الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/26
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

أدب عصر الدول المتتابعة بقلم:حسين علي الهنداوي

تاريخ النشر : 2013-12-19
أدب عصر الدول المتتابعة بقلم:حسين علي الهنداوي
الأدب والنقد العربي والإسلامي
عصر الانحدار
(عصر الدول المتتابعة)
-1-
المجلد الثامن

حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية





حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية
مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المجلد الثامن
الأدب في عصر الدول المتتابعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين . . . وبعد
ما أن أحست العناصر غير العربية ممن دخل تحت لواء الإسلام في ظل الدولة العباسية بأن الإسلام يفسح المجال لأي امة من الأمم أن لها الحق في حكم المسلمين حتى أخذت تسعى للوصول إلى سدة الخلافة بطريقة أو أخرى حتى أن بعض الخلفاء قد تعصبوا لأخوالهم فالأمين ابن الرشيد كان يتعصب للعرب لأن أمه عربية والمأمون تعصب للفرس لأن أمه فارسية والمعتصم تعصب للأتراك لأن أمه تركية وهكذا حتى ضعفت شوكة الخلافة وأصبحت العناصر غير العربية وخاصة العسكريين تستخدم الخلافة كمصدر لجمع المال فطمع بالخلافة من طمع وتكالب الأعداء على الدولة العباسية سواء أكانوا من الداخل الضباط الأتراك أو من الخارج الصليبيين والمغول والتتار مما دفع الكثير من الولاة والقادة إلى الانفصال عن الدولة وتشكيل دويلات متحاربة فيما بينها وهذا ما أدى بالدولة العباسية إلى الانقسام فكانت الدولة الفاطمية والدولة الأيوبية والدولة المملوكية وأصبح العربي يعيش تحت رحمة العناصر غير العربية وصحيح أن هذه الدويلات قد حاولت الدفاع عن حياض المسلمين إلا أنها في الوقت نفسه لم تستطيع أن تجمع شظايا الدولة الإسلامية تحت راية واحدة وأصبح الأدب في حالة اعتلال ومرض لأن الولاة والقادة لم يعد لديهم أي اهتمام بفن الأدب وتراجعت حركة الشعر فنزل الأدب من القمة إلى الحضيض وأن نشطت حركة الجمع والموسوعية حيث اخذ الأدباء يجمعون شتات اللغة والأدب وعلوم النحو وهكذا ونشط النثر ولكنه بقي أسير المحسنات اللفظية كزينة مصطنعة كبلت فن النثر والشعر معا ولم يعد الأدب نقطة الجذب لدى الناس وتسمى هذا العصر بأسماء مختلفة أدب عصر الانحدار نظرا لعدم قدرة الأدب على اخذ دوره الصحيح أول عصر الدولة المتتابعة نظرا لتعاقب دول متنوعة في هذا العهد وامتهن الأدباء مهنا حضيضته كي يحصلوا على لقمة العيش فكان منهم الجزار والقصار والدباغ ولم يعد الحكام يشجعون الشعراء كما كانوا في العصور السابقة وهكذا تراجع الأدب خطوات كبيرة للوراء وأصبح الأدباء يدور ون في حلقة مفرغة وتحول الأدب إلى قضية هامشية لا قيمة له ولا مدافع عنه .





الأدب والنقدالعربي والإسلامي
عصر الانحدار
(عصر الدول المتتابعة)
تاريخ الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية
إبان الحروب الصليبية 448 – 692
الباب الأول:
الحياة العامة في هذا العصر
العصر المملوكي
يمثل عصر الانحدار( 656 – 922 ) الطور المغولي فترة قاتمة في أدب العرب والإسلام بعد أن كانت الخلافة العباسية منذ عهد بعيد تستظل في فيء الفرس والأتراك الذين أبقوا عليها مع تضعضع قواها وضعف سلطانها وما لبثت أن انهارت لما هجم المغول على البقاع العربية الإسلامية واستولوا على بغداد وذبحوا الخليفة والأعيان وقتلوا من أهلها الكثير وألقيت الكتب في دجلة ودنست معالم الثقافة بأرجل التتار وغاضت مياه الحضارة .
العصر المغولي 656 – 922
عصر الحروب الصليبية 656 – 922
عصر المماليك 648 – 922 1250-م 1517 م
العصر الفاطمي
العصر الأيوبي
المماليك البحرية 648 – 923 1382 – 1517 م
المماليك البرجية 784 – 923 1382 – 1517م
الحياة العامة في هذا العصر
الباب الأول
الحياة العامة في العهد المملوكي
الفصل الأول :
الحياة السياسية في بلاد الشام ومصر
الفصل الأول
الأحوال السياسية والاجتماعية والثقافية :
الباب الأول
الفصل الأول
الحياة السياسية
يتمثل هذا العصر من الوجهة السياسية الطور المغولي 656( – 922 هـــــ) الذي يبدأ بسقوط بغداد على يد هولاكو وينتهي باستيلاء سليم الفاتح على الشام ومصر(922ه ـ1213ه ) .
بدأت دولة المماليك حياتها السياسية بوساطة شجرة الدر التي صارت زوجة للملك الصالح نجم الدين السلطان الأيوبي وقد تولت شجرة الدر الملك بعد زوجها الملك الصالح وتزوجت بعز الدين أيبك الأمير المملوكي وعلى الرغم من رفض الخليفة العباسي لفكرة تولي امرأة الحكم وتغرير أهل مصر إلا أن شجرة الدر استطاعت بدهائها أن تحكم مصر فترة غير طويلة وكان نجم الدين زوجها قد قوى المماليك وأعطاهم مساكن في جزيرة الروضة ، وعرفوا بالمماليك البحرية وكان شراء المماليك يتم من الأمم التركية التي فرت من أوطانها بحر قزوين – الفريقان الذين فروا أمام زحف التتار من أوروبا الشمالية وكان منهم الرومي والصليبي والتتري ودربوا على فنون القتال حتى أصبحوا القوة الضاربة ضد الصليبيين والفرنجة والمغول وأحرزوا انتصارات باهرة وقد استظل هؤلاء المماليك في دولتهم في ظل الإسلام وحرصوا على التمسك به ظاهرا والدفاع عن مقدساته من خلال رعاية الخلافة والحفاظ على أمور الدين ورعاية أوامره ونواحيه أمام الناس والفقهاء وإظهار التشدد في تطبيق حدود شرعه ومحاربة الخارجين عليه وبناء المدارس ودور الحديث والمدارس الشرعية منفقين عليها من أموال الدولة غير مبالين بما وضعوه فيه من الضرائب والمكوس والذي كان على حساب لقمة العيش للعامة واعتبروا أن من يملك القوة يملك السلطة حتى ولو كان عبدا قد كان العبد المملوك ينتظم سلك الجيش ويتدرب على الفروسية وتراوده تطلعات لأن يصبح أميرا على كرسي القلعة وقد كان الناس مقلوبين على أمرهم يسبب توالي الإرهاق والكبت والظلم وهكذا عايشت دولة المماليك ترتع وتمرح وتنعم بالخيرات ثلاثة قرون بينما الناس يكدون ويشقون ويزرعون ويحصدون ويعانون متاعب الحياة .
1 ـ دولة المماليك البحرية عام 648 – 1250
كان مولد دولة المماليك البحرية باستيلاء شجرة الدر على السلطة وكان انتهاؤها بموت الملك الصالح زين الدين حاجي عام 784 1382.
3 ـ الدولة المملوكية الثانية
وقد كانت تتولى السلطان الظاهر برقوق وانتهت بآخر سلاطينهم واستمر عصر دولة المماليك البحرية قرنا ونصف قرن تقريبا تولى الحكم فيها خمسة وعشرون سلطانا :هم
1- شجرة الدر 648 – 648
2- عز الدين أيبك 648 – 655
3- المنصور علي بن عز الدين ايبك 655 – 657 ومات مقتولا
4- قطر 657 – 658 وقد مات مقتولا
5- الظاهر بيبرس 658 – 676
6- بركة خان 676 – 678
7- سلامش بن بيبرس 678 – 678
8- المنصور قلاوون 678 – 679
9- الأشرف خليل 689 – 693 ومات مقتولا
10 – الناصر محمد الأولى 693
11- العادل كتبغا 694 – 696
12- المنصور لاجين 696 – 698
13- السلطان الناصر الثانية 698 -708
14- بيبرس الجاشنكير 708 – 709
15- الناصر محمد الثالثة 719 – 741
16- الأشرف كجك 742
17- المنصور أبو بكر 741 – 742
18- الناصر أحمد 742
19- السلطان عماد الدين إسماعيل 743 – 746
20- الكامل شعبان 746 – 747
21- المظفر حاجي 747 – 748
22- الناصر حسن الأول 748 – 752
23- الناصر حسن الثانية 755 – 762
24- الصالح 752
25- المنصور 762
26- الأشرف 764
27- المنصور علاء الدين 778
28- الصالح حاجي 783
ومن هؤلاء السلاطين من لم يقم في السلطة إلا بضعة أيام أو بضعة شهور ومنهم من طالت مدته ومنهم من كان صبيا أو طفلا يقوم بأمره نائب السلطنة وقد غلبت على أسرة المماليك أسرة بيبرس البندقداري وأسرة المنصور قلاوون التي حكمت معظم هذه الدولة عدا فترات قليلة أي بعد وفاة مؤسسها المنصور قلاوون وقتل خليفة الأشرف خليل حيث تولى بعده العادل كبتغا سنة 693 وهكذا فقد تميزت الدولة الأولى بطول مدة حكم كثير من سلاطينها فما وفر لها الاستقرار النسبي وخاصة بعد انتصارها على الصليبيين والتتار، فقد هزم قطز في عين جالوت التتار 659 وهزمهم بيبرس 666وصفّى قطز والأشرف خليل جيوش الصليبيين في المشرق واستولوا على عكار 690وتمتع الناس بالهدوء وعم الرخاء والسلام واهتم السلاطين بالإصلاحات الداخلية وأقبل الناس على الحياة ومن أشهر السلاطين المهتمين بالأدب الظاهر بيبرس البندقداري الذي حكم 22 عاما شن الحملات ضد التتار والصليبيين في الشام والعراق وأرمينيا وبلاد النوبة وشمال السودان حيث كسر الموجات التترية وصفى الجيوب الصليبية وأمن الحدود الجنوبية لمصر وحكم النوبة بعد أن استعاد نفوذها من أيدي مملكة النوبة المسيحية وقد مدح الشعراء هذه الانتصارات فقد قال أحد الشعراء في ذلك :
الملك الظاهر سلطاننا نفديه بالأموال والأهل
اقتحم الممر ليطفئ به حرارة القلب من المغل
وقال ابن النقيب يصف انتصار الظاهر بيبرس بفرسانه المماليك على التتار وهزيمتهم شرقا حيث عبروا ورائهم النهر نهر الفرات وقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم غنائم كثيرة عام 658
ولما ترامينا الفرات بخيلنا شجرناه منا بالقوى والقوائم
فأوقفت التيار عن جريانه إلى حيث عدنا بالغنى والغنائم
ويقول الشاعر محمد بن يوسف الهمندار .
لو عاينت عيناك يوم تزالفا والخيل تطغم في العجاج الأكدر
لرأيت سدا من حديد سائدا فوق الفرات وفوقه نار ترى
ورأيت سد الخيل قد بلغ الخزى ومن الفوارس أبحرا في أبحر
والظاهر والسلطان في آثارهم يروي الرؤوس بكل غصب أسمر
كذلك اهتم الظاهر ببناء الجيش واهتم بالجانب الديني لتزعم مصر للمسلمين بعد بغداد حيث استدعى أحد الخلفاء العباسيين وولاه الخلافة في القاهرة وولاه ما يتعلق بشؤون الدين واهتم الظاهر بالتمسك بأوامر الدين ونواحيه ومراعاة مظاهره ومحاربة البدع والمفاسد وتطبيق حدود الشرع الإسلامي وتقريب الصوفية ومشايخهم بناء على تبشير الشيخ خضر الصوفي الظاهر بتولي الخلافة قبل أن يتولاها بسنين وبنى الظاهر بيبرس المدارس لأهل السنة وأهم ما بناه مسجده ومدرسته الظاهرية بالقاهرة سنة 664 وخزانة الكتب ولم يعمر أبناؤه الصغار في الحكم الذي انتقل إلى المنصور قلاوون الذي تولى الحكم في عصر الدولة الأولى وكان أبناؤه كبار السلاطين الذين خلفوا أثار خالد من أمثال الأشرف خليل الناصر محمد الناصر حسن وقد شن المنصور قلاوون على الرغم من كونه أعجميا لا يتقن العربية غارات ناجحة على الصليبيين وصفى جيوشهم في ساحل الشام وصمد أمام هجمات التتار وخلف القبة المنصورية مكانا لتعلم القرآن الكريم وتلاوة وسماع الحديث والعلوم الدينية وكذلك بنى المارستان المنصوري لشفاء المرض وإذا كان الأشرف خليل قد فتح عكا واستولى عليها فإن الملك الناصر محمد أقوى سلاطين أسرة قلاوون وعهده أكثر عهودهم استقرارا وازدهارا حيث حكم خمسين عاما بعد اضطرابات كثيرة في أول عهده وفي عهده استولى التتار على دمشق بعد هزيمته في وادي الخازندار 699هـ أمام غازان حيث هرب إلى مصر وفي عهده فتحت جزيرة أرواد 702هـ وحدثت وقعة شقحب 702هـ بين الناصر والتتار وكسب النصر بعد صمود مرير وفي العام نفسه وقعت الزلزلة العظيمة بمصر والشام ومات تحت الروم أناس كثيرون وعقدت مصالحات بين الناصر والتتار من جهة والإفرنج من جهة أخرى وأخمدت ثورات العربان بصعيد مصر وأخضع ملوك النوبة المسيحية شمال السودان وشعر الناس بالهدوء والرخاء بعد غلاء وضنك وفوضى واضطراب وبنيت المنشآت والعمائر والمساجد والمدارس ودور الصوفية وبالغ بشراء المماليك وعظم العلم والمناصب الشرعية منهم بتقريب نصارى مصر وتمكينهم من رقاب الرعية مما جعل أهل القاهرة يثورون عليه وشدد على اليهود وأمرهم أن يلبسوا عمائم صغر بسبب تأمرهم عليه مع غازان قائد التتار حين استولى على دمشق ؛ ثم إنه كان يحارب النكرات وعاقب مرتكبيها وقد توفي في عام 741هـ تولى من بعده ابنه الناصر حسن الذي كان خلالهما ظالما للرعية صادر ممتلكاتهم وسلب أموالهم ولم يتجاسر على فقد أحد وسلط الله تعالى عليه جنده وقلب قلوب رعيته فقتله أحد خواصه يلبغا الضاحكي سنة 762هـ ومن أهم ما خلفه المدرسة المعروفة آلان بمسجد لسلطان حسن في حي القلعة بالقاهرة والتي بقيت قلعة للعلم وقد مدح شهاب الدين محمود انتصار الأشرف خليل على الصليبيين فقال :
الحمد لله ذلت دولة الصلب وعز بالترك دين المصطفى العربي
ما بعد عكا وقد هدت قواعدها في البحر للشرك فيها كف مغتصب
وقد كان هم المماليك منصبا على تصفية جيوب الصليبيين في الشام والمشرق العربي ومحاولات المماليك الأوروبية المساندة لإمارة الصليب في الشرق والوقوف أمام الطوفان المغولي وتحطيم موجات التتار وقد حطم بيبرس قلاوون والأشرف خليل والقائد لاجين حصون الصليبيين واستولوا على عكا واستولى بيبرس على قيسارية وقلعة أرسوس البحرية وهاجم صفد واستولى عليها وعلى إنطاكية وعقد مع طرابلس وصور وبقية المدن الساحلية معاهدات ثم واصل قلاوون حملاته على المدن الساحلية بعد وفاة بيبرس فاستولى على اللاذقية وطرابلس وقام الأشرف خليل بتطهير الأرض العربية من الصليبيين بعد الاستيلاء على عكا عام( 690هـ- 1291م) كل ذلك بمناصرة العرب والمسلمين الذين رؤوا في المماليك جنودا أوفياء في محاربة الصليبيين والتتار ومن الطريف أن إمبراطور صقيلة منفرد كان يحب المسلمين مما جعل البابا وملك فرنسا يحضان على عزل ابنه عن العرش ثم عادت صقيلة مصدرا للمتاعب لمصر والشام أما قبرص ورودس فكانتا معاديتين للمماليك حيث أرسلت قبرص( 766هـ 1265 م ) مع البندقية ورودس حملة صليبية لمصر ونهبوا الإسكندرية ثلاثة أيام ثم هربوا عندما سمعوا بتحرك المدد من القاهرة ورغم فشل البابا في عقد صلح مع يلبغا عاد القبارصة لمهاجمة الساحل المصري ثم عقد الصلح بينهما بعد أن دفعت قبرص ورودس تعويضات وأعادت الأسرى المصريين وسمح للمسيحيين بزيارة كنيسة القيامة وعقد الناصر محمد علاقات ودية مع بيزنطة ومع البابا على أن يعامل رعايا المسيحيين بالإحسان أما التتار فقد زحفوا باتجاه بغداد التي سقطت في أيديهم 656هـ فأوقفت المماليك زحفهم إلى الشرق بمعاونة الشعب في مصر والشام في معركة عين جالوت بقيادة قطز وخربت بغداد ورثاها الشعراء كما في قول تقي الدين إسماعيل بن إبراهيم:
لسائل الدمع عن بغداد أخبار فما وقوفك والأحباب قد ساروا
تاج الخلافة والربع الذي شرفت به العوالم قد عفاه إقفار
وقد أرسل هولاكو رسالة تهديد لقطز يطالبه بالتسليم فمزق قطز الرسالة وقتل الرسل وجند الجنود وكانت موقعة عين جالوت ويقتل قطز على يد بيبرس البندقداري الذي تولى السلطة وواصل الكفاح المغول والتقى بهم قرب حمص وانتصروا عليه في البداية لكنهم غلبوا عندما اهتموا بالغنائم والسلب وشن عليهم قلاوون حملة شتت شملهم ومات قائد التتار منكوتمر غما بعد أن كبا جواده ثم مات أبغا عقب معركة حمص وخلفه أخوه فاسلم وتسمى بأحمد وقتله ابن أخيه أرغون الذي تآمر مع البابا ثم مات أرغون وتحسنت العلاقات مع التتار ثم فزع أهل الشام لمعاودة غازان قائد التتار تهديداته بالزحف على الشام وقال ابن الزملكاني العالم القاضي الفقيه الشاعر:
لهفي على جلق يا سوء ما لقيت من كل علج له في كفره فن
بالطم والرم جاؤوا لا عديد لهم فالجن بعضهم والحن والسيف
وانتصر الناصر عند مرج الصفر سنة701هـ وحاول غازان الانتقام ففشل وتولى أمر التتار بعد غازان الخان أبو سعيد وكان مسلما فعقد حلفا مع الناصر وحاول الناصر مد سلطته لبغداد وافلح وضربت السكة باسمه وخطب له على المنابر مع وجود قوة من الجيش المصري بها قام الخان المغولي أويس بطردها وقضي على آمال الناصر في مد السيطرة إلى حدود دجلة واستمر السلام حتى هبت العاصفة الجديدة بقيادة تيمورلانك في عهد السلطان برقوق في الدولة الثانية أما من جهة السودان فقد أثارت دولة المسيحية متاعب كثيرة للمماليك أثناء حروبهم للصليبيين حيث أغاروا على الصعيد وغزا داوود ملك النوبة أسوان فجرد له السلطان جيشا كسره وهرب داوود ثم القي القبض عليه وأرسل للسلطان بالقاهرة وفتح الله على يد بيبرس بلاد النوبة .
وبعد أن استولى داوود على الملك من ابن أخيه شيكندر أعاد الملك الناصر الملك لشيكندر ومات داوود في الاسر ووضع شيكندر تحت حماية مصر بشرط
1- التنازل عن شمال النوبة لمصر
2- إطلاق الأسرى المصريين الماسورين عند داوود
3- استيلاء مصر على عبيد واموال ملك النوبة
4- أن يقبل الملك الجديد للنوبة قيام مندوب مصري إلى جانبه
5- دفع ضريبة البقط للمماليك 400 عبد +3 افبال +3 زرافات +5 نمور +100 هجين+ 100 ثور 0+ نصف الأرض المزروعة
اخمد شيكندر الشر للمماليك وقبض على رسل السلطان قلاوون 675 فأرسل السلطان قلاوون حملتين للتأديب استولت الحملة الثانية على النوبة 688 ثم تتابعت وفود إفريقيا تحمل الهدايا للسلطان قلاوون واستقرت الأمور أما في الداخل فقد اعتمد المماليك على نظرية أساس الملك القوة لا العدل وأصبح الوصل للوظائف الكبرى بالمال والخداع والرشاوي وقد وصل بهذه الطريقة إلى كرسي الوزارة 729 فلاح بسيط هو هلال الدولة وكذلك بالرشوة وصل علاء الدين بن الأثير إلى كرسي كتابة السر برشوة السلطان نفسه وإقصاء شهاب الدين بن فضل الله العمري كذلك كانت قوة الأقباط كبيرة حيث تولى الوزارة منهم شرف الدين بن صاعد الفائزي واتهم الناصر بمحاباة الأقباط لأنهم يجمعون المال له على حساب أقوات الشعب مما جعل الثورات تقوم ضد المماليك في الشام ومصر الزعر – الحرافيش – العربان كثورة الأعراب 680بين جهينة ورفاعة جنوب مصر وشرق السودان وثورة العربان 701بقيادة الأحدب العركي وانتصار السلطان الصالح بن ناصر عليهم وكذلك ما حدث بالشام من ثورة بعد تضيق نائبها عليهم 711 وفي هذه الفترة ثار الناس على المماليك بالقاهرة وحملوا الحجارة زالمقاليع وأغلق التجار دكاكينهم وأحاط العدام بالقلعة ونزل السلطان تحت رأيهم فعزل والي القاهرة .

الحياة السياسية في المغرب العربي في العهد المملوكي
1250 هـ - 1500 م
تمكنت دولة الموحدين من احتواء الغرب العربي الأندلس 550 هـ -1150 م ثم تفككت وقام على أنقاضها الدولة الحفصية في تونس ودولة بني مرين في المغرب ودولة بني عبد الواد في تلمسان وقد سعت كل دولة من الدول الثلاث لإعادة وحدة شمال إفريقيا لصالحها وأجبر الحفصيون جيرانهم على الرضوخ لهم وقد اعترف شريف مكة بخلافتهم بعد سقوط الخلافة العباسية بزعامة المستنصر الحفصي الذي ضعف نفوذه بعد الحملة الصليبية بقيادة لويس التاسع 668 هـ -1270 م وتنافس أبناء الأسرة على الحكم من بعده وازداد صراع أبناء القبائل البدوية وانقسمت تونس ثم عاد الحفصيون الوحدة ثانية إلى تونس وعادت الحياة الاقتصادية نشيطة وعقد الأوروبيون التجار معاهدات معها وازدهر العلم فيها وعاد الصراع حول السلطة من جديد (900 ه-1500 م ) ، فاحتلتها الأسبان وصرفت الدولة الزيانية جهودها للحفاظ على وجودها على الرغم من احتلال الدولة المرينية لها ومارست نشاطها التجاري الواسع وتعرضت الدولة المرينية للحرب من أسبانيا في استردادها للمدن العربية الأندلسية ولم تر الازدهار الحقيقي إلا في عام 700( هـ 1300 م ) تحت حكم سلاطينها الحسن بن علي وابنه عنان ثم وقعت السلطنة فريسة للنزاعات والصراعات الإقليمية المجاورة والقبلية الداخلية ثم تعرضت البلاد لهجمات البرتغال الذين احتلوا الكثير من مدن المغرب وازداد الأمر سوءا بعد دخول الأسبان على خط البرتغال واحتلال أجزاء من المغرب وقد أخفق المغاربة في استعادة وحدتهم حيث لعبت القبائل البدوية دورا في الصراع المغربي وانتشرت اللغة العربية بين مختلف الأقاليم وعاش المجتمع المغربي استقرارا نسبيا ووقعنت الهجرة الأندلسية العربية إلى بلاد المغرب وتتابع النشاط الفكري من مدارس و مساجد وظهرت الطرق الصوفية وبدا الغزو الأوروبي للمغرب عسكريا وتبشيرا مع فشل ذريع في ذلك .


الباب الأول
الفصل الثاني
الحياة الاجتماعية :
بدأت الخلافة العباسية بالتقهقر والتراجع بعد أن استحكمت سيطرة الموالي والمحاليك الذين تربوا على أيدي الخلفاء وأخذوا يتسللون إلى مناصب الدولة العليا إلى أن أصبحوا يتصرفون بمقدرات الأمة حيث استقلت بعض الأقطار عن جسم الخلافة واشتعلت نعرات كانت معاول هدم لهذه الخلافة ، وزاد على ذلك الزحف الصليبي المملوء بالحقد والبغضاء والذي اشتاح المدن وأزهق الأرواح بالإضافة إلى ما صنعه المغول والتتار والقادمون من هضبة التيبت والذين زحفوا على أرض العراق والشام كجموع الجراد فالتهموا كل ما اعترض طريقهم بعد أن اجتاح هولاكو مدينة بغداد أربعين يوماً نهب فيها المدينة وانتهكت الأعراض وألقيت ثمرات الفكر والثقافة والحضارة والعلم في دجلة الذي جرى ماءه ثلاثة أيام مصبوغاً بالمداد الأسود ، وقد كان عام (656هـ) إذاناً بسقوط الخلافة العباسية ثم تقدمت جموع التتار واستولت على حلب بالقوة ثم على حمص وحماة وعلى دمشق صلحاً حين هزم التيار بعد معركة طاحنة ، وأسس قطز في مصر والشام دولة قوية وصمد أمام غارات الفرنجة وهزم التتار مرتين أخريين عام(671هـ) وعام(675هـ)واستقدم أحمد بن الظاهر العباسي الذي كان والده آخر الخلفاء العباسيين ، وبايعه بالخلافة، وبقي المماليك يحكمون مصر والشام حتى عام(923هـ) إلى أن استولى العثمانيون على مصر وقتلوا ملكها ثم قام السلطان سليم الأول بخلع المتوكل على الله الخليفة العباسي ثم أخذ منه راية الجهاد وبردة الخليفة ثم امتد سلطان العثمانيين إلى العراق والحجاز واليمن وتونس والجزائر وبقي العثمانيون يحكمون البلاد العربية منذ عام(1517م) إلى عام(1916م) إلى أن تقاسم الأوروبيون الوطن العربي في معاهدة سايكس بيكو وقد اتسم المجتمع العربي في عصور الدول المتتابعة التي تزعمها المغول والمماليك والبربر بسمات القلق وعدم الاستقرار وانتشار الطوائف والملك والنحل، والاستكانة لظلم الحاكم الذي أصبح أمره لايخالف مطلقاً.
مثلما كانت الدولة الأيوبية 567 -648 هـ 1171-1250 م استجابة ايجابيا للتصدي للصليبية فان الدولة المملوكية 648-923 هـ 1250-1517 م كانت استجابة ايجابية لرد الغزو المغولي المتحالف مع الصليبين وبضعف الدولة الأيوبية استولى المماليك على السلطة وقتلت طوران شاه وأعلنت أمه شجرة الدر وهي من المماليك سلطانة على البلاد واستطاع بيبرس أن يكون الملك بعد معركة عين جالوت 658 هـ 1260م وقد حارب بيبرس وضع الإمارات الأيوبية تحت سيطرته وحارب الصليبيين واستولى على حصن الإسماعيلية الحشاشين وإعادة الخلافة العباسية إلى القاهرة بعد ثلاث سنوات بعد سقوطها 659هـ 1261م وعادت الخطبة للخليفة في أنحاء العالم الإسلامي وأصبح المماليك حماة الأماكن المقدسة ولقب بيبرس بخادم الحرمين الشريفين تيمنا بصلاح الدين حيث استرد القدس وأخرج الأشراف خليل الصليبيين من بلاد الشام وانتهى حكم المماليك البحرية 1382 وجاء المماليك البرجية الذي امتد إلى 1517م وتصدوا إلى المغول وقد عانت البلاد الشامية والمصرية في عهد هذه الدولة اضطرابات داخلية تمثلت بالصراع على السلطة وغارة تيمور لنك على الشام وفرض ضرائب جديدة وانتشرت المجاعة والأوبئة وضعفت الأحوال الاقتصادية واستند النظام المملوكي العسكري إلى نظام إقطاعي جاء متطورا عن النظام الإقطاعي السجلوقي حيث يعطي الضابط قطعة أرض بدل أجره من الدولة يعد الضابط مقابل ذلك فئة من الرجال للقتال بين 5- 500 كل بحسب رتبته ويستند أيضا إلى أقطاعات دينية تابعة للمساجد والمدارس والزوايا تمنح لأفراد معينين من العلماء يشرفون عليها وقد غدت هذه الاقطاعات عرضة للبيع والاستبدال
سمات المجتمع العربي في العصر المملوكي:
اتسم المجتمع العربي في هذه الفترة بالسمات التالية :
اعتزال العرب الأمور السياسية والحربية.
انصرفوا إلى الزراعة والصناعة والعلم والأدب.


سمات المماليك في هذه الفترة :
أما المماليك فقد تميزوا بالصفات التالية:
السيطرة على البلاد بالقوة ونشر الدسائس .
الاعتماد على الكتاب والعلماء في تنظيم أمور الدولة.
أبقوا اللغة العربية لغة الدولة الرسمية.
بناء المدارس والمساجد والمكتبات.
ساعدوا على ازدهار الحركة التأليفية.
طبقات المجتمع في العصر المملوكي :
انقسم المجتمع في العصر المملوكي إلى سبع طبقات
1- أهل الدولة من السلاطين والأمراء والوزراء وأرباب السلطة
2- التجار وأولي النعمة والرفاه واليسار
3- الباعة ومتوسطو الحالة من التجار أهل العز
4- أهل الفلح والزراعات والحرث وسكان القرى والريف
5- الفقراء وهم جل الفقهاء وطلاب العلم والجند
6- أرباب الصنائع والإجراء وأصحاب المهن
7- ذو الحاجة والسكنة الؤال الذين يتكففون الناس ويعيشون بهم
وقد تمتع بالمال أصحاب الطبقة الأولى والثانية وبقيت معظم الطبقات تعيش على ما تفضل به الطبقات الأولى والثانية ، واحتفظ المماليك بطوائفهم ودرجاتهم وأكثرهم من الترك والجراكسة والأكراد والتتار والروم واليونان والفرنجة وقد حاول السلطان الناصر أن يستخدم المصريين بدل المماليك ، فثار المماليك عليه ولم يسمحوا بتولي المصريين مناصب الجيش الرئيسية وقسم المماليك إلى طبقتين بحرية – برجية فسكنت البحرية جزيرة الروضة في النيل وهم من مماليك الصالح نجم الدين الأيوبي وسكن البرجية القلعة بجبل القطم وينسب أوائلهم إلى قلاوون وأبنائه وأحفاده وقد كان سلطان يكثر من شراء المماليك للجيش والخدمة والمتعة وخاصة صغارهم كما كان السلاطين يحرمون على العامة التشبه بهم في شراء المماليك وانضم إلى شراء المماليك أسرى الحرب من التتار والصليبيين والأرمن والفرنجة يدربون على فنون القتال ويترقون في الجيش ومناصب الدولة ونواب السلطان وحتى وصلوا إلى السلكنة كبتغا التتري ولاجين الرومي وقد كان السلاطين يقربون المماليك البحرية أحيانا والبرجية أحيانا أخرى من باب النافسة ولكن الجميع بقوا مملوكين في نظر السلاطين فإذا مات المملوك ولو كان قائدا ورثه سيده مع نسائه ومماليكه يتزيا هؤلاء المماليك بالزي المزركش واحتفظ سلاطين المماليك بالسلطة المطلقة وإن شاوروا العلماء والفقهاء يعيشون عيش الرفاه في قصور مزينة وتضم القصور أماكن للأعمال الرسمية واجتماع السلطان بأهل الدولة وتضم زوجات السلطان وسراياه وقيناته يشرف عليهن سيدة تسمى حدق وكان سلاطين المماليك يتزوجون من التتريات السبايا وبنات الملوك حيث تزوج السلطان الناصر بنت أخي أزبك ملك التتار وكان بعضهم يسرف في الميل للنساء كالمظفر حاجي دفع في خطبته 100 ألف دينار وقد كان الملك المنصور محمد يدخل بين نساء الأمراء ويمازحهن ويفسق في حريم الناس وقد يتخذ السلاطين الغمان الصباح الوجوه للخدمة والمتعة .
وتنعم المماليك بفاخر الثياب والحرير والديباج الموشى بالذهب حيث يرتدي السلطان قباء أحمر ويركب فرسا أصيلة يتفننون في قضاء أوقات اللهو كاللعب بالحمام ومنافرة الديوك ومعالجة الحجارة وركوب الحمير ومناطحة الكباش والصيد للوحوش والطير والغزلان ويحضرون مصارعة الأوباش وينفقون الأموال الطائلة على زواجهم وزواج أبنائهم وكذلك كانت أحوال أمراء المماليك في ذلك وكان من أصحاب الترف والثراء يلفا والملك شيخو حتى أن الأمراء خصصوا لترفهم من يحمل نعالهم ويسمى البشمقدار وقد كانوا يطلقون لثرواتهم وشهواتهم العنان وشاع بينهم الفسق بالغلمان وفي سبيل هذه الشهوات ارتكبوا المظالم ونكلوا بالناس وساموهم العسف والخسف وإذا غضبوا على العامة أعملوا بهم السيف كما صنع السلطان منصور القلاوون حيث ذهب الصالح بالطالح وعوقب من لم يجن وقد يرتكب السلطان الموبقات والمفاسد والمظالم فإذا ما شاخ بنى مسجدا أو مدرسة أو خانقاه للصوفية تكفيرا عن ذنبه وكان لبعض الولاة لصوص لسرقة أموال الناس يسمى عامل الحرامية يعملون على سرقة الأسواق والمحلات فيقتلون وينهبون وينتهكون الحرمات ، وشاعت فكرة تسخير العامة لأعمال البناء والجسور وشق الطرقات والترع دون أجر يسوقونهم من المساجد
وخاصة بعد صلاة الفجر، وتميز المماليك بالقسوة على الناس وعلى أنفسهم وكثر القتل والتآمر والتعذيب وابتداع أنواع جديدة منه واستخدموا السم للتخلص من النافسين وتقطيع المشتبه فيهم بالسيف وتسميرهم على الخشب والدوران به في الشوارع وقد تحمى طاسة وتوضع على رأس المعذب أو يجلس المعذب على الدست المحمى ويضرب الوتد في أذنه أو يدق القضيب في أضفاره وكذلك لجؤوا إلى التعذيب بالسلخ والعصر والتكحيل وفقىء الأعين وقد استخدم المماليك بعض أبناء الشام ومصر عونا لذلك حتى أن بعض الضباط تظاهروا بالإصلاح فيعذبون الناس ويسلبون أموالهم . يقول الشاعر شهاب الدين العرج 785هـ منددا بتقريب السلطان الناصر القبط وتحكيمهم برقاب الناس :
وكيف يروم الرزق في مصر عاقل ومن دونه الأتراك بالسيف والترس
وقد جمعته القبط من كل وجهة لأنفسهم بالربع والثمن والخمس
وكانت الوظائف التي يشغلها رجال العلم قسمين
1- دينية: القضاء والافتاء ووكالة بيت المال ونقابة الأشراف ومشيخة الشيوخ والخطابة
2- ديوانية: الوزارة - نظر الدولة – نظر الخاص – نظر الجيش – نظر بيت المال – نظر الإسطبلات – ونظر الأسواق _ والخزائن -والأملاك السلطانية -والمواريث ؛ وكان للوزراء رواتبهم المبالغ فيها والطائلة غير ما يقدم لهم من اللحوم وغيرها واغتنى الكتاب وأصبحت الدوى من الذهب والسكاكين المفقهة وبلغ بعض الفقهاء والقضاة درجة من اليسار من هبات السلاطين وتشبه كبار التجار بالسلاطين وقد قام العطارون والكحالون بمداواة الناس وكان الشاعر محمد بن دانيال كحالا يجلس إليه في دكانه الأدباء والشعراء والفقهاء ؛ وأما الفلاحون فقد انتعشوا فترة ثم انتكسوا لكثرة الضرائب ولشدة السنين وتوالي المحن وكذلك أرباب وأصحاب المسكنة فقد كانت حياتهم صعبة كذلك طلاب العلم والفقهاء والصوفية وكذلك كانت جماعات الحرافيش والزعران والحرامية حياتهم بين السؤال والسرقة وأما جماعة القلندرية الذين ينتمون إلى بعض الطرق الصوفية فإنهم يحلقون رؤوسهم ولحاهم وحواجبهم وشواربهم ويأكلون الحشيشة واختلط أجناس الأتراك والأكراد والجركس والروم والفرنجة وانبتت أجيالا جديدة .
ولم تكن المرأة في الموضوع اللائق حيث تجول الجواري في الأسواق وتعمل بعض النساء من الطبقات الفقيرة بالغزل والتطريز وخيوط الفضة والذهب وبعضهن اشتغلن بالعلم والتدريس مثل زينب بنت مكي وزينب بنت الكمال وبعض النساء اشتغلن بالمغاني وضروب الملاهي واحترف بعضهن البغاء بأماكن مخصوصة وعشن بين ملاحقة وتساهل وعرف الناس ألوان الأطعمة كالدميس والصير والصحناه والبطارخ وحلاوة القمح والفول المدمس والقطايف بشراب التفاح ودهن اللوز وشراب الليمون أما في المآتم فكان يضربون الدفوف والدرابك وتطوف بها النسوة في الشوارع وفي الأفراح يشعلون الشموع الكثيرة وإقامة الأعياد الدينية والقومية كعيد وفاء النيل وعيد المولد النبوي وموالد الأولياء وعند النصارى أعياد أول يوم في السنة القبطية ويحتفلون بعيد النيروز يحملون مختلف الفواكه واللحوم والحلوى وعيد الشهيد في منطقة شبرا حيث يجتمع الناس للهو وشرب الخمور وتتبرج الزواني وقد حارب الظاهر بيبرس أهل البطالة والفساد من العواهر والشذاذ ومدمني الحشيش من 664 – 666هـ ومن العجيب أن بعض السلاطين المماليك كانوا يضعون الضرائب على الغواني والزواني وأصحاب الحشيش والخواطي وقد كانت بعض النساء تحترف السرقة إلى جانب الدعارة وفشا في الناس شرب الخمر رغم معاقبة الظاهر بيبرس لشاربيها وكذلك اقبل الناس على ضرب الحشيش في أماكن مشهورة مع ممارسة المنكرات.






الباب الأول
الفصل الثالث
الحياة الاقتصادية في العهد المملوكي
تعد الزراعة في هذا العهد المصدر الأساسي في اقتصاد الناس حيث يعيش معظم الناس عليها وظلت التجارة محورا من المحاور الاقتصادية التي تدور حولها سياسة الحكام في الشرق الإسلامي لكونها موردا ثريا للربح ، وقد شغلت الناس التجارة في هذه الفترة بين المشرق والمغرب العربي ومع الجنوب الشرقي من آسيا مع العالم الأوروبي وخاصة تجارة البهارات والحرائر والأخشاب وقد جذب المماليك تجارة اليمن إليهم في عهد الدولة الرسولية وتنشطت التجارة بعد ذلك في جدة وقد أساء المماليك باحتكار بعض المنتجات كالسكر وإجبار الناس على سعر موحد لها مما زاد الحالة الاقتصادية سوءا احتكار تجارة طريق الهند من قبل البرتغاليين ومنع العرب منها ولم يكن للصناعة نصيب كبير في اهتمام الدولة المملوكية لأن همها كان منصبا على تحصيل الضرائب دون بعث نشاط اقتصادي صناعي بين الناس .
وخلفت القاهرة بغداد في النشاط الاقتصادي والتجاري والصناعي والزراعي بعد غزوات التتار وأصبحت القاهرة العاصمة الاقتصادية وأهم مركز للنشاط التجاري والصناعي والعمراني وكانت مصر الفسطاط والقاهرة مدينتين ثم دمجتا وارتكز فيهما كثير من الصناعات كصناعة الزجاج والفخار والجلود حيث كان يسكنها أصحاب المهن والحرف وقد نزح أرباب الدولة والوزراء إلى القاهرة وتجمعوا حول حي القلعة وبنوا قصورهم وقد كان في الفسطاط مصانع السكر والورق المنصوري ومصانع الجلود . وقد اشتهرت أسواق القاهرة بازدحامها بالتجارة وعمرانها بمختلف السلع والصناعات يباع فيها الفراء والجوخ والسلاع ولوازم الخيل وكان في القيسارية الصباغون والخراطون والحدادون والخشابون والحجارون القصارون والنحاتون والسراجون والشماعون والعطارون والنحاسون والفحامون وكذلك يباع فيها الرقيق والنحاس وقد ازدهرت التجارة بفضل طبقة من التجار أثروا على حساب الشعب ومن خلال الاحتكار والرقيق وعلى رأسهم التاجر اليهودي عبد العزيز الكريمي كما لعب التجار دورا أساسيا في العلاقات السياسية بين المماليك والدول المجاورة حيث لعب التاجر سكران دورا بين الملك الناصر محمد وملك التتار تم من خلاله زواج السلطان من ابنة أخ أزبك ويرجع للتاجر مجد الدين السلامي فضل عقد الصلح بين السلطان محمد وملك التتار 713هـ كما وأن العلاقات التجارية بين مصر والشام ودول المشرق والبحر المتوسط وأوروبا من الهند والغرب والتتار واليونان والفرنجة قائمة وأقام بعض تجار جنوة الفرنجية في مصر وكانت للتجارة علاقات خاصة بالسلاطين والأمراء ورجال الدولة أما النشاط الزراعي فقد أخذ مكانه مهمة في الشام ومصر وقام سلطان المماليك بكثير من الإصلاحات الزراعية كحفر ترعة الطبرية بالجيزة سنة 682هـ ، ففرح الناس وعمرت البلاد وحاول السلطان حسام الدين لاجين حصر ارض مصر وقياسها ووضعها بسجلات لوضع الخراج عليها وكذلك عمل السلطان الناصر روكا آخر بعد أن زاد الجند نصيبهم قيراطا وكذلك عمل الجسور بالجيزة وأقام القناطر لري البلاد وعم الرفاه الزراعي وكانت أرض الصعيد وفيرة المواشي وكان الرجل في عهد السلطان الناصر محمد قلوون يمر من القاهرة إلى أسوان
و يجد في كل ناحية دور للضيافة له ولدابته .
وفي الشام وحواضرها حلب ودمشق وبيت المقدس وطرابلس حصل ازدهارا كبير بسبب وقوعها على طرق التجارة بين الشرق والغرب ووجود جاليات إفرنجية عملت بالتجارة وأبطل في عهد الناصر كثير من المظالم والضمانات والمكوس ولكن كثرة الحروب وإسراف السلاطين والولاه جعل الحكام يعودون لفرضها والتشديد في جبايتها حتى لقي الفلاحون من مظالم الجباة والكشافين الكثير مما جعل الكثير منهم يتركون الأرض ويهربون وحدثت مهن كثيرة كما في محنة 695هـ في عهد كتبغار التي توفي فيها مئة وسبع وعشرون ألف إنسان وقد وقع غلاء في عهده بسبب جفاف أصاب الأرض في الشام ومصر وحدث غلاء آخر في عهد الناصر محمد 736هـ وعز القمح بل عدم من الأسواق ثم استقرت البلاد في عهده وعادت للمحن والغلاء 762- 776هـ وكان وقع الطاعون والأوباء أشد على الناس من وقع الغلاء والمجاعات وكان أشدها الطاعون العظيم 632 -633هـ حيث مات في شهرواحد (واحد وثلاثون ألف) إنسان ثم الطاعون الكبير749 هـ ومات فيه نصف الناس حتى الطيور والوحوش والكلاب وانتقل هذا الطاعون إلى الشام ومات فيه خلق كثير ومنهم الأعيان والعلماء والأدباء والشعراء ومن بينهم الشاعر الكاتب الفقيه عمر بن الوردي الذي نظم في هذا الطاعون أبيات قبل موته حيث يقول:
اأسفي على سكان مصر إذ غدا للطعن فيها ذات وخز ساري
الموت أرخص ما يكون بحبة لكن هذا صار بالقنطار
وهكذا كانت حياة الناس في عهد المماليك بين رخاء وعسرة وهدوء واضطراب مرة يثور الناس عليهم وأحيانا يقضون من صراعهم على الحكم وقد يقفون موقف اللامبالاة لأنه لا ناقة للشعب ولا جمل في صراع على الحكم يزيدهم بلاء وبلغ الإحساس بالتبرم والسخط مبلغا عظيما من هذا التغيير حتى قال شاعر في ذلك
زماننا هذا خرا وأهله كما ترى
ومشيهم جميعهم إلى دار ورا







الباب الأول
الباب الأول
الفصل الرابع
الحياة الفكرية في العهد المملوكي
بقيت الحياة الفكرية يانعة معطاء في هذا العهد وتركزت في بلاد ما وراء النهرين من خلال تشجيع الأسر التيمورية للعلم والعلماء وفتح المدارس وحماية الدين الإسلامي السني وتشجيع الإنتاج الفكري ، ومن المؤلفين في هذا العصر
ابن خلكان صاحب كتاب وفيات الأعيان 681هـ -1282 م
وابن أبي اصبعة 668 هـ 1269 م صاحب كتاب طبقات الأطباء
والقفطي 646 هـ-1248 م صاحب كتاب أخبار الحكماء
والصفدي 626 هـ 1362 م صاحب كتاب الوافي في الوفيات
وابن شاكر الكتبي 764 ه1362 م صاحب كتاب فوات الوفيات
ابن العديم الحلبي المؤرخ 660 هـ -1261 م صاحب كتاب تاريخ حلب
وجمال الدين الحموي 697 هـ 1297 م صاحب كتاب أخبار بني أيوب
وعلم الدين البرزالي الدمشقي 739 هـ 1338 م صاحب كتاب تاريخ مصر والشام
وأبو الفداء الأيوبي 732 هـ -1331 م في كتابة تقويم البلدان
وشمس الدين الذهبي 748 هـ -1347 م في كتابة تاريخ الإسلام وطبقات مشاهير الأعلام
وابن كثير 774 ه 1372 م صاحب كتاب البداية والنهاية
وابن حجر المسقلاني 853 هـ -1449 م صاحب شرح البخاري
والسنحاوي 902 هـ 1496 م صاحب كتاب الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ
والمقريزي 846 هـ -1442 م صاحب كتاب الخطط
وظهر من العلماء الموسوعيين ابن فضل الله الغمري 748 هـ -1386 م صاحب الموسوعة الجغرافية التاريخية مسالك الأبصار في مماليك الأمصار
و القلقشندي 822 هـ 1418 م صاحب صبح الأعشى في صناعة الانشا
والمؤرخ الكبير ابن خلدون 808 هـ -1405 م صاحب كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر
وابن جمة الحموي 837 هـ -1433 م صاحب كتاب خزانة الأدب
وابن تيمية 728 هـ -1328 م صاحب المؤلفات الإسلامية المشهورة
وابن قيم الجوزية 715 هـ - 1350 م صاحب كتاب الكتب الحكيمة في السياسة الشرعية
والنويري 676 هـ -1277 م صاحب كتاب تهذيب الأسماء واللغات وقد كثرت رحلات العلماء لطلب العلم والمحاورات بين العلماء وبقيت الحياة الفكرية تقيد ذاتها وتفقد روح الإبداع والتجديد لاتجاه أصحاب الفكر نحو التقليد والجمع . تجاذب الناس في هذا العهد القاسي نزعتان هما رفيقا أيام الشدة والعسر نزعة إباحية ونزعة زهدية وأحسوا بمرارة العيش ، فمال بعضهم نحو لذائد الدنيا يستمتعون بها غير متورعين ويكتبون عنها غير خجلين وانصرف آخرون إلى أمور الدين يستعيضون برجاء المستقبل عن ألم الحاضر والتجأ الشعراء إلى المدائح النبوية واستشفوا بالأولياء .
الزمخشري في علوم القرآن
وابن منظور المصري صاحب لسان العرب
وابن عقيل صاحب المقدمة في علم النحو .
ومن كبار المؤرخين ابن الأثير صاحب كتاب الكامل في التاريخ
وابن عساكر صاحب تاريخ دمشق
ومن أصحاب الطبقات ياقوت الحموي صاحب معجم الأدباء
وابن خلكان صاحب وفيات الأعيان .

وكان هذا العصر بمجمله وبالا على الأدب فقد بدد المغول نفائس المصنفات واحرقوا الكتب والمكتبات وشردوا رجال العلم وتلبدت سماء الأدب في عصر المغول وعميت البصائر وضلت القرائح لولا ومضة من ضوء تألقت لتسفر عن عبقري كابن خلدون إذ كان هم أصحاب الأدب الجمع لا الإبداع ويبدو أن هذا العصر كان عصر الموسوعات العظيمة نتيجة حرص العلماء على جمع أشتات العلوم بعدما فجعت الأمة في نكبة بغداد فضاع جل تراثها على أيدي المغول والتتار .
ومن مشاهير العلماء في هذه الفترة
لقد غلب على العصر المملوكي سمة التخلف والضعف عند بعض الباحثين وقد تمزقت البلاد الإسلامية التي كان يحكمها خليفة واحد وإدارة واحدة وبقيت الحركة الفكرية والأدبية الإسلامية مركزة في الشام ومصر بينما انفصل الكثير من البلاد الإسلامية عن العالم العربي والإسلامي سياسيا لا ثقافيا وأدبيا ودينيا وان ضعفت هذه الثقافة .
وإذا كان الأدب العربي والإسلامي قد حظي باهتمام كبير من الدارسين في العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام والعصر الراشدي والأموي ؛ فإنه في عصر الدول المتتابعة أي بعد سقوط 656لم يلق الاهتمام نفسه في العصر المملوكي وإن كان هذا العصر الذي امتد ستة قرون في حياتنا آثارا دامغة واللافت للانتباه أن الأدب العامي والفصيح في هذا العصر تداخلا واختلاطا وتمازجا .
حتى إنك تجد الأديب يكتب بالعامية والفصحى مما جعل الأدب يقترب من الشعب ويلتحم بحياته ونبغ أصحاب المهن والحرف الصغيرة في الأدب عامة والشعر خاصة كالجزار والوراق والحمامي والخياط والصائغ والكمال والعطار وتنوعت الكتابات بين الشعر والنثر والموضوعات الاجتماعية والأدبية والرسائل الديوانية والإخوانية واملقامات والتقصي وخيال الظل .
وأكثر ما يلفت النظر في أدب هذا العصر الموضوعات العلمية والأدبية وإسراف الأدباء في صور البديع الحسية والمعنوية ونزول الأدب إلى موضوعات سطحية لا تصلح للأدب كالمديح الذليل والأحاجي وغزل المذكر الغلمان والإسراف بالمجنون وموضوعات الجنس مما يشعرنا بالتقزز والاشمئزاز .
وعلى الرغم من هذه الموضوعات التي يتوقف الذوق عندها ؛ فإن وصف هذا الأدب بالجامد والعقيم والمنحدر ليس صحيحا وإن تسمية هذا العصر بعصر الانحطاط والانحدار أو عصر المماليك أو الأتراك أو عصر الأعاجم أو عصر المغول والتتار فيه ظلم وتعسف، وهو غير صحيح إذ كيف نسمي هذا العصر باسم الغزاة مع أن معظم عصور الأدب لم تخل من غزوات وحروب .
ولم يظلم عصر من الباحثين العرب والأجانب مثل هذا العصر مع أن القاهرة قد تألقت في هذا العصر وكذلك ازدهرت دمشق كعاصمة لبلاد الشام وزخرت كلتا العاصمتين بالعلماء والمصنفات وانتشرت دوائر المعارف الفكرية والأدبية وبلغ الفن أوج دقته في العمارة الإسلامية ويكاد يكون عصر المماليك من أزهى العصور
بعد استيلاء صلاح الدين على مصر وسقوط الدولة الفاطمية عمل صلاح الدين على نشر ثقافة الدينية وأبعاد ثقافة الدينية فأكثر من المدارس واستند على علماء الدين وأغراهم بنشر هذه الثقافة وفهم خلفاؤه على طريقته وتحولت المدن الكبرى إلى مراكز نابضة بالفكر ثم جاء المماليك من بعده واتبعوا سياسته ومكنوا لها في الشام ومصر من خلال بناء المساجد والمدارس وازدادت أهمية الشام ومصر بعد سقوط بغداد وفرار كثير من العلماء وكتبهم إليها وورثت الشام ومصر الزعامة الدينية والسياسية عن بغداد ومن العلماء الذين وفدوا من مشرق العالم الإسلامي الخطيب القزويني والتفتازاني والتبريزي وصفي الدين الحلي وكانت مدن مصر محطا للعلماء من المشرق والمغرب والأندلس كصاحب كتاب المطرب من شعر أهل المغرب وابن سراقة الشاطبي الأندلسي وسعيد علي بن موسى العالم الأديب صاحب كتاب ملوك الشعر وابن عصفور علي بن مؤمن النحوي الإشبيلي الذي أقام في حلب أستاذ ابن تيمية وابن جابر الضرير صاحب كتاب نقد الشعر وأثير الدين أبو حيان العالم النحوي الأديب المشهور والشريف الحسيني شارح مقصورة حازم القرطاجي كما وعمرت القاهرة بدور العلم والعلماء والمكتبات ومجالس الأدب وأسواق الوارقين وكذلك كانت دمشق تعج بالكتب وأسواقها وبنى الظاهر بيبرس المدارس في مصر والشام المسماة باسمه ودور الكتب وأقبل الناس على العلم في مدارس يقوم السلاطين بتكاليفها وشيوخها وكانت هناك مدارس الفقه والحديث والتفسير وتعليم القرآن وازدهر الجامع الأزهر في عصر المماليك وتولى التدريس فيه كبار العلماء وألقى به ابن عطاء الله السكندري مواعظه وحكمه المشهورة وبنيت مدارس الصالحية والعزية والظاهرية والمنصورية والشيخونية ومدرسة السلطان حسن بالقلعة والمدرسة الصرغتمشية والمدرسة العاشورية وكان في الإسكندرية مدارس كثيرة حفلت بالكثير من العلماء من بينهم قاضي الإسكندرية ابن المنير والزاهد القباري وكذلك كانت في الصعيد مدينة قوص وأسيوط وعرفت بأسيوط المدرسة الفائزية ودرس فيها الحضراوي 663هـ وابن الحطاب السيوطي وكان فيها المحدثة ست الشام بنت أبي صالح رواحة وابن الأثير القرشي وخرج منها القاضي عز الدين محمد بن أحمد إبراهيم 735هـ وزين الدين الجعفري الأسيوطي ومحمد بن حمزة الأسفوني الفقيه الفاضل والمحدث عمر بن علي بن شرف الدين السيوطي وفي مدينة قوص كانت المدرسة النجيبية التي تخرج منها البهاء زهير وجمال الدين بن مطروح وتولى القضاء فيها ابن دقيق العيد وكان منها ابن اللمطي عمر بن عيسى الشاعر الأديب وكانت دمشق عامرة بالمدارس والعلماء ومن أشهر مدارسها دار الحديث الظاهرية ودار الحديث الأشرفية الناصرية البرانية والناصرية الجوانية وكان الجامع الأموي جامعة للعلوم تولى التدريس به الخطيب القزويني وتقي الدين السبكي وابن كثير وحفلت حلب بالمدارس والعلماء واهتم الناس بالعلم وشغفوا بالكتب واقتنائها كسيرة عنترة وكتب بعض الكتبة الخط في الزواج : (مشارق الأنوار للصاغاني ومصابيح السنة لليغوي وجامع الأصول لابن الأثير وعلوم الحديث لابن الصلاح والتيسير للنووي وزاد الاهتمام بكتاب الكشاف للزمخشري شرحا وتعليقا وحاربه علماء السنة) وغلب على العصر المملوكي التعليم الديني وعلى رأسها علوم القرآن والحديث والتفسير ونبغ علماء من مثل عز الدين بن عبد السلام وابن النقيب الذي حرف همته للتفسير والكواشي صاحب القراءات والتفسير وابن كثير العالم المؤرخ الفقيه المفسر والزركشي والمنذري وابن دحية الأندلسي الأصل وقطب الدين القسطلاني وتاج الدين القسطلاني وشرف الدين القسطلاني وشرف الدين عبد المؤمن العلامة النسابة المشهور والحافظ بن علي الحلبي المصري وابن قايماز الذهبي ومغلطاني البكجري العارف بأنساب رجال الحديث والحافظ العراقي وفي الشام ابن الغلابسي أسعد بن المظفر والمؤرخ القاسم ابن يوسف الاشبيلي البرزالي وفتح الدين القيسراني والحافظ المزي وابن الأعز وابن الرفعة المصري وبدر الدين ابن جماعة وابنه عز الدين وابن سيد الناس وآل سبكي وزين الدين السبكي وتقي الدين السبكي وبهاء الدين السبكي وتاج الدين السبكي ومن فقهاء الشام ابن تيمية وابن قيمة الجوزية ابن كثير والبارزي وعلاء الدين القونوي وابن الأذرعي ضياء الدين والأذرعي شهاب الدين وعيسى بن عثمان الغزي وابن مفلح الحنبلي .
وكتب العلماء كتبا في التاريخ الإسلامي والتاريخ البشري منذ بدء الخليقة كالبداية والنهاية لابن كثير وكتب العلماء في السير العامة ككتاب وفيات الأعيان لابن خلكان وكتاب العبر في أخبار من عبر وطبقات الحنابلة لابن رجب ونكت الهيمان في نكت العميان للصفدي وقد كان بعض المؤرخين يغلب عليهم التعصب والتملق وخاصة للسلاطين ومن أشهر المؤرخين للتاريخ العام سبط ابن الجوزي وابن الساعي وأبو الفداء وابن الغوطي وله كتاب تاريخ من آدم حتى خراب بغداد والبرازلي وابن الوردي الذهبي وله كتاب تاريخ الإسلام وابن كثير وشهاب الدين ابن فضل الله العمري صاحب كتاب مسالك الأبصار وشهاب الدين النويري صاحب نهاية الأدب وأبو شامة صاحب كتاب الروضتين والأفودي جعفر بن ثعلب وكمال الدين بن هبة الله صاحب تاريخ حلب وكذلك اهتم مؤرخ العصر المملوكي بكتابة الطبقات والسير كابن خلكان والقفطي وابن شاكر وصلاح الدين الصفدي وتاج الدين السبكي فكتب ابن خلكان وفيات الاعيان وكتب القفطي أنباه الرواه على أبناه النحاه وكتب السبكي الطبقات الكبرى والصغرى وابن رجب الحنبلي طبقات الحنابلة والعسقلاني في الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة وكتب سيرة المنصور قلاوون والسيرة المنصورية .
وكتب في علوم اللغة والنحو علماء كثيرون من أمثال ابن الحاجب صاحب الكافية والشافية والألفية لابن مالك وابن النحاس وابن مكتوم وأبو حيان الغرناطي صاحب كتاب البحر المحيط في التفسير وابن المرحل المحقق اللغوي وابن هشام الأنصاري صاحب كتاب مغني اللبيب وابن عقيل صاحب شرح ألفية ابن مالك وابن الجزري وابن عصفور ومن علماء اللغة الصاغاني وابن الصائغ وابن منظور وكتب في العلوم العقلية الطبيعية نصير الدين الطوسي الفيلسوف عالم الرياضة والطبيعيات الفارس كتاب المتوسطات في الهندسة وعلم الهيئة وكتاب مقدمة الهيئة وناقض الفخر الرازي وكتب التجرير في المنطق وعلم الكلام وكتب عضد الدين الأبجي كتاب مواقف الإسلاميين في علم الكلام ومقدماته وكان من تلاميذ التفتزاني والكرماني ووفد إلى الشام قطب الدين الشيرازي وجاء إلى مصر أبو بكر السنجاري وقتل بالشام ومصر عدد من التفلسفين ابن صدقة أحمد بن محمود الحلبي الأديب لمقالاته الردية الزنديقية كما روي وحذر ابن السبكي من قراءة كتب الطوسي كما أفتى جماعة من أئمة ذلك العصر ومشايخه بتحريم الاشتغال بالفلسفة وتبع في هذا العصر أطباء وصيادلة منهم شعراء وأدباء كالدنيسري الحكيم البارع الأديب الشاعر وقد كتب المقالة الرشيدة ودرج الأدربة في الطب والأدوية لا يضاهيه أحد في عصره في الطب والعلاج والعلوم وله كتاب الشامل في الطب والمهذب في الكحل وكتاب الموجز وقد شرع القانون لابن سينا .


الباب الأول
الفصل الخامس
الحياة الدينية في العصر المملوكي
قسمت الأحكام في عهد المماليك إلى قسمين:
سلطة شرعية: مستمدة من الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية
وسلطة زمنية: مستمدة من قوانين وضعية وشرائع في سياسة الحكم وتدبير الملك مستمدة من الشرائع غير الإسلامية الفارسية والمغولية .
وقد أراد المماليك الحفاظ على المظهر الإسلامي فاحتفظوا بالسلطة الزمنية والسياسية وتركوا السلطة الدينية للخليفة ومن يعاونه في تنفيذ أحكام الدين وقام الظاهر بيبرس باستقدام اأحد أبناء الخلفاء العباسيين ونصبه خليفة وكان منصب قاضي القضاة يأتي بالدرجة الثانية بعد الخليفة ، وجعل المماليك القضاة أربعة يمثلون المذاهب السنية الأربعة وتولى بعض القضاة مناصب إدارية كالوزارة والتدريس وكذلك كان منصب الخطابة هاما ومثله منصب شيخ الشيوخ وكان لرجال الدين غير الرسميين احترامهم سواء كانوا فقهاء أم أشراف أو عباد أونساك أو صوفية وقد ظلت العلاقة بين سلاطين المماليك ورجال الدين بين شد وجذب يستشير السلاطين رجال الدين في الملمات والحروب ويكرمونهم ويبالغون في إقامة الحدود مع العلم أنه لم يكن الوفاق دائما بين السلطتين الدينية والزمنية وقد دفع العلماء الفقراء للهجوم على الحشاشين والخمارات وتدخل السلطان لحماية الحشاشين بعد أن ادعى أنه مع الفقراء .وكان الفقهاء ورجال الدين يحملون لواء الثورة على المماليك خاصة بعد زيادة الضرائب وكان المماليك لا يتورعون في التجسس واستراق السمع وتلقط أخبار الناس غير مراعين انتهاك الحرمات يهتمون بالدين مظهرا لا مخبرا وخاصة الأعياد والمناسبات الدينية كليلة النصف من شعبان وذكرى المولد النبوي وموالد الصالحين كما كان التعصب للمذاهب ظاهرة دينية بعين العلماء وكان الشافعية أقل تشددا من المالكية والحنابلة وحارب ابن تيمية البدع والفساد وشرب الخمر والحشيش وزيارة قبور الأولياء وارتكاب المفاسد وقطع الصخرة التي كان أهل دمشق يعتقدون أن عليها قدم النبي لأنه رأى الناس يتبركون بها وأنكر على الرفاعية الصوفية طريقتها من لبس الأطواق الحديد وتلبيد الشعور وأكل الحيات وكان العامة يهاجمون أماكن بيع الخمور والحشيش والفساد كما وأن السلاطين تعصبوا للمذاهب بحيث يقدموا العطاء لمن يتمذهب بمذهبهم وقد يكون التوصل إلى غاية دنيوية بقلب الشخص مذهبه وقد عاب السبكي التعصب الأعمى للمذاهب وقد عارض الذهبي الأشاعرة وأما علماء الشيعة فقد اهتموا بالفلسفة والعلوم العقلية وكان منهم جمال الدين المطهر
وقد تميز المسلمون بلبس العمائم الزرق واليهود بلبس العمائم الصفر وقد وقعت بينهم وبين المسلمين فتن كثيرة ففي سنة 711هـ كوقعة أهل الذمة والأحداث الدامية وشبت حرائق القاهرة التي دبرها الأنباط وحرائق دمشق 740ه حيث شبت النار بالدكاكين والمسجد الجامع . كل ذلك والمماليك لأهم لهم إلا الحفاظ على الملك وإن أدى ذلك إلى إفساد الرعية .



الباب الثاني
اتجاهات الشعر في عصر الانحدار وموضوعاته
مقدمة :
لقد رسمت تفاصيل الحياة والواقع في عصر الانحدار شعر هذا العصر بملامحها بما حوته من أحداث سياسية واجتماعية وفكرية وعقدية وكان الإحساس بالضعف الموضوعي أبرز آثار العصر حيث ضعفت الصياغة وتهلهل البناء وقل الإبداع والابتكار وكثر الإسراف في الاهتمام بالشكل على حساب المضمون والإيغال في العامية بسبب ابتعاده عن الرؤساء والزعماء وتقربه من عامة الشعب وذلك لكون الزعماء من الأعاجم الذين لا يفهمون هذا الشعر ولا يتذوقونه وكان السلاطين المماليك أميل إلى الشعر العامي لأنه أقرب إلى اللغة الدرامية كما عند السلطان قلاوون الذي لم يكن يجيد العربية وقد أدى ذلك إلى تجاهل الفصحى وزهد الأدباء الكبار بها وبالشعر يقول ابن دقيق العيد :
وزهدني في الشعر أن سجيتني بما يستجيد الناس ليس تجود
ويأبى لي الختم الشريف رديه فأطرده عن خاطري وأذود
وقد كان ينفق على الشعراء من مال الصدقات بأمر قاضي القضاة فإذا ما وقعت معركة عسكرية ذاد بها المماليك عن الإسلام وبلاده جاءت قريحة الشعراء وقد صور ذلك إبراهيم الغزي قائلا :
في فتية من جيوش الترك ما تركت للرعد كراتهم صوتا ولا صيتا
قوم إذا قوبــــلوا كانوا ملائــــــــــكة حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
ولكن الشعر في هذا العصر كان غريبا يشعر فيه الشعراء بالاغتراب وهذا ما دفع الشعراء أن يكتبوا في موضوعات التصوف والمديح النبوي والغزل الروحي والحنين والشكوى والابتهال وترجع أسباب غربة الشعراء في هذا العصر إلى تألب الأعداء الخارجين على بلاد المسلمين(تتار – صليبيين ) و الصراع بين الوجود العربي والإسلامي وكون حال المسلمين والعرب لا تسر وسيطرة الروم السلبية على الناس وعدم التمسك بالقيم الدينية وقد قل الشعراء المحترفون وشاع النظم بين المتعلمين من قضاة وفقهاء وأصحاب حرف ولم يرتق الشعر في مستواه إلى رتبة الشعر الجيد واستخدم الشعراء الألفاظ والمعاني الدينية القرآنية والحديثية ومن القصص الدينية وحياة الزهاد والصوفية ومن ذلك قول الشهاب الحجازي في فتاة باكية تدعى جنة .
قد قلت لما أن بكت واغتدت كأزهار في روضة زاهية
جارية أعينها جــــــارية وجنة أعينها جـــــارية
وقد بقي الشعر الموروث ينشد في مجالس القوم مذاكرة واستشهادا وكانت غلبة الروم العامية على الشعر وقربه من الشعب أحد أسباب اتصاله بالمجتمع ومسايرة حياة الناس واشتهر شعراء بقصيدة واحدة كلامية الطفرائي وتائية ابن الفارض وبردة البوصري الميمة ومن القصائد ماعرف بالبدعيات وهي مدائح نبوية فتحت أبوابا من البديع كبديعية صفي الدين الحلي وبديعية ابن جابر الأندلسي وبديعية ابن حجة الحموي .




الباب الثاني
الفصل الأول
أبرز أغراض الشعر في عصر الانحدار:
كتب الشعراء في هذا العصر في معظم أغراض الشعر العربي وأضافوا ما استجد في عصرهم من قضايا أخرى، وأهم هذه الأغراض:
1-الممارسة والنضال:
وهو غرض كان له من الأهمية المنزلة العظيمة بسبب صراع العرب المسلمين مع الفرنجة والتتار إذ أن الشعراء حملوا على عاتقهم مهمة تحميس الجند من أجل الجهاد والنضال، وكانت المعارك التي وقعت بين المسلمين من جهة والتتار والصليبين من جهة ثانية مادة حية لهذه الأشعار والتصفح لشعر الجهاد والنضال في هذا العصر يجد كماً كبيراً من الأشعار بعضها يبكي سقوط الخلافة، وبعضها يدعو إلى الجهاد من أجل استعادتها من ذلك قول تقي الدين اسماعيل التنوخي:
لسائل الدمع عن بغداد أخبارُ
فما وقوفك والأحباب قد ساروا
تاج الخلافة والربع الذي سرُفت
به المعالم قد عفّاه إقفارُ
ومن ذلك أيضاً قول شهاب الدين محمود الكوفي:
إن لم تقرح أدمعي أجفاني من بعد بعدكم فما أجفاني
إنسان عيني مذ تناءت داركم ما راقه نظر إلى إنسان
وإذا كان الزنكيون والأيوبيون قد تولوا عبء الصراع مع الفرنجة ، فإن المماليك قد تولوا عبء الدفاع ومنازلة المغول ، وقد استطاع الملك المملوكي قطز أن يقضي على المغول ويردّ زحفهم بعد أن احتلوا حلب وحماة ودمشق ، وقد قام قطز بقتل رسل المغول الذين جاؤوا يدعونه إلى الاستسلام ، وكانت عين جالوت المعركة الحاسمة إذا اعتبرت من أهم معارك المسلمين ، وصنفت في مصاف معركة اليرموك و القادسية والزلاقة.
ومن الشعراء الذين كتبوا الشعر في تلك الفترة الشاعر شرف الدين الأنصاري حيث قال في مدح المنصور الثاني:
جرّدت يوم الأربعاء عزيمة خفيت عواقبها عن الإدراك
وأقمت في يوم الخميس مبالغاً في الجمع بين طوائف الأتراك
قعّدت أبطال التتار بصولةٍ تركتهم كالصّيد في الأشراك
وقال أيضاً في الفرنجة و المغول، وقد قضى في إحدى المعارك على ثلاثة آلاف منهم وذلك في الجزيرة (671هـ) :
سر حيث شئت لم المهيمن جار واحكم فطوع مرادك الأقدار
حملتك أمواج الفرات ومن رأى بحراً سواك تقله الأنهار
وقد فتح المماليك بعد الظاهر بيبرس بزعامة المنصور قلاوون طرابلس الشام، وبناها من جديد بعد أن خربها التتار وفتحت عكة من قبل الأشرف خليل بن منصور قلاوون. ولمّا هاجم الفرنجة الإسكندرية عام (767هـ) وأسروا ونهبوا وقتلوا قسماً كبيراً منها، رثى شهاب الدين ابن مجلة هذا الثغر قائلاً:
أتاها من الإفرنج سبعون مركباً وضاقت بها العربان في البرّ والبحر
وقد صور شعر الحماسة الأحداث العامة في ذلك العصر وعبّر عن الآلام والآمال واتجه نحو التصنع والتلاعب اللفظي، وقد كان شعراء ذلك العصر يشعرون بالغربة عن أوطانهم بينما الحكام يعيشون بازدواجية، مع أن العواطف في شعر ذلك العصر كانت صادقة بسبب الأحداث الجسام.
وأهم الصفات المشتركة بين قصائد ذلك العصر:
الإشادة بالفتح والفاتحين.
جعل عمل الفاتح خالصاً لله.
التهنئة بالنصر.
وصف فرح الناس بالنصر.
تصوير المدن المفتوحة.
وصف المعارك حول القلاع.
التأكد والتأكيد على إبادة الأعداء.
التفاؤل بانتصارات جديدة.
قفل القصيدة بالدعاء والثناء.
2-المديح:
ويتضمن هذا الغرض أنواع عدة:
أ-المدائح النبوية: وهي قصائد قيلت في مدح الرسول محمد عليه السلام وآل بيته، وقد ساعد على ظهورها العوامل التالية:
اضطراب الأحوال السياسية
سوء الأحوال الاجتماعية
قلة الموارد الاقتصادية
تكالب الطامعين بالأمة وخيراتها.
وقد دفعت هذه العوامل الناس إلى الالتصاق بالدين والاستشفاع بالرسول لتفريج الكرب مع العلم أنه من الواجب الدعالله تعالى ، وقد غذّي المماليك اتجاه الاحتفالات الدينية مما جعل هذا اللون من أنشط الألوان الأدبية.
وقد ذكر الشعراء معاني لهذه المدائح منها:
أخبار الرسول 2– صفاته ومعجزاته3
الحديث عن المدينة المنورة4
ذكر آل البيت 4
–ذكر الخلفاء الراشدين .
من ذلك ما قاله البوصيري:
أمن تذكر جيران بذي سلم مرجت دمعاً جرى من مقلة بدم
أم هبّت الريحُ من تلقاء كاظمةٍ وأومض البرق في الظلماء ومن إضم
وقد حذّر الشاعر في نهج بردته من هوى النفس وقال:
النفس كالطفل إن تهمله شبّ على
حبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرف هواها وحاذر أن توليه
إنّ الهوى ما تولّ يصم أو يصم
ب- مدح الحكام والعظماء:
وقد سار هذا المدح على طريقة الأقدمين طلباً للعطاء والنوال ولبلوغ المراتب الوظيفية عند السلاطين ولن تقعد معانيه الشجاعة والكرم والحكم والعلم، وقد أغار شعراء هذا العصر على معاني غيرهم واستباحوا ورجعوا إلى ظاهرة الوقوف على الأطلال أو الغزل أو وصف الطبيعة.
يقول ابن نباته مادحاً الشهاب محمود الشاعر الذي كان من كبار كتاب الإنشاء وكاتب السر للملك :
إمامٌ إذا هزّ اليراع مفاخراً به الدّهرقال الدهر: لست هناكا
علوت فأدركت النجوم فصفتها كلاماً ففقت القائلين بذاكا
ج - مدح الأصدقاء والأقرباء:
وغالباً ما يكون أقرب إلى الصدق وإن كانت المبالغات تغزو معانيه، وتسيطر عليه الصنعة البديعية، من ذلك ما مدح به ابن نباته صفي الدين الجلّي:
3-الرثاء:
نظراً للأحداث الجسام التي مرت على الأمة الإسلامية وما حصل من معارك نتج عنها الموت والقتل والتخريب فقد واصل شعراء هذا الغرض فن الرثاء، فقد برز في هذا الغرض ثلاثة أنواع:
أ-المراثي الخاصة: التي قيلت في أناس أعزاء على قلب الشاعر كما في رثاء يحيى شرف الدين لزوجه فاطمة بنت عبد الله الموصوفة بالفضل والكرم فيقول:
وما فاطمٌ إلاّ الحور أخرجت
لنعرف قدر الحور قمّت ردّت
وكما في رثاء صفي الدين الجلّي لعبدٍ مملوك له، ربّاه من صغره حتى صار كاتباً فطناً:
هدّ قلبي من كان يؤنس قلبي إذ نبذناه بالعراء سقيماً
ونأى يوسفي فقد هذبت عبد مناي من حزنه وكنت كظيماً
ب-المراثي العامة: وهي كثيرة تقوم على الإشادة بصفات المرثي وكريم مزاياه
من خلال المبالغة والصنعة من ذلك قول ابن نباته في رثاء الملك المؤيّد:
ليت الجمام حبا الأيام موهبة فكان يفني بني الدنيا ويبقيه
لهفي على الخيل قد وقت صواهلها حقَّ العزا فهو يشبجيها وتشجيه
ج -رثاء الممالك والمدن: كما في رثاء بغداد التي سقطت بيد المغول:
إن لم تقرح أدمعي أجفاني من بعد بعدكم فما أجفاني
إنسان عيني مذ تناءت داركم فما راقه نظرٌ إلى إنسان
ومن ذلك أيضاً قول تقي الدين:
ناديت والسبي مهنوك يجرههم إلى السّفّاح من الأعداء وعّار
يا للرجال لأحداث تحدثونها بما غدا فيه إعذارٌ وإنذارٌ
وأيضاً قول بهاء الدين الهائي يرثي دمشق:
لهفي على تلك البروج وحسنها حفّت بهن طوارق الحدثاني
كانت معاصم نهرها فضية والآن صرنا كذائب العقيان
4-الغزل:
وهو غرض أكثر منه الشعراء في العصر المملوكي فأفردوه حيناً بقصائد مستقلة وجعلوه أحياناً في مطالع مدائحهم وقد كان هذا الغزل يطل برأسه من خلال العتاب والرضى والافتتان والشكوى تعبيراً عن المشاعر يحمل في طياته التقليد حيناً والتجديد أحياناً أخرى، وقد انطلق شعراء هذا العصر بغزلهم من مفاهيم جمالية تقليدية غالباً وتحدث الغزل عندهم عن:
آ- وصف محاسن الحبيب: حيث شبّهوا وجهه بالبدر والشمس وشعره بالليل، ورحيق الثغر بالخمر، ونظرات العيون بالسهام والحواجب بالقسي، وقدّه بالرماح وصدغه بالعقربة. ومن ذلك ما قاله التلعفري:
لو تنعق الشمس قالت وهي صادقة ما فيَّ فيها، وما فيَّ الذي فيها
هبني أماثلها نوراً وفرط سناً من أين أملك معنى من معانيها
ب- وصف أموال المحبين: حيث جعلوا المحبّ يحزن وشوق وصبابة، وجعلو المحبوبة قاسية ظالمة لا تلين، وجعلوا وصله أبعد من الثريا .
ج- الحديث عن الوشاة والرقباء: ومتاعب وعثرات الحب حيث اتهموا العذال بالبلادة، وجعلوا أعين الرقباء مخيفة نظارتها حاقدة وحاسدة، وذلك لينتهزوا الفرص و لينهلوا مما يطيب لهم.
د- الحديث التركي والمغولي والهندي والفارسي والإفرنجي والكردي والزنجي: وتغيرت معايير الجمال من العيون النجلاء الحوراء إلى العيون الضيقة.
يقول ابن نباتة:
وحبيب إليّ يفعل فعال الأعداء بالأجداء
ضيق العين إن رنا واستمعنا وعناء تسمّع النجلاء
وأيضاً :
بهت العذول وقدر رأي ألحاظها تركية تدع الحلم سفيهاً
فثنى الملام وقال دونك والأسى
هذي مضايق لست أدخل فيها
وكذلك وصفوا العيون الزرقاء كما في قول ابن نباته:
وأزرق العين يمضي حدّ مقلته مثل السنان بقلب العاشق الحذر
قالت صبابة مشغوف بزرقتها دعها سماويّة تمضي على قدر
هـ- الإعراض عن ذكر الأسماء كزينب ورباب وسعدى وهند وأسماء إلى أسماء جديدة هي واقع الحال
يقول ابن نباته:
على ضيّق العينين تسفح مقلتي ويطربني لا زينب ورباب
فيارشأ الأتراك لاسرب عامر فؤادي من سكني السكون خراب
و- الحديث عن زيارة طيف المحبوب وخياله في المنام واليقظة: وفي ذلك يقول الحلّي:
ما بين طيفك والجفون تواعد
فيفي إذا خُيّرت أني راقد
إني لأطمع في الرُّقاد لأنه
شرده يصار به الغزال الشاردُ


5- الوصف :
وقد تناول هذا الغرض الأحاسيس المرئية والباطنية حيث وصفوا المعارك وما يتعلق بها ، والطبيعة وما تحتوي عليه والمظاهر المدنية كالأسواق والولائم والشوق والألم وآلام الجوع وتقلبات الزمان.
يقول النواجي القاهري في وصف مخدة:
هي نفع ولذة للنفوس وحياة و راحة للجليس
كم نديم أراحته باتكاء وتواضعت عند رفع الرؤوس
ومن ذلك قول أحدهم:
عجبٌ عجيبٌ عجبٌ بقرة تمشي ولها ذنب
ويقول ابن نباته واصفاً الفقر :
أشكو إلى الله ما أقاسي من شدة الفقر والهوان
أصبحت من ذلةٍ وعُريٍ ما فيّ وافٍ سوى لساني
6- الهجاء :
وقد برز بصورته الفردية واختفى بصورته القلبية وركّز على العيون والمثالب ومزج السخرية بذلك.
7- الخمريات والمجون:
وهو من تواصل ذكره في هذا العصر بعد أن انتشر شرب الخمور وأصبح نوعاً من التحضر والرقيمع أنه انحطاط وتخلف ، ساعد على ذلك انتشار فلسفة انهزامية تدعو إلى الاستمتاع بالحياة قبل زوالها بسبب ما حلَّ بإنسان ذلك العصر من تشريد وقتل وتدمير وخراب، وانتشرت مجالس الخمرة في الطبيعة وزال الحياء بحيث تقام هذه المجالس مصحوبة بالرقص والغناء في المنازل أو على برك الأنهار.
يقول الشاب الظريف:
ناوليني الكأس في الصّبح ثمّ غنّي لي على قدحي
واشغلي كفّيك في وترٍ لاتهدّيها إلى السّبح
8- الحنين والشكوى :
وقد كثر الحديث عن هذا الغرض بسبب انتشار الفقر والحرمان وتنكر الأصدقاء وغدر الزمان، يقول ابن نباته:
أشكو لأنعمك التي هي للعفاة سحائب
حالي التي يرثي العدوّ لها فكيف الصاحب
9- المطارحات والشتويّات والتهاني:
وقد كثرت هذه المناسبات فتبادل الشعراء قصائد الأخوّة والمحبة، من ذلك ما قاله شهاب الدين لابن نباته:
البرق في كانونه قد نفخ والثلج في جيب الغوادي نفخ
قد زمجر الرعد بآفاقه كأنه مما دهاه صرخ
فأجابه :
ما البرق في كانونه قد مدح والغيم في كفّ الثريا قدح
أضوأ من ذهنك ناراً ولا أرق من لفظك كأساً طفح
10- الطرديّات:
وهي قصائد كتبها الشعراء في الصيد و وصف الخيول والفهود والكلاب المدربة. يقول صفي الدين الحلّي في وصف صقر:
والطير في لجّ المياه تسري كأنها سفائن في بحر
حتى إذا لاذت بشاطئ النهر دعوت عبدي فأتى بصقري
من الغطاريف الثقال الحمر مستبعد الوحشة حجمّ الصّبر

11- الألغاز والآحاجي :
وهي أبيات تحمل لغزاً من الألغاز أو أحجية من الأحاجي من ذلك ما قاله ابن نباته للغز في (علي):
أمولاي ما أسمٌ جليٌّ إذا تعوّض عن حرفه الأول
لك الوصف من شخصه سالماً فإن قلعت عينه فهو لي

12- الشعر التعليمي :
وهو من المنظومات التي قالها العلماء في علوم الصرف والنحو والبلاغة والعروض والمنطق والحديث والصرف مثل ألفية ابن مالك في النحو والصرف:
كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقم اسم ، وفعل ثم حرف الكليم
13- ألوان شعرية مستحدثة :
وهو ما كتب على طريقة غير العرب أو ما اخترعوه العرب في العصور اللاحقة وأهم هذه الألوان:
آ- الموشحات: بصرف النظر عن كون الموشح فناً عربياً أندلسياً أو مستوحى من الشعوب الأخرى فإنه كان قريباً من الأغاني الشعبية استلطفه أهل الأندلس وكتبوا على منواله وتبعهم شعراء عصر الانحدار ، وقد كان ابن سناء الملك أول من درس هذا الفن في ( دار الطراز ) . وممن نظم في الموشحات ابن نباته وابن دانيال والتلعفري والعزازي وابن سودون وابن عربي ، وعائشة الباعونية.
وقد كتب الشعراء هذا العصر جميع موضوعاتهم على طريقة الموشحة يقول التلعفري في موشحته الدينية يرد بها على العزازي الذي يعمل بزازاً في القاهرة :
ليس يروي ما بقلبي من ظما غير برقٍ لائحٍ من أضم
إن تبدّى لك بان الأجرع
و أثيلات النقا من لعلع
يا خليلي قف على الدار معي
وتأمل كم بها من مصرع
واحترز و احذر فأحداق الدمى كم أراقت في رباها من دم

ب- الزجل :
وهو فن شعبي أكثر قرباً للغناء من الموشح يعتمد على اللهجة الدارجة ، وقد نشأ في أواخر القرن الرابع الهجري في الأندلس ثم طار إلى المشرق في القرن السابع، وشاع في حفلات الأعراس وتميز بالصنعة واشتهر به الأمشاطي وصفي الدين الحلّي ومقاتل .
ج- الرباعيات :
هذا الفن مأخوذ عن الفرس من وزن (الدوبيت ) وله أوزان أشهرها:
فعلن – متفاعلن – فعولن – فعلن.
ومن ذلك قول الشاب الظريف:
قاسيت بك الغرام والهجر سنين ما بين بكى وأنين وحنينٍ
أرضيك ولا تزداد إلا غضباً الله-كما أبلى بك القلب-يعين
د- المواليات الشعبية:
وقد كان هذا اللون معروفاً عند العمال العبيد في بساتين مدينة واسط بالعراق،ووزنه من البحر البسيط ، يتألف من بيتين وأربع قوافي على روي واحد ، و الأشطر الأربعة تسمى صوتاً، ثم انتقل إلى بغداد بعد نكبة البرامكة مضافاً إليه كلمة (دامواليا) من ذلك قول الطيب ابن السويدي :
البدر والسعد : ذا شبهك وذا نجمك والقد والحسن : ذا رمحك وذا سهمك
والبغض والحب : ذا قسمي ، وذا قسمك والمسك والحسن : ذا خالك وذا عمك
الباب الثاني
الفصل الثاني
أبرز خصائص الشعر في عصر الانحدار:
حاول شعراء هذا العصر أن يجدوا في أساليبهم وموضوعاتهم فانخرطت أساليبهم في مذهبين:
آ-المذهب اللفظي: وقد اعتمد على التكلف والصنعة في محاولة فهم لإبراز موضوعاتهم في ثياب جديدة ماهتموا بالزخرفة اللفظية، وحاولوا أن يجعلوا البلاغة عنواناً لهم ولكنهم وصلوا في النهاية إلى طريق مغلق تحولت الصنعة البلاغية إلى هدف بعد أن كانت مسيلة.
ب-المذهب السهل: وقد اعتنى هذا المذهب بالمعاني البسيطة والألفاظ المألوفة، وأكثر أيضاً من الصنعة فانتهى إلى الإسفاف والركاكة، وقد شاع هذا اللون بمختلف طبقات المجتمع ولقد تناول الشعر العربي في هذا العصر كل الموضوعات وبدأ الشعراء يهجرون عمود الشعر العربي، ونهج القصيدة العربية، ويسلكون إحدى طريقتين، طريق يطرق الوضوح مباشرة دون أن يقف على الأطلال، وآخر يمهد فيه الشعراء لأغراضهم، وقد اهتموا بعلوم البلاغة والبيان والبديع وأكثروا من التشابيه والاستعارات والمجازات والكنايات من ذلك قول بحير الدين بن تميم بشخص وردة:
سبقت إليك من الحدائق وردةٌ وأتتك فقيل أونها تطفيلاً
طمعت بلثجك إذ رأتك فجمّعت فمها إليك يطالب التقبيلا
ومن التشبيهات أيضاً قول صفي الدين الجلّي :
سوا بغنا والنفع والسمر والطبا
وأحسابنا والحلم والبأس والبرُّ
هبوت الصّبا والليل والبرق واتصفا
وشمس الضحى والطور والنارُ والبحرُ.
وقد كتب صفي الدين الحلي قصيدة جمع فيها فنون البديع كاملة فبلغت من الحسن البديعي بحيث حوت على مئة وخمسة وأربعين بيتاً وفي كل بيت لون بديعي، مطلعها:
إذا جئت سلماً عن جيرة العلم
واقي السلام على عرب بذي سلم
الباب الثاني
الفصل الثالث
أهم المحسنات البديعية التي استخدمها الشعراء:
1-التورية: وقد أكثر شعراء هذا العصر من التورية وهي التي تعتمد على إيراد لفظ له معنيات أحدهما قريب ظاهر غير مقصود والآخر خفي وبعيد وهو المطلوب. من ذلك قول الشاب الظريف على لسان الكأس:
أدور لتقبيل الثنايا ولم أزل أجود بنفسي للنّدا في وأنفاسي
وأكسو أكف الشرب ثوباً مذهباً فمن أجل هذا لقبوني بالكاس
الطباق: وهو جمع بين متضادين في المعنى ، وقد اقترنت به المقابلة. يقول ابن الوردي:
أأقتل بين جدِّك والمزاح بنبل جفونك المرضى الصحاح
فما لصباح وجهك من مساءٍ وما لمساء شعرك من صباح
2-حسن التعليل: ويعتمد على إنكار الأديب علّه شيءٍ من الأشياء صراحة أو ضمناً، ثم يأتي بعلة أدبية طريفة تناسب الغرض من ذلك قول ابن نباته:
لم يزل جوده يجوز على الما ل إلى أن كسا النّضار اصفرارا
مراعاة النظير: وتقوم على الجمع بين أمر وما يناسبه في الكلام بالتقارب لا بالتضاد ، من ذلك قول مجير الدين بن تميم:
لو كنت تشهدني وقد حمي الوغى في موقفٍ ما الموت فيه بمعزل
لترى أنابيب القناة على يدي تجري دما من تحت ظلِّ القسطل
ومن المحسنات البديعية اللفظية:
3-الجناس : القائم على تشابه كلمتين لفظاً واختلفهما معنى يقول الشاب الظريف:
مثل الغزال نظرة ولفتةً من ذا رآه مقبلاً ولا فتتن؟
أعذب خلق الله ثغرا وفما إن لم يكن أحق بالحسن فمن؟
الاقتباس : ويقوم على تضمين شيء من القرآن أو الحديث من ذلك قول ابن نباته:
وأغيد جارت في القلوب فعاله وأسهرت الأجفان أجفانه الوسنى
أجل نظراً في حاجبيه ولحظة تر السحر منه قاب قوسين أو أدنى
4-التلاعب اللفظي : وقد أكثر الشعراء من التلاعب اللفظي في هذا العصر كالتزام لفظ معين في بداية كل بيت أو سطر أوفي نهايته، أو أن تكتب أبياتاً نقرأ بيتاً من الشمال إلى اليمين أو من اليمين إلى الشمال دون أن يتغير معناها ، أو كأن نقرأ بيتاً من الشمال إلى اليمين مدحاً أومن اليمين إلى الشمال ذماً، أو كأن نقرأ الأبيات أفقياً وشاقولياً ، أوكأن نكتب أبيات منقوطة ، وأبيات غير منقوطة ، أو أن ينظم بيت يجمع حروف الهجاء ، أو كأن يستخدم الشعر للتأريخ على طريقة حساب الجمل.



الباب الخامس
الأدب الصوفي في عصر النحدار
الباب الخامس
الفصل الأول
تشجيع المماليك للصوفية
اهتم المماليك بالصوفية في سواء الناس وبنى المماليك لهم الخانقاه والرباطات لإيواء الصوفية والإنفاق عليهم وقصة السلطان لاجين مع الشيخ الصوفي محمد بن مسعود الغزني معروفة من حيث التكريم والتعظيم وليس ذلك عجبا فصرف الناس عن طريق الصوفية عن الدنيا وتزهيدهم في المال سياسة مكنت المماليك من التنعم بالحياة دون سائر الخلق إذ على الصوفية أن تدعو للسلطان وآله ليكشف عنهم الضر والبلاء ويأخذوا أجرهم من الطعام والشراب ومن أشهر الخانقاه الصوفية خانقاه سعيد السعداء وشيخها كبير شيوخ الصوفية تعادل مكانته مكانة قاضي القضاة وخطيب المسجد الجامع وقد جمع السلطان بيبرس أكثر من 400 صوفي في خانقاه واحد ينفق عليهم وقد تأثر نظام الروابط الصوفية بنظام الرهبنة والأديرة المسيحية ويقوم شيخ الصوفية على تربية مريديه على نكران الذات وتحمل الشدائد والضيم والانقطاع للرياضة الصوفية ضمن نظام صارم في الحياة والعبادة والذكر ضمن لغة خاصة بهم يتفاهمون بها وعادة حلق الرؤوس وتقصير اللباس والرقص أثناء الإنشاد وقصائد المدح والصوفية والانصراف عن التوكل على الله تعالى إلى التواكل والكسل والزهادة وعدم المبالاة والهروب بالوجدان وفلسفة احتقار الدنيا وانتشرت عبارات التصوف بفضك الدنيا وحبك لله التصوف موتك في نفسك كي تحيا في الله الصوفية إلا تملك شيئا وإلا يملك شيء والتصوف طريق الوصول لله ومحصل الصوفية الزهاودة والقربى لله تعالى إذ يعتبر الصوفيون أنفسهم طلاب الحقيقة وقسموا أنفسهم إلى أقطاب وأبدال واعيان والاوراد والغيث الذي يجمعهم وهويتهم بمكة ومن الطرق الصوفية ما يوافق الكتاب والسنة ومنها مايبتعد عنها إلى حد الكفر بتطاوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم على اعتبار أن الرسالات لا تقع على أهل الحقيقة ولكنها لعامة الناس مستشهدين بقصة الخضر مع نبي الله موسى
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا قدما وظنوه مشتقا من الصوف
ولست امنح هذا الاسم غير فتى صافى فصوفي حتى سجى الصوفي
وقد تمكنت في الناس عقيدة الكرامات لأولياء الصوفية وما يأتونه من خوارق وكرامات ومن الناس من ادعى التصوف للعيش ولم يظفر من الصوفية إلا على لبس المرقعات وحلق الرؤوس دون التزام أخلاق الصوفية وقد قال في هؤلاء الأمام الشافعي رضي الله عنه رجل أكول كثير الفضول وقول أبو حيان هم أكلة بطلة سلطة لا شغل مشغلة وقول الشاعر .
ليس التصوف لبس الصوف ترقعة ولا بكاؤك أن غنى المغنونا
حتى أن الصوفية أشاعت في الناس الرقص وشرب الحشيش وقد عارض علماء السنة والحنابلة خاصة الصوفية المتطرفة وعارضوا أقوالها وميل أصحابها للرموز الغامضة المشكلة وحاربوا شطماتهم في قول الحلول والاتحاد والتناسخ قال السبخاري يعارض عقائد الصوفية
ولست كمن أمسى على الحب كاذبا مضلا لأرباب العقول السخيفة
يمن على الجهاد من عصبة الهوى بنسيته في الحب من غير نسيت
فيزعم طورا انه عين عينها ويزعم طورا أنها فيه حلت
ويجمع مابين النقيضين قوله وذاك محال في العقول السليمة
وقد كان من المتصدين لحرب المتطرفين من الصوفية شيخ الإسلام ابن تيمية وشن حربا على كراماتهم وكذلك ابن دقيق العيد كان يستنكر أقوال بعض رجالهم من كون الشخص في مكان وجسده في مكان آخر وينعت صاحبه بالجنون .
وظهر مشاهير الصوفية مجد الدين البغدادي 616 نجم الدين الدابة 954 الهروري 632 عبد القادر الجيلاني محي الدين عربي 650 ابن سبعيني 614 ويعد ابن عرين ظاهريا في العبادات باطنيا في الاعتقادات أتحف الحركة الصوفية بإطارها الخيالي الفلسفي يؤمن بشمول الإلوهية ووحدة الوجود ويؤمن أن الكون مظهر الله تعالى الخارجي والله تعالى سره المكنون وانه لا فارق بين الصفات والذات أي بين الله والكون ضمن فلسفة قوامها القول بشمول الإلوهية ووحدة الوجود وحلول الالوهية في البشر ومؤلفات النثرية والشعرية كثيرة في ذلك وكذلك كان ابن صبعين يقول بالتحاد ووحدة الوجود يعرف السيمياد يلتبس بذلك على الاغبياء من الأمراء والأغنياء وقد قال في النبي صلى الله عليه وسلم تجمر ابن امنة بقوله إلا نبي بعدي ولم يفرق بين الدنيات السماوية الثلاث يصف الطائفين حول البيت بالحمير حول الدار ومن مشاهير الصوفية السيد احمد البدوي الملثم أبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي ياقوت العرشي وابن عطاء الله السكندري 709المشهور بالحكمة ومن أشعاره .
يا صاح أن الركب قد سار سرعا ونحن قعود ما الذي أنت صانع
أترضى بان تبقى المخلف بعدهم صريح الأماني والغرام ينازع
وهذا لسان القوم ينطبق جهرة بان جميع الكائنات قواطع
ومنهم محمد بن وفاء الشاذلي وابن حجاج الاقصراتي 642ه واحمد بن محمد القوصي 720ه واكثر ما تميز فيه الصوفية الشعر من خلال ثلاث طبقات الطبقة الأولى فكريا وفنيا على ابن الفارض متأثرين بابن عربي وابن سبيعي والسهر والحريري والشاذلي والمرسي ومن أعلام الطبقة الأولى الششتري 668 والخيمي 685ه ومحمد بن إسرائيل ه677وعفيف الدين التلمساني 690 ه وعبرت الطبقة الثانية عن أعماق الصوفية ومن أعلامهم محمد بن سعيد البوصري ه695 وتقي الدين السروجي 793ه بينما ظهر في الطبقة الثالثة ابن العجمي وابن أبي جملة التلمساني 776ه
الباب الخامس
الفصل الثاني
مذاهب الصوفية
وقد اتخذ شعراء الصوفية مذاهب مختلفة منها
1- مذهب وحدة الشهود ويمثله نجم الدين محمد ابن إسرائيل 677
2- مذهب العشق الإلهي مع اعتراضنا على التسمية لاختراقها الصفات الإلهية وتمثله محمد بن عبد المنعم الخيصي 695ه
3- مذهب عشق الجمال ويمثله فضي الدين السروجي 963 ه
ولقد كان الشعر أميز الفنون بطبيعته واقدرها على نقل مواجد الصوفيين فينشدون الشعر في حلقات الذكر بعد أن يضعوا هذا الشعر ليغنى وينشد في هذه الحلقات وقد كانت موضوعات الوجد والشوق والطريق الفراقي تغلب على الشعر الصوفي ولكن منذ مطلع القرن السابع الهجري نافستها المدائح النبوية وقد مثل الوجد والشوق تقي الدين السروجي في قصيدته المشهورة .
حضروا فمن نظروا جمالك غابوا والكل مذ سمعوا خطابك طابوا
وابن الفارض في قصيدته
سائق الأطفال يطوي البيد طي منعما عرج على كثبان طي
وقصيدة عبد الغفار بن احمد الوصي
أنا أفتى أن ترك الحب ذنب أثم في مذهبي من لم يحب
دق على أمري مرارات الهوى فهو عذب وعذاب الحب عذب
كل قلب ليس فيه ساكن صبوة عذرية مازاك قلب
وقصيدة تقي الدين السروجي
يامن شغلت بحبه عن غيره وسلوت كل الناس حين عشقته
أنت الذي جمع المحاسن وجهه لكن عليه تصبري فرقته
ومثل المدائح النبوية في الشعر الصوفي البوصيري صاحب نهج البردة النبوية المشهورة .
أمن تذكر جيران بذي سلم فرحت دمعا جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح تلقاء كاظمة وأدمعي البرق في الظلماء من أضم
وقد فاقت صفات النبي في هذه الفترة القصيدة كل صفات الأنبياء ونهج نهج البويصري كثير من الشعراء في مدح النبي صلى الله عليه وسلم نهجا جديدا مطرزا بالبديع حيث ضمن فيها كل بيت نوعا من أنواع علم البديع وقد كان شوق الصوفية للكعبة المشرفة شوقا عارما وفي ذلك يقول القوصي .
دعني أعفر جبهتي بقرابها واقبل العتبات من أبوابها
وقد يوجه الصوفيون معاني الصبابة والغرام الحسي إلى محبوبهم الأبدي وفي ذلك يقول كتاكت المصري ت 684 ه
من أنت محبوبة ماذا يغيره ومن صفوت له ماذا يكدره
هيهات عنك ملاح الكون تشغلني والكل إعراض حسن أنت جوهره

الباب الخامس
الفصل الثالث
اتجاهات الأسلوب والبناء والموسيقى في شعر عصر الانحدار :
آ ـ الأسلوب
إذا كان الأسلوب هو الطريق الذي يسلكه الأدباء في توصيل شعرهم فان شعراء هذا العصر سلكوا اتجاهات مختلفة وتيارات متباينة في توصيل معانيهم وأفكارهم ومشاعرهم .
1- اتجاه تقليدي موروث تمثل في شعر القصيد المحافظ على الصياغة السابقة له بأصولها ومقوماتها وقد سلك أصحاب هذا الاتجاه هذا المسلك في الموضوعات الجليلة كالمديح النبوي ومدح السلاطين والأمراء ووصف المعارك والانتصارات ورثاء العظماء من الناس ومن شعرائه ابن إسرائيل في قصيدته التي مطلعها
عسى الطيف بالزوراء منك يزور فقد نام منه كاشح وغيور
وكيف يزور الطيف صبا مسهدا له النجم بعد الظاعنين سمير
2- اتجاه بديعي غلب على أكثر شعراء هذا العصر إذ كان الكتاب يبنون شعرهم على الرسائل والتراسل الاخواني والشكاوى ومن ذلك ما قاله ابن الوكيل يستعفي من وكالة بيت المال .
إلى يأبك المأمول وجهت أمالي وفي فضلك المعهود قصدي وإقبالي
وقد لعب الشعراء في هذا الفراغ بضروب البديع المتنوعة من جناس وطبقات وتوريه الخ حيث أصبحت القصائد قطعا موشاة بضروب الصنعة
3- اتجاه شعبي سلك فيه الشعراء سبيل الكلام الجاري وبألفاظه تحتمل الإعراب حيث يخلط كلام الشعراء بعبارات عامة أو ألفاظ دارجة ومن ذلك قول الشاعر
وقد قسم الابشيهي الشعر إلى خمسة أقسام
1- شعر مرقص
2- شعر مطرب
3- شعر مقبول
4- شعر مسموع
5- شعر متروك
وهذا القسم قائم على الدرجة الفنية بغض النظر عن الموضوع أو الشكل من بناء القصيدة أو اللغة المستخدمة.
ب ـ الموسيقا الشعرية
استخدم شعراء عصر الانحدار العروض الخليلي مع التأثر بموسيقى الموشحات الأندلسية والأوزان الخفيفة الراقصة واخترع شعراء هذا العصر أوزانا جديدة غريبة على الأوزان العربية مثل قول البهاء زهير
يا من لعبت به الشمول ما ألطف هذه الشمائل
مولاي تحق لي باني عن حبك في الهوى أقاتل
ها عبدك واقفا ذليلا باليا تمر كن من سائل
كما وان الشعر الفصيح قد تأثر بأوزان النظم العامي كالرباعيات والدوبيت والكان كان والقوما والبليق والموشح والمواليا والزجل ومن ذلك قول ابن جابر الأندلسي الأعمى
أي دبدبة تدبدبي أنا علي بن المغربي
تأدبي ويك في حق أمير الأدب
وكذلك حال الشعراء للمقطوعات القصيرة فاستخدموا المثنوي والرباعية والخماسية والسباعية واشترك النظم الشعبي في الرباعية وعرفت بالدوبيت الماخوذ عن الشعر الفارسي والذي يجري على وزن الهزج وقد نوعوا في القافية في كل أربعة أبيات وربما صرعوا البيت في القصيدة الواحدة أربعة مصاريع كل مصراع بقافية تستمر آخر القصيدة .
يقول رشيد النابلسي
كم الحشى موجع على المدى صب الفؤاد مغرم
تبارى يلتهب ملذع ما خمدا أوراه والضرم
ومنه المخمس المكون من أربع قواف متشابهات وخامة مطلقة ومنه قول محمد الفرجوطي .
سكن الغرام بمهجتي فتحكما والقلب من صدع الغرام تالما
والدمع فاض من المهاجر عندما وفيت من حر الصبابة عندما
عاينت ركبانا تسير إلى الحما
كما وعمد الشعراء إلى تشطير القصائد القديمة المشهورة كتشطير ابن فرحون لقصيدة الطرفائي (لا ميتة )
أصالة الرأي صانتني عن الخطل وشرعة الحزم ذادتني عن المذل
وحلة العلم أغنتني ملابسها وحلية الفضل زانتني لدي العطل
كذلك اختلطت العامية بالفصحى في مداعبات الشعراء كقول البهاء زهير
بروجي من اسميها بسمتي فتنظرني النحاة بعين مقت
يرون بأنني قد قلت لحنا وكيف وأنني لزهير ومتي
ولكن غادة ملكت فؤادي فلم ألحن إذا ما قلت ستي
وتفنن الشعراء في استخدام شجرة البديع وما تحمله من جناس وطباق وثورية وتجيش ومن البديع المجانس قول صدر الدين الحموي
قف بالحمى ودع الرسائل ومن الناحية قف وسائل
واجعل خضوعك والتذلل في طلابها وسائل
والدمع من فرط البكاء عليهم جار وسائل
وقد شطح شعراء هذا العصر في ابتداع الصور غير المألوفة كقول القيراطي
كان خديه ديناران قد وزنا فحرر الصير في الوزن واحتاطا
فشال بعضهما عن وزن صاحبه فزاوه من فتيت المسك قيراطا
وربما لغوا إلى الألفاظ الموحية ومدلولاتها القريبة والبعيدة ومن ذلك قول ابن دمرواش في مسواك
أقول لمسواك الحبيب لك الهنا بلثم فم ما ناله ثغر عاشق
فقال وفي أحشائه حرق الجوى مقالة صب للديار مفارق
تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى أعلله بين العذيب وبارق
ومن ذلك التلميح والإثارة كقول ابن الصفار المارديني
وتركي نقي الخل المى بقد ماس كالغصن الرطيب
له شعر حكى مجنون ليلى يخط إذا مشى فوق الكشيب
كما واعتمد الشعراء الاقتباس لفظا ومعنى من القرآن الكريم والحديث الشريف والأمثال والكلام المأثور ومنه قول عمر بن قزل .
وافى إلي وكاس الراح في يده فخلت من لطفه أن النسيم سرى
لا قدرك الراح معنى من شمائله والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا
وهكذا أكثر الشعراء من أصناف البديع حتى غلب على شعرهم



أدب الحروب الصليبية
الأغراض الشعرية إبان الحروب الصليبية

تاريخ الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية إبان الحروب الصليبية 448 – 692
الباب الأول
الاتجاه الفكري في الشعر
الفصل الأول
الحروب الصليبية
أيقظت فتوحات المسلمين لبعض أجزاء أوروبا كالأندلس وصقلية ومالطة وقبرص وكريت في نفوس أهل أوروبا المسيحية رغبة العودة إلى مهد المسيح بيت المقدس حيث كانت أوروبا تعيش نظاما اقتصاديا سيئا قائما على الإقطاع الذي نما بفعل تحول المال للابن الأكبر أرثا وكثر الأمراء والنبلاء والإقطاعيون وشكلوا إمارات ومماليك لم تنج من الصراع إلا باتجاه عدد واحد تتجه إليه تلاقي مع نداء البابا للسواد الأعظم من العامة الذين يعيشون حالة من الفقر والحرمان ورغبة من الكنيسة في توجيه الصراع ضد المسلمين بدل أن تكون صراعا داخليا خاصة وان السلاجقة المسلمون توغلوا في آسيا الصغرى وحاصروا القسطنطينية مما اضطر الإمبراطور للاستعانة بالكنيسة في القرن الحادي عشر للميلاد بعد أن منعوا حجاج أوروبا زيارة بيت المقدس وهذا بدوره جعل بطرس الناسك يدعو إلى الجهاد المقدس في أوروبا وعم ذلك البابا اربان الثاني الذي عقد مجمعا لرجال الدين والفرسان تعاهدوا فيه على الحرب إضافة إلى دعوة التجار إلى تأجيج الحرب وكذلك تحول المجريين إلى المسيحية وفتح الطريق بين غرب أوروبا وشرقها .
فكانت الحملة الصليبية الأولى 488 – 492 1095 – 1099 والتي هدفها الهيمنة على بيت المقدس وشعارها الصليب واندفع الناس بتحريض من بطرس الناسك وبقيادة عدد من ملوك فرنسا وألمانيا وجيوش الدولة البيزنطية حيث استولت على عاصمة السلاجقة في الأناضول 490 – 1097 ثم دخلوا أنطاكية وطرابلس الشام وبيروت وعكا ودمشق ودخلوا بيت المقدس 492 – 1099 وحاول الفاطميون والسلاجقة والأيوبيون أن يستنقذوا القدس ففشلوا ثم الحملة الصليبية الثانية 542 – 1147 حيث أوقفت هزائم في الساحل الشامي وقد أضعفت تصدي الفاطميين والسلاجقة وحاكم دمشق للصليبيين شوكتهم فطلبوا إمدادا جديدا وكبيرا خاصة وان عماد الدين زنكي قد استعاد منهم حصونا كثيرة ثم جاءت الحملة الصليبية الثالثة 585 – 588 1190 -1192 لاسترداد الرهان وحماية الإمارات الأخرى .
وقد دخل ضمن الحملة الثانية استعادة بيت المقدس من قبل صلاح الدين ثم كانت الحملة الرابعة 598 – 1202 التي انشغلت بثورة القسطنطينية ولم تصل للمشرق ثم الحملة الخامسة 615 – 1217 والتي وصلت الشام وحملة أخرى لمصر 616 – 1218 حيث وصلت دمياط وأجلاها عن دمياط الملك الكامل 618- 1221 ثم أرسل الصليبيون حملة سادسة بطلب من الملك الكامل لمحاربة أخيه المعظم حاكم دمشق مقابل تسليم بيت المقدس لفريدرك ولما وصلت الحملة قبرص مات الملك المعظم وامن الملك الكامل وسلم فريدريك بيت المقدس للكامل 626 وبعد موت الكامل وصلت حملة صليبية إلى عكا 637 وعادت بعد معاهدة مع الصالح أيوب 639 ثم هزم ملك فرنسا من قبل .
من قبل الملك الصالح وزوجته شجرة الدر 647 – 1254
الفصل الثاني
الفكر الإداري
تحولت سلطة الخلافة العثمانية الإدارية التنفيذية للبويهيين والسلاجقة بقيادة طفرليك 429 – 1038 وقضى على دولة القزنوليين 432 –وقدم إلى بغداد 451 – وقد كان هم السلاجقة بناء القوة العسكرية وانتصروا على الدولة البيزنطية ووقعت لهم الخزية واهتموا بنشر المذهب السني وبناء المساجد والمدارس ولكن موت ملكشاه ونظام الملك في عام واحد قوض أركان دولتهم وتفرقت إلى شيع حيث تقاسم الاتابكة وأبناء السلاجقة الملك وانتشرت الحروب والفتن الداخلية وتنشغل السلاجقة عن جبهة الرومان مما هيا للصليبيين الاستيلاء على القوى خلال عامين واحتلت مع معظم مدن الشام الساحلية فاستنفر المسلمون شعوبا وأمراء لصد الفرنجة مع أن دار الخلافة والوزراء منشغلون في المكائد والبطش ونهب الأموال والتنافس حول الخلافة كتنافس إمارة بني عقيل العربية في الموصل والإمارة المزيدية الاسدية واوبيس الثاني بن صدقه الذي خشي الخليفة منه وقبل به تحت نفوذ السلطان محمود السجلوقي .
وبما أن أمراء السلاجقة كانوا يعهدون لأحد الاتابكة بتربية أولادهم ويقطعونهم الأموال فإنهم تمكنوا من قتل أمراء السلاجقة والاستيلاء على ولاياتهم ومن أشهر اتابكة دمشق والموصل وحلب وكان اتابكة دمشق أول من فتكوا بأمراء السلاجقة الذين أصبحوا حكاما لدمشق 498 فحاربوا الفرنجة في عسقلان وحوران ووادي موسى وغور الأردن وجبال البلقاء وبقي الاتابكة يحاربون الإفرنج والباطن حتى تمكن عماد ونور الدين زنكي من الاستيلاء على دمشق 549 وتولى اتابكة دمشق قيادة الجيوش الإسلامية ضد الصليبيين بعد أن ضم عماد الدين زنكي الموصل وحلب وهاجم الحصون الصليبية قرب حلب وحماة وشيزر واخرج الروم من شيزر فقال الشاعر ابن قسيم الحموي .بعزمك أيها الملك العظيم تذل لك الصعاب وتستقيم
الم ترى كلب الروم لما تبين انك الملك الرحيم
فجاء يطبق الغلوات خيلا كان الجحفل الليل البهيم
ثم حاصر عماد الدين الرها وأخذها وتحلق الشعراء حوله ودعوه لجهاد الفرنجة ولكن غلمانه قتلوه وهو يحاصر قلعة جعبر عام 541 فرثاه الشعراء ومنهم أبو ليلى التميمي حيث قال
عيني لا تدخري المدامع وابكي واستهلي دمعا على فقد زنكي
ثم تابع ابنه نور الدين زنكي قتال الصليبيين دون استعانة بالخلافة ولا بالسلاجقة فاستولوا على دمشق 549ثم على مصر بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي الذي استلم الوزارة بعد موت شيركوه واسقط الخلافة الفاطمية 567 واعترف بالخلافة العباسية ونشر المذهب السني في مصر يؤازره نور الدين زنكي واتفق الاثنان على شن حملة ضد الصليبيين في بيت المقدس فمات نور الدين 569 وانشغل صلاح الدين 51عاما في توحيد الشام وضمها لولايته وسطر الشعراء فتوحه وقد استرد الرها وانتصر على الفرتجة في بصرى وفتح أنطاكية وقد قال في ذلك القيسراني
هذي الغرائم ما تدعي القضيب وذي المكارم لا ما قالت الكتب
واحتضرت الدولة الفاطمية في عهد نور الدين مما دعا الفرنجة لغزوها ثم انه استعاد دمياط من الفرنجة وكان الخليقة العباسي المتغبر يستعجل نور الدين زنكي وصلاح الدين بإسقاط الخلافة الفاطمية والدعاء له وهم يعدون لحملة ضد الصليبيين وعاجلت النية نور الدين 569 فاتجه صلاح الدين لتوحيد البلاد فضم دمشق 570واستمر في توحيد البلاد ومحاربة الفرنجة حتى 583 وحدثت معركة حطين 583وانتصر المسلمون على الفرنجة على الرغم من قلة عدد جيوش المسلمين الذي بلغ 12 ألف بينما بلغ عدد الفرنجة 50الفا وفي ذلك يقول ابن الساعاتي
حليت عزماتك الفتح المبينا فقد قرت عيون المؤمنينا
ثم توجه نحو القدس وفتحها في العام نفسه ولما مات صلاح الدين اختلف أبناؤه بعده شانهم شان أسلافهم السلاجقة والزنكيين .
الفصل الثالث
الفكر الاجتماعي
المجتمع من خلال الشعر
إذا كانت أصول المعايش أربعة الإمارة والتجارة والفلاحة والصناعة فان المجتمع في هذا العصر لم يعتمد في جلب الرزق إلا على الخدمة التي تعنى عدم قدرة المجتمع على الإنتاج إضافة إلى عدم اخذ السلطات بمبدأ توظيف الموارد للفرد والمجتمع على الرغم من كون العلماء يدعون إلى بناء الأرض وكذلك تحدث الشعراء عن وظائف الخدمة والبطالة وفي ذلك يقول ابن تميم
والله ما فقرنا اختيار وإنما فقرنا اضطرار
جماعة كلنا كسالى وأكلنا ماله عيار
نتسمع منا إذا اجتمعنا حقيقة كلها فبشار
وقد غاب عن العالم الإسلامي الخطط الاقتصادية حتى عن أولئك الحكام العادلين كعماد الدين زنكي ونور الدين زنكي وقد انقسم المجتمع إلى طبقات متعدده الطبقة المالكة طبقة - الفلاحين الطبقة - الغالبة الشعبية وهي طبقة باطلة عن العمل وقد تبددت ثروات الناس وخاصة العراق بين المتسلطين وفي ذلك يقول احدهم
سلام على مال العراق فانه مضى حيث لا نفع لذاك ولا نصر
وكذلك تحدث إليها زهير عن ظاهرة النفاق والتملق قائلا .
أرى قوما بليت بهم نصيبي منهم نصبي
فمنهم من ينافقني فيحلف لي ويكذب بي
ويلزمني بتصديق الذي قد قال من كذب
وقد طالب الشاعر الجيلاني كل مسلم إلى التماس مهنة تفيده ويصلح بها المجتمع
بذلت وقتا للطب كي لا ألقى بني الملك بالسؤال
ويتحدث أبو الحسين الجزار عن الطبقة الفقيرة بسخرية قائلا
لي من الشمس خلقه صغراء لا أبالي إذا أتاني الشتاء
ومن الزمهرير أن حدث الغيم ثيابي وطيلساني الهواء
وكذلك تحدث الشعراء عن المنازل وأذى الحشرات بينها وفي ذلك يقول كمال الدين الأعمى .
الخير عنها نازح متباعد والشردان من جميع جهاتها
الغربة والاغتراب
ليس هناك الم يحفر في النفس اشد من الغربة والاغتراب فالغربة نار محرقة تلذع صاحبها كلما ذكر مسكنه أو وطنه وخاصة إذا كانت الغربة اضطرارية وأكثر ما كان اغتراب الناس بسبب الحاجة للمال أو لطلب العلم أو لمرافقة السلاطين في أستارهم وحروبهم الداخلية والخارجية والاغتراب قد يكون والمرء في وطنه وفي بيته ومسكنه بسبب تردي العلاقات الاجتماعية السيئة وكثرة الكذب والنفاق وعدم الوفاء والحاجة والفقر وضنك العيش وفي ذلك يقول هبة الله بن علي الربعي
لا عز للمرء إلا في موطنه والذل غاية ما يلقي من اغتربا
وقد شكا علي بن حسن بن عساكر غربته في تيسابور حيث لا صديق ولا سكن ولا مأوى .
لا قدس الله نيسابور من بلد ما فيه من صاحب يسلي ولا سكن
لولا الحميم الذي في القلب من حرق لفرقة الأهل والأحباب والوطن
لمت من شدة البرد التي ظهرت أثار شدته في ظاهر البدن
حتى أننا لنجد البهاء زهير يتمنى الاستقرار حتى تأتيه منيته
ليت شعري ليت شعري أي ارض هي قبري
ضاع عمري في اغتراب ورحيل مستمر
وقد أكثر الأمير اسأمه بن منقذ من شعر الاغتراب وكذلك الشاعر المغترب ابن عتين يضاف إلى ذلك غرابة الشعراء الصوفيين من خلال انزوائهم في الزاوية وخروجهم من المجتمع وهم فيه مدعين الصلة بالله ومن ذلك همزية ابن الغارض .
يا ساكني البطماء هل من عودة أحيا بها يا ساكني البطماء
وا حسرتي ضاع الزمان ولم أفز منكم أهل مودتي بلقاء
الباب الثاني
الموضوعات الشعرية إبان الحروب الصليبية
الفصل الأول
شعر المناسبات
يعد شعر المناسبات العلم المدون للحوادث التاريخية كتولية الخليفة والأحداث الحربية والتقلبات التاريخية والاجتماعية والتمزق السياسي وتشردوا في العلم الإسلامي كتسجيل سبط التعاويذي للخليفة المستضيء 572 ما ضم في عهده من مماليك واندثار للخلافة الفاطمية وانضمام ملكها للخلافة العباسية ودينونة اليمن له .
وإطاعتك ارض مصر ومصر حين تدعى وحشية عصماء
ذخرتها لك الليالي وكم حامت عليها من قبلك الخلفاء
أما في معركة البقيعة فقد صورا بن الدهان ثبات نور الدين رغم انهزام جنده وفوز الإفرنج
وسط العدا وحده ثبت الخبان وقد طارت قلوب على بعد من الوهل
ولكن الشعراء كانوا من المغاليين في مدحهم للملوك والسلاطين وانتشر ذلك المدح انتشار شبيها متمثلا بألفاظ التبجيل ومن مبالغات المعاني قول ابن عينين يمدح الملك إلا مجد بهرام شاه صاحب بعلبك .
تمضي المنايا بما شاءت أمنته إذا القنا بين فرسان الوغى اشتجرا
تكاد تخفي النجوم الزهر أنفسها خوفا ويشرق بهرام إذا ذكرا
ولم يكتفي الشعراء بالمبالغة بل لجئوا إلى العلو في صفات الممدوح التي تساوي صفات الخالق وخاصة عند الشيق فقد استغاث أبو الفوارس بالإمام علي واضنى عليه صفات الإلوهية قائلا
إلا يا أمير المؤمنين الذي به أفل الرزيا جحفل بعد جحفل
وكنت متى استصرخته لملمة حماني فاغني عن ستان وفيصل
الفصل الثاني
الشعر الحماسي
لعب الشعر الحماسي دورا كبيرا في المارك والانتصارات والأمل في الفتوحات وخاصة فتح بيت المقدس ولا نكاد نقرا قصيدة لشعراء ذلك العصر دون أن نجد فيها أثرا للحماسة وخاصة أن الأعداء الصليبيين قد تكالبوا على ديار المسلمين وقد سجل الشعر المعارك الحربية ومن ذلك قصيدة الاييوردي التي تدعو للدفاع عن الديار والمقدسات واستنهاض العزائم والبكاء على بيت المقدس
فرجنا دماء بالدموع السواجم فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دفع بغيضه إذا الحرب ثبت نارها بالصوارم
كيف تنام العين ملء جفونها على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ظهور المذاكي أو بطون التشائم
ومن الشعراء الذين يفيض شعرهم بالحماسة والجهاد في سبيل الله ضد الفرنجة الشاعر الأمير مجد العرب العامري الذي يقول .
ومدربين على القتال كأنهما شربوه ولدانا مع الألبان
نظروا إلى البيض الجفان كأنها بأكفكم مشبوبة النيران
والحق قد عادت واردا شهمها فما ليسن من النقبع القاني
ومن ذلك ما آثاره الشاعر القيسراني من حماسة إبان هجوم الصليبيين على دمشق عام 523
وافوا دمشق فظنوا أنها جدة ففارقوها وفي أيديهم العدم
وأيقنوا مع ضياء الصبح أنهم أن لم يزولوا سراعا زالت الخيم
وهذا ابن القسيم الحموي يمجد انتصار عماد الدين زنكي على الفرنجة قائلا
بعزمك أيها الملك العظيم تذل لك الصعاب وتستقيم
الم تر أن كلب الروم لما تبين انك الملك الرحيم
فجاء يطبق الغلوات خيلا كان الجحفل الليل البهيم
أيلتمس الفرنج لديك عفوا وأنت بقطع دابرها زعيم
وكم جرعتها غصص المنايا بيوم فيه يكتهل العظيم
وقد حف الشعراء بنور الدين بعد أن تولى السلطة 541 وبادر لجهاد الأعداء ومن الشعراء الذين دعوا للجهاد أسامة بن منقذ في راثيته المشهورة
أن الإله إلا أن يكون لنا الأمر لتحيا بنا الدنيا ويفتخر العصر
وتخدمنا الأيام فيما نرومه وينقاد طوعا في أزمتنا الدهر
وتخضع أعناق الملوك لعزنا ويرهبها منا على بعدنا الذكر
وإما قصيدة طلائع بن رزيك فتحكي بطولات مصر على الصليبيين .
إلا هكذا في الله تمضي العزائم وتمضي لدى الحرب السيوف الصوارم
وتغزي جيوش الكفر في عقر دارها ويوطاء حماها والأنوف رواغم
الفصل الثالث
المدائح النبوية
حظيت المدائح النبوية في هذا العصر اهتماما كبيرا من خلال معارضته قصيدة بن زهير بانت سعاد ومقلدة مدائح آل البيت وقد ألهبت مشاعر الشعراء بعد الانزواء الصوفي عن الحياة والإحباط الذي خلفه لقاء الملوك بالشعراء وعدم إعطائهم وقد بدأت المدائح النبوية بالتشوق إلى زيارة الأماكن المقدسة كقول الجيلاني
يا زائر المصطفى من الأمم وخبر هاد في العرب والعجم
ابلغه من السلام ابلغه وقل فتى قلبه مع الحرم
يبكي إذا سرت الركائب ولم يسر بدمع كالقطر منسجم
وربما قيلت المدائح النبوية في رثاء الحسين بن علي كما صنع طلائع بن زريك ومن ذلك قصيدة ابن الساعاتي
وكيف احمل في دنيا وآخرة ومنطقي ورسول الله مأمول
هو البشير النذير العدل شاهده وشهادة تحريم وتعديل
ومن المدائح النبوية قول فيتان الشاغوري
إليك المطايا أعتقت يا محمد إلى خير من يسعى إليه ويحفد
إلى الذروة العلياء من سر هاشم عليهم سلامي كل وقت يردد
وقد كان أكثر الشعراء مدحا للرسول صلى الله عليه وسلم يحيى بن يوسف جمال الدين العلامة الزاهد الصرصيري ومن ذلك قوله
ذكر العقيق فهاجه تذكاره صب عن الأحباب شط مزاره
لولا هواه لما ثنى اعطافه بان الحجاز ورنده وعراره
يا من ثوى بين الجوانح والحشا مني وان بعدت علي دياره
وإما شرف الدين الأنصاري فقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بلامية في حج 619 في مكة المكرمة
يا صاح هاجر الهدى فتمل من ذي وهو بدر للهدى فتامل
فلطالما أرسلت ومعك ساخنا شوقا إلى هذا النبي المرسل
ويرتقي البوصري بمدحه للنبي صلى الله عليه وسلم فيحي القلوب قائلا
كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساورك في علاك وقد حال سنا منك ومنهم سناء
إنما مثلوا صناتك للناس كما مثل النجوم الماء
ولو رحنا نستقصي جميع المدائح النبوية لاحتجنا إلى صفحات كثيرة

الفصل الرابع
الرثاء
يعد الرثاء الفن الأكثر مرافقة للإنسان على مر الزمن وهو موضوع ساخن في عصر الحروب الصليبية وجهة الشعراء إلى رثاء الخلفاء في الدولة العباسية والعبيدية ورثاء الوزراء والولاة ورثاء الأقارب والأرحام والأبناء كما رثى أسامة بن منقذ ابنه عتيق وكما رثى العفيف التلمساني لابنه الشاب الظريف أو كما رثا ابن سناء الملك أمه بالإضافة إلى نوع آخر من الرثاء للدول حيث رثى الشاعر عمارة اليمني للدولة العبيدية والدولة العباسية ورثوا القصور رثاء القاضي الفاضل قصر عبد العزيز بن صلاح الدين الأيوبي يقول أسامة بن منقذ في رثاء أسرته
هذي قصورهم أمست قبورهم كذاك كانوا بها من قبل سكانا
ريح الزلازل أفنت معشري فإذا ذكرتهم خلتني في القوم سكرانا
ويقول ابن سناء الملك في رثاء أمه
صح من دهرنا وفاة الحياء فليطل منكما بكاء الوفاء
وليبن ما عقدتماه من الصبر بان تحللا وكار البكاء
قد رماني الزمان منه بخطب أمحت عنه السن الخطباء
ويقول الشاعر الأمير نجم الدولة احمد بن أبي الفتوح يرثي ابنه عبد المنعم
لبس الجنود حديدهم في عيدهم ولبست حزن أبي الحسين جديدا
أيسر في عيد ولم أر وجهه فيه إلا بعدا لذلك عيدا
وقد كانت الحروب ذات وقع على نفوس الشعراء لأنهم كانوا من خلالها يفقدون المدافعين عن حياض الأرض وخاصة الأبطال القادة كمرثية عمار الأصفهاني لصلاح الدين الأيوبي
من للعلا من للذرى من للهدى يحميه من اليأس من النائل
ومن المراثي المميزة مرثية الشاعر الريس أبي معلي التميمي التي رثى فيها عماد الدين زنكي :
كذاك عماد الدين زنكي تنافرت سعادته عنه وخرت دعائمه
فلما تناهى ملكه وجلاله وراعت ولاة الأرض منه لوائمه
أتاه قضاء لأقود سهامه فلم تنجه أمواله وغنائمه
وكذلك رثى الشعراء الديار التي اضر بها الصليبيون
أصل الكفر بالإسلام ضيما يطول عليه للدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليبا ومسلمة لها حرم سليب
وكم من مسجد جعلوه ديرا على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق وتحريق المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهن طفل لطفل في عوارضه المشيب
وقد رثى الشاعر وجيه بن عبد الله بن نصر المعرة بعد أن خربها الفرنجة 492
هذه صاح بلدة قد قضى الله عليها كما ترى بالخراب
وقف العيسى وقفة وابك من كان بها من شيوخها والشباب
وقد رثى الشعراء القدس قبل سقوطها بين الفرنجة وبعد سقوطها بأيديهم
ومن ذلك رثاء شهاب الدين أبي يوسف يعقوب
لتبك على القدس البلاد بأسرها وتعلن بالأحزان والترحات
لتبكي عليها مكة فهي أختها وتشكو الذي لاقت إلى عرفات
لتبك على ماحل بالقدس طيبة وتشرحه في أكوام الحجرات
وكذلك قول احدهم
مررت على القدس الشريف مسلما على ما تبقى من ربوع كأنجم
ففاضت دموع العين مني صبابة على ما مضى من عصرنا المتقدم
أما خراب بغداد فقد خصها الشاعر شمس الدين الواعظ بقصيدتين مطلع الأولى
أن كنت مثلي للأحبة فاقدا أو في فؤادك لوعة وغرام
قف في ديار الطاغين ونادها يا دار ما صفت بك الأيام
ومطلع الثانية
أن لم يقرح ادمعي وأجفاني من بعدكم فما أجناني
إنسان عيني قد تناءت وأركم ما راقه نظر إلى إنسان
ما للمنازل أصبحت لا أهلها أهلي ولا جيرانها جيراني
الفصل الخامس –
الطبيعة
تشكل الطبيعة الهاجس الأهم في شعراء هذا العصر فما من ديوان شعر إلا وللطبيعة اثر كبير فيه كوصف الماء والأشجار والنجوم والرياض والورود والزهور والسحاب وتساقط الأمطار ومن ذلك وصف المهند المزرفي للرياض
الروض بين متوج ومكلل والماء بين مكفر ومصندل
فانظر إلى الوسمي كيف كما الثرى ثوبا يطرزه معين الجدول
والشاعر فتيمان الشاغوري يصف لنا الطبيعة من خلال ليلة
ليلة حليت بمنطقة الجو زاء والشعر بين والجوز هرا
وهلال السماء يشرق والشهب تروق العيون نظما وزهرا
والثريا كأنها كف حسود ختمت ياقوتا وبترا ودرا
والدجى هارب كما تهرب الزنج من الروم إذ تخاف الفجرا
ولدينا من الربيع برود حملت من وشي الرياض الزهرا
والشاعر ابن البنية المصري يصور لوحات الجمال الطبيعية حيث الرياض تتوج بالأزهار والورود
الروض بين متوج ومشنف والأرض بين مدبح ومقوف
والغصن غناه الحمام فهزه طربا وحياة الغمام يقرقف
ويصف الشاعر الصرصري الربيع قائلا
خط الربيع بأقلام التباشير رسالة كتبت بالنور والنور
حي البقاع الحيا فاهتزها دمعها لما أتتها يد البشر بمنشور
وانشقت الأرض عن مكون ما خبأت كأنما باكرتها نفحة الصور
أما العفيف التلمساني فقد وصف الرياض والزهور والورود والحمائم قائلا
ندى في الأقحوان أم ثراب وطل في الشقيقة أم رضاب
فتلك وهذه كاس وثغر لذا ظلم وفي هذي شراب
وورق حمائم في كل فن إذا انطلقت لها لحن صواب
أما الشاعر ابن مكندا فيهتز لنوم الحمام قائلا
نوم الحمام على فروع ألبان أهدى إلي بلابل الأشجان
ناديتهن ودمع عيني هاطل لما حمتن وملن بالأفنان
بالله يا ورق الحمام اعني بهديلكم وكن من أعواني
والشاعر إبراهيم الحراني ينقلنا بين أحياء دمشق ويمتع أبصارنا بغزلانها
ربوع جلت للأوطان أوطان وليس فيها من الندمات ندمان
آذيت انشد في غزلانها غزلا لما غزت كبدي باللحظ غزلان
أما ترى الأرض إذا ابكي السحاب بها اذارها ضحكت إذ حابر نيسان
والزهر كالزهر حياة الحياة الحيا فبدت في الروض منه إلى الأبصار ألوان
الفصل السادس - الوجدانيات
الوجدانيات باب واسع من أبواب الشعر العربي في كل عصر وفي هذا العصر خاصته فقد عبر الشعراء عن مكوناتهم الخاصة سواء أكانت غزلا أم بثا للشكوى أو وجدانا صوفيا يمثل التدفق الشعري باتجاه قضايا العصر التي عاشها أولئك الشعراء ومن الشعر الوجداني ما تأثر بالغزو الصليبي والغزل بالمذكر والغزل الماجن وسنعرض عن النوعين الأخيرين لمناقضتهما الأديان والأخلاق والنظرة السليمة وهذا هو الرئيس أبو الفرج المولود 482 يتغنى بمحبوبته التي كان الشاعر كلف بها كلفا شديدا
الوشاة قد صدقوا في الذي به نطقوا
أنني بكم كلف مدننا لحشا قلق
هل عليكم حرج أو ينالكم فرق
لو وصلتم كمدا قلبه به علق
وهذا هو الشاعر ابن داوس القنا ستنطق اللطف في محبوبته قائلا
هل أنتي منجزة بالوصل ميعادي أم أنتي مشمتة بالهجر حسادي
سالت طيفك الماما فضن به ولو الم لأردى غلة الهادي
يا ظبية الحي ما حيدي بمنعطف إلى سواك ولا حيلي بمنقاد
أن تأسروا فذو واعز ومقدرة أو أو تطلقوا فذو وهن وارفاد
وقد عارض كل من الشعراء احمد الدبيني وراجح بن إسماعيل الحلي قصيدة ابن زريق البغدادي عينيته .
فقال الأول
وليلة زارني فيها على عجل والشوق يحفزه والخوف ينزعه
وبات مستنطقا أوتار مزهرة الفصاح يتبعها طورا وتتبعه
وقال الثاني
اخفي الغرام فأبداه توجعه وترجمت عن مصون الجد أدمعه
يا عذب الله قلبي كم يجن هوى يجني عليه ويرعى من يروعه
ويقول الشاعر ابن عربي
ناحت مطوقة فحن حزين وشجاه ترجيع لها وحنين
جرت الدموع من العيون تنجها لحنيتها فكأنهن عيون
أن الفراق مع الغرام لقاتل صعب الغرام مع اللقاء يهون
وإذا كان الشعراء قد أعجبوا بالفرنجة في تلك الفترة فإنما أعجبوا بناء الأديرة وسفورهن حيث كتب الشاعر القيسراني ديوانه الثغريات وكذلك كتب الشاعر عون الدين العجمي آهاته قائلا
يا سائقا البيداء معتسفا بضامر لم يكن في صبره وان
أن جزت بالشام شم تلك العروق ولا يعدل بلغت المنى عن دير مران
واقصد علالي قلالية ثلاث بها ما تشتهي النفس من حور وولدان
وإما الغزل الماجن والغزل بالمذكر فان اللسان والقلم يعفان عن ذكره ذلك كما قلنا لمخالفته الشرع والفطرة الإنسانية كما وأننا في هذا العصر بحاجة إلى كبح جماح الشهوات المحرمة التي كثر طالبوها والباحثون عنها وهو من سوء آخر الزمان الذي يقود الإنسانية إلى الخراب والدمار والموت .




اتجاهات الشعر في عصر الانحدار
لقد رسمت تفاصيل الحياة والواقع في عصر الانحدار شعر هذا العصر بملامحها بما حوته من إحداث سياسية واجتماعية وفكرية وعقدية وكان الإحساس بالضعف الموضوعي ابرز أثار العصر حيث ضعفت الصياغة وتهلهل البناء وقل الإبداع والابتكار وكثر الإسراف في الاهتمام بالشكل على حساب المضمون والإيغال في العامية بسبب ابتعاده عن الرؤساء والزعماء وتقربه من عامة الشعب وذلك لكون الزعماء من الأعاجم الذين لا يفهمون هذا الشعر ولا يتذوقونه وكان السلاطين المماليك اميل إلى الشعر العامي لأنه اقرب إلى اللغة الدرامية كما عند السلطان قلاوون الذي لم يكن يجيد العربية وقد أدى ذلك إلى تجاهل الفصحى وزهد الأدباء الكبار بها بالشعر يقول ابن دقيق العيد .
وزهدني في الشعر أن سجيتني بما يستجيد الناس ليس تجود
ويأبى لي الختم الشريف رديه فاطرده عن خاطري وأذود
وقد كان ينفق على الشعراء من مال الصدقات بأمر قاضي القضاة فإذا ما وقعت معركة عسكرية ذاد بها المماليك عن الإسلام وبلاده جاءت قريحة الشعراء وقد صور ذلك إبراهيم الغزي قائلا .
في فتية من جيوش الترك ما تركت للرعد كراتهم صوتا ولا صيتا
قوم إذا قوبــــلوا كانوا ملائــــــــــكة حسنا وان قوتلوا كانوا عفاريتا
ولكن الشعر في هذا العصر كان غريبا يشعر فيه الشعراء بالاغتراب وهذا ما دفع الشعراء أن يكتبوا في موضوعات التصوف والمديح النبوي والغزل الروحي والحنين والشكوى والابتهال وترجع أسباب غربة الشعراء في هذا العصر إلى تألب الأعداء الخارجين على بلاد المسلمين تتار – صليبيين والصراع بين الوجود العربي والإسلامي وكون حال المسلمين والعرب لا تسر وسيطرة الروم السلبية على الناس وعدم التمسك بالقيم الدينية وقد قل الشعراء المحترفون وشاع النظم بين المتعلمين من قضاة وفقهاء وأصحاب حرف ولم يرتق الشعر في مستواه إلى رتبة الشعر الجيد واستخدم الشعراء الألفاظ والمعاني الدينية القرآنية والحديثة ومن القصص الدينية وحياة الزهاد والصوفية ومن ذلك قول الشهاب الحجازي في فتاة باكية تدعى جنة .
قد قلت لما أن بكت واغتدت كأزهار في روضة زاهية
جارية أعينها جــــــارية وجنة أعينها جـــــارية
وقد بقي الشعر الموروث ينشد في مجالس القوم مذاكرة واستشهادا وكانت غلبة الروم العامية على الشعر وقربه من الشعب احد أسباب اتصاله بالمجتمع ومسايرة حياة الناس واشتهر شعراء بقصيدة واحدة كلامية للطفرائي وتائية ابن الفارض وبررة البوصري الميمة وقصيدة الخيعي البائية ومن القصائد ماعرف بالبدعيات مدائح نبوية فتحت أبوابا من البديع كبديعة صفي الدين الحلي وبديعة ابن جابر الأندلسي





الباب السابع
وأهم المحسنات البديعية التي استخدمها الشعراء:
النورية: وقد أكثر شعراء هذا العصر من التورية وهي التي تعتمد على إيراد لفظ له معنيات أحدهما قريب ظاهر غير مقصود والآخر خفي وبعيد وهو المطلوب. من ذلك قول الشاب الظريف على لسان الكأس:
أدور لتقبيل الثنايا ولم أزل أجود بنفسي للنّدا في وأنفاسي
وأكسو أكف الشرب ثوباً مذهباً فمن أجل هذا لقبوني بالكاس
الطباق: وهو جمع بين متضادين في المعنى ، وقد اقترنت به المقابلة. يقول ابن الوردي:
أأقتل بين جدِّك والمزاح بنبل جفونك المرضى الصحاح
فما لصباح وجهك من مساءٍ وما لمساء شعرك من صباح
حسن التعليل: ويعتمد على إنكار الأديب علّه شيءٍ من الأشياء صراحة أو ضمناً، ثم يأتي بعلة أدبية طريفة تناسب الغرض من ذلك قول ابن نباته:
لم يزل جوده يجوز على الما ل إلى أن كسا النّضار اصفرارا
مراعاة النظير: وتقوم على الجمع بين أمر وما يناسبه في الكلام بالتقارب لا بالتضاد ، من ذلك قول مجير الدين بن تميم:
لو كنت تشهدني وقد حمي الوغى في موقفٍ ما الموت فيه بمعزل
لترى أنابيب القناة على يدي تجري دما من تحت ظلِّ القسطل
ومن المحسنات البديعية اللفظية:
الجناس : القائم على تشابه كلمتين لفظاً واختلفهما معنى يقول الشاب الظريف:
مثل الغزال نظرة ولفتةً من ذا رآه مقبلاً ولا فتتن؟
أعذب خلق الله ثغرا وفما إن لم يكن أحق بالحسن فمن؟
الاقتباس : ويقوم على تضمين شيء من القرآن أو الحديث من ذلك قول ابن نباته:
وأغيد جارت في القلوب فعاله وأسهرت الأجفان أجفانه الوسنى
أجل نظراً في حاجبيه ولحظة تر السحر منه قاب قوسين أو أدنى
التلاعب اللفظي : وقد أكثر الشعراء من التلاعب اللفظي في هذا العصر كالتزام لفظ معين في بداية كل بيت أو سطر أوفي نهايته، أو أن تكتب أبياتاً نقرأ بيتاً من الشمال إلى اليمين أو من اليمين إلى الشمال دون أن يتغير معناها ، أو كأن نقرأ بيتاً من الشمال إلى اليمين مدحاً أومن اليمين إلى الشمال ذماً، أو كأن نقرأ الأبيات أفقياً وشاقولياً ، أوكأن نكتب أبيات منقوطة ، وأبيات غير منقوطة ، أو أن ينظم بيت يجمع حروف الهجاء ، أو كأن يستخدم الشعر للتأريخ على طريقة حساب الجمل.


اتجاهات الشعر إبان الحروب الصليبية .
نظرا لتوسع رقعة الدولة الإسلامية وتعدد مكوناتها ومؤثراتها فقد تنوعت اتجاهات الشعر بين مقلد ومحافظ وخطابي وموضوعي ومحترف يعتمد التجانس والتقابل والتضاد , فهناك شعراء جعلوا الشعر حرفة للتكسب للوصول للمال والجاه ارتقوا بشعرهم من خلال النظر بهذا الشعر وتنقيحه وإضافة المعارف له من خلال التنقيح والتثقيف والتمحيص متكلفين قصائدهم وقد التزم هؤلاء الشعراء مناهج الشعر القديمة في بناء القصيدة وتعدد الأغراض الشعرية حيث تستهل القصيدة بمقدمة مختلفة الموضوعات حيث تكون المقدمة إيحاء بموضوع القصيدة ورمزا لها حيث يتشاكل الشعراء بين أهداف القصيدة ومضمون النسيب مع توظيف الاستهلال وحسن التخلص ويعدون أغراض ويستطردون في الأوصاف لا سيما في الغزل والرحلة ومحاسن الممدوح مع اختتام القصائد بالدعاء للممدوح بثبات المجد والملك وطول العمر كما وأن الشعراء المحترفون المقلدون حافظوا على الذوق السلوكي الأخلاقي والغزل المحتشم والجنوح للعذرية ومحاكاة الأقدمين في ذكر الأسماء والأماكن والوقوف على الأطلال واستحضار صبا نجد وعبير خزاماه والتمتع برياضه والأعراض عن المجون والغزل بالمذكر .
أما في ميادين الجهاد فقد اعرضوا عن المقدمات الغزلية حيث تفتتح القصيدة بالثناء على القائد الملك فابن قسيم الحموي يمدح عماد الدين زنكي :
بعزمك أيها الملك العظيم تذل لك الصعاب وتستقيم
الم تر أن كلب الروم لما تبين انك الملك الرحيم
فجاء بطبق الغلوات خيلا ً كأن الجحفل الليل البهتم
أما من حيث الأوزان فقد مالوا للأوزان الطويلة ذات النفس الطويل والمضمون الوافر مع ما تحمله من وقار يتلاءم مع مقام الشاعر والسلطان وأطول الشعراء نفسا ً والارجائي .
ويغلب على هؤلاء الشعراء المحترفين المواقف الخطابية التي تستدعي التلوين الصوتي الذي يوظف اللغة بجمل مزدوجة متقاربة الطول والفقر وما يطرأ عليها من جناس وترصيع وإتقان بالصنعة وحروف تمثل الجهد والفخامة كما وتسود أشعارهم النظرة الموضوعية التي تصف الأشياء وصفا خارجيا ً عن الذات إلا في المقدمات الغزلية . وقد وقف هؤلاء الشعراء المحترفون من التجانس موقفا ً معتدلا سواء أكان اشتقاقا ً أو تكرارا ً أو جناسا ومن ذلك ما قاله الارجاني :
فلئن أقمت فلآت حين أقلمة ولئن رجعت فلان حين رجوع
وإذا سمعت به سمعت بماجد يأتيك واصفة بكل بديع
والمرء يمنع ثم يرتع أمنا ما نجعه إلا وراء نجيع
وقد ظهر في قصائد هذا العصر التقابل والاشتقاق كقول ابن الخياط الدمشقي :
يقيني حادثات النوائب وحزمي حزمي في ظهور النحائب
فيقيني تعني ( الأولى من اليقين والثانية من الوقاية ) وحزمي تقي الأولى من الإرادة والعزيمة والثانية من ربط الرحل , ولو رحنا نستقصر التجانس في قصائد شعراء هذا العصر لأصبحنا إلى كتاب مستقل .
وكذلك اعتمد الشعراء في قصائدهم على التقابل والتضاد كقول الارجاني :
النار قبس من وطيس جوانحي والماء يورد من غدير دموعي
قلبي وعيني يغنيان ركابكم عن رحلتي قيظ لكم وربيع
وكقول العماد الأصفهاني مشيدا ً بالأمير مجد العرب العامري :
حويت حسام الدين بكل فضيلة سواك لها طي وأنت لها بنشر
فما ينتهي إلا إلى كفك الندى ولا يعتري إلا إلى بيتك الفخر
ومن اعلم الشعراء المحترفين ( الارجاني ) وابن منير الطرابلسي ) والقيسراني , والمهذب بن الزبير وأبو الفوارس حيص بيص وعرقلة الكلبي وأسامة بن منقذ , وسبط التعاويذي وابن عنين .
وهناك شعراء جاء الشعر لديهم طبقا تبعثه دفقات شعورية صادقة بسبب استحواذ التجربة الشعرية عليه امتدادا لشعراء الجاهلية ومن سلك سلوكهم في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي والعباسي وقد رزق الله تعالى هؤلاء الشعراء المطبوعين الموهبة الشعرية مغمورة بنزعات نفسية ومستفاضة بتجارب فردية حيث يظهر الشكل عندهم متماثلا ً مع الطبع وهذا النوع من الشعر يكثر في دواوين شعراء هذا العصر ومنى أوائل شعر الطبع والظرف ابن جكينا ومن شعره المطبوع في الدم :
سألوني من أعظم الناس قدرا ً قلت مولاهم انو شروان
لست اهوي صفاية غير إني ما رأيت الإعسار منذ راني
وإذا اظهر التواضع فينا فهو من أية الرفيع الشأن
ومتى لاحت النجوم على صفحة ماء فما النجوم دواني وللشر وطي البغدادي قوله :
حي جيران لنا رحلوا فعلوا بالقلب ما فعلوا
رحلوا عنا فكم ابروا بالنوى صباكم قتلوا
من لصب ذاب من كمد طرفه بالدمع منهمل
واقف بالداء يسألها سفها لو ينطق الطلل
ومن سمات الشعرالمطبوع :
أ- الأوزان الخفيفة والمجزوءة كقول بهاء الدين زهير
لله بستاني وما قضيت فيه من المآرب
لهفي على زمني به والعيش مخضر الجوانب
وقوله : يا اعز الناس عندي كيف خنت اليوم عهدي
سوف أشكو لك بعدي فعسى شكواي تجدي
ب – الذاتية : المتمثلة بياء المتكلم وأنا الشاعر ومن ذلك قوله :
يا مالكا رقي برقة خده ومعذبي دون الأنام بصده
ومكذبي وأن الصدوق وهاجري وأنا المشوق وما نعي من رفده
ج- السطحية في المضمون : الناتجة عن ظهور الشعر طبعا دون تكلف حيث يلمس المؤثر الشعوري شفاف فكتب الشاعر فتصدر عنه القصيدة وهذا ما يجعل المضمون سطحيا أحيانا ومن ذلك قول الشاب الظريف واصفا ما بينه وبين محبو بته
له مني المحبة والوداد ولي منه القطيعة والبعاد
فقلبي لا يلائمه اصطبار وجفني لا يفارقه السهار
د- قصر النفس والميل للمقطوعات القصيرة التي لا تتجاوز عشرة أبيات لأن شعرهم يمثل لحظة محدودة تخضع لتجربة مخصوصة فللشاعر تاج الملوك يوري ديوانا فيه سبع وعشرون قصيدة جلها اقل من عشرة أبيات وكذلك معظم قصائد الشاب الظريف مقطعات لا تتجاوز عشرة أبيات وعدد مقطعاته 322 مقطعة .
ومن أعلام الشعر المطبوع تاج الملوك الأيوبي وبهاء الدين زهير والشاب الظريف وغيرهم .
وهناك اتجاه بديعي جنح إلى التجدد في الشعر من خلال استخدام البديع الذي شكل تيار مال إليه أصحاب الشعر الذاتي الذي يتطارحونه في منتدياتهم كالصاحب بن عماد في قصيدته :
قد ظل يجرح صدري من ليس يعدوه ذكري
وهذا الاتجاه البديعي اتخذ من الاشتقاق والتوليد وسيلة تمد النص بالحلل الموسيقية والإيقاع الصوتي المتناسق والديباجة اللفظية وقد كان الحريري أول من فتق هذا اللون ومن ذلك قوله
بني استقم فالعود يتمي عروقه قديما ويغشاه إذا ما التوى التوى
ولا تطع الحرص المذل وكن فتى إذا التهبت أحشاؤه بالطوى طوى
وعاص الهوى المروي فكم من محلق إلى النجم لما أن أطاع الهوى هوى
وأسعف ذوي القربى فيقبح أن يرى على من إلى الحر اللباب انطوى ضوى
ومن الاشتياق الذي يكر داخل البيت حلة موسيقية جميلة قول الحريري :
فلست انس تلاقينا بضيق مني وقوله لي بذاك الخيف لاتخب
وحلفه ب الصفا أن الضمير صفا وانه لي حين الوفاة وفي
وأن هذا الاشتياق والتماثل بالأسماء والصفات يزيد المعنى رونقا وأن كان يخلو من الشعر النابض وقد استمد أصحاب البديع التلوين الموسيقي جديدهم من متامات بديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري وأسلوبه الشعري ومن كون اللغة الفصحى حاضنة للتعليم حيث اقبل طلبة العلم على النهل منها فأصبحوا بها علماء مما جعلها تلين وتسخر في الشعر إضافة إلى اقتفاء الشعراء أثار من سبقوهم في العصر العباسي مما جعل الإعجاب والتقليد يغلب على الإبداع وهذا ومن جانب آخر فان التنظير السليم للشعر بمفهومه النقدي قد تراجع عن جادة الصواب بسبب تملق المتأدبين والشعراء الصاعدين لكبار شعراء السلطة يطرونهم لينالوا رضاهم .
وبذلك فقد تكلف بعض الشعراء ما جعل قصائدهم باهتة كقول ابن سناء الملك يرثي العفيف التلمساني
لقد عفت عيش بعد العفيف على العيش بعد العفيف العفاء
فما غاب ما غاب إلا الجميل وما ملت ما مات إلا الوفاء
وإلا الصديق وإلا الصدوق وإلا الصفي وإلا الصفاء
نعم هذه الأبيات تمثل قدرة لغوية بارعة ولكنها تفتقر إلى الانسيابية الشعرية حيث أصبح هذا البديع عبئا على الشعر لا عاملا مساعدا في تطويره .
صحيح أن التجانس الصوتي على النص جمالية خاصة ولكنه إذا تحول إلى هدف فقد براعته وجماليته وحسن الأخذ فيه يقول الشاعر ابن سناء الملك .
كحلاء ما كحلت جفوني بالكرى فلا تبصرها جفوني مردودا
كحل على كحل وما احتاجت له إلا لتسقيني السلاف مولدا
ملامح التجديد في الشعر إبانة الحروب الصليبية
سلك شعراء عصر الحروب الصليبية مسلك الشعراء ممن سبقوهم حينا وحاولوا الجديد في معاني الشعر وأساليبه ومضامينه أحيانا أخرى وقد بدت ملامح التجديد عندهم في ناحيتي المعنى ( المضمون ) والمبنى )( الشكل )
ا – فمن ناحية المعنى المضمون اقتضت تراكمات الحياة بروز مضامين جديدة للشعر تمثلت في
1 – استخدام الرمز المجسد باستلهام الماضي بمسميات الأماكن والشخوص والأحداث كما حصل عند الصوفيين في رمزهم للحب الإلهي واستخدام الماء رمزا للممدوح
2- استلهام أحداث الحروب الصليبية في مضامين جديدة كتخريب المساجد والديار وهتك الأعراض ووصف آلات الحرب
3 – تصوير المتنزهات والقصور في دمشق ووصف الأتراك وتأثيرهم وجدانيا ووصف الكنائس والأديرة وما تحويه من نساء وإفرنجيات جذابة
4 – استخدام الألغاز والأحاجي في مضامين جديدة تمثل حالة اللهو والعبث
ب- ومن ناحية المبنى الشكل فقد اهتم الشعراء بالبناء اللغوي كمحور للتجديد الغني وقد وظف الشعراء اللغة توظيفا فنيا تمثل في
1- الحروف التي وظفت فنيا كاستخدام الحروف المعجمية في قصيدة واحدة أو الحروف المهملة في السياق نفسه أو بجعل كل بيت أوله يستخدمه الشاعر في القافية حتى نهاية القصيدة .
2- الكلمات التي وظفها الشعراء توظيفا دلاليا وبلاغيا وجماليا وموسيقى باستخدام الاشتقاق والتكرار والجناس وإيراد الكلمة التي ترد فيها ض ظ أو مجيء المصور وبعده اسم الفاعل في القافية .
أبى الدمع أن يشفي به هم هائم ولا ربي إلا الرشف من ظلم ظالم
يضم اصطباري من يعز ببعده منافي فوا لهني على ضيم ضائم
وكذلك البحث عن الكلمات المهجورة بقصد إظهارها وأحيائها وكذلك التكرار والجناس والطباق .
3 – التراكيب في عدد الكلمات أو جمل مختومة بحروف متماثلة الترصيع و التصديع والإكثار من الجمع والتقسيم كقول القاضي الفاضل :
همي بهم زائد زادته أربعة ينمي ويهمي ويستشري ويزداد
وكيف يبلي على العينين أربعة عدا ودمع وإطراق وسهاد
هيهات يصدق منك الظن أربعة عهد وور وأقوال وميعاد
ج – ومن ناحية الموسيقى : اتضاح دلالة الموسيقى الداخلية ومعالمها بتوظيف الحروف الداخلية المدات – الحركات – التنوين – تكرار الحروف – الكلمات المتجانسة وكذلك استخدام شعراء هذا العصر الأوزان المهملة في الدوائر العروضية واستخدام القافية فتكرارها ولزوم مالا يلزم والرباعيات والمخمسات والسداسيات والمسمطات والد وبيت وشواهد ذلك كثيرة .
د- ومن ناحية رد الفخر على الصدر فقد أكثر منه الشعراء وأبدعوا فيه كما صنع ابن سيناء الملك
ولتظهرن على عدوك أن حزب الله ظاهر
سر في ضمان الله والفتح المبين إليك سائر
وزر الخليل فقد تشوق أن تكون إليه زائر
وتستروا في زعمهم بأريجهم هل عندك سائر
ه- استخدام الرموز كمظهر تجديدي كما صنع الارجاني باستخدام الماء للعطاء الكريم = الماء .
يا ماء ها أنا عن فنائك راحل فلقد أطلت ولم ينلك رشائي
وكاستخدام الصوفيين للحب العذري رمزا للحب الإلهي .
الباب الرابع – السمات الفنية لشعر الحروب الصليبية
نتيجة للتراكم المعرفي والشعري والبحث عن الجديد والتطور تألق الشعر فنيا في جانب من جوانبه أسهم في ذلك وتنامي ألوان البديع والتعامل مع اللغة من خلال الوعي في توظيف مفرداتها وتراكيبها والاهتمام الحضاري بالزينة والتنميق ومن ضمنه الشعر إضافة إلى الاقتضاء بسبل التعليم اللغوي التي حسنها الأدباء من خلال الإرث المعرفي الذي تركه أدبنا من خلال القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ودواوين الشعراء الأفذاذ الذين سبقوا هذا العصر .
وبروز معالم الجمال الشعري من خلال تنمية الجماليات الحياتية في القصور وأدوات الزينة وزخرفة المساجد وغيرها مما جعل الأسلوب الشعري يمدنا بغيض من التراكم العرفي بحيث تلمح البناء الفني للقصائد وعمود الشعر معا وستقرئ السمات الخارجية لهذا الشعر من خلال التجانس والتقابل والتناص والاقتباس والتضعين والرمز ومدى تأثر الشعراء بالجديد في عصرهم كثائر العماد الاصبهاني بمدرسة الحريري البديعة حيث ترى كل فئة من الشعراء تتأثر بالموقع الجغرافي الذي يعيش فيه فشعراء المدن المتحضرون قد تلون شعرهم بالذوق الحضاري الذي عاشوه سواء أكان جدا أم عبثا .
ومن خلال ذلك عاشت اللغة بين المثالية والواقعية ورسمت أسلوب تعبيرها من خلال قضايا العصر الجديدة ونفسية الشعراء والموضوعات التي تحدثوا عنها فإذا كانت غزلا رقت لغتهم ولانت وإذا كانت حماسة وجهاد قويت وجزلت وإذا كانت مدحا وهجاء تناسبت مع كل غرض كما هذا العصر بانتشار الألفاظ المبتذلة وشيوع المصطلحات الدينية والعلمية وكلمات البذاءة والجنس والمزاح والمعايثه ومما شاع في هذا العصر قول البهاء زهير أصبحت لا شغل ولا عطلة ) مذبذبا في وصفة فآسره
وجملة الأمر وتفصيله أن صرت لا دنيا ولا آخرة
وقول الآخر أرى عنوان أشياء ( ما يبعد أن تجري )
ومنها أيها الزائرون أهلا وسهلا ومرحبا
ومنها راح يدعونا التصابي فسمعنا واطعنا
ومنها قال ما ترجع عني ؟ قلت لا قال : ما تطلب مني ؟ قلت شيء
وكثرت الألفاظ الشعبية السهلة والألفاظ العامية ( ياما ) ست ومجان وكذلك الألفاظ الإسلامية بسبب تلاقيهم مع الأعداء الفرنجة الدين – الكوثر النفاث – النار – المحشر – استعرت – المشعر – الكفار ) .
الباب الرابع – بناء القصيدة
لم تشذ القصيدة الشعرية في هذا العصر عن قصائد الشعراء العرب من حيث المعطى العام ولكنها حاولت أن ترسم لنفسها خارطة طريق جديدة فقد كانت القصيدة في الوقت المتزامن للحروب الصليبية حيث كان الشعراء يطيلون بمقدماتهم الشعرية والتي تصل إلى أربعين بيتا من قصيدة للشاعر الابيودي مدح فيها المقتدين بالله والتي مطلعها
بعيشكما يا صاحبي دعاينا عشية شام الحي برقا يمانيا
يتحدث فيها عن معشوقته ويشكوا زمانه وكذلك قصيدة الشاعر الارجاني في مدح وزير من ولد نظام الملك والتي تبلغ خمسا وستين بيتا والتي تصل مقدمتها تسعة وعشرين بيتا ومطلعها :
سرى ولثام الصبح كاد يخط خيال تسدي القاع والحي قد شطوا
ومع ذلك فقد بقي الشعراء لا يطيلون في مقدماتهم أكثر من خمسة أبيات وباستثناء شاعر الشام ابن الخياط الذي يطيل مقدماته الغزلية بقيت هذه المقدمات قصيرة وقد بقي الشعراء في قصائدهم يتأثرون بأعمال ممدوحيهم من جهاد في سبيل الله وأعمال الخير وتقي وصلاح ومثل ذلك ابن الدهان وأبو الفوارس أما ابن عرقلة الكلبي فقد كانت قصائده لا تتجاوز خمسة وعشرين بيتا أما قصائد الجهاد فقد كانت تباشر الموضوع وتنأى عن المقدمات كقول القيسراني
الحق منبتهم والسيف مبتسم ومال اعد مجير الدين مقتسم
قدت الجياد وحضنت للبلاد وأمنت العباد فأنت الحل والحرم ولكنها أي قصائد في السلم تستهل بالغزل الذي لا يتجاوز خمسة أبيات .
هذا من جهة القصيدة أما من حيث مضمونها فقد تلونت بتلون توجهات الشاعر وتأثره بمورداته الاجتماعية بسبب وجود التنافس بين الأجناس العربية والفارسية والتركية فمن الشعراء من استلهم القديم بأسمائه العربية ليلى – سعدى – هند – تبعا لأصوله العربية كالابيوردي الأموي الأصل ومنهم من استلهم الأسماء العربية لكونها مهبط الوحي عند شعراء الصوفية البوهيري وابن الفارض وبعضهم استلهم الماضي والمكان تبعا للعرب والأمة الإسلامية ومنهم يستلهم واقع حياته كعرقلة الكلبي في وصف دمشق .
وربما يختم الشاعر قصيدته بالغزل كما في قصيدة الشاعر الحموي في مدحه للرئيس ابن حسان
الباب الرابع – معالم الرمز في شعر الحروب الصليبية
استمر شعراء عصر الحروب الصليبية قضية الرمز في قصائدهم ذلك أن الرمز من طريقة في التعبير عن الأفكار والعواطف يستخدمها الشاعر اختصارا لقصة أو قضية أو فكرة وهو يهدف إلى معنى باطن نستشفيه من خلال المعنى الظاهر ويكون بالمحاكاة أو الإشارة أو الإيحاء أو التورية أو التلميح الملاحين والإيعاز والأحاجي وقد تعددت أنواع الرمز
ا- الرمز القرآني المتمثل باقتباس لفظه تستدعي أية قرآنية أو سورة أو قصة قرآنية كقول ابن سناء الملك .
ثفايا لا تفليل منها ولا شفى وقامته لا أمت فيها ولا عوم
إشارة إلى قوله تعالى لا ترى فيها عوجا ولا أمتا )
2- الرمز بالتراث : الديني والثقافي والاجتماعي والفلك والنجوم ومن ذلك قول فنتأن الشاغوري مشيرا إلى النفحات الإيمانية عند نبينا داود عليه السلام
تطير إذا الحادي حداها كأنما بترتيل داود النبي حداها
3- الرمز بالتورية : كالرمز بإنسان العين بالمحبوبة
يا نظرة ما جلت في حسن طلعته حتى انقضت وأدامتني على وجلي
عاتبت إنسان عيني في تسرعه فقال لي خلق الإنسان من عجل
ومنه قول الشاعر :
قسما بشمس جبينه وضحاها ونهار مبسمه إذا جلاها
أشار إلى قول تعالى والشمس وضحاها
4- الرمز بالإيحاء : ويكون بذكر كلمة في القصيدة توحي إلى معنى لاسم شخص أو لبرق أو مكان كالحجاز والعقيق والحمى والهوادج التي ترمز للترف والثراء عند المرأة ومن ذلك اسم لبيد واربد إشارة إلى قصة الشاعر لبيد ابن الأعصم مع أخيه اربد حيث بكى الأول الثاني بكاء حارا .
بكيت على عصر الشباب الذي مضى بكاء لبيد ضم اربد القبر
5- الرمز بالمشابهة : ويقوم على المحاكاة كاستدعاء صورة لمحها الشاعر صورة أخرى تماثلها وتشايعها كتشبيه الشاعر الجيلاني لموكب نجم الدين الأيوبي لما وند على ابنه صلاح الدين بمصر بقصة يوسف عليه السلام مع إخوته وأبيه .
في مشرق المجد نجم الدين مطلعه وكل أبنائه شهب فلا أفلوا
جاؤوا ليعقوب والأسباط إذ وردوا على العزيز من أرض الشام واشتملوا
لكن يوسف هذا جاء إخوته ولم يكن بينهم نزع ولا زلل
وملكوا أرض مصر في شماخته ومثلها لرجال مثلهم نزلوا
6- الرمز الأسطوري : ويشير إلى علاقة عجيبة بحادثة خارقة أو كالخرافات القديمة كقول عرقلة الكلبي في الشعري والجوزاء وبرج الحمل
شعرا تعالى على الشعري وجاز على الجوزاء وأصبح محمولا على الحمل
7- الرمز التاريخي : كتمثيل حادثة معاصرة للشاعر بحادثة تاريخية كتمثيل فتوحات صلاح الدين بفتوحات عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه .
يقول عرقلة الكلبي :
مثل فتوح الفاروق نائله شرقا وغربا في السهل والجبل
8- الرمز الصوفي : كاستخدام الشعر العذري رمزا للحب الإلهي عند الصوفية كقول ابن عربي
ادر ذكر من أهوى ولو بملام فان أحاديث الحبيب مرامي
الحبيب هنا هو ( الله ) تعالى بزعمهم
الباب الرابع – الصورة الشعرية عند شعراء الحروب الصليبية تعد الصورة الشعرية من أعظم الأدوات التي يستخدمها الشاعر في توصيل أفكاره ومعانيه للمتلقي فإذا أحسن الشاعر استخدامه بلغ مراده في إقناع المتلقي وبجمالية نصه والشعراء على مر العصور يستخدمون الصورة الشعرية كل بحسب عصره وثقافته وذكائه وشعراء الحروب الصليبية كغيرهم من الشعراء استخدموا هذه الصورة الشعرية من خلال التشبيه والاستعارة والكناية وبذلوا معظم جهودهم في اتقاتها وإبرازها في أبها حلة وأحسن صورة ومن الصور الرائعة ما ورد في قصيدة الشاعر أبي الفوارس حيص بيص .
لواني زماني بالمرام وربما تقاضيته بالمرهفات القوا ضب
وأحسن أبو الفوارس استخدام التوظيف الزمني في الصورة كقوله ( خذوا من ذمامي ) فيه استحضار للمستقبل واستعدادا له وقوله لواني زماني فيه دلالة زمنية على ثبات الصراع مع الأحداث وقوله تقاضيته بالمرهفات إشارة إلى مرارة الصراع والإنهاك الذي توحي لفظه تقاضيته لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى واستخدام الشعراء قصائدهم التصوير الحركي والتشخيص والتجسيم ومن ذلك
على حينما ذوت الصبا عن صبابة ديار المطايا عن عذاب المشارب
فقد صور الصبابة بالإبل وصور الصبابة بالحياض وهكذا تحولت الدواعي النفسية والحب إلى أجسام وأشخاص تتحرك كذلك في قول ابن الخياط :
يقيني يقيني حادثات النوائب وحزمي حزمي في ظهور النجائب
حيث جعل اليقين يتصدى به مصائب الحياة وشيه حزمه الصادق بحزام الراحلة فاليقين والحزم معاني تحولت إلى ماديات وأجسام وكثيرا ما كان الشعراء يشبهون المدن بالفتاة البكر التي لم يحجبها وليها كما فعل القيسراني في تصوير دمشق :
خطبت فلم يحجبك عنها وليها وخطبت العلى بالسيف مادونه ستر
ومن ذلك تصوير تقي الدين عمر بن شاه نشأة للقدس بعد فتحها بالقادة الحسناء
جاءتك أرض القدس تخطب ناكحا يا كفاها ما العذر من عاذراتها
زقت إليك عروس خدر تتجلى مابين اعبدها وبين أمائها
إيه صلاح الدين خذها غادة بكرا ملوك الأرض من وقبائها
كم خاطب لجمالها قد رده عن نيلها أن ليس من اكفائها
وغالبا ما يستخدمون المرأة طرفا في صورهم الشعرية ولو كانت الصور حربية ومصادر هذه الصور أما القرآن الكريم كقول احدهم:
شربت شرب الهيم من فم ذاك الريم
فقوله شرب الهيم مأخوذة من قوله تعالى فشاربون شرب الهيم .
والحديث النبوي الشريف كقول احدهم:
قد غم بدر التمس منه فهو في الغموم
ذاك الكريم ابن الكريم ابن الكريم الخيم
فقوله قد عم إشارة إلى الحديث الشريف إذا غم عليكم وابن الكريم إشارة إلى يوسف بن يعقوب ويصور ابن النبيه المصري الخليفة محاطا بالملائكة
يعلوه من زمر الملائك فيلق بالرعب ينصر عزمه ويؤيد
كذلك يستوحي الشعراء صورهم من التراث الشعري الجاهلي والإسلامي والطبيعة الفاتنة من حدائق ورياض غناء
لله أيامي بقليوب والعيش مخضر الجلابيب
والطير في الأغصان فاتنة مابين تلحين وتطريب
والشمس في المغرب مصفرة كعاشق من بعد محبوب
وقد تكون الصورة مستمدة من تصاد ير الفر نجيات أو العنصر التركي وهذا باب واسع نكتفي منه بذلك .
الباب الرابع – الموسيقى الشعرية لأدباء الحروب الصليبية
تتضمن الموسيقى الشعرية جانبين مهمين هما الأوزان والقوافي وتعني الموسيقى الخارجية والنغمية المتواترة داخل كل بيت وتعني الموسيقى الداخلية .
وقد تأثرت موسيقا الشعر في هذا العصر بنوعيها بالقيم الحضارية الجمالية التي عاشها أبناء هذا العصر وقد رحلت الموشحات الأندلسية إلى المشرق وروضها ابن سناء الملك وكذلك كتب شعراء هذا العصر شعرهم على شكل رباعيات ومسمطات ومخمسات وتجاوزوا ذلك إلى لون جديد قائم على الإيقان بوزنين مختلفين وقافيتين مختلفتين كقول ابن الهبارية .
بالعين يصطاد الضب + العين في تلك الدروب + والاصطياد لباطل
وأنا خفيف الكيس في + اسر الحوادث والخطوب + حليفهم شاغل
وتعد المسمطات اقرب نسبيا للموشحات ومما قاله ألشروطي
يا ريم كم تجنى ؟ لم قد صددت عنا صل عاشقا معنى بالوصل ما تهنا
السلسبيل ريق والشهد والرحيق والورود والشقيق من وجنتيه يجنى
وقد يعمد الشعراء إلى جعل كل القصيدة المصراع حروف والقافية حرف آخر
للحرب صار حسامه إلى مهج يلقي الشرار غراره غداة طحا
وقد يتناثر التصريع في قسم كبير من الأبيات بعد أن كان يضم البيت الأول للقصيدة وربما عمد الشعراء إلى التلوين الموسيقي كما قول الطفرائي :
يا أيها المولى الذي اصطنع الورى شرقا وغربا
والمستعان على الزمان إذا اعترى واجد حربا
لقد ابتنيت الملك مرفوع الذرى بك مستتبا
وقد أكثر الشعراء من الأوزان القصيرة والمجزوءة والمشطورة والمنهوكة في المدح ومن ذلك ما يقوله فتيان الشاغوري في مدح الأمير بدر الدين مودود
مولاي بدر الدين لا عاندك الزمان
ودمت ما أقام في مقامه ثهلان
يكلؤك القرآن مما يحدث القرآن
أما الموسيقى الداخلية فقد أكثر منها الشعراء توفيرا للإيقاع المنبعث من داخل البيت الشعري نبرا وجرسا وموسيقى وترصيعا وتجانسا وهذا الأخير التجانس له دور كبير في تكوين الموسيقى الداخلية وكذلك أسهم في تنويع هذه الموسيقى الداخلية التقابل والتضاد ومن ذلك تكوين البيت الواحد من كلمات متماثلة في الوزن كقول العماد الاصبهاني :
انتم ملوك زماننا وسراته وكرامه وعظامه وفصاحة
عظماؤه كبراؤه فضلاؤه ورزانة ورصانة وصباحه
وكقول فتيان الشاغوري :
والنبت بين معمم ومنمنم والروض بين مغوف ومدبج
والماء بين مكفر ومعتبر ومصندل ومسلسل ومسجسج
والطير بين مغرد ومعربد والورد بين مزور ومفرج
وقد تكون الموسيقى الداخلية بتكرار الحروف في الكلمة أو تكرار الكلمة في الجملة
فأعجب له رشأاغن مهفهفا يسطو على أسد أزل مهجهج
ودمشق في دمشق رجال سلم لحور نسائهم منهم نساء
وقد يكون بتكرار حرف المد المتناسب مع نغمة الانين والحزن وقد يستخدم الشعراء التجانس
يضني فؤادي ويضني جفني مقلته بكسرها فهو يضنيها ويضنيني
وقد يستخدمون التقابل كقول ابن سناء الملك :
هو الملك المحيي المميت ببأسه ونائله أيان يرجي ويرهب
فقد قابل بين يحيي ويميت لما لهما من وقع في نفس الإنسان وكذلك الازدواج حيث تتعادل الجمل فتماثل النغمات كقول الابيوردي :
فالعدل منتشر والعزم مجتمع والعمر مقتبل والرأي مكتهل
وقد يكون تقارب مخارج الحروف أو تباعدها أو توسطها مكونا من مكونات الموسيقى الداخلية مع العلم أن بعض التقارب قد يكون ثقيلا يقول فتيان الشاغوري :
أن شدت أنشدت نسيب نصيب أو تغنيت غنيت عن إسحاق
الباب الرابع – المعارضات الشعرية أيان الحروب الصليبية
أعجب الشعراء في عصور ما بعد الجاهلية وصدر الإسلام والعصر العباسي بمن قبلهم من الشعراء لما وجدوه عندهم من بناء ساحق للقصائد من حيث الأفكار والموضوعات واللغة والأسلوب من خلال ما جاءت به قرائحهم النقية وطبعهم السليم حتى غدت قصائدهم نموذجا فاخرا من حيث الشكل والمضمون
وقد جاءت أحداث هذا العصر مشابهة في بعضها للعصور السابقة مما حدا بالشعراء إلى بناء قصائدهم على الوزن والبحر والقافية نفسها كما صنع الشاعر القيسراني بمعارضته لقصيدة أبي تمام في فتح عمر ربه
قال أبو تمام :
السيف اصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
وقال القيسراني :
هذي العزائم ما لا تدعي القضب وذي المكارم لا ما قالت الكتب
وكذلك عارض العماد والاصبهاني قصيدة أبي تمام قائلا :
بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب كم راحة جنيت من روحة التعب
وكذلك عارضها الجاحظ أبو القاسم في مدح نور الدين :
لما سمحت لأهل الشام بالخشب عرضت مصر بما فيها من النشب
ومن العارضات الأخرى ما قاله ابن الدهان في ناصر الدين محمد بن شيركوه معارضا لامية كعب بن زهير رضي الله عنه قال كعب :
بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول متيم أثرها لم يغد مكبول
وقال ابن الدهان :
سيف يجفنك مغمد مسلول ماض على العشاق وهو كليل
وقد تكون المعارضات من شعراء عاصروا بعضهم كما حديث بين ابن منير الطرابلسي والعماد الاصبهاني
قال الطرابلسي :
حي الديار على علياء جيرون مهوى الهوى ومغاني الخرد العين
وقال العماد الاصبهاني :
اهدي النسيم لنار يا الرياحين أم طيب أخلاق جيراني بجير ون
كما وشطر الشعراء قصائد غيرهم كتشطير شرف الدين الأنصاري للامية كعب بن زهير وكلا القصيدتين في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم
أوهمت نصحا لوان النصح مقبول لا أنهيك إني عنك مشغول
بأن التجدد عني والتصبر مذ بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول
ومن ذلك مسمطات لشاعر أسامة بن منقذ التي سمط فيها شعر قيس بن ذرع ومجنون ليلى ومهيار ومن تسميطه لشعر قيس
كعهدك بأنات الحمى فوق كثبها
ودار الهوى تحمي العدى سرح سربها
أقول وسمر الخط حجب لحجبها
سقى طل الدار التي انتم بها حناتم ويل صفي وربيع
بدارك ما بي من بلى الشوق والهوى
وبي ما بهاء من وحشة البين والنوى
الفصل السادس – الشعر التأملي – حروب صليبية
يعد الشعر التأملي من أنواع الشعر التي يقرا صورة الكون والحياة على صفحات النفس الإنسانية حيث تتجلى عظمة الخالق وقد أكثر الشعراء في هذا العصر وخاصة الشعراء الصوفيون من هذه التأملات الذاتية والإنسانية وقد أكثر الشاعر البوصيري من هذه التأملات التي تستمد هذا التأمل من قوله تعالى (وفي أنفسكم أفلا يبصرون )
يا قسوة القلب مالي حيلة فيك ملكت قلبي فأضحى شر مملوك
حجبت عني افا دات الخشوع فلا يشفيك ذكر ولا وعظ يداويك
وما تماديت من كسب الذنوب ولكن الذنوب أراها لصق تماديك
وأنت يا نفس مأوى كل معضلة وكل داء قبلي من عواديك
أنت الطليعة للشيطان في جسدي فليس يدخل إلا من نواحيك
ولما بلغ الشاعر الصر صري الستين اخذ يئن تحت وطأة الأمراض ويستذكر من قضى نحبه من محبيه وأهله حيث يقول
ذهب الشباب وخانني جلدي وتفشت الأسقام في جسدي
ورمتني السنون من عمري فأصاب رشق سهامها كبدي
ويتألق القاضي في تأمله قائلا :
نظرت إليه نظرة فتحيرت دقائق فكري في بديع صفاته
فأوحى إليه القلب إني أحبه فاثر ذاك الوهن في وصفاته
وقد يتأمل الشعراء في صفات الله تعالى وفي مخلوقاته وسمائه وأرضه ونجومه فهو الذي رصع السماء بنجومها وانشأ السحاب الثقال وحبل الشمس ضياء والقمر نورا ومحا أية الليل ورحى الأرض .
فيا ملكا زان السماء بأنجم على الفلك الأعلى طفت أحسن الطفو
وسخر ما بين السماء وأرضه سحائب يخفو برقها أحسن الخفو
وأبقى على شمس النهار ضيائها وخص بنقص أية الليل بالمحو
ولما دحا الأرض اقتدارا وحكمة علما الماء ارسي الشم في اثر الدحو
واحييا بفضل ميت الأرض بالحيا وزينها من بعد ذلك بالصحو
ولكن تأمل الشعراء في هذا العصر لم يصل إلى حد التفلسف انه تفكر وتذكر واعتراف لله بقدرته وفضله
الفصل السابع – الشعر العابث
يعد الشعر العابث لونا جديدا في هذا العصر جاء نتيجة الميل للزخرفة القولية ومحاولة اكتشاف طرق جديدة للتعبير عن قضايا عصرية أو لادعاء التجديد في الشعر ومن ذلك قول الحريري الذي يمثل هذا العبث اللغوي
أس أرملا إذا عرا وارع إذا المرء أسا
اسند أخا بنا هسة ابن أخاء دنسا
اسل جناب غاشم مشاغب أن جلسا
اسر إذا هب مرا وارم به إذا رسا
اسكن تقو فعي يسعف وقت نكسا
وإذا كانت الأبيات تفتقر إلى التدفق الشعوري وتخلو من المضمون وتنأى عن الخيال الشعري المبدع فإنها تنبض بالصناعة اللفظية التي تجاوزت دور الشعر في عكس صورة الحياة .
وكذلك قول الارجاني في بيته المشهور :
مودته تدوم لكل هول وهل كل مودته تدوم
وقد تكتب الشاعر أبياتا غير معجمية أو أباتا تأكلها معجمه الحروف مثل :
اعدد لحسادك حد السلاح وأورد الأمل ورد السماح
واسع لإدراك محل سما عماده لا لادراع المراح
والله ما السؤدد حد الطلا ولا مراد الحمد رؤد رداح
ومثل :
فتنتني فجننتني تجني بتجن يفتن غب تجن
شفتني بجفن ظبي غضيض غنج تقيضي تغيض جفني
وقد يلتزم الشاعر الحرف الأول من الأبيات ليماثل آخرها أو قد يستهل كل بيت بحرف من حروف الميم حتى آخر القصيدة ويعبر هذا العبث الشعري عن نزهة أدبية يرتادها الشاعر في فراغه ولهوه ومنتدياته .
وقد أكثر شرف الدين الأنصاري من اللزوميات في مقطوعاته ومن ذلك ما قاله في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم .
أمر علياك في الورى غير خاف فأليك انتهى مدى الأوصاف
بعث الله منك خير بني خاتم الرسل فاتح الأطراف
وهكذا فلم يكن هذا اللون العابث مما انتشر عند كل الشعراء بل كانوا يتداو لونه لهوا .
الفصل الثامن شعر الألغاز والأحاجي
يتبين لنا من خلال معنى كلمة لغز في الشعر غموض شعري بقصيدة إخفاء معنى من معاني تحت عباءة ألفاظ موهمة تؤول عدة تأويلات بحيث يكون للكلام ظاهر عجيب وباطن غير عجيب من خلال التلاعب بالألفاظ من خلال صنعة أدبية ومع توغل الصليبيين في عالمنا الإسلامي وما وقع للمسلمين من هزائم لم يكن لهذا النوع من الشعر وجود ولكنه لما استعاد الأيوبيين بيت المقدس وخفت الحروب وكثر الفراغ والثراء انتشر هذا اللون من الرياضة الشعرية الفكرية من خلال المباريات والمطارحات القولية والارتجالية ومن هذه الألغاز في العقرب .
وما حيوان يتقي الناس شره على انه واهي القوى واهن البطش
إذا ضعفوا نصف اسمه صار صائرا وأن ضعفوا باقية صار من الوحش
ومنه في تلغيز المشمش والسمسم
نباتان من أصله سامق قاس وذا من خائي قاصر
أيهما صحفت معكوسا دل بلا شك على الآخر
ويفتقر شعر الألغاز إلى خاصية التجربة الشعورية وما يؤثر في النفس وهي بذلك تقترب من النظم أكثر من الشعر قريبة إلى الارتجال والسطحية الفنية وتبتعد عن الإبداع والمضمون الإنساني للشعر وقد كتب الملك المعظم لغزا في الإسلام وطلب من الشاعر ابن عنين الإجابة عنه
أي شيئا تراه حقا يقينا حالما اعوج في الزمان استقاما
وقد رد عليه ابن عنين وقرضه قائلا :
أيها السيد الذي جعل الشر ك حطاما وشيد الإسلام
قد أتاك الجواب لا شك فيه فاتخذني للمشكلات إماما
ومن ذلك قول البهاء زهير ( يافا )
بعيشك خبرني عن اسم مدينة يكون رباعيا إذا ما ذكرته
على انه حرفان حين تقوله ومعناه حرف واحد أن قلبته
ومنه قول الشاب الظريف في ( مقراض )
ومجتمعين ما اجتمعا لاثم وأن وصفا بضم واعتناق
لعمر أبيك ما اجتمعا لمعنى سوى القطيعة والفراق
وقد أدرك الأوائل عبثية هذه الألفاظ فلم يدونوها وإنما جاءت في هذا العصر كتسلية مداعبة ومطارحة .


الباب الثالث
أدب الحروب الصليبية
الاتجاه الفكري في الشعر إبان الحروب الصليبية
الباب الثالث
الفصل الأول
الحروب الصليبية :
الحياة السياسية:
أيقظت فتوحات المسلمين لبعض أجزاء أوروبا كالأندلس وصقلية ومالطة وقبرص وكريت في نفوس أهل أوروبا المسيحية رغبة العودة إلى مهد المسيح بيت المقدس حيث كانت أوروبا تعيش نظاما اقتصاديا سيئا قائما على الإقطاع الذي نما بفعل تحول المال للابن الأكبر أرثا وكثر الأمراء والنبلاء والإقطاعيون وشكلوا إمارات ومماليك لم تنج من الصراع إلا باتجاه عدد واحد تتجه إليه تلاقي مع نداء البابا للسواد الأعظم من العامة الذين يعيشون حالة من الفقر والحرمان ورغبة من الكنيسة في توجيه الصراع ضد المسلمين بدل أن تكون صراعا داخليا خاصة وان السلاجقة المسلمون توغلوا في آسيا الصغرى وحاصروا القسطنطينية مما اضطر الإمبراطور للاستعانة بالكنيسة في القرن الحادي عشر للميلاد بعد أن منعوا حجاج أوروبا زيارة بيت المقدس وهذا بدوره جعل بطرس الناسك يدعو إلى الجهاد المقدس في أوروبا وعم ذلك البابا اربان الثاني الذي عقد مجمعا لرجال الدين والفرسان تعاهدوا فيه على الحرب إضافة إلى دعوة التجار إلى تأجيج الحرب وكذلك تحول المجريين إلى المسيحية وفتح الطريق بين غرب أوروبا وشرقها .
فكانت الحملة الصليبية الأولى 488 – 492 1095 – 1099 والتي هدفها الهيمنة على بيت المقدس وشعارها الصليب واندفع الناس بتحريض من بطرس الناسك وبقيادة عدد من ملوك فرنسا وألمانيا وجيوش الدولة البيزنطية حيث استولت على عاصمة السلاجقة في الأناضول 490 – 1097 ثم دخلوا أنطاكية وطرابلس الشام وبيروت وعكا ودمشق ودخلوا بيت المقدس 492 – 1099 وحاول الفاطميون والسلاجقة والأيوبيون أن يستنقذوا القدس ففشلوا ثم الحملة الصليبية الثانية 542 – 1147 حيث أوقفت هزائم في الساحل الشامي وقد أضعفت تصدي الفاطميين والسلاجقة وحاكم دمشق للصليبيين شوكتهم فطلبوا إمدادا جديدا وكبيرا خاصة وان عماد الدين زنكي قد استعاد منهم حصونا كثيرة ثم جاءت الحملة الصليبية الثالثة 585 – 588 1190 -1192 لاسترداد الرهان وحماية الإمارات الأخرى .
وقد دخل ضمن الحملة الثانية استعادة بيت المقدس من قبل صلاح الدين ثم كانت الحملة الرابعة 598 – 1202 التي انشغلت بثورة القسطنطينية ولم تصل للمشرق ثم الحملة الخامسة 615 – 1217 والتي وصلت الشام وحملة أخرى لمصر 616 – 1218 حيث وصلت دمياط وأجلاها عن دمياط الملك الكامل 618- 1221 ثم أرسل الصليبيون حملة سادسة بطلب من الملك الكامل لمحاربة أخيه المعظم حاكم دمشق مقابل تسليم بيت المقدس لفريدرك ولما وصلت الحملة قبرص مات الملك المعظم وامن الملك الكامل وسلم فريدريك بيت المقدس للكامل 626 وبعد موت الكامل وصلت حملة صليبية إلى عكا 637 وعادت بعد معاهدة مع الصالح أيوب 639 ثم هزم ملك فرنسا من قبل .
من قبل الملك الصالح وزوجته شجرة الدر 647 – 1254
الباب الثالث
الفصل الثاني
الحياة الإدارية
تحولت سلطة الخلافة العثمانية الإدارية التنفيذية للبويهيين والسلاجقة بقيادة طفرليك 429 – 1038 وقضى على دولة القزنوليين 432 –وقدم إلى بغداد 451 – وقد كان هم السلاجقة بناء القوة العسكرية وانتصروا على الدولة البيزنطية ووقعت لهم الخزية واهتموا بنشر المذهب السني وبناء المساجد والمدارس ولكن موت ملكشاه ونظام الملك في عام واحد قوض أركان دولتهم وتفرقت إلى شيع حيث تقاسم الاتابكة وأبناء السلاجقة الملك وانتشرت الحروب والفتن الداخلية وتنشغل السلاجقة عن جبهة الرومان مما هيا للصليبيين الاستيلاء على القوى خلال عامين واحتلت مع معظم مدن الشام الساحلية فاستنفر المسلمون شعوبا وأمراء لصد الفرنجة مع أن دار الخلافة والوزراء منشغلون في المكائد والبطش ونهب الأموال والتنافس حول الخلافة كتنافس إمارة بني عقيل العربية في الموصل والإمارة المزيدية الاسدية واوبيس الثاني بن صدقه الذي خشي الخليفة منه وقبل به تحت نفوذ السلطان محمود السجلوقي .
وبما أن أمراء السلاجقة كانوا يعهدون لأحد الاتابكة بتربية أولادهم ويقطعونهم الأموال فإنهم تمكنوا من قتل أمراء السلاجقة والاستيلاء على ولاياتهم ومن أشهر اتابكة دمشق والموصل وحلب وكان اتابكة دمشق أول من فتكوا بأمراء السلاجقة الذين أصبحوا حكاما لدمشق 498 فحاربوا الفرنجة في عسقلان وحوران ووادي موسى وغور الأردن وجبال البلقاء وبقي الاتابكة يحاربون الإفرنج والباطن حتى تمكن عماد ونور الدين زنكي من الاستيلاء على دمشق 549 وتولى اتابكة دمشق قيادة الجيوش الإسلامية ضد الصليبيين بعد أن ضم عماد الدين زنكي الموصل وحلب وهاجم الحصون الصليبية قرب حلب وحماة وشيزر واخرج الروم من شيزر فقال الشاعر ابن قسيم الحموي .
بعزمك أيها الملك العظيم تذل لك الصعاب وتستقيم
الم ترى كلب الروم لما تبين انك الملك الرحيم
فجاء يطبق الغلوات خيلا كان الجحفل الليل البهيم
ثم حاصر عماد الدين الرها وأخذها وتحلق الشعراء حوله ودعوه لجهاد الفرنجة ولكن غلمانه قتلوه وهو يحاصر قلعة جعبر عام 541 فرثاه الشعراء ومنهم أبو ليلى التميمي حيث قال
عيني لا تدخري المدامع وابكي واستهلي دمعا على فقد زنكي
ثم تابع ابنه نور الدين زنكي قتال الصليبيين دون استعانة بالخلافة ولا بالسلاجقة فاستولوا على دمشق 549ثم على مصر بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي الذي استلم الوزارة بعد موت شيركوه واسقط الخلافة الفاطمية 567 واعترف بالخلافة العباسية ونشر المذهب السني في مصر يؤازره نور الدين زنكي واتفق الاثنان على شن حملة ضد الصليبيين في بيت المقدس فمات نور الدين 569 وانشغل صلاح الدين 51عاما في توحيد الشام وضمها لولايته وسطر الشعراء فتوحه وقد استرد الرها وانتصر على الفرتجة في بصرى وفتح أنطاكية وقد قال في ذلك القيسراني
هذي الغرائم ما تدعي القضيب وذي المكارم لا ما قالت الكتب
واحتضرت الدولة الفاطمية في عهد نور الدين مما دعا الفرنجة لغزوها ثم انه استعاد دمياط من الفرنجة وكان الخليقة العباسي المتغبر يستعجل نور الدين زنكي وصلاح الدين بإسقاط الخلافة الفاطمية والدعاء له وهم يعدون لحملة ضد الصليبيين وعاجلت النية نور الدين 569 فاتجه صلاح الدين لتوحيد البلاد فضم دمشق 570واستمر في توحيد البلاد ومحاربة الفرنجة حتى 583 وحدثت معركة حطين 583وانتصر المسلمون على الفرنجة على الرغم من قلة عدد جيوش المسلمين الذي بلغ 12 ألف بينما بلغ عدد الفرنجة 50الفا وفي ذلك يقول ابن الساعاتي
حليت عزماتك الفتح المبينا فقد قرت عيون المؤمنينا
ثم توجه نحو القدس وفتحها في العام نفسه ولما مات صلاح الدين اختلف أبناؤه بعده شانهم شان أسلافهم السلاجقة والزنكيين .


الباب الثالث
الفصل الثالث
الحياة الاجتماعية (المجتمع من خلال الشعر)
إذا كانت أصول المعايش أربعة الإمارة والتجارة والفلاحة والصناعة فان المجتمع في هذا العصر لم يعتمد في جلب الرزق إلا على الخدمة التي تعنى عدم قدرة المجتمع على الإنتاج إضافة إلى عدم اخذ السلطات بمبدأ توظيف الموارد للفرد والمجتمع على الرغم من كون العلماء يدعون إلى بناء الأرض وكذلك تحدث الشعراء عن وظائف الخدمة والبطالة وفي ذلك يقول ابن تميم
والله ما فقرنا اختيار وإنما فقرنا اضطرار
جماعة كلنا كسالى وأكلنا ماله عيار
نتسمع منا إذا اجتمعنا حقيقة كلها فبشار
وقد غاب عن العالم الإسلامي الخطط الاقتصادية حتى عن أولئك الحكام العادلين كعماد الدين زنكي ونور الدين زنكي وقد انقسم المجتمع إلى طبقات متعدده الطبقة المالكة طبقة - الفلاحين الطبقة - الغالبة الشعبية وهي طبقة باطلة عن العمل وقد تبددت ثروات الناس وخاصة العراق بين المتسلطين وفي ذلك يقول احدهم
سلام على مال العراق فانه مضى حيث لا نفع لذاك ولا نصر
وكذلك تحدث إليها زهير عن ظاهرة النفاق والتملق قائلا .
أرى قوما بليت بهم نصيبي منهم نصبي
فمنهم من ينافقني فيحلف لي ويكذب بي
ويلزمني بتصديق الذي قد قال من كذب
وقد طالب الشاعر الجيلاني كل مسلم إلى التماس مهنة تفيده ويصلح بها المجتمع
بذلت وقتا للطب كي لا ألقى بني الملك بالسؤال
ويتحدث أبو الحسين الجزار عن الطبقة الفقيرة بسخرية قائلا
لي من الشمس خلقه صغراء لا أبالي إذا أتاني الشتاء
ومن الزمهرير أن حدث الغيم ثيابي وطيلساني الهواء
وكذلك تحدث الشعراء عن المنازل وأذى الحشرات بينها وفي ذلك يقول كمال الدين الأعمى .
الخير عنها نازح متباعد والشردان من جميع جهاتها
الباب الثالث
الفصل الرابع
الغربة والاغتراب
ليس هناك ألم يحفر في النفس اشد من الغربة والاغتراب فالغربة نار محرقة تلذع صاحبها كلما ذكر مسكنه أو وطنه وخاصة إذا كانت الغربة اضطرارية وأكثر ما كان اغتراب الناس بسبب الحاجة للمال أو لطلب العلم أو لمرافقة السلاطين في أستارهم وحروبهم الداخلية والخارجية والاغتراب قد يكون والمرء في وطنه وفي بيته ومسكنه بسبب تردي العلاقات الاجتماعية السيئة وكثرة الكذب والنفاق وعدم الوفاء والحاجة والفقر وضنك العيش وفي ذلك يقول هبة الله بن علي الربعي
لا عز للمرء إلا في موطنه والذل غاية ما يلقي من اغتربا
وقد شكا علي بن حسن بن عساكر غربته في تيسابور حيث لا صديق ولا سكن ولا مأوى .
لا قدس الله نيسابور من بلد ما فيه من صاحب يسلي ولا سكن
لولا الحميم الذي في القلب من حرق لفرقة الأهل والأحباب والوطن
لمت من شدة البرد التي ظهرت أثار شدته في ظاهر البدن
حتى أننا لنجد البهاء زهير يتمنى الاستقرار حتى تأتيه منيته
ليت شعري ليت شعري أي ارض هي قبري
ضاع عمري في اغتراب ورحيل مستمر
وقد أكثر الأمير اسأمه بن منقذ من شعر الاغتراب وكذلك الشاعر المغترب ابن عتين يضاف إلى ذلك غرابة الشعراء الصوفيين من خلال انزوائهم في الزاوية وخروجهم من المجتمع وهم فيه مدعين الصلة بالله ومن ذلك همزية ابن الغارض .
يا ساكني البطماء هل من عودة أحيا بها يا ساكني البطماء
وا حسرتي ضاع الزمان ولم أفز منكم أهل مودتي بلقاء
الباب الرابع
الموضوعات الشعرية إبان الحروب الصليبية
الباب الرابع
الفصل الأول
شعر المناسبات
وبديعة ابن حجة الحموي .
موضوعات الشعر الانحدار
تنوعت موضوعات الشعر في هذا العصر بحسب مقتضيات الواقع والحياة والثقافة فكانت
1- المديح بقي شعر المديح على طريقته التقليدية بسبب قلة اهتمام الشعراء به وخاصة المحترفين لان أمراء المماليك وسلاطينهم لم يهتموا بالشعر ولم يعطوا عليه الجوائز وان بقي مديح الأعمال العسكرية ومديح الأصدقاء والفضلاء والعلماء فمدحوا الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون والاشرف خليل والناصر محمد لأعمالهم العسكرية وتقدم المديح النبوي في هذا العصر كما عند البوصري والجزار وشهاب الدين الحلبي وابن بناته وصفي الدين الحلي وتجاوز شعراء الصوفية مديح النبي إلى مدح الله تعالى كما فعل محمد بن إسرائيل في قصيدته السينية التي بدأها بقوله :
يا ناق ما دون الاثيل معرس جدي فصحبك قد بدا يتنفس
واستصبحي عزما يبلغك الحمى لتظل تغبطك الجواري الكنس
وقد كانت قصائد المدح مادة للإنتاج في المواسم الدينية وحلقات الصوفية وقد استشهد الشاعر المداح شهاب الدين السنهوري الضرير بقصائد مدح جرت السنة المداحين .
وقد كان محمد الهمندر قد خلد بطولة الظاهر بيبرس في واقعة الفرات حيث هزم التتار
لو عاينت عيناك يوم نزالنا والخيل تضبح في العجاج الاكدر
لرأيت سدا من حديد مائد فوق الفرات وفوقه نار ترى
وكذلك قال شهاب الدين محمود بعد فتح عكا على يد الاشرف خليل
مررت بعكا بعد تخريب سورها وزنهر اوار النار في وسطها داري
وعاينتها بعد النصر قد غدت مجوسية الأبراج تسجد للنار
وما قاله الشهاب محمود في سقوط حصن المرقب الحصين
الله اكبر هذا النصر والظفر هذا هو الفتح ما تزعم السير
2- رثاء المدن
كتب الشعراء في عصر الانحدار في رثاء المدن التي سقطت تحت ضربات الأعداء كما في رثاء القدس للابيوردي حين سقطت بيد الصليبيين في القرن الخامس حين قال
أن لم تقرح ادمعي أجفاني من بعدكم فما أجفاني
أو كما في رثاء القدس وخرابها حين سقطت بيد التتار للقاضي مجد الدين
مررت على القدس الشريف مسلما على من تبقى من ربوع كأنجم
ففاضت دموع العين مني صبابة على ما مضى من عصرنا المتقدم
وكذلك في رثاء دمشق للغزولي في وقعة للتتار
3- الغزل وهو موضوع قديم جديد تغيرت معانيه في هذا العصر بما يناسب الذوق ومقاييس الجمال عند المرأة حيث أخذت محاسن التراك تحرك مشاعر الشعراء فأعجبوا بالعيون التركية الضيقة بعد إعجابهم بالحور العين سابقا الواسعة المسيلة وفي ذلك يقول علاء الدين الجويني
أبادية الإعراب عني فأنني بحاضرة الأتراك نيطت علائقي
واهلك يا نجلا العيون فأنني فتنت بهذا المنظر المتضايق
ويقول ابن بناته
وخاطر عنت الأشواق للجبه جاذر الترك لازي الاعاريب
ومن كل أعين ضاقت عينه فمتى يجود لي من تلاقيه بمطلوب
مذكرا يقول المتنبي
من الجاذر في زي الاعاريب حمر الحلى المطايا والجلاليب
وقد كثر الحديث عن جمال القدود التركية وبياض الوجوه وكذلك نعومة النساء التركية وضيق عيونها مع ما تميزت به المرأة من جمال ردده الشعراء في معاني الغزل التقليدية من خلال عرض جديد كقول الشاعر
أصغي إلى قول العزول بجملتي مستفهما منه بغير ملال
لتلقطي زهرات ورد حديثكم من بيني شوك ملامة العزال
مذكرا بقول بشار بن برد
وكان رجع حديثها قطع الرياض كسين زهرا
4- الوصف وهو موضوع تركز على تصوير الطبيعة الصامتة والمتحركة جماد حيوان مكن خلال مزج مشاهد هذه الطبيعة وعاطفة الشاعر ومشاعره وتجاهها حيث يخلع الشاعر عواطفه ويلبسها للطبيعة كما في قول صفوان بن إدريس 798
جاد الربا من بانة الجرعاء نوان من دمعي وغيم سماء
هل تلقي في روضة موشية خفاقة الأغصان والأوفياء
وجرت ثغور الياسمين فقبلت عني عذات الاسة الميساء
وقد مال الشعراء الوصافون إلى التشخيص والتجسيم كقول الشاعر في وصف المشمش
قد أتى سيد الفواكه في ثوب نضار والشهد منه يفور
يشبه العاشق المتيم حالا اصفر اللون قلبه مكسور
وكقول الشاعر في وصف الأشجار
انظر إلى الأشجار تلف رؤوسها ثابت وطفل ثمارها ما أدركا
وعبيرها قد ضاع من أكمامها وعذا بأذيال الصبا متماسكا
وقد وصف ابن سعيد المغربي قصور الصالح نجم الدين ايوب المسماة بالصالحية ونهر النيل محيط بها .
تأمل لحسن الصالحية إذ بدت وأبراجها مثل النجوم تلالا
ووافى إليها النيل من بعد غيبة كما زاد مشفوف يروم وصالا
5- الهجاء الذي يمثل ألوان النفرة والرفض للمهجو حيث تظهر مقابحه والضجر منه وبرزت صورة الهجاء بألوانه المختلفة المقنع المعتدل الضاحك الساخر وقد تناول الهجاء أفرادا بأعينهم ونماذجا مختلفة كالقضاة والفقهاء والمستخدمين من خلال كونه وسيلة من وسائل النقل الاجتماعي ومن ذلك هجاء أربعة قضاة اسم كل منهم شمس الدين .
أهل الشام استرابوا من كثرة الحكام
إذ هم جميعا شموس وحاكم في ظلام
ومن ذلك هجاء الهرهوري لأحد التجار حين طلب منه جوزة هندية فلم يرسلها له
طلبت منك جوزة منعتني من قربها
وكم طلبت زوجة منك فلم تبخل بها
ومال بعض الشعراء إلى النكتة كموضوع للهزل كما في وصف حمار وقع في بئر قال ابن حناء .
يفديك جحشك إذ مضى متردبا وبتالد يفدى الأديب وطارف
عدم الشعير فلم يجده ولا رأى تبنا وراح من الظمأ كالتالف
ورثى الشعراء الخبز لما عز وتشحط
قسما بلوح الخبز عند خروجه من فرنه وله الغداة فوار
ورغائف من تروقك وهي في سحب القفان كأنها أقمار
وقد تندر الشعراء بصفة العوز والفقر كقول الجزار
ضاق صدري مما أطالب دهري ببلوغ المنى ويظهر مطله
بين قوم صيروا المنع والمن لهم في الزمك وأبا ومله أنا فيهم عار وماش وغيري وهو دوني ثياب وبغله .



يعد شعر المناسبات العلم المدون للحوادث التاريخية كتولية الخليفة والأحداث الحربية والتقلبات التاريخية والاجتماعية والتمزق السياسي وتشردوا في العلم الإسلامي كتسجيل سبط التعاويذي للخليفة المستضيء 572 ما ضم في عهده من مماليك واندثار للخلافة الفاطمية وانضمام ملكها للخلافة العباسية ودينونة اليمن له .
وإطاعتك ارض مصر ومصر حين تدعى وحشية عصماء
ذخرتها لك الليالي وكم حامت عليها من قبلك الخلفاء
أما في معركة البقيعة فقد صورا بن الدهان ثبات نور الدين رغم انهزام جنده وفوز الإفرنج
وسط العدا وحده ثبت الخبان وقد طارت قلوب على بعد من الوهل
ولكن الشعراء كانوا من المغاليين في مدحهم للملوك والسلاطين وانتشر ذلك المدح انتشار شبيها متمثلا بألفاظ التبجيل ومن مبالغات المعاني قول ابن عينين يمدح الملك إلا مجد بهرام شاه صاحب بعلبك .
تمضي المنايا بما شاءت أمنته إذا القنا بين فرسان الوغى اشتجرا
تكاد تخفي النجوم الزهر أنفسها خوفا ويشرق بهرام إذا ذكرا
ولم يكتفي الشعراء بالمبالغة بل لجئوا إلى العلو في صفات الممدوح التي تساوي صفات الخالق وخاصة عند الشيق فقد استغاث أبو الفوارس بالإمام علي واضنى عليه صفات الإلوهية قائلا
إلا يا أمير المؤمنين الذي به أفل الرزيا جحفل بعد جحفل
وكنت متى استصرخته لملمة حماني فاغني عن ستان وفيصل

الباب الرابع
الفصل الثاني
الشعر الحماسي
لعب الشعر الحماسي دورا كبيرا في المارك والانتصارات والأمل في الفتوحات وخاصة فتح بيت المقدس ولا نكاد نقرا قصيدة لشعراء ذلك العصر دون أن نجد فيها أثرا للحماسة وخاصة أن الأعداء الصليبيين قد تكالبوا على ديار المسلمين وقد سجل الشعر المعارك الحربية ومن ذلك قصيدة الاييوردي التي تدعو للدفاع عن الديار والمقدسات واستنهاض العزائم والبكاء على بيت المقدس
فرجنا دماء بالدموع السواجم فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دفع بغيضه إذا الحرب ثبت نارها بالصوارم
كيف تنام العين ملء جفونها على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ظهور المذاكي أو بطون التشائم
ومن الشعراء الذين يفيض شعرهم بالحماسة والجهاد في سبيل الله ضد الفرنجة الشاعر الأمير مجد العرب العامري الذي يقول .
ومدربين على القتال كأنهما شربوه ولدانا مع الألبان
نظروا إلى البيض الجفان كأنها بأكفكم مشبوبة النيران
والحق قد عادت واردا شهمها فما ليسن من النقبع القاني
ومن ذلك ما آثاره الشاعر القيسراني من حماسة إبان هجوم الصليبيين على دمشق عام 523
وافوا دمشق فظنوا أنها جدة ففارقوها وفي أيديهم العدم
وأيقنوا مع ضياء الصبح أنهم أن لم يزولوا سراعا زالت الخيم
وهذا ابن القسيم الحموي يمجد انتصار عماد الدين زنكي على الفرنجة قائلا
بعزمك أيها الملك العظيم تذل لك الصعاب وتستقيم
الم تر أن كلب الروم لما تبين انك الملك الرحيم
فجاء يطبق الغلوات خيلا كان الجحفل الليل البهيم
أيلتمس الفرنج لديك عفوا وأنت بقطع دابرها زعيم
وكم جرعتها غصص المنايا بيوم فيه يكتهل العظيم
وقد حف الشعراء بنور الدين بعد أن تولى السلطة 541 وبادر لجهاد الأعداء ومن الشعراء الذين دعوا للجهاد أسامة بن منقذ في راثيته المشهورة
أن الإله إلا أن يكون لنا الأمر لتحيا بنا الدنيا ويفتخر العصر
وتخدمنا الأيام فيما نرومه وينقاد طوعا في أزمتنا الدهر
وتخضع أعناق الملوك لعزنا ويرهبها منا على بعدنا الذكر
وإما قصيدة طلائع بن رزيك فتحكي بطولات مصر على الصليبيين .
إلا هكذا في الله تمضي العزائم وتمضي لدى الحرب السيوف الصوارم
وتغزي جيوش الكفر في عقر دارها ويوطاء حماها والأنوف رواغم

الباب الرابع
الفصل الثالث
المدائح النبوية
حظيت المدائح النبوية في هذا العصر اهتماما كبيرا من خلال معارضته قصيدة بن زهير بانت سعاد ومقلدة مدائح آل البيت وقد ألهبت مشاعر الشعراء بعد الانزواء الصوفي عن الحياة والإحباط الذي خلفه لقاء الملوك بالشعراء وعدم إعطائهم وقد بدأت المدائح النبوية بالتشوق إلى زيارة الأماكن المقدسة كقول الجيلاني
يا زائر المصطفى من الأمم وخبر هاد في العرب والعجم
ابلغه من السلام ابلغه وقل فتى قلبه مع الحرم
يبكي إذا سرت الركائب ولم يسر بدمع كالقطر منسجم
وربما قيلت المدائح النبوية في رثاء الحسين بن علي كما صنع طلائع بن زريك ومن ذلك قصيدة ابن الساعاتي
وكيف احمل في دنيا وآخرة ومنطقي ورسول الله مأمول
هو البشير النذير العدل شاهده وشهادة تحريم وتعديل
ومن المدائح النبوية قول فيتان الشاغوري
إليك المطايا أعتقت يا محمد إلى خير من يسعى إليه ويحفد
إلى الذروة العلياء من سر هاشم عليهم سلامي كل وقت يردد
وقد كان أكثر الشعراء مدحا للرسول صلى الله عليه وسلم يحيى بن يوسف جمال الدين العلامة الزاهد الصرصيري ومن ذلك قوله
ذكر العقيق فهاجه تذكاره صب عن الأحباب شط مزاره
لولا هواه لما ثنى اعطافه بان الحجاز ورنده وعراره
يا من ثوى بين الجوانح والحشا مني وان بعدت علي دياره
وإما شرف الدين الأنصاري فقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بلامية في حج 619 في مكة المكرمة
يا صاح هاجر الهدى فتمل من ذي وهو بدر للهدى فتامل
فلطالما أرسلت ومعك ساخنا شوقا إلى هذا النبي المرسل
ويرتقي البوصري بمدحه للنبي صلى الله عليه وسلم فيحي القلوب قائلا
كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساورك في علاك وقد حال سنا منك ومنهم سناء
إنما مثلوا صناتك للناس كما مثل النجوم الماء
ولو رحنا نستقصي جميع المدائح النبوية لاحتجنا إلى صفحات كثيرة
الباب الرابع
الفصل الرابع
الرثاء
يعد الرثاء الفن الأكثر مرافقة للإنسان على مر الزمن وهو موضوع ساخن في عصر الحروب الصليبية وجهة الشعراء إلى رثاء الخلفاء في الدولة العباسية والعبيدية ورثاء الوزراء والولاة ورثاء الأقارب والأرحام والأبناء كما رثى أسامة بن منقذ ابنه عتيق وكما رثى العفيف التلمساني لابنه الشاب الظريف أو كما رثا ابن سناء الملك أمه بالإضافة إلى نوع آخر من الرثاء للدول حيث رثى الشاعر عمارة اليمني للدولة العبيدية والدولة العباسية ورثوا القصور رثاء القاضي الفاضل قصر عبد العزيز بن صلاح الدين الأيوبي يقول أسامة بن منقذ في رثاء أسرته
هذي قصورهم أمست قبورهم كذاك كانوا بها من قبل سكانا
ريح الزلازل أفنت معشري فإذا ذكرتهم خلتني في القوم سكرانا
ويقول ابن سناء الملك في رثاء أمه
صح من دهرنا وفاة الحياء فليطل منكما بكاء الوفاء
وليبن ما عقدتماه من الصبر بان تحللا وكار البكاء
قد رماني الزمان منه بخطب أمحت عنه السن الخطباء
ويقول الشاعر الأمير نجم الدولة احمد بن أبي الفتوح يرثي ابنه عبد المنعم
لبس الجنود حديدهم في عيدهم ولبست حزن أبي الحسين جديدا
أيسر في عيد ولم أر وجهه فيه إلا بعدا لذلك عيدا
وقد كانت الحروب ذات وقع على نفوس الشعراء لأنهم كانوا من خلالها يفقدون المدافعين عن حياض الأرض وخاصة الأبطال القادة كمرثية عمار الأصفهاني لصلاح الدين الأيوبي
من للعلا من للذرى من للهدى يحميه من اليأس من النائل
ومن المراثي المميزة مرثية الشاعر الريس أبي معلي التميمي التي رثى فيها عماد الدين زنكي :
كذاك عماد الدين زنكي تنافرت سعادته عنه وخرت دعائمه
فلما تناهى ملكه وجلاله وراعت ولاة الأرض منه لوائمه
أتاه قضاء لأقود سهامه فلم تنجه أمواله وغنائمه
وكذلك رثى الشعراء الديار التي اضر بها الصليبيون
أصل الكفر بالإسلام ضيما يطول عليه للدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليبا ومسلمة لها حرم سليب
وكم من مسجد جعلوه ديرا على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق وتحريق المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهن طفل لطفل في عوارضه المشيب
وقد رثى الشاعر وجيه بن عبد الله بن نصر المعرة بعد أن خربها الفرنجة 492
هذه صاح بلدة قد قضى الله عليها كما ترى بالخراب
وقف العيسى وقفة وابك من كان بها من شيوخها والشباب
وقد رثى الشعراء القدس قبل سقوطها بين الفرنجة وبعد سقوطها بأيديهم
ومن ذلك رثاء شهاب الدين أبي يوسف يعقوب
لتبك على القدس البلاد بأسرها وتعلن بالأحزان والترحات
لتبكي عليها مكة فهي أختها وتشكو الذي لاقت إلى عرفات
لتبك على ماحل بالقدس طيبة وتشرحه في أكوام الحجرات
وكذلك قول احدهم
مررت على القدس الشريف مسلما على ما تبقى من ربوع كأنجم
ففاضت دموع العين مني صبابة على ما مضى من عصرنا المتقدم
أما خراب بغداد فقد خصها الشاعر شمس الدين الواعظ بقصيدتين مطلع الأولى
أن كنت مثلي للأحبة فاقدا أو في فؤادك لوعة وغرام
قف في ديار الطاغين ونادها يا دار ما صفت بك الأيام
ومطلع الثانية
أن لم يقرح ادمعي وأجفاني من بعدكم فما أجناني
إنسان عيني قد تناءت وأركم ما راقه نظر إلى إنسان
ما للمنازل أصبحت لا أهلها أهلي ولا جيرانها جيراني



الباب الرابع
الفصل الخامس
شعر الطبيعة
تشكل الطبيعة الهاجس الأهم في شعراء هذا العصر فما من ديوان شعر إلا وللطبيعة اثر كبير فيه كوصف الماء والأشجار والنجوم والرياض والورود والزهور والسحاب وتساقط الأمطار ومن ذلك وصف المهند المزرفي للرياض
الروض بين متوج ومكلل والماء بين مكفر ومصندل
فانظر إلى الوسمي كيف كما الثرى ثوبا يطرزه معين الجدول
والشاعر فتيمان الشاغوري يصف لنا الطبيعة من خلال ليلة
ليلة حليت بمنطقة الجو زاء والشعر بين والجوز هرا
وهلال السماء يشرق والشهب تروق العيون نظما وزهرا
والثريا كأنها كف حسود ختمت ياقوتا وبترا ودرا
والدجى هارب كما تهرب الزنج من الروم إذ تخاف الفجرا
ولدينا من الربيع برود حملت من وشي الرياض الزهرا
والشاعر ابن البنية المصري يصور لوحات الجمال الطبيعية حيث الرياض تتوج بالأزهار والورود
الروض بين متوج ومشنف والأرض بين مدبح ومقوف
والغصن غناه الحمام فهزه طربا وحياة الغمام يقرقف
ويصف الشاعر الصرصري الربيع قائلا
خط الربيع بأقلام التباشير رسالة كتبت بالنور والنور
حي البقاع الحيا فاهتزها دمعها لما أتتها يد البشر بمنشور
وانشقت الأرض عن مكون ما خبأت كأنما باكرتها نفحة الصور
أما العفيف التلمساني فقد وصف الرياض والزهور والورود والحمائم قائلا
ندى في الأقحوان أم ثراب وطل في الشقيقة أم رضاب
فتلك وهذه كاس وثغر لذا ظلم وفي هذي شراب
وورق حمائم في كل فن إذا انطلقت لها لحن صواب
أما الشاعر ابن مكندا فيهتز لنوم الحمام قائلا
نوم الحمام على فروع ألبان أهدى إلي بلابل الأشجان
ناديتهن ودمع عيني هاطل لما حمتن وملن بالأفنان
بالله يا ورق الحمام اعني بهديلكم وكن من أعواني
والشاعر إبراهيم الحراني ينقلنا بين أحياء دمشق ويمتع أبصارنا بغزلانها
ربوع جلت للأوطان أوطان وليس فيها من الندمات ندمان
آذيت انشد في غزلانها غزلا لما غزت كبدي باللحظ غزلان
أما ترى الأرض إذا ابكي السحاب بها اذارها ضحكت إذ حابر نيسان
والزهر كالزهر حياة الحياة الحيا فبدت في الروض منه إلى الأبصار ألوان
الباب الرابع
الفصل الخامس
شعر الوجدانيات
الوجدانيات باب واسع من أبواب الشعر العربي في كل عصر وفي هذا العصر خاصته فقد عبر الشعراء عن مكوناتهم الخاصة سواء أكانت غزلا أم بثا للشكوى أو وجدانا صوفيا يمثل التدفق الشعري باتجاه قضايا العصر التي عاشها أولئك الشعراء ومن الشعر الوجداني ما تأثر بالغزو الصليبي والغزل بالمذكر والغزل الماجن وسنعرض عن النوعين الأخيرين لمناقضتهما الأديان والأخلاق والنظرة السليمة


الغزل :
وهو موضوع قديم جديد تغيرت معانيه في هذا العصر بما يناسب الذوق ومقاييس الجمال عند المرأة حيث أخذت محاسن الترك تحرك مشاعر الشعراء فأعجبوا بالعيون التركية الضيقة بعد إعجابهم بالحور العين سابقا الواسعة المسيلة وفي ذلك يقول علاء الدين الجويني
أبادية الإعراب عني فأنني بحاضرة الأتراك نيطت علائقي
واهلك يا نجلا العيون فأنني فتنت بهذا المنظر المتضايق
ويقول ابن بناته
وخاطر عنت الأشواق للجبه جاذر الترك لازي الاعاريب
ومن كل أعين ضاقت عينه فمتى يجود لي من تلاقيه بمطلوب
مذكرا يقول المتنبي
من الجاذر في زي الاعاريب حمر الحلى المطايا والجلاليب
وقد كثر الحديث عن جمال القدود التركية وبياض الوجوه وكذلك نعومة النساء التركية وضيق عيونها مع ما تميزت به المرأة من جمال ردده الشعراء في معاني الغزل التقليدية من خلال عرض جديد كقول الشاعر
أصغي إلى قول العزول بجملتي مستفهما منه بغير ملال
لتلقطي زهرات ورد حديثكم من بيني شوك ملامة العزال
مذكرا بقول بشار بن برد
وكان رجع حديثها قطع الرياض كسين زهرا
وهذا هو الرئيس أبو الفرج المولود 482 يتغنى بمحبوبته التي كان الشاعر كلف بها كلفا شديدا
الوشاة قد صدقوا في الذي به نطقوا
أنني بكم كلف مدننا لحشا قلق
هل عليكم حرج أو ينالكم فرق
لو وصلتم كمدا قلبه به علق
وهذا هو الشاعر ابن داوس القنا ستنطق اللطف في محبوبته قائلا
هل أنتي منجزة بالوصل ميعادي أم أنتي مشمتة بالهجر حسادي
سالت طيفك الماما فضن به ولو الم لأردى غلة الهادي
يا ظبية الحي ما حيدي بمنعطف إلى سواك ولا حيلي بمنقاد
أن تأسروا فذو واعز ومقدرة أو أو تطلقوا فذو وهن وارفاد
وقد عارض كل من الشعراء احمد الدبيني وراجح بن إسماعيل الحلي قصيدة ابن زريق البغدادي عينيته .
فقال الأول
وليلة زارني فيها على عجل والشوق يحفزه والخوف ينزعه
وبات مستنطقا أوتار مزهرة الفصاح يتبعها طورا وتتبعه
وقال الثاني
اخفي الغرام فأبداه توجعه وترجمت عن مصون الجد أدمعه
يا عذب الله قلبي كم يجن هوى يجني عليه ويرعى من يروعه
ويقول الشاعر ابن عربي
ناحت مطوقة فحن حزين وشجاه ترجيع لها وحنين
جرت الدموع من العيون تنجها لحنيتها فكأنهن عيون
أن الفراق مع الغرام لقاتل صعب الغرام مع اللقاء يهون
وإذا كان الشعراء قد أعجبوا بالفرنجة في تلك الفترة فإنما أعجبوا بناء الأديرة وسفورهن حيث كتب الشاعر القيسراني ديوانه الثغريات وكذلك كتب الشاعر عون الدين العجمي آهاته قائلا
يا سائقا البيداء معتسفا بضامر لم يكن في صبره وان
أن جزت بالشام شم تلك العروق ولا يعدل بلغت المنى عن دير مران
واقصد علالي قلالية ثلاث بها ما تشتهي النفس من حور وولدان
وإما الغزل الماجن والغزل بالمذكر فان اللسان والقلم يعفان عن ذكره ذلك كما قلنا لمخالفته الشرع والفطرة الإنسانية كما وأننا في هذا العصر بحاجة إلى كبح جماح الشهوات المحرمة التي كثر طالبوها والباحثون عنها وهو من سوء آخر الزمان الذي يقود الإنسانية إلى الخراب والدمار والموت .
تاريخ الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية إبان الحروب الصليبية 448 – 692

الباب الرابع
الفصل السادس
شعر المديح :
بقي شعر المديح على طريقته التقليدية بسبب قلة اهتمام الشعراء به وخاصة المحترفين لان أمراء المماليك وسلاطينهم لم يهتموا بالشعر ولم يعطوا عليه الجوائز وان بقي مديح الأعمال العسكرية ومديح الأصدقاء والفضلاء والعلماء فمدحوا الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون والاشرف خليل والناصر محمد لأعمالهم العسكرية وتقدم المديح النبوي في هذا العصر كما عند البوصري والجزار وشهاب الدين الحلبي وابن بناته وصفي الدين الحلي وتجاوز شعراء الصوفية مديح النبي إلى مدح الله تعالى كما فعل محمد بن إسرائيل في قصيدته السينية التي بدأها بقوله :
يا ناق ما دون الاثيل معرس جدي فصحبك قد بدا يتنفس
واستصبحي عزما يبلغك الحمى لتظل تغبطك الجواري الكنس
وقد كانت قصائد المدح مادة للإنتاج في المواسم الدينية وحلقات الصوفية وقد استشهد الشاعر المداح شهاب الدين السنهوري الضرير بقصائد مدح جرت السنة المداحين .
وقد كان محمد الهمندر قد خلد بطولة الظاهر بيبرس في واقعة الفرات حيث هزم التتار
لو عاينت عيناك يوم نزالنا والخيل تضبح في العجاج الاكدر
لرأيت سدا من حديد مائد فوق الفرات وفوقه نار ترى
وكذلك قال شهاب الدين محمود بعد فتح عكا على يد الاشرف خليل
مررت بعكا بعد تخريب سورها وزنهر اوار النار في وسطها داري
وعاينتها بعد النصر قد غدت مجوسية الأبراج تسجد للنار
وما قاله الشهاب محمود في سقوط حصن المرقب الحصين
الله اكبر هذا النصر والظفر هذا هو الفتح ما تزعم السير

الباب الرابع
الفصل السابع
رثاء المدن:
كتب الشعراء في عصر الانحدار في رثاء المدن التي سقطت تحت ضربات الأعداء كما في رثاء القدس للابيوردي حين سقطت بيد الصليبيين في القرن الخامس حين قال
أن لم تقرح ادمعي أجفاني من بعدكم فما أجفاني
أو كما في رثاء القدس وخرابها حين سقطت بيد التتار للقاضي مجد الدين
مررت على القدس الشريف مسلما على من تبقى من ربوع كأنجم
ففاضت دموع العين مني صبابة على ما مضى من عصرنا المتقدم
وكذلك في رثاء دمشق للغزولي في وقعة للتتار

الباب الرابع
الفصل الثامن
الوصف : وهو موضوع تركز على تصوير الطبيعة الصامتة والمتحركة جماد حيوان مكن خلال مزج مشاهد هذه الطبيعة وعاطفة الشاعر ومشاعره وتجاهها حيث يخلع الشاعر عواطفه ويلبسها للطبيعة كما في قول صفوان بن إدريس 798
جاد الربا من بانة الجرعاء نوان من دمعي وغيم سماء
هل تلقي في روضة موشية خفاقة الأغصان والأوفياء
وجرت ثغور الياسمين فقبلت عني عذات الاسة الميساء
وقد مال الشعراء الوصافون إلى التشخيص والتجسيم كقول الشاعر في وصف المشمش
قد أتى سيد الفواكه في ثوب نضار والشهد منه يفور
يشبه العاشق المتيم حالا اصفر اللون قلبه مكسور
وكقول الشاعر في وصف الأشجار
انظر إلى الأشجار تلف رؤوسها ثابت وطفل ثمارها ما أدركا
وعبيرها قد ضاع من أكمامها وعذا بأذيال الصبا متماسكا
وقد وصف ابن سعيد المغربي قصور الصالح نجم الدين ايوب المسماة بالصالحية ونهر النيل محيط بها .
تأمل لحسن الصالحية إذ بدت وأبراجها مثل النجوم تلالا
ووافى إليها النيل من بعد غيبة كما زاد مشفوف يروم وصالا

الباب الرابع
الفصل التاسع
الهجاء : الذي يمثل ألوان النفرة والرفض للمهجو حيث تظهر مقابحه والضجر منه وبرزت صورة الهجاء بألوانه المختلفة المقنع المعتدل الضاحك الساخر وقد تناول الهجاء أفرادا بأعينهم ونماذجا مختلفة كالقضاة والفقهاء والمستخدمين من خلال كونه وسيلة من وسائل النقل الاجتماعي ومن ذلك هجاء أربعة قضاة اسم كل منهم شمس الدين .
أهل الشام استرابوا من كثرة الحكام
إذ هم جميعا شموس وحاكم في ظلام ومن ذلك هجاء الهرهوري لأحد التجار حين طلب منه جوزة هندية فلم يرسلها له
طلبت منك جوزة منعتني من قربها
وكم طلبت زوجة منك فلم تبخل بها
ومال بعض الشعراء إلى النكتة كموضوع للهزل كما في وصف حمار وقع في بئر قال ابن حناء .
يفديك جحشك إذ مضى متردبا وبتالد يفدى الأديب وطارف
عدم الشعير فلم يجده ولا رأى تبنا وراح من الظمأ كالتالف
ورثى الشعراء الخبز لما عز وتشحط
قسما بلوح الخبز عند خروجه من فرنه وله الغداة فوار
ورغائف من تروقك وهي في سحب القفان كأنها أقمار
وقد تندر الشعراء بصفة العوز والفقر كقول الجزار
ضاق صدري مما أطالب دهري ببلوغ المنى ويظهر مطله
بين قوم صيروا المنع والمن لهم في الزمك وأبا ومله أنا فيهم عار وماش وغيري وهو دوني ثياب وبغله .









الباب السادس
أبرز الشعراءفي هذا العصر:
رسم الشعراء في هذه العصور الواقع الاجتماعي والسياسي الذي عاشه الناس إبّان ذلك ،ولكن اهتمام المماليك بالجيش وانصرافهم عن إكرام الشعراء جعل الكثير منهم يشكو الفقر ويتحول إلى مهن وحرف يقتات منها طعامه فكان منهم الدهّان والجزّار والكمّال والحماميّ، والنزر اليسير منهم من يعيش من الكتابة . وقد أسرف الشعراء في استخدام العامية والألفاظ الصريحة ، وكتبوا في الفنون الشعبية ، ومع ذلك فقد برز منهم شعراء أفذاذ منهم:

1ً- الشاب الظريف
(661 – 688 هـ - 1263 – 1289 م) –
الشاب الظريف: (شمس الدين بن عضيف الدين التلمساني)
الذسي ولد في القاهرة عام (611هـ) ونشأ في دمشق ومات فيها شاباً.كان أبوه شاعراً أورثه مرض الشعر وكان الشاب الظريف معروفاً بالعبث والمجون والغزل والاهتمام بالبديع ومناظر الطبيعة من خلال إقامته بمنزل يقع على سفح قاسيون.ارتقي قمة المجد الأدبي ولقي شعره رواجاً لسهولته وعذوبته، كتب في المدح والغزل والخمريات.كان غزله تقليد للشعراء السابقين له، من ذلك قوله في


منزله:
يا قطر عمّ دمشق واخصص منزلاً في قاسيون وحله بنبات
وتريخي يا ورق فيه ويا صبا مرِّي عليه بأطيب النفحات

ولد الشاعر المشهور , شمس الدين محمد بن عفيف الدين بن سليمان بن علي بن عبد الله العابدي ثم الكومي , ثم التلمساني في القاهرة في عشر جمادى الآخرة سنة 661 هـ 1263 م .
بيد انه اشتهر بين معاصريه باسم ( الشاب الظريف ) ويظهر أن سبب هذه التسمية يرجع إلى ما عرف عنه من عبث و ( لعب وعشرة وانخلاع ومجون ) .
كما كان أبوه شاعرا صوفيا معروفا وهو احد الأعلام المشهورين وكان فاضلا ً ويدعى العرفان . وكان منتحلا في أقواله وأحواله طريقة ابن عربي وسلوكه وهو من القائلين بالوحدة المطلقة والاتحاد , والمعروف عنه انه قدم القاهرة من بلدة تلمسان في المغرب الأوسط .
تزوج في مصر ورزق فيها ابنه شمس الدين محمد فقضى فيها طفولته وصباه , وقد أشار إلى ذلك في مستهل إحدى مدحه بقوله :
يا راقد الطرف ما للطرف إغفاء حدث بذاك فما في الحب إخفاء
كأن عصر الصبا من بعد فرقتكم عصر التصابي به للهو إبطاء
نار الهوى ليس يخشى منك قلب فتى يكون فيه لإبراهيم إرجاء
تلك هي حياته في مصر , بيد انه فارقها وهو فتى بعد أن التحق أبوه بالخدم الديوانية , وترك طريقته في التصوف , واستقر آخر مرة في ديوان المكس بدمشق , واتخذ منزلا لسكناه في جبل قاسيون , وقد أشار شمس الدين إلى ذلك بقوله :
يا قطر عم دمشق , واخصص منزلا في قاسيون وحله بنبات
وترنمي يا ورق فيه ويا صبا مري عليه بأطيب النفحات
في دمشق الفيحاء وفي مثل هذا الحنان الأبوي العظيم , وفي مثل هذا الجو من التصوف والدين نشأ الشاعر العبقري , فنال ثقافته الأولى على يد أبيه وفي كنفه , ولا سيما انه كان من رجال التصوف وشعرائه الأعلام المشهورين , فلا غرابة إن رأينا ابنه شمس الدين ينم الشعر منذ نعومة أظفاره , بيد انه انس في نفسه القدرة على ذلك , ولقي كل تشجيع سواء أكان ذلك من أسرته أم من مجتمعه , وهذا مما عجل ببدء حياته الأدبية بوقت مبكر جدا ً , بعد أن تضافر لتنمية ذلك عاملان هامان هما الوراثة والبيئة معا ٍ.
بلغ الشاعر قمة مجده الأدبي وهو بعد في شرخ شبابه , فاتصل بكبار المتقدمين من رجال عصره , فمدحهم بشعره ويظهر انه كان له اختصاص بابن عبد الظاهر فقد كان له من مدحه أوفر نصيب . ولعل أبرزها القصيدة التي مدح بها الملك المنصور الثاني سيف الدين محمدا صاحب حماة .
لقي شعره رواجا ً لدى الناس لسهولته وعذوبته , واستطاع على الرغم من صغر سنه أن يصبح مرموقا بين الشعراء المعاصرين المشهورين .
ويصنف حياته في هذه المرحلة بقوله :
مالي وللشعراء المنكري شرفي وفوق درهم ما تحت مخشلبي
إن غبت عنهم تباهوا في قصائدهم بغيبة الشمس تبدو زينة الشهب
ويفلح خصوم الشاعر الكثيرون في النيل منه , ويحاولون الإقلال من شانه أمام بعض ممدوحيه , فيتنكر بعضهم له , ويلحق به الذل والشقاء فيأسى على حظه الشقي , ويندب شبابه التعس وحاله السيئة كما جاء في مستهل إحدى مدحه الوزيرية :
أمل سعيت أجد في إتمامه فعلا حل الدهر عقد نظامه
والى متى يسعى الزمان لنقض ما أسعى بكل الجهد في إبرامه
وإذا الفتى قعدت قوائم حظته قام الردى من خلفه وأمامه
ونرى الشاعر على الرغم من ذلك كله يقنطه اليأس , ولا يكترث بما يحوكه حوله خصومه من الشعراء , وإنما نراه يخاطب ممدوحه القاضي محيي الدين بن النحاس قائلا ً :
دعني وشعري ومن في جفنه مرضي فلم يزل مرض الأجفان تطبيبي
وخذ شواهد ما أمليت من فكر تثني عليك بملفوظ ومكتوب
فالدر يحسن مثقوبا لناظمه وحسن لفظي در غير مثقوب
وكلما قيل شعر " أو يقال فما أراه إلا رذاذا من شابيبي
ويتمادى حساده في غيهم , ويزورون عليه القول ويبالغون في إيذائه , حتى يبلغ به اليأس مبلغه من نفسه الطموح , فينادي قائلا ً :
كيف خلاصي من الذي أجد ؟ قد أعوز الصبر عنه والجلد
ما قلت يوما : قد انقضى عدد من الأعادي إلا أتى عدد
حاشا لمثل الأمير يسمع ما قالوه عني وما به شهدوا
وهكذا نرى الشاعر يزمع أمره على اعتزال الناس في عقر داره فلا يراه منهم احد بعد أن دب اليأس في نفسه , فعالجته نفسه منيته المفاجئة ولما يسعد بأيام شبابه النضير , فقضى نحبه وهو في السابعة والعشرين سنة 688 هـ .
آثاره الأدبية
نلاحظ غزارة إنتاجه الشعري في وقت مبكر جدا من عمره , فقد خلف لنا ديوان شعر مشهور متداول بين أيدي الناس . وهو في غاية القوة والقلم الجاري , واغلب الظن في اعتقادي أن جماعة من خلطائه المعجبين بشعره من هواة مذهب التورية والانسجام هم الذين قاموا بجمعه وترتيبه بحسب الحروف الأبجدية .
يضاف إلى ذلك أن الشاعر كان ينشئ بعض ما يروق له كتابته نثرا , فقد اثر انه انشأ رسالة صغيرة في ورقتين , اسماها ( مقامات العشاق ) .
شعره ومذهبه الفني
أغراضه الشعرية
يلاحظ في ديوان الشاعر انه طرق ثلاثة أغراض رئيسية هي : المدح و الاغزال والخمريات , ولا بد من وقفة عندها لتدرس بالتفصيل .
مدح مختلفة
يحتوي ديوانه على مدح مختلفة من جملتها مدح نبوية , استهلها بقوله :
ارض الأحبة من سفح ومن كثب سقاك منهمر الأنواء من كثب
ولا عدت اهلك النائين من نفس الصبا تحية عاني القلب مكتئب
وسوف نلقي نظرة على هذه النبوية في معرض حديثنا عن المدح النبوية في فصل مقبل نظرا لأهميتها , فهو يتحدث عن العرب وشانه في ذلك شانه في معظم مطالع النسيب فقد أعلن إيمانه بالعروبة في عصر كثر فيه التحدث عن الأتراك , ولا سيما أن الطبقة الحاكمة من غير العرب , فلم يخفه ذلك وإنما أعلنها صرخة عربية بقوله :
قوم هم العرب المحمي جارهم فلا رعى الله إلا أوجه العرب
اعز عندي من سمعي ومن بصري ومن فؤادي ومن أهلي ومن نسبي
لهم علي حقوق مذ عرفتهم كأنني بين أم منهم وأب
إن كان أحسن ما في الشعر أكذبه فحسن شعري فيهم غير ذي كذاب
يا ساكني طيبة الفيحاء هل زمن يدني المحب لنيل الحب والأرب
ارض مع الله عين الشمس تحرسها فإن تغيب حرستها أعين الشهب
أما المدح الأخرى فقد صورت لنا حياة الشاعر خير تصوير , إذ أنها عبرت بشكل خاص عن ذاته , وكثيرا ً ما تحدث فيها عن أعدائه وحساده ومناوئيه , كما توضح لنا ذلك في الشواهد الشعرية التي عرضنا لها خلال بحث مراحل حياته .
لقد تأكد لنا أنهن لم يمدح من سلاطين المماليك أحدا , وإنما اكتفى بمدح الملك المنصور الثاني محمد صاحب حماة , وهو الوحيد الذي مدحه من ملوك عصره وسلاطينه وجاء في مدحته قوله :
ملك إذا حدثت عن إحسانه حدثت عن مبدي الندى ومعيده
ساد الملوك بفضله وبنفسه والغر من آبائه وجدوده
وإذا ترنمت الرواة بمدحه وثنائه اهتزت معاطف جوده
هاجرت نحو محمد لما رأيت العالم العلوي في تأييده
وثنيت أعناق القوافي نحوه ونظمت در مدائحي في جوده
تتسم مدحه بالإغراق والمبالغة في نعت الممدوح , وكانت تربطه بممدوحياته صداقات متينة الأواصر , لعل سببها يرجع إلى أن أباه كان صاحب نفوذ ومنصب كبير في دمشق , فلا غرابة أن رايناه إذا لا يفكر بما يفكر به غيره من الشعراء , فهو بالطبع في كنف أبيه ورعايته , وقد كفاه مؤنه السعي وراء الرزق بجد واهتمام , كما يتضح لنا ذلك في مدح حسام الدين الرازي :
حبذا الشام إن سمت بحسام الدين منها البطاح والكثب
من معشر قد سموا وقد كرموا فعلا وطابوا أصلا إذا انتسبوا
يا ضاحكا والحياة عابسة وثابتا والجبال تضطرب
الدهر روح وأنت فيه قضيب البان غصنا وغيرك الحطب
خذ مدحا لم أرد بها منحا حسبي إني إليك انتسب
يلاحظ انه في إغراقه ومبالغته عن الحد المعقول كما يتضح لنا ذلك في القصيدة التي مدح بها الأمير ناصر الدين الجراني , وجاء فيها قوله :
أعيذ قلبا ثوى حب الأمير به من أن يرى بسوى حبيه ملتهبا
لا تنظر العين منه السيف منصلتا إن فارق الغمد حل الهام فاحتجبا
لو اقسم المدلج الساري على قمر باسم الأمير دعاه قط ما غربا
ولو وضعت اسمه يوما على ذكر طاحت رؤوس الأعادي وهو ما ضربا
ولو تلوت على ميت مناقبه رد الإله له الروح التي سلبا
ولو مزجت بماء المزن ما اكتسبت من لطف شيمته ما غص من شربا
لما انتسبت إلى أبوابه كبرت بي همة صغرت في عيني الرتبا
لو رمت اسحب أذيالي على فلك لمد لي سبب من وجوده سببا ً ٍ
هكذا نلاحظ أن المبالغة في نعت الأمير الحراني وبيان باسه وكرمه تبلغ حدا يخرج بالشاعر عن المعقول , ويدنيه من المستحيل الذي لا يمكن تحقيقه , بيد أن الشاعر عرف كيف يخرج النعوت بأسلوب الامتناع والوجوب .
اعترف الشاعر بهذه المبالغة في مدحه وقارن نفسه بممدوحه فلم يجد بين الناس من يحوي المفاخر مثله , ولا بين الشعراء من يقول مثله :
ولي مدح بالغت فيها بلاغة وأثنيت فيها بالذي أنا عالم
نخلص مما تقدم معنا من مطالعة مدحه إلى أن نؤكد أنها تمتاز بالمبالغة والإغراق , كان يغرق ويبالغ إذا في نعت الممدوح حتى كان القول يجنح به إلى الششط الذي لا يستسيغه عقل سليم ومنطق قويم :
أحبابنا , ما الجزع ؟ ما المنحنى ؟ ما رامة , ما الشعب لولاكم ؟
ما قام هذا الكون إلا بكم ولا الوجود المحض إلا كم
غزلياته
لم يكن الشاعر في أغزاله مقلدا غيره من الشعراء وإنما صور من خلالها حياته الخاصة خير تصوير , إذ استطاع أن يبرز دقائقها فتحدث عن مجونه وعبثه , وقد أشار بعض معاصريه إلى جماعة من أصحابه , كان يجتمع بهم ويقضي معهم أيامه ولياليه , وكان إمامهم في مجونهم وعبثهم , كما يظهر في القول الذي استشهد به ابن شاكر الكتبي في فواته .
نقف بادئ ذي بدء عند أغزال الشاعر فنجد أنها لا تختلف كثيرا عن نسيبه التقليدي إذ استطاع ببراعة ومهارة أن يتخذ من نسيب مدحه صورة عن حياته الخاصة , وقد ينسيه الغزل ذكر النسيب , فيغدو غزلا حقيقيا يمثل لدى الشاعر تجربة عاطفية خاصة كما في قوله :
صدقتم قده يحكي القضيبا الم تره حوى زاهرا وطيبا ؟
ملأت يديه من ياقوت دمعي وكنت محقت لؤلؤه نجيبا
ذهلت عن النسيب به فباتت محاسنه تعلمني النسيبا
وهكذا نجد النسيب التقليدي يتضاءل حتى يكاد يكون كله غزلا حقيقيا بعيدا عن كل تعقيد كما في مطلع المدحة التي جاء فيها بقوله :
يا رافد الطرف , ما للطرف إغفاء حدث بذاك , فما في الحب إخفاء
إن الليالي والأيام من غزلي في الحسن والحب أبناء وأنباء
وجاء في مطلع مدحة أخرى قوله :
لي من هواك بعيده وقريبه ولك الجمال بديعه وغريبه
إن لم تكن عيني فانك نورها أو لم تكن قلبي فأنت حبيبه
هل حرمة أو رحمة لمتيم ؟ قد قل فيك نصيره ونصيبه
لم يبق لي سر أقول تذيعه عني ولا قلب أقول تذيبه
أكثر الشاعر من ذكر العرب في مطالع النسيب والاغزال , على غير العادة المتبعة في هذا العصر كما ورد في بعض الأحيان ذكر ظبي من الترك اقتداء بأغلب الشعراء في هذا المعنى الذي اتخذوه تكأة لهم مستجدة في تشبيهاتهم .
هكذا اشتهر الشاب الظريف بأغزاله الرقيقة , وكانت تجربة حقيقية في حياته , وقد حاول أن تكون بعيدة عن التكلف والتصنيع , ولكنها طبعت بأسلوب التصوف , إذ كان يكثر من الاصطلاحات المعروفة وهذا بالطبع ثمرة ثقافته الدينية على يد أبيه احد كبار المتصوفة من أصحاب الطرق المشهورين , وقد توضحت لنا هذه الميزة في قصيدته التي جاء فيها قوله :
حديث غرامي في هواك قديم وفرط عذابي في هواك نعيم
بما شئت غير سخطك انه وصدق ولائي في هواك اليم
تمثلك الأشواق وهما لخاطري فيدركني بالخوف منك وجوم
وتقنع منك الروح لمح توهم فتحيي بها الأعضاء , وهي رميم
هنيئا لطرف فيك لا يعرف الكرى وتبا لقلب فيك ليس يهيم
وما الكون إلا صورة أنت روحها وجسم بغير الروح كيف يقوم ؟
توهم صحبي أن بي مس جنة وأنكر حالي صاحب وحميم
نلاحظ بوضوح كثرة الاصطلاحات الصوفية في إطار جميل من التوريات المستساغة بشكل يسترعي الانتباه حقا , ونلمس ونحن نتلو هذه الأبيات الرقة المنتاهية والانسجام الذي عرفناه من قبل في شعر الشرف الأنصاري يضاف إلى ما تقدم أن الشاعر استطاع بمهارة أن يوري في الأبيات الأخيرة , وسنوضح ذلك في دراسة مذهبه الفني .
استخدم الشاعر الأبحر القصيرة أو المجزوءة ذات الجرس الموسيقي وذلك زيادة في الرقة , كما في قوله :
أيها الصابر عني ليتني أعطيت صبرك
أيها الجاهل قدري أنا لا اجهل قدرك
نلحظ في هذه المقطوعة الشعرية بعض السمات الصوفية , ونكاد نشعر بوزنها الراقص الذي تستسيغه النفس , فتقبله دون إجهاد فكري أو تكلف عاطفي , وإنما نراه وقد بدت لنا نفسيته وهي ترتعش في حمى الأهواء , حتى أننا نراه يتضاءل أمام محبوبه ليصبح عبده الأمين :
انتم لعبدكم أحبة وله عليكم حق صحبه
يا نائمين عن المسهد فارغين من المحبة
والله ما عندي من الســ ـلوان عنكم وزن حبه
وهكذا نجد أن الشاعر يظهر بمظهر العاشق المستكين والمحب الذي يستسلم بكليته لنزوات المحبوب فهو الآمر الناهي وهو العبد المطيع .
فقد اجتمع لديه الفراغ والشباب والجدة , ولا عجب إن رأيناه ينغمس في ملذاته ومفاسده , ويقضي أيام شبابه ولياليه في منتزهات دمشق القريبة منها , أو البعيدة عنها على جدول صغير في قرية القصير :
يا حبذا نهر القصير ومغربا ونسيم هاتيك المعالم والربا
وسقى زمانا , مر بي في ظلها ما كان أعذبه لدي واطيبا
مذهبه الفني
ثقف الشاعر الشرف الأنصاري في التورية والانسجام واستطاع أن ينفخ الحياة في مذهبه بعد أن مر على وفاة رائدها الأول أكثر من عشرين سنة .
وقد رأينا فيما أوردنا من شعر رقته الأسلوبية وعذوبيته المستساغة وهي دلالة على إيمان الشاعر بالانسجام , وهو أول مبادئ المذهب الأنصاري المذكور آنفا .
أما التورية فقد كثرت في شعره , واستطاع بمهارته الفائقة أن يجعلها مستساغة في النفس بحيث لا تتعارض مع انسجاماته الشعرية . وأكثر شعره لا بل كله رشيق الألفاظ سهل على الحفاظ , لا يخلو من الألفاظ العامية , وما تخلو به المذاهب الكلامية , فلهذا علق بكل خاطر , وولع به كل ذاكر .
يؤكد هذا القول ما تقدم معناه من بيان حول مذهبه , ويوضح بالتالي أهميته كشاعر رائد , وكان على الرغم من صغر سنه , يجمع حوله حلقة من الشعراء من أصحاب هذا المذهب يقتدون به في نهجهم الشعري ومذهبهم الفني , فمن ذلك قوله :
قلت , وقد اقبل في حلة سوداء : من حل بأحشائي
عرفت كل الناس يا سيدي انك أصبحت بسوداء
ومنها قوله في حبيب وافاه بثوب احمر :
وافى بأحمر كالشقيق وقد غدا يهتز فيه بقامة هيفاء
فعجبت منه وقد غدا في حلة حمراء إذ ما زال في سوداء
صفي الدين الحلي
( 677 هـ - 752 هـ)
عبد العزيز بن علي من أشهر شعراء القرن الثامن . يضارع في شهرته ابن نباتة وقد اشتغل بالأدب منذ شبابه الأول . وكان يعمل بالتجارة فيرحل لهذا كثيرا بين مصر والشام وماردين ثم يعود إلى بلاده , وكان يمدح في أثناء رحلته من يلتقي بهم من الملوك والرعيان واتصل بحكام ماردين , ومدحهم بغرر المدائح . ومدح من سلاطين المماليك الناصر محمد بن قلاوون ومن أمراء الشام الملك المؤيد إسماعيل أبا الفداء صاحب حماة . ومن الأعيان في مصر علاء الدين ابن الأثير كاتب سر السلطان .
واجتمع في مصر عند حضوره للقاهرة بضع وعشرين وسبعمائة بجماعة من علمائها كأبن سيد الناس وقد تردد على مصر مرتين .
وكان الصفي الحلي مبدعا في نظم الشعر , وإن اعتمد فيه كثيرا على حلى البديع , وجمع ديوانه بنفسه في ثلاث مجلدات , وكان يتهم بالرفض , وفي شعره ما يشعر به على قول ابن حجر ومدح النبي عليه الصلاة والسلام , مدائح منها القصيدة المعروفة بالبديعية .
ويحاول صفي الدين أن يقلد الشعراء القدامى في بعض قوله وخاصة المدائح التي يجري فيها على النمط القديم , فقد نهج نهج المتنبي في قصيدة يمدح فيها الناصر محمد يعارض فيها قصيدة:
بابى الشموس الجانحات غواربا
من نسيبها :
وجلون من صبح الوجوه أشعة غادرن فود الليل منها شائبا
بيض دعاهن الغبي كواعا ولو استبان الرشد قال كواكبا
سفهن رأى المانوية عندما اسلبن من ظلم الشعور غياهبا
ويمدحه فيقول :
الناصر السلطان قد خضعت له كل الملوك مشارقا ومغاربا
وعلى الرغم من ذلك النمط التقليدي في الصياغة إلا انه لم يخلص من طابع العصر في مراعاة الصنعة . وهو صناع ماهر في اختيار ألفاظه . وصياغة عباراته حتى تحلو في الآذان وقعا وتخف على اللسان فيتلقفها الناس , ومن هنا كتب لشعره السيرورة في حياته . وان كان من عوامل انتشاره كذلك رحلته بين البلاد شرقا وغربا ً .
وهو يرى أن ما ينفقه من حياته في ساعات المسرة أجدى . وكذلك ما يصنعه فيها من شعر أبقى . يعبر عن ذلك بأبياته :
إن من لا يطيق ينقض رزقي لم يكن قادرا على نقص عمري
رب يوم قضيت فيه سرورا فهو باللهو خير من ألف شهر
وأكثر شعره في تلك الأغراض , وفي الوصف ولا يعدم في وصفه الخيال المحلق , كقوله يصف اشراقة الصباح :
لله ليلة انس قلت إذ ذكرت يا ليلة الوصل من ذاك اللمى عودي
والشرق قد حملت أحشاؤه لها للشمس فيها جنين غير مولود
وثعلب الصبح وافي فاغرا فمه إذ قابلته الثريا شبه عنقود
لكنه مع ذلك غير محكم الصورة . أحكام بعض معاصريه , وأكثر خياله الشعري عادي مستمد من الصور الشعرية المعروفة . واهتمامه بلفظه أكثر من اهتمامه بصوره .

صفي الدين عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم السنبسي الطائي , ولد في الحلة سنة 677 هـ ( 1278 م ) وعمل في حقل التجارة , وارتحل إلى الشام ومصر وماردين والقاهرة , وقد انقطع إلى أصحاب ماردين مدة يمدحهم , وينال عطاياهم .
خلف الشاعر آثارا مختلفة وهي ( ديوان شعر ) مطبوع , و العاطل الحالي والمرخص الغالي , مطبوع وهو رسالة في فن الزجل والمواليات ومن آثاره المخطوبة التي لم تطبع بعد ( الاغلاطي ) جمع فيه الأغلاط اللغوية , و درر النحور وهي قصائده المعروفة بالارتقيات , وصفوة الشعراء وخلاصة البلغاء , و الخدمة الجليلية , رسالة في وصف الصيد بالبندق , توفي في ذي الحجة سنة 750 هـ ( 1349 ) م .
النص : قال الشاعر صفي الدين الحلي :
لئن ثلمت حدي صروف النوائب
فقد أخلصت سبكي بنار التجارب
وفي الأدب الباقي الذي قد وهبنني
عزاء من الأموال عن كل ذاهب
فكم غاية أدركها غير جاهد
وكم رتبة قد نلتها غير طالب
وما كل وان في الطلاب بمخطئ
ولا كل ماض في الأمور بصائب
سمت بي إلى العلياء نفس أبية
ترى أقبح الأشياء اخذ المواهب
بعزم يريني ما أمام مطالبي
وحزم يريني ما وراء العواقب
وما عابني جاري سوى أن حاجتي
أكلفها من دونه للأجانب
وان نوالي في الملمات واصل
أباعد أهل الحي قبل الأقارب
وليس حسود ينشر الفضل عائبا
ولكنه مغرى بعد المناقب
وما الجود إلا حيلة مستجادة
إذا ظهرت أخفيت وجوه المعايب
لقد هذبتني يقظة الرأي والنهى
إذا هذبت غيري ضروب التجارب
واكسبني قومي واعيان معشري
حفاظ المعالي وابتذال الرغائب
سراة يقر الحاسدون بفضلهم
كرام السجايا والعلا والمناصب
إذا جلسوا كانوا صدور مجالس
وإن ركبوا كانوا صدور مواكب
اسود تغانت بالقنا عن عرينها
وبالبيض عن أنيابها والمخالب
يجودون للراجي بكل نفيسة
لديهم سوى أعراضهم والمناقب
إذا نزلوا بطن الوهاد لغامض
من القصد اذكوا نارهم بالمناكب
وإن ركزوا غب الطعان رماحهم
رأيت رؤوس الأسد فوق الثعالب
فأصبحت افني ما ملكت لاقتني
به الشكر كسبا وهو أسنى المكاسب
ومن يك مثلي كامل النفس يغتدي
قليلا ً معادية كثير المصاحب
- صفي الدين الحلّي:
ولد الشاعر عبد العزيز بن سرايا في مدينة الجلَّة بالعراق وهاجر إلى ماردين بعد أن تأدّب في الجلّة، فنظم الشعر فيها وأصبح شاعراً للدولة الأرتقية، ثم انتقل إلى مصر والتقى بالسلطان الناصر محمد بن قلوون وحدحه بقصيدته التي مطلعها:
أسلبن من فوق النهود ذوائباً فتركن حبّات القلوب ذوائبا
وهي معارضة لقصيدة المتنبي التي مطلعها:
بأبي الشموس الجانحات غورابا اللابسات من الحرير جلاببا
ثم عاد إلى ماردين وتوفي في بغداد، وله ديوان شعر مقسم حسب فنون الكلام في أحد عشر باباً من ذلك قوله واصفاً الربيع:
خلع الربيع على غصون البان حُللاً فواضلها على الكثبان
وتنّوعت بسط الرياض فزهرها متباين الأشكال والألوان
وكأنّما الأغصانُ سوق رواقص قدقيِّدت بسلاسل الرّيحان




ابن مليك الحموي
(840 – 917 هـ - 1436 – 1511 م )
علاء الدين علي بن محمد بن علي بن مليك الحموي ثم الدمشقي : شاعر مشهور ولد في حماة سنة 840 هـ 1436 م , وانتقل إلى دمشق فتفقه وتأدب , وكان في مطلع حياته يبيع الفقاع عند قناة القوني خارج باب الفراديس , ثم تركه بعد أن برع في نظم الشعر , سمى ديوانه ( النفحات الأدبية من الرياض الحموية ) , توفي في دمشق سنة 917 هـ , 1511 م .
النص :
قال الشاعر ابن مليك يمدح النبي عليه الصلاة والسلام بقصيدة طويلة مطلعها :
فؤاد بذكر العامرية مغرم
وصب هواه في الدموع مخيم
ومنها قوله بعد خمسة وخمسين بيتا في ختام القصيدة :
فيا سيد الرسل الكرام ومن غدا
عليها لواء الحمد بالنصر يرقم
متى ابن مليك منك يشفى بزورة
يزول بها عنه الشقاء وينعم
أجرني أجرني قد أتيتك راجيا
وما خاب من فيك الرجا يتوسم
وحاشا كريم القوم يمنع سائلا
إلى بابه قد جاء يسعى ويحرم
ومن عادة السادات أن نزيلهم
يصان ويرعى في حماهم ويكرم
عسى من لظى أنجو بجاهك في غد
واحشر في قوم أنابوا واسلموا
ترى هل ترى عيني معالم طيبة
وعرف الصبا من طيبها يتنسم
والصق بالأعتاب خدي وأرضها
اقبل إجلالا ثراها والثم
عليك صلاة الله ثم سلامه
سلام به عقد المديح ينظم
وآلك والصحب الذين حديثهم
به يبدأ الذكر الجميل ويختم
منجك اليوسفي
(1007 – 1080 هـ - 1598 – 1669 م )
الأمير منجك بن محمد بن منجك بن أبي بكر بن عبد القادر بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن منجك اليوسفي الدمشقي .
ولد في دمشق سنة 1007 في بيت إمارة ورياسة , إذ هو سلسل منجك الكبير اليوسفي , الذي كان في خدمة الناصر محمد بن قلاوون . وقد نشا في أيام أبيه وتفيا ظلال نعمه , وشغف بطلب العلم وتحصيل الأدب ونال قسطا وافرا من الثقافة ومن مشايخه الذين قرأ عليهم عبد الرحمن العمادي , كما اخذ الحديث عن الشهاب احمد الوفائي وأبي العباس المقري والأدب عن احمد بن شاهين , ولما مات والده تقلبت به الأحوال وانفق ما ورثه لمبالغته في البذل والسرف . واضطر إلى الهجرة إلى بلاد الروم ( التركية ) فمدح السلطان العثماني إبراهيم , لكنه لم يظفر منه بطائل فعاد إلى دمشق , وعاش في ستر وجاه , توفي في الرابع عشر من جمادى الأخرى سنة 1080 هـ .
والمعروف انه كان فصيح اللهجة كثير المحفوظات قوي الحافظة حسن التخيل والأداء , ومن آثاره ديوان شعره المطبوع , ولم تكن أشعاره مجموعة , وإنما جمعها بعد موته فضل الله والد المحبي بطلب من شيخ الإسلام عبد الرحمن بن الحسام بعد عزله عن الفتوى , فأنشأ لها ديباجة وجمعها ورتبها ترتيبا حسنا , وله أيضا ( مجموعة منجك باشا) , وما زالت مخطوطة .
النص :
قال الأمير الشاعر منجك اليوسفي في إحدى قصائده الرومية :
نزيح ديار لا أنيس ولا صحب
وعاتب دهر ليس يعتبه العتب
منازله بالشام أضحت خلية
حكت جسمه إذا سار عن جسمه القلب
له صبية عند العداة رهينة
ومدمعهم من فرط لهفهم صب
عراة إذا ناموا تيقظ شرهم
فأمنهم خوف وسلمهم حرب
جنيت على نفسي لي الذنب كله
بسيري وما للذنب في فعله ذنب
غررت بأقوام وعودهم هبا
تمر جهاما واسمها عندهم سحب
يلبون بالدعوى لطالب سيبهم
ولو شاهدوا فلسا على الأرض لانكبوا
ولم أر من قبلي عليلا ً طبيبه
سقيم اختبار ليس يعرف ما الطب
يمد لصيد المدح مني حباله
على الغدر معقود بأطرافه الكذب
وما الناس إلا حيث يلتمس الندى
وما الطير إلا حيث يلتقط الحب
رجعت وعيون الله للمرء حارس
وطرفي لا يكبو وناري لا تخبو
شهاب الدين بن معتوق الموسوسي
1035 – 1087 هـ - 1616 – 1676 م
شهاب الدين بن معتوق الموسوسي الحويزي . شاعر عراقي بليغ من أهل البصرة ولد سنة 1025 هـ ( 1616 م ) وفلج في آخر عمره
ثم توفي سنة 1087 هـ وكان من فحول شعراء عصره لكننا لا تعرف كثيرا عن أخباره .
جمع ابنه معتوق شعره , وديوانه مطبوع مرتين , الأولى طبعة حجرية سنة 1287 هـ والثانية في بيروت سنة 1885 م .
النص :
قال الشاعر ابن معتوق يمدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بقصيدة مطلعها :
غربت منكم شموس التلاقي
فبدت بعدها نجوم المآقي
واختتمها بقوله :
يا أمام الهدى ومن فاق فضلا
وملا الخافقين بالائتلاق
قد سلكت الطريق نحوك شوقا ً
ورجائي مطيتي ورفاقي
أسرتني الذنوب أية اسر
والخطايا فمن في إطلاقي
أول العمر بالضلال تولى
سيدي فأصلح السنين البواقي
أنا رق بك استجرت فكن لي
من أليم العذاب بالبعث واقي
زف فكري إليك بكر قريض
برزت في غلائل الأوراق
صانها عن سوى علاك شهاب
يا شهابا أضاء بالإشراق
فالتفت نحوها بعين قبول
فلها بالقبول اسنى صداق
وعليك السلام ما رقص الغصن
وغنت سواجع الأوراق
فاقت الدهر زينة مثل ما قد
فاز قدر الوصي بالآفاق
سيد الأوصياء مولى البرايا
عروة الدين صفوة الخلاق
بدر أفق الكمال شمس المعالي
غيث سحب النوال ليت التلاقي
حكمه العدل في القضايا ولكن
جائر في نفوس أهل الشقاق
عبد الغني النابلسي
(1050 – 1143 هـ - 1641 – 1731 م )
عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي , شاعر متصوف مشهور واحد كبار علماء الدين .
ولد في دمشق سنة 1050 هـ , ونشأ فيها , ثم ارتحل إلى بغداد والحجاز ومصر وفلسطين واستقر في نهاية المطاف ببلده دمشق , مصنفاته كثيرة جدا في الشعر والدين والتصوف , اخبر السيد احمد خيري الزركلي انه أحصى له 223 مصنفا وقد طبع كثير منها .
من كتبه المطبوعة : الحضرة الإنسية في الرحلة القدسية , و تعطير الأنام في تعبير المنام , و ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الأحاديث , و هو فهرس لكتب الحديث الستة , وعلم الفلاحة , ونفحات الأزهار على نسمات الأسحار , وإيضاح الدلالات في سماع الآلات , وخمرة الحان , وهي شرح رسالة الشيخ ارسلان , وديوان الحقائق ومجموع الرقائق , من شعره , و الرحلة الحجازية والرياض الإنسية , ورشحات الأقلام في شرح كفاية الغلام , في فقه الحنفية , و كشف الستر عن فرضية الوتر , ولمعان الأنوار في المقطوع لهم بالجنة والمقطوع لهم بالنار , و جواهر النصوص مطبوع في جزأين شرح فيه فصوص الحكم , لابن عربي , ومن كتبه المخطوطة ذيل نفحة الريحانة , والحقيقة والمجاز في رحلة الشام ومصر والحجاز , وقلائد المرجان في عقائد أهل الإيمان , وشرح أنوار التنزيل للبيضاوي , وكفاية المستفيد في علم التجويد , والاقتصاد في النطق بالضاد , و من مناجاة الحكيم ومناغاة النديم , في التصوف , وشرح المقامة السنوسية , و ديوان الدواوين . . . .
توفي في دمشق سنة 1143 هـ - 1731 م .
النص :
قال الشاعر المتصوف عبد الغني النابلسي في ديوانه الشهير ( ديوان الحقائق ومجموع الرقائق ) :
بدت الحقيقة من خلال شعورها
واستأنست من بعد طول نفورها
وتبسمت في وجه عاشقها الذي
قد هام منها في بياض ثغورها
وتلبست للطارقين على الهوى
بسواد مقلتها وبيض شعورها
فأقم قوامك وانتظر وانظر لا
تشغل زمانك بالجنان وحورها
وشدت على عيدانها أطيارها
فاسمع معي منها غناء طيورها
وانظر لبلبلها يغرد مطربا
في دوح هذا الكون مع شحرورها
صدق الذي قال فيما قاله
في طيها الترتيب من منشورها
خفيت وما خفيت وقد ظهرت وما
ظهرت وقام خفاؤها بظهورها
شمس بها كل الشموس تنورت
منها ولاحت في ذوات بدورها
من قال : من هي ؟ قلت : من هي مثله ؟
قولا يحققني بورد صدورها
طابت فطيبتها تفوح بطيها
في وردة الأكوان من منشورها
* * * * *
الله اكبر أنها النبأ الذي
في نارها وقع الجهول ونورها
ولقد بدت كاساتها مملوءة
من مائها الصافي وصرف خمورها
وحلوة العسل الذي هو رائق
من نحل أنفسنا وبيت قبورها
هي سورة في الذكر تتلى دائما
هي صورة من نفخها في صورها
قالت بها كلا لرجال كقولنا
لكن بنا قالوا لأجل قدورها
فاستجلها بيضاء سوداء السوى
بك وافهم المقصود من مذكورها
صح الحديث فخذ بما هو ظاهر
هذا هو المعروف من منكورها
التلعفري
( 593 – 675 هـ - 1197 – 1277 م )
حياته ونشأته :
ولد الشاعر المقامر , شهاب الدين أبو المكارم محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة الشيباني بالموصل سنة 593 هـ , ولقب بالتلعفري نسبة إلى تل أعفر , وهو موضع جميل , يقع بين سنجار والموصل .
يقال انه من أصول أسرة شيعية أصولها من شيبان بن ثعلبة , ثقف علومه الأولى في الموصل ونال قسطه الوافر من الثقافة والأدب , بيد انه ترك الموصل في مطلع شبابه , وتوجه إلى بلاد الشام واخذ يمدح فيها الملوك والأعيان وهو بعد لم يتجاوز العشرين من عمره , وانه كان أديبا فاضلا حافظا للأشعار وأيام العرب وأخبارها .
لم يذكر الذين ترجموا له شيئا عن علاقته بصاحب حلب الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي .
لم يقم في دمشق إلا بعد وفاة الملك العزيز , فقد انتقل إليها من حلب ومدح صاحبها الملك الاشرف موسى الذي تولى حكمها في المدة الواقعة بين سنتي 626 – 635 هـ , ونال منه العطاء الجزل بيد انه انغمس في الملذات والشهوات , وعاشر أرباب الخلاعة والمجون , وعكف على شرب الخمر ولعب الميسر , وقد وصف حاله قائلا ً :
أقلعت إلا عن العقار وتبت إلا من القمار
فالكأس والقمر ليس يخلو منهما يميني ولا يساري
وكان كلما أعطاه ممدوحه الملك الاشرف بعض المال أنفقه على شرب الخمر أو قامر به , وقد أدى ذلك إلى غضب مولاه عليه فطرده من دمشق , فالتجأ إلى حلب والتحق بخدمة صاحبها الملك الناصر يوسف الذي خلف أباه الملك العزيز محمد , فأكرمه كل الإكرام وقرر له رسوما وقربه من مجالسه الخاصة وحاول أن يصلح سيرته إلا انه لم يقلع عن عادته في المقامرة , فكان يبدد كل ما يحصل عليه من المال حتى بات يعيش في فقر مدقع .
وهكذا ساءت حال الشاعر كثيرا , وبلغ الأمر انه قامر بثيابه ونعليه .
واسودت الحياة في عين الشاعر بعد أن غضب عليه الملك الناصر ويظهر انه قطع عنه الرسوم التي قررها له , فضاقت عليه الأرض بيد انه لم يرجع إلى دمشق إلا بعد وفاة ملكها الاشرف سنة 635 هـ .
وهكذا نرى الشاعر طريدا بين دمشق وحلب , بعد أن فقد كل أمل له في العودة إلى منزلته الأولى عند ملوكها , فاخذ يستجدي بشعره وهو في دمشق , وكان ينفق ما يحصل عليه في الميسر والخمر , حتى فقد ما يملكه كله , وبات يقم في أتون حمام , وعلى الرغم من ذلك فكان ينشد :
رضيت بما قسم الله لي وفوضت أمري إلى خالقي
لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي
ويمضي شباب الشاعر ولما يقض وطره , ووخط المشيب عارضيه , فلقد أشعل شقاء الأيام رأسه شيبا ً , وخبر الناس وعرف غشهم وعرك الحياة وخداعها فانشد قوله :
سلام على عصر الشباب الذي مضى وروحي بضافي ظله ما تملت
عرفت بها هذا الزمان وأهله فرحت بشيبي غافرا كل زلة
بلوت الورى خبرا فلم أر فيهم خليلا ً سديدا ً عنده سد خلتي
انتقل الشاعر إلى حماة ومدح ملكها المنصور الثاني سيف الدين محمدا ً , ويستدل من النسيب الذي استهل به مدحته المذكورة على قلق الشاعر واضطراب حياته الخاصة كما في قوله :
نهاري كله قلق وفكر وليلي كله ارق وذكر
يقسمني الهوى كمدا وحزنا فأمرهما لحتفي مستمر
قضى الشاعر المرحلة الأخيرة من حياته ينادم ملك حماة المنصور الثاني سيف الدين محمد ويسامره , ولقي فيها الحفاوة والإكرام وحسن حاله بعد أن أغدق عليه العطاء وكأنه شعر أن المنية تقترب منه فقال قبيل وفاته :
أحماة إن عهود اهلك أحكمت أسبابها عندي فليست تنقض
لكنما أزف الرحيل وها أنا والعيس تحدى منشد ومعرض
وحانت ساعته فوافته منيته في شوال 675 هـ وبذلك طويت هذه الصفحة من حياة الشاعر , بيد أنها سجلت لنا في سطورها قصة التلعفري شاعر الخمر والميسر .
آثاره الأدبية
لا نعرف من آثاره الأدبية غير ديوانه وشعره لطيف في غاية الحسن , وشعره قليل مع أن حياته تبين انه كثير وذلك لسببين :
الأول هو نمط حياته الخاص وإدمانه الشديد على القمار والعقار جعلاه لا يهتم إطلاقا بجمع شعره والعناية به في المراحل الأولى من حياته , وأما ثانيهما فهو أن بعض إخوان الشاعر جمع ديوانه كما يظهر في المرحلة الأخيرة من حياته خلال وجوده في حماة ولم يبق من مدحه الكثير غير مطالع النسيب .
شعره ومذهبه الفني
أغراض شعره
لا نملك من شعره ما يسمح لنا بدراسة أغراضه كلها دراسة كاملة شاملة واغلب الظن عندي انه لم يطرق فيه غير المدح , والوصف والطبيعة والنسيب والخمريات .
1- الخمريات
والغريب أننا لا نجد بين آثاره غير الموشحة والمدحة المشار إليها آنفا , أما مطلع الموشحة التي بعث بها إليه شهاب الدين العزازي , فهو قوله :
بات طرفي يشتكي الارقا وتوالت ادمعي لا ترتقي
ويقول فيها :
أيها الموفي على عهد الزمن
كرما محضا وفضلا ومنن
حاكه الخادم من غير ثمن
جالب الوشي لصنعاء اليمن
فاستمعها زادك الله بها مدحة لم يحكها ابن بقي
فأجابه الشاعر التلعفري بموشحة , مطلعها قوله :
ليس يروي ما بقلبي من ظمأ غير برق لائح من إضم
ويقول فيها :
العزازي الشهاب الثاقب
شكره فرض علينا واجب
فهو إذ نبلوه نعم الصاحب
سهمه في كل فن صائب
جائل في حلبة الفضل كما جال في يوم الوغى شهم كمي
شاعر أبدع في أشعاره
ومتى أنكرت قولي باره
لو جرى مهيار في مضماره
والخوارزمي في آثاره
قلت : عودا وارجعا من أنتما ذا امرؤ القيس إليه ينتمي
والمدحة الثانية بعث بها إلى صديقه بمصر عز الدين بن أمسينا , جوابا عن قصيدة وردت منه يسأل فهيا عن حاله , ويذكره بقصة حدثت له هناك خلال وجوده بمصر , ومما قاله :
بابي أنت يا خليلي وأمي أنت قوسي إذا رميت وسهمي
أنت والله سيدي لي حسامي فيه للنائبات أعظم حسم
كيف أخشى ذلي ولي منك عز ما ترقت إليه همة نجم
نظمت فيك للمعالي عقودا معجزات جميع نثري ونظمي
الليالي عندي ظلام وظلم بعد ذا اللمى وذاك الظلم
أما المدائح الأخرى فلم يبق منها غير ذكر اسم الممدوح في بيت التخلص . ولم يصلنا من الأسماء غير اسم الملك العزيز , ورد اسمه في مستهل نسيبين , واسم الملك الناصر الثاني محمد واسم غياث الدين وهي ما عثرنا عليه في الديوان من المدح .
لا جديد يطالعنا به من المعاني التي طرقها الشاعر في مدحه , بيد أن الجديد الذي يمكن أن نسجله . هو استخدامه الموشحات في معرض المدح , وهذا بالطبع يمثل تطور فن الموشحات المشرقية في هذا العصر ببلاد الشام , واستخدامها في غير أغراضها المعروفة , وسوف نأتي على ذكر ذلك في حديثنا المقبل عن الفنون الشعرية المستحدثة .
الوصف والطبيعة
لا بد لنا من التحدث عن النسيب ووصف الطبيعة ما دمنا في معرض دراسة مدح الشاعر , وجدير بالذكر هنا انه كان في المرحلة الأولى من حياته يقلد الشعراء القدامى , ويستن بسننهم في الصور والأخيلة والمعاني التقليدية والأساليب الجاهلية كما في قوله :
يا أهل ودي يوم كاظمة أما عن وصلكم صبري الجميل قبيح
سرتهم وأسررتم بقلبي مهجة أودى بها التقريح والتبريج
ونعثر على أمثال هذه المعاني المطروقة والألفاظ المكررة فسنة التقليد معروفة عند الشعراء في مطلع حياتهم الأدبية . حتى إذا بلغ الشاعر نضجه , وامتلك نهجه الذاتي نراه يجدد في معانيه ويدعو خليله الصاحب إلى هجر المنازل والديار والإعراض عن الرسوم والأطلال , فليس له في نعتها شأن :
يا صاح دعني من ذكر العقيق ومن منازل ليس لي في نعتها شأن
مالي وما لربوع لست اعرفها ؟ ما الحب بعم ولا الأوطان نعمان
ويتشوق الشاعر إلى مغاني الشام ومرابعها وهو بعيد نازح في وادي النيل , ويتحدث عن طبيعتها الجميلة , ويتغنى بذكر دمشق الفيحاء , ويدعو لها بالسقيا من هامي الودق هتان , فلقد أمضى في ظلال منتزهاتها على ضفاف برادها أجمل الأوقات واسعد الساعات :
يهيج بالنيل بي شوقا إلى بردى إني ومن برده ظمآن لهفان
الله يا ورق في عاني الحشا وصب صب له من ربا جيرون جيران
يقول وهو بمصر عند حاجرها ليس اللبانة إلا حيث لبنان
هكذا نجد الشاعر يمر في ثلاث مراحل حتى اكتمل نضجه الفني ونهجه الذاتي فلا غرابة أن رأيناه يعرض عن القديم فيجدد في معانيه ويأخذ منها بأوفر نصيب .
تلك هي لمحة عن تطور شعر التلعفري ومميزات وصفه , وقد لمحنا من خلال ما مر معنا اثر طبيعة بلاد الشام في رقة الشاعر , إذ تطور من نسيب تقليدي مطبوع بطابع بدوي إلى وصف واقعي لما حوله من طبيعة ساحرة وجمال أخاذ .
النسيب والغزل
يختص بعض الشعراء بالإكثار من ذكر أوصاف معينة في غزلهم فتطبعهم بطابعها الخاص , وذكرنا انه كان يكثر من التغني بذكر الخيلان , ومعظم من جاء بعده أما التلعفري فكان يكثر من ذكر القدود والألحاظ وما حولها مما يتعلق بها , ونادرا ما تخلو قصيدة له من إيراد هذا المعنى الذي كان يتفنن في نعته بصورة تكاد غريبة , نذكر من ذلك قوله :
حميت شقيق الخد بالمقلة الكحلا وثقفت رمح القد بالطعنة النجلا
واوترت قوسي حاجبيك ففوقت من النظر السامي إلى مقلتي نبلا
عجبت لجفنيك التي نشطت لنا لتقتلنا , وهي المضعفة الكسلى
ويقول في قصيدة أخرى في المعنى ذاته , ولكنه في حديثه عن سهام الألحاظ يقصرها على أعين الأتراك , ولقد عرفنا ذلك عند معظم شعراء العصر فغدا التغزل بذلك صفة مستحبة لدى الناس , إذ أنهم كانوا يفتنون بضيق العيون وصغرها , يضاف إلى ذلك أسهم الأتراك المعروفة بشدتها :
يا جاعلا عينيه من أشراك تركي هواك نهاية الاشراك
لم ادر حيث أراك تخطر مائسا ً أقوام قدك أم قضيب أراك
أين المفر لعاشق متهتك صرعته أسهم أعين الأتراك
يحاول الشاعر أن يبين السلاح القوي الذي يملكه محبوبه فالقد في نظره رمح مثقف يطعن الطعنة النجلاء , والحاجبان قوسان موتران يصوبان سهام الأتراك القاتلة من الأعين الضيقة .
نذكر من هذه الصور أحداها , وقد تصور الشاعر فيها محبوبه يدعوه إلى المبارزة والنزال , ويعجب خلال ذلك من سلاحه الذي يتصدى له به :
يدعو النزال وليس إلا قده رمح وإلا مقلتيه حسام
كما يتصور الشاعر غصن قده وقد أورق بالذوائب ويرى انه حمى خده المورد بحسام اللحظ :
كلفت باحوى من بني الترك احور له غصن قد بالذوائب مورق
رشيق التثني والمعاطف العس المراشف يصمي طرفه حين يرمق
حمى بحسام اللحظ خدا موردا غدت منه أكمام الشق تشقق
له ناظر في ضمنه وهو اسود عدو لأرباب الصبابة ازرق
تحدث الشاعر من خلال أبياته عن خصر المحبوب وعطفه وعارضه وقده وحاول أن يشخص لنا ما يدور حولها من المعاني كما في قوله :
يا رائشا أسهما من لحظ ناظره فوق فغير فؤادي ليس من هدف
سبحان معطيك خصرا غير مختصر لي في العذاب وعطفا منعطف
إذا شكوت لترثي لي وترحم ما تراه من جسمي المضني ومن كلفي
يردني ايسا من ذاك عارضتك الآسي والمنثني من قدك الآلف
تلك هي بعض المعاني العامة في غزل الشاعر , وقد لاحظنا من خلالها اثر العصر في اختيار هذه المعاني , إذ انعكست عليها أحداث العصر السياسية والاجتماعية والدينية وغيرها , لان المفاهيم الجمالية تختلف باختلاف الزمان والمكان .
مذهبه الفني
تحدثنا في فصل سابق عن اتجاه جديد عند شعراء هذا العصر , جنح فيه بعضهم إلى الإعراض عن الزخارف البديعية في مذهبهم الفني , بيد أن بعضهم الآخر من أرباب هذا الاتجاه لم يستطيعوا الإفلات نهائيا من طغيانها , وكان التلعفري احد هؤلاء , فهو – كما رأينا – شاعر وجداني مطبوع لكنه لم يفلت من التأثر ببعض التيارات المعروفة في هذا العصر .
يلاحظ أن شعره يجنح بشكل عام إلى السهولة شأنه فيها شأن شاعر رقيق معروف هو بهاء الدين زهير , وكان مطبوعا بالطابع الوجداني الصرف , فلقد قصره على المدائح والأوصاف والاغزال والخمريات , وهي معظم ما يملأ حياته وشعره , فلا غرابة إن رأينا بعض القدماء يحفظ معظم شعره كما هو الحال عند ابن سعيد الأندلسي .
ويلاحظ أيضا , على الرغم من انطباع شعره بالسهولة المتناهية انه كان يتأثر ببعض المذاهب الشعرية والزخارف البديعية التي سادت في القرنين السادس والسابع الهجريين , وكان أربابها يتكلفون الجناس والطباق والاقتباس وغيرها .
استخدم الشاعر الجناس بكثرة في شعره وشواهد كثيرة نذكر منها قوله :
أنت خال ٍ مما يقاسيه قلبي من غرير له على الخد خال
كلما عز زاد ذلي وحالت لي فيه مع الزمان الحال
وقوله :
حتام ارفل في هواك وتغفل ؟ وعلام اهزل في هواك وتهزل ؟
يا مضرما في مهجتي بصدوده حرقا لهن يكاد يذبل (( يذبل ))
وقوله :
يهيج بالنيل بي شوقا إلى بردى إني ومن برده ظمآن لهفان
ودبجت يا سطري سطور ربا من الرياض لها بالزهر ألوان
وفاح وادي الشقراء منك شذا يضيع حين يصوغ الورد والبان
استخدم الشاعر أيضا الطباق بكثرة في شعره وقد لاحظنا أن شعراء القرن السادس بشكل عام جنحوا إلى استخدام الجناس والطباق بكثرة فمن ذلك قوله :
له وهو مملوك تحكم مالك كما وهو ظبي فيه صولة ضيعم
يلوح كبدر طالع النور مشرق بدا في دجى ليل من الشعر مظلم
فلا طرف إلا في نعيم وجنة ولا قلب إلا في لظى وجهنم
فينطق لفظ كدر مبدد ويبسم عن ثغر كدر منظم
وقوله : كان عهدي بالخمر وهي حرام فبماذا صارت لديك حلالا ؟
أنا قصدي تقبيله إرشادا كان رشفي رضابه أم ضلالا ؟
حار مني في شرح حاليه فكري كيف يسطو ليثا ويعطو غزالا ؟
إن أطعت الغرام فيه فاني قد عصيت اللوام والعذالا
يضاف إلى الطباق والجناس ظهور الاقتباس بمختلف أشكاله في شعره , فمن الاقتباس القراني قوله :
قالت محاسن وجهها لمحبها لنولينك قبلة ترضاها
ويلاحظ من الاقتباس الحديثي انه كان يستخدم مصطلحاته الخاصة كما هو معروف عند المحدثين فمن ذلك قوله :
ولا برح الصبا يروي صحيحا حديث رياضها وبها اعتلال
منازل للصبا ما زال شملي له فيها بمن أهوى اتصال
وقوله :
حدثه عن نجد فلولا عينه وعيونها ما جن منه جنونه
واستمل ما تمليه عبقة روضه سحرا وترفعه إليه غصونه
وانقل أسانيد الهوى عن أضلعي فحديث أهل العشاق أنت أمينه
اعد الحديث عن الحبيب مكررا أخباره فالصب هذا دينه
ومن الاقتباس اللغوي والبلاغي وغيرهما قوله :
يا جوهري الثغر لا ومضاعف من كسر جفنك ما القلوب صحاح
عطفا على ذي لوعة مبثوثة متقاصر عن شرحها الإيضاح
وقوله :
عندي جوى يذر الفصيح مبلدا ً فاترك مفصله ودونك مجمله
القلب ليس من الصحاح فيرتجي إصلاحه والعين سحب مهمله
يلاحظ أن الشاعر ذكر الجوهري ومعجمه ( الصحاح ) وثعلبا وكتابه ( الفصيح ) والزمخشري وكتابه ( المفصل ) وابن فارس وكتابه ( المجمل ) والخليل الفراهيدي ومعجمه ( العين ) ومن الاقتباس النحوي قوله :
وإذا الثنية أشرقت وتيممت أرجاؤها أرجا كنشر عبير
سل هضبها المنصوب : أين حديثها المرفوع عن ذيل الصبا المجرور
وقوله :
قل للصبا سرا فإن لم تبتدي يضحي بما تفضي إليه مذيعا
يا ذيلها المجرور عن بان الهوى المنصوب هات حديثك المرفوعا
ومن الاقتباس العروضي قوله مستخدما فيه من أسماء الأبحر الطويل والمتقارب والسريع والمديد :
كم قد مضى ليل الطويل مديده برقيبه متقاربا وسريعا
وقوله مستخدما فيه أسماء بحور المتقارب والوافر والمديد والطويل :
متقارب لي منه صد وافر فمديد ليلي لا يزال طويلا ً
يلاحظ بالإضافة إلى ما مر معنا في مذهبه انه كان يستخدم التدبيج وهو عند البلاغيين ضرب من المقابلة , وهو أما أن يكون تدبيج كناية أو تدبيج تورية , وقد حاول التلعفري إبراز المعاني كما تخيلها في صورة جميلة من الألوان , فمن التدبيج قوله :
شفقي خد احمر صبحي ثغر ابيض ليلي خال اسود
وقوله يكني فيه عن حظه الأسود والموت الأحمر :
وجعلت حظي منك خالا اسودا وأذقتني موتا كخدك احمرا
فاسوداد الحظ كناية عن سوء الحال , والموت الأحمر كناية عن الشدة وقوله يذكر فيه الثغر والخد والخال :
لم ادر مما فاح لي طيب الشذا فأميل ميل المنتشي المسرور
من خده الوردي أو من خاله السندي أو من ثغره الكافوري
وقوله يصف الطبيعة مجليا ألوانها :
أنسيت بالخضراء زهت بكمال بهجتها على أجناسها
ورياض أربعها وحمرة وردها وبياض انهرها وخضرة أسها
وقوله يصف العدو وزرقته والناظر وسواده :
حمى بحسام اللحظ موردا غدت منه أكمام الشقيق تشقق
له ناظر في ضمنه وهو اسود عدو لأرباب السبابة ازرق
إن وصف العدو باللون الأزرق كناية عن شدة العداوة , ويظهر أن هذا التشبيه مستمد من وصف الأعداء من روم وفرنجة ذوي العيون الزرق .
نخلص مما تقدم معنا من دراسة مذهب التلعفري إلى أن نؤكد أمرين :
أولهما أن شعره مطبوع بالسهولة المتناهية وذلك جريا هعلى ما ألفه لدى بعض شعراء هذا العصر من أرباب مذهب التخلي عن الصنائع البديعية في الشعر .




9-شرف الدين الأنصاري
(عبد العزيز بن محمد الدمشقي )
الذي ولد في دمشق سنة (586هـ) وسكن مدينة حماة إلى أن توفي فيها سنة (662هـ) توثقت صلته بالأسرة الأيوبية ، وتقلد بعض المناصب ووحد الصلات بين ملوك مصر وملوك الشام . كان شاعراً وفقيهاً، كتب في المديح والغزل والزهد ومناسبات التهنئة، يمتلك طبعاً سليماً، يبتعد عن التعقيد، اهتم بالتورية ووصفه الصفدي بالجزالة والفصاحة والبلاعة.
مدح المنصور الثاني ملك حماه الذي اشترك مع قطز في قتال التتار:
دعت العدا فضمنت ثلَّ عروشها ولقيتها فأخذت فلَّ جيوشها

10- الشهاب محمود:
ولد الشهاب محمود بن سلمان الحنبلي في حلب عام (644هـ) وعكف منذ طفولته على طلب العلم ولقي مشاهير العلماء فهم ابن مالك، وبرع في الأدب وتضلّع في الفقه وفاق أقرانه، كان هادئ الطبع، جمّ التواضع، ولّي ديوان الإنشاء في دمسق، وكتب لدواوين مصر له تصانيف كثيرة، يعد شعره سجلاً لانتصارات المسلمين على الفرنجة والتتار من ذلك مدحه للسلطان الممولكي المنصور قلوون:
الله أكبر هذا النصر والظفر هذا هو الفتح لا ما تزعم السِّير
غر العدا منك حلمٌ تحته همم لأشقر البرق من نجميلها غرر
توفي الشهاب عام (725هـ) .

11- ابن نباتة المصري:
ولد جمال الدين محمد بن محمد المصري عام (686هـ) في القاهرة وتوفي فيها عام (768هـ) وتمرّس بالكتابة على أيدي رؤساء الدواوين في القاهرة، ثم رحل إلى الشام واتصل بالملك المؤيّد صاحب حماه، وله قصائد في المدح والرثاء والغزل والوصف والهجاء والتهنئة و التعزية، وكان متبرماً من الفقر الذي حلّ به أغرم بالصناعة البديعية، وعدّ أمير الأدباء فيها من ذلك قوله في الملك المؤيّد:
وقد أمنتنا دولة ذويّة فما نختشي اللأواوك نتخسَّعُ
رعى الله أيّام المؤيّد إننا وجدنا بها أهل المقاصد قد رعوا













12-الشرف الأنصاري ( 586 – 662 هـ 1190 – 1296 م )
شيخ الشيوخ
1- مراحل حياته
في دمشق الفيحاء وفي درب الكشك احد أحيائها القديمة ولد الشاعر الكبير شيخ شيوخ حماة ورئيسها الصاحب شرف الدين , أما اسمه فهو أبو محمد عبد العزيز بن عبد المحسن بن محمد بن منصور بن خل الدمشقي المعروف ب ( ابن الرفاء ) ضحى الأربعاء في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة 586 هـ وهو عربي صميم من قبيلة اوس الأنصارية , وكانت تسكن كفر طاب مع سكانها من بهراء وتنوخ وقد أشار إلى نسبه في شعره بقوله :
وإذا ما الأوس عدوا فإني من ذويهم في لباب اللباب
وأشار إلى الأنصار بقوله :
إن كنت لم افتقد غمضي لفقدكم فلا وجدت من الأنصار أنصاري
هاجمت الروم والفرنجة هذه المدينة فتشتت شمل سكانها ,إذ أخرجتهم من ديارهم فانتقل أبوه إلى دمشق , وجمع بين عمله التجاري في سوق الخواصين والنيابة عن ضياء الدين الشهرزوري في القضاء والأوقاف سنة 682 , ثم انتقل أبوه بعد ذلك إلى حماة وولي نظر أوقاف الملك المنصور الأول بطلب منه , وكان في الوقت نفسه ناظر أوقات الخليفة العباسي . يؤكد ذلك قوله للرشيد المصري القائم على وزارة ماله لما امتنع عن الحضور عنده : (( وهذا ليس لك عليه اعتراض ولا وليته إلا بإكراه ليكون ناظر أوقاف الخليفة ناظر أوقافي )) .
يؤكد هذا الخبر انه انتدب من قبل الديوان العزيز ببغداد لعقد نكاح بعض مماليك الخليفة على بعض جواريه , فارتجل بديها ً أمام الحاضرين خطبة من روائع خطب العقود , إذ المعروف عنه انه كان ما هرا في الخطابة .
كان مطبوعا على نظم الشعر . وقد حاول أن يدرب ابنه عليه بتلك المطارحات الشعرية الجميلة منذ نعومة أظفاره , كان شرف الدين معجبا بابيه , وقد أشار إلى جلالة قدره وكريم محتده في معرض قوله يفتخر به , ويتحدث عن قومه الأنصار الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة :
نفتر كالحمر المستنفرة أجفلت هاربة من قسورة
طلبوا شأوي ولما يلحقوا بعد لأي من غباري أثره
من يسالمني أسالمه ومن رام حربي فإليه المعذرة
وأبي من قد علمتم قدره مجهر بالخطبة المسحنفرة
من يشاجره يصادف قومه جل من بايع تحت الشجرة
في مملكة حماة الأيوبية وفي بيئتها العلمية التي ازدهرت في عهد ملوكها من أحفاد الملك المظفر تقي الدين ابن أخي صلاح الدين , وفي عصرها الذهبي خلال حكم اكبر ملوكها المنصور الأول والأديب العالم الذي سمع الحديث في الإسكندرية عن الحافظ السلفي وصاحب التآليف المشهورة . نشأ شرف الدين فاستكمل علومه الدينية والأدبية بإشراف والده , فقرأ القرآن الكريم برواياته المختلفة , واشتغل بالأدب على أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي , وسمع منه كثيرا ً حتى إذا نال قسطه من العلوم والمعرفة شرع ترتحل مستزيدا من ثقافته وعلمه , والتقى بمشاهير العلماء في عصره . نذكر منهم شيخه سيف الدين الآمدي , وكان يكاتبه كما ذكر ابن شاكر أن والده رحل به , واسمعه جزء ابن عرفة من ابن كليب , واسمعه المسند كله من عبيد الله بن أبي المجد الحربي .
نظم الشاعر في بعض رحلاته عن حماة في أيام صباه قصيدة صور فيها نفسيته , ووصف طموحه إلى المجد والمعالي :
لعمري لقد حاولت ما لا أناله كما حاولت إمساك قلبي
لعل بعادي عن حماة يعيدني تخاف السطا مني وترجى المنائح
لأهزم جيش المال وهو عرمرم وأدفع صدر الخطاب والخطب فادح
يهيج اشجاني به كل ليلة وتصرفني عما يقول النواصح
كان سعيدا في حماة خلال سني الطفولة وصباه , فأبوه قاضي قضاتها ويرعاه , وكانت ملامح النحابة تلوح عليه منذ صغره , داعب الغرور نفسه في مثل هذه السن المبكرة .
صحب والده , فزار بغداد وغيرها وسمع فيها من مشاهير علمائها ومحدثيها , وعاد إلى الشام وتنقل في أرجائها فترة من الزمن , واثر عنه انه حدث بدمشق وحماة والقاهرة , وانتهى به المطاف إلى بعلبك . فأقام فيها وقتا قصيرا , تخرج على يده تلامذة كثيرون منهم تلميذه الموفق البعلبكي , وكان يكاتبه , ويظهر انه ترك في هذه المدينة القديمة صداقات وثيقة استمرت مدى حياته .
لم تطل إقامته فيها طويلا ً , فرجع إلى حماة واستقر فيها نهائيا ً ونسب إليها , ولقي الإقبال والتشجيع من ملوكها فنبه شأنه , وسار ذكره في الآفاق , فأمه طلبة العلم , وغدا كعبة القصاد , يدلفون إليه لينالوا منه الإجازة من مختلف الأقطار والأمصار , نذكر منهم : الدمياطي وأبا الحسين وابن الظاهري , وبدر الدين بن جماعة , وعز الدين بن القاضي الفاضل , وسبط ابن الجوزي وغيرهم الكثير . وكان بعضهم اكبر منه سنا ً , وقد عده الأقدمون من أذكياء بني ادم المعدودين .
كانت منزلته العلمية في صعد مستمر فأصبح يدعى شيخ شيوخ حماة , بجانب والده الذي كان قاضي قضاتها , فاحترمه ملوكها ونظروا إليه نظرة الإجلال والتقدير , فاعتمدوا عليه في توطيد أركان ملكهم واستشاروه في كثير من الأمور , لأنه كان مستقيما في سيرته .
مدح الشاعر الملك المنصور الأول يمدح كثيرة فهو وزيره وشاعره , ولما ولدت له زوجه ولده محمودا , لم يقتصر على مدحه , بل مدحها بقصيدة مستقلة , وذكر في عنوانها : ( وقال يمدح الملكة عصمة لدين مهنئا ً ) :
يا عصمة الدين والعلياء والجود لك الهناء بعز غير محدود
يا من غدت خير أملاك الزمان لقد ولدت ملك البرايا خير مولود
مات المنصور الأول واضطرب أمر الملك من بعده فاستولى الملك قلج ارسلان على زمام الحكم سنة 617 هـ بمساعدة خاله الملك المعظم صاحب دمشق . وهو ليس بصاحب الحق الشرعي .
ذلك أن أخاه المعهود إليه بالملك كان غائبا بمصر في زيارة خاله الملك الكامل , ولما عاد لتسلمه حذره وخوفه من التعرض لأخيه , لكن المظفر الثاني لم يكف عن المطالبة بحقه , فحاصره بحماة بمساعدة عمه , وأرسل حكامها خفية , واتفق معهم أن يفتحوا له باب النصر في وقت السحر فتم له ما أراد , ودخل المدينة مظفرا ً , وتربع على عرش الملك سنة 626 هـ كان الشاعر من أنصاره , وكان على رأس المهنئين , فمدحه بقصيدة جاء فيها بقوله :
إذا فاعل رام ارتفاعا بفعله ففعلك مرفوع لأنك فاعله
ابر تقي الدين جودا وسؤددا فتمت عطاياه وتمت فضائله
فما لبني أيوب ملك مساجل ولا في بني أيوب ملك يساجله
تؤكد هذه القصيدة أن الشاعر كان غير راض اطلاقا عن حكم الملك المعتصم حق أخيه , فعارضه أخيه فعارضه وناهضه حتى عاد الحق إلى نصابه , وكان هذا الحدث فاتحة عهد جديد في حياته , اختاره المظفر الثاني ليلي وزارته , ويسوس أمور الملك بما عرف عنه من رجاحة العقل , , وأصالة الرأي وطيب الأحدوثة , فمدحه بقصائد كثيرة , نذكر منها تهنئته بميلاد ولي عهده المنصور الثاني , وجاء فيها قوله
غدا الملك محروس الذرا والقواعد بأشرف مولود لأكرم والد
مليك تمنته الممالك حقبة فأوفى عليها مرغما كل حاسد
يتضح لنا مما تقدم أن شرف الدين كان مكين الصلة بالأسرة الأيوبية الحاكمة , وهو في الواقع القاعدة الراسخة التي أقيمت عليها دعائم هذا الحكم المستقر بحماة وهو في غيرها يعتوره الاضطراب والتقلب حتى زال نهائيا وبقي وحده في حماة خلال عصر سلاطين المماليك .
تتأكد هذه الحقيقة فتبدو جليلة حين موت الملك المظفر , وكان ولي عهده المنصور الثاني حدثا غرا ً , لم يتجاوز العاشرة من عمره , وتتجه الأنظار إلى إقامة أوصياء على الحكم , ويمر الأمر بسلام , ويكون الإجماع على الشاعر ليكون الرأس المدبر لهذا المجلس الذي أقامته أم المنصور غازية خاتون بنت الملك الكامل , وإما سائر أعضائه , فهم الوزير بهاء الدين بن التاج , والطواشي مرشد , وسيف الدين طفريل . تربع المنصور على عرش ملكه بعد بلوغه سن الرشد . وساد الأمن والاستقرار في ربوع المملكة , حتى إذا توفيت غازية خاتون برز الخلاف على أشده بين الملك وأخيه الأفضل , فعزم على أن ينتزح عن حماة ويغادر أخاه , بيد أن شرف الدين قد تدارك بحكمته هذا الخلاف فاجتمع بهما , وأزال ما كان عالقا في خاطريهما من سوء , وعادت الأمور على خير ما كانت , وساد ملك حماة السلام والوئام بين الأخوين .
كان المنصور يحب وزيره الشاعر , وكانت تربطه به صلة من الصداقة , فقد كتب إليه مرة يعاتبه فأجابه قائلا ً :
برق سرى من غوادي جلق فغدا لنوره مثل قدح النار في كبدي
اهدي إلي عتابا من مليك هدى ارق من والد يحنو على ولد
أسهم شرف الدين بما له من مكانة في توطيد الصلات بين ملوك مصر والشام على سواء . إذ كان ابعد نظر من هؤلاء الذين كانوا يثيرون الخصومات , ويرون ضرورة استقلال كل ملك ببلده , ويود لو عادت الوحدة السياسية كما كانت في زمن صلاح الدين وأخيه العادل سيف الدين , ولهذا السبب كنا نراه يتردد على دمشق والقاهرة في مهمات ملكه المنصور .
يؤكد ذلك انه سافر إلى القاهرة صحبة الملك الناصر الثاني سنة 647 هـ واغلب الظن أن سفره كان بسب الخطر الداهم بعد استفحال أمر التتار القادمين من الشرق , والذين باتوا يهددون معالم الحضارة الإسلامية في بلاد الشام , بعد أن طرقوا أبواب بغداد , واكتسحت جيوش هولاكو الغازية ارض الشام بعد عام واحد من سقوط بغداد .
فر الملك المنصور إلى مصر بحريمه وأولاده , وطلب نجدة السلطان قطز , وخرج على الفور معه , إذ بات الخطر يهدد مصر نفسها , وهكذا التقى الجمعان , وولى التتار الأدبار ولاذوا بأذيال الفرار وهرب معهم خسر وشاه , عامل هولاكو على حماة , وعاد المنصور إلى ملكه , فاقبل عليه شاعره شرف الدين مهنئا ً ومادحا ً :
رعت العدا فضمنت ثل عروشها ولقيتها فأخذت فل جيوشها
نازلت أملاك التتار فأنزلت عن فحلها قسرا وعن اكديشها
فغدا لسيفك في رقاب كماتها حصد المناجل في يبيس حشيشها
وذكر هذه الموقعة الهامة الفاصلة في التاريخ الإسلامي , في مدحه ثانية . جاء فيها قوله :
محمد خير ماجد يقظ يرضي هداه محمد القرشي
صادم جيش التتار مقتحما فأجشأت نفسه ولم تجش
لما طغى كبشه تعمده فصير الرأس منه في الكرش
فاسلموا الشام بعد ما طمعوا في ملك ارض الحجاز والحبش
كما كان يترسل إلى الخليفة في بغداد وغيره من ملوك الأقاليم وكان مؤتمنا ومحبوبا لدى الجميع لنبل أخلاقه وسمو مقصده , وكانت له صداقات شخصية تربطه بالكثير ممن عرفهم من ملوك عصره , نخص بالذكر منهم الملك الناصر والملك الأمجد وغيرهما .
- شعره ومذهبه أغراض شعره
1- مدح وأحداث
في ديوان الشاعر قصائد نبوية متعددة مدح بها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام , وجرى فيها على سنة من سبقه من الشعراء , وقد استهل الشاعر قصيدته المذكورة بقوله :
يا ناظم الدر الثمين ومهدي النظم الرصين لفاضل أو مفضل
جانب مخادعة الملوك عن اللها فالمال يذهب والخصاصة تنجلي
كانت هذه النظرة المثالية في نفس الشاعر يوم كان في ريق صباه وريعان شبابه , لكنه لم يصرف مديحه في مخادعة الملوك كما كان ينصح غيره , فلقد مدح بعضهم وخص بشعره منهم من رآه أهلا له , لا طمعا في جاهه , ولا سعيا وراء زخارف الدنيا , وهو الذي كانت الملوك تراسله وتخطب وده , نذكر منهم الملك الناصر الذي كان يكاتبه ويضمن كتابه شعرا يمدحه به , ويخطه بيده فقط دون سائر الرسالة , وقد حدث أن احتجب الناصر مرة لأمر يهمه , فعاتبه بقوله :
يا ملكا تخضع الملوك له إن غاب دارها وإن حضرا
قد حسدت عيني فؤادي على قربك حتى أطالت السهرا
ولست أرضى لعدل مجدك أن يعطي نضارا ويمنع النظرا .
توجد في الديوان مدح كثيرة , نذكر منها هذه المدحة التي تفنن الشاعر فيها فذكر نعوت المدح المعروفة من جود وحلم وبأس :
بك افتخر الأملاك من آل أيوب وعندك نالوا في العلا كل مطلوب
كفيتهم الأحداث طفلا ويافعا ً تبيد عدوا أو تجود بموهوب
فكم ملك جبار سلبت بجحفل يوسع بالإقدام ضنك الأساليب
قصر شرف الدين جل مدحه على الملوك الأيوبيين الذين عاصرهم فهم في نظره أعلى ملوك الأرض مقدارا وقد أشار إلى هذا المعنى في مدح الملك الأمجد :
أعلى ملوك بني أيوب منزلة وهم اجل ملوك الأرض مقدارا
شهم الجنان إذا احمر القنا دلفوا يدعون منه على الأعداء سوارا
كان الشاعر في معظم الأحيان ينظم في المناسبات الخاصة , كالتهنئة بدخول السنة الهجرية , أو بحلول شهر رجب أو رمضان , أو احد العيدين , أو بالعافية الشفاء من مرض , ا وبمولود أو بالعودة من غزاة .
وكان أثيرا لدى الملوك الأيوبيين الذين مدحهم . حتى انه كان ينشد الملك المظفر بعض مدحه , وهما راكبا في الموكب الملكي .
ونراه في مدحه يصف حياتهم في حربهم وسلمهم , نذكر من ذلك القصيدة التي مدح بها الملك المنصور , ووصف ما يعانيه من الصيد رياضة ولهوا :
أكملت كل المناقب يا خير ماش وراكب
يا من يخاف وترجى منه السطا والرغائب
حتى قهرت الأعادي بشامنا غير هائب
وارتحت للصيد لهوا إذ لم تجد من تحارب
كما كان الشاعر يضمن مدحه وصف الأحداث الكبرى فينوه بذكر الانتصارات المسلمين على التتار في الوقائع الهامة التي حدثت في هذا العصر . نذكر من ذلك مثلا قصيدته التي مدح بها الملك المنصور الثاني . وقد أشار فيها إلى معركة عين جالوت المشهورة , وجاء فيها قوله :
لك العلا أعيت المبارينا تقرع منها الأبكار والعونا
يا ملكا لم تزل عزائمه تكف عنه الأذى وتكفينا
((بعين جالوت)) خضت بجروغى يخال فلكا بالأسد مشحونا
وما نجا منهم سوى خبر اسكن قازان خبره الصينا
ننتهي مما تقدم معنا من مدحه لنقول : أنها كانت تمثل الحياة السياسية في هذا العصر , وكان كما يظهر يؤيد سياسة ملوكه , ويقرهم على ما يراه انه الحق ففي إحدى مدحه المظفرية ذكر نصرته للملك الصالح , وفي مدحه أمجدية هنأ الملك الأمجد بقدومه عندما عاد الملك المعظم وشفي , يضاف إلى ذلك أن مدحه تضمنت كما رأينا وصف الأحداث الكبرى , وخاصة منها الحروب المريرة ضد التتار , ولا نعرف بين شعراء العصر من عبر عنها مثله .
كما لاحظنا في بعض مدحه انه كان يعرض عن ذكر النسيب وفي بعضها الآخر كان يطيل نفسه فيها .
نسيب وغزل
أعجب الأولون بالرقة المتناهية في شعره , وخاصة منه مطالع النسيب وقصائد الغزل ومقطعاته الغنائية , فهو ينهج في معانيه بشكل عام نهج غيره , بيد انه لا يقتصر على اقتباس المعاني الشائعة منها , وإنما كان يبتكر ويجدد في بعضها الآخر , وخاصة منها ما يتعلق بتصنيع التورية مذهب العصر في الشام ومصر على السواء .
تحدث عن خال وجنة الحبيب , وعقارب الأصداغ وليل الشعر كما وصف وله العاشق وبكاءه , وصدود الحبيب وأعراضه وتجني الرقيب على المحب ولوم العاذل والكاشح والرقيب . لاحظ ابن حجة هذه الطريقة التي تفرد بها في شعر الغزل والنسيب فأعجب به لسلوكه هذه الطريقة الغرامية التي اعتبرها جريا على سنة البلاغين في التنوعين مظهرا جديدا مبتكرا في البديع وقد أشار إليها في معرض حديثه عن الانسجام .
اعتنق الشاعر في طريقته الغرامية غزلها ونسيبها مذهب الانسجام في معظم شعره , وتجلت عبقريته في هيكل القصيدة العام , وفي أبياتها التي تكاد تذوب رقة وتنطبق بخفة الوزن وحلاوة الجرس الموسيقي فقد كان يحاول دوما أن يختار لها البحر المجزوء والقافية الراقصة التي كانت لا تنسجم مع ما عرف به من سمت ووقار في حياته الرسمية .
يظهر انه كان يشعر بذنبه في استرساله متغزلا , لكن شيطان شعره يطغى عليه , ويندم حين لا ينفع الندم , وحين يجد أمامه قصيدة جميلة يعز عليه أن قذف بها في زوايا الإهمال , ويعزيه الشفاعة وخلاصه في يوم بعثه , كما في القصيدة الغزلية التي نظمها على وزن القصيدة للقاضي الفاضل .
لعيني كل يوم منه عبره تصيرني لأهل العشق عبره
فعسجد جفنها لا نقص فيه وكم جهزت منه جيش عسره
إذا غفل الوشاة اسلت دمعي فيغدو مرسلا في وقت فتره
علامة شقوتي في الحب إني ثقلت عليك لا عن طول عشره
وجفنك أكحل من غير كحل وخدك احمر من غير حمره
وصبري فيك ليس له وجود ووجدي منك لا أحصيه
جمعت هذه القصيدة الغزلية بين سحر المعاني وجمال الأسلوب : فأما في المعاني فقد رأيناه يتحدث عن العبرات والوصل والهجران , وصور محاسن الحبيب , وخلص إلى التحدث عن ضلاله في هواه , ولزومه باب خمار ثناياه ورجائه في الخلاص يوم النشور , وإما في أسلوبه فقد اخذ من البديع محاسنه , وجمع فيه من الثورية والانسجام أوفر نصيب , وطبع كل ذلك بطابعه الخاص , ورمز في أسلوب التورية إلى جيش العسرة والمرسل في غير فترة وباب خمار الثنايا , وصابون المعرة . . .
وما دام قد أضله شيطان هواه , وطرق باب الخمار , فلنستمع إليه يحدثنا عن جارته ربة الخالين التي حوت حسن البداوة وجمال الحضارة , وذلك في مطلع نسيب مدحه مظفرية انشده إياها , وهما راكبان في الموكب الملكي :
لنا من ربة الخالين جاره تواصل تارة وتصد تارة
تؤانسني وتنفر من قريب وتعرض ثم تقبل في الحراره
وتلعقني بما يحي سلوي ولكن ليس في جوفي مراره
ومالي في الغرام لها شبيه وليس لها نظير في النضاره
وفي الوصفين من كحل وكحل حوت حسن البداوة والحضاره
وفي خلخالها خرس ٌ ولكن إذا أومأت تفهم بالاشاره
نرى في المدحة المذكورة هذا المطلع الغزلي الرقيق , فهو يحاول أن ينسج خيوط قصته مع جارته الحسناء , وقل أن يجاريه فيها الشعراء الغزل المشهورون , إذ نلاحظ انه ينحو فيه منحى ماديا محضا بأسلوبه الرشيق الشيق وما فيه من انسجام بديعي وتورية جميلة .
سروري بساقيه جارية ووجدي بجارية ساقيه
أهز بهاتيك عطف القريض ليثنى على هذه الثانية
سبتني كاسية بالجمال فروحي عندي لها عارية
على الجسم حاكمة بالضنى وفي القلب آمرة ناهية
تراني إذا لم أزر بيتها كأني بيت بلا قافية
ونلاحظ أن الشاعر كان يعاني تجربة حب حقيقية لجاريته مارية التي كان يحبها كثيرا ً.
استخدم الشاعر في أغزاله الأبحر القصيرة أو المجزوءة التي تشير إلى القصيدة جرسا ناعما وكان يختار لها القوافي المستساغة التي تولد في النفس النشوة والارتياح , وتهزها هزة الثمل والطرب , ومن خلال الأوزان والقوافي يسير الشاعر بخطاه الحثيثة نحو الانسجام المنشود في شعره ويبلغ ذروة نضجه الفني المشفوع بالذاتية والطبع السليم كما في هذه القصيدة الغنائية ذات الوزن الراقص :
رفقا بروحي فهي لك وعلى السخي بما ملك
أفضل بحق من اصطفاك على الملاح وفضلك
تنبض هذه الغزلية الغنائية بالعاطفة الصادقة والشعور الفياض وتتسم بالرقة المتناهية التي عرف بها شعره , ونلمح فيها مظاهر الانسجام بين اللفظ والمعنى من ناحية , والوزن والقافية من جهة أخرى حتى ليشعر الإنسان وهو يتلوها بإيقاع الجرس الشعري العذب ينساب من خلال حروفها وكلماتها وأبياتها . وهي بالتالي تعبر عن نفسية الشاعر الحقيقية التي تنبض من خلالها , وهي تختلف عن نفسية شرف الدين الوزير الكبير المعروف في كل الأوساط بالسمت والوقار , مهما احتجبت النفس الإنسانية فلا بد لها حين تجد أمامها متنفسا أن تتعرى على حقيقتها في حمى الأهواء وحينئذ لا يحجبها عن العاطفة الحقيقية منصب أو سلطان أو زهد أو ورع كما في هذه المقطوعة التي يقول فيها :
أبعدته وهو القريب وجفوته وهو الحبيب
فغدا غريبا وانفردت بشوقه فانا الغريب
يا من به دائي يطب ومن به عيشي يطيب
خذ ما تشاء من السرور فليس لي فيه نصيب
يؤكد ما نذهب إليه من انه كان يحضر المجالس الغناء الملكية , وقد غني ذات مرة بين يديه لحن فأعجبه فنظم قصيدة على وزنه , مطلعها قوله :
لا بد لي منهم وفوا أو لم يوفوا أو بخلوا بالوصل أو تعطفوا
يظهر أن شعره كان ينشد في حلقات المتصوفة , ويغنى في مجالس الطرب , وكان يكرر في شعره بعض الألفاظ التي يتخذها المغنون تكأة لازمة لهم في أغنياتهم , نذكر من ذلك قوله في قصيدة , وقد ضمن البيت المجزوء الأخير لفظه الليل أربع مرات , يبدأ ليلته الأولى بابتداء غايته الزمانية في ( من ) الجارة , ويطيب سمره ولهوه , فلا تأخذه سنة ولا نوم , ويصل الليلة بالليلة بـ ( إلى ) الجارة فلا يصحو إلا بعد انقضاء رابعة لياليه الأنصارية . . .
غرامي فيك لا يحصى بميزان ولا كيل
وإما دمع أجفاني فلا تسأل عن السيل
وما انس فلا أنسى مراحي ساحبا ذيلي
وإجلابي على اللذات بالرجل والخيل
من الليل إلى الليل إلى الليل إلى الليل
ولا بأس أن نقف عند قوله في قصيدة له تتميز بالرقة , ويصف فيها أغزاله التي تغنيه عن الحان الدف والمزمار ولعل في ذكرهما ما يؤكد لنا رأينا السابق في مجالس الطرب والغناء في هذا العصر وعلاقة الشاعر بذلك :
رعاك الله يا ألفي وإن بالغت في عسفي
أما تذكر إذ كفك يوم الجزع في كفي
وما انس فلا أنسى زمان اللهو والقصف
وإذ عطفك مختال وميال على عطفي
يزداد الشاعر رقة في بعض مقطوعاته الغزلية حتى يصل بها إلى درجة من اللين تغدو اقرب ما تكون إلى الأسلوب العامي :
لا وفقت بنت الحميصية دانية الدار ومقصيه
صوفية المذهب لكنها ناعمة الجسم حريرية
آنس الشاعر في أغزاله هذه الرقة المتناهية التي طبع عليها والتي تغنيه عن المزمار والدف .
الزهديات
في ديوان الشاعر مقطوعات وأراجيز وقصائد قالها في الزهذ وهو الغرض الحقيقي الذي ينسجم مع لقبه شيخ الشيوخ , ولكنه لم يكن الأصل في شعره وإنما كان استغفارا وإنابة لما قاله في حياته من أغزال رقيقة حتى أن أباه استغفر له ربه حينما سمع غزلا له , يورى فيه بأسماء بعض سور القرآن , فختمه ببيت فيه التشفع له .
لا شك أن الشاعر في زهدياته كان يعاني صراعا نفسيا عميقا , لأنه لم يستطع أن يكبح جماح نفسه التي تصبو للحب والجمال , فتغزل بعد أن تجاوز الخمسين بفتيات الخامسة عشرة :
جاوزت خمسين ولي صبوة إلى بنات العشر والخمس
تقول نفسي كلما لمتها ما اقرب اليوم من الأمس
كما انه تطرق لبعض المعاني التي خرجت عن المألوف في الاغزال , فمن حقه إذا أن يقول الشعر في الزهد , ومن حقه إذن أن يتشفع لنفسه بعد أن تشفع له أبوه من قبل , فيقول متزهدا ً :
وارغب إلى الله تظفر من بره بلطائف
وازهد بقلبك فيما عهدتك له ألف
ولا تموتن قنوطا فللإله عواطف
إن رجاءه كبير في العفو والغفران , فإن للإله عواطف شاملة , ولذلك لم يقنط من الرحمة لارتكابه ذنوبا كثيرة لم يحصها وصف واصف . فهو يطلب منا أن نبكي دما تكفيرا , ثم نتبع البكاء زاهدين في كل ما ألفناه وأحببناه , وحينئذ يمكننا أن نظفر من ربنا بلطائف بره .
والزهد عند الشاعر ليس مقصورا على ما ذكره في القصيدة السابقة وإنما يعتمد على قطع الإنسان كل علاقة له بالحياة الدنيا والإعراض عن مغرياتها وزخارفها , ذلك لأنها فاسدة مفسدة أضلت بنيها ومصيرها الفناء والموت :
لا تشغلن عن الترحل بالسكون إلى المناخ
وترح من عرض الدنا بالقرض والماء النقاخ
ثب عن زخارفها وصن عقد الثبات عن انفساخ
والموت وصف جامع بين القشاعم والفراخ
وجدير بالذكر هنا أن قصائد قافية الخاء كلها في باب الزهديات يضاف إلى ذلك القصائد والمقطوعات الأخرى الموجودة في الديوان , فهل يعني أن هذا الغرض لا يحتاج كالغزل إلى الرقة في الروي والقافية , وحرف الخاء ليس من الروي المستساغ ولذلك ملأه الشاعر بقصائد زهدية تنسجم في التقشف مع هذا الروي ذي المركب الخشن والموسيقى الثقيلة .
يقترن الغزل عنده بالزهد أحيانا , وقد عرفنا في زهد أبي العتاهية الثورة على كل غزل وعرفنا في زهد أبي العلاء فلسفة الحياة الإنسانية , ولكننا لا نعرف بين الشعراء مثله من جمع الغزل والزهد في مقطوعة واحدة , فمن ذلك قوله في جارية له اسمها مارية :
أوقعني في قيد اسر الهوى جارية أوصافها جامعه
ثالثة البدرين في حسنها مع أنها في نسكها رابعه
كم جننت قلبي في حبها فليتها كانت له تابعه
يا رب غفرا عن ذنوبي فلي نفس على أهوائها نازعة
إن ضيق الدهر خناقي فما تضيق بي رحمتك الواسعة
ولعلنا لاحظنا مذهب الشاعر في التورية في رابعة العدوية , المتصوفة الناسكة واختيار اسم هذه المتصوفة والتورية بها ينسجم مع ختام القصيدة في نداء الله ليغفر له الذنوب , ولكنه لا ييأس من روح الله , وإن ضيق الدهر بخناقه , فرحمته أبدا واسعة يستجيب فيها دعوة الداعي إذا دعاه .
2 – مذهبه الفني
استخدم الشاعر في طرائق تعبيره كثيرا من الأساليب البلاغية المستجدة في هذا العصر , بيد أنه تفرد دون غيره بسلوك مذهب بلاغي معين في تصنيعه البديعي , فأبدع فيه كل الإبداع . وقد أعجب الأدباء المعاصرون بهذا الاتجاه الجديد الذي يسير جنبا إلى جنب مع الاتجاه الذي بدت تباشيره قبيل ذلك في مصر على يد القاضي الفاضل وجماعته من بعده , فنهجوا نهجه , واقتدوا به , وتداولوا معانيه , ولا نبالغ إن قلنا أن معظم شعراء النصف الثاني من القرن السابع الهجري كانوا من تلامذته , فاستمدوا منه كثيرا ً من معانيهم الشعرية , فكانوا عالة عليه في ذلك كله .
نوه الصفدي بعبقرية الأنصاري وأعجب بمذهبه الشعري , وأشار إلى أهميته كأكبر شاعر عرفته بلاد الشام , كما اجمع على ذلك معاصروه , ومما قاله : (( لا اعرف في شعراء الشام بعد الخمسمائة وقبلها من نظم أحسن من شرف الدين , ولا أجزل , ولا أفصح , ولا اصنع ولا أسرى ولا أكثر وما رأيت له الأشياء إلا وعلقته , لما فيه من النكت والتورية الفائقة , والقوافي المتقنة , والتركيب العذب , واللفظ الفصيح , والمعنى البليغ )) .
يلاحظ أن الشاعر أكثر من تصنع التورية في شعره , وهي لباب مذهبه الفني , فهو لا يكتفي بإيرادها مرة واحدة , وإنما يكثر من ذكرها ما وسع إلى ذلك سبيلا , فهو رائد المذهب الرمزي في أدبنا العربي خلال هذا العصر في بلاد الشام , نذكر من ذلك التورية في رابعة العدوية :
أوقعني في قيد أسرى الهوى جارية أوصافها جامعه
ثالثة البدرين في حسنها مع أنها في نسكها رابعة
وكنا اشرنا بالتفصيل إلى ما في شعره من توريات , ونكتفي منها بهذا القدر , فهي منتشرة فيه كل الانتشار , وقد عرف بين الأقدمين بهذه الطريقة المميزة , ويلاحظ من طرف آخر أن الشاعر حاول أن يوسع مدى التصنع البديعي في باب التورية , فلا يقتصر منها على ما عرفه البلاغيون وإنما كان يحاول أن يوري بغير الألفاظ , وذلك عن طريق عبثه اللفظي , أما بالكلمات أو الحروف , والشواهد على ذلك كثيرة . نذكر منها قوله وقد انشد الملك المنصور من شعر المتنبي يمدح أبا شجاع فاتكا :
تملك الحمد حتى ما المفتخر في الحمد حاء ولا ميم ولا دال
فعقب ذلك بقوله :
يا أيها الملك المنصور يا ملكا أوصافه كاملات وهي أصناف
رفقت بالخلق حتى ما الذي ورع في الرفق راء ولا فاء ولا قاف
وفزت بالملك حتى ما الذي شرف في الملك ميم ولا لام ولا كاف
وكم كتائب رعت المارقين بها فيهن من ألفات الخط آلاف
انتشرت هذه الصفة كثيرا في شعره , وغدت مظهرا مميزا ً من مذهبه الفني , نذكر من ذلك قوله يعبث بلفظة ( شرخ ) :
وقد خاني شرخ الشباب وراعني مشيب وحالي منه شرخ بلا خاء .
وقوله يعبث باسم ممدوحه ( يوسف ) الملك الناصر :
يسمى فيعزى كل مجد وسؤدد إلى يائه والواو والسين والفاء
وقوله يعبث بلفظتي ( الحب ) و ( الحس ) :
فلو أصبحت ذا حاء وسين لما عنفت في حاء وباء
كما نلاحظ بالإضافة إلى ذلك استخدامه التورية بالاصطلاحات النحوية , نذكر من ذلك قوله :
ومعرب اللفظ لي من نحوه أبدا ً حذف وصرف وإعلال وتنكير
ولحظه ساكن والقد منتصب والقرط مرتفع والمرط مجرور
وقوله :
لا تسألوا صبكم عن حبه فله من الإضافة ما يغني عن النسيب
وراقبوا منه حالا غير حائلة كما عهدتم وقلبا غير منقلبا
كثرت المصطلحات النحوية وغيرها كثرة ظاهرة فقد استخدم معانيها , لا كما وضعت لها أصلا , وإنما استخدمها بحسب مفهومه الخاص كمظهر من الرمز والإيحاء , فمن ذلك قوله :
مديح تخيرت القوافي محليا به رفعها والنصب والجزم والجرا
وقوله :
رفعت ذوي الإعراب من بعد خفضهم
فأثنى عليك الرفع والنصب والجر
وقوله :
إذا فاعل رام ارتفاعا بفعله ففعلك مرفوع بأنك فاعله
ولم يكتف بذلك , بل كان يحاول استخدام بعض المصطلحات العروضية أو البديعية منها قوله :
وبحر طويل الباع منسرح الندى بسيط المعالي وافر الفضل كامله
وقوله :
ووشت يد الأنواء برد رياضة بغرائب التوشيع والتفويف
يضاف إلى ما تقدم ذكره وجود الجرس الموسيقي الشعري في قصائده وقد رأينا أن الشاعر قد صرح برقة أغزاله , ومصدر هذه الرقة في نظرنا حسن اختياره الألفاظ الجميلة المعبرة , والقوافي ذوات الروي الموحى , والأوزان القصيرة أو المجزوءة التي تلاءم أغراضه ومعانيه .
ذلك كله مع ما لاحظناه من تصنع فني بديعي , يؤلف الانسجام في مذهبه الفني , وقد أشار إلى هذه الصفة من خلال قوله :
واسمع بديع نظيم لا يساجله جزل من المدح في سهل من الغزل
يتضح مما أسلفنا أن الشرف الأنصاري كان رائد الشعراء الأول في مذهب التورية والانسجام , وقد أشار ابن حجة في خزانته إلى الفرقتين اللتين اعتنقا هذا المذهب في مصر والشام على السواء .
13- أبو الحسين الجزار :
ونبدأ الحديث بالجزار , وهو جمال الدين يحيى بن عبد العظيم , ولد سنة 601 هـ إبان الدولة الأيوبية بالفسطاط , وكان والده يعمل بالجزارة . قال ابن سعيد : (( كان أبوه وأقاربه جزارين بالفسطاط دكاكينهم بها إلى الآن , قد عاينتها . وأبصرته معهم بها , وكان في أول مرة قصابا مثل أبيه وقومه , فحام على الأدب مدة , وأكثر حوله حومه , فرفعت له في القريض راية بها جملة من أهل عصره )) .
وتعلم ببلده الفسطاط والتقى بها وفي القاهرة بجماعة من العلماء والأدباء حتى توطدت بينه وبينهم الصلات .
أمثال جمال الدين بن مطروح الصاحب والوزير الشاعر المشهور . وزكي الدين عبد العظيم بن أبي الإصبع الشاعر الأديب . وكمال الدين بن العديم الكاتب العالم الأديب القفطي الأصل الحلبي الدار والمقام . قال الصفدي وكان ابن العديم كلما جاء القاهرة لزمه ابن الجزار وقد اختار له مقطوعات من ديوان شعره سماه (( تقطيف الجزار )) .
وقامت بينه وجماعة من شعراء القاهرة . وسائر الشعراء المصريين أمثال السراج الوراق والبوصيري والنصير الحمامي صداقات . وكان كثيرا ً ما يلقى ابن دانيال , وابن النقيب وغيرهما ويتسامرون في مجالس يتدارسون الشعر ويناشدونه .
وصحبه , واجتمع به جماعة من مشاهير علماء العصر كأثير الدين أبي حيان المغربي, وابن سعيد وابن خلكان , وابن النحاس . ورووا عنه شعره .
واحترف الجزار الشعر وتكسب به حينا ً , وتجول في بعض البلاد المصرية فأكثر الذهاب إلى الإسكندرية للقاء بعض ممدوحيه من القضاة والأمراء وكبار رجال الدولة , قال ابن كثير : (( مدح الملوك والأمراء والوزراء )) .
وكان بين من مدحهم وأكثر فيهم قاضي القضاة ابن بنت الأعز . قال السبكي انه كان يصحبه فأراد بعضهم أن يكيد له عنده ولكن القاضي كان يثق فيه ففوت على الساعي كيده . ومدح الصاحب زين الدين ابن الزبير , والصاحب بهاء الدين بن حنا , وكان وزيرا وشاعرا ً وقاضي القضاة نصر الله بن بصاقة الوزير , والأمير علي بن سيف الدين قليج , والأمير حسام الدين بن يغمور ( توفى سنة 663 هـ ) . وصدر الدين القرميسي ناظر ثغر الإسكندرية .
ومدح من الملوك الملك العادل بن الكامل الأيوبي سلطان مصر .
ونبه في قول الشعر منذ شبابه الباكر . روى له ابن سعيد شعرا ً وهو في العشرين في مداح ابن بصاقة , وشعرا آخر وهو في النيف والعشرين في مدح القرميسي في الإسكندرية وغيره من الأعيان .
ويبدو أن نفسه ملت الاستجداء بالشعر فعانى ألما ً . ومر بأزمة عارمة عدلت به عن التكسب بالشعر , فعاد إلى الجزارة حرفة آبائه وأجداده , فلما عاد عاتبه احد أصدقائه . واسمه شرف الدين فقال له :
لا تلمني يا سيدي شرف الدين إذا ما رأيتني قصابا
كيف لا اشكر الجزارة ما عشت حفاظا وارفض الادابا
وبها أضحت الكلاب ترجيني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وكان أنسانا يجمع بين المروءة والكرم وحسن العشرة ونقاء السيرة إلى ميل مطبوع للدعابة . وصفة ابن سعيد فقال : (( من أحسن الناس شكلا ً وأظرفهم , وأحلاهم بيانا , وألطفهم , وأبدعهم مطايبة , وأنظفهم , ذو بزة تصلح للرؤساء السراة , ومروءة لا توجد إلا عند السادة الأباة , وسلني عن ذلك فاني به خبير . مقر به حيثما قلقت ركابي وانتهى بي المسير . لما قدمت الديار المصرية من بلاد افريقية لقيت فيها ما يلقاه الغريب في البلاد التي يقدم عليها ولم أجد من فيه من للمروءة نصيب ولا للآداب حظ حتى لقيته , فأنشدت :
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
إذ ألفيت فيه من التعصب والتانيس والبر ما صيرني كأني في بلدي بين أهلي . )) .
وعرف بالكرم حتى الإسراف , قال احد المؤرخين : (( كان كثير التبذير لا تكاد خلته تنسد , وكان مسرفا على نفسه سامحه الله )) .
ومدح الكرم والكرماء فقال :
لقد رضي الرحمن عن كل منفق فما بالنا نتقي رضا الله بالسخط
فعيب على الإنسان يعطيه ربه بغير حساب وهو يحسب ما يعطي
وقال :
إذا كان لي مال علام أصونه وما ساد في الدنيا من البخل دينه
ومن كان يوما ذا يسار فانه خليق لعمري أن تجود يمينه
ووصفته بعض المراجع بالخلاعة والمجون .
وليس غريبا ً أن ينسب للشاعر فعل ما يقول زورا ً , فقديما قالوا عن عمر ابن أبي ربيعة انه لم يفعل كل ما رواه شعره . وكان عمر بن الوردي الشاعر معاصرا للجزار وان جاء بعده بسنوات وقال كثيرا في الغزل بالغلمان , ولكنه اعتذر عنه بأنه كان طابع العصر , ثم تجنبه بعد ذلك احترازا وتعففا ً .
وبلغ الجزار ولما لم يبلغ الأربعين مرتبة رفيعة في الشعر . فقد كان شاعر الفسطاط في عصره وكان معاصره زكي الدين بن الإصبع شاعر القاهرة . ( توفي سنة 654 هـ )
وكان يذهب في شعره مذهب البهاء زهير في السهولة والميل إلى النمط الشعبي , والقربى من عامة الناس , يقول ابن سعيد ( وطريقه من أسهل الطرق التي يميل إليها العامة , ولا ينكرها الخاصة , لقرب مأخذها وحسن منزعها )) .
وكان كثيرا ً ما يصحب أصدقاءه من الشعراء والأدباء في نزهات بين الرياض والمتنزهات على ضفاف النيل في الفسطاط والقاهرة والجيزة , أو يذهبون إلى ثغر الإسكندرية , وشهد ابن سعيد بعضا ً من تلك النزهات .
وكانت له مع سراج الدين الوراق نوادر ومطارحات شعرية كثيرة ومن نوادره معه ما حكاه الغزولي . قال (( اتفق أن أبا الحسين الجزار قام مرة إلى بيت الخلاء فناوله السراج الوراق شمعة فقال الجزار : (( ما عادتي اقضي الشغل إلا على السراج )) .
ومن طرائفه انه بات ليلة في رمضان عند الصاحب بهاء الدين بن حنا . فصلى عنده التراويح وقرأ الأمام في تلك الليلة سورة الأنعام في ركعة واحدة . فقال أبو الحسين :
مالي على الأنعام من قدرة لا سيما في ركعة واحدة
فلا تسوموني حضورا سوى في ليلة الأنفال والمائدة
وتذكرنا هذه النوادر بنوادر عصبة أخرى من شعراء العباسيين في القرن الثاني الهجري كان نجمها أبو نواس والحسين بن الضحاك الخليع .
وربما تأثر الجزار وجماعته بتلك العصبة وحاولوا تقليدها شعرا ً وسلوكا ً .
والى ما جمع من دعابة أبي نواس . فهو ساخر سخرية ابن الرومي , مغرم مثله بالصور الهزلية وصفات المطاعم والمشارب . وله أبيات في الكنافة تذكر بأبيات ابن الرومي في القطائف والزلابية يقول الجزار :
سقى الله أكناف الكنافة بالقطر وجاد عليها سكر دائم الدر
ويقول في الخبز :
قسما بلوح الخبز عند خروجه من فرنه , وله الغداة تجار
ورغائف منه تروقك وهي في سجف التفال كأنها اقمار
من كل مصقول السوالف احمر الخدين للشونير فيه عذار
وكأن باطنه بكفك درهم وكأن ظاهر لونه دينار
كالفضة البيضاء لكن يغتدى ذهبا إذا قويت عليه النار
والبيت الأخير يشير إلى قوله ابن الرومي في قالي الزلابية :
وقال في رمضان يذكر الحلوى التي تعمل فيه ويستهدي احد أمراء العصر بعضها :
ما رأت عيني الكنافة إلا عند بياعها على الدكان
ولعمري ما عانيت مقلي قطرا سوى دمعها من الحرمان
تالله ما لثم المراشف كلا ولا ضم المعاطف
بألذ وقعا ً من حشا ي من الكنافة والقطائف
ويستهدي شرف الدين الفائزي بعضا منها فيقول :
أيا شرف الدين الذي فيض جوده براحته قد اخجل الغيث والبحرا
لئن أمحلت ارض الكنافة أنني لأرجو لها من سحب راحتك القطرا
ويصف حاله بصورة تذكر كما اشرنا بشعر الشمقمق وابن الرومي والحمدوني يقول :
لي من الشمس خلعة صفراء لا أبالي إذا أتاني الشتاء
ومن الزمهرير إن حدث الغيم ثيابي وطيلساني الهواء
بيتي الأرض والفضاء به سور مدار وسقف بيتي السماء
لو تراني في الشمس والبرد قد انحل جسمي لقلت إني هباء
لي من الليل والنهار على الطول عزاء لا ينقضي وهناء
فكأن الإصباح عندي لما فيه حبيب رقيبه الإمساء
وقال وقد مات حماره :
مات حمار الأديب قلت لهم مضى وقد فات منه ما فاتا
من مات في عزه استراح ومن خلف مثل الأديب ما ماتا
ورآه بعض أصحابه ماشيا ً بعد موت الحمار فداعبه , فرد عليه قائلا ً :
كم من جهول رآني أمشى لأطلب رزقا
وقال لي صرت تمشي وكل ماش ملقى
فقلت مات حماري تعيش أنت وتبقى ! !
وداعبه صديقه البوصيري فقال :
فلا بأس ايهذا الأديب فللموت ما يولد
إذ أنت عشت لنا بعده كفى وودك ما يفقد
ولم يخلص من مزاحه احد . حتى زوجته وأهله المقربون , يقول في زوجه الولود :
وله زوجة متى نظرته حبلت ليتها عجوز عقيم
ظل في أسرها لأجل كتاب معلم يقتضي به المعلوم
فهو يخشى الطلاق نقدا وإن دار وراها يصده التحريم
ويستخدم تعبير ( دار ) وهو تعبير شعبي يستعمل الآن لمن يجري وراء النساء .
وقال في زوجة أبيه وهي طرشاء :
تزوج الشيخ أبي شيخة ليس لها عقل ولا ذهن
لو برزت صورتها في الدجى ما جرؤت تنظرها الجن
أغراضه الشعرية :
وله في المديح قصائد مطولة تجري على النسق التقليدي ,تبدأ بالنسيب ثم يعرض صفات الممدوح . وفيها يكيل الثناء , دون مبالغة تصدم الذوق , قال في صدر الدين عبد الرحمن القرميسيني , وكان ناظرا ً لثغر الإسكندرية :
سرى في دجى من شعره فحكى البدار وأبدى لنا من ثغره الأنجم الزهرا
وقد تلاعب في هذا المطلع بما يوصف به اللحظ من السكر والسحر . فهو مسكر كالخمر ساحر يأخذ بالمجامع والألباب . ويولد في هذه المعنى ويمط , على طريقة المولدين والبديعيين الذين شق لهم ابن الرومي من قبل طريق التوليد للمعاني والألفاظ .
ونراه في مطلع آخر يتلاعب باللفظ بين التجنيس والتورية فيقول :
بان اصطباري والكرى مذ بان بدر دجى يحمله غصن بان
شاهده القلب وإن كان قد غيب واستوحش منه العيان
ثم يقول :
وأحر قلباه والعين في خديه من حسنهما جنتان
في صدغه الآس وفي خده الورد وفي مبسمه الأقحوان
ويخلص من الغزل في قصائد المديح بضروب من الحيل المعنوية التي يتضمنها فن ( التخلص ) كأن يقول وهو يمدح الصاحب جمال الدين بن مطروح :
يفضح الورد احمرارا ً خذه وتود الخمر لو تشبه ريقه
فيه الحسن خليق لم يزل والمعاني بابن مطروح خليقه
ويقول في فخر القضاة ابن بصاقة :
وكم من ليلة بتها معتمرا ولي بزخرف أمالي كثير من اليسر
أقول لقلي كلما اشتقت للغنى إذا نصر الله تبت يد الفقر
قال الصفدي : قلت انظر إلى هذا الشاعر كيف تخلص , ووثب إلى المديح وما تربص , وصدق نظمه في الحسن وما تخرص فاخذ على مثاله إن كنت تحذو . واغذ بلبانه إن كنت تغذو .
ولا تخرج معاني مديحه من صفات الكرم , والصفات الغالبة في مديح الشعراء , وتختلف اختلافا ً نوعيا ً بعدها باختلاف درجة المادح وصفته . فإذا كان كاتبا أو وزيرا وصفه بجودة الكتابة وحسن التوقيع . وسرعة البت والحسم وما إليها . كقوله في ناظر البهنسا :
تتفاخر الكتاب منه بسيد لا يرتضي عبد الحميد غلامه
خط كوشي الروض حياه الحيا فأدار بالمعنى عليك مدامه
فتكاد تدهش إن رأيت بنانه وتكاد تسكر إن سمعت كلامه
السطر يحكي الغصن إذ هو مثمر وإذا سمعت به حكيت حمامه
أما إذا كان الممدوح سلطانا أميرا عسكريا ً من رجال السيف فتختلف الحال ضرورة , كقوله في الأمير ابن يغمور :
رب بأس لناره أي ضرام وجود على العفاة يفيض
ثابت الجأش باسم الثغر والأبطال في لجة الدماء تخوض ٍ
وينظر في البيت التالي إلى قول المتنبي :
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كل هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
وغزله غزل تظرف وصنعة . ليس غزل وحد أو عشق , ويتصرف في معاني الغزل التقليدية فيسوقها في معارض متنوعة , يقول مثلا ً :
طرف المحب فم يذاع به الجوى والدمع إن صمت اللسان لسان
تبكي الجفون من النوى فأعجب لمن تبكي عليه إذا نأى الأوطان
فهو يقول إن العين تكشف المحبة . والدمع يذيع أسرار الهوى , والجفون تبكي لبعاد ساكنها الحبيب . أي طيفه , مع أنها أوطان له وهو ناء , فعجيب أن تبكي الأوطان على القطان !
ولا تعثر للجزار على هجاء كثير إلا في مجال التطرف والهزل , لكن بعض الشعراء عبثوا به , كما يقول الصفدي , فهجاه من أهل عصره خلق كثير بالشعر والزجل . قال وما كان فيمن هجاه من يقاربه في رتبة النظم ثم يذكر بين من هجوه شاعر اسمه ( مجاهد الخياط ) .
فليس يرجوه غير كلب وليس يخشاه غير تيس
إن تاه جزاركم عليكم بفطنة في الورى وكيس
وواضح من أكثر ما وصلنا من شعر الجزار انه عبر فيه عن حياته ومزاجه , كما اتخذه أحيانا وسيلة للكسب أو للوصول إلى ما ينبغي من مراتب ولكنه حصل شيئا ً وفاتته أشياء . وكان مسرفا ًيبذل كل ما يحصل عليه من مال . ولم ينل وظيفة كغيره من الشعراء واكتفى بالمجالسة والمنادمة للأعيان والوجهاء . ويقول مصورا حاله هذه :
إن شئت تعرف في الآداب منزلتي وإنني قد عداني العز والنعم
فالظرف واللطف والاوجاق تشهد لي والعود والنرد والشطرنج والقلم
ويشكو شكوى الشعراء من جور الدهر على العلماء والابيناء وإغداقه على الجهلة الأغبياء فيقول :
أشكو لعدلك جور دهر حائر فضلت به فضلاءه الجهال
منعت به عقلاؤه إذ قاسمت بالجور في أنعامه الأنفال
وهو معنى مشهور تردد في كلام الشعراء السابقين كابي تمام والبحتري والمتنبي .
وبقي اسم الجزار علما في الشعر المصري في القرن السابع . لأنه احتفظ برقة المصريين وحلاوة منطقهم وخفة روحهم .
14- الوراق
سراج الدين الوراق :
عمر بن محمد بن حسن ( ولد 615 هـ )
ثاني ثالوث الظرف والفكاهة شهرة بعد الجزار . وقد ولد بمصر وعاش بالقاهرة , وكانة مطبوعا على الدعابة والفكاهة وبراعة النكتة . وكان جميل الخلقة , ابيض الشعر ازرق العينين تتثقف بثقافة عصره . وتولى بعض المناصب بالقاهرة , فتولى كتابة الدرج للأمير سيف الدين أبي بكر ابن اسباسلار ولي مصر .
واتصل ببعض الرؤساء . وخاصة بالصاحب بهاء الدين بن حنا , وكانت بينهما محاورات شعرية , وكان ابن حنا شاعرا مقربا للشعراء وخاصة السراج والجزار وجماعتهما .
ولازم الجزار تلازم كثير من الشعراء في تاريخ الأدب العربي . كجرير والفرزدق والبحتري وأبي تمام وتطارحا الشعر . وتراسلا به . واشتركا في الحياة الأدبية . وفي الأسمار والمجالس معا حتى مات الجزار قبل صاحبه فقال في رثائه :
بلغت أبا الحسين مدى إليه لمسبوق ومستبق رهان
وكنت وطالما قد كنت أيضا ً تقول على الأولى سبقوك كانوا
وكان السراج شاعرا ً مكثرا ً .
وشعره الغالب سهل قريب من الكلام الجاري . لا يتكلف فيه التعقيد أو التقعر , وفيه صنعة قريبة وكان حسن التخيل . جيد المقاصد . عذب التركيب قاعد التورية والاستخدام , عارفا بالبديع وأنواعه .
وكان إماما فاضلا أديبا ً مكثرا ً متصرفا ً في فنون البلاغة . وانه شاعر مصر في زمانه بلا مدافعة .
وشارك بشعره في أحداث عصره , فرئى سلطان مصر المعز أيبك التركماني بقوله :
نقيم عليه مأتما ً بعد مأتم ونسفح دمعا دون سفح المقطم
ولو أننا نبكي على قدر فقده لدمنا عليه نتبع الدسع بالدم
وشغل السراج باسمه أو لقبه (( السراج )) واستغله في شعره . لاعبا بالتورية حينا ً واللغز أحيانا . كما شغل الجزار باسمه وصنعته . تعاصر أبو الحسن الجزار والنصير الحمامي والسراج والوراق . وتطارحوا كثيرا ً وساعدتهم صنائعهم وألقابهم في نظم التورية حتى انه قيل للسراج الوراق : لولا لقبك وصناعتك لذهب نصف شعرك .
إذا بحت بالشكوى عتبت مباشرا بلا راحة في مدحه اتعبوا ذهني
يرودونني رطب اللسان ومن رأى سراجا غدا رطب اللسان بلا دهن
وقوله : أنني على الأنام إني لم اهج خلقا ولو هجاني
فقلت لا خير في سراج إن لم يكن ذاك في لساني
ولما عمر طويلا حتى بلغ السبعين عاما وتجاوزها قال :
الهي قد جاوزت سبعين حجة فشكرا لنعماك التي ليس تنكر
وعمرت في الإسلام فازددت بهجة ونورا , كذا يبدو السراج المعمر
وذهبه مذهب الجزار في شكوى الفقر , وتصويره بلسان هازل , منه ما يحكى عن امرأته , وقد طلبت إليه الحصول على المال بالسعي , وترك الكسل :
قالت جمعت لفافة كسلا فانهض وقم وأدأب لهم العائلة
فأجبت هل تدرين لي سببا قالت : ولا وتدا , وهذي الفاصلة
وقال يشكو الفقر لاحترافه قول الشعر :
مالي ونظم الشعر باتت صبوتي والناس قد رغبوا عن الآداب
أأقوله عتبا ً بلا سبب له والشعر مبني على الأسباب
وكما وصف الجزار نصيفته فقد وصف السراج جوخته بقوله :
هذا وجوختي الزرقاء تحسبها من نسج داوود في سرد وإتقان
قلبتها فغدت إذ ذاك قائلة سبحان قلبي بلا قلبي وابلاني
إن النفاق لشيء اعرفه فكيف يطلب مني الآن وجهان
لو أن صاحبها الجزار أبصرها على أبصر لبدا فوق جربان
ويشكو السراج في شعره أسماء بعض من يقصده من الرؤساء وصدهم له , ويكرر , أكثر من مرة فيقول ساعة :
وكان الناس إن مدحوا أثابوا وللكرماء بالمدح افتخار
وكان العذر من وقت لوقت فصرنا لا عطاء ولا اعتذار
ويصور مواقف الصد وإغلاق أبواب ممدوحيه . ووقوف حراس سود عليها يحجبونهم فيقول :
أراه يصد عني وهو لاه بنوبي كليل الهجر والصد
فإن لم يرعني لبياض لوني فيرعاني لحظي وهو اسود
وقد تمر به لحظات يأس , كما مرت بصاحبه الجزار , فيقف ليسائل نفسه القناعة ما دام لا يستطيع الوصول إلى النوال المنشود يقول :
ما لي أذل وللقناعة عزة أنحو بها من ذلة وهوان
وأصون وجهي أن يذل لأوجه منحوتة من عالم الصوان
والقوم كالأصنام والإسلام نزهني عن الأصنام والأوثان
ويعبر عن ضيقه بالحجاب بقوله :
لا ذقت ذل حجاب ولا وقوفا بباب
فقد ضنيت وقوفا ً وقد قام شارب البواب
ويشكو من تقدم غيره ممن لا يستحق وتأخره فيقول :
إذا لم ترتفع عن سفل قوم علوا وعلت مراتبهم علينا
صبرنا والزمان يرى علينا تعاظمهم فينزلهم إلينا
وترى صورا أخرى من الشكوى غير شكوى الممدوحين وتثاقلهم أو جمودهم مثل شكوى الصاحب والصديق . فيقول :
افردتني الأيام عن كل خل وأنيس وصاحب وصديق
فلو إني مشيت في شهر آب لأبى الظل أن يكون رفيقي
وتعم شكواه فتشمل الناس جميعا والزمن فيقول :
زعموا لبيدا ً قال في عصر له (( وبقيت في خلق كجلد الأجرب ))
واراه أعدى خلفه من خلقه جربا واعبى الداء كل مجرب
وتضاعف الجرب الذي عدواه لا تنفك عن ماض ولا متعقب
وتفاقم الداء العضال فخلقنا بلغ الجذام وعصرنا عصر وبى
ومما تطرق إليه السراج من الموضوعات الغزل . والممازجة والدعابة المتبادلة بين الأصدقاء .
ومن هذا الضرب المصنوع , قوله كذلك :
ومحجوبة أما الدجى فغدائر عليها وإما الصبح فهو جنينها
عجبت لمسرى الطيف من كناسها ومن حولها أسد الشرى وعرينها
ونلاحظ في هذه الأمثلة معاني الغزل المشهورة في الشعر القديم , ولكن أعيد عرضها في ثوب مبالغ فيه من صنعة البديع . وخاصة التورية والجناس والاستخدام .
واستغل الشاعر في موضع آخر التشبيه المألوف للقدود بالقنا , والعيون بالسيوف القواطع بينها وولد في قوله :
أغنتهم تلك القدود عن القنا ونضوا عن البيض الصفاح الاعينا
وحموا طروق الحي حتى لم يكن مسرى الخيال إليه أمرا ممكنا ً ومن موضوعاته مقطوعات في ألوان الطعام , وقال في القطائف كصاحبه :
قطائفك التي رقت جسوما لماضغها كما كثفت قلوبا
كغيم رق لكن فيه قطر غدا المرعى الجديب به خصيبا ٍ
وشارك في المناسبات فنظم القصائد وشارك غيره من الشعراء , كقوله في افتتاح المدرسة الظاهرية سنة 662 هـ :
مليك له في العلم حب واصل فلله حب ليس فيه ملام
فشيدها للعلم مدرسة غدا عراق إليها شيق وشآم
وكان السراج أكثر توفيقا في مقطعاته الشعرية من القصائد , قلم يكن بالشاعر المجيد إذا قصد , وإنما مقطوعاته تجري لطيفة يسيرة , وغالبا ً ما يبنيها على نكتة أو مثل أو قول مأثور أو مفارقة لفظية أو معنوية . يقول :
قلت إذ جرد لحظا حده يدني الأجل
يا عذولي كف عني سبق السيف العذل
ويقول :
أما السماح فقد مضى وقد انقضى فتسل عنه ولا تسل عن خبره
واسكت إذا خاض الورى في ذكره حتى يخوضوا في حديث غيره
وكثيرا ما تراه يبني مقطوعته على شطر قديم , كقوله :
وباخل ينشأ الاضياف حل به ضيف من الصبغ نزال على القمم
سألته ما الذي يشكو فأنشدني ضيف الم براسي غير محتشم
وهو مطلع قصيدة المتنبي المشهورة :
ضيف الم براسي غير محتشم والسيف أحسن وقعا منه باللمم
ومنه قوله :
وضاع خصر لها ما زلت انشده إذ رق لي ورثي للسقم من بدني
وقال لي بلسان من مناطقه لولا مخاطبتي إياك لم ترني
وهو من قول المتنبي كذلك :
كفى بجسمي نحولا ً أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني
ومنه قوله :
إذا ما جعلتم جفنة الصلح سكرا ً فقد جئتم الأمر الذي كان أصلحا
وانتم أحق الناس أن تنشدوننا لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وهو من قول حسان بن ثابت :
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ويعجب الصفدي قول السراج :
دع الهوينا وانتصب واكتسب واكدح فنفس المرء كداحه
وكن عن الراحة في معز فالصفع موجود مع الراحة
ورغم ما نلاقيه في شعر السراج من تكلف الصنعة , فلا نعدم هنا وهناك لمحات ومضات شعرية تلمع , كقوله :
في خده ضل علم الناس واختلفوا أللشقائق أم للورد نسبته
فذاك للخال يقضي للشقيق وذا دليله أن ماء الورد ريقته
ومن رقيقه الذي لا يثقل برغم ما فيه من حلي البديع قوله :
شمت برقا من ثغرها الوضاح والدجى سيره مهيض الجناح
فتبارى شكى به ويقيني هل تجلى الصباح قبل الصباح
فأجابت متى تبسم صبح عن حباب أو لؤلؤ أو أقاح
ومتى كن للصباح نسيم المـ سك أو نكهة كصرف الراح

15- الحمامي , نصير الدين : احمد بن علي المناوي المصري ( ت 708 هـ )
ثالث الثلاثة الظرفاء أصحاب الحرف , الذين تلازموا وتطارحوا الشعر وكان الحمامي اقلهم رتبة وثقافة , كانت تغلب على شعره روح العامة وكان يرتزق بضمان الحمامات.
وقال عنه أبو حيان انه كان أديبا ً كيس الأخلاق . ولد سنة 619 هـ , وعمل بالقاهرة , والتقى بعلمائها وأدبائها . ولحقته حرفة الشعر . وكثيرا ما نوه بذكر حرفته كصاحبيه كقوله :
ومذ لزمت الحمام صرت فتى به يدارى من يداريه
اعرف حر الأشياء وباردها واخذ الماء من مجاريه
وقوله :
لي منزل معروفه ينهل غيثا ً كالسحب
اقبل ذا العذر به وأكرم الجار الجنب
وكان يدعو أصحابه إلى الحمام ويحببه إليهم بالشعر .
ونظم في الخمر مثل قوله :
أصبحت من أغنى الورى مستبشرا بالقدح
عندي خمر ذهب اكتاله بالقدح
ومن غزله :
إن الغزال الذي هام الفؤاد به استأنس اليوم عندي بعد ما نفرا
أظهرتها ظاهريات فقد ربضت بها الأسود رآها الظبي فانكسرا
وقال في النيروز وما وقع فيه من المساخر . وربطه بعدم وفاء النيل :
إن عجل النوروز قبل الوفا عجل للعالم بعدم وفاء القفا
فقد كفى من دمعهم ما جرى وما جرى من نيلهم ما كفى
16- لعزازي , شهاب الدين :
احمد بن عبد الملك بن عبد المنعم ( توفي سنة 710 هـ ) .
ولد سنة 627 هـ وينسب إلى قرية عزاز قرب حلب بشمال الشام , وكان احد شعراء العصر المعدودين . وفي الموشحات خاصة .
وفد من الشام إلى مصر وأقام بها وتطبع بطباع أهلها , واشتغل بالتجارة وكانت له دكان بقيسارية جهاركس بالقاهرة .
أحب الأدب واشتغل بعمل الشعر فمهر فيه وفاق اقرأنه . وكان مطبوعا لا يتكلف , وأعجب به معاصروه , وكان ينشد شعره لمن يلقاه من علماء مصر وأدبائها أمثال ابن سيد الناس وأبي حسان , ويبدو أنهما كانا يرشدانه فيه ويقومانه .
وامتدح شعره جماعة من مؤرخي العصر كالصفدي وابن تغرى بردى . وراسل بعض الشعراء كابن النقيب بشعره , وله ديوان كبير , كقول المقريزي . نقل عنه ابن شاكر في (( فوات الوفيات )) , وابن تغرى بردى في (( المنهل الصافي )) .
وتعدت موضوعاته وإن غلب عليه الغزل والمديح , وله قصيدة في المديح النبوي مشهورة .
ومن غزله قوله :
ويا كثير التجني منعت عني سلامك
وخنت ذمة صب ما خان قط ذمامك
فمن رأى سوء حالي بكى علي ولامك
فلو أردت حياتي لما هززت قوامك
وله من النسيب التقليدي , قوله :
أرامة للآرام كنت مراتعا فمالك للعشاق صرت مصارعا
فأين غصون كن فيك موائسا ً وأين بدور كن فيك طوالعا
ويذكر في كهولته أيام الشباب فيقول مخاطبا زمان شبابه :
زمان شبابي كنت خير زمان فلا زلت مشكورا بكل لسان
فلله كم جررت ذيل ذيل بطالتي وأطلقت للذات فيك عناني
وتجري موشحاته على صور مختلفة البناء والصياغة , بعضها يجاري النسق المشهور للموشحات الأندلسية , والبعض الآخر يتصرف فيه بعض التصرف , وإن تمثل بالأصول من قفل . وغصن وخرجة ومزج أحيانا كبعض الوشاحين المصريين والشوام بين صياغة الموشح و ( الدوبيت ) فنظم الموشحات الدوبيتية كقوله :
من لي بسقيم الجفن واهي الخصر يرنو بعيون كحلت بالسحر
كم أوضح لي عذاره من عذر ما مال به الدلال ميل السكر
إلا سجدت لمعاطف الغزلان
في مرشفيه موارد للقبل تحمى بفاتك لحظه والكحل
كم قلت لن أكثر فيه عذلي ما دام اسوداد طرفه لم ينجل
فلا تطمع يا عذول في سلواني
ومن موشحاته الأندلسية الروح والطابع قوله :
يا ليلة الوصل وكاس العقار , دون استتار , علمتماني كيف خلع العذار
اغتنم اللذات قبل الذهاب
وجر أذيال الصبا والشباب
واشرب فقد طابت كؤوس الشراب
ويستمر الموشح على هذا النمط حتى ينتهي إلى الخرجة في المقطع الأخير فيقول :
بمقلة افتك من ذي الفقار . ذات احورار منصورة الأجفان بالانكسار
زار وقد حل عقود الجفا
وافتر عن ثغر الرضا والوفا
فقلت والوقت لنا قد صفا
يا ليلة قد انعم فيها وزار , شمس النهار , حبيبته من دون الليالي القصار
ومن موشح آخر جدد معاني السابقين في الغزل . وعرضها عرضا مولدا فقال : ما سلت الأعين الفواتر من غمد أجفانها الصفاح
إلا أسالت دم المحاجر من غير حرب ولا كفاح
بالله ما حرك السواكن غير الظباء الجآذر
هيهات أن تعدل القلوب عنها ولو جارت المقل
بقي أن نشير إلى القول الذي اشتهر عن الشهاب العزازي بأنه كان شيعي الهوى ويستدل على ذلك بقوله من أبيات :
ترى بعد الحسين يسوغ ماء ويحلو مورد العيش الهني
وأي معيشة تحلو وتصفو وقد جار العدو على الولي
لقد ظلموا وما حازوا حقوقا ً لفاطمة البتول ولا الوصي
وليس غريبا أن يكون العزازي شيعيا , فقد كان كثير من المصريين في هذا العصر , وخاصة في الصعيد يميلون إلى عقيدة التشيع عقيدة أو هوى لآل البيت .
وإذا كان العطف على الحسين الشهيد وتذكر ظلم قتلته إياه . والتحبب إلى علي رضي الله عنه وفاطمة وال البيت يعد تشيعا فإن كثيرا من المصريين كانوا كذلك هوى لا عقيدة , فللجزار مثلا قصيدة في ذكرى عاشوراء . وهو ذكرى مقتل الحسين بكربلاء . ولا يزال المصريون يحتفلون بهذا اليوم بين مواسمهم الدينية .
مجاهد بن سليمان الخياط ( توفي سنة 672 هـ )
وكان يعمل بالخياطة في مدينة القاهرة , وتعلق بالشعر , وكان معاصرا لجماعة شعراء المصريين الكبار , وأولع بالهجاء , وهجا الجزار وتسلط عليه كما يقول المؤرخون .
قال ابن شاكر : (( من كبار أدباء العوام , لكنه قرأ النحو , وفهم , وكان قد سلطه الله على أبي الحسين الجزار شاعر الديار المصرية )) .
وكان يسكن القرافة الكبرى بالمقطم , وبها توفي ودفن .
ومن أهاجيه في الجزار قوله :
أبا الحسين تأدب ما الفخر بالشعر فخر
وما ترشحت منه بقطرة وهو بحر
وإن أتيت ببيت وما لبيتك قدر
لم تأت بالبيت إلا عليه للناس حكر
وقال فيه :
إن تاه جزاركم عليكم بفطنة عنده وكيس
فليس يرجوه غير كلب وليس يخشاه غير تيس
واتصل الخياط بناصر الدين النقيب , وكان يعطف عليه , ويبعث إليه بالعطايا , وكان قد وعده مرة بإردب من القمح فجهز له أربع ويبات , وتأخر له ويبتان . فكتب إليه ابن الخياط :
يا ماجدا ً بالقمح قد جاد لي ما الذي الجاك أن تمنعه
وقد شكا لي بعضه فرقة الباقي عسى مولاي أن يجمعه
فكتب إليه النقيب الجواب :
آتيك باثنين من حاصل إليك أو تبعث الأربعة ؟
تالله ما أخرتها مانعا لها ولا ذاك من مطمعة
وإنما أخرتها خيفة من كفك المتلفة المضيعة
وما عسى مقدارها عندكم والألف مع مثلك مستودعة
ويروى له غزل على طريقة التقليديين يقول منه :
اعد يا برق ذكر اهيل نجد فإن لك اليد البيضاء عندي
أشيمك بارقا فيضل عقلي فوا عجبا تضل وأنت تهدي
وتبكيك السحاب وأنت ممن تحمل بعض أشواقي ووجدي
بعثت مع النسيم لهم سلاما ً فما عطفوا على له برد
17- ابن تولو المصري
معين الدين أبو عمرو عثمان بن سعيد
ولد بتنيس سنة 605 وتوفي 685 بالقاهرة , وسمع الحديث وتفقه , وكانت له معرفة بالأدب , قال ابن تغري بردى : (( وله يد طولى في النظم وشعره في غاية الجودة )) .
وقيل انه الشاعر محمد بن دانيال لما جاء مصر اتصل به واخذ عنه طريقته . ويروى له بيتان قالهما عندما أمر قاضي مصر بقطع أرزاق الشعراء من الصدقات سوى أبي الحسين الجزار فقال :
تقدم القاضي لنوابه بقطع رزق البر والفاجر
ووقر الجزار من بينهم فأعجب للطف التيس بالجازر
18- قطنبة الاصفوني
حسن بن محمد بن هبة الله ( توفي سنة 670 هـ )
قال ابن حجر : (( كان شاعرا ماجنا كثير الهجاء . ظريف الحكايات )) . وكان بينه واحد شعراء عصره واسمه نبيه الدين عبد المنعم بن علي محاورات ومراجعات حتى كان أهل عصرهما يشبهونهما بالجزار والوراق . وكان فكها ً كثير المزاح والنوادر .
من نوادره انه صلى العيد الأكبر فذكر الخطيب قصة الذبيح فانشد بكاء شخص بجانبه وعلا نحيبه . فقال له : إلى متى تبكي ؟ أما سمعته في العام الماضي يقول انه سلم ؟
وهو من شعراء الصعيد , يروي له الادفوي بعض مقطوعاته , منها في الغزل قوله :
سبت فؤادي المعنى من تثنيها فتانة كل حسن مجمع فيها
إنسية مثل شمس الأفق قد بزغت وحشية في نفور خوف واشيها
ومن شعره الاجتماعي ما قاله مخاطبا والي قوص لينتصف له من متولي الحكم باصفون بلده , وكان قد طالب زوجه بنصيبها في منزل :
قهرت بالجانب البحري طائفة فول وجهك يا مولاي قبليها
واترك باصفون واكشف عن قضيتها وكف كف شهود أصبحوا فيها
عندي يتيمة تركى ظفرت بها لها من الله جدران تداريها
تعاونوا مع أمين الحكم واغتصبوا واخفوا وثائق فحوى خطهم فيها
حتى أبيعت عليها نصف حصتها ما حيلتها وأمين الحكم شاريها
ما زلت افحص عن تلك الوثائق يا مولاي حتى إبان الله خافيها
وها هي الآن عندي وهي ثابتة فامض الولاية فيمن كان يؤذيها


مملوكي / البوصيري
حياته ونشأته : هو شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري المغربي من قلعة حماد ولد أول شوال /608 /1212 /في قرية دلاحس التابعة لبني سوين بمصر حفظ القرآن في بلده ثم انتقل إلى القاهرة ليتم دراسته الدينية عمل ببعض الوظائف مطلع حياته ثم أنشا كتابا لتعليم الناشية وقد كان احد تلاميذ أبي الحسن الشاذلي وصحب أبي العباس المرسي وقد تفقه في مصر والتحق بالخدم الديرانية قبل التحاقه بالشاذلي والمرسي وعمل بديوان الإنشاء واستقر بيبيس في الشرقية وانتقد أهلها مشهرا بالآخذين بالرشوة .
نقدت طوائف المستخدمينا فلم أرى فيهمو رجلا أمينا
عايش البوصيري ابن عطاء الله السكندري وكان تلميذين للمرسي حيث تحول البوصيري للشعر والسكندري للنثر والحكم .
شعره ونظم البوصيري بعض المدائح النبوية التي ظهر اتجاها صوفيا على طريقة الشاذلي وبرع في النظم وشعره في غاية الحسن واللطافة عذب الألفاظ منسجم التراكيب ومن سبر شعره عرف مزيته وقد أعجب السيوطي بقصيدته التي مطلعها :
كتب المشيب بأبيض في اسود بقضاء ملبيني وبين الخرد
وتخيم على شعره الدعابة وخفة الروح في الموضوعات غير الدينية وعرف بالظرف كشعراء عصره في الموضوعات غير الدينية .
أقسام شعره يقسم شعره إلى قسمين :
1 – الشعر الاجتماعي (المديح ـالهجاء ـشعر الشكوى )وهو شعر بسيط في روحه وأسلوبه قريب على النفس والروح الشعبي لغة وتعبيرا يمتزج بخفة روحه وظرفه وخيالها في ذم فوضوي الشرقية
2- شعر المدائح النبوية وهو شعر قوي رصين بدوي الصياغة يميل إلى تقليد القدماء في تعابيرهم وصورهم المعتمد بالجزيرة العربية (الحجاز )وتجري هذه المدائح النبوية على عكس الشعر الاجتماعي وتدل بلاغته في هذه المدائح على استيعابه الكبير للشعر القديم ومعرفته المعمقة باللغة وأسرار النظم التقليدي ومدائحه النبوية الثلاث (البردة )
امن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعا من مقاة بدم
وهمزيته :
كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماء طالعتها سماء
تابع الشعر الاجتماعي وكذلك حرض البوصيري احد أمراء المماليك على أهل الرشوة من الموظفين قائلا .
فلا تدن منهم واحدا منك ساعة ولو فاح من برديه مسك عنبر
وبرد فؤادي بانتقامك منهمو فقد كاد قلبي منهمو يتفطر
وللبصيري شعر يشكو فيه أحوال الخاصة لأحد الوزراء واصفا فقره وكثرة عياله :
يا أيها الوزير الذي أيامه طائعة أمره
إليك أشكو حالنا أننا حاشاك من قوم أولي عسرة
في قلة نحن ولن لفا عائلة في غاية الكشر
وهي أبيات متأثرة بالروح الشعبية المصرية
وفي رثائه للوزير العروف بتاج الدين بن حنا /668 /
نم هنيئا محمد بن علي بحمير قد مت بين يديكا
لم تزل عوننا على الدهر حتى غلبتنا يد المنون عليكا
تبدو روح عامة الناس وله قصيدة غاية في الدعابة وخفة الروح والميل لها على لسان فتاة أنكرت شيب الشاعر بعد أن حاول مغازلتها
أهوى والمشيب قد حال دونه والتصابي بعد المشيب الرعونة
أبت النفس أن تطيع وقالت أن حبي لا يدخل الغنينة
ولامته التي يعارض بها كعب بن زهير
إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسئول
تدلل على مدى توغله في علوم الأدب والدين .
وقد طور البوصيري كثيرا من معاني المديح والنسيب المتداولة في الشعر العربي بما يناسب مقام النبوة .
لا طيب يعدلهم تربا ضم أعظمه طوبى لمنتشق منه رملتهم
أكرم بخلق نبي زانه خلق بالحسن مشتمل بالبشر متسم
كالزهر في ترف والبدر في شرف والبحر في كرم والدهر في همم
كأنه وهو فرد في جلالته في عسكر حين تلقاه وفي حشم
وقد جمع البوصيري سمات عصره في شعره تاركة أثرها على أسلوبه وصياغته مستخدما التورية ومصطلح العلوم التي تعلق بها الفقهاء وفي أشعارها ومنظوماتها .
خفضت كل مقام بالإضافة إذ نوريت بالرفع مثل المفرد والعلم
والعاني الصوفية لا تبدو في مدائحه باستثناء البردة ولكنه في قوله :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سوان عند حلول الحارث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك لي إذا الكريم تجلى باسم من تقم
فان من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم الروح والقلم
يبدو قد أسرف في نسبة أفعال من خصوصية الخالق إلى أفعال يتميز بها البشر وان كانوا أنبياء فلا يجوز أن يلاذ أو يهان إلا بالله وكذلك الدنيا وضرتها ليشت من جود الرسول فهي من جود الله أما علم الروح من علم الله والروح من أمر الله وعلم كذلك .
مجير الدين بن تميم
محمد بن يعقوب بن علي (توفي سنة 684 ه )
الشاعر المجيد كان دمشقيا وانتقل إلى حماة وخدم صاحبها الملك المنصور جنديا وكان له به اختصاص وكان فاضلا شجاعا عاقلا ويعد من فحول شعراء الشام في عصر الدولة الأولى .
وكان كما يقول المؤرخون مطبوعا على كريم الأخلاق بديع النظام لطيف التخيل وقال ابن العماد : وكان من العقلاء الفضلاء الكرماء وشعره غاية في الجودة )وقال الصفدي (انه ممن أجاد التضمين وبلغ الغاية )وقال في موضع آخر وأكثر ما أجاد في التشبيه والتورية والتضمين )وقال في كثرة تضمينه :
أطالع كل ديوان أراه ولم ازجر عن التضمين طيري
اضمن كل بيت فيه معنى فشعري نصفه من شعر غيري
وقال ابن شاكر :وهو في التضمين الذي عاناه من فضلائه المتأخرين أية وفي صحة المعاني والذوق اللطيف غاية لأنه يأخذ المعنى الأول ويحل تركيبه وينقله بألفاظ إلى معنى ثان حتى كان الناظم الأول إنما أراد به المعنى الثاني وقد أكثر من ذلك ).
ومن تضمينه لشطر من شعر زهير قوله :
تعبت حتى جوادي لا حراك به يكاد من هزه للركض ينخرم
فلا يغرنك منه منظر غلط أن الجواد على علاته هرم
ومنه تضمينه لنصف بيت المتنبي ووصف قدحا أهداه :
أهديته قدحا فان أنصفته أوسعته لجماله تقبيلا
نظمت به الصهباء در حبابها حتى يصير لرأسه إكليلا
ومما أعجب به الصفدي هذان البيتان يصور فيهما فرسا له صغيرا وقد ركبه فتدلت قدماه إلى الأرض :يقول :
وطرف تخط الأرض رجلاي فوقه إذا مشى ضاقت علي المنافس
وما أنا إلا راجل فوق ظهره ولكنني فيما ترى العين فارس
ويرسم مجير الدين الصور الجميلة بخطوط رشيقة يحسن فيها استخدام التشبيه والاستعارة ويبرع خاصة في صفات الرياض والزهر والمياه والخمر وكأساتها وما إليها من مشاهد بصرية .
يقول واصفا وردة متفتحة وكتب بها مع وردة أهداها :
سيقت إليك من الحدائق وردة واتتك قبل أوانها تطفيلا
طمعت بلثمك إذ رأتك فجمعت فمها إليك كطالب تقبيلا
وعبر عن حبه للروض والزهر بقوله :
لم لا أهم إلى الرياض وزهرها وأقيم منها تحت ظل وارف
والغصن يلقاني بثغر باسم والماء يلقاني بقلب صافي
وقد نقل ابن فضل الله العمري انه كان عاشقا للروض وكان يتردد مع جماعة من أصحابه على الرياض والمنازه والمياه الجارية قال :
وحكي أن الملك المنصور (صاحب حماة ) استدعاه في ليلة غفل رقيبها وحضر ربيبها وسحبت من سود الذوائب ضفائرها وسحبت من سود الأيام ضرائرها إلى مجلس مزخرف وفواكه لم تقطف وأمامه جدول خسر ماؤه فتكسر وان عليه كل بارق وتحسر والكؤوس دائرة والشموس في أيدي البدور دائرة فلما رأى الجدول إصابته من العين نظرة فتعثر وسقط عقد لؤلؤة وتنثر نظر إليه وقال رحمة الله عليه :
يا حسنة من جدول متدفق يلهي برونق حسنة من أبصرا
فسر المنصور من أبياته وأحب استطلاع خباياته وأمره بالجلوس إليه وجعله ارفع القوم لديه ولم يستو به المكان ولا قعد ولا استكان حتى تحرك المجلس لغلام ورد كأنما يبسم عن برد فقال له المنصور بصوت يخفيه :ما تقول فيه فقال :
بابي أهيف تبدي وحينا بابتسام عدمت منه اصطباري
فأراني بوجهه وثنايا نجوما طلعن وسط نهار
فقال له سرا وقد أسفر وجهه وتسرا إلا انه شديد النفار من المدام وله قدح بالملام : فهل تقدر على استلانته وتسهيل بأسه واسهانته فما قطع المقال حتى التفت إليه ابن تميم فقال :
اتجهرها صرفا لأجل خمارها وذلك شيء لو جرى غير ضائر
فلا تخشى من داء الخمار وعلمها هنيئا مريئا غير داء مخامر
فكاد الغلام يسطو عليه كالعائب وقال له كالعاتب ما هذه فقال :
صفراء لو لاحت لشمس الضحى من قبل أن تطلع لم تطلع
أحسن ما في وصفها أنها لم تجتمع والهم في موضع
فقال :بل اشرب خيرا منها وادع المنهي عنها ثم انه أتى بركة فعب من مائها وارى خيال قمره في سمائها فقال :
افدي الذي أهدى بفيه شاربا من بركة طابت وراقت مشربا
أبدت لعيني وجهه وخياله فأرتني القمرين في وقت معا
ثم لم يزل به حتى شرب ولذ معه ليلته وطرب فلما طلع ابن ذكاء وأنار الصبح وأضاء شكر له المنصور حل عقدة الغلام وقال : مثلك من سحر بالكلام ثم أحسن له الجائزة وغدا ابن تميم ويده له حائزة .
وقال ابن فضل الله في موضع آخر : وحكي انه جلس على بحيرة أشرقت سماؤها وطاف بكعبة المجلس ماؤها والشمس قد توسطت الظهيرة وأرخت ذوائب أشعتها الظفيرة واللجة قد نصبت في كل ناحية حبالة وتناومت عينها فما رأت من الشيء إلا خياله والماء قد لبس من شعاع الشمس الغلالة وغابت سباع البركة فلعبت الغزالة قال :
ولما احتمت منا الغزالة بالسما وعز على قناصها أن ينالها
نصبنا شباك الماء في الأرض حيلة عليها فلم نقدر فصدنا خياله
وذكر ابن فضل الله العمري انه حضر في مجلس بعض الأكابر وقد غص المجلس وبهتت فيه عيون النرجس وضمخت فيه أصابع المنثور وأعطى فيه أمير الحسن ذؤابه شعره المنشور وطال أعمال الكؤوس حتى غمضت الجفون ولم يبقى دور الكأس خاليا من الجنون وان أخاه ابن تميم تركه السكر ملقى وخلا خده المفرج محلقا فنهض غير مرة لتقبيله ثم أفاقت أعين قتيله فقعد بعد اللجاج ورجع رجوع الصدى والماء يجلي عليه في الزجاج :"
كيف السبيل لان اقبل خد من أهوى وقد نامت عيون الحرس
وأصابع المنشور تومي نحونا حسدا وتغمرنا عيون النرجس
وحكي عنه أن المنصور استدعاه في صبيحة يوم ابيض وندبات الياسمين على الأرض تنفض والثلج قد نثر كافوره والجليد قد كسر بلوره والسحاب قد أصبحت ذيوله مجرورة والبرق قد تلون طول ليلته حتى أخرجها من صورة إلى صورة وأواني الزجاج قد شفت من وراء مدامها والدنان كأنما ختمت بالريحان أو نسج بالزمرد بنت الحان وتحت عذراه خيلان قد خبأت مسكها فزاد تضوعا وكثر طيبة تنوعا قد تارج نشرها وفاح وعلم بنقطها في خده انه قد تم وصف التفاح فلما دخل عليه في بكرة ذلك اليوم الأغر ورأى الدنيا ضاحكة تفتر انشده :
يا أيها الملك الذي بسطت له بالجود كف دمرها لم تقبض
دنياك مذ وعدت بأنك لم تزل في نعمة وسيادة لا تنقضي
كان الدليل على وفاها أنها أضحت تقابلنا بوجه ابيض
فأجزل له الصلة ولم تكن عوائده بمنفصلة .
ولمجير الدين زهريات على طريقة الأندلسيين متنوعة هي مقطوعات كل مقطوعة من بيتين أو ثلاثة أو خمسة .يقول في الورد والبنفسج :
عاينت ورد الروض يلطم خده ويقول وهو على البنفسج يخنق
لا تقربوه وان تضوع نشره ما بينكم فهو العدو الأزرق
ومنها قوله في النرجس والمنثور :
مذ لاحظ المنثور طرف النر جس المزرور قال وقوله لا يدفع
فتح عيونك في سواي فإنما عندي قبالة كل عين إصبع
وقال :
كيف السبيل للثم من أحببته في روضة للزهر فيها معرك
ما بين منثور وناظر نرجس مع أقحوان وصفه لا يدرك
هذا يشير بإصبع وعيون ذا ترنو إليه هذا يضحك
وقال في مشاهد الطبيعة مقطوعات أخرى تصف الأنهار والدواليب والبرك والنافورات . ويمزج القول بالزهر والخمر والغزل وقد شغف حبا بالرياض والشراب والغناء وردد في شعره فقال :
قالوا رأيناك كل وقت تهيم بالشرب والغناء
فقلت إني فتى قنوع أعيش بالماء والهواء
ويقول في موضع آخر :
إذا هجرتني الصهباء يوما أرى للنار في كبدي اشتعالا
كان الهم مشغوف بقلبي فساعة هجرها يجد الوصالا
وقال وقد ذكر شربه طوال الليل :
وليلة بت اسقي قي غيابها راحا تسل شبابي من يد الهرم
مازلت اشربها حتى نظرت إلى غزالة الصبح ترعي نرجس الظلم
ومن تفننه في صفات الخمر وكأساتها قوله :
يا حسنة قدح يضيء زجاجه ليل الهموم إذا ادلهم وعسعسا
أهديته مثل النهار فان حوى صرف المدام غدا نهارا أشمسا
ويقول :
ومدامة كأساتها تعطي الأمان من الزمان
قد أحكمت علم النجو م وأتقنت سحر البيان
فإذا حساها الشاربون وأوقعتهم في الأمان
بدأت بإخراج الضمير وبعدها عقد اللسان
وفي مجلس انس :
ومجلس راق من واش يكدره ومن رقيب له باللوم أيلام
ما فيه سوى الساقي وليس به بين الندامى سوى الريحان نمام
ويجري غزله في المذكر وفي المرأة في مقطوعات قصيرة ويعمد أحيانا إلى عرض معاني الغزل القديمة عرضا جديدا ومنه قول عنترة :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فقال :
إلا من مبلغ المحبوب إني وقفت وللظبا حولي صليل
واني جلت في جيش الأعادي برمحي وهو في فكري يجول
ومن لطيف معانيه قوله وقد نسخ فيه معنى المتنبي :
مولاي قد كثرت ليالي هجرنا حتى عجزت سلمت لي عن عهدها
أودع فمي التودع قبلة وانأ الكفيل إذا رجعت بردها
ووصف الأنهار والمياه الجارية والنواعير وربما تأثر فيها ببيئة حماة قال :
فيا حسنها روضة ضاع نشرها فنادت عليه في الرياض طيور
ودولابها كادت تذوب ضارعة لكثرة ما يبكي بها ويدور
وقال :
وناعورة قد ألبستها حبالها من الشمس ثوبا فوق أوراقها الخضر
كطاووس بستان وينجلي وينفض عن ارباضه بلل القطر
والشاعر دقيق التشبيه يلتقط صوره ويحبك صوغها منها قوله في الفحم والنار :
كأنما النار في تلهبها والفحم من فوقها يغطيها
زنجية شبكت أناملها من فوق نارنجة لتخفيها
ويصور حمائم الروض تشدو على الأيك فيقول :
هذي الحمائم في خمائل أيكها تملي الغنا والطل يكتب في الورق
والقضب تخفض للسلام رعوسها والزهر يرفع زائريه على الحدق
ومنه في صورة نهر يحمل أوراق الشجر والزهر المتساقط ويجري بها تياره :
ونهر حالف الأهواء حتى غدا طوعا لها في كل أمر
إذا سرقت حلى الأغصان ألقت إليه بها فيأخذها ويجري
بمذهب الاستماع بمفاتن الحياة ومحاسنها والابتعاد عن مشكلات الناس والحياة .يقول :
من كان يرغب في حياة فؤاده وصفائه فلينا عن هذا الورى
فالماء يصفو ناي وإذا دنا منهم تغير لونه وتكدرا
وغادر مجير الدين حماة فترات قليلة من حياته فجاء إلى مصر وذكر فيها غلاما اسمه يوسف علقه فقال :
تركت بمصر يوسف وهو أمرد وقلت لخل قاصد مصر يا فتى
لك الحمد بالرحمن عرج بيوسف لتخبرني عن نمل خديه هل أتى
وسافر إلى الإسكندرية ووصفها في بيتين قال فيهما :
لما قصدت الإسكندرية زائرا ملأت فؤادي بهجة وسرورا
ما زرت فيها جانبا إلا رأت عيناي فيها جنة وحريرا
وهكذا عاش مجير الدين جنديا شغلته الحرب زمنا لكنه كان محبا للحياة عاشقا للجمال في شيء مظاهره وخاصة جمال الطبيعة فخلا إليها وحفل شعره بصور فريدة تأمل فيها محاسن الطبيعة وملاذ الحياة وأودعها على التصور والإبداع وهي قدرة قليلا ما نرى لها بين شعراء الوصف .
شرف الدين الحموي
عبد العزيز بن محمد (586 ـــ662 ه )
شاعر من شعراء حماة ممن ضمهم بلاط الملك المنصور . قال فيه الصفدي لا اعرف في شعراء الشام بعد الخمسمائة وقبلها من نظم أحسن منه ولا أجزل ولا أفصح ولا اصنع ولا أسرى ولا أكثر فان له في لزوم مالا يلزم مجلدا كبيرا وما رأيت له شيئا إلا وعلقته لما فيه من النكت والتوريات الفائقة والقوافي المتمكنة والتراكيب العذاب واللفظ الفصيح والمعنى البليغ لقب بالصاحب وشيخ الشيوخ وانتسب إلى الأوس من الأنصار .
ولد بدمشق 586 وسكن حماة وتوفي بها بعد أن عمر وسمع الحديث وتفقه واتجه إلى الأدب فأتقنه . تولى بعض المناصب وعمل بالتدريس بمدارس حماة وأفتى وتقدم عند ملوك عصره وترسل غير مرة قال ابن تغري بردى :( وكانت له الوجاهة التامة واليد الطولي في الترسل والنظم وشعره في غاية الحسن ) .
وكان من الