالقراءة، فعبَّ ونهل ما شاء من الآداب الغربية، وخاصة آداب الرومانسيين الذين كانوا يتفقون وهواه وأحلامه بالحب والحياة. ووسَّع قراءته، فشملت آداب الرمزيين ومن خلفوهم في القرن العشرين من الشعراء، كما شملت علم النفس ونظرياته الحديثة.
ولما أسس الدكتور أحمد زكي أبو شادي جماعة أبولو سنة 1932 اختاره وكيلًا لها، ونهض معه بإخراج مجلة أبولو المعروفة، فكان ينشر فيها أشعاره كما كان ينشر أبحاثه في بعض أدباء الإنجليز، ونقل قصيدة شللي "أغنية الريح الغربية" في شعر عربي مرسل.
وفي سنة 1934 نشر ديوانه "وراء الغمام"، ووالَى من هذا التاريخ أبحاثه في الشعر الغربي الحديث، وكان كثيرًا ما يحاضر في نزعاته الأخيرة بهذا القرن، وكان يعجب أشد الإعجاب بالشاعر الإنجليزي لورانس "د. هـ"، كما كان يعجب بالشاعر الفرنسي بودلير، وطبعت له بعد وفاته دراسة عن هذا الشاعر مصحوبة بترجمة طائفة من قصائده المبثوثة في ديوانه "أزهار الشر". وأسهم مع إسماعيل أدهم في كتاب "توفيق الحكيم الفنان الحائر". وشارك في النهوض بمسرحنا، فترجم للفرقة القومية مسرحية "الجريمة والعقاب" لديستويفسكي، كما ترجم لها المسرحية الإيطالية "الموت في أجازة". وفي سنة 1944 نشر ديوانه الثاني "ليالي القاهرة". وفي أثناء ذلك كان يكتب كثيرًا في علم النفس، وله فيه رسالة بعنوان "كيف تفهم الناس"، وأيضًا له كتاب بعنوان "رسالة الحياة"، ضمنه طائفة من خواطره في الأدب والنفس والعقل والحضارة والنقد والشباب. وترك مخطوطات كثيرة لآثار مترجمة عن شكسبير وغيره، وحاول كتابة القصة بأخرَة.
وكان كثير الاتصال بالناس، مشرق الروح، أنيس المجلس، تحس وأنت تجلس معه كأنه عصفور فزع، فهو كثير التلفت، لا يهدأ له قرار، ولكنه يملأ الجو من حوله مرحًا بفكاهته الخفيفة وعذوبة روحه القلقة. وأنشأ رابطة الأدباء في سنة 1946، ولما أنشئت جميعة أدباء العروبة اختير وكيلًا لها. وما زال يشدو بصوته الشجي في الجمعيات والمجالس وعلى واجهات الصحف حتى لبَّى داعي ربه في مارس سنة 1953. وقد نشرت له دار المعارف بعد وفاته ديوانه الثالث "الطائر الجريح".
شعره:
رأينا ناجيًا يبدأ حياته الأدبية بالتزود من شعر جماعة النهضة، وكان يعجب منهم خاصة بخليل مطران، ويظهر أنه أصيب به في شكل حمى، حتى قيل: إنه كان يحفظ أكثر شعره. وكان أهم ما يعجبه عنده شعره الوجداني، والتفت من ذلك إلى المعين الغربي الذي ينهل منه مطران، فأقبل على أصحاب المنزع الرومانسي يقرأ في شعرهم وآثارهم وتحمس لهم كما تحمس لأستاذه؛ إذ أعجب إعجابًا شديدًا بمنجهم الذاتي الذي يقوم على تصوير خلجات النفس إزاء الحب والطبيعة دون العناية بحياة المدينة أو حياة الناس من حولهم. فهم شعراء فرديون، يؤمن كل منهم بنفسه ويصدر عنها في شعره، فالفرد هو كل شيء، وشعره إنما هو تجارب نفسية خاصة به، يصور فيها حبه ومشاعره وخواطره الوجدانية دون أن يحسب للمجتمع أي حساب، فهو ليس تعبير المجتمع؛ وإنما هو تعبير النفس. وكان خليل مطران يوازن بين التعبير عن النفس والتعبير عن المجتمع، فكان ينظم في الأحداث السياسية رامزًا وغير رامز، وكان ينظم في أحداثه الوجدانية، وكثيرًا ما كان يتخلى عن نفسه وعن المجتمع لينظم في التاريخ. أما ناجي فقد أسلم زمام شعره لنفسه ولحمى الرومانسيين، وسرعان ما ظهر على شعره "طفح" هذه الحمى.
وأخرج في هذا التعبير أو هذا الاتجاه أول دواوينه "وراء الغمام"، وفيه قصيدتان مترجمتان هما: التذكار لألفريد دي موسيه، والبحيرة للامرتين. وكأنه يضع في يدنا مفتاح النغم الذي ينصب في ديوانه، فالشاعران من زعماء الرومانسية في فرنسا وشعرهما يفيض بالحب اليائس الحزين، وخاصة دي موسيه الذي لازمه في مغامراته سوء الطالع، والذي يصور في شعره نفسًا مضطربة قلقة، وكأنه يشرب الحياة من كوب ماء مرير.
وعلى هذا النسق فهم ناجي الشعر، فلم يصور عواطف الناس السياسية والوطنية من حوله؛ بل انصرف إلى نفسه يتغنى بحب شقي عاثر، وهو غناء كله ألم وشجن وارتياب وقلق وهم، غناء عاشق، يخفق دائمًا في حبه، ولا يجد في نفسه ولا في يده منه إلا الذكرى الممضة المحرقة، ومن خير ما يصور ذلك قصيدتاه: "الناي المحترق" و"العودة"، وفيها يتغنى بذكرياته الحزينة لمعاهد شبابه، وما كان له فيها من حب ذبل قبل أوانه، على مثل ما نرى في قوله:
رفرف القلب بجنبي كالذبيح ... وأنا أهتف يا قلب اتئد
فيجيب الدمع والماضي الجريح ... لِمَ عدنا؟ ليت أنا لم نعد
لم عدنا؟ أولم نطو الغرام ... وفرغنا من حنين وألم
ورضينا بسكون وسلام ... وانهينا لفراغ كالعدم
موطن الحسن ثوى فيه السأم ... وسرت أنفاسه في جَوِّه
وأناخ الليل فيه وجثم ... وجرت أشباحه في بهوه
والبِلى أبصرته رأى العيان ... ويداه تنسجان العنكبوت
صحت: يا ويحك تبدو في مكان ... كل شيء فيه حي لا يموت
كل شيء من سرور وحزن ... والليالي من بهيج وشَجِي
وأنا أسمع أقدام الزمن ... وخُطى الوحدة فوق الدَّرَج
وهذا النغم الذي يزخر بالألم نجده في كل صفحة من صفحات "وراء الغمام"، فليس فيه تفاؤل وليس فيه فرح بحاضر ولا مستقبل؛ إذ لا يبدو في ظلام حياته خيط من الأمل؛ بل هو دائمًا غارق في لجج من الشقاء والحرمان. وقد يقف بالطبيعة كما في قصيدته "خواطر الغروب"؛ ولكنه لا يقف بها منفصلة عما في نفسه؛ بل يستغلها لتصوير ما يعتلج في قلبه من مشاعر الأسى والحزن؛ كقوله في القصيدة:
ما تقول الأمواج؟ ما آلم الشمـ ... ـس فولت حزينة صفراء
تركتنا وخلفَتْ ليل شك ... أبديٍّ والظلمة الخرساء
ويخص "الشك" بقصيدة يبكي فيها قرب حبيبه. فهو يبكي نعيمه كما يبكي شقاءه، إن حياته كلها أنات ودموع، وهو دائمًا يبث عطفه على المرأة، فهي عنده مخلوق نبيل طاهر، وتمثل ذلك أوضح تمثيل قصيدته "قلب راقصة"، وفيها يقص تجربة واقعية له، وكيف أنه دخل أحد المراقص فرأى راقصة يهفو لها قلب الناظرين، وهي ترقص رقصة الذبيح من الألم، والجمهور من حولها يتهلل فرحًا وبشرًا، وما يزال بها حتى يجعلها طاهرة النفس، فقد صهرتها وصفَّتها ناران: نار الصبر ونار الألم:
تمضي وتجهل كيف أكبرها ... إذ تختفي في حالك الظُّلَمِ
روحًا إذا أثمت يطهِّرها ... ناران نار الصبر والألم
وكل هذا شعر ورمانسي خالص، وهو شعر -كما في هذه القصيدة- يصور تجربة حقيقية، ولناجي السبق في هذا الباب؛ إذ أخرج جوانب من شعرنا من الباب القديم باب الرؤية والخيال إلى باب الحقيقة والتجربة الواقعة. ويتسع هذا الجانب عنده في ديوانه الثاني "ليالي القاهرة" وهو اسم استعاره من "ليالي دي موسيه" المشهورة في الأدب الرومانسي الفرنسي، والتي يصور فيها صاحبها ما ألَمَّ به من آلام الحب، تلك الآلام التي انبعثت من قلبه، وتحولت قصائد رائعة تصور الحب واليأس منه والحسرة والفراغ.
ويبدأ ديوان "ليالي القاهرة" بسبع قصائد تحت هذا العنوان تصور ظلام القاهرة في الحرب العالمية الثانية وما حدث للشاعر فيها من تجارب حب. ونراه يقول في إحداها وقد سماها "لقاء في الليل":
يا لحظة ما كان أسعدها ... وهناءة ما كان أعظمها
مر الغريب فباعدتْ يدها ... وخلا الطريق فقرَّبت فمها
وهو يصور هنا ما يكون بين العاشقين من عناق الأيدي، وما يعتريهم من الخوف والقلق أن يراهم الناس، وهم لذلك يهابونهم. ولا تظن أنه يجد في هذا المتاع وما يماثله ما يداوي قلقه المستحوذ على كيانه أو ما يحقق له السعادة المنشودة، فهمومه لا تزال تصيح في قلبه، وقد رسم خطوطها في لوحتين أو قصيدتين كبيرتين هما: "الأطلال" و"السراب". والأطلال قصة حب عاثر لعاشقين تحابَّا، وتقوض حبهما، فأصبح العاشق أطلال روح وأصبحت عشيقته أطلال جسد، ويصور ناجي وقائع هذا الحب كما حدثت على نحو ما نرى في قوله على لسان العاشق:
يا غرامًا كان مني في دمي ... قدرًا كالموت أو في طعمه
ما قضينا ساعة في عُرْسه ... وقضينا العمر في مأتمه
ما انتزاعي دمعة من عينه ... واغتصابي بسمة من فمه
ليت شعري أين منه مهربي ... أين يمضي هارب من دمه
أما قصيدة السراب، فهي قصيدة الهزيمة في الحب، وهي هزيمة لا حدود لها؛ إذ تشمل كل عَلاقاته الاجتماعية من مودة وصداقة. وهو يستغل عناصر الطبيعة في هذه القصيدة لتصور أحزانه ومتاعسه من مثل قوله فيها:
عندي سماء شتاء غير ممطرة ... سوداء في جنبات النفس جرداء
خرساء آونة هوجاء آونة ... وليس تخدع ظني وهي خرساء
وكيف تخدعني البيداء غافية ... وللسوافي على البيداء إغفاء
أأنتِ ناديتِ أم صوت يخيل لي ... فلي إليك بأذن الوهم إصغاء
ومن قصائده الطريفة في هذا الديوان قصيدته "رسائل محترقة"، وهو فيها يعاني من حب أخفق فيه، ويشتد به العناء والانفعال، فيهجم على رسائل صاحبته، ويحرقها منشدًا:
أحرقتُها ورميتُ قلـ ... ـبي في صميم ضرامها
وبكى الرماد الآدمـ ... ـي على رماد غرامها
وعلى هذا النحو نمضي في قراءة هذا الديوان، فلا نجد إلا الأنات والصيحات، وهي أنات وصيحات تقترن بإحساس الانعزال في الحياة، وأن الشاعر غريب في دنياه.
وكنا نود لولم يسلك في هذا الديوان كثيرًا من أشعار المناسبات التي اضطرته إليها المجاملات، حتى يكون كامل التعبير عن هذه الشخصية الفذة التي يصرخ الألم والحزن في أعماقها. ولعل من الغريب أن نجد عنده أحيانًا دعابات مثل قطعته "هجو شاعر"، وهي أيضًا من باب المناسبات، ولا تتصل بالنغم الأساسي للديوان.
ونمضي في ديوانه الثالث "الطائر الجريح" الذي نُشر بعد وفاته، فنجده كديوانيه السابقين يتأوه الطعين، ولا مسعف ولا معين؛ إذ لم يعد له من حبه سوى الألم العميق، وهو يتفجر على لسانه شعرًا حارًّا ملتهبًا، شعرًا يصيح فيه كطائر جريح حقًّا، وقد تغلغلت جراحه إلى الشغاف، وكل ما حوله ينذر بالحزن والهم، يقول في قصيدته "قصة حب":
يا للمقادير الجسام ولي ... من ظلمها صرخات مجنون
باكي الفؤاد مشرَّد الأمل ... وقف الزمان وبابه دوني
لقد سُدَّت أمامه جميع أبواب الأمل في استعادة حبه، ولم يبقَ له منه إلا صرخات وإلا ذكريات كأنها حديث خرافة، أو كأنها أضغاث أحلام، يقول في "بقية القصة":
حلم كما لمع الشهاب توارى ... سدلت عليه يد الزمان ستارا
وحبيس شجو في دمي أطقلته ... متدفقًا ودعوته أشعارا
فقد ولَّى حبه أو حلمه، ولم يعد له منه إلا أشباح الهجر وأطياف الحرمان تمر به مواكبها صاخبة، وقد مدت من حوله قضبان سجن مظلم يشكو فيه غربته ووَحْدَته وحبه الشقي التعس، واقرأ قصائده: "بقايا حلم" و"في ظلال الصمت" و"ظلام" و"الطائر الجريح" فستراه يصور لك لوعته في هذا الحب؛ بل احتراقه في لهيبه كفراشة، يقول في القصيدة الأخيرة :
إني امرؤ عشت زما ... ني حائرًا معذَّبا
فراشة حائمة ... على الجمال والصبا
تعرَّضت فاحترقت ... أغنية على الرُّبَى
تناثرت وبعثرت ... رمادها ريح الصبا
وتلك صورة ناجي وحبه في دواوينه جميعًا، فهو فراشة تحوم دائمًا على مصباح الهوى، ولا تلبث أن تتلظى بنيرانه، وتحيل ألمها بهذا اللظى؛ بل احتراقها فيه، شعرًا يأخذ بمجامع القلوب؛ لصدقه وحرارته وقوة تأثيره.
وواضح من أكثر ما أنشدناه من أشعاره أنه كان يُعْنَى في شعره بالتجديد في عروضه، فأكثر من الرباعيات على طريقة عمر الخيام؛ ولكن هذا التجديد ليس شيئًا بالقياس إلى تجديده في مضمونه وما أذاع فيه من مشاعره وأحاسيسه إزاء حبه التعس المحروم .
10 ـ علي محمود طه 1902-1949م :
أ- حياته :
في بلدة المنصورة المطلة على فرع دمياط بشمال الدلتا وُلد علي محمود طه سنة 1902 لأسرة متوسطة على حظ من الثقافة. وأرسله أبوه إلى "الكُتَّاب" فالمدرسة الابتدائية. وهنا نراه يحاول اختصار الطريق فلا يدخل التعليم الثانوي؛ بل يلتحق بمدرسة الفنون التطبيقية ويتخرج فيها سنة 1924، ويعين بهندسة المباني في بلدته .
وربما كانت النزعة الفنية هي التي جعلته يختصر طريق تعليمه، فعاش من أول الأمر لشعره الذي كان ينظمه في أثناء تعلمه، واختار لنفسه حياة هيِّنة ليس فيها مشقة في التثقيف والتحصيل، وكأنه لم يكن ينزع به في أول حياته أمل كبير.
وكان أهله على شيء من الثراء، فلم يحس بشظف الحياة وما يكون فيها من حرمان وشقاء؛ بل لكأني به دُلِّل طفلًا، وظلت آثار هذا الدلال فيه رجلًا، فهو لا يعرف من الحياة إلا الهناءة والرغد.
ومكث طويلًا في وظيفته وفي بلدته يتنقل في محيطها وفي البلاد المجاورة لها وخاصة دمياط؛ فقد كان كثير النزول بها وببلدة "السنانية" التي تقابلها، وهي بستان كبير يمتد إلى مصيف رأس البر، وتقابلها على الضفة اليمنى للنيل بحيرة المنزلة. وكل هذه الأماكن مصورة في ديوانه الأول "الملاح التائه". وقد أخذ يسعى للتعرف على الأدب الفرنسي والاطلاع على روائعه وآثاره، ونراه يراسل مجلتي أبولو والرسالة. ويحاول أن يتصل بالنهضة الأدبية في القاهرة منذ سنة 1933، فترحِّب به دوائر الأدباء.
وفي ديوان "ليالي الملاح التائه" ما يدل على أنه زار إيطاليا في سنة 1938، وأخذ منذ هذا التاريخ يتردد على سويسرا والنمسا وأواسط أوربا، وكان لذلك أثره في شعره؛ إذ وصف كثيرًا من المشاهد التي رآها هناك.
ويترك وظيفته في وزارة الأشغال ليعمل مدير الْمَعْرِض الخاص بوزارة التجارة، ثم يعين مديرًا لمكتب الوزير، ثم يلحق بسكرتارية مجلس النواب، ويقيم في هذه الفترة بالقاهرة، ويغرق إلى أذنه في مباهج الحياة. ويكثر من الرحلات الصيفية إلى أوربا. ويخرج مع استقالة الوزارة الوفدية من الحكومة. ويعين في سنة 1949 وكيلًا لدار الكتب ولكن القدر لم يمهله، فلبى نداء ربه في نفس العام مبكيًّا عليه من أصدقائه وعارفيه؛ إذ كانت فيه نواحٍ إنسانية تستحق التقدير، وطالما أعان إخوانه وزملاءه من الأدباء، وكان بيته منتدًى حقيقيًّا لصحبه، وحوَّله إلى ما يشبه متحفًا فنيًّا؛ إذ ملأه باللوحات الباهرة. ومما يؤثر له أنه أهدى مكتبته قبل وفاته إلى مكتبة بلدته "المنصورة"، ولعل في هذا ما يدل على ضرب من الوفاء لقديمه وذكرياته.
شعره:
يتبين مما قدمناه من حياة علي محمود طه أنه نشأ في إحدى بلدان الوادي الجميلة، وتيقظت مواهبه الشعرية في وقت مبكر، إلا أنها لم تتغذَّ تغذية كاملة بأصول الشعر العربي، وأكبر الظن أن قراءاته في هذا الشعر لم تكن تتجاوز دواوين حافظ وشوقي ومطران إلا في القليل النادر، فقد كان يقرأ أحيانًا في البحتري وغيره من شعراء العصر العباسي.
وقراءاته في الآداب الغربية لم تكن واسعة؛ إذ لم تتح له ثقافة عالية، ومع ذلك تعلم بنفسه اللغة الفرنسية، إلا أنه لم يتقنها؛ إنما كان يتقن الإنجليزية، وهو على كل حال لم يكن واسع الثقافة بآثار الغربيين، وإن كان قد حاول أن يتأثرهم. وكان أهم من أعجب به "لامرتين" وأضرابه من شعراء الرومانسية. وقرأ أو عرف أشياء مختلفة عن أصحاب الرمزية الفرنسية مثل: "بودلير" و"فرلين".
ومن هذا كله تتكوَّن شخصيته الأدبية، وهي شخصية ترجع في جوهرها إلى ملكاته أكثر مما ترجع إلى قراءاته، وكان يقرأ كثيرًا في أدباء شعراء المهاجر، وهم يتأثرون تأثرًا عميقًا بالنزعة الرومانسية الغربية، كما كان يقرأ كثيرًا في مجلة أبولو وما بها من أبحاث أدبية.
ومع هذه القراءات غير المتعمقة هنا وهناك لم تنكسر نفسه؛ إذ كان يؤمن بشخصيته وأتاح له هذا الإيمان أن يحتل مكانة بارزة في صفوف الشعراء الذين عاصروه؛ إذ استطاع أن يكوِّن لنفسه أسلوبًا شعريًّا براقًا.
وهو من هذه الناحية أكثر شعرائنا بعد شوقي توفيقًا في صياغته الشعرية، وكأنما كانت لديه خبرة تمكِّنه من أن يقتنص الكلمات الشعرية في القصيدة التي يصنعها، فإذا هي كعقد من الجواهر تتألق فيه حَبَّاته. ويظهر أنه عرف عن شعراء الرمزية أنهم يعنون عناية شديدة بموسيقاهم، فاستقر ذلك في نفسه، وصدر عنه في شعره؛ ولكن لا تظن أنه نظم قصائد رمزية يجاري بها أصحاب هذا المذهب في شعرهم المجنح الغامض.
وليس من شك في أنه فهم المذهب الرومانسي بخير مما فهم المذهب الرمزي؛ لوضوحه وعدم غموضه والتوائه؛ ولكنه على كل حال أفاد من المذهب الرمزي هذه العناية الشديدة بموسيقاه وبالكلمات الشعرية، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه وقع فريسة لهذه الكلمات، فقد استولت عليه بتموجاتها المختلفة وما ترسله من إشعاعات. وشعر كأن هذه كل مهمته، فما عليه إلا أن يطلق هذه الكلمات في تجربة تسمى قصيدة، فإذا هي كالشِّباك السحرية تصيد له المعجبين من كل مكان.
وقد يكون السبب في ذلك ضعف ثقافته الفكرية، فحاول ملء هذا الفراغ بطنين ألفاظه الخلابة التي تستهوي قارئه برنينها، وتؤثر على حواسه بإيقاعاتها. وهذه هي أروع خصائصه، فهو يؤلف القصيدة وكأنه يؤلف جوقات موسيقية، وهي جوقات لفظية، ليس فيها فكر عميق ولا استبطان في الإحساس؛ وإنما فيها هذا الشرر اللفظي الذي يجعل أشعاره -بل ألفاظه- تتوهج توهجًا.
وأول دواوينه التي نشرها "الملاح التائه"، وهو يصور منزعه الرومانسي، فأكثره في الحب والطبيعة، وقد ترجم فيه قصيدة البحيرة للامرتين أحد أصحاب هذا المنزع المشهورين في فرنسا، ووضع في مقدمة قصيدة له تسمى "الله والشاعر" عبارة من عباراته يناجي فيها ربه، وهو بذلك يضع في يدنا الدليل المادي على تأثره بنزعة لامرتين وشعره في الطبيعة والحب.
ويُكثر في هذا الديوان من ذكريات الشباب وتأثره بالطبيعة في دمياط وببلدة السنانية وجمال مشاهداته في بحيرة المنزلة وما رآه هناك من العراك بين البر والبحر، ومن خير قصائده في ذلك "على الصخرة البيضاء"، وهو في كل قصيدة يذيع حيرة حُلوة، فهو تائه في الكون ضال في مجالي الطبيعة. وعلى الرغم من بساطة تأملاته ووضوح أفكاره -فوجهها دائمًا مكشوف- نجد عنده جمال الأسلوب الشعري المصفى، حتى لكأنه ناي يصدح أو قيثارة تشدو وتغني.
وهو لا يهدف إلى رسم صورة الطبيعة أو الريف المصري من حيث هو؛ إنما يهدف إلى وصف شعوره وحسه وحيرته في الحياة، مازجًا ذلك في أغلب الأحيان بحبه. وربما كانت أجمل قصائده في هذا الديوان قصيدته "غرفة الشاعر"، وهو يستهلها على هذا النمط:
أيها الشاعر الكئيب مضى الليـ ... ـل وما زلتَ غارقًا في شجونك
مسلما رأسك الحزين إلى الفكـ ... ـر وللسُّهْد ذابلات جفونك
ويد تمسك اليراع وأخرى ... في ارتعاش تمر فوق جبينك
وفم ناضب به حر أنفا ... سك يطغى على ضعيف أنينك
ومضى يصور سراجه الشاحب وعبء عبقريته الشاعرة وما يتردد في نفسه من حزن لعدم تقدير مواطنيه له.
ونشر بعد هذا الديوان "ليالي الملاح التائه" بنفس الروح وبنفس الشخصية، وهو يستهله بأغنية "الجندول" التي تَذيع في عصرنا على كل لسان، فقد غناها عبد الوهاب. وهي من خير الأمثلة التي تدل على مهارته في استخدام الألفاظ الشعرية، فإنك إذا حللتها لم تجد فيها فكرًا عميقًا ولا واسعًا؛ وإنما تجد الألفاظ البراقة التي تروعك وتأسر لُبَّك.
والقصيدة في وصف "كرنفال فينسيا"؛ إذ يحتفل أهلها بعيد سنوي لهم ينطلقون فيه بشوارعها المائية في سفن، يسمون واحدتها "الجندول" فيغنون ويمرحون. وفي هذا الديوان قصيدة أخرى في بحيرة "كومو" الإيطالية وقصيدة في "خمرة نهر الرين". وجميعها قصائد أوحتها زياراته لأوربا ومواطن الجمال في بلدانها المختلفة. ومن أروع قصائده في هذا الديوان "الموسيقية العمياء". وهي فتاة رآها بمطعم في القاهرة على رأس إحدى الفرق الموسيقية، فأثَّر فقد بصرها في نفسه تأثيرًا عميقًا، صوره في تلك القصيدة تصويرًا رائعًا. ونظم قصيدة سماها "سيرانادا مصرية" والسيرانادا عند الأوربيين أغنية يشدو بها العشاق على الناي حت نوافذ معشوقاتهم، وهو يستهلها بقوله:
دنا الليل فهيا الآ ... ن يا ربة أحلامي
دعانا ملك الحب ... إلى محرابه السامي
تعالَيْ فالدجى وحي ... أناشيد وأنغام
وفي سنة 1941 أخرج كتابه "أرواح شاردة"، وأكثره مقالات عن الأدب الإنجليزي والفرنسي، وقد تحدث فيه عن "فرلين" و"بودلير" الشاعرين الفرنسيين، وترجم قصائد مختلفة لشعراء إنجليز وفرنسيين، وألحق بذلك قصيدة له في دخول الألمان باريس. وتأليفه لهذا الكتاب غريب؛ ولكن يظهر أنه أراد أن يرد به على مَن يتهمونه بقصور ثقافته بالآداب الغربية.
ونراه في سنة 1942 يحاول محاولة جديدة في قصيدته الطويلة "أرواح وأشباح"، وهي حوار شعري فلسفي بين شخصيات استمدها من الأساطير الإغريقية وقصص التوراة، مصورًا خلاله ما انبث من صراع عنيف الأرواح والأشباح أو الأجساد منذ هبط دم ابن الطين من السماء يحمل قبس الروح، وهو صراع بين غرائز الطين ومواجد الإنسان الروحية السامية. وأكبر عيب في القصيدة يجثم في شخصياتها الأسطورية الإغريقية، فإنه لم يدرسها حق الدرس، ومن ثم بدت مخالفة في كثير من حقائقها لنسيجها الأسطوري القديم.
وأخرج بعد ذلك في سنة 1943 ديوانه "زهر وخمر"، وهو يصور نزعته الإبيقورية التي غمس فيها حياته، وهي ليست نزعة حادة ولا جامحة؛ وإنما هي نزعة مرحة يقبل فيها على كئوس اللذة والمتعة دون تمادٍ في تصوير الغرائز الجسدية، ونراه يفتتحه بقصيدته "ليالي كليوباترا" التي غناها عبد الوهاب، وهي مثل "الجندول" تزخر بالأشراك اللفظية، وقلما نجد فيها فكرًا عميقًا؛ وإنما نجد كليوباترا في زورق بين ضفاف النيل، وفي جوانحها هذا الحب المحموم وتلك الحواس الملتهبة للعشق، ثم جوقات موسيقية متراصة الألفاظ بدون أن يصور الشاعر إحساسًا عميقًا أو فكرًا بعيدًا، فكل همه أن يجمع كلمات متموجة، تنشر بموسيقاها ما يريد من تأثير في نفوس السامعين. ومن خير قصائده في هذا الديوان "حانة الشعراء"، وهو يستهلها على هذا النحو:
هي حانة شتى عجائبها ... معروشة بالزهر والقصب
في ظُلَّة باتت تداعبها ... أنفاس ليل مقمر السحب
وله قصيدة بديعة في طارق بن زياد فاتح الأندلس سماها "من قارة إلى قارة"، وقد صور فيها طموح هذا الفاتح العربي وظفره العظيم.
ونراه ينشر "أغنية الرياح الأربع" وهي أغنية فرعونية اكتشفها "دريتون" عام 1942 وترجمها إلى الفرنسية، فحاول علي محمود طه أن ينقلها إلى العربية في شعره الموسيقي الجميل، محاولًا أن يجعل منها عملًا تمثيليًّا؛ ومن ثم جعل لها بدءًا ونهاية كما جعلها تدور في شكل حوار بين أشخاص مختلفين تتخلله أجزاء من الغناء. ومن الحق أنه لم يستطع أن يحورها إلى مسرحية كاملة؛ إذ كان شاعرًا غنائيًّا ولم يكن شاعرًا مسرحيًّا؛ ومن ثم كان شعره لا يصلح للتمثيل؛ بسبب ما فيه من وفرة الموسيقى والغناء.
ويعود إلى مجاله الغنائي، فينشر في سنة 1945 ديوانه "الشوق العائد"، وفيه يتحدث عن بعض ذكرياته لرحلاته إلى أوربا قبل الحرب العالمية الثانية، ويخص جزيرة كابري في إيطاليا ويسميها جزيرة العشاق بقصيدة طريفة، كما يخص برلين التي نزل بها في سنة 1939 بقصيدة أخرى يسميها "بين الحب والحرب"، وفيها يأمل في غد مرتقب يحقق حلمه وحبه، ويخص موسوليني حين سقط بقصيدة طويلة. وأكثر شعره في هذا الديوان يصور روحه الإبيقورية المرحة، وكيف كان يقبل على متع الحياة وملذاتها، وهو القائل في أولى قصائده به:
حياتي قصة بدأت بكأس ... لها غنَّيْتُ وامرأة جميله
وآخر دواوينه "شرق وغرب" الذي نشره في سنة 1947، وهو كما يبدو من عنوانه موزع على الغرب والشرق. أما قسمه الغربي فنراه فيه يصدر عن نزعته الإبيقورية متحدثًا عن ذكرياته في أثناء رحلاته بأوربا. وقد استهله بقصيدة رائعة قالها على أثر احتفال بذكرى فاجنر الموسيقار المشهور، شاهده في سويسرا.
كان قد تعرف في هذا الاحتفال على فتاة، قضى معها بعض نزهاته، فأثارت شاعريته، واندفع يتغنى بهذه القصيدة وبأختٍ تالية لها، وهما من أروع شعره؛ لما بث فيهما من لظى ولواعج فؤاده.
أما القسم الشرقي، فقد خصه بأحداث الشرق السياسية والقضايا الوطنية والعربية الإسلامية. وكان قبل هذا الديوان يلم أحيانًا بعيد الهجرة أو بالعرب كما في قصيدة طارق؛ ولكنه لم يوسع هاتين النغمتين الإسلامية والعربية، فقد كان مشغولًا بنفسه وبحبه وما يرى في الطبيعة المصرية والغربية من فتنة وجمال. أما في هذا الديوان فقد نزع إلى التخلص قليلًا من إحساساته وعواطفه؛ ليتحدث عن الوطن والجماعة العربية والإسلامية. وله في فلسطين وفوزي القاووقجي وعبد الكريم بطل المغرب وأندونيسيا شعر كثير. ومن أجمل قصائده "مصر"، وفيها يصور فساد الأحزاب السياسية وشيوخها القائمين عليها، كما نرى في قوله:
أحقا ما يقال؟ شيوخ جيل ... على أحقادهم فيه أكبوا
وكانوا الأمس أرسخ من جبال ... إذا ما زُلزلزت قمم وهُضْب
فما لهم وهت منهم حلوم ... لها بيد الهوى دفع وجذب
ونظن ظنًّا لو أن القدر مد في حياته لتحول تمامًا من صوته الأول الشخصي إلى هذا الصوت العام الذي يتغنى فيه أهواءنا وعواطفنا السياسية. ومن قصائده الذائعة في هذا المضمار قصيدته "نداء الفداء" التي يستصرخ فيها العرب لنجدة فلسطين:
أخي! جاوز الظالمون المدى ... فحَقَّ الجهادُ وحق الفدا
وقد غناها عبد الوهاب، وهي تدور اليوم على كل لسان. ولم نستشهد بقطع طويلة من شعره؛ ليتضح تجديده في الأوزان والقوافي، فقد كان يكثر من الرباعيات، وقصيدته الجندول مثال بيِّن لاستخدامه "فن الموشحات".
ومن الواجب أن نشير إلى أن مثله مثل ناجي، كان يفهم وَحْدَة القصيدة، وأنها بناء متناسق، لا نشاز فيه ولا اضطراب .
.




11- حافظ إبراهيم
1- نشأته وحياته:
ولد الشاعر النيل في محافظة أسيوط وتوفي
كان والده مهندساً تركه في الرابعة من عمره فقيراً ، انتقلت به أمه إلى القاهرة وكفله خاله الذي أدخله إلى المدرسة ثم انتقل به إلى محافظة طنطة . عاش شاباً يائساً إلاّ أن الفرص أسعفته لدخول الكلية الحربية حيث عمل في السودان، اتهم بثورة السودان فأقيل من منصبه فعاد إلى القاهرة ليعيّن أميناً لمكتبة دار الكتب المصرية .
2- شخصيته:
اتصفت شخصية حافظ بصفتين:
الأولى : اليأس والحرمان والفاقة.
والثانية : خفة الروح والقدرة على إظهار الضحك
وقد جعله الحرمان يتعاطف مع المصائب العالمية كزلزال مسين، وحريق (ميت غمر) في القاهرة.
3- شعره :
كتب حافظ إبراهيم في أغراض الشعر مقلداً المعاني السابقة والأغراض السالفة ودعا إلى التجديد:
آن يا شعر أن تفكّ قيوداً قيدتنا بها دعاة المحال
فارفعوا هذه الكمائم عنا ودعونا نشمُّ ريح الشمال
وقد دارت أغراضه الشعرية في فلك المراثي والأهاجي والأخوانيات والاجتماعية والسياسيات والشكوى:
إذا تصفحت ديواني لتقرأني وجدت شعر المراثي نصف ديواني
ويقول في رثاء مسّين الذي دهاها الزلزال سنة1908 م :
نبئآني ، إن كنتما تعلمان مادهى الكون أيّها الفرقدان ؟
غليان في الأرض نفّس عنه ثوران في البحر والبركان
ما لمسّين؟ عوجلت في صباها ودعاها من الردى داعيان
خسفت،ثم أغرقت،ثم بادت قضى الأمر كلُّه في ثوان
وقد وصف الشاعر مجزرة (دنشواي)التي ارتكبها الانكيز بحق فلاحي القرية:
بنات الشعر بالنفحات جودي فهذا يوم شاعرك المجيد
قتيل الشمس أورثنا حياةً وأيقظ هاجع القوم الرقود
وقد كان حافظ يدعو إلى الثورة ويعلق ذلك على عزائم الشباب من ذلك قوله:
فتعلموا فالعلم مفتاح العلا لم يبق باباً للسعادة مغلقا
وتحينوا فرص الحياة كثيرةً وتعجلوا بالعزائم والرُّقى
ودعا إلى إصلاح المجتمع من خلال تعليم البنات:
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأمُّ أستاذ الأساتذة الأُلى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
وقد دعا حافظ أيضاً على لسان اللغة العربية الفصيحة بعد أن حاول الانكيز نشر العامية المصرية:
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية وما ضقت عن آىٍ به وعظات
أنا البحر في أحشائه الدرّ كامنٌ فهل سألوا الغواص عن صدفاتي.









12- معروف الرصافي:
1- نشأته وحياته:
ولد الرصافي في بغداد (1292هـ- 1875م) وتوفي عام (1365هـ - 1945م) ودرس في الكتاتيب ثم المدارس ولم يتم تعليمه فاخذ علومه عن كبار الأدباء كمحمد شكري، ثم درّس في الأستانة ثم بالقدس ثم في بغداد واشترك في ثورة رشيد الكيلاني وكان من خطبائها عاش منزوياً بعد إخفاقها .
2- امتلك الرصافي حساً اجتماعياً حراً، يؤمن بحرية الشعب ويصرح بآرائه دفاعاً عن وطنه وشعبه.
3- شعره:
كتب في الشؤون الاجتماعية والسياسية والجماعية والكونية من ذلك وصفه للأرملة المرضع:
لقيتها ليتني ساكنت ألقاها تمشي، وقد أثقلَ الإملاقُ ممشاها
أثوابها رثّةٌ والرّجل حافيةٌ والدمعُ تذرفهُ في الخدّ عيناها
ودعا أيضاً للحرية قائلاً:
ألا إنّما حرّية العيش غادةٌ منى كلِّ نفس وصلّها ووفودُها
لقد واصلت قوماً وضلّت وراءها
أناساً تمنّى الموتَ لولا وعودُها

13- أبو القاسم الشابي:
1- نشأته وحياته:
ولد أبو القاسم الشابي في مطلع القرن العشرين ونهل الثقافة من موطنه تونس، ثقف نفسه مطلعاً على الآداب والتراث العربي المنقولة وقد عاجلته المنية عام (1934م) ولمّا يبلغ الخامسة والعشرين:
2- عاش الشابي حياة الألم والمرارة بسبب إصابته بمرض القلب، ولكن ذلك لم يكن حائلاً دون انطلاقه في الحياة .
3- شعره:
غنت قيثارة الشابي الشعرية لواعج نفسه، وصوّرت الدنيا الجاحدة وأشباح الموت تتراقص حوله:
أرأيت شحرور الفلا مترنماّ بين الغصون
جمد النشيد بصدره لما رأى طيف المنون
ولكنه مع ذلك قرع آذان المستعمرين الذين اغتصبوا الشعوب وهددهم بثورات الشعوب قائلاً:
ألا أيها الظالمُ المستبدُّ حبيب الفناء، عدوّ الحياة
رويدك لا يخدعنك الربيع وصحوا الفضاء وضوء الصباح
إذا الشعب يوماً اراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولابدّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر
وهو يشعر كشعبه المبتلى بالاستعمار كما ابتلي بالمرض أنه شيعيش رغم أعدائه:
سأعيش رغم الداء والأعداء كالنّسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئاً بالسحب والأمطار والأنواء
وقد تمثلت الطبيعة برومانسيتها في شعر الشابي فأكثر من ذكر الوجود والحياة والطيور والأشجار والفجر والوديان ومن ذلك قوله:
اسكني يا جراح واسكني يا شجون
مات عهد النواح وزمان الجنون
وأطل الصباح من وراء القرون
أبو القاسم الشابي
( 1909 – 1934 )
عصره وبيئته : مضى الاستعمار الغربي يغتصب حرية البلاد العربية بلدا ً اثر بلد . ووقع المغرب العربي تحت سيطرته فقد احتلت فرنسا تونس الخضراء سنة 1881 . وبقيت بلاد عربية أخرى ترزخ في قيود الاحتلال العثماني . واستمر الصراع بين الاحتلالين الغربي والتركي . ويتساقط الوجود العثماني في الأرض العربية أمام الزحف الأوروبي والكفاح العربي ويتلاشى مع نهاية الحرب العالمية الأولى . ويتقاسم الغزاة الأوروبيون بلادنا كمراكز نفوذ واستغلال وحماية وانتداب . وتعاني بلاد المغرب العرب في ظل ا لاستعمار الفرنسي اشد أنواع التسلط والاستبداد , وتفقد تونس معه سيادتها وكثيرا ً من موارد رزقها وتحكم حكما ً مباشرا ً من قبل الفرنسيين . ويفرض عليها الجهل والتخلف وتمنع عن مواصلة تقدمها وتنمية تراثها . وتتساوى مع سائر البلاد العربية في معاناة الإذلال والقهر والاستغلال , ثم النضال من اجل الحياة الحرة العزيزة . حياة الشابي وشخصيته : ولد أبو القاسم الشابي في الشابية , وهي إحدى ضواحي مدينة توزر في تونس . وكان أبوه رجل علم وتقى . ودخل في الطفولة مدرسة بلدته . وكان في الوقت ذاته تلميذ والده . ثم انتقل بعد ذلك إلى جامعة الزيتونة . وتخرج وهو يحمل شهادة التطوع ... وظل يطمع أكثر في التحصيل العلمي , فدرس الحقوق ونال إجازتها سنة 1927 . وما صرف طلب العلم الشاعر عن الحب , والنضال الوطني , فقد أحب في مطلع الشباب فتاة أعطاها كل إخلاصه ووفائه . وفجع بموتها . وتعمق جرحه بفقده والده . ويزداد الشاعر حدة في آلامه لاضطهاد المستعمرين لشعبه وبلاده . وإذا هو يناضل مصارعا ً الظلم في كل سبيل . واعتل جسمه , فقد أصيب بداء تضخم القلب . وما سكن في ثورته , فظل يعطي في الأدب والاجتماع والوطنية ويغزل الشعر ويذوى معه . وينتقل في مصايف تونس ويصرعه المرض ويموت سنة 1934 .
شعره وأثاره : فطر الشابي على قول الشعر , فابتعد بذلك عن تطلب النظم أو تكلفه . وجد في الثقافة . فزادته عمقا ً في شعره ورحابة . وأحب الحياة . فغناها في شتى مجالاتها وحالاتها وصدق في إخلاصه لوطنه , فابتعد في محرابه يذوب في صلواته . وتنوعت أشعاره تنوع مواضيعه ومنطلقاته . وجمعها في ديوانه ( أغاني الحياة ) وما تم له نشره في عمره . وألف الشابي كتاب ( الخيال الشعري عند العرب ) وهو واحدة من محاضراته . وكتب عدة مقالات في أكثر من مجلة عربية مثل العالم العربي وابولو ... وإذا كان الشابي تتلمذ في مدرسة الأدب المهجري , فانه استطاع أن يكون احد أركان جماعة ابولو الشعرية . وواحدا ً من كبار رواد الحركة الرومانسية العربية الجديدة . وبرز كشاعر وطنية وإنسانية في أدبنا العربي المعاصر .
مختارات من شعره
( ارادة الحياة ة )
النص :
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر

وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر

وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر

فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر

كَذلِكَ قَالَـتْ لِـيَ الكَائِنَاتُ وَحَدّثَنـي رُوحُـهَا المُسْتَتِر

وَدَمدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجَاجِ وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر

إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر

وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر

وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر

فَعَجَّتْ بِقَلْبِي دِمَاءُ الشَّبَـابِ وَضَجَّتْ بِصَدْرِي رِيَاحٌ أُخَر

وَأَطْرَقْتُ ، أُصْغِي لِقَصْفِ الرُّعُودِ وَعَزْفِ الرِّيَاح وَوَقْعِ المَطَـر

وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ : " أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"

"أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر

وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر

هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر

فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر

وَلَـوْلا أُمُومَةُ قَلْبِي الرَّؤُوم لَمَا ضَمَّتِ المَيْتَ تِلْكَ الحُفَـر

فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الحَيَـاةُ مِنْ لَعْنَةِ العَـدَمِ المُنْتَصِـر"

وفي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الخَرِيفِ مُثَقَّلَـةٍ بِالأََسَـى وَالضَّجَـر

سَكِرْتُ بِهَا مِنْ ضِياءِ النُّجُومِ وَغَنَّيْتُ لِلْحُزْنِ حَتَّى سَكِـر

سَأَلْتُ الدُّجَى: هَلْ تُعِيدُ الْحَيَاةُ لِمَا أَذْبَلَتْـهُ رَبِيعَ العُمُـر؟

فَلَمْ تَتَكَلَّمْ شِفَـاهُ الظَّلامِ وَلَمْ تَتَرَنَّـمْ عَذَارَى السَّحَر

وَقَالَ لِيَ الْغَـابُ في رِقَّـةٍ مُحَبَّبـَةٍ مِثْلَ خَفْـقِ الْوَتَـر

يَجِيءُ الشِّتَاءُ ، شِتَاءُ الضَّبَابِ شِتَاءُ الثُّلُوجِ ، شِتَاءُ الْمَطَـر

فَيَنْطَفِىء السِّحْرُ ، سِحْرُ الغُصُونِ وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر

وَسِحْرُ الْمَسَاءِ الشَّجِيِّ الوَدِيعِ وَسِحْرُ الْمُرُوجِ الشَّهِيّ العَطِر

وَتَهْوِي الْغُصُونُ وَأَوْرَاقُـهَا وَأَزْهَـارُ عَهْدٍ حَبِيبٍ نَضِـر

وَتَلْهُو بِهَا الرِّيحُ في كُلِّ وَادٍ وَيَدْفنُـهَا السَّيْـلُ أنَّى عَـبَر

وَيَفْنَى الجَمِيعُ كَحُلْمٍ بَدِيـعٍ تَأَلَّـقَ في مُهْجَـةٍ وَانْدَثَـر

وَتَبْقَى البُـذُورُ التي حُمِّلَـتْ ذَخِيـرَةَ عُمْرٍ جَمِـيلٍ غَـبَر

وَذِكْرَى فُصُول ٍ، وَرُؤْيَا حَيَاةٍ وَأَشْبَاح دُنْيَا تَلاشَتْ زُمَـر

مُعَانِقَـةً وَهْيَ تَحْـتَ الضَّبَابِ وَتَحْتَ الثُّلُوجِ وَتَحْـتَ الْمَدَر

لَطِيفَ الحَيَـاةِ الذي لا يُمَـلُّ وَقَلْبَ الرَّبِيعِ الشَّذِيِّ الخَضِر

وَحَالِمَـةً بِأَغَـانِـي الطُّيُـورِ وَعِطْرِ الزُّهُورِ وَطَعْمِ الثَّمَـر
ويمشي الزمان فتنمو صرف وتذوى صرف وتحيا آخر
تصبح أحلامها يقظة موشحة بغموض السحر
تساءل أين ضباب الصباح وسحر الماء وضوء القمر
وأسراب ذاك الفراش الأنيق ونحل يغني وغيم يمر؟
وأين الأشعة والكائنات ؟ وأين الحياة التي انتظر؟
ظمئت إلى النور فوق الغصون ! ظمئت إلى الظل تحت الشجر
ظمئت إلى نغمات الطيور وهمس النسيم ولحن المطر
ظمئت إلى الكون ! أين الوجود واني أرى العالم المنتظر ؟
هو الكون خلف سبات الجمود وفي أفق اليقظات الكبر

وَمَا هُـوَ إِلاَّ كَخَفْـقِ الجَنَاحِ حَتَّـى نَمَا شَوْقُـهَا وَانْتَصَـر

فصدّعت الأرض من فوقـها وأبصرت الكون عذب الصور

وجـاءَ الربيـعُ بأنغامـه وأحلامـهِ وصِبـاهُ العطِـر

وقبلّـها قبـلاً في الشفـاه تعيد الشباب الذي قد غبـر

وقالَ لَهَا : قد مُنحـتِ الحياةَ وخُلّدتِ في نسلكِ الْمُدّخـر

وباركـكِ النـورُ فاستقبـلي شبابَ الحياةِ وخصبَ العُمر

ومن تعبـدُ النـورَ أحلامـهُ يباركهُ النـورُ أنّـى ظَهر

إليك الفضاء ، إليك الضيـاء إليك الثرى الحالِمِ الْمُزْدَهِر

إليك الجمال الذي لا يبيـد إليك الوجود الرحيب النضر

فميدي كما شئتِ فوق الحقول بِحلو الثمار وغـض الزهـر

وناجي النسيم وناجي الغيـوم وناجي النجوم وناجي القمـر

وناجـي الحيـاة وأشواقـها وفتنـة هذا الوجـود الأغـر

وشف الدجى عن جمال عميقٍ يشب الخيـال ويذكي الفكر

ومُدَّ عَلَى الْكَوْنِ سِحْرٌ غَرِيبٌ يُصَـرِّفُهُ سَـاحِـرٌ مُقْـتَدِر

وَضَاءَتْ شُمُوعُ النُّجُومِ الوِضَاء وَضَاعَ البَخُورُ ، بَخُورُ الزَّهَر

وَرَفْرَفَ رُوحٌ غَرِيبُ الجَمَالِ بِأَجْنِحَـةٍ مِنْ ضِيَاءِ الْقَمَـر

وَرَنَّ نَشِيدُ الْحَيَاةِ الْمُقَـدَّسِ في هَيْكَـلٍ حَالِمٍ قَدْ سُـحِر

وَأَعْلَنَ في الْكَوْنِ أَنَّ الطُّمُوحَ لَهِيبُ الْحَيَـاةِ وَرُوحُ الظَّفَـر

إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَـدَرْ

الدراسة
أنها قضية وطن ... أن يكون أو لا يكون , فالاستعمار يجور في اغتصابه لتونس وسائر البلاد العربية . وانه الوحش الذي فقد معنى الإنسان , ويمتص حياة المستضعفين . ويثور الشاعر وأي ثورة . ويعمق إحساسه بالحياة . ويهيب بشعبه النهوض ليحيا في النور والحرية . ويمزق جموده ويعاود العطاء وتولد قصيدته ( إذا الشعب ) أو ( إرادة الحياة ) . ويعطي الشاعر فيها نظرته في الحياة والإنسان والوجود . ويرسم طريق الحرية لشعبه . ولكل شعب مستعبد يرسف في ظلام العبودية والاستغلال .
فن النص ونوعه : ليس النص إلا دعوة إلى البعث والطموح والتقدم والحرية , ورفض لكل أسباب الجمود والقناعة , هو دعوة للحياة في أعماق الحياة , ليكون المنشود الموجود . وانه الوجدان يشتعل , يدفق بنار ونور . لتكون صيحة النشور . فتنمو البذور وتورق الأفنان وتزدهر الأرض وينتصر الشعب وتهزم كل القيود وإن النص هو من الفن الغنائي الوجداني بمنطلقاته ومعطياته . وهو الشعر الوطني باندفاعاته وتألقاته . وما هو يعنف في تعصب أو عنصرية . إنما هو يفجرها وطنية ذات أبعاد إنسانية . وليكون أنشودة كل شعب مضطهد مقيد .
مضمون النص : إن قصيدة ( إرادة الحياة ) حكاية شعب بل حكاية الإنسان والوجود . فما ينهض الشعب أو يتقدم إلا إذا أحب الحياة . وليس للإنسان إلا أن يحب الوجود ليكون ويوجد , وإلا سحقه العدم . وما هو حديث خرافة أو خيال فهذه الريح تروي قصتها مع الوجود , وما هي تبقى أو تستمر لوا اندفاعها في المغامرات وسحق المخاطر ثم أن الأرض تحكي حكايتها مع نباتها وشتى كائناتها , وإذا هي تحب الحياة , وكل الأحياء وتكره الموت وكل الأموات , وهي تبارك أهل الطموح وكل مغامر مقدام . ويعمق الشاعر أكثر في حديثه عن إرادة الحياة , فيروي عن الغاب وهو ينشر أسرارا ً لوجوده , وعن البذور تكمن وتحلم وتشتاق الحياة وتستطيع النمو والطلوع , وتحيا وتنشر السحر والجمال , وتقوى إرادتها فتبلغ أمانيها . وتهون في طريقها كل الصعاب . ويرى الشاعر أن كل هذه القيامة ما قامت لولا حب الكائنات للحياة . وإنها أمثلة من الطبيعة يقدمها الشاعر لشعبه لتكون له الضياء والطريق إلى الحياة الحرة الكريمة . ولتثبت بذلك دعوته الوطنية المتفائلة وتعمق في تأثيرها , وتكون قيامة وطنه .
وقد اشتملت قصيدة ( إرادة الحياة ) على نظرة الشابي إلى الإنسان والطبيعة والحياة , وعلى فهم عميق للوطنية الإنسانية , وتتمثل في القصيدة الخصائص المعنوية التالية :
الشعبية القدرية : عظم حب الشاعر لوطنه , فهو يرفض الأسر لشعبه ويتوق إلى تحرره وانطلاقه . وهو يقوده بصفاء وجدانيته , وعلى هدى نظرته الفلسفية وتصوره , ليبدع وجوده وينجو من العدم والاندثار . وليس له من سبيل إلى ذلك إلا حب الحياة الطموحة :
الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر

وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر

وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
حس الطبيعة : يغوص الشاعر في أعماق الطبيعة , يبعث فيها الحياة والكلمة . وتكون له الأمثلة , يعلم بها شعبه ويرشده . وتحيا الطبيعة وتتكلم فتتحدث الريح والأرض والغاب . وتروى قصص حياتها ووجودها . لتضيء الطريق وتدفع الشعب الجامد المستعبد إلى الحرية والحياة الأسمى والأجمل :

وَدَمدَمَتِالرِّيحُبَيْنَ الفِجَاجِ وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر

إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر
أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر
وَقَالَ لِيَ الْغَـابُ في رِقَّـةٍ مُحَبَّبـَةٍ مِثْلَ خَفْـقِ الْوَتَـر

يَجِيءُ الشِّتَاءُ ، شِتَاءُ الضَّبَابِ شِتَاءُ الثُّلُوجِ ، شِتَاءُ الْمَطَـر
التفاؤلية : يقوى إيمان الشابي بصدق رؤيته , باستجابة الحياة لمن يحبها ويشتاقها , وإذا هو متفائل يرى الغد الأخضر , وينأى عن التشاؤم . وتسطع أمامه الطريق إلى الأهداف . ويعظم عنده قدر الطموح . فلا نكسات أو كوارث معه . وتتحقق الأماني , وتستجيب الحياة , ويذعن القدر .
إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَـدَرْ
النزعة الإنسانية : بعدت وطنية الشاعر عن العنصرية , فما هو يفضل شعبه على سواه من الشعوب , وينطلق صوت الإنسانية الطموح . وينقى كل نقاوة وينشد الحياة الحرة الكريمة لكل شعب وإنسان . وإذا الوطنية عنده هي الواجب الحق على كل الشعوب . وهي لا تعني الضعف في شيء , ولكنها الإقدام والإبداع والقوة المعطاءة .
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الحَيَـاةُ مِنْ لَعْنَةِ العَـدَمِ المُنْتَصِـر
الثورية : لا يلين الشابي في دعوته الوطنية والإنسانية فانه يشتد في ثورته . فلا يقر بتردد أو مهادنة . ويعنف في المضاء الثوري وصولا ً إلى الغايات البعيدة , ومهما كانت الصعاب والأهوال ... فما كانت الحياة إلا علاء وعزة , وإلا فهي مهانة وعدم , ويقول على لسان الريح :
إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر

وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر

وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر
الانطلاقية الوطنية : لا يطلب الشاعر الحرية لوطنه وحده فان دعوته تتسع فإذا هي تعني كل وطن مقيد مغلوب على أمره . ويجسد النص الوطنية المنطلقة المنفتحة على العالم كله :
وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ : " أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"

"أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر

وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
الوحدة الموضوعية : وضحت الوحدة في موضوع النص . وظلت فكرة استثارة الشاعر لشعبه واستنهاضه له هي وحدها التي تعمر قصيدته ( إرادة الحياة ) وإنها تتسلسل في فصول , وادوار دون أن يحدث في ذلك أي انقطاع وتشتت . وهي إذا كانت قد تفرعت فلتترابط فروعها وتبرز جلية نظرة الشاعر أو نظريته في يقظة الإحساس بالحياة .
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر
إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَـدَرْ
صدق الشاعر في معاناته لموضوع النص . فصدر في تعبيره عن طبع وأصالة . فما لجأ إلى تكلف أو تصنع واتت تعابيره واضحة سهلة حتى العفوية . واختص أسلوب النص بالخصائص التالية :
البساطة والوضوح : كان الشاعر في نصه مع رسالته فهو لا يعقد أو يغمض ولكنه يسهل في أدائه ويصفو في عبارته وإذا النص حديث الشعب إلى الشعب , فلا يصعب في فهم , أو يجهد في شرح , ويقرب واضحا ً حتى في حكمته :
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر
ويظل في وضوحه وبساطته وهو يسلسل صوره في ادوار أشخاصه : الطبيعة والريح والأرض والغاب :
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجر
يَجِيءُ الشِّتَاءُ ، شِتَاءُ الضَّبَابِ شِتَاءُ الثُّلُوجِ ، شِتَاءُ الْمَطَـر
وَأَعْلَنَ في الْكَوْنِ أَنَّ الطُّمُوحَ لَهِيبُ الْحَيَـاةِ وَرُوحُ الظَّفَـر
التكرار : أكثر الشاعر التكرار في ألفاظه يدفعه إلى ذلك شعبية وخطابية حتى يكاد أن يطبع التكرار النص بطابعه وينال من تعبيره فيفرض عليه بعض الضعف :
فينطفئ السِّحْرُ ، سِحْرُ الغُصُونِ وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر
ظمئت إلى النور فوق الغصن ظمئت إلى الظل تحت الشجر
ظمئت إلى النبع بين المروج يغني ويرقص فوق الزهر.
الإيقاع : خصبت الموسيقى في النص وتنوعت فتدفق الإيقاع وتسلسلت أبيات القصيدة في نغمية حلوة لا يثقل معها التكرار , ويمتزج التصويرية فيها بالموسيقى . فتسطع فنيتها . ويزيد ذلك في حيوية التعبير ورقته :
ويغني الجميع كحلم بديع تألق في مهجه واندثر
ويمشي الزمان فتنمو صرف وتذوى صروف وتحيا آخر
إليك الفضاء إليك الضياء إليك الثرى الحالم المزدهر
التشخيص : شاعت الحياة في النص فما تركن فيه رتابة أو يقر جمود . فإذا كل ما فيه يتحرك وينمو ويقوم بدوره في عالم الوجود . ويتشخص في أمانيه ومشاعره وانطلاقتيه ووجوديته :
وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ : " أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟
وجاء الربيع بأنغامه وأحلامه وصباه العطر
وقبلّـها قبـلاً في الشفـاه تعيد الشباب الذي قد غبـر
النسج المسرحي : لا يحكم الشاعر في النص السرد المضطرد إنما هو يملك بيانه . فبتنوع فيه وإذا الشعر مشاهد تترى لتغني خلقا ً مسرحيا ً ويزيد ذلك في حيوية القصيدة , وانطلاقها وتأثيرها :
ودمدمت الريح بين الفجاج
وفي ليلة من ليالي الخريف
ويمشي الزمان فتنمو صروف ....
الخلق الفني : يزخر التصوير في النص بالحيوية فنكون مع الخلق الفني حيث الإبداع والبعث وتجديد الحياة نفسها , وتنطلق في الوجود كأن ما مسها جفاف أو قاربها عدم ... ويكون إشراق وعطاء وتتجسد إرادة الحياة في البذور وإذا هي سر الإلوهية في الطبيعة هذه التي لا تعرف الفناء وتبقى البذور التي حملت ذخيرة عمر جميل غبر وذكرى فصول ورؤيا وأشباح دنيا تلاشت زمر معانقة وهي تحت الضباب وتحت الثلوج وتحت المدر لطيف الحياة . حتى تصدع الأرض ( وتبصر الكون عذب الصور ) ...
الوشي الرومانسي : ينسج الشابي النص نسجه الرومانسي فيتدفق حيوية واخضرارا ً وتتجلى العبارات في أبيات النص وشيا ً زاهيا ً جذابا ً :
ومن لم يعانقه شوق الحياة وحدثني روحها المستر
قصف الرعود - عزف الرياح - عذارى السحر
شباب الحياة وخصب العمر ...
الوحدة الفنية : تباين النص في ألوانه وصوره وتنوع في إيقاعاته وتعدد في فصوله وأدواره ولكنه يترابط متلاحما ً متناسقا ً في عناصره وتستوي له الوحدة الفنية قوية ومؤثرة . ويقوم له البناء الفني المتكامل المفعم بالخلق والإشراق والإيحاء والظلال .
غنيت قصيدة : إرادة الحياة بالحياة وازدهرت بالصور الجميلة العذبة وانطلقت بعيدة في الأهداف والأبعاد ودفقت في التفاؤل وعظم فيها عطاء العواطف والخيال . وضعفت فيها التجربة والواقعية وظلت أغنية وطنية مؤثرة , تتألق فيها الأحلام الساطعة الحالقة وتنبعث فاتنة الطبيعة الواهبة القادرة وتصفو نفثات شباب طامح مندفع وتصدق كصورة عن واحدة من مراحل رحلتنا الوطنية الطويلة , في صراعنا الدامي مع الاستعمار والاحتلال . وما هي تصلب في كل معطياتها التعبيرية أو تفخم . فقد شابها ضعف في التكرار والتمادي في الوضوح . وينال ذلك بعض الشيء من فنيتها. وإنها تقوى صافية في وطنيتها الإنسانية . ورومانسيتها العربية وهي تبرز كعطاء رائد في شعرنا العربي المعاصر في مضمار الطموح الوطني والإنساني .
مكانة الشابي وأثره
أعطى أبو القاسم الشابي الشعر في المرأة والوطن والإنسانية . فنسجه من قلبه ومن روحه ومشاعره وجال به في مجالات معروفة تنهل من التراث وتتلمذ في أكثر من مدرسة أدبية عربية وغربية معاصرة . وبرز تأثره بشعر المهجرية ومطران . ثم كان له أن يتميز في عطائه الشعري . وثبت له شخصيته الشعرية المستقلة . فإذا هو احد أركان جماعة ابولو الشعرية ويتفرد في عطائه الرومانسي فيجدد في الانطلاقة الرومانسية العربية ويظهر أثره الرومانسي والوطني في شعر عدد غير قليل من الشعراء العرب المعاصرين وهو يستوي كواحد من رواد شعر المقاومة والوطنية في أدبنا العربي المعاصر .

14ـ التجاني يوسف بشير:
1- نشأته وحياته:
ولد أحمد يوسف بشير التجاني من أسرة عربية في الخرطوم عام (1880م) وتوفي عام (1937م) وتلقى علومه في معهد أم درمان الديني ثم ثقّف نفسه بنفسه وأصيب بذات الرئة (الصدر) فتوفي.
2- شخصيته:
عاش التجاني الإخفاق والمعاناة بعد فشله في التعليم وأصبح فريسة للمرض فاستكان لما أصابه ، وانسحب من الحياة العامة إلى الحياة الصوفية، وقد مثّل الرومانسية في شعره .
3- شعره:
كتب شعره في أبواب الغزل ووصف الطبيعة في الخرطوم وأنشد الشعر الصوفي في صراعه بين الشك واليقين .
يقول متغنياً بالجمال:
فيا وادعاً حالماً كالملا بك تهبط من حجرات الأبد
يرفُّ عليه شبابُ الفتون وتبرق في وجنتيه الفصد
ويقول واصفاً مدينة الخرطوم :
مدينة كالزهرة المونقة تنفحُ بالطيب على قطرها
ضفافها السحرية المورقة يخفق قلبُ النيل في صدرها
وشمسها الخمرية المشرقة تفرغُ كأس الضوء في بدرها
ويقول أيضاً مازجاً الطبيعة بالحب:
غنّنا يا جميل السند بيل وبارك بسحر عينيك فيه
إنّ حسنك العميق لأنها راً عذاباً تغض من آذيه
إنّ في وجهك الوضيء وعيـ ـنيك ينابيعَ من دلالٍ وتيه



15- ايليا أبو ماضي
1-نشأته وحياته:
ولد أبو ماضي في قرية المحيدثة عام (1889م) رحل إلى مصر بعد إتمامه للتعليم الإبتدائي، وأقام بها تاجراً في إحدى عشر سنة حيث تفتحت شاعريته ثم هاجر إلى أمريكيا وأقام في نيويورك، والتقى بجبران ونعيمة ونسيب عريضة ورشيد أيوب وانضم إلى الرابطة القلمية ، أسس صحيفة عربية (السمير) وأصدر مجموعة دواوين هي (تذكار الماضي – الجداول – الخمائل – تبرو تراب)
وتوفي مهاجراً (1947م).
2- شخصيته:
طغت صفة التفاؤل على نظرة أبي ماضي إلى الحياة رغم ما عاناه من غربة وتنقل، فكانت إرادته بالحياة قوية .
3- شعره:
امتلأ شعر أبي ماضي بالزفرات الرومانسية، ومثّل ذلك قصيدة الطلاسم:
جئت لا أعلم من أيـ ـن و لكني أتيت
ولقد أبصرت قدا مي طريقاً فمشيت
وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصر ت طريقي ؟
لست أدري
وهو يعيب على المتذمرين والشاكين من الحياة:
أيهذا الشاكي وما بكَ داءٌ كن جميلاً تر الوجود جميلا
وكانت فلسفته في الحياة الابتسامة في وجه الصحاب:
قال: السماء كئيبة وتجهّما قلت: ابتسم يكفي التجهّم في السّما
قال : الصّبا ولى، فقلت له ابتسم
لن يرجع الأسف الصّبا المتصرّما
قلت: ابتسم ما دام بينك والردى
شبرٌ فإنك بعد لن تتبسّما

16- الشاعر القروي:
1-نشأته وحياته:
ولد القروي في قرية البربارة سنة (1778م) ورث قرض الشعر عن والده، وتنتقل بين صيدا وبيروت حتى غدا معلماً للغة العربية، رحل إلى البرازيل في السادسة عشرة من عمره، عانى هناك شظف العيش وقسوة فراق الوطن والشوق إلى الأهل والأرض.
2- شخصيته:
امتلك القروي حساً مرهفاً صادقاً ربطه بوطنه بشكل كبير وقد بدا ذلك من أناته في البرازيل:
نصحتك يا نفس لا تطمعي وقلت حذار فلم تسمعي
فإن كنت تستهلين الوداع كنا تدّعين إذاً ودّعي
كفاك اضطراباً بالصدر المحيط قفي حيث أنت ولا تجزعي
3- شعره:
التحم في شعر القروي الوطن بالذات وأصبح البعد عن الوطن واليأس في العودة همّاً :
نأت عنك الأحبّة والديار فدمعك والأسى وطن وجارُ
وقد تمثل حبّ الشاعر لوطنه بوصفه للفتاة الانكليزية (مود) والتي أعرض عنها لأن صيحات الجهاد في موطنه شغلته عن ذلك:
ولو لم تكوني فرنجيّة لكنت سعادي قبل سعاد
لعمرك يامود لولا ذووك لما ميّز الحبّ بين العباد
فإني حرامٌ عليّ هواك وفي وطني صيحة للجهاد.
ومن ذلك وصفه لوعد (بلفور) قائلاً :
الحقُّ منك ومن وعودك أكبر فاحسب حساب الحقَّ يا متجبِّرُ
تعد الوعود وتقضي انجازها مهح العباد خسئت يا مستعمر
لو كنت من أهل المكارم لم تكن من جيب غيرك محسناً يا بلفرُ

17- علاّل الفاسيّ
نشأته وحياته:
ولد الشاعر الصحافي العالم علاّل الفاسيّ في المغرب، وتخرج من جامعة القرويين سنة (1930م) وأسس أول حزب سياسي في المغرب ، ثم نفاه الفرنسيون إلى الغابون ثم عاد إلى الكونغو ، ثم عاد سنة (1946م) إلى المغرب و استأنف نشاطه السياسي.
ب- شخصيته:
امتلك علاّل الفاسيّ نفسية شابة وحساً وطنياً صادقاً كان متفائلاً بالمستقبل ومتطلعاً نحو الأفضل.
جـ- شعره:
كتب الفاسيّ في معظم أبواب الشعر ولكنه أبدع في الشعر الوطني من ذلك وصفه لهحة الشباب :
كلُّ صعب على الشباب يهون هكذا همّة الرجال تكون
قدم في الثرى وفوق الثريا همة قدرها هناك مكين
وهو يرى الخلاص في عزم الشباب فيردف قائلاً:
يا شباب البلاد احييتونا قلنا فيكم رجاء متين
قد بعثتم رجاءنا فأديموا سيركم واعملوا ولا تستكينوا










18- عبد الله البردّوني
1- نشأته وحياته:
نشأ البردّوني في اليمن في مجتمع قبليّ ، أصيب منذ صغره بالعمى، ففجع وأبويه وانتقل ليتثقف في المدينة على الفقه الزيدي.
2- شخصيته:
عاش البردّوني شعوراً بانعدام الأهمية لعماه، وبسبب الصراع القبليّ المحتدم في اليمن ، وقد عايش الحزن والمرارة والشجن، وشعر بالعدمية والعجز، ثم تحول إلى مصارعة الحياة وإثبات وجوده على الساحة الأدبية.
3- شعره:
كتب البردّوني في الهجاء والشعر السياسي والثوري وبشّر بالثورة اليمنية قبل وقوعها وفي ذلك يقول:
إنّ خلف الليل فجراً نائماً وغداً يصحو فيجتاح الظلاما
ويؤكد من جديد على تفوق إرادة الشعوب:
الشعب أقوى من مدافع ظالمٍ وأشدُّ من بأس الحديد وأجلد
وهو القائل بثورة الشباب المؤذنة بايتلاج الفجر:
هتافٌ هتافٌ وماج الصدى وأرغى هنا،وهنا أزبدا
وزحفٌ مريد يقود السنا ويهدي العمالقة المرّدا
مضى منشدا وضلوع الطريق صنوجٌ توقع ما أنشدا








19- بدوي الجبل
أحمد سليمان الأحمد
آ- نشأته وحياته:
ولد الشاعر بدوي الجبل عام(1905م) في قرية ديفة من أعمال منطقة الحفة في محافظة اللاذقية ، والده علاّمة في الأدب والفقه . أقبل منذ حداثته على كتب اللغة والأدب ونهل من مدينة حماة ثم انتقل إلى دمشق واتصل بفيصل آل سعود ، توارى بعد فاجعة ميسلون بسبب ملاحقة الفرنسيين له، ثم ألقي القبض عليه وأودع السجن حيث لقي صنوف التعذيب، وأطلق سراحه لعدم بلوغه سن الرشد ، ثم نقي إلى العراق واتصل بالزهاوي الذي اشترك في ثورة رشيد الكيلاني وعاد إلى سوريا بعد إخفاقه الثورة ليعتقل من جديد كرّم الشاعر بعد الاستقلال ، وعيّن نائباً في مجلس الشعب ثم وزيراً للتعليم العالي، واستقر أخيراً في دمشق وتوفي فيها سنة(1981م)
لقّب ببدوي الجبل لأنه كان يوقع تحت قصائده باسم مستعار في صحيفة (الألف باء).
ب- شخصيته:
نشأ بدوي الجبل في بيئة وطنية صادقة، أسهمت مع الثقافة في نحو الحس الوطني يضاف إلى ذلك علو الهمة عند الشاعر بسبب كفاحه الطويل وتمسكه بالحرية مع ما يمتلكه الشاعر من صفات الإباء والمروءة والعزيمة التي لا تلين.
جـ- شعره:
كتب بدوي الجبل في الغزل والشعر الوطني والشكوى والطفولة والعشق الصوفي . من ذلك قوله متغزلاً:
وزار طيفك أجفاني فعطّرها يا للطيوف الغريرات المعاطير
كأن همسك في ريّاه وشوشة دار النسيم بها بين الأزاهير
يا طفلة الروح حبات القلوب فدى ذنب لحسنك عند الله مغفور



ومن ذلك قوله في العشق الصوفي :
تصوف القلب تدليلاً لساكنه فما شكا عنت البلوى ولاعتبا
بيني وبينك أنساب موثقة هذا اللهيب بقلبي خيرها سببا
لم يشهد الله قلب لا لهيب به ويشرق الله في القلب الذي التهبا
ومن شعره الوطني في الشهادة قوله:
يا سامر الحيّ هل تعنيك شكوانا رقّ الحديد وما رقوا لبلوانا
أذكى من الطيب ريحاناً وغالية
ما سال من دم قتلانا وجرحانا
يعطي الشهيد فلا والله ما شهدت
عيني كإحسانه في القوم إحسانا
ومن ذلك قصيدته التي أهداها إلى حفيده في يوم ميلاده:
وسيم من الأطفال لولاه لم أخف
على الشيب أن أنأى وأن أتغربا
يزف لنا الأعياد ، عيداً إذا خطا
وعيداً إذا ناغى وعيداً إذا حبا
ثم يعظم الطفولة قائلاً:
ويا ربّ من أجل الطفولة وحدها
أفضى بركات السِّلم شرقاً ومغربا
وقد كتب الشاعر قصائده تعبر عن ذكرياته في اللاذقية والشام:

وأعشق برق الشام إن كان ممطراً
حنوناً بسقياه وإن كان خلَّبا
سقى الله عند اللاذقية شاطئاً
مراحاً لأحلامي ومغنى وملعبا.


20- أحمد شوقي
آ- نشأته وحياته:
ولد شوقي في القاهرة سنة(1868م) ونشأ في بيت الملك ودرس الحقوق، وأوفده الخديوي لدراسة الآداب والحقوق في فرنسا وعاد إلى مصر سنة(1891م) وقرّب من بلاط حلمي عباس فأصاب الشاعر ثروة وجاهاً واسعين.
ثم أوفد إلى مؤتمر المستشرقين عام(1894م) ثم نفي بعد خلع الخديوي عباس ، فاختار الأندلس ، عاد إلى مصر (1919م) وبويع بإمارة الشعر(1927م) وتوفي(1932م) جمع شوقي بين جنسيات مختلفة فوالده كردي وأمه تركية وجدته لأبيه جركسية، وجدته لأمه يونانية ، فكان منزعه إسلامياً أكثر من كونه عربي .
ب- شاعريته:
اجتاز شعر شوقي مرحلتين : الأولى شاعر القصر حيث بقيت عاطفته رهينة القصر.
والثانية شاعر الشعب وقد عايشها بعد عودته من منفاه وفيه سبك معظم قصائده.
نهل من مختلف الثقافات الشرقية والغربية والعربية والأجنبية ، تأثر بالبحتري والمتنبي وابن زيدون والمعري وبالرومانسية وقد كتب ديواناً في أربعة سميّ (بالشوقيات). وقد كتب مسرحيات شعرية ونثرية( مصرع كليوباترا – مجنون ليلى-
قمبيز- الست هدى – علي بيك الكبير- عنترة)
والمسرحية النثرية اليتيمة(أميرة الأندلس)
وألف قصيدة طويلة عنوانها (دول العرب وعظماء الاسلام)
جـ- أهم أغراضه الشعرية:
عالج شوقي معظم أغراض الشعر وعلى رأسها:
1ً- الوصف:
وهو أكثر أغراض الشاعر كتابة لما يمتلكه شوقي من خصوبة الخيال ساعده كثرة التجوال و السفر و الخروج إلى الطبيعة و لا تكاد تخلو قصيدة منه .
فقد وصف مظاهر الحياة الاجتماعية ، و الاختراعات الحديثة و الحروب و الطبيعة و الآثار.
تأثر وصفه بالبحتري في وصف آثار الأندلس ،من ذلك قوله في وصف غوطة دمشق:
جرى وصفّق يلقانا بها بردى كما تلقّاك دون الخلد رضوان
والحور في دمر أو حول هامتها حور كواشف عن ساقها وولدان
ومن ذلك وصفه لنخيل مصر:
مآذن قامت هنا وهناك ظواهرها درج من شذب
ومن ذلك أيضاً وصفه لمعركة سفاريا التي تغلب فيها مصطفى كامل على اليونانيين:
الله أكبركم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدّد خالد العرب
يوم كبدر مخيل الحقِّ راقصةٌ على الصعيد ،وخيل الله في السحب
ومن ذلك وصف الطيارة:
مركب لو سلف الدهر به كان إحدى معجزات القدماء
نصفه طير ونصفه بشر يالها إحدى أعاجيب القضاء
ب- الشعر المسرحي:
كتب شوقي الشعر المسرحي متأثراً بما شاهده من مسرحيات أثناء دراسته في فرنسا،ويعدّ الرائد الأول في إدخال الفن المسرحي إلينا بعد أن كانت المسرحيات قبله بدائية وبسيطة، وقد كتب خمس مسرحيات شعرية هي:(مصرع كليوباترا- قمبيز – علي بيك الكبير- مجنون ليلى – عنترة العبسي). ومسرحية نثرية استوحاها من حياة مصر الشعبية المعاصرة:( أميرة الأندلس)
ومسرح شوقي مسرح اتباعي (كلاسيكي) مستمد من الكلاسيكية الفرنسية في القرن السابع عشر، إذ أن تمثيلاته تمثل الحياة الأرستقراطية والبطولة بلغة فخمة وحوادث تاريخية قديمة، تهتم بعاطفة الحب، وقلّد شوقي المسرح الرومانسي، وخرج على الوجدان الثلاثة :( الزمن- المكان- الموضوع).
وأخذ عليه مخالفته لبعض الحقائق التاريخية كجعله لكليوبابترا ملكة عظيمة مستهرة، وأخذ عليه أيضاً مخالفته لبعض العادات العربية، كما صنع في مسرحية المجنون حيث قامت ليلى بتقديم وتعريف أترابها على قيس ، وقد أضاف شوقي مقاطع غنائية إلى مسرحياته إرضاءً للجمهور المصري الذي يحب الغناء والرقص. وشخصيات شوقي المسرحية بسيطة قليلة التعقيد تتحدث بعفوية لكن أسلوبه من حيث الصياغة جمّل بالإطناب.
د- الخصائص الفنية لشعر شوقي:
يعد شوقي أحد أركان مدرسة البعث والإحياء وقد ترسم خطا أستاذه البارودي فاعتمد على القوة والجزالة والفحولة، وحافظ على عمود الشعر ، وتألق في الصياغة والتراكيب وتحرر من الصنعة البديعية وتأثر بأشعار الفرنسيين وخاصة (البحيرة) لـ (لامارتين) وأراد أن يجدد لكنه تراجع بسبب الحملة النقدية التي أفقدته هذا النهوض.
عناصر البناء الشعري عند شوقي
1- المعاني: نظم شوقي معظم قصائده في غرض واحد وإن خرج ببعض القصائد من الغرض الأصلي إلى الحكمة أو السياسة أو المجتمع ، وقد تميزت معانيه بما يلي:
1ً- (الخصوبه)
وللحرية الحمراء باب بكلِّ يدٍّ مضرجة يدق
2ً- (الابتكار):
دقات قلب المرء قائله له: إنّ الحياة دقائق وثوان
3ً- (التوليد لبعض المعاني من معانٍ قديمة):
رباع الخلد ويحك ما دهاها أحقاً أنها درست أحقُّ
4ً- (تأثر هذه المعاني بالمجتمع المشرقي والغربي):
ترسم الشاعر في معانيه خطا البحتري وأبي فراس وأبي الطيب وأبي نواس من ذلك:
شغف البحتري إيوان كسرى وشفتني القصور من عبد شمس
وتمحور المعاني حول وصف الحضارة الحديثة (القطار- الطائرة –الغواصة – سفينة البخار).
2- الخيال :
اتصف خيال شوقي بأنه:
كان عارماً كما في قصيدته (يا حارة الوادي)
مزدحماً بالصور كما في قصيدته(نكبة دمشق)
سرعة الحركة كما في وصفه للقصور الفرعونية التي غرقت في ماء النيل (وصف قصر أنس الوجود):
قف بتلك القصور في اليم غرقاً
ممسكاً بعضها من الذعر بعضا
تعذارى أخفين في الماء بضاً
سابحاتٍ به وأبدين بضا
3- العاطفة :
تتصف عاطفة شوقي بما يلي :
أقل قوة من العقل في شعره
عاطفة غيرية تضطرم في الحديث عن الغير
لم تكن عاطفته ذاتية حتى في رثائه لأمه وأبيه حارة
وصف العقاد شعر لشوقي لبرود عاطفته بالشعر الذي لا يمثل النفس الممتازة.
4- الأسلوب :
اتصف أسلوب شوقي بما يلي:
جمال التراكيب ووضوحها وقوتها.
جمال الألفاظ وفخامتها وقدرتها على الإيحاء والتأثير في النفوس
قدرة شوقي بسبب موهبته الموسيقية ، وذوقه المرهف على اصطفاء الألفاظ الرنانة والعذبة
قدرته على تناغم الألفاظ وتساوقها.
ـ عباس محمود العقاد (الشاعر1889)-1964م:
أ- حياته وآثاره:
وُلد عباس محمود العقاد بأسوان في سنة 1889 لأسرة مصرية متوسطة، وقد أخذ يختلف -منذ نشأته الأولى- إلى "الكُتَّاب"، ثم إلى المدرسة الابتدائية، وتخرَّج فيها سنة 1903، وكان يلفت معلميه بذكائه ومواهبه الأدبية.
وكأنه رأى أن يختصر الطريق، فرحل عن بلدته وهو في السادسة عشرة من عمره، ولم يُكمل دراسته في المدارس والمعاهد الرسمية؛ بل أخذ يكلمها بنفسه معتمدًا على ذهنه الخصب، والتحق ببعض الوظائف الحكومية، ثم تركها إلى القاهرة وعمل بالصحافة.
ولا نكاد نمضي في الحلقة الثانية من هذا القرن حتى نجده في المدرسة الإعدادية يعلم بها التلاميذ مع صديقه إبراهيم عبد القادر المازني، وارتبط بهذه الصداقة عبد الرحمن شكري، وبذلك تألف هذا الجيل الذي كان يفهم الشعر على طريقة جديدة في ضوء ما يقرأ من الأدب الإنجليزي؛ بل الآداب الغربية المختلفة.
ويخرج شكري الجزء الثاني من ديوانه سنة 1913، فيقدم له العقاد كما يقدم لديوان المازني الذي أخرجه في سنة 1914، وتتم لمصر على أيدي هذا الجيل دورة جديدة في شعرها. وقد أخذ المازني والعقاد يكتبان في النموذج الجديد ويهاجمان النموذج القائم عند حافظ وشوقي. وتصدى المازني لحافظ في مجلة عكاظ سنة 1914، وتصدَّى العقاد لشوقي في كتاب "الديوان" سنة 1921.
وأخرج العقاد أول ديوان من دواوينه سنة 1916، وتعاقبت دواوينه حتى بلغت أربعة، وطُبعت في سنة 1928 مجموعة باسم "ديوان العقاد". ولا تضع الحرب الأولى أوزارها حتى نجد المازني والعقاد جميعًا يتركان التعليم إلى الصحافة، ويتعرف العقاد على سعد زغلول، ويصبح كاتب حزب الوفد ولسانه في الجمهور.
وكان يكتب في جريدة البلاغ الوفدية، فنهض فيها بالمقالة السياسية، مقتبسًا كثيرًا من آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين، وخاصة في مجال الحرية وحقوق الشعب السياسية. وقاد في هذه المقالة معارك مع كُتَّاب الأحزاب الأخرى مثل هيكل كاتب الأحرار الدستوريين، وهي معارك ارتقت بفن الهجاء العربي القديم، فلم يعد هجاء شخصيًّا؛ بل أصبح هجاء حزبيًّا يستمد من المبادئ العامة ومن فكر راقٍ نشيط.
وفي هذه الفترة - أي: في العشرة الثالثة من هذا القرن- رأى العقاد وهيكل وطه حسين والمازني أن ينقلوا إلى قرائهم مباحث الأدب والنقد الغربية، ويشفعوها بنظرات تحليلية في المفكرين الغربيين. وكان ذلك سببًا في ظهور ملاحق أدبية للصحف اليومية، فأخرج هيكل السياسة الأسبوعية، وأخرج العقاد أو أخرجت جريدة البلاغ الوفدية مجلة البلاغ الأسبوعية، ونتج عن ذلك نهضة أدبية واسعة. وأخذ هؤلاء الكُتاب يجمعون مقالاتهم الممتازة في كتب وينشرونها، فنشر العقاد غير كتاب مثل: "مراجعات في الآداب والفنون" و"مطالعات في الكتب والحياة" و"الفصول"، وهي تصور هذا الجهد العقلي الخصب الذي اضطلع به في حياتنا الأدبية، فقد نقل إلينا كثيرًا من الأفكار الأوربية التي لم تكن تعرفها العربية، وسلَّط عليها من شخصيته ما طبعها بطابعه الخاص.
وفي أثناء حكم صدقي "1930-1934" دخلت مصر في ظلال عهد استبدادي أُلغي فيه الدستور والحياة النيابية، فثارت ثائرة كُتاب الأحزاب وعلى رأسهم العقاد، فكتب كتابه "الحكم المطلق في القرن العشرين" وهو أغنية بارعة في الديمقراطية وصلاحيتها للأم الشرقية. وتناول في بعض مقالاته الملك الطاغية فؤادًا، وقُدِّم بسببها إلى المحاكمة، وحُكم عليه بالسجن تسعة أشهر. وقد وصف حياته في السجن بكتابه "عالم السجون والقيود". وبعد خروجه من السجن نشر ديوانه "وحي الأربعين"، كما نشر بحثًا له في "شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي"، ونشر أيضًا بحثًا في ابن الرومي كما نشر قصته "سارة" وديوانه "هدية الكروان"، غير مقالاته المختلفة في المقتطف والهلال.
وتوالت الأحداث فانشق النقراشي وأحمد ماهر على حزب الوفد، فانضم إليهما، وظل يكتب في جريدة الأساس حتى امتنعت عن الظهور. وعُين عضوًا في مجلس الشيوخ وفي مجمع اللغة العربية. والى نشاطه فأخرج دواوينه: "عابر سبيل" و"أعاصير مغرب" و"بعد الأعاصير".
واتجه إلى كتابة التراجم والسير، فكتب في "محمد" و"المسيح" عليهما السلام، وفي أبي بكر الصديق وعمر وعلي، كما كتب في مجالات كثيرة، فتارة يكتب عن الفلاسفة الغربيين والفلاسفة الإسلاميين، وتارة يكتب في موضوعات عامة مثل "عقائد المفكرين في القرن العشرين". ومن طريف كتبه "الله" وله أيضًا "إبليس" و"أبو نواس". وبلغ ما كتبه نحو ستين مؤلفًا كلها تمتاز بحيوية التفكير.
وعباس العقاد بدون ريب عَلَمٌ من أعلام نثرنا الحديث، وقد ظفر نثرنا عنده ببراعة فائقة على أداء المعاني في لفظ جزل رصين، فيه قوة ومتانة، وفيه دقة تشعرك بسيطرة صاحبها على المادة اللغوية، فهو يعرف كيف يصوغ كلمه، وكيف يلائم بينها ملاءمة، يجد فيها قارئوه اللذة والمتعة.
والعقاد يمتاز بهذا الأسلوب الرصين منذ أخذ يكتب مقالاته في أوائل هذا القرن، وهو أسلوب يدل على ما وراءه من ثقافة عميقة بآدابنا العربية، استطاع ن يشتق لنفسه خلال التعمق فيها صياغته البديعة، التي لا ينبو فيها لفظ؛ بل تجري الألفاظ في نسق محكم مطرد.
ولم يتمثل الآداب العربية وحدها، فقد تمثل أيضًا الآداب الغربية تمثلًا دقيقًا، نفذ من خلاله إلى ثراء عريض في معانيه، وهو ثراء لا يستمد فيه من الغرب فحسب؛ بل يطبعه بملكاته، فإذا هو له وإذا هو من صنعه، صنع عقله المشتعل الذي يستقل -رغم محصوله الواسع من الثقافات- بتفكيره وإلحاحه في هذا التفكير إلحاحًا يستحدث في تضاعيفه كثيرًا من الخواطر والآراء.
واقرأه في كل ما يكتب فيه من سياسة وأدب وفلسفة ونقد واجتماع وتحليل للشخصيات فسيروعك عقله الخصب، الذي لا يزال يلح على الفكرة بتوليداته واستنباطاته؛ حتى تتحول من بذرة صغيرة محدودة إلى شجرة باسقة الظلال. وحقًّا قد نجد عنده أحيانًا ضربًا من الصعوبة؛ ولكنها ليست الصعوبة التي تنشأ من الغموض في أفكاره، وإنما الصعوبة التي تنشأ من العمق فيها، فإذا تعمقت معه أصبت لذة لعقلك وشعورك معًا.
فنثره في بعض جوانبه يحتاج منك إلى التمهل والروية، وهما لا يضيعان عبثًا؛ بل تجد فيهما متعة حقًّا، وهي متعة لا تأتي فقط من طرافة تفكيره وعمقه البعيد؛ وإنما تأتي أيضًا مما يشفع به كتاباته من منطق حاد، يأخذ بزمام قارئه، فلا يستطيع منه إفلاتًا؛ بل يذعن ويخضع لأدلته الصارمة. ومن ثم كان إذا ناضل في أي رأي سرعان ما ينتصر؛ بفضل براهينه وأسلحته المنطقية وملاءمته بين هذه البراهين والأسلحة ملاءمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة.
ومن أهم ما يميزه مواقفه الثابتة في الحياة وفي الآراء الأدبية، فهو يقف دائمًا عند رأيه ويثبت ثباتًا، كأنه حصن من حصونه، يعيش فيه، ويعيش له، ويذود عنه ذياد العربي الأصيل عن عِرْضِه. ويروعك عنده دائمًا أنه يؤمن بوطنه وعروبته، وأنه يشعر في أعماقه بأنه يستمد حياته من حياة أمته، فهي دائمًا نصب عينه لا تغيب؛ بل هي دائمًا النبع الروحي لأحاسيسه ومشاعره، بكل ما تموج به من أحداث سياسية وكل ما تُزْهى به من أمجاد ماضية. وقد نال في سنة 1960 جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهًا بأعماله الأدبية. شعره:
يتضح مما قدمنا من حياة العقاد أن عناصر كثيرة تُسهم في تكوين شعره وشخصيته الأدبية، فهو مصري، يستشعر أمجاد المصريين في ضميره وقلبه، وهو عربي، وقد توفر على قراءة الأمهات العربية في النثر والشعر والفلسفة والتصوف، وهو غربي التفكير، تزوَّد من آداب الغرب بكل ما استطاع من غذاء عقلي، فهو مع إيغاله في قراءة الأدب الإنجليزي يتوغل في قراءة الآداب الغربية المختلفة عن طريق اللغة الإنجليزية التي يتقنها، كما يتوغل في قراءة الآثار النقدية.
وعرفنا أنه لم يكمل دراسته العالية؛ ولكنه عوضها بأستاذ صارم من نفسه، دفعه إلى تعهد عقله بالقراءة والتثقيف وشحذ مواهبه بالإدمان الطويل على النظر في آثار الشعراء المختلفين. ونراه في مطالع شبابه يقود مع شكري والمازني معارك التجديد في شعرنا. ومن الغريب أنهما خرجا من الميدان مع الحرب العالمية الأولى، أما هو فثبت فيه إلى اليوم، وكأنه يقوم عنده على دعائم ثابتة، وليست هذه الدعائم إلا روحه القوية التي تؤمن دائمًا بمثل أعلى، ثم تسعى إلى تحقيقه في جهاد متواصل لا يعرف التواني ولا الفتور.
ونحن نلقاه في ديوانه الأول المؤلف من أربعة أجزاء كما نلقاه في ديوانه الأخير "بعد الأعاصير" بنفس الشخصية. ومن يطلع على ديوانه الأول يستطيع أن يلاحظ فيه قصيدة نونية نظمها على نمط قصيدة لابن الرومي وأخرى نظمها خمرية على نمط ابن الفارض؛ ولكن النمط الأول هو الذي كان يتفق مع روح جماعته الأدبية المتشائمة. ولعل ذلك ما جعله يخص ابن الرومي بكتاب، فقد شُغف به منذ فجر حياته الشعرية؛ لأنه وجد عنده نفس الأنغام التي كانت تعجب بها مدرسته، أنغام الحزن والشكوى من الدهر والناس. وليس معنى ذلك أن العقاد كان يُعْنَى بمعارضة ابن الرومي والصب في قوالبه على مثال ما عُنِيَ شوقي بمعارضة البحتري مثلًا. فالعقاد يستقل في شعره وقوالبه عن ابن الرومي وغيره على نحو ما يستقل خليل مطران عن شعراء العرب، فهو مثله يستوعب الصياغة القديمة؛ ولكنه لا يفنى فيها ولا يتحول إلى قوالبها يصب فيها أو يسكب ما في نفسه، فحسبه أن يتمثلها، ثم تصبح ملكًا له يستخدمها كما تشاء ملكته الفنية دون أن يظهر عنده اتباع أو تقليد واضح إلا في القليل النادر.
وهو من هذه الناحية يُعْنَى بأسلوبه عناية واسعة، وهي عناية تقوم على الجزالة والمتانة واستخدام اللفظ الفصيح؛ بل لا بأس أحيانًا من استخدام اللفظ الغريب، ولعل ذلك ما جعله يكثر في هوامش ديوانه الأول من شرح الكلمات؛ ولكنها غرابة في حدود ضيقة؛ إذ يغلب على أساليبه الوضوح، كما تغلب عليها المرونة. ويدخل في هذا الاتجاه محافظته على الأوزان العروضية القديمة، فهو ليس ممن يرون التجديد في الأوزان ولا ممن ينزعون إلى استخدام الموشحات الأندلسية وإن كان يستخدم الشعر الدوري كثيرًا؛ لكنه على كل حال شكل قديم. وكأنما كان يرى التجديد في المعاني دون الألفاظ والعروض، وهذا ما يجعل لشعره الجديد إطاره المستقل، وهو إطار لا يخرج على الأوضاع القديمة؛ بل يستغلها ويوسع في جنباتها لتحتمل تجربته الحديثة.
ومن غير شك هو من هذا الجانب يختلف عن شكري الذي حاول التحلل أحيانًا من القوافي القديمة، كما حاول التحلل أحيانًا من اللغة الجزلة الفصيحة. وهو يختلف عنه من ناحية ثانية، فإنه لا يبلغ مبلغه من البؤس والتشاؤم والحزن العميق؛ بل تتألق أمام عينيه في ظلمات يأسه الآمال، فهو حزين، ولكنه طامح، وهو طموح ينتهي عنده إلى تمرد على الحياة، وسخرية مرة بها وبالناس، بل هو طموح ينتهي عنده في كثير من الأحوال إلى فرح بالحياة وما فيها من متع ونعيم.
ومن أهم ما يميزه استيعابه للفكر الغربي، وهو يعلنه منذ ديوانه الأول ولا يخفيه، فقصيدته الرابعة فيه معربة عن شكسبير وعنوانها "فينوس على جثة أدونيس"، ونمضي في الديوان فنجده يترجم له قطعة من مسرحية "روميو وجولييت"، كما نجده يترجم قطعة عن الشاعر الإنجليزي كوبر بعنوان "الوردة"، ويترجم عن بوب قطعة بعنوان "القدر" .
وهذه القطع المترجمة ليست أكثر من رموز إلى ثقافته بالآداب الغربية، وهي ثقافة تتعمقه، ومع ذلك استطاع أن يتحرر منها كما تحرر من ثقافته العربية؛ ليجد نفسه وشخصيته وروحه المصرية الجديدة. وهي روح تبرز عنده -كما يمثلها ديوانه- في اتجاهين، أما أولهما فالوقوف بآثار الفراعنة وإشادته بحضارتنا القديمة، ومن خير ما يصور ذلك قصيدتاه "أنس الوجود" و"تمثال رمسيس". وأما ثانيهما فوصف عواطفنا السياسية والوطنية، وأروع ما يصور ذلك قصيدته "يوم المعاد" التي نظمها بعد رجوع سعد زغلول من منفاه، وفيها يقول:
ما يبتغ الشعب لا يدفعه مقتدر ... من الطغاة ولا يمنعه مغتصب
فاطلب نصيبك شعب النيل واسم له ... وانظر بعينيك ماذا يفعل الدأب
ما بين أن تطلبوا المجد المعد لكم ... وأن تنالوه إلا العزم والطلب
وهو في الاتجاهين جميعًا يختلف عن زميله شكري الذي لم يكن يُعْنَى بالتغني بأمجادنا القديمة وعواطفنا الوطنية إلا نادرًا؛ إنما كان يُعْنَى قبل كل شيء بنفسه وخواطره الذاتية.
ومما يمتاز به العقاد أيضًا في ديوانه الأول أن الوَحْدَة العضوية للقصيدة تتكامل عنده، فلم تعد أنغامها تتبدد بين موضوعات مختلفة؛ بل أحكم التآلف بينها؛ بحيث أصبح للبيت في القصيدة مكانه الذي لا يعدوه، فهو جزء من كل، أو هو عضو من جسد واحد، ومن الصعب أن ينقل إلى غير مكانه أو ينزع من موضعه.
وليس هذا وحده ما يمتاز به العقاد في تجربة المدرسة الجديدة، فقد نَمَّى بناء القصيدة العام تسعفه في ذلك ثقافته الواسعة بالآداب الغربية، ولسنا نقصد البناء اللفظي؛ وإنما نقصد البناء المعنوي، وما يزخر به شعره من تأملات وتوليدات عقلية يرسلها على كل ما حوله خاضعًا للمنطق خضوعًا شديدًا. وأهم الموضوعات التي تستنفد شعره في ديوانه الأول بأجزائه الأربعة الحب والطبيعة، أما الحب فنراه يعبر فيه تعبيرًا دقيقًا عن المشاعر والإحساسات الدفينة، ومن خير قصائده فيه "نفثة" التي يستهلها بقوله:
ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا ... عذب المدام ولا الأنداء ترويني
وقصيدته التي نظمها في قطعتين بعنوانين متواليين "مولد الحب، وموت الحب"، وفيها قارن بين مولد الحب ونهايته السريعة مقارنة طريفة.
وتحتل الطبيعة الصامتة والمتحركة حيزًا واسعًا في الديوان، وقد خص النيل بقصائد كثيرة لعل أهمها "على النيل". ووقف كثيرًا عند الليل، وله قصيدة بديعة في الصحراء وقصائد مختلفة في البحر، ويحرك القمر ببهائه فيه كثيرًا من العواطف الحية. ونراه يولع بتصوير فصول السنة، كما يولع بعالم الزهور وخاصة بالوردة. ويقف طويلًا أمام عالم الطير تملؤه الرحمة كما يملؤه العطف والشفقة. وهو في كل ذلك يحلق بأفكاره في مدى بعيد من الحس والشعور والتأمل العقلي الواسع. ولا يخلو شعره من الفكاهة على نحو ما في قصيدته "ثقيل" كما لا يخلو من الأفكار الفلسفية الدقيقة على نحو ما نرى في قصيدتيه "الدنيا الميتة" و"الموسيقى".
وهذه الأنغام التي نستقبلها من ديوانه الأول المكوَّن من أربعة أجزاء هي نفس الأنغام التي نستقبلها بعد ذلك في دواوينه التي أخرجها من بعده، أو هي على الأقل أغلب تلك الأنغام. فقد أخرج ديوانًا سماه "وحي الأربعين"، وأكثره تأملات في الحياة وخواطر في الحب والطبيعة. وتلاه بديوان سماه "هدية الكروان"، نظم فيه كثيرًا من القصائد في هذا الطائر المصري الذي يملأ ليالي الوادي بأناشيده العذبة وترتيلاته الشجية، وأمُّ هذه القصائد قصيدته:
هل يسمعون سوى صدى الكرْوان ... صوتًا يُرفرف في الهزيع الثاني
وهي من قصائد ديوانه الأول، جعلها فاتحة قصائده في هذا الديوان والنبع الذي يستمد منه أنغامه وألحانه فيه. ولا نشك في أنه يستلهم في هذه القصيدة وذلك الديوان قصيدة شللي الشاعر الإنجليزي "إلى قبرة"، وهي من روائع هذا الشاعر وبدائعه، وفيها يشبه القبرة بالفرح المجرد. وليس معنى ذلك أن العقاد يقتبس من شللي أو ينقل، فهو يلهمه ويوحي إليه، أما بعد ذلك فمعانيه في قصائده له. وقد نحس نفس الإحساس إزاء كثير من قصائده بدواوينه المختلفة في الطبيعة والحب، ففيها جميعًا أثر قراءاته في الآداب الغربية؛ ولكنها مطبوعة بشخصيته، وتستمد من أفكاره وأحاسيسه ما يجعلها مصرية عربية صميمة.
ورأى في الغرب منزعًا نما بعد الحرب العالمية الأولى؛ إذ انصرف بعض الشعراء عن الحب والطبيعة والميثولوجيا القديمة إلى حياتهم الحاضرة، وحولوا كل ما فيها مما يُعد يوميًّا عاديًّا أو تافهًا إلى شعر لا يقل عن شعر الحب والطبيعة جمالًا وجلالًا. وفي داخل هذا الاتجاه أصدر ديوانه "عابر سبيل"، وفيه نراه يأخذ بعض الموضوعات اليومية ويفيض عليها من تأملاته العقلية والنفسية، على نحو ما نرى في قصيدته "كواء الثياب ليلة الأحد"، وهو يستهلها بقوله:
لا تنم لا تنم ... إنهم ساهرون
ومن قصائده في هذا اللون الجديد التي تؤثر في قارئها حقًّا قصيدة "صورة الحي في الأذن" و"نداء الباعة قبل انصرافهم في الساعة الثامنة". ونجد بجانب هذه القصائد متفرقات لعل أروعها قصيدته التي حيَّا فيها "دار العمال" ونعى ظلم الأغنياء لهم، بينما ينعمون بعرق جبينهم وجهد أيديهم.
وأخرج في الحرب العالمية الثانية ديوانه "أعاصير مغرب"، وسماه هذا الاسم إشارة إلى ظهوره وعالم الدنيا مضطرب بأعاصير الحرب وعالم نفسه مضطرب بأعاصير مختلفة من حب وغير حب. وهو موزع فيه بين العالَمين، وفيه كثير من الرثاء وشعر المناسبات، ولعل أروع قصائده فيه قصيدته في المذياع أو كما سماه "صَدَّاح الأثير"، وهو يفتتحها بقوله:
ملأ الآفاق صداح الأثير ... لا فضاء اليوم بل صوت ونور
وآخر دواوينه "بعد الأعاصير"، وأكثره مراثٍ ومناسبات، وضمنه مرثية ومقالة بديعة في صديقه المازني .




21 ـ جبران خليل جبران
(1883 – 1931 )
الشاعر - الناثر
حياته : في بلدة تجاور الأرز , تغزل الوجود اخضر , لتهم , تصلي , وتستمر , تحدث , فتنطق وتسكر , وتروي ملحمة خضراء لا تعرف مع الحياة نهاية , في بشري ولد جبران خليل جبران سنة 1883 , ومضى ينسج صباه في بيت يقسو فيه أب , ويتعبد اللذة , وتصفو أم تذوب ملائكية , وفي مراتع تجللها تراتيل الأجراس , وتوشيها مواسم الجمال واللذة , وما عرف الصبي عادية النشأة فأسرف في التجوال , وغالى في الضياع , وهام يرى من الطبيعة الفاتنة الساحرة . وتعلم في مدرسة بلدته . وما لان معها . وترشف ما شاء من دين – وطقوس . وكان للهجرة أن تنفذ إلى بيته المتذمر في معشره المتضور في عيشه , وتعزم أمه ( كاملة رحمة ) على أن تهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية , فتصحب معها جبران , وسائر أولادها , ويحطون الرحال في مدينة بوسطن , وجبران ما تعدى يومذاك الثانية عشرة من عمره , ويدخله أخوه بطرس المدرسة فيواصل تعلمه ويتقن الانكليزية . وأمضى في مدرسته بضع سنين . وأرسله بعدها أخوه إلى لبنان . فانتظم في مدرسة الحكمة , وتتلمذ فيها على الخوري يوسف حداد . وإذا هو يجدد حياته في بشري فعاود تجوالاته وتقدم في تأملاته . ويشدو الهوى يخضر ويطيب . وأمضى جبران ثلاث سنوات في ( الحكمة ) وعاد إلى مدينة هجرته بوسطن , ومضي يحاول الإبداع في الرسم وممارسة الكتابة , ويفقد أخته سلطانة ثم أخاه بطرس . وبعد ذلك أمه . ويبدع في الرسم ويقيم معرضا ً لرسومه ويأتيه الزائرون , ويلتقي في هذه الأثناء بالآنسة ماري هسكل . وتنشأ علاقة حميمة بينهما . وما كان جبران يفتر في كتابته العربية فوضع كتابيه : ( الموسيقى ) و ( عرائس المروج ) .
وانطلقت ماري هسكل تساعده وتشجعه , وأرسلته إلى باريس ليواصل تعلمه للرسم , وقضى في فرنسا ثلاث سنوات . إفادته في مواهبه وثقافته . وعاد بعدها إلى بوسطن . وانتقل منها إلى نيويورك , واصدر كتابه ( الأجنحة المتكسرة ) واحدث ضجة في البلاد العربية .
وكان قد بدأ منذ سنين تأليف كتاب النبي في الانكليزية . ويصر على انجازه ويصدر فيلقى رواجا ً كبيرا ً .
ولم يكن بقي له من أسرته المهاجرة سوى أخته مريانا , وإذا هو يجد في ماري هسكل الأم والأسرة . وكانت عونا ً له في كتابة مؤلفاته في اللغة الانكليزية مثل ( النبي ) , ورمل وزبد ) , و ( يسوع ابن الإنسان ) و ( حديقة النبي ) وغيره .
والتقى جبران في نيويورك ببعض الأدباء العرب مثل ميخائيل نعيمة ونسيب عريضة وعبد المسيح حداد وإيليا أبو ماضي وشاركهم في إنشاء الرابطة القلمية , وساهم في إصدار مجلة الفنون لصاحبها نسيب عريضة . ونشر كثيرا ً من المقالات في الصحف والمجلات العربية , في المهجر والبلاد العربية .
ودرت عليه كتبه ورسومه أموالا ً وافرة . وعمل في التجارة فأصيب بنكبة مؤثرة ورغب في الزواج من ماري هسكل , فما لبت مطلبه , وراسل مي زيادة , وعمقت له معها علاقة حب وصداقة , وتعرف على نساء غيرها مثل ميشالين . وبربارة يونغ رفيقته في سنواته الأخيرة .
وعاش جبران بعض من تألق شهرته , وخاصة في العالم الأمريكي . وأحس بالمرض يعمق في جسده , فراح يسابق الزمن , يعطي حياته صورا ً وكتابة ويباشر بوضع كتابه ( موت النبي ) وما استمر عطاؤه , وآلى إلى انطفاء. وكانت وفاته في سنة 1931 . ونقلت رفاته إلى لبنا ن ليرقد في مهد صباه , في بشري ملهمته الأولى في الإبداع والخلود .
شخصيته : فطر جبران على الطموح , والشغف بالجمال , والوله بالتأمل والأحلام , وإذا هو ينشد العظمة يشتاق إليها , ويعطيها ولا يرتوي منها أو يكل , وصفا عنده الطبع , ورهفت المشاعر , وتجنح الخيال وعمقت مواهبه , وشعر بامتياز : فعمل جادا ً على تأكيده وإثباته . ويسعى لذلك في ممارسة الكتابة في اللغتين العربية والانكليزية والرسم وفي مجالات وطنية واجتماعية وإنسانية وفتنته بلاده العريقة الجميلة , فكان منها في مختلف معطياتها . فإذا هو يرق ويعذب ويسمو في الحب . فيرفض التعصب , ويثور على المفاهيم الرثة البالية ويرحب في مداه الإنساني . ويقبل على الدين بقلبه وروحه , ليكون معه في المنطلق الأرحب , فيتجاوز اختلاف أشكاله وأغراض دعاته والمتنفعين به ويزيده ذلك إيمانا ً بالحقيقة , وشوقا ً إلى اكتشافها ويمضي إليها يتامل ويحب ويتصوف . وما هو يهون في ذلك أو يتذمر . ويحس ببعد عن الآخرين وغربة فلا ينتهي إلى عزلة قاتمة أو يغيب في شرود , بل يزداد حبا ً لأرضه وبلاده وللإنسان في كل مكان . ويكبر في شوقه وعطائه وخياله فيرى في نفسه الرسول أو النبي ويصدق شعوره برسوليته , ويظهر ذلك في بعض أحاديثه ويكون مع معلمية جديدة . وتتراءى له الحقيقة أكثر ويسطع بريقها . ويولد عنده الهوى الصوفي ويبشر وكأنه الآتي الجديد . وتظل له حيال ذلك اهتماماته البشرية , وتضرب جذوره في أعماق الأرض , وتتمايل غصونه في أجواء السماء , ويصوغ من بشريته ومثاليته شخصية منطلقة متسامية بارزة .
آثاره : ظل جبران ينهل ويجني , وتفتحت البراعم تطيب تعد ومضى يكتب ويرسم وينشر الأماني ويفتق الأحلام , ويبدع الصور والتأملات , وما يمل من جني أو يمتنع عن عطاء , ويسلسل على مدى العمر رسومه وكتبه , يسجد فيها من طبيعتنا , ويعب من تراثنا ويغني بحياة مجتمعه وعصره ... وينثر خواطره وتأملاته ونظراته , ومعالم فلسفته . وتستوي له الآثار الكتابية التالية :
الموسيقى : يقدم فيه الكاتب معارفه الموسيقية وخواطره نحو الموسيقى . فيشوق في تذوقه ويسطع في حيوية .
عرائس المروج : يذهب فيه جبران بعيدا ً في تمجيد الحب وتقديسه , ويرفض موت العاشقين وهم ما جنوا بعد وصالا ً . وينطلق مع صدق الإيمان , فيخزي كل دجل باسم الدين متناقض مع روحه .
الأرواح المتمردة : هو ثورة على التقاليد الجامدة حيث يذبح الصبا الجميل على مذبح الجاه والمال . وينتصر فيه الحب على كل ما يصادفه في طريقه .
الأجنحة المتكسرة : هو صرخة الطبيعة المحبة ورفضها لكل ما يشوه هيكل الحب من مصطنعات طقسية أو مظاهره جاهية باطلة .
دمعة وابتسامة : هو تدفق في الصوفية والروحانية , وابتعاد عن عاديات الأمور وانطلاق صاف في مجال الإيمان .
المواكب :هو حوار ينطلق فيه صوتان صوت المدينة وصوت الغاب ويميل الشاعر إلى الغاب فيبرز اتجاهه الرومانسي .
بدائع وطرائف : مجموعة مقالات , وفيه يظهر ميل جبران إلى طبيعة الحياة ثم إلى الوحدانية الكونية , أو التقدم في مجال الصوفية .
مناجاة أرواح : هو تأملات وجدانية عميقة ومعطيات روحية شفافة .
العواصف : يخصب جبران في كتابه (( العواصف )) , في هدمه وتمرده ويعطي من رغبات حارة في تغيير مجتمعه وتجديده وإذا هو نقم وحمم على التخلف والجمود والشعوذة , وينشد لمجتمعه القوة لتكون عاملا ً أساسيا ً في خلاصه وتحرره وتقدمه . وما يغيب جبران في العواصف عن التأمل المتألق الكاشف أو الصوفية المتنورة المستجلية .
المجنون : هو يصور موقف الإنسان الصادق العارف من العالم وإذا الرفض متبادل بينهما , ويتهم العالم رافضة بالعته والجنون .
السابق : يعبر فيه جبران عن فهمه لحركة الحياة ولما تعنيه من مراحل متطورة , ينسخ بعضها بعضا ً .
النبي : وهو وقفة جبران الهادفة ليبلغ كلمته , ويقدم صورته , ويحكي الحياة كتابة ورسما ً .
رمل وزيد : يضمنه الكاتب خواطره وآراءه وهو تتمة لما تقدم في كتاب (( النبي )) .
عيسى : ينظر فيه جبران نظرة جديدة إلى المسيح فانه لا يعطي من ضعف أو يلين في مسكنه , كما اعتادوا وصفه , ولكنه يقوى ويتمرد ويتحدى حتى وهو على الصليب .
حديقة النبي وموت النبي : وهما كتابان ما أتم جبران تأليفهما وليكونا متابعة لموقفه من الحياة والوجود .


21 ـ جبران خليل جبران ( الشاعر)


خصائص جبران العامة
مضى جبران يسكب عمره , يكتب ويرسم , واذا التعبير عنده علام ورسم , وجال جولاته الطامحة في شؤون الفكر والحياة , يرفض ويتمرد ويثور يريد أن يغير , أن ينشر الحق ويشيع الجمال , ويحطم القيود ويمسح الارض حبا ً وعطاء , ويخرج بلاده من ظلمة تبلد وتخلف وفوضى وتبعية , إلى حياة الخلق والابداع والسيادة , إلى العصر , وطفق يرسم فكره يعطيه في كتب ومقالات وصور وشعر ليكون له الطريق والوجود وليخلق الجديد ويمتص ارى النبوات وكنوز الفلسفات والرسالات ويجمع بين الشرق الجديد والغر . ويتناسق عطاؤه فيتلاحم , وتبرز فيه الخصائص العامة التالية :
الذاتية : قويت الذاتية عند جبران وعمقت فهي تبرز جلية في قصصه وخواطره , وشتى مواقفه ومؤلفاته . وإذا ( الأنا ) محور كثير من معطياته الأدبية وهي تظل صريحة حينا ً ومموهة حينا ً آخر , ويكون هو نفسه احد أبطال روايته (المتكسرة ) :
(( كنت في الثامنة عشرة عندما فتح الحب عيني بأشعته السحرية ولمس نفسي لأول مرة بأصابعه النارية ... )) .
وهو نفسه ثائر كتابه ( العواصف ) ومتمردة :
(( أنا أكرهكم يا بني أمي لأنكم تكرهون المجد والعظمة ...
أنا احتقركم لأنكم تحتقرون نفوسكم ...
أنا عدوكم لأنكم أعداء الآلهة ولكنكم لا تعلمون )).
وبرز جبران في عرائس المروج ويموه بعض الشيء في كتبه (( النبي )) و(( السابق )) و (( الجنون )) .. وغيره , ويثبت مكانه في الخط الرومانتيكي .
الحزن والكآبة : زارت الآلام جبران مبكرة , ومضى بعطيها في رومانسية كالحة شاحبة حزينة حتى كأنها جزء لا يتجزأ من كيانه وأدبه ويخصب الحزن والكآبة في أكثر من اثر من آثار جبران . ويدفق الكاتب لوعة واسى في (( الأجنحة المتكسرة )) وفي مختلف رسائله , ويتعمق روحه الحزينة في كتاب ( دمعة وابتسامة )) ويقول في احد فصوله : ( موت الشاعر حياته ) على لسان الشاعر الفتى :
(( تعالي أيتها المنية الجميلة ..
فقد اشتاقتك نفسي .
اقتربي وحلي قيودها المادة فقد تعبت من جر .
تعالي يا أيتها المنية الحلوة وأنقذيني من بين البشر الذين طلبوني غريبا ً عنهم لأنني أترجم ما اسمعه من الملائكة إلى لغة البشر ..)) .
الوطنية : يرهف جبران في إحساسه ويعمق في مشاعره .. ويكون مع وطنه لبنان وكل البلاد العربية فيعاني ما تعانيه . وهو يصفو في حب بلاده ليكون ذا نزعة وطنية عميقة , ويعزز في ذلك عطاؤه ويثير ويؤثر . وقد سطر صيحاته الوطنية في كتابه (( العواصف )) وفي أكثر من واحد من فصوله . مثل ( يا بني أمي ) و ( في ظلام الليل ) و( مات أهلي ) ...
(( أرواحكم تنتفض في مقابض الكهان والمشعوذين وأجسادكم ترتجف بين أنياب الطغاة والسفاحين , وبلادكم ترتعش تحت أقدام الأعداء والفاتحين )) .
(( لو ثار قومي على حكامهم الطغاة , وماتوا جميعا ً متمردين لقلت أن الموت في سبيل الحرية لأشرف من الحياة في ظل الاستسلام )) .
الرفض والتمرد : يتقدم جبران في وعيه وثقافته ومشاعره ويرفض تقاليد وعادات بلاده . ويتمرد عليها , ويدعو إلى نقضها وهدمها ليكون مع تخيلات وتصورات وإرهاصات لعالم أفضل فهو يكتب ( الأجنحة المتكسرة ) لرفض عادات وأعراف في الزواج , وينشئ ( عرائس المروج ) و ( الأرواح المتمردة ) للتعبير عن تمرده على مفاهيم ومقاييس عفنة بالية في مجتمعه اللبناني والعربي والشرقي :
(( إن رؤساء الدين في الشرق لا يكتفون بما يحصلون عليه أنفسهم من المجد والسؤدد بل يفعلون كل ما في وسعهم ليجعلوا انسباهم في مقدمة الشعب ومن المستدين به )) ..
(( أما البشر فمحرومون من هذه النعمة لأنهم وضعوا لأرواحهم الإلهية , وشريعة عالمية محدودة . فإذا ما قام واحد من بينهم وانفرد عن جامعنهم قالوا هذا متمرد شرير خليق بالنفي )) .
نزعة القوة : عمق تفاعل جبران مع قضايا بلاده وعظم تأثره بكتاب ( هكذا تكلم زرادشت ) للفيلسوف الألماني ( نيتشه ) , فبرزت عنده نزعة القوة وإذا هي تتجسم جلية واضحة في كتابه ( العواصف ) . وما هو يأسى ويذوب في التوجع إنما يقوى ويهدر بالقوة كسنة الحياة الاقوم , وكعطاء سديد لا يفتر أو يقهر :
(( أما أنا فقد سكت لان آذان العالم قد انصرفت عن همس الضعفاء وأنينهم إلى عويل الهاوية وضحيتها , ومن الحكمة أن يسكت الضعيف عندما تتكلم القوى الكامنة في ضمير الفرد , تلك القوى التي لا ترضى بغير المدافع ألسنة ولا تقنع بسوى القنابل ألفاظا ً )) .
الإصلاح : إذا ما شاق الهدم جبران فلم يكن ذلك غايته . فهو مع العطاء والتجديد والإصلاح , وليكون مع أحاسيسه المتوثبة وثقافته المتقدمة . وتتعدد تطلعاته الإصلاحية , وتختلف مجالاتها فهي في التقاليد والفنون , والسياسة والحكم وما هو يتكلف إصلاحه , ولكن تدفعه إليه أفكار يعتنقها وطرق جديدة يراها , وتظهر منطلقات إصلاحه في ( دمعة وابتسامة ) والبدائع والطرائف وغيرهما من كتبه , فهو يغضب غضبه المتحرق في ( دمعة وابتسامة )على ما يحاك من أوهام باسم الشعر هذا الذي لا يراه إلا ابتسامة في القلب أو تنهده حارة :
(( ما أنا من المتعنتين ولكن يعز علي أن أرى لغة الأرواح تتناقلها السنة الأغبياء)) .
(( الشعر يا قوم روح مقدسة مجسمة من ابتسامة في القلب أو تنهدة تشرق العين مدامعها )) .
ويجرؤ على كشف ما يحيط بالدين من زيف ويدعو إليه كما هو في حقيقته وجوهره :
(( لا ولا الدين بما تظهره المعابد وتبينه الطقوس والتقاليد , بل بما يختبئ في النفوس ويتجوهر بالمنيات )) .
وتتوالى مواقف جبران الإصلاحية في كتبه الثائرة وهي تصب في مجالات من الحياة شتى , ليهدم أباطيل وينشر حقائق وسننا ً تسمو وتبقى .
الإيمان الجريء : تأثر جبران بالكتب الدينية على اختلافها ليكون معها في روحها وأبعدها , ولتثبت هذه في كل ممارسة دينية , وهو ينتفض حانقا ً عاصفا ً كلما رأى الدين في غير جادته وينهال على الفرنسيين لوما ً وتقريعا ً ويجول جولاته المسيحية هادما ً حينا ً , ومصلحا ً مجددا ً حينا ً , وتستوي المسيحية كمصدر بارز لأكثر كتبه مثل ( الأجنحة المتكسرة ) و ( ودمعة وابتسامة ) و ( العواصف ) و ( عرائس المروج ) و ( الأرواح المتشردة ) و ( النبي ) و ( يسوع ابن الإنسان ) وغيره ...
وهو يقوي ويعمق في مسيحيته , ويعمل على تخليصها من كل من يأفك باسمها ليتساقط من حلوها الضباب الأسود , ويمضي بها كما يجب ويرضى غير مبال بما يثار من غبار , أو يرشق به من أباطيل , ويقول على لسان ( يوحنا المجنون ) :
(( لقد أقاموا يا يسوع لمجد أسمائهم كنائس ومعابد كسوها بالحرير المنسوج والذهب المذوب , وتركوا أجساد مختاريك الفقراء في الأزقة الباردة )) .
ويقول على لسان الشيطان في ( العواصف ) , في مخاطبة احد الآباء الفرنسيين :
(( ما أذكاك وابرعك يا حضرة الأب , بل وما أعمق معارفك بالأمور اللاهوتية ... اقترب يا أخي .. تعال واحملني إلى بيتك فانا لست بثقيل الجسم ... )) .
ويقول على لسان ناتانئيل في يسوع بن الإنسان : (( إنما ابشر بالمسيح القانص المقتدر , والروح الصلدة التي لا تقهر )) .
الصوفية : انطلق جبران في مسيحيته النقية الصافية ليجوب بها غيرها من الأديان وليكون مع التصوف , مع الله . ويسقط البعد بينه وبين الله , ويعود القبس إلى أصله وتكون الحلولية . فقد قال في كتابه ( المجنون ) :
(( يا الهي الحكيم العليم , يا كمالي ومحبلتي ! أنا امسك وأنت غدي . أنا عروق لك في ظلمات الأرض , وأنت أزاهر لي في أنوار السماوات , ونحن ننمو معا ً أمام وجه الشمس فعطف الله إذا ذاك علي وانحنى فوقي , وهمس في أذني كلمات تذوب رقة وحلاوة . وكما يطوي البحر جدولا ً منحدرا ً إليه طواني الله في أعماقه )) .
وقد ألهمته الصوفية في ( النبي ) عمقا ً في الصفاء والانطلاق الرؤوي .
التناسخ :آمن جبران بالتناسخ شان أكثر من أديب عربي مهجري وإذا هو يقول بالتقمص , ويبرز عنده هذا الاتجاه في أكثر من واحد من كتبه مثل ( عرائس المروج ) إذ يقول في احد فصول : ( رماد الأجيال والنار الخالدة ) على لسان حبيبة ناتان ابن الكاهن حيرام : أنا راحلة يا حبيبي إلى مسارح الأرواح وسوف أعود إلى هذا العالم لأني من الذين ذهبوا إلى الأبدية قبل أن يتمتعوا بملذات الحب وغبطة الشبيبة .))
وهو يقول على لسان المصطفى في كتاب النبي ما يلي :
لا يغربن عن بالكم إني سأعود إليكم .
هنيهة بعد , ويعود حنيني فيجمع الطين والذبد لأجل جسد أخر .
هنيهة بعد – لمحة استراحة على الريح وتلدني امرأة أخرى . )) .
وقد برز التقمص عند جبران في فصل الشاعر البعلبكي في كتاب ( العواصف )
الإنسانية : ظل جبران يسمو في نقاوته ويعمق في إنسانية ويكبر في محور الإنسان يعطي منه وله . ويضع سفره ( النبي ) فيصدح صوته الإنساني كما لا أصفى وأعمق , وهو يتردد في غيره من الكتب كالمجنون و( السارق ) ورمل وزبد و ( وحديقة النبي وسواها ... وهو يحلق رائعا ً في إدراكه الإنسانية وذلك إذ يقول في النبي :
(( هو أن تحوك النسيج فتستل خيوطه من قلبك كما لو كانت حبيبتك سترتديه . وهو أن تبني البيت بشوق ولهفة كما لو كنت تشيد مسكنا ً لحبيبتك ...
وهو أن تنفخ من روحك في كل ما تصنعه يداك . )) وكم تشرق إنسانيته في كتابه ( رمل وزبد ) فتصفو نفثاته وتعذب (( الصالح هو ذلك الذي لا يفصل ذاته عن جميع من يحسبهم العالم أشرارا ً .
(( الجريمة اسم من أسماء الحاجة أو مظهر من مظاهر المرض . )) .
الاتجاه الرومانسي : لقد تأثر جبران تأثرا عميقا ً بالاتجاه الرومانسي الغربي فاستلهمه في كثير من معطياته الأدبية . وهو ينظر على ضوئه إلى كثير من قضايا المجتمع والحياة , ويكون ذلك طابع أكثر من واحد من كتبه مثل ( الأجنحة المتكسرة ) و ( عرائس المروج ) ( دمعة وابتسامة ) و ( المواكب ) وغيره .. فهو يجسد باتجاهه الرومانسي كل أمانيه وأحلامه :
ليس في الغابات حزن لا ولا فيها الهموم
فإذا هب نسيم لم تجئ معه السموم
وغيوم النفس تبدو من ثناياها النجوم
ليس في الغابات موت لا ولا فيها القبور
فإذا نسيان ولي لم يمت معه السرور .
الثورية : لم يكن جبران يرفص أو يتمرد لمجرد الرفض أو التمرد , فهو يثور ليهدم ويعتزم البناء . وكما عنف في هدمه في ( الأجنحة المتكسرة ) و ( الأرواح المتمردة ) و ( العواصف ) : (( سيوفكم مغلفة بالصدأ وتروسكم مغمورة بالتراب , فلماذا تقفون في ساحة الحرب . دينكم رياء ودنياكم ادعاء , وآخرتكم هباء , فلم تحيون والموت راحة الأسفار ) فانه يسمو ويعظم في بنائه في (( النبي )) و ( السابق )) و (( رمل وزبد )) :
(( ولذلك نسألك أن تظهرنا لأنفسنا وان تحدثنا عم كل ما انكشف لك من شؤون الفسحة التي تمتد بين الولادة والموت فكان جوابه : يا أهل اورفليس عما عساني أحدثكم أن لم يكن عما يعتلج في نفوسكم )) .
المذهبية والتفلسف : عمقت نزعة التفرد والاستقلال عند جبران , فإذا هو يعنف في تمرده وثورته وهدمه ورفضه . ويعطي في تصوره وبنائه . ويظهر ذلك في أوائل كتبه كالأجنحة المتكسرة , وعرائس المروج ثم المواكب وما هو يتجاوز فيها مجال البحث والتجربة , ويزداد ثقة في فكره وتصوره , فإذا هو مع مذهبه وتفلسفه , ويتمثل ذلك في كتابه ( النبي ) ثم في ( يسوع ) ورمل وزبد والمجنون والسابق وحديقة النبي . ويثبت لجبران اتجاهه التأملي ولنكون مع ( الجبرانية ) المزيج من التأملية الشرقية والواقية الغربية , وإذا هي طرح لمنهجية خاصة في الحياة الإنسانية .
التصويرية : طغت ملكة الرسم على جبران , فإذا هي تطبعه بطابعها في كتابته وتزهر عنده الصورة وتعمق , وتغنى بالدلالة والإيحاء , وتزيد في حيوية كتابته وجاذبيتها فتشد الانتباه إلى خيوط نسجها , مغطية بذلك ما قد يشوب تعبيرها من ضعف , حتى يصبح بعض كتبه مسلسل لوحات فنية رائعة وإذا بجبران الفنان يكتب ويرسم في وقت واحد :
(( انتصف الليل ونمت رهبة السكون وطلع القمر ناقصا ً , وبان بين النجوم كوجه ميت شاحب غارق في المساند السوداء بين شموع ضئيلة بنعشه . وظهر لبنان كشيخ لوت ظهره الأعوام , وأناخت هيكله تكرار الأحزان وهجر أجفانه الرقاد , فبات يساهر الدجى , ويترقب الفجر , كملك مخلوع جالس على رماد عرشه بين خرائب قصره . )) .
القصصية : كان لعظمة الخيال عند جبران أن توحي إليه بكتابة القصة فإذا هو يعطيها رواية وقصصا ً , وأقاصيص ويكون له في ذلك الأجنحة المتكسرة , والأرواح المتمردة , وبعض فصول في دمعة وابتسامة ومناجاة الأرواح والعواصف وقوى تأثير نزعته الدينية عليه في كتابته القصصية وقد جنى ذلك على نسجه الفني القصصي وكذلك الحال مع نزعته النقدية . حتى بدأت أقاصيصه شبيهة بالمقالات إذ تحمل بعض أسمائها الأساسية .وتظل له ملكته القصصية حتى أن نتاجه فصول في رواية واحدة ويكون هو بطلها الرئيسي .
الموسيقية : مال جبران إلى الموسيقى وأحبها , لتكون عنصرا ً بارزا ً في كتابته العربية والانكليزية , ويجمع بين العزفية والتصويرية . وان ذلك هو الذي قاده إلى كتابة ما يسمى بالنثر الشعري أو ( الشعر المنثور ) .
وإذا الألفاظ تتناغم وتتناسق فترق وتعذب وتطرب : (( اسكت يا قلبي فالفضاء لا يسمعك .
اسكت فالأثير المثقل بالنواح والعويل لن يحمل أغانيك وأناشيدك .
اسكت فأشباح الليل لا تحفل بهمس أسرارك ومواكب الظلام لا تقف أمام أحلامك )) .
المنهجية الرسولية : تأثر جبران بمنهجية الكتب الدينية على اختلافها :
التوراة والإنجيل والقرآن وغيرها ليعطي يف كتابته من أسلوبيتها ويكون اقتداؤه كثيرا ً بالإنجيل . وتمثل ذلك بارزا ً جليا ً في كتابه النبي :
(( عندها قالت المطرة : حدثنا عن الحب
فرفع رأسه وألقى نظرة على الجمع حواليه وللحال هبطت على الكل سكينة , ثم فتح فاه وقال بصوت عظيم : إذا الحب أومأ إليكم فاتبعوه , حتى وان كانت مسالكه وعرة وكثيرة المزالق .
الرمزية : أعطى جبران الرمز في كتابته وأكثر منه وما هو يغمض مبهما ً فيه , وقد يستوي الرمز عنده مقالة حينا ً وقصيدة أو أقصوصة حينا ً آخر , وسواء ذلك في العربية أم الانكليزية .
وما قصيدته ( المواكب ) وأقاصيصه ( يوحنا المجنون ) و ( خليل الكافر ) و ( المجنون ) , إلا معطيات رمزية كما وان رموزه التعبيرية تتردد كثيرا ً في كتاباته مثل المجنون واليقظة الروحية والغاب والبحر والثياب , وقد تميل رموزه في الانكليزية إلى أكثر في الإبهام .
المرونة والتصويرية : وضح الطابع التصويري والمرونة في أسلوب جبران في العربية والانكليزية فهو يتقدم باستمرار إلى صفاء وقوة سبك فحملته تطول في الأجنحة المتكسرة ويشوبها أحيانا ً ضعف وغموض , وتقوى في العواطف وتسلس وترق وتزيد في النغم . كما أن عبارته في ( النبي ) في اللغة الانكليزية تبلغ مستوى بليغا ً رائعا ً .
الأصالة والتجديد : قدر جبران على تميزه وانفراده في أسلوبه كتميزه في فكره . وإذا طريقته في ذلك تجنح في الخيال وتغنى بالتصوير , وتعذب بالنغم ويستوي أصيلا ً رائدا ً فيها , فيقتدى به ويبرز في الكتابة العربية المعاصرة .
مكانة جبران وأثره .
رحبت ثقافة جبران وتنوعت مطالعاته ودراساته . وعمق في تجاربه ومعاناته . واستلهم في أدبه ورسمه , فانطلق في آفاقه وصفا في رؤيته ومضى في مسيرته يدفق فنه في أدبه ورسمه . وغرز في عطائه .وإذا هو الرومانسي المجدد والفنان المبدع . وتقدم في نتاجه وبرز في اتجاهه , فعرفت له ريادة ثابتة في الأدب العربي المعاصر . وعظم في مكانته , وكبر تأثيره على كثير من الأدباء العرب في المهجر وشتى الأقطار العربية . وإذا هو احد ابرز بناة الرومانسية العربية , وابرز ما يتمثل أثره هو في أدباء شمالي إفريقيا وبلاد الشام والعراق , وتظل له منطلقاته المجددة في الأسلوب , ومعطياته الجريئة في الأدب الاجتماعي والوطني والإنساني , وإذا كان قد برع وبرز في حقل العربية فما كان حظه اقل من ذلك في مجال الانكليزية .
ويبلغ جبران العالمية ويحله ذلك مكانا ً في الخلود في استقلالية الرؤية والإبداع .


الياس أبو شبكة22ـ
الشعر الرومنتيكي . الرومنتيكية حركة أدبية , تسلسلت معطيات حرة في مسلسل العصور الأدبية القديمة . وتزداد عمقا ً وانطلاقا ً مع القرن الثامن عشر في ألمانيا ثم في فرنسا وغيرها , ثم تتأصل كمدرسة أدبية جديدة . وتتعارض مع كثير من مبادئ الكلاسيكية وتنمو في نشاطات أدبية فردية وجماعية . وتتوضح في ذلك مبادئها وأهدافها , فلا هي تقيم قداسة لقديم أو تغرق في داخل الذات الإنسانية فلا يعينها كثيرا ً ما هو خارجها . وتنطلق الرومانسية إلى الطبيعة تحييها وتؤنسها فتزيد الحياة في الوجود . وتذهب في الذاتية بعيدا ً مع الاستشفاف والجلاء . وكان لها أن تلهم الثورة الفرنسية , وتستلهمها في القيمة الفردية والحرية والانطلاق ولا تتعبد الرومانسية كثيرا ً في هياكل العقل , فإنها تعمق في مجال القلب , فتقدس العاطفة والمشاعر وتمجد الخيال , وترحب المدرسة الرومنتيكية في شتى المجالات الأدبية , فيبرز المسرح الرومانسي , والقصة الرومانسية , ويتقدمها النقد ويتألق الشعر الرومنتيكي مجددا ً في المعاني والصور والتعبير , ويكون القرن التاسع عشر عصر الرومنتيكية الذهبي حيث يشمخ عمالقة الشعر الرومنتيكي الكبار مثل هوغو ولامرتين , وموسيه وفييني . إذ يتنوع في معطياته فيتدفق حينا ً انشراحا ً ونورانية , ويسيل حينا ً آخر شحوبا ً ومرضا ً . ولكن تظل الذاتية الفردية والطبيعة منهله الاشمل والأغنى ...





الشعر الرومنتيكي في الأدب العربي
عرف الأدب العربي الشعر الرومنتيكي بانطلاقاته الذاتية الغنائية .. في عصر م اقبل الإسلام , فوضح ذلك في قصائد امرؤ القيس , وطرفة بن العبد وعنترة بن شداد . والأعشى والصعاليك وبدت المعالم للرومانتيكية في أدب عصر صدر الإسلام عند شعراء الفتوح في الحنين إلى أوطانهم .
وتتمثل الروح الرومنتيكية بصورة أقوى في العصر الأموي في الغزل العذري والحضري على حد سواء .
ويزداد العطاء الرومنتيكي في الشعر العباسي عند بشار بن برد وابي نواس وابن الرومي وأبي فراس الحمداني والصنوبري والمتنبي , وذلك في الشكوى الذاتية وتتألق الرومنتيكية في الشعر الأندلسي اذ تنطلق الموشحات الأندلسية أغاريد حب وجمال ولذة وحنين وذكريات , ويتقلص البروز الرومنتيكي في عصر ما قبل النهضة .
وأثرت النهضة الحديثة في الشعر العربي , فإذا هو ينزع نزعة رومنتيكية عميقة , وإذا كان لشعرنا الرومنتيكي المعاصر أن يعنى في بدايته باقتباسه من الشعر الرومنتيكي الأوروبي وبصورة خاصة الشعر الفرنسي والانكليزي , إلا انه قدر على التقدم والتأصل . فظهرت منطلقاته الجديدة واستوت له معالمه العربية وتعدد رواده مثل : مطران وشوقي وحافظ والأخطل الصغير وإبراهيم ناجي وأبي القاسم الشابي والياس أبو شبكة ويوسف غصوب وغيرهم . وإذا هو يمثل قطاعا ً رحيبا ً من حياتنا الأدبية وتستي لنا مدرسة رومنتيكية عربية تحكي عن أحلامنا ومشاعرنا ونزعاتنا
, ونصور نضالاتنا وتطلعاتنا ومطامحنا وجمالات بلادنا .
الياس أبو شبكة
عصره وبيئته : تنتشر حركات غربية في العالم وتتباين ما بين استعمارية وعلمية واجتماعية.. وتعطي آثارها في كثير من الأقطار وتنشط اتجاهات وطنية في بلاد مغلوبة على أمرها , وتعمل على تنمية نفسها , وتقوى على انتزاع حريتها واستقلالها . وتعظم أطماع دول غربية وتضعف قوى أخرى . ويساهم ذلك في تغذية روح الحرب . وما تصمد الإمبراطورية العثمانية أمام الزحوف الغربية . فإذا هي تتقلص وتتراجع وما تنال البلاد العربية استقلالها . وتخوض الصراع ضد قوى الغزو والاحتلال ...ويرزخ لبنان تحت الانتداب الفرنسي ويعاني من التحكم والاستبداد . ويواصل شعبه كفاحه ويتفاعل مع شتى التيارات الاجتماعية والعلمية والأدبية ثم ينال استقلاله ويتجدد في حياته . وتنمو فيه الحركة الوطنية وتصارع حركات أخرى ويلتقي جبله أكثر بالمدينة الغربية وتلحق به مناطقه الأخرى ... ويواصل عمله في النهضة العربية الحديثة ويعمق عطائه وتأثيره ومنطلقاته ...
حياته وشخصيته : ولد الياس أبو شبكة سنة 1903 م في بروفدانس بالولايات المتحدة الأمريكية , وذلك أثناء رحلة لوالديه في تلك البلاد . وما لبث يوسف أبو شبكة والد الياس ) أن عاد بأسرته إلى مسقط رأسه . ذوق مكايل , إحدى قرى قضاء كسروان , ويترعرع الوليد في بيت يسر ورخاء . ويدخل مدرسة عينطورة . فيقضي فيها بضع سنين . وما نهد الفتى إلى العاشرة من عمره حتى فجع بموت ابيه , فقد قتل على يد قطاع طرق في السودان , وانتقل الياس إلى مدرسة ثانية . هي مدرسة الإخوة المريميين في جونيه . وأتقن فيها اللغتين العربية والفرنسية . ومارس نظم الشعر وانصرف الشاعر عن التلمذة المدرسية واندفع يخوض غمار الحياة , فراح يطلب العمل , وأراده في الوظيفة فما افلح . وإذا هو يكافح في مجالات أخرى فيكتب في الصحف اللبنانية والمصرية ويعمل في التعليم فما ترضيه فيه الزمالة فيمله ويمقته . ويترجم ويؤلف , ودون أن يكفيه كل ذلك مطالب العيش الكريم .
وما كان الياس يعرف الزهد في الحياة , فقد أرادها عميقة عريضة فأحب وشره في المرأة والخمرة ...
وتزوج ممن أحب , ورزق ولدا ً لم تكتب له الحياة , ورغب في الثقافة فعمق في معرفته بالتراث العربي . وزاد في اطلاعه على الآداب الأجنبية وخاصة الأدب الفرنسي .
وأصيب الشاعر في أواخر حياته بسرطان الدم أو الموت فجفت ينابيع عطائه وقضى نحبه سنة 1947 م .
والياس أبو شبكة فنان مطبوع , جريء مع المجتمع والحياة ينهم في للذة والمعرفة , ويصدق في المعاناة والعطاء , ويتقيم في طريقه , فلا يعطي تكلفا ً وتزلقا ً ويحيا مشاعره وأحاسيسه كما لا اصفى , وينشئ حياته كما لا أعمق واصدق , فقد عزت نفسه , واثر العيش كدا ً وجهادا ً وأنفة وفر من قيود الذلة والمسكنة في نطاق الأجر . والوظيفة والمهنة ليكوي بفقر وحاجة وأعطى من الثقافة وما اكتفى . وإذا هو مزيج من شوق إلى الأجمل والأطيب والاسمي والأنقى .
وأبو شبكة هو في ذاته عالم يتغير ويتجدد وفي وطنه عابد يذوب حبا ً وعشقا ً وفي إنسانه يتمرد هوى , ثم تائب ينقى تقى . وإذا هو الرومانسي في ابرز صفاته .. وتبرز شخصيته عطاء صدق في الطبع , وعمق في الفنية . وأصالة في الإبداع وطموح إلى الأكمل وإنسانية تعلو فلا تأسن في جمود وتصفو فلا يطالها أي كفر وجحود . وطموح ثم شعبية تحيا عذاب الكادحين وتتفجر صوت حرية وعدالة .
آثاره : طاف الياس في مسارب الحرف . فدفق في الشعر وغزر في النثر وأكثر من الترجمة ونشط في التأليف وتعددت دواوينه مثل : القيثارة ونداء القلب والى الأبد وأفاعي الفردوس وغلواء ومن صعيد الآلهة والألحان ... وعرفت له آثار نثرية مثل : رسوم وروابط الفكر والروح بين العرب والفرنجة , ولبنان في العالم ... وقد ترجم عددا ً من مسرحيات موليير وقصائد الفرد موسيه وقصصا ً وروايات فرنسية .. مثل مجدولين وبول وفرجيني ومانون ليسكو وغير ذلك من الكتب التاريخية والأدبية المعروفة وإذا بأدبه قطع من ذاته وحياته . فما هو يعطيه لكسب ولكن للحياة والحب والشعب والإنسان .
غلواء
غلواء هي احد دواوين الياس أبو شبكة وهي قصيدة قصصية أو قصة شعرية نظمها على مدى سنتين من عمره , وهو يستهلها من واقعه وخياله وقسمها إلى أربعة عهود : الخطيئة – عذاب الضمير – فالتجلي – الغفران . ويحب فيها شفيق غلواء حبا ً يصدق ويعمق , وتزور غلواء صديقتها ورده في مدينة صور . وتراها يوما ً بين يدي حبيبها فتحسب أنها هي الآثمة وتعاني الم الخطيئة وعذابها ويشاركها في ذلك شفيق وتنطلق غلواء في طبيعة الذوق ) , مع حبيبها شفيق , ثم يكون اعتراف في الكنيسة وتجل يخضبه الألم والنور , وبعد ذلك عودة براءة ونقاوة , وتستوي قصة غلواء صورة عن ابي شبكة في مدى الشباب والشهوة والهوى , والفجور ( البودليري ) والإيمان الإنجيلي الصوفي ..
مختارات من ( غلواء )
تحرك الليل
في جوف تلك الليلة الباردة كأنها ضمائر جامدة
تخطر فيها فكرة حاقدة
والرياح الهوج بين الورق عزف كأن الجن فيه زعق
فمزق الأرواح ثم انطلق
تحرك الليل وقال الخيال : من ليس يبكي في الليالي الطوال
ولا يدمي المقلة الساهدة
من لم يذق في الحب طعم الألم ولم ينكر وجنته السقم
وتسلخ الأوجاع منه حطم
من لا يرى في الشمس طيف الغروب ويسمع الليل اختلاج القلوب
ويرصد الشمعة حتى تذوب .
من لم يغمس في هواه دمه من يمنع الأهوال أن تطعمه
ولا يرى في كل جرح حكم
من ليس يرقى ذروة الجلجلة ولم يسمر في الهوى أنملة
ويرفع العلقم والحل له
من يصرف العمر على المخمل ولا يذوق البؤس في الأول
ولا الأسى في مخدع مقفل
لن يعرف العمر شعاع الإله ولن يرى آماله في رؤاه
بل عالما ً يخيط في مهزلة
غلواء العهد الثالث
الدراسة :
أن نص تحرك الليل جزء من ديوان أبي شبكة أو قصته الشعرية غلواء وما أعطاها الشاعر من تخيل إنما هي مزيج من واقعه وأحلامه , فقد عاشها ثم نسجها فأغناها بفنه ... وكان ( تحرك الليل ) بعضا ً من تلك الحياة و ذلك النسيج الفني , وهو جزء من العهد الثالث في قصة (( غلواء )) حيث تقبل غلواء على الطبيعة تحيا صفاءها وبهاءها ويتسامى الشاعر في نشدانه الألم وانطلاقه على أجنحة تخيلاته إلى عالم السماء , ويفتق له الألم أسرار الحياة , فيما يعتقده من أصلية الخطيئة وفساد البشر بالطبع وليكون الألم هو المطهر لهم من آثامهم . ويبارح الشاعر السماء إلى الأرض وليكون مع المعذبين ثم مع الشمعة المحترقة , ويدفعه ذلك إلى ذكريات صباه وشبابه , وبينما هو في تسلسل الذكريات تثيره الرياح الهوج فيندفع إلى عطاء . ( نصه ) : تحرك الليل .
فن النص ونوعه : أن أبيات النص جزء من غلواء القصيدة القصصية أو القصة الشعرية , وهي إذ يتوقد فيها الخيال وتعمق عاطفة دينية فلتكون عطاء رومانسيا ً وفنا ً وجدانيا ً وهي لما تدفق به من انسياق وحادثة وتشخيص , وتعنيه من سياق وعقده وانعتاق , فإنها تستوي شعرا ً قصصيا ً يغنى بالرمز والهمس والإيحاء .
مضمونه : إن ليل أبي شبكة يتجهم ويعبس , فتهيج فيه رياح وتعصف ويؤذن بانطلاق الخيال ليتأمل الشاعر ويرى ويحكي فيذكر الحب وتقطر آلام وأوجاع , وتعمق كآبته , وتذوب شموع , ويحمر هوى وتنزف جراح وينشد الشاعر الخلاص فتشع الجلجلة ويكون عذاب ويبعد عالم ترف ودعة , وتسطع حقيقة وتنجلي رؤى , وإلا فلا شيء عند الشاعر غير الضياع والسقوط والمهزلة ... وإذا هي الحياة تبرز له في عالميها المتباينين لمن أراد صفاء وسماء أو ابتغى فتنة وضلالا ً .
وغني النص في معطياته فتنوع في خصائص مضمونه الرومانسية . وهي التالية :
حس الطبيعة : تتحرك الطبيعة في النص فتجيش فيها أحاسيس شتى – ومشاعر , وتكون قطعة من نفس الشاعر تمثله , وتجسده في بعض حالاته ونزعاته ... وإذا هي قبس من حياتنا الجبلية ..
فالليلة تبرد ولكن لتقطر بالجحود والحقد . والرياح تهيج , وتعزف وتزعق وتمزق ...
في جوف تلك الليلة الباردة كأنها ضمائر جامدة
تخطر فيها فكرة حاقدة
والرياح الهوج بين الورق عزف كأن الجن فيه زعق
فمزق الأرواح ثم انطلق
المأساوية : ما أعطى الشاعر مقدمة النص , ليصدح مشرقا ً أو يغزل مغتبطا ً ولكن لينشد الألم ويطلب الأسى الأحمر , ويكون ذلك مدخله الصحيح إلى الحياة الإنسانية :
تحرك الليل وقال الخيال : من ليس يبكي في الليالي الطوال
ولا يدمي المقلة الساهدة
عذابية الحب : وما هو الحب يعبق نشوة عند الياس ولكنه يمتلئ ألما ً وتنكرا ً وسقما ً ويذوب ويذيب , ويكون الحب الرومانسي المعذب والمحطم :
من لم يذق في الحب طعم الألم ولم ينكر وجنته السقم
وتسلخ الأوجاع منه حطم
السوداوية : ويمضي الشاعر طريقه الأسود الموله بالعذاب , لكي لا يرى سوء الغروب في الشمس , ولا يسمع سوى الأنين في الليل . وتبرز أمامه النهاية الأليمة في الشمعة الذائبة : وتطمس كآبته الرومانسية كل معالم دنياه :
من لا يرى في الشمس طيف الغروب ويسمع الليل اختلاج القلوب
ويرصد الشمعة حتى تذوب .
الالمية النورانية : لا يكتفي الشاعر بكل ما نشده من عذاب , وما ابتغاه من كآبة ويطلب تعذيب النفس , وقهر الجسد وتمزيقه , لتسيل جراح ويكون عطاء , وتسطع عبر الجراح الحكم :
من لم يغمس في هواه دمه من يمنع الأهوال أن تطعمه
ولا يرى في كل جرح حكم
الصلبية : يمضي أبو شبكة في بحرانه الرومانسي , وانطلاقه الوجداني الروحي إلى حيث الصلب إذ تسمر في العقيدة أنمل , وينهل علقم وخل ليكون إكليل الألم وباب الخلاص :
من ليس يرقى ذروة الجلجلة ولم يسمر في الهوى أنملة
ويرفع العلقم والخل له
الصوفية : يرى الشاعر انه لا خلاص لمن يرغب في أن يبيت في دعة وأمن ورخاء وينأى عن البؤس والأسى فان ذلك يحجبه ويعميه عن الحقيقة وإذا هو يتخبط في ضياع , ومهزلة :
من يصرف العمر على المخمل ولا يذوق البؤس في الأول
ولا الأسى في مخدع مقفل
لن يعرف العمر شعاع الإله ولن يرى آماله في رؤاه
بل عالما ً يخيط في مهزلة
الجدة والأصالة : لا يقلد الشاعر في ( نصه ) إنما هو يعطيه من ذاته ونشأته من حياته ومسيحيته , وإذا بنا مع رومانسية مشبعة بالروح الدينية والصوفية :
من ليس يرقى ذروة الجلجلة ........ لن يعرف العمر شعاع الإله ....
الوحدة العضوية : تلاحمت خواطر نص ( تحرك الليل ) وتأملاته فتناسق العطاء الوجداني تناسقا ً عضويا ً , فلا فتور فيه ولا تشتت , بل الحياة تندفع في دروبها المظلمة والمؤلمة لتسطع في آفاقها وأبعادها . وإذا هي وحدة النص الصافية . فيتمازج فيها الظلام والضياء والألم والإشراق , ويزداد الخلق الوجداني قوة وتأثيرا .
يبدع الشاعر نصه ( تحرك الليل ) فيصدر به عن وجدانه , وإذا بألفاظه مغمسة بدمه , ومفعمة بأحاسيسه ومشاعره , وتتوهج تعابيره , وتتقاطر فتفصح عنه . وبصدق في الإفصاح والوصف , وتدق وتلمح وتوجز , ويكون لأسلوبه الخصائص والمزايا التالية :
العفوية والصدق : لا يتكلف الشاعر في تعبيره ولا يتوق إلى غموض ولكنه يعطيه من طبعه وعفويته , ويصدق فيه فيكون من بيئته وواقعه وحياته : ( الليلة الباردة ) ( ضمائر جاحدة ) ( وللرياح الهوج بين الورق ) ( فمزق الأرواح ثم انطلق ) ( ولم ينكر وجنتيه السقم ) .
التخيل والشفافية : يوقى الخيال عند الشاعر وإذا هو يتخيل , ويصفو في شفافيته فتسطع حقائق ويتشخص الخيال ويسمو إلى أعلى فينصع تعبيره وينقى . وإذا بنا مع حديث تجل يفعم بروح دينية , ويتعمق بتقى وقداسة ويتسلسل الحديث وهو يستشف حقا ً وحقيقة ...
تحرك الليل وقال الخيال : من ليس يبكي في الليالي الطوال
ولا يدمي المقلة الساهدة
لن يعرف العمر شعاع الإله ولن يرى آماله في رؤاه ...
دقة التصوير : ويبرع الشاعر في تصويره وهو يقدم صورة لعالمه الرومانسي حيث ( المقلة المدماة ) و ( السقم المنكر ) والكآبة والشحوب :
من لم يذق في الحب طعم الألم ولم ينكر وجنتيه السقم
من لا يرى في الشمس طيف الغروب ويسمع الليل اختلاج القلوب
ويرصد الشمعة حتى تذوب ...
التنوع والتوليد : ما يقرب الشاعر في أسلوب النص من جمود أو رتابة ولكنه ينوع في عبارته وأوزانه وأنغامه ويكون مع مشهده في لوحته ومعزوفته ثم هو يقوي في التسلسل فلا يمل أو ينضب ولكنه يعمق ويزداد حياة ويولد ويجذب أكثر : من لا يرى الشمس طيف الغروب ...
لن يعرف العمر شعاع الإله ...
الوحدة الفنية : تلاحمت أجزاء النص وعمرت بالوحدة الفنية فلا تشعر معها بضعف بناء أو فتور إيحاء ولكنها تعمق في حياة وتحمر في الإشعاع وإذا بنا مع لوحة الرؤيا تصفو وتجذب , وهي ما تعمق في الظلمة إلا لتشتد أكثر في السطوع .
يصدق الشاعر في معاناة النص وما هو يتجهد أو يتكلف في تعبيره . وانه يأصل في عطائه , وهي رومانسيته يبدعها فتنهل من الطبيعة , تتجرع الألم ومن الصلب لتكون مع التجلي والنور . وإنها نسج من حياته وتصوراته وتأثراته , ولتكون من ذاته وانه مبدع في ألفاظه وتعابيره وقد تنوع في أوزانه فأفاده ذلك تفننا ً في النغم وروعة في الصورة وكان ( تحرك الليل ) قطعة من نفس أبي شبكة هذه الخصبة العميقة التائهة في الليل والألم التائقة إلى الحق , والإبداع والخلاص . وانه عطاء ريادي في الرومانسية العربية المعاصرة .
مكانة الياس أبو شبكة وأثره :
لم يجبن الياس أبو شبكة مع الحياة في لذاتها ومنطلقاتها في تحدياتها وتجلياتها وما هو يضعف في تأملها وتبيان أسرارها . وانه يستلهمها في فنه فتعطيه في شعره وأدبه . وإذا هو يصدحها منشرحا ً حينا ً , ويهدلها آسيا ً حينا ً آخر ولكنه يظل قويا ً عنيفا ً في ومضاته وتأملاته وتصوراته وفي كشفه وبوحه .. وقد مكنه ذلك من الاستقلالية في اتجاهه الشعري , فكان له دور بارز في بناء الرومانسية العربية المعاصرة وما هو يقتبسها أصولا ً من الأدب الفرنسي وغيره من الآداب الأوروبية والعالمية ولكنه يعطيها من حياته من عصره وبيئته وتمرده وتألق وجدانه ومن آلامه وصفاء تصوراته وتأثراته . وكلن له بذلك أثره في الشعر العربي الرومانسي الحديث وفي أكثر من قطر عربي وإذا هو واحد من رواد الرومانسية العربية الحديثة






معروف الرصافي / حديث /
هو اكبر شعراء العراق ولد في جانب الرصافة بمدينة بغداد عام 1875 م وكانت الدولة العثمانية ما تزال مسيطرة على ولاية بغداد آنذاك شب معروف في عصر توالت فيه أحداث العالم العربي فنشهد فترة تحول مستمر فيه منها ضعف الدولة العثمانية , ثم حركة الإصلاح والتجديد فيها ومنها إعلان الدستور العثماني الذي تلاه نشوب الحرب العالمية الأولى فالثورة العربية الكبرى , ثم انفصال البلاد العربية من الدولة العثمانية وقيام الحركة الفيصلية .
نشأ الرصافي في أسرة فقيرة تتألف من أب كردي هو عبد الغني محمود وأم اسمها فاطمة بنت جاسم , تنتسب إلى عشيرة القراغول وهي من بطون قبائل شمر العربية وكان أبوه شرطيا كثير التغيب عن البيت لذلك ترعرع الرصافي في أحضان أمه فكان شديد الارتباط بها , حتى انه لما توفيت – وهو غائب عن بغداد – لم يقو على رؤية البيت الذي كان يعيش معها فيه .
بدأ معروف حياته الدراسية في أحد الكتاتيب فتعلم القرآن وختمه كما تعلم مبادئ الكتابة ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية وقضى فيها ثلاث سنوات التحق بعدها بالمدرسة الرشدية العسكرية ولما رسب في الصف الرابع منها ترك الدراسة فيها واتجه نحو العلوم الدينية والأدبية فالتحق بالأستاذ العلامة ( محمود شكري الالوسي ) الذي كان له ديوان – أشبه بالمنتدى – يلتقي فيه أهل الأدب والشعر وتدار فيه مناظرات ومناقشات وتروى فيه قصائد وتتناقل أخبار الأدب , فكان معروف الرصافي يحضر مجلس الالوسي هذا ويتلقى العلم على يديه فأضحى أستاذه ونبغ في الدراسات الدينية وصار من اشد المتصوفين , حتى أطلق عليه أستاذه الالوسي اسم ( الرصافي ) تشبيها له بالشيخ ( معروف الكرخي ) المتصوف الإسلامي الكبير وقد لازم أستاذه اثني عشر عاما ً أفاد منه خلالها علما وأدبا لهذا نراه يحفظ له هذا الجميل ويرثيه حينما توفى في قصيدتين كانت أحداهما عند وفاته والثانية في اربعينيته وقد قال في الأولى معترفا ً بفضله :
محمود شكري , فقدنا منك حبر هدى للمشكلات بحسن الرأي حلالا
قد كنت للعلم في أوطاننا جبلا إذا تقسم فيها كان أجبالا
وبحر علم إذا جاشت غواريه تقاذف الدر في لجيه منهالا
لاشكرنك يا شكري مدى عمري وأبكيتك إبكارا وآصالا
فأنت الذي لقنتني حكما بها اكتسبت من الآداب سريالا
أما قصيدته الثانية وهي بعنوان ( في موقف الأسى ) فلا تخرج في معاني الحسن والتفجع عن هذه , ومطلعها :
لمن تركت فنون العلم والأدب أما خشيت عليها مزيد العطب
ويبدو أن معروفا وقع في ضائقة مالية فاضطر إلى العمل فكان أول ما بدأ به التعليم في بعض المدارس الابتدائية ثم انتقل إلى الثانوية لتدريس الأدب , وكان في أثناء عمله ينظم الشعر , وينشر قصائده في بعض الصحف المصرية كالمؤيد والمقتطف وهكذا ذاع صيته وشعره في البلاد العربية لا بل في المهاجر الأمريكية أيضا ً .
وازدادت شهرته حين أعلن عبد الحميد إعادة الدستور عام 1908 م إذ ترجم معروف النشيد الوطني التركي إلى العربية بوزن يصلح أن يقرأ باللحن التركي نفسه فاختير اثر هذا لتحرير القسم العربي من جريدة ( بغداد ) فترك التدريس .
وفي هذا الوقت أيضا دعي إلى الآستانة ليساعد رئيس تحرير جريدة ( إقدام ) في إصدار نسخة عربية منها فذهب إلى عاصمة الخلافة ولكنه خاب أمله لأن رئيس التحرير لم يستطع الحصول على معونة لتحقيق هذا المشروع فعاد الرصافي إلى بغداد ومر في طريق عودته ببيروت فاحتفى به أهل الأدب هناك ولا سيما ( أمين الريحاني ) وأعوزه المال وهو في بيروت فبادر إلى بيع مجموعة شعره فصدر له أول ديوان عام 1910 م وقد قوبل بالاستحسان والتقريظ والدراسة فكتب عنه الأب ( لويس شيخو ) والشيخ ( عبد القادر مغربي ) ثم عاد إلى بغداد ليستأنف عمله في الجريدة وظل فيها حتى أغلقت .
ولعل نجاحه في العمل الصحفي جعل جمعية أصدقاء العرب في استانبول تدعوه لتولي رئاسة تحرير جريدة الصحيفة العربية ( سبيل الرشاد ) وسافر شاعرنا وتولى هذا العمل وكان خلال وجوده هناك يلقي محاضرات في المدرسة الملكية العليا عن اللغة العربية ومثلها في مدرسة الواعظين وقد نشرت محاضراته هذه في كتاب بعنوان ( نفح الطيب في الخطابة والخطيب ) كما نشرت له بعض القصائد .
ثم اختير نائبا ً عن لواء ( المنتفك ) في مجلس المبعوثان العثماني ( النواب ) عام 1912 وقد حيا هذا المجلس بقصيدة كافية قال فيها :
يا شرق بشراك أبدى شمسك الفلك وزال عنك وعن آفاقك الحلك
هذا هو المجلس الرحب الذي وسعت أحكامه الناس من عاشوا ومن هلكوا
قد أصبح الأمر شورى بيننا فيه على الرعية لا يستأثر الملك
وقد تزوج آنذاك بفتاة من أزمير ثم طلقها كما قيل لضيق ذات يده , وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرصافي في هذه الفترة على الرغم من عيشه في استانبول كانت فكرة العروبة واضحة في ذهنه فحين أسس شباب العرب في الآستانة ( المنتدى الأدبي ) وأقيم حفل لهذه المناسبة دعي لإلقاء قصيدة فألقى ميمية وجه كلامه فيها ( إلى الشبان العرب ) يحثهم على طلب العمل ويذكر أمجاد العرب في العلوم دون أن يوجه أية كلمة ولو عابرة , إلى رجال الحكم الأتراك لرعايتهم هؤلاء الشباب .
وحين هاجم الطليان ليبيا انطلق صوت الشاعر في قصيدته ( إلى الحرب ) يدعو الشرق إلى الثورة على الغرب وعلى الطليان خاصة , لأنهم يتظاهرون بالتمدن ويقتلون النفوس دونما ذنب .
وحين حقق العرب في ليبيا انتصارا على الأعداء إذا هو يحييهم بقصيدته ( في طرابلس ) وهكذا لم يترك فرصة تمر دون أن يستنهض قومه لاستعادة أمجادهم وحرياتهم , حتى انه لما قدم شباب العرب في الآستانة مسرحية عن ( وفاة السمؤل ) ودعوا الرصافي إليها ألقى قصيدة بعنوان ( إلى الأمة العربية ) وقال في أحد أبياتها موجها خطابه إلى قومه بعد أن صور آلامهم وبكى على حالهم :
ولو أن فيكم وحدة عصبية لهان عليكم للمرام وصول
ولكن إذا مستنهض قام بينكم تلقاء منكم بالعناد جهول
ولا ريب في أن هذه الجرأة من الشاعر حين يدعو قومه إلى ( وحدة عصبية ) أمام رجالات الترك وفي عاصمتهم , قد بلغت الغاية .
وحين قامت الحرب العالمية الأولى واشتركت فيها تركيا إلى جانب ألمانيا أطلق الرصافي في صيحته المدوية ( الوطن والجهاد ) ولكنه هذه المرة دعا المسلمين جميعا إلى الجهاد عن الوطن فقال :
يا قوم إن العدا قد هاجموا الوطنا فانضوا الصوارم واحموا الأهل والسكنا
واستنفروا لعدو الله كل فتى فمن نأي في أقاصي أرضكم ودنا
ثم انتهت الحرب العالمية الأولى بعد أن تراجعت أمامها القوات العثمانية .
وفي عام 1918 دخل فيصل الأول سورية وانشأ مع مجموعة رجالاتها ورجالات العراق وفلسطين , حكومية عربية تولى رئاستها وأراد الرصافي أن يعود إلى وطنه ولكنه رأى أن الانجليز احتلوه فلم يعد له مكان فيه , فتوجه إلى دمشق على أمل أن تتلقاه الحكومة العربية بالترحيب ولكنه قوبل بالإهمال , لأنه كان قد هجا الشريف ( حسين بن علي ) والد فيصل حينما قام بالثورة العربية , وجاءته في هذه الأثناء دعوة من القدس للتدريس في مدرسة المعلمين هناك , فتوجه إلى القدس وكان موضع تقدير وتكريم , عوضه عن الإهمال والإعراض الذي لقيه في دمشق إذ نراه يقول فيما بعد عندما نزح إلى بيروت عام 1922 م :
لاجعلن إلى بيروت منتسبي لعل بيروت بعد اليوم تؤويني
قد كان في الشام للأيام مذ زمن ذنب محته الليالي في فلسطين
إذ كان فيها النشاشيبي يسعفني وكنت فهيا خليلا ً للسكاكيني
وكان فيها ابن جبر لا يقصر جبر انكسار غريب الدار محزون
إن كان في القدس لي صحب غطارفة فكم ببيروت من غر ميامين
وظل الشاعر في القدس حتى تلقى برقية من (عبد الرحمن الكيلاني وطالب باشا النقيب) للحضور إلى بغداد لإصدار جريدة تحبط اختيار فيصل بن الحسين لعرش العراق , وتدعو إلى اختيارهما بدلا منه فعاد إلى بغداد وبدأ الاستعداد لإصدار جريدة في الوقت الذي كان فيه فيصل يتوجه إلى العراق , ولكن الانجليز قبضوا على ( طالب النقيب ) حين شعروا بقوته ونفوذه , ونفوه إلى الهند , وهكذا لم يتم مشروع إصدار الجريدة دخل فيصل العراق , واضطر شاعرنا أن يعمل في الحكومة ليكسب قوته فوظف نائبا لرئيس لجنة الترجمة والتعريب في وزارة المعارف ولكنه كان يشعر بأن هذه الوظيفة اقل بكثير مما يستحق ولما ضاق ذرعا بها وشعر بالاضطهاد والحيف , سافر إلى بيروت بإجازة أواخر عام 1922 م , وقرر إلا يعود إلى وطنه ولكنه ما لبث أن سمع بعزم حكومة العراق على انتخاب مجلس تأسيسي فعاد إلى بغداد عام 1923 م ورشح نفسه للنيابة في هذا المجلس بعد أن استقال من وظيفته وتبدل موقفه الثائر على الانجليز واخذ يدعو المواطنين إلى المساهمة في الانتخابات ويعلن سياسة المهادنة ولكنه مع ذلك لم ينجح وهكذا لم يبق له مورد رزق , ولكن فيصلا صفح عنه وأعاده إلى الوظيفة إذ عينه مفتشا ً للغة العربية بوزارة المعارف أواخر عام 1923 م كما درس العربية وآدابها في دار المعلمين العالية ببغداد , ولكنه ما إن شعر بالاستقرار حتى انصرف إلى مهاجمة الحكومة والانتداب معا ً , واخذ يدعو في قصائده إلى الثورة على الأوضاع الخداعة القائمة من ذلك قصيدته التي يقول فيها :
ابكينا من الدولات أنا تعلق في الديار لنا البنود
وأنا بعد ذلك في افتقار إلى ما الأجنبي به يجود
وكم عند الحكومة من رجال تراهم سادة وهم العبيد
كلاب للأجانب هم ولكن على أبناء جلدتهم اسود
وليس الإنجليز بمنقذينا وإن كتبت لنا منهم عهود
وعاد ثانية فهجا الحكومة والانتداب في قصائد أخرى منها ( غادة الانتداب ) و ( حكومة الانتداب ) وقد بلغ فيهما حدا كبيرا من الجرأة .
وعلى الرغم مما سبق فقد فسح له المجال عام 1928 م لدخول مجلس النواب فاستقال من وظيفته ونجح في الانتخابات الجديدة فكانت هذه الفترة اسعد أيام حياته , ولكن أحداثا سياسية متوالية أدت في النهاية إلى حل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة بعد سنتين ونيف من المجلس السابق , وكان هذا اثر المعاهدة العراقية الانجليزية عام 1930 م ولما تم انتخاب المجلس كان الرصافي كذلك من أعضائه وحين عرضت المعاهدة على المجلس الجديد تمت الموافقة عليها ولكن الرصافي كان من الذين عارضوها وألقى في المجلس بيانا قويا يعد وثيقة تاريخية هامة .
ودخل العراق عصبة الأمم عام 1932 وكان لا بد من إعادة النظر في أوضاع البلاد اثر المسؤوليات الجديدة , فالفت وزارة جديدة عمدت إلى حل مجلس النواب وهكذا خرج الرصافي من المجلس بلا عمل ولا مورد رزق فقرر ترك بغداد إلى مدينة الفلوجة بعد أن استضافه أحد معارفه هناك فقدم له دارا مؤثثة لسكناه بلا مقابل , ونعم الرصافي بحياة هادئة مستقرة , فألف أثناء مقامه بهذه المدينة الكتب التالية :
1- الرسالة العراقية .
2- على باب سجن أبي العلاء .
3- آراء أبي العلاء .
4- الشخصية المحمدية أو ( حل اللغز المقدس ) وهو أهم كتبه .
وظل في الفلوجة حتى عام 1941 م عندما دخل جيش الانجليز إليها بعدما أخفقت ثورة العراق ضدهم بقيادة ( رشيد علي الكيلاني ) ومن ثم ترك هذه المدينة وعاد إلى بغداد , فسكن ضاحية الاعظمية حتى مات عام 1945 .
كان بيت الرصافي في الفلوجة وفي بغداد منتدى أدبيا يجتمع فيه الشباب ويتحدثون في السياسة والعلم والأدب , وكان هو يتحدث إليهم بصراحته المعهودة وجرأته المعروفة , دون أن يهاب أحدا وكان عنده خادم يدير أمور عيشه ويعنى بشؤونه وقد لازمه منذ صغره حتى وفاته .
أما صفاته وشخصيته , فقد تحدث عنها معظم الدارسين واجمعوا على انه كان جبارا ً وعملاقا في خلقته وخلقه إذ كان واسع الصدر عريض المنكبين ممتلئ الجسم مفتول العضل متين البنية وكان قليل الاهتمام بملبسه ومأكله , ولكنه كان شديد الحرص على كرامته , وكان رزينا ً وقورا ً كما كان موضع إجلال الناس واحترامهم , على الرغم من تعرضه لأحوال ومواقف لو تعرض لها غيره لهبط تقدير الناس له , ولكان هدفا ً لسخريتهم وامتهانهم .
أما علمه وأدبه فقد شهد له بهما ( طه الراوي ) الذي كان عالما وأديبا ً وعضوا في المجمع العلمي في كل من العراق ودمشق – إذ قال عنه : " لو قلت لك إنني لم الق في عمري أديبا أوسع منه معرفة باللغة ,و خصائص مفرداتها وبالصرف والنحو وما يتصل بقواعدهما من قيود وشروط , لم اعد الواقع . وهو يعتبر حامل لواء التجديد في الشعر على ضفاف دجلة من غير منازع " .
كما شهد له بالشاعرية الأديب ( احمد حسن الزيات ) فقال عنه : " وظل هو والزهاوي وشوقي وحافظ ومطران حقبة من الدهر يؤلفون الأوتار الخمسة لقيثارة الشعر العربي الخالص , ولكل وتر درجته في الرنين والجهارة والأثر " .
وأما مؤلفاته فبالإضافة إلى ما ذكرنا في ثنايا حياته من ديوانه وما ألفه أثناء ممارسته التدريس وحين كان في الفلوجة أشار الباحثون إلى الكتب التالية :
1- الرؤيا : وهي رواية للأديب التركي ( نامق كمال ) ترجمها إلى العربية ونشرت عام 1909 ببغداد .
2- الأناشيد المدرسية : وهي مجموعة أناشيد نظم معظمها في القدس حين اشتغل بالتدريس في دار المعلمين ونشرت هناك عام 1920 م .
3- محاضرات الأدب العربي : وهي التي ألقاها على مدرسين المدارس الرسمية عام 1921 م حين كان نائب رئيس لجنة الترجمة والتأليف في وزارة المعارف , وقد طبعت في بغداد عام 1921 م .
4- دروس في تاريخ اللغة العربية : وهي الدروس التي كان قد ألقاها على طلاب دار المعلمين العالية ببغداد عام 1928 م عندما كان مفتشا ً للغة العربية .
5- دفع الهجنة في اتضاح اللكنة : وهي ألفاظ وكلمات جمعها من اللغة التركية منها ما هي عربية استعملها العثمانيون في غير معناها العربي ومنها ما ليس عربية وهم يحسبونها عربية ثم أخذها العرب منهم فاستعملوها استعمالهم وهم لا يدرون , طبع في الآستانة عام 1931 م .
6- رسائل التعليقات : وتتضمن رسائل ثلاث , الأولى تعليقاته على كتاب التصوف الإسلامي للدكتور ( زكي مبارك ) والثانية تعليقاته على بعض فصول كتاب ( النثر الفني ) لزكي مبارك أيضا , والثالثة تعليقاته على كتاب ( التاريخ الإسلامي ) للمستشرق الايطالي ( لئونا كايتاني ) وقد طبعت عام 1944 م .
وقد ذكرنا له من قبل كتاب ( نفح الطيب في الخطابة والخطيب ) وكتاب ( على باب سجن أبي العلاء ) وكتاب ( آراء أبي العلاء ) وكتاب ( الشخصية المحمدية ) فضلا عن ديوانه الأول والثاني .
شعر الرصافي – الجديد فيه :
نظم الرصافي الشعر في أغراض كثيرة هي : الغزل ووصف الطبيعة والإنسان ومظاهر الحضارة والعمران للبلاد التي زارها , ونظم في تراجم بعض الشخصيات التاريخية الشعرية منها وغير الشعرية كالعمري والمتنبي والرازي وجبران , كما نظم في الشعر الوصفي والإنساني والاجتماعي والفلسفي , وله قصائد في الكون والتأمل والسياسة والشعر الوطني والقومي , وهناك منظومات عديدة في المرأة خاصة , فضلا عن المقطعات في موضوعات شتى , ولن ندرس جميع هذه الأغراض , فقد أشبعها الدارسون بحثا ً وتقصيا ً لكننا نود أن نعرض الجديد في شعره لنعرف ماذا أضافه إلى هذا الفن .
الجديد في شعره :
قلنا إن الرصافي يقف في صف واحد مع بناة الشعر الآخرين بعد البارودي ومزية هؤلاء جميعا أنهم اخذوا يعبرون عن كل ما يتعلق بمجتمعاتهم وأمتهم من آمال والآم تعبيرا صادقا تنعكس فيه مشاعرهم وأحاسيسهم .
وكما تأثر البارودي بالقدماء وحاكاهم , كذلك كان شأن الرصافي إذ حاكى فحول الشعراء القدماء وقد استطاع الباحثون أن يعيدوا بعض قصائده إلى زهير وعنترة وطرفة وامرئ القيس وأبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري وغيرهم , ثم انه مجد بعض هؤلاء الشعراء , كما في قصيدته عن المعري إذ نراه يتغنى بشاعريته وشعره ويمجد فكره ويتحدث عن ابرز سماته كما يتحدث عن أرائه في تحكيم العقل , ويعده ( شاعر البشر ) ويجعل قصيدته فيه رباعيات تربو على العشرين , منها قوله :
حل في ذروة الأدب أتيا منه بالعجب
لا تقل شاعر العرب انه شاعر البشر
عبقري بشعره عالمي بفكره
جعل الصدق ديدنا تاركا هذه الدنى
وفي قصيدته ( أبو الطيب المتنبي ) يتحدث عن نفس هذا الشاعر الكبيرة العزيزة ويثني على شعره المبتكر ثناء يدل على إعجابه به فيقول :
كان أبو الطيب امرءا قوله يبتكر الشعر مذكيا شعله
صاحب نفس كبيرة شرفت فشرفت حله ومرتحله
كان هو الشاعر الذي انتشرت أشعاره في البلاد منتقلة
اوجد للشعر دولة عظمت به فعزت من قبله دوله
من كل معنى آخر مؤتلق في لفظه كالعروس في الحجلة
وربما رق لفظه فبدت في شعره كل كلمة ثملة
وربما لم تبن مقاصده لأنها فيه غير مبتذلة
في شعره حكمة مهذبة وروعة بالذكاء مشتعله
ونغمة بالشعور صادقة وصنعة بالفنون متصلة
ولا ريب أن الرصافي كان على اتصال بشعراء عصره إذ نراه ينظم قصيدة في مبايعة شوقي بإمارة الشعر ( في حفلته ) كما يرثيه عند وفاته , ويمتد اتصاله بالشعراء إلى المهجر فيعجب بجبران خليل جبران ولذلك يرثيه بأبيات عنوانها ( أين جبران ) يلجأ فيها إلى أسلوب طريف , ( فلا كسوف شمس ولا خسوف قمر , ولا بكاء سماء كم اعتاد المقلدون , وإنما عمد إلى وصف صبي جميل يعزف على قيثارة وهو يبكي فلما سأل الشاعر الناس عنه قالوا : انه الشعر وقد أضحى يتيما بفقدانه أبيه الخالد جبران ) ومنها هذه الأبيات :
من سامع قصة لي كنت شاهدها على الربى الخضر من جنات لبنان
فقد رأيت غلاما صيغ منفردا بالحسن يصبو إليه كل إنسان
عليه ثوب بديع النسج طرته من صيغة المجد قد زينت بألوان
أبصرته واقفا يبكي وأدمعه توحي إلى كل قلب وحي أحزان
يبكي واللحن موسيقاه مشجية تهفو بأفئدة منا وأذان
فقمت بين أناس حوله وقفوا مستعبرين وكل نحوه ران
حتى سألت عن الباكي وقصته فقيل هذا هو الشعر ابن جبران
أبوه جبران أفناه الردى فغدا من بعده رهن يتم حلف أشجان
فقلت لم يفن جبران بميتته من خلف ابنا كهذا ليس بالفاني
وقد عد بعض النقاد هذه القصيدة من الجواهر المكنونة في رثاء جبران ووصف شعره وتجديده .
رأي الرصافي في الشعر :
قبل أن نعرض لجوانب التجديد في شعر الرصافي , لا باس أن نطلع على رأيه هو في الشعر ومقوماته , لنرى ما إذا كانت أقواله تنطبق على فنه وقد ذكر د.( بدوي طبانة ) عن الشاعر قوله : " والشعر لا بد فيه من الوزن والقافية " ثم يلح على هذه الفكرة فيقول : " إن حقيقة الشعر قائمة بالوزن , لأنه بالوزن وحده يصلح للغناء " ولعل خير ما يلخص رأيه كذلك قوله هو في شعره وكيف حاول فيه العناية بالألفاظ والمعاني في أن واحد فقال عنه :
طابقت لفظي بالمعنى فطابقه خلوا ً من الحشو مملوءا من العبر
إني لانتزع المعنى الصحيح على عري فاكسوه لفظا قد من درر
وأجود الشعر ما يكسوه قائله بوشي ذا العصر الخالي من العصر
وهذا القول كان الدلالة على ولعه بالتجديد ولا سيما في البيت الأخير , إذ يريد للشعر أن يكون عصريا جديدا ً , معبرا ً عن البيئة والعصر الحديث ففيم كان تجديده إذن ؟
المدقق في شعر الرصافي يلحظ بوضوح انه كان مرتبطا بعصره ارتباطا وثيقا فقد شارك في الأحداث السياسية الوطنية والقومية قبل الدستور وبعده ودافع عن حرية الفكر حينما كرم شوي في مبايعته بإمارة الشعر كما دافع عنها في قصيدته ( الحرية في سياسة المستعمرين ) فقال منها :
يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوم
وتأخروا عن كل ما يقضي بأن تتقدموا
ودعوا التقدم جانبا فالخير إلا تفهموا
وتحدث في قصائد أخرى عن العدالة الاجتماعية ودافع عن حقوق الطبقة الفقيرة في الحياة والتعليم والعمل والتداوي , واهتم ببعض الجوانب الإنسانية الاجتماعية , فنظم في ( الأرملة المرضعة والمطلقة وأم اليتيم واليتيم في العيد ) وغيرها ونعى على قومه غفلتهم وجهلهم وفتح أعينهم على الظلم والاستبداد الذي حاق بهم , وحثهم على النهوض ومقاومة الفساد , ولا سيما في قصيدته ( تنبيه النيام ) التي يقول فيها :
أما آن أن يغشى البلاد سعودها ويذهب عن هذي النيام جمودها
أما أسد يحمي غضنفر فقد عاث فيها بالمظالم سيدها
برئت إلى الأحرار من شر امة أسيرة حكام ثقال قيودها
ويتوجه إلى أبناء وطنه مقرعا فيقول :
بني وطني ما لي أراكم صبرتم على ثوب أعيا الحصاة عديدها
أما آدكم حمل الهوان فانه إذا حملته الراسيات يؤدونها
أتطمع هذي الناس أن تبلغ المنى ولم تور في يوم الصدام زنزدها
ومن رام في سوق المعالي تجارة فليس سوى بيض المساعي نقودها
وهذه القصيدة وغيرها تعبر عن روح العصر الذي عاش شاعرنا فيه , وعن مرحلة انحلال الحكومة العثمانية , وخنق الحريات وظهور حركة التتريك .
وتفتحت في ذهنه فكرة العروبة فدعا إلى الوحدة العربية واستبشر بيوم ينهض فيه العرب ويجتمع شملهم ولعل دعوته هذه كانت أولى الدعوات إلى الوحدة العربية إذ يقول :
أما آن أن تنسى من القوم إضغان فيبنى على أس المؤاخاة بنيان
أما آن أن يرمي التخاذل جانبا فتكسب عزا بالتناصر أوطان
إلى أن يقول :
سننهض للمجد المخلد نهضة يقربها حوران عينا ولبنان
وتعتز من أرض الشام دمشقها وتهتو من أرض العراقين بغدان
وتطرب في البيت المقدس صخرة وترتاح في البيت المحرم أركان
وتحسن للعرب الكرام عواقب فيحمدها مفت ويشكر مطران
وطرق الرصافي بعض الموضوعات في قالب قصصي وقد عد بعض الباحثين ذلك أهم باب من أبوابه ومن ذلك قصيدته ( الفقر والسقام ) الاجتماعية , التي استوحى موضوعها من حياة عامل يدعى بشير , كان يعمل ويعول أخته فاطمة , ولكنه أصيب بمرض القلب والمفاصل فترك العمل وكانت أخته تكسب مبلغا ضئيلا ً لا يكفيهما فكانا يضطران أحيانا إلى شرب الماء وحده عوضا عن الطعام , وكانت النهاية أن مات بشير ثم لحقته أخته بعد بضعة أشهر وينهي القصيدة موضحا السبب في هذه المأساة حين يخاطب الأغنياء ويلقي التبعة عليهم فيقول :
أيها الأغنياء كم قد ظلمتم نعم الله حيث ما إن رحمتم
سهر البائسون جوعا ونمتم بهناء من بعد ما قد طعمتم
من طعام منوع وشراب
كم بذلتم أموالكم في الملاهي وركبتم بها متون السفاء
وبخلتم منها بحق الإله أيها الموسرون بعض انتباه
أفتدرون أنكم في تباب
ومن قصصه الناجحة قصة ( أبو دلامة والمستقبل ) يصور فيها حياة هذا الشاعر العباسي وحبه للسلام الذي به استطاع أن يعلم خصمه درسا في المحبة وحقن الدماء , وقتله ولكن بالقول لا بالسيف , وكأنه يسوق هذه القصة للاتعاظ , ليدعو من ورائها ساسة البلاد إلى نبذ الخلاف والعمل على الوفاق بدليل قوله في بعض أبياته :
ما ضر من ساسوا البلاد لو أنهم كانوا على طلب الوفاق عيالا
امن السياسة أن يقتل بعضنا بعضا ليدرك غيرنا الامالا
هذا بالإضافة إلى قصائد أخرى تصور – في قالب قصصي – بعض أناسي المجتمع الفقراء , كما اشرنا من قبل – عند الكلام على اجتماعياته .
وهناك قصائد أخرى تدخل في باب التجديد أيضا وهي التي سميت في ديوان الشاعر ( الفلسفيات ) وفيها يتحدث ( عما وراء القبر وعن وجه ادم وحياة الورى , وعما بين الروح والجسد وعن خواطر شاعر ) وغيرهما مما يدور معظمه حول الحديث عن النفس وما وراء الحياة والتأمل في الطبيعة والكون , يقول في ( وجه ابن ادم ) :
لله سر في الأنام مطلسم حار الفصيح بوصفه والأعجم
برأ ابن ادم وهو إن لم تلقه في الخلق أقدم فهو فيه مقدم
وإذا نظرنا في العجائب نظرة ظهر ابن ادم وهو منها الأعظم
أما العجيب من ابن ادم فهو ما نسق الكلام به إذا نطق الفم
إلى جانب هذا نجد قصائد نظمها في المخترعات الحديثة مما أطلق عليه اسم ( الكونيات ) وهي القسم الأول في الديوان , ومعظمها في المسائل العلمية يتعلق بالأرض ومركز الإنسان منها , والنجوم والشمس والليل والنهار الخ . . . وهي في جملتها ليست في مستوى شعره الآخر , لذلك قال عنها العلامة الشيخ عبد القادر المغربي, مقدم الديوان : " فقصائده ( تجاه اللانهاية ) و من أين من أين ) و ( نحن على منطاد ) و ( الأرض ) و ( الكسي يا ضياء ) و ( معترك الحياة ) وغيرها لو حولت إلى نثر لكانت من خير المقالات التي وصفت بها الكائنات وصفا منطبقا على آخر نظريات العلم الحديث ففيها بيان أو شرح لوحدة المادة والجاذبية والأثير والكهربية وأشعة رونتجن وآراء داروين في النشوء , مذهب ديكارت في التوصل إلى اليقين والشك . " .
وأخيرا ً فما جدد فيه شاعرنا باب سماه ( النسائيات ) جعله وقفا على المرأة والدعوة إلى تحريرها , ومنه ( المرأة في الشرق نساؤنا حرية الزواج عندنا , التربية والأمهات , هوان المرأة عندنا ) وغيرها , وأشهر هذه ( التربية والأمهات ) التي حظيت باستحسان كثير من الناس في عصر الرصافي وبعده يقول فيها :
هي الأخلاق تنبت كالنبات إذا سقيت بماء المكرمات
تقوم إذا تعدها المربي على ساق الفضيلة مثمرات
ولم أر للخلائق من محل يهذبها كحضن الأمهات
فحضن الأم مدرسة تسامت بتربية البنين أو البنات
وأخلاق الوليد تقاس حسنا بأخلاق النساء الوالدات
إن هذه الأبواب كلها جديدة في مضمونها وأغراضها إذ لم تكن موجودة عند الشعراء القدماء جديدة لأنها مستمدة من روح العصر ومن صميم البيئة التي عاش فيها الرصافي .
أما من حيث الأسلوب فهو – وأن كان يجري على الأساليب القديمة من حيث الأوزان والقوافي والصياغة والتراكيب لكنه جدد أحيانا في الرنة الموسيقية مع السهولة والوضوح , من ذلك قصيدته ( إلى أبناء الوطن ) التي نظمها بعد رجوعه من بيروت إلى بغداد عام 1923 م يقول في أولها :
سر في حياتك سير نابه ولم الزمان ولا تحابه
وإذا حللت بموطن فاجعل محلك في هضابه
ومنها قوله معبرا ً عن مشاعره نحو وطنه :
آب المسافر للديار على اضطرار في إيابه
لو كان يجنح للإياب لما تعجل في ذهابه
أما العراق فإن لي كل الرجا بأسد غابه
ينجاب يأسى بالرجاء إذا نظرت إلى شبابه
ففي هذه القصيدة تعبير نفسي صادق عما يجول في مخيلته من آمال في الشباب وهي كسابقاتها جديدة في معانيها وصياغتها وموسيقاها .
ويشهد كثير من الباحثين للرصافي بلغته الشعرية الخاصة التي يستقل بها عن غيره , من لاحظ هذا الشيخ ( عبد القادر المغربي , إذ لفت النظر في تقديمه الديوان إلى أن في شعره تعابير خاصة به , وقد قال هو عن نفسه :
لست بالشاعر الذي يرسل اللفظ جزافا لكي يصيب جناسه
أنا لا ابتغي من اللفظ إلا ما جرى في سهولة وسلاسه
إنما غايتي من الشعر معنى واضح يأمن اللبيب التباسه
فها هنا يشير شاعرنا إلى انه يتوخى السهولة في الألفاظ والسلاسة في العبارات والوضوح في المعاني وجماع هذا كله البعد عن التكلف والتصنع وهذه صفة بارزة في اغلب قصائده , وقد شهد له بها في عصره ( أمير البيان شكيب ارسلان ) حتى رأى أن من الواجب أن يلقب ( بأمير البيان في الشعر ) كما لقب هو أمير البيان في النثر :
أما عبد القادر المغربي , فقد ذكر أن الذي ( حبب الرصافي وشعره إلى النشء العربي الجديد انه يمشي بمصباح بيانه بين أيديهم فهو يقول ما يفهمون , ويعبر بما يقول عما يحسون ويشعرون ) , كما يرى المغربي أن الطريق الموصل إلى الاستقلال هو السياسة , ولكن هناك سياسة هي أتم وأكمل في هذا الإيصال , اعني بها سياسة الأدب والثقافة وهيا لسياسة العليا وهذه السياسة لا تفي بالغرض ولا تنقذ الأمة من ربقة الجهل والاستعباد ما لم تكن ذات لغة تجمع بين الصحة في اللفظ والأسلوب وبين الوضوح في المعنى والمقصود , بحيث يتأثر بها جمهور الأمة , فتجمع كلمتهم وتوحد ميولهم وتوجه إلى المثل الأعلى عزائمهم , وهذا ما نكاد نلمسه لمسا ً في كل جانب من شعر الرصافي ولا يحتاج القارئ إلا أن يتصفح ديوانه فيرى الشواهد الكثيرة عليه .
ومن مظاهر تجديده : التزامه بالوحدة الموضوعية في القصيدة وأن لم تتوفر فيها الوحدة العضوية , صحيح أن الغرض واحد من أول القصيدة إلى آخرها – لا كما لاحظنا عند البارودي – ولكنها ليست ذات نفس شعري مترابط , بحيث يختل معناها إذا حذفنا بعض أجزائها أو قدمنا وأخرنا في مواضع أبياتها .
وهناك ظاهرة أخيرة قد يكون لها صلة بخصائص شعر الرصافي هي عنايته بموسيقى الوزن والقافية فعلى الرغم من انه يستخدم الأوزان الخليلية المعروفة ولا يخرج عنها , لكنه يعني بروي القصيدة فيجعله مناسبا لمعناها وقد يلتزم قبله بحرف المد أو يثبت ألف الإطلاق بعده حينما يحتاج المعنى إلى جهارة الصوت , ومد النفس وغالبا ما يكون ذلك في قصائد المناسبات السياسية الوطنية التي كان يلقيها في احتفال من الاحتفالات الخطابية , وقد رأينا نماذج عديدة لها في ثنايا حياته وشعره .
وقد يسكن الروي ويجعله مقيدا ً وهذه ظاهرة بينة تتجلى في كثير من قصائده , فتنشأ عنها موسيقى ناعمة حينا وحزينة حينا آخر , ولنضرب مثلا على هذا قصيدته ( قصر الحمراء ) التي نظمها متحسرا على مجد العرب في الأندلس , والتزم بعد الروي بهاء ساكنة , لعبر عن الحسرة يقول فيها :
قف على الحمراء واندب مضر الحمراء فيه
واسأل البنيان ينبئك بأنباء ذويه
ويحدثك حديث المجد والعيش الرفيه
بكلام محزن اللهجة يبكي من يعيه
يقول في قصيدة أخرى بعنوان ( وحدة الوجود ) :
ما للحقيقة من بداية كلا وليس لها نهاية
خفيت ولكن كم وكم ظهرت لها في الكون أية
إلى آخر هذه الأبيات الفلسفية التي نحس ونحن نقرؤها , أن شاعرنا يطلق نفسه في آخر كل بيت من أبياتها , مع هاء هذه القافية المقيدة ومثلها قصائده التالية ( العلم – المرأة المسلمة – من مطبخ الدستور – إلى أبناء الوطن ) فضلا عن قصيدتيه ( المتنبي وشاعر البشر ) , اللتين سبقت الإشارة لهما .
ولو أردنا أن نجمل أهم ما أضافه الرصافي من تجديد إلى الشعر العربي بالقياس إلى البارودي لوجدنا انه وضع قاعدة الالتزام الحديث في الأدب , إذ جعل له رسالة نبيلة سامية هي رسالة الأكثرية الساحقة من أبناء الشعب وحتم على الأديب أن يضع نفسه في خدمة المجتمع , ويستوعب آلامه وآماله وأهدافه , وهذا ما لم يتوفر في شعر البارودي كما لم يتجل لنا بوضوح في شعر شوقي وحافظ كما سنرى فيما بعد .
منزلته في الشعر العربي الحديث : في المقدمة المطولة التي عرف بها العلامة ( عبد القادر المغربي ) ديوان الشاعر حينما طبع للمرة الثانية , حاول أن يحلل شعره وشاعريته ويبين مواطن القوة فيهما واهم الأغراض التي أبدع فيها , والمزايا التي امتاز بها , كما أشار إلى بعض معانيه المبتكرة وعرج ببعض التعابير المحدثة المقبولة وغير المقبولة , ثم قال عنه : " هذا هو الرصافي الشاعر الكبير الذي شغل العالم العربي فترة طويلة من الزمان والذي استمر إنتاجه متدفقا أكثر من خمسين عاما ً , هذا هو الرصافي شاعر العرب وشاعر العراق وشاعر النضال الوطني , والكفاح المتحرر المتوثب من اجل النهضة والتقدم لبلاده وأمته " , وهذه الشهادة من علامة معاصر له تدل على مبلغ ما وصلت إليه منزلة هذا الشاعر في عصره فهو يلقبه مرة بشاعر العرب وأخرى بشاعر العراق , وثالثة بشاعر النضال الوطني ومثل هذه الألقاب نراها عند الدارسين الذين ألفوا كتبا عديدة عن حياته وشعره , ( بدوي طبانة ) يسميه شاعر العراق الكبير , وعبد الجبار الجومر وسعيد البدري يطلقان عليه اسم شاعر العراق الأكبر , وهناك باحثون آخرون وصفه بعضهم بأنه ( شاعر العرب الكبير ) أو شاعر العرب الأكبر , وبالغ بعضهم مبالغة شديدة فقال عنه منير القاضي رئيس المجمع العلمي العراقي , مكانة شاعر العراق الأوحد في عصره بل شاعر العروبة الأوحد في وقته , في الذروة فهو المجلي بين جميع شعراء عصره ومكانته بينهم مكانة المتنبي من شعراء عصره .
ومهما كانت صحة هذه الألقاب فلا شك أنها تدل على إقرار الباحثين بعظمة هذا الشاعر على الرغم من تفاوتهم في تضخيم هذه العظمة أو الاعتدال في التعبير عنها , لكن بعض النقاد فضل عليه الزهاوي أو شوقي , أو حافظ أو مطران المعاصرين له .
على أن لكل شاعر من هؤلاء جانبا ً يختلف فيه عن الآخر أضافه إلى الشعر الحديث , فبم امتاز شاعرنا إذن ؟
امتاز الرصافي عن هؤلاء جميعا بما يلي :
1- بجرأته في القول وصراحته في التعبير عما يراه حقا ً , دون أن يهاب أحدا سواء كان رجلا من رجال السلطة أو الشعب , ولعل هاتين الصفتين هما اللتان لفتتا أنظار الأدباء في عصره حتى ظن بعضهم أن الرصافي اسم وهمي أو مستعار , ومن هؤلاء الشاعر اللبناني بشارة الخوري , والصحفي اللبناني نعوم لبكي , وكان الرصافي يجهر بهاتين الصفتين ويعتز بهما في شعره وهو الذي قال في قصيدته ( في سبيل الحرية ) :
وجردت شعري من ثياب ريائه فلم اكسه إلا معانيه الغرا
اضمنه معنى الحقيقة عاريا فيحسب جهالها منطقا هجرا
ويحمله الغاوي على غير وجهه فيوسعني شتما وينظرني شزرا
رويدك إن الكفر ما أنت قائل وإن صريح العرف ما خلته نكرا
هل الكفر إلا أن ترى الحق ظاهرا فتضرب للأنظار من دونه سترا
وأن تبصر الأشياء بيضا نواصعا فتظهرها للناس قانية حمرا
إذا كان في عري الجسوم قباحة فأحسن شيء في الحقيقة أن تعرى
2- ويمكننا كذلك أن نستشف منزلته في الشعر العربي الحديث من خلال بعض المزايا التي شهد له بها معظم من تناول شعره بالدراسة .
حافظ إبراهيم / حديث
في ذهبية ( سفينة ) على شاطئ النيل قرب ديروط في أسيوط من صعيد مصر رأت عينا ( حافظ إبراهيم ) النور لأول مرة عام 1870 وفي بعض الكتب قبل 1871 وقد ولد لأب مصري كان مهندسا واسمه ( إبراهيم فهمي ) كان يشرف على قناطر ديروط , ولام تركية اسمها ( هانم بنت احمد البورصلي ) ولم يكن لوالده غيره ولم يعثر بعد ولادته طويلا , إذ كان في الرابعة من عمره حين توفى فانتقلت به أمه إلى بيت أخيها في القاهرة , فاشرف على تربيته – وكان مهندسا أيضا ً – وادخله الكتاب أولا ثم المدرسة الابتدائية ثم نقل عمل خاله إلى طنطا , فصحبه معه , فكان هناك يتردد على الجامع الأحمدي , الذي كانت تلقى فيه دروسا ً على شاكلة الأزهر فكان حافظ إبراهيم يحضر بعضها أحيانا دون انتظام ولكنه بدأ يشعر بميله إلى الأدب والشعر وكان في السادسة عشرة من عمره حين تعرف على الشيخ عبد الوهاب النجار , الذي كان طالبا بالجامع الأحمدي وقد وصفه بالظرف واللطف والبديهة المطاوعة وسرعة الخاطر , والنادرة الحاضرة فكانا يتطارحان الشعر يتذكران في نوادر الأدب , ودل ذلك على جيد ما حفظ من الشعر , وما أولع به من المطالعة وهكذا أنشأ ( حافظ ) نفسه بنفسه لكثرة عكوفه على كتب الأدب فكان يكثر من مطالعة كتاب الأغاني الذي قراه مرات عديدة , كما قرأ دواوين الشعراء القدماء كبشار ومسلم بن الوليد , وأبي نواس وأبي تمام والبحتري والشريف الرضي وابن هاني والمعري , وغيرهم , وكان يحفظ أكثر شعرهم وظل حافظ يعيش هذه الحياة غير المنتظمة لا في دراسته ولا في عيشته حتى مل خاله هذه الحال وربما أشعره بذلك فنظم بيتين تركهما لخاله قال فيهما :
ثقلت عليك مؤونتي إني أراها واهية
فافرح فإني ذاهب متوجه في داهية
وقرر أن يشق طريقه بنفسه ليكسب عيشه وكان أمامه أحد الطريقين أما أن يكون معلما في مكتب – كما كان يفعل غيره – وأما أن يكون محاميا لأن المحاماة كانت مهنة حرة , لا قيد فيها ولا شرط وربما استشعر حافظ بنفسه القدرة على المداورة والمحاورة , لطلاقة لسانه , وسرعة بديهته فذهب إلى أحد المحامين واشتغل في مكتبه واخذ يترافع في القضايا ويكسبها لكنه اختلف مع صاحب المكتب فانتقل إلى مكتبين آخرين ثم مل من جديد ولا سيما لأن المحاماة تقتضي العكوف على دراسة القضايا وكتابتها مما ليس من شيمه , فقرر أن يترك المحاماة ويدخل المدرسة الحربية , كما فعل من قبل أستاذه البارودي الذي كان معجبا ً به , مهتديا بهديه وظل في المدرسة الحربية حتى عام 1891 م حين تخرج وهو في سن العشرين وعين بعد تخرجه في وزارة الحربية مدة ثلاث سنوات , ثم نقل إلى الداخلية في بلدة بني سويف , حيث أمضى عاما ونيفا ثم عاد إلى وزارة الحربية وسافر إلى السودان مرافقا لحملة اللورد كيتشنو , ولكنه ما لبث أن ضاق ذرعا بعمله هناك وقد قال في ذلك واصفا حاله , متعجلا العودة إلى القاهرة :
متى أنا بالغ يا مصر أرضا أشم بتربها ريح العلاب
ولما حدثت ثورة السودان عام 1899 اتهم مع غيره من الضباط بإثارتها فحوكموا وأحيلوا على الاستيداع فطلب هو إحالته على المعاش ( التقاعد ) واخذ يبحث عن عمل جديد فعرض نفسه على جريدة الأهرام , لكنه رفض فظل فترة من الزمن بلا عمل يتردد على مجلس الأستاذ محمد عبده , وأتيحت له – عن طريقه - فرصة الاتصال بالأدباء والعظماء أمثال ( سعد زغلول وقاسم أمين ومصطفى كامل ) ونحوهم فكان يسمع منهم كثيرا من المسائل العلمية والسياسية والاجتماعية التي تعرض فيها الحلول المختلفة ويلقي هو عليهم شعره ونوادره , ثم عين عام 1911 رئيسا للقسم الأدبي بدار الكتب المصرية , وظل في هذه الوظيفة حتى وفاته في ( 21 يوليه ( تموز عام 1923 ) وذلك بعد أربعة أشهر ونصف من إحالته على المعاش .
أخلاقه :
عرف حافظ – كما قلنا – بالبديهة الحاضرة , والنكتة الظريفة وظرف الحديث وكأنه عوض بذلك عن البؤس الذي حالفه والشقاء الذي لازمه منذ صغره حتى وفاته ولكن شخصيته المرحة هذه لم تكن تبدو في شعره إذ يتراءى فيه حادا يدافع عن وطنه ومجتمعه وشعبه .
وعرف حافظ بالملل فهو لا يستقر على حال حتى ينتقل إلى غيرها فقد رأيناه يسام من الدراسة والمدرسة فينتقل إلى المحاماة فما يلبث أن يملها فيغادرها إلى المدرسة الحربية .
وكان كريما واسع العطاء ( كسابا وهابا ) كما قال عنه إحدى أصدقائه فكان إذا امتلأ جيبه بالمال تمتع بما يشتهي فأكل خير مأكل , ولبس خير ملبس وانفق على أصدقائه , حتى إذا ضاقت به الحال وذاق البؤس والحرمان عرف كيف يقتصد ويصبر .
وكانت نفسه كما قال د . طه حسين : بسيطة يسيرة لا حظ لها من عمق ولا تعقيد وكانت لهذه الخصال نفسها محببة إلى الناس مؤثرة فيهم .
3نتيجة لما تقدم كان حافظ صديق الشعب كله صديق الفقراء والأغنياء وأوساط الناس صديق العلماء , والمستنيرين وصديق غيرهم من الذين لا حظ لهم من ثقافة أو ليس لهم من الثقافة إلا حظ ضئيل , تراه في كل بيئة وتراه في الشوارع يماشي أصدقائه باسم الثغر مشرق الوجه , مظلم النفس ضاحكا مما يحزن ومما يسر .
ومما عرف عن حافظ انه كان يتسع صدره لنقد شعره وكثيرا ما دعا اصحباه وخصومه إلى نقده ودلالته على مواضع الضعف , ومواضع نقض في قصائده قبل أن تنشر وبعد أن تنشر على الجمهور , أما إذا نشر في الصحيفة أو كان على ملأ من الناس فكان يغضب اشد الغضب , ولا يثبت للنقد والخصومة .
مما تقدم من حياة هذا الشاعر وأخلاقه نستطيع أن نعرف المؤثرات التي تركت بصماتها واضحة فيه وهي :
1- البيئة المصرية الفقيرة التي ترعرع فيها فقد انعكست آثارها على نفسه وشعره فبؤسه دفعه إلى الكرم ونقمته على الشقاء دفعته إلى الفكاهة الحلوة , والنادرة المستملحة فضحك من البؤس وسخر من الحياة حتى تناقلت الصحف والمجالس والمقاهي نوادره وفكاهاته .
أما اثر هذه البيئة في شعره فقد انعكس في مناصرته للفقراء والبائسين والدفاع عن المجتمع والوطن حتى غدا شعره السياسي الوطني وشعره الاجتماعي في مقدمة الأغراض التي جدد فيها .
2- وتأتي الثقافة العربية لتكون فكره وذوقه , فقد رأينا تأثره بالكتب والدواوين العربية القديمة , وكان في هذا يسير على خطا أستاذه البارودي وإن هذا أوسع منه ثقافة وإطلالا إذ حذق اللغتين الفارسية والتركية ثم تعلم الانجليزية حين كان في النفي أما حافظ فقد الم بالفرنسية الماما مكنه من ترجمة ( البؤساء ) لفيكتور هوغو – بتصرف فيها – ولم يحذق سوى اللغة العربية وكانت حافظته قوية تسعف ذوقه ولكنه لم يكن منظما في قراءته بل كان – كما وصفه د . احمد أمين , - كالنحلة تنتقل من زهرة إلى زهرة , وترتشف من هذه رشفة ومن تلك رشفة حتى إذا وقع على أسلوب جميل أو معنى دقيق اختزنه وأفاد منه .
3- ولكن هناك رافد آخر لمكوناته وثقافته هو اختلاطه بمجالس العلماء وقادة الرأي الذين كان يتصل بهم ممن اشرنا إليهم قبل قليل وكلهم عرف بالزعامة في الأدب أو السياسة أو الإصلاح .
4- إذا أضفنا إلى هذا كله تجاربه الشخصية الواسعة التي كانت نتيجة تعرضه للبؤس والفقر و الشقاء وامتزاجه بالناس على مختلف طبقاتهم ومشاركتهم في الخير والشر , والسراء والضراء لاحظنا الفرق في التكوين بينه وبين شوقي من جهة وبينه وبين البارودي من جهة أخرى .
شعره : نظم حافظ الشعر في أغراض كثيرة مثل المدح والتهنئة والهجاء والوصف والغزل والقضايا الاجتماعية والسياسية الوطنية والرثاء والاخوانيات .
ويمتاز شعره على سابقيه ( البارودي وشوقي ) بأنه توجه فيه إلى الجمهور لا إلى الطبقة الخاصة فكان يبسط لغته ويصوغ بأسلوب سهل حتى يكون مفهوما لدى الناس أجمعين وكانت صلته بالناس – كما رأينا في حياته – واسعة شاملة , فما كان يعيش لنفسه إنما كانت مصر كلها – كما يقول د . طه حسين – بل الشرق كله بل الإنسانية كلها في كثير من الأحيان , تعيش في هذا الرجل تحس بحسه وتألم بقلبه وتفكر بعقله وتنطق بلسانه . فكانت طبيعته مرآة صافية صادقة لحياة نفسه ولحياة شعبه .
ووهب حافظ فوق هذا عاطفة قوية وذوقا رفيعا فعمد إلى تقليد القدماء والنظم على غرارهم ثم عابه النقاد وزميله شوقي في اتجاههما نحو القديم فإذا هو ينظم قصيدته المشهورة مخاطبا الشعر :
ضعت بين النهى وبين الخيال يا حكيم النفوس يا بن المعالي
ضعت في الشرق بين قوم هجود لم يفيقوا وأمة مكسال
قد اذالوك بين انس وكاس وغراء بظبية أو غزال
ونسيب ومدحة وهجاء ورثاء وفتنة وضلال
وحماس أراه في غير شيء وصغار يجر ذيل اختيال
إلى أن يقول :
آن يا شعر أن نفك قيودا قيدتنا بها دعاة المحال
وهذه الصرخة طيبة والشاعر محق بها , ولكنها بقيت نظرية لأنه هو نفسه لم يستطع أن يفك قيود الشعر بل ظل ينظم – كما ذكرنا من قبل قليل – في الأبواب الشعرية التي يقول انه ( أذيل بينها ) ولم يجدد في الأوزان ولا الأسلوب ولا الخيال ولكنه جدد – كما سنرى – في بعض الموضوعات السياسية الوطنية والاجتماعية وبرع في الرثاء ومزيته في التجديد – تتركز – كما قال احمد أمين : " في انه تبلورت في شعره بآمال أمته أولا وآمال الشعب العربي ثانيا " فأين نجد هذا في شعره ؟
لعله يتجلى أوضح جلاء في قصائده الوطنية التي نظمها في المناسبات السياسية من ناحية وفي قصائده التي دفعته إلى تدبيجها مناسبات اجتماعية من ناحية ثانية , وأخيرا في رثائه لبعض الشخصيات في عصره الوطنية والعلمية والإصلاحية .
1- شعره الوطني :
يكاد شعر حافظ الوطني يساير معظم المناسبات السياسية التي جرت في عصره إن لم نقل كلها وكان اختلاطه بزعماء مصر سببا في صقل شعوره الوطني , إذ كان عصره عصر انقلاب وتحول وقلاقل وحماية وتخاذل من بعض الحكام , ووعي من بعض الزعماء الوطنيين الذين كانوا يلهبون حماسة الشعب ويحاولون إيقاظه من غفلته فينبري حافظ ليشاركهم بشعره في مناسبات عديدة منها قصيدته إلى الأسير ( حسين كامل ) الذي كان رئيس مجلس الشورى وقبل أن يتوجه بخطابه إليه يصور الشعب محاولا ً توعيته واضعا يده على أساس الداء الذي هو التواني والانقسام فيقول :
أرى شعبا بمدرجة العوادي تمخخ عظمه داء عقام
هلاك الفرد منشؤه توان وموت الشعب منشؤه انقسام
وإنا قد ونينا وانقسمنا فلا سعي هناك ولا وئام
فساء مقامنا في أرض مصر وطاب لغيرنا فيها المقام
فلا عجب إذا ملكت علينا مذاهبنا وأكثرنا نيام
ثم يوجه خطابه للأمير , ويطالبه بنشر العلم والأخذ بالدستور ويعرج بعد هذا على الحدث السياسي الاقتصادي الذي زعزع كيان مصر وهو ( حفر قناة السويس ) فيقول :
حمونا ورد ماء النيل عذبا ً وقالوا انه موت زوءام
وما الموت الزوءام إذا عقلنا سوى الشركات حل لها الحرام
فيا ويل القناة إذا احتواها ( بنو التاميز ) وانحسر اللثام
وحين سمع بأمة اليابان وشجاعتها التي انتصرت فيها على روسيا التفت إلى أمته فقرعها , وأسف على تخاذلها وتعشقها للأجانب دون أن تحس بالخطر الداهم فقال في قصيدته ( غادة اليابان :
أنا لولا أن لي من أمتي خاذلا ما بت أشكو النوبا
امة قد فت في ساعدها بغضها الأهل وحب الغربا
لا تبالي لعب القوم بها أم بها صرف الليالي لعبا
ثم ضرب المثل للأمم الناهضة بقصة هذه الغادة اليابانية التي ذكرت له أنها تود الدفاع عن وطنها بخدمة الجرحى ومواساة المنكوبين لأن ملك اليابان ( الميكادو ) هكذا علمها فاستطاع أن يأخذ بيد أمته نحو المعالي :
هكذا الميكادو وقد علمنا أن نرى الأوطان أما وأبا
وإذا بدا حافظ في القصيدتين السابقتين ناصحا معتدل النبرة تارة ومن وراء ضرب المثل للأمم الناهضة تارة أخرى , فانه يبدو ارفع صوتا وأصرح عبارة في قصيدته ( مصر ) التي انشدها في الحفل الذي أقيم لتكريم المرحوم ( عدلي باشا ) بعد عودته من أوروبا قاطعا المفاوضة مع الانجليز ومستقيلا من الوزارة وقد جعل القصيدة على لسان مصر تتحدث بنفسها فقال في مطلعها : وقف الخلق ينظرون جميعا ً كيف ابني قواعد المجد وحدي
ثم يبث في أبناء شعبه الوعي ويفتح عيونهم على خطر الاستعمار الغربي المحدق بالوطن ويدعوهم إلى الوئام والتآلف فيقول :
إن في الغرب أعينا راصدات كحلتها الأطماع فيكم بسهد
فاتقوها بجنة من وئام غير رث العرا وسعي وكد
نحن نجتاز موقفا تعثر الآراء فيه وعثرة الرأي تردى
ونعبر الأهواء حربا عوانا من خلاف والخلف كالسل يعدي
ونثير الفوضى على جانبيه فيعيد الجهول فيها ويبدي
فقفوا فيه وقفة الحزم وارموا جانبيه بعزمة المستعد
وفي قصيدة أخرى نظمها في أواخر حياته بعنوان ( في شؤون مصر السياسية ) يخاطب الانجليز الذين يزعمون أنهم محايدون , فيجابههم بحقيقة شعور المثريين نحوهم ويقول:
لم يبق فينا من يمني نفسه بودادكم فودادكم أحلام
امن السياسة والمروءة أننا نشقى بكم في أرضنا ونضام
إنا جمعنا للجهاد صفوفنا سنموت أو نحيا ونحن كرام
وتتبع هذه القصيدة بقصائد عديدة أخرى يوجهها إلى الانجليز أيضا منها ( إلى الانجليز – إلى المندوب السامي – الأخلاق والحياد – ثمن الجياد – الحياد الكاذب ) وكلها تعبر عما يضطرم في نفسه ونفوس المصريين من مشاعر وطنية .
ولا يفوتنا أن ننوه بمأساة ( دانشوي ) التي حدثت حين خرج بعض ضباط الانجليز لصيد الحمام قرب هذه البلدة عام 1906 م فاصابت إحدى رصاصاتهم الطائشة امرأة فثار الاهلون وهاجموا الجنود الانجليز فقتلوا واحدا منهم , وأصابت ضربة الشمس آخرين من الهاربين فاماتته فثارت ثائرة اللورد كرومر , المعتمد البريطاني آنذاك وطالب بمحاكمة سكان هذه البلدة فالفت محكمة خاصة لمحاكمتهم وقضى المدعي العام ( إبراهيم المهلباوي ) فيها بمعاقبة المجرمين أقسى عقوبة فاعدم أربعة شنقا على مرأى من الاهلين كما حكم على الباقين بالجلد والسجن لمدد مختلفة فثار الرأي العام لهذا الحكم الجائر أما شوقي – شاعر القصر آنذاك فظل صامتا ً ثم نظم قصيدة بعد عام في ذكرى الحادثة يبدو فيها كما سبق أن ذكرنا , التكلف الذي يراد به تمويه العاطفة الواهية .
وأما حافظ فقد طلع على الشعب بقصيدة بعد صدور الحكم بخمسة أيام ثم نظم قصيدة ثانية بمناسبة استقبال الحاكم الانجليزي اللورد كرومر اثر عودته من المصيف بعد الحادثة , واتبعها بثالثة نظمها عند استقبال غورست معتمدا جديدا بدلا من كرومر وهو في الأولى يخاطب الانجليز تارة فيقول مشيرا ً إلى من قتل بضربة شمس :
أيها القائمون بالأمر فينا هل نسيتم ولاءنا والوداد
لا تقيدوا من امة بقتيل صادت الشمس نفسه حين صادا
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو أنفوسا أصبتم أم جمادا
ليت شعري أتلك محكمة التفتيش عادت أم عهد نيرون عادا
وتارة أخرى يوجه خطابه إلى رئيس المحكمة , فيلين له القول ثم يغلظه قائلا ً :
ايه يا مدره القضاء ويا من ساد في غفلة الزمان وشادا
أنت جلاد فلا تنس أنا قد لبسنا على يديك الحدادا
وهكذا نرى شاعرنا يقف في شعره الوطني جنبا إلى جنب مع رفاقه زعماء الجهاد ليعانق قلمه وشعره خطبهم ونضالهم .
شعره الاجتماعي : كما كان اتصال حافظ بزعماء مصر الوطنيين والإصلاحيين سببا ً من أسباب صقل شعره الوطني كذلك كانت صلته بهم في اتجاهه نحو الشعر الاجتماعي هذا بالإضافة إلى انه عاش كما قلنا مع الشعب يلتقي بمختلف طبقاتهم ويشاركهم حياتهم فلا عجب أن يشخص أمراضه , ويشير إلى طرق معالجتها ويستنهض الهمم في سبيل حياة أفضل ومجتمع راقي , فإذا حدث غلاء في الأسعار اخذ يدعو المصلحين إلى محاربته , ومعالجة الفقر وآثامه ويقول في قصيدته :
أيها المصلحون ضاق بنا العيش ولم تحسنوا علينا القياما
وبعد أن يصور حال الفقير الذي عز عليه الحصول على قوت يومه , فصار يبيت على الطوى , يلتفت ثانية إلى المصلحين منبها إلى قضية اجتماعية مهمة مشيرا إلى أن الفقر سبب كبير من أسباب الإجرام :
أصلحوا نفسا اضر بها الفقر واحيا بموتها الاثاما
وتظفر إلى ذهن الشاعر هنا قضية وطنية يصل بينها وبين هذه الناحية الاجتماعية فقد غدت مصر مرتعا للدخيل الأجنبي , وخيراتها مطمعا ً للمستعمر الغربي دون أبنائها الذين يموتون جوعا وعطشا ً :
أيها النيل كيف نمسي عطاشا في بلاد رويت فيها الاناسا
يرد الواغل الغريب فيروى وبنوك الكرام تشكو الاداما
ثم يعود إلى مخاطبة المصلحين من جديد ليرفقوا بالقوم الذين تمنوا الموت حين وقعوا فريسة الغلاء .
واثر حادثة اجتماعية أخرى حدثت في بقعة من بقاع مصر , اهتز حافظ وثارت شاعريته فراح يصور ( حريق ميت غمر ) تصويرا يستدر الرحمة من القلوب وينتزع الإشفاق من النفوس , في لوحة تعبيرية بديعة بعد أن شاهد الحريق بعينه , إذ كان مع أعضاء لجنة المنكوبين الذين رأسها الأستاذ الإمام محمد عبده والذين رأوا عظم هذا الحريق الذي اهلك خلقا كثيرا ودمر عددا كبيرا من الدور والمحال فجاء تصوير حافظ لهذا الحريق تصويرا واقعيا يقول في بعضه :
سائلوا الليل عنهم والنهارا كيف باتت نساؤهم والعذارى
كيف أمسى رضيعهم فقد الأم وكيف اصطلى مع القوم نارا
كيف طاح العجوز تحت جدار يتداعى وأسقف تتجارى
أين طوفان صاحب الفلك يروي هذه النار فهي تشكو الأوارا
أشعلت فحمة الدياجي فباتت تملأ الأرض والسماء شرارا
فأغارت وأوجه القوم بيض ثم غارت وقد كستهن قارا
أكلت دورهم فلما استقلت لم تغادر صغارهم والكبارا
أخرجتهم من الديار عراة حذر الموت يطلبون الفرارا
وبعد أن ينتهي من هذا التصوير الذي يستدر فيه الرحمة والإشفاق , يتوجه بخطابه إلى الرافلين في حلل الوشي يجرون للذيون افتخارا . فيحضهم ويخص بعض الأغنياء منهم , على البذل والإعانة .
ويتلفت حافظ حوله فيرى أن المرأة التي هي نصف المجتمع ما زالت في ظلمات الجهل أسيرة التأخر فينادي بوجوب تعليمها وتربيتها وتحريرها مستعيرا بعض آراء معاصريه وصديقه ( قاسم أمين ) واشتهر ما نظمه في هذا المجال قافيته التي انشدها في حفل أقيم ببورسعيد عام 1910 لإعانة (مدرسة البنات ) فيها وقد ترددت أبياته الأخيرة منها والمتعلقة برعاية المرأة على كل شفة ولسان , وخاصة تلك التي يتحدث فيها عن رأيه في ( تربية النساء ) ومنها قوله :
من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
الأم أستاذ الأساتذة الالى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
ولعله كان يخشى من الفئات التي كانت تعارض تعليم المرأة خوفا من أن تشتط في التحرر ونزع الحجاب فأبان رأيه هنا بوضوح , وأشار إلى رسالة الأمومة والبيت أولا ً لكن دعا إلى رفع الظلم والحيف عن المرأة , وعدم الإسراف في التضييق عليها فقال حاضا ً على التوسط في هذا الأمر حاثا ً على العناية بتربيتها الخلقية :
فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا فالشر في التقييد والإطلاق
ربوا البنات على الفضيلة أنها في الموقفين لهن خير وثاق
وعليكم أن تستبين بناتكم نور الهدى وعلى الحياة الباقي
وفضلا عما تقدم فقد دعا حافظ إلى افتتاح الجامعة المصرية وأثنى على من أسسوا الجمعيات الخيرية وجمعيات العناية بالأطفال ومنها القصائد التالية ( رعاية الأطفال – ملجأ رعاية الأطفال – الجمعية الخيرية الإسلامية – جمعية إعانة العميان – ملجأ الحرية ) وغيرها . ومنها قصيدته في مدح السيدات اللاتي انشأن ( جمعية الطفل ) عام 1928 والتي يقول فيها :
أيها الطفل لا تخف عنت الدهر ولا تخشى عاديات الليالي
قبض الله للضعيف نفوسا تعشق البر من ذوات الحجال
أي ذوات الجمال عشتن للبرود متن قدوة للرجال
وحافظ فوق هذا تحدث عن اللغة العربية حين انتشرت الدعوة العامية ونبه إلى أنها تتسع للعلوم الحديثة المختلفة , لا كما يتهمها أعداؤها فيبدو في موضوعه هذا اجتماعيا وقوميا في أن واحد يقول في بعض أبياتها على لسانها :
رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجوع لقول عداتي
وسعت كتاب الله لفظا وغاية وما ضقت عن أي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
أيطربكم من جانب الغرب ناعب ينادي بوادي في ربيع حياتي
ومما يزيد في قيمة هذه القصيدة من الناحية الوطنية والقومية فضلا عن الاجتماعية إشارة حافظ إلى انصراف أبناء العربية عنها إلى اللهجات العامية التي تسربت إليها كلمات أجنبية رقعت بها :
أيهجرني قومي – عفا الله عنهم إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى لعاب الأفاعي في مسبل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات
وكثيرا ما كان حافظ يوجه شعره إلى الشباب , وينعي عليه انصرافه عن جد الحياة إلى لهوها , وتسكعه في الشوارع وازدحامه في المقاهي , وقد أشار إلى هذه النواحي بعض الباحثين إلا أننا لا نعثر في ديوانه على شيء من هذا , اللهم إلا في ثنايا بعض القصائد الأخرى كما في قصيدته ( سورية ومصر ) التي ضرب فيها المثل في الجد والطموح بشباب الشام الذين ضربوا في الأرض وهاجروا , وزادوا المناهل سعيا وراء الكسب واغلب الظن أن باقي القصائد المشابهة لهذه ضاعت فيما ضاع من شعر حافظ الذي كان يضن به على الصحف والمجلات , إما لعدم رضاه عنه وإما لأنه كان يكتفي بإنشاده في مجالس الأصدقاء ونوادي الأدباء .
شعره في الرثاء :
آخر غرض شعري أجاد فيه حافظ إجادة واضحة تفوق على أقرانه من شعراء العصر هو الرثاء , وإن لم يجدد فيه تجديدا واسعا وقد اعترف له قرينه شوقي بهذا حين رثاه , إذ توفي قبله بما يقارب من ثلاثة أشهر , فقال في مطلع قصيدته في رثائه :
قد كنت أؤثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء
وقد تنكون عنايته بهذا الغرض ونجاحه فيه أثرا من أثار خوفه من الموت حتى لقد نعى نفسه إذ كان يتألم من الشيخوخة ويتوهم المرض , فكان موت أحد أصدقائه أو معارفه نذيرا لموته ويؤلف قسم الرثاء أكثر من نصف الجزء الثاني من ديوانه , وقد رثى رجالات عصره السياسيين منهم والأدباء والشعراء والمصلحين الذين كان يخالطهم ومنهم الزعيمان مصطفى كامل وسعد زغلول ومنهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده , ومنهم الشاعران محمود سامي البارودي وإسماعيل صبري , والمصلح الاجتماعي قاسم أمين , ومنهم بعض رجال الصحافة مثل علي يوسف صاحب جريدة المؤيد , ومحمد أبي شادي صاحب جريدة الظاهر , وأمين الرافعي صاحب جريدة الأخبار ويعقوب صروف صاحب المقتطف ومحمد المويلحي مؤلف كتاب حديث عيسى بن هشام , ورثى من الأدباء جرجي زيدان منشئ مجلة الهلال , وصاحب الروايات التاريخية الأدبية , وباحثة البادية ملك حنفي ناصيف , فضلى الكاتبات الباحثات صاحبة كتاب النسائيات , وغير هؤلاء من أصدقائه أو مشاهير عصره .
وكان رثاؤه في مطلع شبابه تقليديا ً ضعيف العاطفة كثير المبالغة في تعداد مآثر الميت ولكنه أضحى حينما نضجت شاعريته واستوى فنه صادق العاطفة مرهف الإحساس وثيق الصلة بنفسه طافحا بالوفاء والإخلاص وقد علل د. طه حسين إجادته لهذا الغرض وبراعته فيه بكون نفسه تمتاز بصفتين خاصتين أولاهما قوة الحمر وصفاء الطبع واعتدال المزاج , وثانيهما النفس الرضية الوفية التي لا تستبقي من صلاتها بالناس إلا الخبر , ولا تحتفظ إلا بالمعروف ولا ترى إلا الإحسان والبر جزاء يعدل الإشادة به والثناء عليه .. وسواء كان رثاؤه تقليديا كثير المبالغة أم من النوع الثاني الصادق العاطفة فقد كان حسن النظم جيد المعاني والصور وإن كان النوع الأول لا يستطيع أن يهز القلوب والمشاعر ولنضرب مثلا على اللون الأول رثاء لأحد رجال الأباظية ( سليمان أباظة ) يحاكي فيه المعري بقصيدته ( غير مجد في ملتي واعتقادي ) فيقول :
أيهذا الثرى الأم التمادي بعد هذا أأنت غرثان صادي
أنت تروي من مدمع كل يوم وتغذي من هذه الآجاد
قد جعلت الأنام زادك في الدهر وقد إذن الورف بالنفاد
لست ادعوك بالتراب ولكن بقدود الملاح والاجياد
ففي هذه الأبيات – كما رأينا – يبدو تأثره بالمعري لا في الوزن والقافية وحسب بل في بعض المعاني الفلسفية الخاصة بالموت وإن لم يبلغ شأوه .
ولكنه في اللون الثاني من رثائه تبدو إجادته واضحة ولا سيما لأنه استطاع أن ينقل الرثاء من مسالة فردية إلى مسالة اجتماعية فموت الشيخ محمد عبده نكبة على مصر وعلى العالم الإسلامي , وموت مصطفى كامل كارثة على مصر وعلى الوطنية , يقول في رثاء الإمام محمد عبده :
سلام على الإسلام بعد محمد سلام على أيامه النضرات
على الدين والدنيا على العلم والحجا على البر والتقوى على الحسنات
لقد كنت أخشى عادي الموت قبله فأصبحت أخشى أن تطول حياتي
تباركت هذا الدين دين محمد أيترك في الدنيا بغير حماة
تباركت هذا عالم الشرق قد قضى ولانت قناة الدين للغمزات
ثم يستعرض سيرة حياة الإمام ووقوفه في وجه أعداء الدين ويجعل فقده كارثة على العالم الإسلامي كله فيقول :
بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة وضاقت عيون الكون بالعبرات
ففي الهند محزون وفي الصين جازع وفي مصر باك دائم الحسرات
وفي الشام وفي الفرس نادب وفي تونس ما شئت من زفرات
بكى عالم الإسلام عالم عصره سراج الدياجي هادم الشبهات
إلى آخر القصيدة التي تزدحم فيها المعاني الفردية والاجتماعية والعاطفة الذاتية الصادقة التي تنم عن حبه وإكباره لهذه الشخصية أضف إلى هذا رصانة الألفاظ على الرغم من مألوف المعاني , وبعدها عن الإبداع والابتكار .
ولعل حافظا كان أطول نفسا في رثائه حين رثى ( سعد زغلول , زعيم ثورة مصر عام 1919 ضد الانجليز فقد بلغت قصيدته فيه تسعين بيتا كان رثاؤه فيها رثاء الوفي لعهده الباكي المتأثر لفقده , وهو يبدؤها بتصوير وقع النبأ في نفوس الناس فيقول :
إيه يا ليل هل شهدت المصابا كيف ينصب في النفوس انصبابا انه مقطع عالي النبرة مجلجل الألفاظ يسترعي الانتباه ثم يستمر في تصوير كسوف النيرات بموته وإظلام الكون من بعده ويستعير بعض عبارات القدماء في الرثاء , ليفرغها على سعد , فهو شهاب أنور وكوكب اسطع ومهند أمضى إلى غير هذه العبارات التقليدية ولكنه ينتزع إعجابنا حين يبتكر بعض المعاني الجديدة فيقول :
خرجت امة تشيع نعشا قد حوى امة وبحرا عبابا
حملوه على المدافع لما اعجز الهام حملة الرقايا
حال لون الأصيل والدمع يجري شفقا ً سائلا ً وصبحا مذابا
وسها النيل عن سراه ذهولا حين ألفى الجموع تبكي انتحابا
ظن يا سعد أن يرى مهرجانا فرأى مأتما وحشدا عجابا
ثم يدع جانبا من حياة هذا العظيم النضالية , ولا من مواقفه البطولية إلا ويفصل الكلام فيه , ويطمئنه إلى أن الشعب سيسير على هديه وسيتابع نضاله من بعده .
وهكذا يتضح أن شعره في الرثاء مرآة صادقة لقلبه تجاه المرئي كما هو مرآة صادقة تنعكس عليها الأم الشعب تجاهه لأنه يتكلم من المرثيين ولا سيما العظماء والصالحين بلسان شعبه ويعرب عن عاطفته لذلك يترك رثاؤه أثرا بالغا في نفوس القراء فضلا عن أن مراثيه سجل الأحداث عصره الاجتماعية والتاريخية في مصر خاصة والعالمين العربي و الإسلامي عامة .
نود بعد ما تقدم أن نعرف ما منزلة حافظ في الشعر ؟ وما الذي امتاز به عن غيره من البناة ؟
يمتاز حافز بقوة العاطفة ولا سيما الوطنية والاجتماعية كما رأينا كما يمتاز بحسن السبك والصياغة بالإضافة إلى جمال الرنة الموسيقية ولكنه وصم بضعف الخيال , وقلة الحظ من التصوير والابتكار .
أما قوة العاطفة فقد لاحظناها فيما نظمه من موضوعات وطنية واجتماعية كما اتضحت لنا بجلاء في رثائه وأما متانة السبك والصياغة فقد عرف عنه انه كان " يعمد إلى الأساليب يتصفحها ليوائم بين المعنى واللفظ والأسلوب , وقد بالغ في ذلك حتى كان جهده في اختيار الألفاظ والأساليب يفوق جهده في ابتكار المعاني , كما يقول احمد أمين .
وأما جمال الموسيقى فواضح في شعره كذلك إذ كان – كما قيل عنه – ينظم البيت فيردد على أذنه ليوائم فيه بين موسيقى اللفظ وموسيقى الأسلوب وموسيقى الوزن وموسيقى القافية حتى إذا ارتاحت له أذنه عرضه على أذان الناس .
روى الدكتور طه حسين انه سأل حافظا ذات يوم : كيف يتصور القبر جاثيا حين قال في رثاء مصطفى كامل :
أيا قبر هذا الصيف آمال امة فكبر وهلل والق ضيفك جاثيا
فأجابه : " دعني من نقدك وتحليلك ولكن حدثني : أليس يحسن وقع هذا البيت في أذنك ؟ أليس في نفسك الحزن ؟ أليس يصور من جلال ؟ قلت بلى ولكن . . وقال : دعني من لكن واكتف مثلي بهذا " .
من هذا كله يبدو لنا أن قيمة شعره تأتي من عنايته بهذه العناصر الثلاثة السابقة , على الرغم من ضعف خياله التصويري , فهو يعدينا بعاطفته ويهزنا بأسلوبه وموسيقاه مع بساطة في التعبير وسهولة المعاني , وهذا ما سماه الدكتور طه حسين بالعبقرية الشعرية الشخصية ولعل هذا ما حببه إلى الناس , إذ كان قريبا من نفوسهم بشخصه وبشعره , وقد كان د . طه حسين على حق حين قال في الموازنة بينه وبين شوقي : " إن الناس أعجبوا بشوقي وأحبوا حافظا ً ثم مات حافظ فحزنت عليه مصر والشرق حزن المحب ومات شوقي فحزنت عليه مصر والشرق حزن المعجب " .
ونحن مع د.طه حسين كذلك حين قال في معرض الموازنة بين شوقي وحافظ في مجال التجديد : " كان شوقي مجددا ً ملتوي التجديد وكان حافظ مقلدا صريح التقليد , ويمضي الزمن على حافظ وشوقي فإذا تقليد حافظ يستحيل – لا أقول إلى تجديد , بل أقول إلى نضوج غريب وقوة بارعة وشخصية تفرض نفسها على الأدب فرضا ً وإذا تجديد شوقي يستحيل شيئا فشيئا إلى تقليد حتى إذا كانت أعوامه الأخيرة كانت قصائده كلها تقليدا ظاهرا لقدماء من الشعراء . . . يلتمس عندهم مثله الأعلى . " .
ولكن دور كل منهما في حركة الشعر واضح فكلاهما قد غذى قلب الشرق العربي نصف قرن أو ما يقرب من نصف قرن بأحسن غذاء وكلا الشاعرين قد أحيا الشعر العربي , ورد إليه نشاطه ونضرته ورواؤه وكلا الشاعرين قد مهد أحسن تمهيد للنهضة الشعرية المقبلة . لكن شوقي لم يبلغ ما بلغ حافظ من الرثاء ولم يحسن ما أحسن حافظ من تصوير نفس الشعب وآلامه وآماله , ولم يبلغ شوقي من هذا ما بلغ حافظ وهو بعد هذا أخصب من حافظ طبيعة وأغنى منه مادة وأنفذ منه بصيرة , واسبق منه إلى المعاني , وابرع منه في تقليد الشعراء المتقدمين لأن حافظا كان يقلد في الألفاظ والصور وشوقي كان يقلد فيها وفي المعاني أيضا ً " .
احمد شوقي / حديث
هو أمير الشعراء واحد بناة الشعر بعد البارودي كان في مقدمة المجددين وتجلى هذا فيما أبدعه في ارخيات حياته من مسرحيات شعرية ولا بد قبل الكلام على هذه الناحية من الإلمام بحياته التي تلقى الضوء على شعره وفنه .
ولتيسير الاطلاع على حياته يمكن أن نقسمها إلى مراحل ثلاث :
الأولى : من مولده حتى نفيه أي من 1868 – 1915 م .
الثانية : حياته في المفنى حتى عودته عام 1919
الثالثة : حياته بعد عودته من المنفى وحتى وفاته عام 1932 م .
المرحلة الأولى : ولد احمد شوقي في القاهرة عام 1868 م وقيل 1969 م في بيت تعاونت على تكوينه عناصر متعددة من الجنسيات فقد كان جده لأبيه كرديا اسمه احمد شوقي وهو الذي سمي شاعرنا باسمه وكان قد قدم إلى مصر أيام محمد علي , فضمه إلى حاشيته وكان يجيد اللغتين العربية والتركية , وقد تزوج فتاة شركسية ومن هنا اتصل نسب شوقي بالعنصرين الكردي والشركسي وقد ترقى هذا الجد في الوظيفة حتى أصبح أمينا للجمارك المصرية في عهد سعيد باشا , وجمع ثروة واسعة بددها ولده علي – أبو شوقي – وابنه شاعرنا فيما بعد .
أما جده لامه فقد كان تركيا جاء هو أيضا إلى مصر ولكن أيام إبراهيم باشا وأعجب به هذا فقربه منه وزوجه معتوقة يونانية كانت قد نشأت في القصر وما زال هذا الجد يترقى أيضا حتى أصبح وكيلا للخديوي إسماعيل ولما توفي أمر الخديوي بأن يؤول مرتبه إلى أرملته .
من هنا نرى أن شوقي تعاورت على تكوينه عناصر شيء من الدماء لذلك يقول حين ترجم لنفسه في مقدمة ديوانه الذي طبع لأول مرة : انه عربي تركي يوناني , كردي شركسي , ويبدو انه نشأ في بيئة ارستقراطية موسرة إذ كانت جدته لامه إحدى وصيفات القصر – كما قلنا – فأخذته من المهد وكفلته وكانت محبة له تحنو عليه .
حدثته أنها دخلت به مرة على الخديوي إسماعيل – وكان في الثالثة من عمره – وشكت إليه أن بصره لا يتحول عن السماء من اختلال أعصابه فطلب الخديوي بدرة من الذهب ونثرها على البساط عند قدميه فوقعت عيناه على الذهب فاشتغل بجمعه واللعب به فقال الخديوي لجدته : اصنعي معه مثل هذا فانه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض فقالت له قولها المشهور : ( هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي ) , فأجابها : جيئي به إلي متى شئت إني آخر من ينثر الذهب في مصر .
هكذا نشا الصبي في حضن جدته لامه في قصر إسماعيل وقد اعترف بهذا الجميل وظل وفيا لهذا الخديوي , لذلك نراه يقول فيما بعد :
أأخون إسماعيل في أبنائه ولقد ولدت بباب اسماعيلا
أما دراسته فقد بدأها بالكتاب شأنه شأن كل أطفال ذلك العصر فدخل مكتب الشيخ ( صالح ) وهو في الرابعة من عمره ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية ( المبتديان ) فالتجهيزية وكان في الخامسة عشرة , حين بدت عليه مخايل النبوغ والتفوق , وتحركت موهبته الشعرية فنظم آنذاك بعض المعارف الجيولوجية والجغرافية ثم تخرج فيها عام 1885 م .
في هذه الفترة تلقى العربية على يد حسين المرصفي – أحد علماء الأزهر وصاحب كتاب الوسيلة الأدبية – فكان لهذا الأستاذ وكتابه اثر بعيد في رياضة الخيال عند شوقي , إذ استفاد منه في الاطلاع على شعر البارودي الذي تعلم منه أمرين :
1- محاكاة شعر الأقدمين ومعارضتهم .
2- أن الأسلوب العربي الجيد الذي غاب عن الأدب العربي خلال عصور الانحطاط وأوائل عصر النهضة , يمكن أن يبعث حيا على لسان أهل العصر .
ثم رأى له أبوه أن يلحقه بمدرسة الحقوق والترجمة حيث لبث سنتين فيها ونال شهادتها في الترجمة وقد وصفه أحد طلابها الذين كانوا معه وهو احمد زكي , فقال عنه : " كان في جملة الوافدين عام 1885 م فتى نحيل هزيل ضئيل قصير القامة وسيم الطلعة تقريبا فتى بعيون متألقة تحقيقا ً , ولكنها متنقلة كثيرا ً فإذا نظر إلى الأرض دقيقة واحدة فللسماء منه دقائق متمادية وإذا تلفت صوب اليمين فما ذاك إلا لكي يومي ببصره نحو الشمال , وهو مع هذه الحركات المتتابعة المتنافرة هادئ ساكن وادع , كأنما يتحدث بنفسه إلى نفسه ,أو يتلاغى مع عالم الأرواح ما كان يلابسنا فيما نأخذ فيه من اللهو والمزاح ولا يتهافت معنا على تلقف الكرة بعد الفراغ من تناولا لغذاء , أو حينما نتنفس الصعداء لانتهاء مواقيت الدراسة " .
وهذا النص يدل على تحليق شاعرنا في السماء وبعده عن زملائه لانشغاله بعرائس الشعر وخيالات النظم وقد بدأت أعنة الفن تسلس له قيادها اثر تعرفه في هذه الدراسة على أستاذه محمد البسيوني البيباني , وكان هذا يجيد النظم فيرسل القصائد في مدح الخديوي توفيق في المناسبات المختلفة فلما انس من تلميذه شوقي الموهبة الشعرية كان يعرض عليه قصائد قبل أن يرسلها إلى القصر لتنتشر بعد ذلك في ( الوقائع المصرية ) أو غيرها من الصحف فكان شوقي ببراءة التلميذ النجيب – يصلح فيها كلمة أو يمحو ويعدل ويسقط بعض الأبيات , وأستاذه مغتبط به اشد الاغتباط , ثم اخذ يثني عليه أمام الخديوي فصار شوقي ينظم في مدحه بعض القصائد بين الحين والآخر وظل كذلك حتى تخرج فيها عام 1887 م من قسم الترجمة بعد أن أتقن الفرنسية إلى جانب العربية فضلا عن التركية التي كان قد ثقفها في البيت وهكذا تضافرت هذه اللغات الثلاث في تكوينه الثقافي .
كانت قصائده في المدح قد سبقته إلى القصر – كما ذكرنا – فما لبث أن عينه في معيته , كما عين أباه مفتشا في الخاصة الخديوية , بعد أن عطل من الخدمة , وبعد بضعة أشهر أوفده إلى فرنسا لدراسة الحقوق , وأشار عليه أن يجمع بينها وبين الآداب الفرنسية .
وهكذا سافر شاعرنا إلى فرنسا للدراسة فركب البحر إلى مرسيليا ومنها إلى مونبيلييه على أن يقضي فيها سنتين ثم ينتقل إلى باريس ويقضي فيها عامين آخرين , وفي أثناء دراسته كان يتجول في بعض المدن الفرنسية ويستمتع بمناظرها الرائعة ومجالسها الشائقة , كما زار لندن ورحل إلى الجزائر اثر مرض شديد أصيب به فنصحه الأطباء بقضاء فترة تحت سماء افريقية , فمكث أربعين يوما وكان في هذه الفترة ناعم البال – كما قال سعيد الحال .
وقد أفاد أثناء إقامته في باريس من الاطلاع على الأدب الفرنسي كما كان أوصاه الخديوي فكان دائم القراءة لأدبائها وشعرائها ولا سيما هوغو ولافونتين ولامارتين ودوموسيه , وهذا الخير نقل بعضا من شعره ونثره إلى العربية ولا سيما كتابه ( اعترافات فتى العصر ) .
وشغف كذلك بالمسرح الفرنسي , فكان يتردد عليه ويحضر عروضه التي كان بعضها مسرحيات لكورني وراسين حتى تمكن فيما بعد من نظم مسرحياته الشعرية التي تعد تجديد كبير في ميدان الشعر العربي إذ لم يسبقه أحد إليها وقد بدأها وهو في باريس بمسرحية ( علي بك الكبير أو ما هي دولة المماليك ) .
وحين أتم دراسته ونال شهادته رأى الخديوي أن يقضي في باريس ستة أشهر فيها ليتمكن من معرفة أهلها وزيادة خبرته بها ثم عاد إلى القاهرة عام 1892 م فعين في الخارجية ( القسم الإفرنجي في القصر ) وظل ينطق بلسان الخديوي الذي انعم عليه بلقب ( شاعر الأمير ) وقد عاش هذه الفترة هانئا ً في حياته رخيا في عيشه وكان منزله الذي سماه كرمة ابن هانئ , ملتقى الأدباء والشعراء وتزوج ثرية كانت له مثال الزوجة الصالحة ورزق منها ابنه ( علي وحسين ) وابنته ( أمينة ) لكنه بدا – في هذه المرحلة – فقير التجارب الإنسانية والوطنية والاجتماعية يدلنا على هذا انه وقف شعره على القصر ومدائح الخديوي , وفي عام 1894 ندب لتمثيل حكومته في مؤتمر المستشرقين الذي عقد في جنيف عاصمة سويسرا فمكث هناك شهرا ً وانشد في المؤتمر قصيدته المطولة التي عنوانها : كبار الحوادث في وادي النيل ) ومطلعها :
همت الفلك واحتواها الماء وحداها بمن تقل الرجاء
ويدلنا على فقر تجاربه موقفه من حريق ( ميت غمر ) ومن حادثة دنشواي اللتين لم يقل فيهما شعرا يدل على تأثره لما حل بهما بل بدا – كما قال عنه أحد الدارسين – كالطفل المدلل الذي يقف في شرفة بيته ليطل على ما يجري من بعيد , وهو يتسلى بقطعة من الحلوى , يقول في قصيدته الأولى ( حريق بيت غمر ) :
الله يحكم في المدائن والقرى يا ميت غمر خذي الفضاء كما جرى
ما جل خطب ثم قيس بغيره إلا وهونه القياس وصغرا
هذي طلولك أنفسا وحجارة هل كنت ركنا من جهنم مسعرا
مازلت اسمع بالشقاء رواية حتى رأيت بك الشقاء مصورا
وعلى هذا النحو يصف القرية المحترقة وصفا ظاهرا باردا لا يحرك عاطفة ولا يهز شعورا ً .
ويقول في حادثة دانشواي بعد عام من حدوثها :
يا دنشواي على رباك سلام ذهبت بأنس ربوعك الأيام
شهداء حكمك في البلاد تفرقوا هيهات للشمل الشتيت نظام
مرت عليهم في اللحود أهلة ومضى عليهم في القيود العام
كيف الأرامل فيك بعد رجالها وبأي حال أصبح الأيتام
وهو هنا أيضا لا يبدو متأثرا لما حل بهذه القرية وكأن الأمر لا يعنيه , أو كأنما وقعت الحادثة في منطقة غير وطنه .
وهكذا ظل شوقي في هذه الفترة يعيش للخديوي فيرضى عمن وعما يرضيه أو يغضب لما يغضبه , يدلنا على هذا موقفه من بعض الشخصيات مثل اللورد كرومر واحمد عرابي , فحين كان كرومر معتمدا لانجلترا في مصر وكان الخديوي راضيا عنه أول الأمر ثم حدثت بينهما بعض المواقف التي أدت إلى المشاحنات وسببت نقله من مصر , فأقيمت له حفلة وداع وخطب فيها منددا بإسماعيل وعصره وذم أهل مصر لأنهم لم يقدروا منن الانكليز عندما حدث هذا ثار شوقي للخديوي وأسرته فألقى قصيدة حماسية قال فيها لكرومر :
أيامكم أم عهد اسماعيلا أم أنت فرعون يسوس النيلا
أم حاكم في أرض مصر بأمره لا سائلا أبدا ولا مسئولا
لما رحلت عن البلاد تشهدت فكأنك الداء العياء رحيلا
هكذا يغضب للقصر – لا للشعب المشتوم كما في موقفه من الثورة العرابية التي كانت ضد القصر والانجليز معا فنراه يستقبل زعيمها ( عرابي بعد عودته من منفاه بقصيدة يقول في أولها :
صغار في الذهاب وفي الإياب أهذا كل شأنك يا عرابي
عفا عنك الأباعد والاداني فمن يعفو عن الوطن المصاب
والحق أن عرابي قام بالثورة ضد الاحتلال وكان زعيما مخلصا فلم يلحق به الصغار حين نفي ولا حين عاد من المنفى وتاريخ مصر اليوم قد أنصفه وشهد له بهذا , ولكنها نظرة القصر الساخطة , ولم يكتف شوقي بهذه القصيدة بل كان قد نشر قبلها قصيدة ملأها السخر والتهكم اللاذعين قال في بعض أبياتها :
أهلا وسهلا بحاميها وفاديها ومرحبا وسلاما يا عرابيها
وبالكرامة يا من راح يفضحها وقدم الخير يا من جاء يخزيها
وانزل على الطائر الميمون ساحتها واجلس على تلتها وانعق بواديها
وبض لها بيضة للنصر كافلة إن الدجاج عقيم في نواحيها
ولا ريب أن هاتين القصيدتين سوداوان في شعر شوقي , ويبدو انه أحسن بظلمه لهذا الزعيم وبخطل رأيه فيه وموقفه منه , لذلك لقد سقطت القصيدتان من الشوقيات التي نشرت للمرة الأولى في حياته ثم كشف النقاب عنها في الشوقيات المجهولة .
وحين قامت الحرب العالمية الأولى عام 1914 م كان عباس متغيبا عن البلاد في تركيا فأعلنت انجلترا الحماية على مصر , ومنعت الخديوي من العودة إليها وعينت السلطان ( حسين كامل ) مكانه وكانت أعين المستعمرين مفتوحة على شاعر الخديوي الذي يحبه ويكن له الوفاء وانتظر الناس منه الإعراب عن موقفه فطلع عليهم بقصيدة في السلطان حسين كامل تحدث فيها عن الانجليز مادحا فقال عنهم :
حلفاؤنا الأحرار إلا أنهم أرقى الشعوب عواطفا وميولا
وتحدث عن وفائه لإسماعيل فقال :
أأخون إسماعيل في أبنائه ولقد ولدت بباب إسماعيلا
وتبدو فيها نفسه المضطربة القلقة , فبينما يقول هذا في الخديوي إذا هو يحاول أن يرضي حسين كامل فيقول عن عهد الحكم قبله :
هل كان ذاك العهد إلا موقفا للسلطتين وللبلاد وبيلا
لكنه يضيف إلى هذا قوله مشيرا إلى أن الانجليز ما زالوا يبيتون الشر لمصر فيقول :
دفعت بنا فيه الحوادث وانقضت إلا بنتائج بعدها وذيولا
وانفض ملعبه وشاهده على أن الرواية لم تتم فصولا
وهكذا بدا هنا كأنه يصانع الانجليز والخديوي الذي يأمل عودته تارة ويحابي السلطان الجديد تارة أخرى , فكأنه يمسك بالعصا من وسطها ليترقب ما ستتجلى عنه الأحداث إلا أن الانجليز لما سمعوا هذه القصيدة خافوا أن ينظم قصيدة أخرى ذات نبرة اشد وأقوى فأمروا بنفيه عن مصر فاختار الأندلس .
المرحلة الثانية : شوقي في المنفى :
حل شوقي أول ما وصل اسبانيا في برشلونة وهي مدينة تقع شمال شرق اسبانيا على البحر المتوسط ثم انتقل إلى ضاحية جميلة من ضواحيها تدعى فلفيديرا , تحيط بها غابات الصنوبر ومشاهد الطبيعة الرائعة وترتفع عن سطح البحر ارتفاعا يمكن من التمتع به من بعيد , وعلى الرغم من هذا كله فقد بدا شاعرنا حزينا لفراق أصدقائه ووطنه وقد عبر عن حزنه هذا في سينيته التي صرح في مقدمتها انه عارض سينية البحتري في وصف إيوان كسرى , وقال معربا عن حنينه إلى وطنه :
اختلاف الليل والنهار ينسي اذكرا لي الصبا وأيام انسي
وسلا مصر هل سلا القلب عنها أو أسا جرحه الزمان المؤسي
أحرام على بلابلة الدوح حلال للطير من كل جنس
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه بالخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني شخصه ساعة ولم يخل حسي
وفي مقدمتها كذلك يشير إلى تجوله في مدن اسبانيا ولا سيما الأندلس – مهد الحضارة العربية – مثل قرطبة وغرناطة واشبيلية فقال : " فكنت كلما وقفت بحجر أو أطفت بأثر تمثلت بأبياتها / يعني أبيات قصيدة البحتري / وهكذا مضى يصف الأندلس ويتحدث عن دولها فيصور قصر الحمراء في غرناطة وساحة السباع فيقول :
مشت الحادثات في غرف الحمراء مشي النعي في دار عرس
لا ترى غير وافدين على التاريخ ساعين في خشوع ونكس
نقلوا الطرف في نضارة آس من نقوش وفي عصارة ورس
وقباب من لازور وتبر كالربى الشم بين ظل وشمس
وترى مجلس السباع خلاء مقفر القاع من ظباء وخنس
مرمر قامت الأسود عليه كلة الظفر لينات المجس
تنثر الماء في الحياض جمانا يتنزى على ترائب ملس

وأتيح لشاعرنا أثناء إقامته باسبانيا أن يتعمق في دراسة تاريخها وأبطالها وشعرائها وأعجب بابن زيدون خاصة فعارضه في قصيدته المشهورة ( أضحى التنائي بديلا من تدانينا ) التي يتغزل فيها بولادة , فنسج على غرارها قصيدة عبر فيها عن حنينه إلى مصر , ووصف كثيرا من مشاهدها ومعاهدها كما ناجى أحبابه ومنها قوله :
لكن مصر وإن أغضت على مقة عين من الخلد بالكافور تسقينا
على جوابنها رفت تماتمنا وحول حافاتها قامت رواقينا
ملاعب مرحت فيها مآربنا وأربع أنست فيها أمانينا
بنا فلم نخل من روح يراوحنا من بر مصر وريحان يغادينا
ثم قال فيها معبرا عن عجزه الرجوع إليها :
لو استطعنا لخفنا الجو صاعقة والبر نار وغى والبحر غسيلنا
سعيا إلى مصر نقضي حق ذاكرنا فيها إذا نسي الوافي وباكينا
وفي هذه الفترة بدا شاعرنا غنيا في عواطفه ومشاعره فقد ذاق الحرمان وصهرته الآلام وظل يترقب العودة حتى انتهت الحرب العالمية الأولى فسمح له بالعودة الى وطنه .
المرحلة الثالثة : بعد عودته من الأندلس حتى وفاته :
عاد شوقي من الأندلس فاستقبلته أفواج من الشعب في الإسكندرية حين علموا بقدومه وحملوه على الأكتاف , فكانت قصيدته البائية التي مطلعها :
أنادي الرسم لو ملك الجوابا واجزيه بدمعي لو أثابا
فاتحة شعره بعد عودته وقد أشاد فيها بذكر بلاد الأندلس شكرا لها على إيوائه فقال :
وداعا أرض أندلس وهذا ثنائي إن رضيت به ثوابا
تخذتك موئلا فحللت أندى ذرى من وائل واعز غابا
ثم التفت إلى وطنه فحياه ببضعة أبيات منها قوله :
ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا
وعلى الرغم مما واجهته هذه القصيدة من نقد وخاصة من عباس محمود العقاد وميخائيل نعيمة لكن قيمتها تتجلى في أنها أول قصيدة يتوجه فيها الشاعر إلى طبقات الشعب , إلى شباب النيل , لأنه نظمها لتنشد في اجتماع لجان التموين بالأوبرا الملكية عام 1920 م اثر الحرب العالمية الأولى , كما سنوضح فيما بعد .
ثم اخذ يتجه بعدها في الشعر نحو الشعب والوطن ولم يعد يفكر في القصر بل انطلق إلى آفاق أرحب فبدأ يشارك الأقطار العربية الأخرى مصائبها وآلامها فحين عاد كانت أرض مصر ما تزال ندية من دماء شبابها الذين قضوا في الثورة الوطنية – ثورة سعد زغلول عام 1919 م – لذلك نراه حين يموت هذا الزعيم عام 1927 يرثيه بقصيدة بليغة بعد ما كنا رأيناه ينصرف عن زعيم ثورة أخرى ( احمد عرابي ) بل يهجوه بقصيدتين سبق أن نوهنا بهما – عند عودته من المنفى وذلك كله إرضاء للخديوي الذي كان ينطق بلسانه , ولولا انه انطلق من أسار القصر واخذ ينعم بالحرية لما اتسعت نظراته ولما أحسن بأن العرب ذوو رحم واحدة حتى قال حين أقيمت حفلة تتويجه بإمارة الشعر عام 1927 م مخاطبا وفود العرب الذين حضروا إلى مصر لمبايعته :
قد قضى الله أن يؤلفنا الجرح وأن نلتقي على أشجانه
كما أن بالعراق جريح لمس الشرق جنبه في عمانه
وعلينا كما عليكم حديد تتنزى الليوث في قضبانه
نحن في الجرح بالديار سواء كلنا مشفق على أوطانه
وكان حافظ إبراهيم أول من بايعه حين انشده في قصيدته :
أمير القوافي قد أتيت مبايعا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
واعترض بعض الأدباء على هذه الإمارة لأن شوقي لم ينظم الشعر التمثيلي وكان قد بدأ بنظم مسرحية ( علي بك الكبير ) وهو نزيل باريس عام 1893 م فعكف على تنقيحها وإتمامها لكنه لم يصدرها إلا عام 1932 بل أصدر قبلها ( مصرع كليوباترا ) ومسرحيات أخرى سنعرض لها فيما بعد , استمد موضوعاتها من التاريخ المصري والتاريخ العربي والحياة العربية , وهكذا كان له الفضل في إقحام هذا الفن من الشعر الذي تابعه من بعده الشاعر المصري عزيز أباظة والشاعر السوري عدنان مردم ) .
وفي ليلة الرابع عشر من تشرين الأول عام 1932 انتهت حياة هذا الشاعر واسلم الروح إلى بارئها فرثاه كثير من الشعراء والكتاب العرب منهم الرصافي وبشارة الخوري وخليل مطران . وغيرهم .
شعره : قلنا أن شوقي أتقن اللغتين العربية والفرنسية بحكم تعلمه لها في الدراسة وفي فرنسا , إلى جانب التركية التي تلقاها في البيت فإذا أضفنا إلى هذا اضطلاعه العميق على كتاب الوسيلة الأدبية , للمرصفي , الذي ضمنه نماذج من الشعر القديم فضلا عن شعر البارودي عرفنا المكونات التي أسهمت في شعره وشاعريته فكما عكف البارودي على الشعراء القدماء , وخاصة العباسيين يعب من ينابيعهم كذلك فعل شوقي , إذ كان إعجابه بالغا بهؤلاء القدماء ولا سيما ( البحتري والمتنبي ) لهذا اخذ يعارضهما في بعض القصائد رغبة منه في احتذاء الصياغة القديمة وإحيائها وعارض كذلك البوصيري في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام في قصيدته البردة والهمزية , وقد رأينا مثالا لمعارضته البحتري في سينيته , وابن زيدون في نونيته , وتبدو هذه المعارضة واضحة كذلك في ميميته التي رثى بها والدته إذ عارض فيها المتنبي في رثاء جدته لامه فاستعار منه الوزن والقافية فقد قال المتنبي في مطلعها :
إلا أرى الأحداث مدحا ولا ذما فما بطشها جهلا ولا كفها حلما
أما مطلع قصيدة شوقي فهو :
إلى الله أشكو من عوادي النوى سهما أصاب سويداء الفؤاد وما اصمى
وكما ماتت جدة المتنبي – التي كانت بمثابة الأم بالحمى وهو غائب عنها كذلك ماتت أم شوقي محمومة حين كان منفيا في الأندلس ولعل هذا التشابه في الميتتين وظرفهما هو الذي دفع شوقي إلى معارضته المتنبي , ولو دققنا في كل من القصيدتين للاحظنا التشابه في بعض المعاني من ذلك قول شوقي :
إلى حيث إباء الفتى يذهب الفتى سبيل يدين العالمون به قدما ً
وهذا البيت يشبه بل يكاد يكون هو نفسه البيت الثاني من قصيدة المتنبي وهو :
إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى يعود كما أبدى ويكري كما أرمى
وكما قال المتنبي مخاطبا جدته :
لك الله من مفجوعة بحبيبها قتيلة شوق غير ملحقها وصما
قال شوقي يخاطب أمه :
لك الله من مطعونة بقنا النوى شهيدة حرب لم تقارف لها إثما
ولكن سائر الأبيات يختلف في كل من القصيدتين .
ثم استطاع شوقي بعد معارضته الأقدمين أن يكون لنفسه أسلوبا يعبر عن ذاته وما يجول فيها من أفكار , وعن عصره وما يدور فيه من أحداث وهو في هذا الأسلوب يشبه أستاذه البارودي الذي لم يتخل عن القديم , بل جعله منطلقا للتجديد كما يشبهه في جزالة الألفاظ ورصانة الأسلوب , ومتانة الصياغة وأن كان شعره : " أكثر سلاسة من شعر أستاذه وموسيقاه أكثر صفاء وعذوبة من موسيقى البارودي , وخاصة من حيث الصوت وما يتصل به من أنغام والحان ولعل ذلك ما جعل شعره أطوع للغناء من شعر صاحبيه البارودي و حافظ معا . فقد أكثر المغنون في عصرنا من تلحين شعره وتوقيعه .
وقد نظم شاعرنا في أغراض عديدة متنوعة منها المدح والفخر والمناسبات السياسية والاجتماعية والوصف والحكمة والغزل ثم المسرحيات وقصص الأطفال .
أما قصائده التي نلمح فيها التجديد فأولها قصيدته الهمزية ( كبار الحوادث في وادي النيل) صاغ فيها تاريخ وادي النيل من عهد الفراعنة إلى زمن محمد علي وألقاها – كم ا نوهنا سابقا – في مؤتمر المستشرقين في جنيف عام 1894 م ومطلعها :
همت الفلك واحتواها الماء وحداها بمن تقل الرجاء
وبلغ عدد أبياتها 264 , بيت ’ فالقصيدة في مقدمة مطولاته حتى لقد أطلق عليها اسم ( ملحمة ) وأن كانت لا تتسم بمقوماتها المعروفة ويأتي التجديد فيها أولا من انه عدل عن المديح الذي اعتاد أن يوجهه إلى الخديوي واتجه نحو الكلام على تاريخ مصر وقد سار على هذا المنوال في نظم تاريخ مصر وآثارها في قصائد أخرى مثل ( انس الوجود – على سفح الأهرام – أبو الهول – توت عنخ آمون ) وغيرها فخلع عليها ثوب البقاء والخلود وربما كانت هذه القصائد صدى لاطلاعه على الأدب الفرنسي وعلى تأثره خاصة بفيكتور هوغو في ديوانه ( أساطير القرون ) التي تغنى فيها وغيره من شعراء فرنسا بالأطلال اليونانية والرومانية لكننا نعجب مع د . شوقي ضيف , أن يكون شوقي في باريس في أثناء الحركة الرمزية وغيرها من المذاهب الحديثة كالبرناسية والواقعية والفنية وحين كان يعيش ( فرلين وبودليير ومالارميه ) ولا يكون لأشعارهم أي ظل في فنه وقصيده , وكأنه لم يهتم مطلقا بالتجديد الذي كان يخوض فيه شعراء فرنسا في أثناء وجودهم بين ظهرانيهم وتخوض فيه مجلاتهم وصحفهم .
ولعل تجديده يبدو واضحا فيما عرضنا له في المرحلة الثالثة من حياته اثر عودته من منفاه في الأندلس إذ اتجه نحو الشعب المصري والأقطار العربية الأخرى , فهو في قصيدته البائية ( بعد المنفى ) التي كانت أول قصيدة له نظمها بعد عودته من الأندلس يتوجه بخطابه إلى الشباب – بعد أن يشكرهم على استقبالهم له – فيقول :
شباب النيل إن لكم لصوتا ملبى حين يرفع مستجابا
فهزوا العرش بالدعوات حتى يخفف عن كنانته العذابا
ثم ينهي قصيدته بالكلام على موقف التجار المستغلين من الفقراء المساكين :
فيدعو ربه أن يرقق قلوبهم ويهديهم إلى البر والإحسان والمدقق في هذه القصيدة يرى أن شوقي بدا خافت الصوت لا يحسن الإعراب بقوة ووضوح عن كل ما يريد أن يقوله , فماذا يقصد في البيتين السابقين بالصوت الملبى المستجاب حين يرفع ؟ اهو صوت الشعب إلى الخالق أم إلى الخديوي وكيف يرفع ؟ وماذا يقصد بقوله ( فهزوا العرش بالدعوات ؟ ما المقصود بالعرش هنا ؟ اهو عرش السلطة الحاكمة أم عرش الرحمن ؟ وكيف يهزونه ؟ لقد بقي المعنى المقصود هنا خفيا غامضا موارى خلف عبارات خافتة , وأن كانت في ألفاظها صريحة واضحة , ومع هذا فإن القصيدة قيمتها عالية – كما قلنا – لأنها كانت أول انعطاف غير الشاعر فيه اتجاهه .
أما شعره القومي الذي دفعه إلى مشاركة بعض الأقطار العربية مصائبها وآلامها , فيتجلى في قصائد عديدة , منها قصيدة ( نكبة بيروت ) التي نظمها حين ضرب الأسطول الايطالي هذه المدينة كما يتجلى في رثائه لبطل طرابلس وزعيمها الوطني عمر المختار الذي أعدمه الايطاليون كما يتجلى في ذكرى استقلال سورية وذكرى شهدائها , لكن مشاركته القومية تبدو أوضح ما تكون في قصيدته نكبة دمشق التي ألقاها في حفل أقيم في القاهرة عام 1926 م لإعانة منكوبي سورية حين قامت بالثورة ضد المستعمر الفرنسي والتي مطلعها :
سلام من صبا بردى ارق ودمعه لا يكفكف يا دمشق
وما كان أحد أن يتصور أن شوقي الذي كان يعيش في برجه العاجي ينطق بمثل قوله :
وللمستعمرين وإن ألانوا قلوب كالحجارة لا ترتق
وفي حديثه عن الروابط التي تجمع أبناء العربية :
وتجمعنا إذا اختلفت بلاد بيان غير مختلف ونطق





* أمير الشعراء

ولد أحمد شوقي بن علي بن أحمد في القاهرة 1868م (1285هـ) وتوفي بها في 4/10/1932م (1351هـ). أبوه كرديٌّ، وأمه تركية، وجدته لأبيه شركسية، وجدته لأمه يونانية، وكانت تعمل في قصر الخديوي إسماعيل.
درس أحمد شوقي الحقوق والترجمة، وضمه الخديوي توفيق إلى معيته وأرسله إلى فرنسا عام 1887 ليدرس بها على نفقته، فدرس الحقوق والآداب عامين في جامعة مونبلييه، وعامين في باريس، عاد بعدها إلى مصر ليعمل في معية الخديوي توفيق.
تدرج في مناصب القلم الإفرنجي (الترجمة) وصار رئيسا له، ومثَّل مصر عام 1896 في مؤتمر المستشرقين بجنيف.
نُفي إلى برشلونة بأسبانيا بعد أن خلعت إنجلترا الخديوي عباس الثاني لاتصاله بالدولة العثمانية، وظلَّ هناك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى (1915 ـ 1919) ثم عاد إلى مصر وتقطَّعتْ صلاته بالقصر، فقام سعد زغلول باشا بترشيحه لمجلس الشيوخ عن سيناء، وظلَّ في هذا المنصب حتى وفاته.
بويع لإمارة الشعر عام 1927 بمناسبة سوق عكاظ الثالث أو المهرجان العربي الثالث، فأقيم له مهرجان كبير في دار الأوبرا المصرية، تكريما له برعاية الملك فؤاد، ومشاركة نخبة من رجالات العرب.
دعا في مقدمة الشوقيات المنشورة عام 1898 الشعراء العرب لكتابة شعر للأطفال، فقال: "جربت خاطري في نظم الحكايات على أسلوب لافونتين الشهيرة. وفي هذه المجموعة شئٌ من ذلك، فكنتُ إذا فرغت من وضع (أسطورتين) أو ثلاث اجتمع بأحداث المصريين، واقرأ عليهم شيئا منها فيفهمونه لأول وهلة، ويأنسون إليه ويضحكون من الكثرة. وأنا استبشر لذلك وأتمنى لو وفقني الله لأجعل للأطفال المصريين مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المستحدثة منظومات قريبة التناول، يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم. والخلاصة أنني كنت ولا أزال ألوي في الشعر عن كل مطلب، وأذهب من فضائه الواسع في كل مذهب. وهنا لا يسعني إلا الثناء على صديقي خليل مطران صاحب المنن على الأدب، والمؤلف بين أسلوب الإفرنج في نظم الشعر وبين نهج العرب. والمأمول أننا نتعاون على إيجاد شعر للأطفال والنساء، وأن يساعدنا الأدباء والشعراء على إدراك هذه الأمنية".

* لم يستجب أحد من الشعراء لدعوة شوقي

يعلق هادي نعمان الهيتي على تلك العبارة بقوله: "يبدو أن أحدًا من الشعراء لم يستجب آنذاك لدعوة شوقي، بمن فيهم خليل مطران نفسه .. كما أن شوقي عزف فيما بعد عن الاستمرار في هذا الاتجاه".
ولكن هيفاء شرايحة تقول: "كان شوقي يتحرق دائما لأجل كتابة قصة يستمتع بها الأطفال، ويتعلمون منها الأخلاق ويستخلصون الحكمة".
ويرى الهيتي أن الشاعر أحمد شوقي يقف في مقدمة الذين حاولوا تقديم شعر إلى الأطفال، إضافة إلى كونه من أوائل من دعا إلى العناية بأدب الأطفال، فقدَّم نحو عشر مقطوعات شعرية، ونحو ثلاثين قصة شعرية على ألسنة الحيوانات، محاكيا في ذلك الشاعر الفرنسي لافونتين (1620ـ 1696).
ويضيف الهيتي قائلا: "ومن يتفحَّص مقطوعات شوقي وقصصه الشعرية، يجد أن بعضها ذات سمات رمزية يصعب على الأطفال فهمها، يضاف إلى أنها في مجملها ذات ألفاظ لا يتسع لها قاموس الطفل اللغوي، كما لا يتسع لها قاموسه الإدراكي".
أما نجيب الكيلاني فيقول: "يعد أمير الشعراء أحمد شوقي رائدا في مجال شعر الأطفال، لما كتبه لهم خصيصا من قصص شعري على لسان الحيوان، حيث امتزجت فيه الحكمة بالفكاهة، والعبرة بالتوجيه، وإبراز بعض القيم السلوكية ذات العلاقة بالدين والوطن. وقد ظهرت هذه القصائد في دواوينه، وعمم بعضها على طلبة المدارس، فكانت فتحا جديدا في هذا الباب، وذلك لمحافظتها على الأسلوب الشعري الأصيل، والأفكار المبسطة، والصياغة الفنية الجيدة. وكان تحرك شوقي في هذا المضمار بناءً على ما شاهده في فرنسا ـ إبان بعثته ـ من احتفائهم بأدب الأطفال، وطبقا لما قرأه للشاعر الفرنسي الشهير "لامرتين" الذي استفاد من قصص "كليلة ودمنة" واختار بعضها، وأعاد صياغتها وإبرازها بأسلوب شعري أخَّاذ، يناسب الأطفال ... ويكفي شوقي فخرا ريادته في هذا المجال ودعوته لشعراء ا لعربية إلى المساهمة في تدعيم وتكرار تجربته وتنويعها".

* استطاع شوقي أن يعبر عن أحلام الطفولة

وفي رأي د. عبد الرءوف أبو السعد، فإن أحمد شوقي استطاع أن يعبِّرَ عن أحلام الطفولة، وأن يقدم غذاءً صحيًّا لشخصية الطفل التي تنمو خلال مراحلها بخصوصياتها النفسية والإدراكية والجسمانية، وأن يحقق لعالم الطفولة ما نادى به المتخصصون في ميدان دراستها، فقدم (أدباً) يحتوي على لغة قادرة على حمل الرسالة الإنسانية نحو الأطفال، كما احتوى على ألوان من القصص المتنوع بين الرمزية والتاريخية والاجتماعية، وحفل بالمادة الفنية والجمالية والتعبيرية المناسبة، وقدم المعلومات والخبرات التي تكسب الطفل بُعدًا إيجابيًّا في إطار تكوين شخصيته وجمع بين الفن الموجه، الأدب الموظف والأدب الجميل الذي يخاطب المشاعر والأحاسيس ويكشف عن الميول والاستعدادات، فكان نفسا في إطار الشخصية المبدعة".
أما د. عبد الرزاق جعفر فيقول: "إن أغراض شعرنا العربي كانت تدور حول أمور الحياة اليومية والسياسية والفخر والهجاء والغزل والوصف والرثاء والمديح وغير ذلك مما لا علاقة له بالطفل. وهذا دليل على عدم الاعتراف بالطفل. وكان يجب أن ننتظر بداية القرن العشرين لكي نقرأ أحمد شوقي الذي توجَّه في جانبٍ من شعره إلى الطفل وإلى الموضوعات التي تعلِّمُه وتُضحكه".

* بين شوقي ولافونتين

ويقول د. أنس دواد: "لم يدر لافونتين أن أعظم شعراء العربية ـ صاحبة تراث كليلة ودمنة ـ سوف يُفْتَنْ بحكاياته منذ بواكير حياته، وسوف يكون ضمن مشروعاته الإبداعية، أن يعيد صياغة هذه الحكايات شعرا عربيًّا، وأن تكون في يده أداة للإمتاع والفائدة معا للنشء العربي، وأن يبدأ بها في الأدب العربي أولى صفحات أدب الأطفال في العصر الحديث".
وفي رأيه، أن شوقي لعب على وترين، ووجد فرصة لإنشاء معزوفتين مختلفتين: الأولى يتوجه بها إلى الأطفال، متسمة بما يجب أن يكون عليه الأدب المقدم لهذه المرحلة من عمر الإنسان من بساطة الإيقاع، ويسر اللغة ووضوح الهدف. والثانية يتوجه بها إلى الكبار، فيخفي رفضه للاستعمار، وعداه لبعض مظاهر السلطة، ونقده لكثير من أوضاع الحكم الفاسد ورجاله المعتوهين. وهو يرى ـ أي أنس داود ـ أن ديوان شوقي للأطفال لا يقل جلالا أو جمالا عن مجمل أعماله في الشعر الغنائي أو في المسرح، وأنه مازال في حاجة إلى دراسات متعمقة. ولكنه يتساءل: لماذا تجاهل شوقي سبق عثمان جلال إلى ترجمة فابيولات لافونتين، ولماذا لم يتأثر شوقي بكليلة ودمنة مباشرة؟.

* شوقي وإغفال التجربة المصرية

السؤال نفسه يطرحه د. أحمد زلط، فيقول: "لقد أغفل أحمد شوقي التجربة المصرية التي سبقته والتي نهض بها محمد عثمان جلال في "العيون اليواقظ" أو تجربة "روضة المدارس" ومجهود مصطفى كامل في "المدرسة" .. فلماذا لم يشر إلى ذلك أحمد شوقي ؟!".
وفي رأي د. محمد الشنطي أن أهم ما يميز حكايات شوقي (التي كتبها ما بين عامي 1892 و1893 حين كان طالبا في فرنسا) أنها جاءت ناضجة من الناحية الفنية، وكان اتجاه شوقي إلى "لافونتين" الفرنسي مباشرة دون التعرف على التراث العربي في هذا المجال ممثلا في "كليلة ودمنة" مثيرًا للتساؤل، وربما كان الافتراض بأنه لم يطلع على هذا الكتاب مجانبا للصواب، فالأرجح أنه اطلع عليه، ولكنه لم يكن موجها في الأصل للأطفال، ولهذا تجاوزه إلى "لافونتين" الذي بدأ متوجها إلى الأطفال مباشرة، فضلا عن أنه كان موجودا في فرنسا، ومتأثرًا بأجوائها الثقافية والحضارية. وقد لوحظ أن معظم ما كتبه شوقي يناسب مرحلة الطفولة المتأخرة، وبعض قصائده القصصية ليست مناسبة للأطفال.
وقد عقد أحمد زلط في كتابه "رواد أدب الطفل العربي" فصلا عن شوقي بعنوان "أحمد شوقي والتأصيل الفني لأدب الطفولة في الأدب العربي الحديث ـ دراسة تحليلية" ص ص 99 ـ 169. وفيه قسَّم شعر شوقي إلى جانبين هما: شعر شوقي للأطفال وأناشيده لهم، وشعر شوقي للأطفال على ألسنة الحيوانات (الحكايات). ويرى زلط أن نتاج شوقي الشعري للطفل لم يكن نموذجا أو لم يكن كافيا لسد حاجة الطفل العربي. أما شعر شوقي للأطفال على ألسنة الحيوان فيتمتع بظواهر فنية وأسلوبية منها: تنوع مصادر الحكايات، وتعدد مضمونها، واستعمال البحور الشعرية القصيرة والخفيفة، ووحدة الإيقاع اللغوي والموسيقي، وعدم ملاءمة أغلب الحكايات لإدراك الطفل، وخبرة الشاعر بالحيوان والطير، وأخيرا استرفاد الأمثال الحكيمة في الحكايات.

* شوقي يكتب باسم مستعار

ويثبت زلط في هذا الفصل أن حكاية الديك والثعلب نشرت قبل ظهور الشوقيات بالأهرام عدد 28/11/1892 بتوقيع مستعار هو (نجى الخرس) شأنها شأن حكاية الديك الهندي والدجاج البلدي التي نشرت بالأهرام أيضا عدد 28/10/1892 وقصيدة دولة السوء التي نشرت بالمجلة المصرية عدد 31/7/1900.
جُمعتْ منظومات شوقي على ألسنة الحيوانات في كراس بعنوان "منتخبات من شعر شوقي في الحيوان"، وصدرت عن المكتبة التجارية بالقاهرة 1949.
* ديوان شوقي للأطفال
وقد قام كاتب الأطفال عبد التواب يوسف بإعداد وتقديم "ديوان شوقي للأطفال"، وصدر عن دار المعارف بالقاهرة 1984. وقام د. سعد أبو الرضا بالحديث عن هذا الديوان في كتابه "النص الأدبي للأطفال" ص ص 145 ـ 178. كما تحدث عنه د. أنس داود في كتابه "أدب الأطفال ـ في البدء كانت الأنشودة" ص ص 52 ـ 56. ووضع د. سعد ظلام كتابًا بعنوان "الحكاية على لسان الحيوان عند شوقي" وصدر عن دار التراث العربي 1982، أتبعه بمقال عنوانه "شوقي والطفولة" بمجلة كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر، العدد الرابع 1987.
وعقد أحمد سويلم صفحات عن شوقي شاعر الأطفال (ص ص 157 ـ 163 و ص ص 171 ـ 173) في كتابه "أطفالنا في عيون الشعراء".
ويذهب سويلم في هذه الصفحات إلى "أن النظرة الموضوعية إلى شعر شوقي للأطفال، تبين لنا أن قصائده ليست بنفس السلاسة والبساطة التي كتب بها عثمان جلال. فهي تتميز بسمات رمزية يصعب على الأطفال ـ أحيانا ـ فهمها إلا بواسطة معلم. يضاف إلى أنها في مجملها ذات ألفاظ لا يتسع لها قاموس الطفل اللغوي، وكذا قاموسه الإدراكي ... ومع ذلك فإن كثيرا من هذه النماذج قد اختيرت لتقديمها للأطفال في المدارس المصرية .. إلى فترات طويلة".
وعن دار ثقافة الطفل ببغداد صدر لفتحي خليل، تجربته من خلال أشعار أحمد شوقي للأطفال جمع فيها بين الشعر والنثر. ويتحدث أحمد سويلم في "أطفالنا في عيون الشعراء" عن هذه التجربة قائلا: "بدأ الكاتب كل قصة شعرية على ألسنة الحيوان، بنثرها وقَصِّها .. أولا، ثم أفرد صفحتين للكلمات التي يمكن أن يجد الطفل فيها صعوبة، وأثبت معناه (مصورًا) ثم بعد ذلك أثبت القصيدة ـ أو القصائد ـ مصورة على طول الكتاب، ثم أنهى الكتاب بنبذة عن الشاعر أحمد شوقي وصورة شخصية له". وفي رأي سويلم أن هذا العمل بهذه الصورة يجمع بين كثير من المميزات. فهو يعرِّفُ الطفل بالقصة ـ نثرًا ـ ثم يعرفه على الكلمات الصعبة ومعناها، فيكتسب بذلك حصيلة لغوية يضيفها إلى معجمه الخاص. ثم يقرأ (شوقيا) في قصيدته كما هي.. ثم يعرف أخيرا من هو أحمد شوقي الذي أمتعه طوال هذه الصفحات.
وفي ليبيا صدرت للدكتور محمد التونجي تجربة مشابهة من خلال أشعار أحمد شوقي للأطفال، وجاءت في سلسلة بها خمسة وعشرون كتيبا للأطفال، تحت عنوان "قالت الحيوانات يا أطفال".
ويتحدث سويلم عن هذه التجربة قائلا: "عمد مؤلفها إلى سرد القصة الشعرية نثرًا على طول الكتاب، ثم أثبت القصيدة الشعرية في صفحة واحدة، هكذا: (قال الشاعر أحمد شوقي...) ثم ترد القصيدة بأكملها التي سردها نثرا، مع بعض التصرف والخيال القصصي، على مدى صفحات الكتاب".
لم ترد في أعلام الزركلي، ولا في الموسوعة العربية الميسرة، أية إشارة إلى أن شوقي كان يكتب شعرًا للأطفال.

* من أعماله في مجال الطفولة:

صاغ أكثر من خمسين حكاية شعرية للأطفال، تدور أحداثها حول الحيوان، وتجري فيها حوارات بين أفراده، ضمنها الطبعة الأولى من الشوقيات التي صدرت عام 1898.

هرتي
يقول في "هرتي":
هرتي جِدُّ أليفة .. وهي للبيت حليفة
هي ما لم تتحركْ .. دميةُ البيت الظريفة
فإذا جاءت وراحتْ .. زِيدَ في البيت وصيفة
شغلها الفأر تنقِّي .. الرفَّ منه والسقيفة
وتقوم الظهرَ والعصـْ .. ـرَ بأدوارٍ شريفةْ
ومن الأثواب لم تمـْ .. ـلِكْ سوى فَرْوٍ قطيفة
كلَّما استونحَ أو آوى البراغيثَ المطيفة
غسلته وكوته .. بأساليب لطيفة
وحَّدتْ ما هو كالحمَّـ ..ـام والماء وظيفة
صيَّرَتْ ريقتها الصَّابونَ والشاربَ ليفة
***
لا تمرنَّ على العيـ .. ــن ولا بالأنف جيفة
وتعوَّد أن تُلاقي .. حسن الثوب نظيفهْ
إنما الثوب على الإنْـ ..ـسانِ عنوان الصحيفةْ
***

السفينة والحيوانات
ويقول في "السفينة والحيوانات":
لما أتَّم نوحٌ السفينة
وحركتها القدرةُ المعينة
جرى بها مالا جرى ببالِ
فما تعالى الموجُ كالجبالِ
حتَّى مشى الليثُ مع الحمارِ
وأخذ القطُّ بأيدي الفارِ
واستمع الفيلُ إلى الخنزيرِ
مؤتنسًا بصوته النكيرِ
وجلس الهرُّ بجنب الكلبِ
وقبَّل الخروفُ نابَ الذئبِ
وعطفَ البازُ على الغزالِ
واجتمع النملُ على الآكالِ
وفلَّتْ الفرخةُ صوفَ الثعلبِ
وتيَّمَ ابن عرس حبُّ الأرنبِ
فذهبت سوابقُ الأحقادِ
وظهر الأحبابُ في الأعادي
حتى إذا حطُّوا بسفح الجودي
وأيقنوا بعودةِ الوجودِ
عادوا إلى ما تقتضيه الشيمة
ورجعوا للحالة القديمة
فقسْ على ذلك أحوال البشر
وإن شمل المحذور أو عمَّ الخطر
بينا ترى العالم في جهادِ
إذ كلهم على الزمان العادي




خير الدين الزركلي / حديث
1893 - 1976 م
هو علم من أعلام الشعر الحديث في سورية واحد بناته بعد البارودي وهو كما قال في ترجمته الذاتية لنفسه – خير الدين ابن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزركلي ( بكر الرازي والراء ) الدمشقي , ولد ليلة التاسع من ذي الحجة عام 1310 هـ 25 حزيران عام 1893 م , في بيروت وكان لوالده تجارة فيها وهو وأمه دمشقيان .
ثم يتابع ترجمة حياته فنعرف منها انه نشأ في دمشق وتعلم في إحدى مدارسها الأهلية واخذ عن علمائها على الطرقة القديمة وممن درس على أيديهم العلامة الشيخ ( جمال الدين القاسمي ) , إمام الشام في عصره وصاحب العقيدة السلفية فيها ثم أولع بكتب الأدب واخذ في صباه ينظم بعض الأبيات من الشعر ثم أدى امتحان ( القسم العلمي ) , في المدرسة الهاشمية ودرس واصدر في ذلك الوقت مجلة الأصمعي , وكانت أسبوعية , وما لبث الحكومة العثمانية أن صادرتها لأنه نشر فيها صورة كتب تحتها أنها صورة الخليفة العربي المأمون وعندها ترك دمشق وسافر إلى بيروت .
ولا شك أن إصداره المجلة بهذا الاسم واهتمامه بنشر صورة الخليفة العربي يدلان على ولعه بالعروبة واهتمامه بأمجاد العرب وتراثهم كما يدلان على تحديه للسلطة العثمانية آنذاك التي بدأت القيام حركة التتريك .
وفي بيروت دخل الزركلي كلية اللاييك , فدرس فيها بالفرنسية ثم أضحى أستاذا للتاريخ والأدب العربي فيها , وكان في حوالي الثانية والعشرين من عمره .
ثم عاد أوائل الحرب العالمية الأولى إلى دمشق واصدر فيها بعد أن انتهت الحرب عام 1918 جريدة ( لسان العرب ) مع أحد أصدقائه وتسميتها هذه كانت تدل على ولعه بالعرب والعروبة ولكنها أقفلت كما أقفلت الأصمعي من قبل فشارك في إصدار جريدة أخرى تدعى المفيد , وكانت غايتها – كما يقول د . سامي الكيالي – الدفاع عن الفكرة العربية وكان لمقالاته أثرها في التوجيه القومي وفي نقد سياسة الحلفاء الذين تنكروا للعرب بعد الوعود التي قطعوها للملك حسين , وفي أثناء ذلك كان ينظم الشعر فتجمعت له قصائد أعدها للطبع وسماها ( عبث الشباب ) ولكنها لم تر النور إذ التهمتها النار واكلتا صولها ولكنه لم يوضح لنا كيف حدث هذا , ولا ما تضمنته من موضوعات لكن د . سامي الدهان , عثر على قصيدة غزلية له مؤرخة بعام 1914 م عارض فيها قصيدة ( يا ليل الصب متى غده ) في ديوانه الذي طبعه في مصر عام 1925 فكانت وغيرها صورة للشعر القديم مبنى ومعنى .
وحين دخل الفرنسيون دمشق عام 1920 اثر وقعة ميسلون غادر الشاعر دمشق إلى فلسطين ومنها إلى مصر ثم تلقى دعوة من الشريف حسين لزيارة الحجاز فتوجه إلى مكة وفي تلك السنة اصدر الفرنسيون حكما عليه غيابيا بالإعدام , وبحجز أملاكه هو وزمرة من رجال السياسة الأحرار , وخاصة حين اطلعوا على قصائده الوطنية التي نظمها في هؤلاء المستعمرين وبث روح العروبة في قومه ومنها قصيدة مطلعها :
يجني واشكر في الهوى يده وطن شقيت به لأسعده
وقد تناول فيها المستعمرين وأذنابهم بنبرة حادة خشي الفرنسيون بعدها أن يسمعوا اعنف منها فحكموا عليه بالإعدام وقد تلقى هذا النبأ برباطة جأش وقال في ذلك :
نذروا دمي حنقا علي وفاتهم أن الشقي بما لقيت سعيد
الله شاء لي الحياة وحاولوا ما لم يشأ ولحكمه التأييد
وفي عام 1921 م تجنس بالجنسية العربية بالحجاز وانتدبه الشريف حسين لمساعدة ابنه عبد الله إذ كان متوجها إلى الأردن مع جماعة من العرب لإنشاء الحكومة الأولى في عمان , وعين الزركلي آنذاك مفتشا عاما للمعارف , ثم رئيسا لديوان رئاسة الحكومة , وكان في هذه الفترة يرسل قصائده من عمان سرا ً فيستظهرها الناس في دمشق وغيرها ويرددونها في مجتمعاتهم , ولكن خاب أمله وأمل إخوانه لأن انكلترا وفرنسا كانتا في الخفاء تعقدان معاهدة سايكس بيكو , لانقسام بلاد الشام والأقطار العربية الأخرى فترك شاعرنا عمان وسافر إلى مصر حيث أنشأ المطبعة العربية أواخر عام 1923 وطبع فيها بعض كتبه منها عامان في عمان ضمنه ذكرياته عن عمان وخبرته في الحكم والسياسة كما ضمنه دراسة لهذه البقعة من النواحي التاريخية والجغرافية والاقتصادية والسياسية ولكن ساءت صحته في المطبعة فباعها بعد ثلاث سنوات ونيف , وحين ثارت سورية على المستعمرين الفرنسيين عام 1925 م أذاع هؤلاء حكما ثانيا غيابيا عليه بالإعدام , واستجم ثلاث سنوات زار خلالها الحجاز مدعوا بعد ما تسلم آل سعود الحكم عليه , واصدر في هذه الفترة وعلى وجه التحديد عام 1927 م كتابه الأعلام , في ثلاثة أجزاء ترجم فيها لمشاهير الرجال والسياسة ثم أعاد طبعه في عشرة أجزاء أضاف إليها شخصيات كثيرة ومعلومات غزيرة .
ثم سافر إلى القدس عام 1930 م فاصدر مع زميلين له جريدة الحياة , ولكن الحكومة الانجليزية عطلتها فاتفق مع آخرين على إنشاء جريدة في يافا فاعدوا مطبعتها وأصدروا العدد الأول منها ولكن كان قد فوتح بعمل في المملكة العربية السعودية فعين عام 1934 م مستشارا للوكالة ثم المفوضية العربية السعودية في مصر , فترك الجريدة في يافا وتحول إلى القاهرة , ثم مازال يترقى في المناصب ويمثل الحكومة السعودية في المؤتمرات الدولية والأدبية والاجتماعية حتى سمي مفوضا دائما , ومندوبا لدى جامعة الدول العربية عام 1951 م وعين سفيرا ومندوبا ممتازا في المغرب ثم عاد إلى وزارة الخارجية حتى أحيل إلى التقاعد .
فصلا عما سبق اختير الزركلي عضوا في المجمع العلمي العربي , بدمشق منذ عام 1930 وكذلك مجمع اللغة العربية , بمصر عام 1946 م والمجمع العراقي في بغداد عام 1960 .
قام شاعرنا برحلات عديدة فمنها ما كان إلى انجلترا وفرنسا ممثلا للحكومة السعودية في اجتماعات المؤتمر الطبي والدولي في باريس ومنها رحلته إلى الولايات المتحدة الأميركية , بمهمة رسمية حضر خلالها اجتماعات هيئة الأمم المتحدة , ومنها رحلته إلى أثينا عاصمة اليونان بصفته وزيرا مفوضا ومندوبا فوق العادة , وفي طريق عودته منها زار استانبول ومكتباتها وحلب وبيروت والقاهرة , ومن رحلاته رحلته إلى تونس مندوبا لحضور مؤتمر إقامة الحرب الدستوري فيها وعاد منها مارا بايطاليا فطاف في مكتباتها خلال شهرين .
توفي الزركلي في القاهرة صباح الخميس في الخامس والعشرين من تشرين الثاني عام 1976 م .
صفاته :
عرف الزركلي بقامته المديدة وبعينيه الناطقتين وكان عذب الحديث إذا حدث لطيف النكتة عند المزاح لكنه كان شديد الغضب إذا غضب حلو الرضا إذا رضي , وهناك مزايا أخرى ذكرها قريبه وصديقه ( سليم زركلي في مقدمة ديوانه .
آثاره :
للزركلي سبعة أثار مطبوعة ومثلها مخطوطة أما المطبوعة :
1- ما رأيت وما سمعت : ويتضمن رحلته الأولى من دمشق إلى فلسطين فمصر فالحجاز وقد طبع عام 1923م .
2- عامان في عمان : ويجري مذكراته عن عامين قضاهما في عمان عاصمة الأردن وقد طبع الجزء الأول منه عام 1925 م .
3- الجزء الأول من ديوانه وفيه ما نظمه من الشعر حتى عام 1925 م .
4- الأعلام : الطبعة الأولى في ثلاثة أجزاء وطبع عام 1927 م .
5- الأعلام : الطبعة الثانية في عشرة أجزاء .
6- مجدولين والشاعر : وهو قصة شعرية صغيرة .
7- ديوانه ( الأعمال الشعرية الكاملة ) نشر بعد وفاته في مؤسسة الرسالة ببيروت عام 1980 م .
وأما مخطوطاته التي لم تنشر فهي :
1-= الملك عبد العزيز في ذمة التاريخ .
2- صفحة مجهولة من تاريخ سورية في العهد الفيصلي .
3- الجزء الثاني من ( عامان في عمان ) .
4- قصة تمثيلية نثرية سماها ( وفاء العرب ) وقد مثلت أكثر من مرة في بيروت ابتداء من عام 1914 م .
5- مجموعة كبيرة في الأدب والتاريخ قديما وحديثا ً .
6- المستدرك الثاني على الأعلام .
7- الإعلام بمن ليس في الأعلام .
شعره :
يقع ديوان الزركلي الذي جمعه وطبعه عام 1925 م في المطبعة العربية التي أنشأها كما قلنا – في القاهرة في ست وتسعين صفحة ويتضمن ما نظمه في مرحلة الشباب حتى الثانية والثلاثين من عمره . كما يتضمن قصائد وطنية وتأملات ذاتية أكثرها في الحنين إلى الوطن والتألم لما أصابه من كوارث إلى جانب وصف الطبيعة السورية منها :
بردى ودمشق وقاسيون وغوطة دمشق وفي عام 1980 صدر له ديوان يضم الأعمال الشعرية الكاملة , عن مؤسسة الرسالة في بيروت وفي أوله موجز عن حياة الشاعر وتعريف به وبشعره وفي هذا الديوان قصائد كثيرة منها ما هو في الوطنيات والأناشيد الوطنية ومنها ما هو في الشعر الذاتي الذي يعبر فيه عن خوالج نفسه وخطرات فكره وغيرها في الوصف أو المعارضة أو الرثاء أو الاخوانيات أو الشعر الاجتماعي .
وهو في شعره عامة ينحو منحى الأقدمين في أوزانه وقوافيه وفي طريقة تعبيره من حيث الجزالة والمتانة ويرجع ذلك إلى كثرة ما قرأ وحفظ للشعراء القدماء حتى أضحت لغته طليقة وصار الشعر ينثال على براعته انثيالا مع بيان رفيع وأداء نير .
وأكثر شعره نظمه في المناسبات الوطنية والقومية وقد برز فيها كثيرا من شعراء عصره لذلك سنقتصر على دراسة خير ما يمثل هذا اللون في شعره . شعره الوطني :
يمكننا أن نصنف شعره الوطني في مضمونين اثنين : الأول شعر المناسبات الوطنية النضالية والثاني في الحنين إلى الوطن والتغني به من خلال وصفه لبعض الأماكن وذكرياته فيها .
أ- أما شعره في المناسبات الوطنية النضالية فكان أول قصيدة نظمها منه عام 1916 م في ( الشهداء ) الذين شنقهم جمال باشا السفاح والي تركيا على سورية وقائد الفيلق التركي الرابع خلال الحرب العالمية الأولى , زاعما انه عثر على وثائق سرية تتضمن عزمهم على الثورة فقال فيهم :
نعى نادب العرب شبانها فجدد بالنعي أحزانها
نعت لغة العرب من احكموا لسان قريش وتبيانها
وناحت على من بنوا عزها واعلوا بما اثلوا شأنها
جذوع المظالم لو تنطقين فرحت الناس أجفانها
سيومض في الناس برق السلام وتسلو النوادب ارنانها
وحين شدد طغاة الدولة العثمانية قبضتهم على العرب إبان الحرب العالمية الأولى واصلتوا سيوفهم عليهم وساقوهم سوق العبيد نظم ( أحفاد جنكيز ) واتهمهم بالظلم والطغيان وعاد ثانية إلى التنويه بحادثة شنق الشهداء فقال :
عتا أحفاد جنكيز فساقوا سلائل يعرب سوق العبيد
فكم قتلوا من الأخيار صبرا ً وكم ساموا المهانة من عميد
وكم حملوا على الأعواد ظلما ً وكم سقوا المنية من شهيد
وهذه الأبيات على الرغم من أنها ليست عميقة كفاية ولا رفيعة الأسلوب لكنها تدل على غيرة شاعرنا الوطنية وجرأته البالغة .
ولما انتهت الحرب العالمية الأولى وبدت في الأفق بوادر اقتسام ديار الشام بموجب المعاهدة بين فرنسا وانجلترا رأى الشاعر أن حقوق العرب تؤكل وتهضم , نظم قصيدة بعنوان ( فيم الونى ) ندد فيها بتواني العرب عن النضال وسكوتهم عن الاستعمار فقال :
فيم الونى وديار الشام تقتسم أين العهود التي لم ترع والذمم
نسام خسفا ونقصي عن محجتنا ويوثق الفم حتى تخفت الكلم
نسجو على الضيم والأطماع هائمة ونكظم الغيظ والأكباد تضطرم
ولا ينسى في آخر القصيدة أن يوجه خطابا إلى أبناء العرب شاحذا هممهم لتنظيم أمرهم وتوحيد كلمتهم لقراع أعدائهم فيقول :
تأهبوا لقراع الطامعين بكم ولا تغركم الآلاء والنعم
سيروا رويدا إلى تنظيم أمركم لا يصلح الأمر إلا حين ينتظم
واقسموا لا افترقتم يوم ملحمة ولا ونيتم عساه يصدق القسم
ولعل هذه الدعوة إلى اجتماع الشمل واتحاد الكلمة كانت أول صرخة من نوعها ولا سيما إذا عرفنا أن القصيدة مؤرخة كما جاء في الديوان عام 1919 م .
وعلى اثر وقعة ميسلون عام 1920 م نظم شاعرنا قصيدته ( الفاجعة ) ومطلعها :
الله للحدثان كيف تكيد بردى يغيض وقاسيون يميد
وفيها يصور وقع فاجعة الاستعمار في نفسه ويتلهف على وطنه كيف استطاع برابر السنغال أن يستولوا عليه وهم العبيد ثم ينتقل إلى وصف وقعة ميسلون فيقول :
غلت المراجل فاستشاطت امة عربية غضبا وثار رقود
زحفت تذوذ عن الديار ومالها من قوة فعجبت كيف تذوذ
الطائرات محومات حولها والزاحفات صراعهن شديد
يصور هذا كله وهو بعيد عن وطنه ولكن عينيه ظلتا عليه , ترقبانه وتتابعان أحداثه من بعيد لذلك نراه يشارك إخوانه آلامهم حين ضربت دمشق بالقنابل عام 1925 إبان اندلاع الثورة السورية فيقول في قصيدته ( بين الدم والنار ) :
الأهل أهلي والديار دياري وشعار وادي النيربين شعاري
ما كان من الم بجلق نازل واري الزناد فزنده بي واري
ويحس أن دم الثوار الذي يراق في دمشق هو دمه فيقول :
إن الدم المهراق في جنباتها لدمي وإن شفارها لشفاري
دمعي لما منيت به جار هنا ودمي هناك على ثراها جاري
ويصور النار المحدقة بدمشق وبطش المستعمر بأحيائها وقذفها بالقنابل :
الوابل المدرار من حمم اللظى متواصل كالوابل المدرار
والظلم منطلق اليدين محكم يا ليت كل الخطب خطب النار
ويسير على هذا النحو في سائر قصيدته من حيث الأسلوب والعبارات التي كان معظمها مستمدا من القدماء .
ويتابع الزركلي الأحداث التي تجري لا في سورية فحسب بل في بعض الأقطار العربية الأخرى , فيعجب بثورة الجزائر على المستعمر الفرنسي , وينظم قصيدة ( الجزائر ) عام 1961 م وكانت آخر قصائده الوطنية تلك التي نظمها اثر حرب رمضان بين العرب وإسرائيل عام 1973 التي حطمت فيها أسطورة أن إسرائيل لا تقهر , وجعل شاعرنا ذلك النصر مهرجانا للعرب أجمعين فقال في قصيدة بعنوان ( المهرجان ) يقول فيها :
المهرجان المهرجان ضجت له انس وجان
عار محاه أباة هون ما رضوه ولا استكانوا
صغرت بأعينهم عداتهم وما كذب العيان
ويصور فيها كيف انطلقت الصواريخ من دمشق تقذف لظاها على العدو فإذا هي تمحو ما ران على القلوب من أحزان الماضي ويختم القصيدة ببيت يعرب فيه عن ارتياحه للنصر فيقول :
يا عين أبكاك الزمان وعاد يعتذر الزمان
وهكذا يبدو لنا أن شعره كان سجلا للأحداث النضالية الوطنية التي جرى أكثرها وهو بعيد عن وطنه .
ب – أما شعره في الحنين إلى الوطن والتغني به والبكاء على ربوعه فحاله فيه كحال كل من البارودي وشوقي حينما نفيا عن وطنهما في التعبير عن عواطفهما تجاهه , مع الفارق بينهما وبينه انه كان محكوما عليه بالإعدام ففي قصيدته ( زفرة ) التي نظمها عام 1917 م , عبر عن حزنه وبكائه على وطنه لما الم به من سوء .
وفي قصيدته ( وطني ) و ( عصفور النيربين ) اللتين نظمهما عام 1920 يشكو من البعد ويضمنها أفكارا متشابهة فيندد بمن يدعي الوطنية من رجال سورية – على اختلاف طريقة النظم – فهو في الأولى يتحدث بشكل مباشر صريح فيقول في أولها :
يجني واشكر في الهوى يده وطن شقيت به لأسعده
ويلي على وطن يهدمه من كنت أمل أن يشيده
كم صائح وطني حسبت به كشاف غمته ومنجده
أبصرته هدفا له وطني والسهم بين يديه سدده
ولكنه في القصيدة الثانية يناجي عصفورة النيربين كما ناجى أبو فراس والبارودي من قبل الحمامة وهما في المنفى – ويطلب منها أن تترجم همومه وأحزانه فيقول :
عصفورة النيربين غني
واروي حديث الأنين عني
أنا المعنى وما المعنى
غير حنين أذاب مني
شغاف قلبي وحسن ظني
ثم يصور مشاعره الحزينة وهو بعيد عن وطنه والهموم والخطوب التي تجرعها من بلاده وأهله حتى الثمالة ومع ذلك فانه يظل على مودته لهم :
إن اهو لا أهوى غير آلي
دمي فداء لهم ومالي
أحسنت ظني بهم فما لي
خابت أماني في الرحال
ليت الأماني بالتمني
وتلفت سمعنا هنا النغمة الموسيقية الحزينة التي تنبعث من ثنايا القصيدة فتزيدها قوة في التعبير .
أما قصيدته في الحنين إلى الوطن التي نالت شهرة واسعة ورددها الناس ولا يزالون يرددونها ويترنمون بها في الوطن العربي كله فهي ( نجوى ) التي كانت زفرة من زفرات أنينه وحنينه وقد نظمها عام 1924 م يقول في أولها :
العين بعد فراقها الوطنا لا ساكنا الفت ولا سكنا
ريانة بالدمع أقلقها إلا تحن كرى ولا وسنا
كانت ترى في كل ساعة حسنا وباتت لا ترى حسنا
والقلب لولا انه صعدت أنكرته وشككت فيه أنا
وهي كما نلاحظ تمتاز كسابقتها بالموسيقى الحزينة التي تزيد عاطفة الحنين متانة وقوة وهو بعد أن يعبر عن لوعته على وطنه الذي عبث به الزمان . ويتذكر بردى , والأحبة وذكرياته الماضية ويبلغ الذروة في الحنين حين يقول منهيا القصيدة :
إن الغريب معذب أبدا إن حل لم ينعم وإن ظعنا
لو مثلوا لي موطني وثنا لهممت اعبد ذلك الوثنا
ويبدو الزركلي في شعره الوطني كله صادقا في عاطفته قويا في أسلوبه جهير النبرة وكان شعره هذا جديدا , إذ عبر فيه عن روح العصر والمرحلة اللذين عاش فيهما , وإن كانت طرائقه وأساليبه تشبه طرائق القدماء وأساليبهم في العصر العباسي ونود أن نشير أخيرا إلى ظاهرة واضحة في شعره , هي عنايته بالموسيقى المتنوعة الأنغام التي تتجلى فيما نظمه من أناشيد وطنية كثيرة ذات أوزان خفيفة قصيرة أو مجزوءة , لكن بعض قصائده تشبه ما سنراه عند شعراء المهجر – وخاصة الشمالي – من استعمال بعض البحور المجزوءة أو الشطور أو إضافة تفعيلة ليكون النظم مناسبا للمضمون مثال ذلك قصيدته ( يا زمان ) :
متى ترى تبسم لي يا زمان – إلا حنان
أسلمتني لا انس لي لا أمان – للحدثان
ابكي ديارا خلقت للجمال - أبهى مثال
وهكذا تجري القصيدة على هذا اللون من الموسيقى الجديدة التي تختلف عن موسيقى الشعر العربي القديم ويبدو أن الم الحنين إلى الوطن , هو الذي ألجأ الشاعر إلى هذه الموسيقى الحزينة المناسبة للموقف الذي نظمت فيه .
وللبرهان على عنايته بالموسيقى نضرب مثالا آخر قصيدته ( تأملات ) التي تدل نغماتها على تجربته في الحياة الحزينة وفلسفته الحكيمة وخروجه منها بتأملات متشائمة يقول :
تعب أم لعب وجوى أم طرب
ما الحياة المشتهى صفوها ؟ ما العطب
صور تبدو وسرعان ما تحتجب
ويعبر فيها عما يراه في هذه الحياة من متناقضات ومفارقات فها هنا قصور وناعمون وهناك أكواخ وبائسون ثم ماذا ؟
يعجب المرء وما هو إلا عجب
يتمشى صاخبا وعلام الصخب
إن يفته أدب لم يفته نشب
ووزن هذه الأبيات ( فاعلاتن فاعلن ) وهي من بحر ( المديد ) ولكن مع حذف التفعيلة الثالثة في كل شطر وهذا التجديد في الموسيقى لم نره مألوفاً ولا معروفا عند القدماء ولا المحدثين إذ لا مجزؤ لبحر المديد .
وهكذا نرى أن خير الدين الزركلي شاعر أصيل عني بقضايا وطنه وجدد في مضمون شعره وموسيقاه واستطاع أن يحقق في قصائده ما يسمى بالوحدة الموضوعية وإن لم يحقق فيها الوحدة العضوية .
والخلاصة : يتضح مما تقدم من الكلام على رائد الشعر البارودي وعلى بعض البناة بعده أن شعرنا الحديث سار – منذ بداية النهضة – في طريق التجديد لكن مهمته كانت بعث الأساليب القديمة وإحياءها ورد ديباجته المشرقة التي عرف بها في أزهى العصور الماضية وكانت هذه المهمة شاقة عسيرة لكنه مهد الطريق أمام البناة الذين جاؤوا بعده وإن ظلت القصيدة على يديه مفككة الأوصال ذات أغراض عديدة , خالية من الوحدة الموضوعية لا يضيرها تغيير مكان بيت فيها أو تقديمه . لكن من جاء بعده من الشعراء البناة استطاعوا أن يدفعوا حركة التجديد الشعري خطوة ثانية إلى الإمام إذ جعلوا القصيدة موحدة الموضوع , وإن لم تكن ذات وحدة عضوية , كما استطاعوا أن ينزلوا بشعرهم إلى صفوف الشعب فيغنوا آماله ويعبروا عن آلامه ويتحدثوا بلسانه لذلك جدت على أيديهم أبواب من الشعر الوطني والقومي والاجتماعي وهذه الأغراض كلها لم تكن معروفة من قبل لأنها وليدة العصر الحديث , وهكذا أضحى الشعر العربي ديمقراطيا بعد أن كان ارستقراطيا ً .
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف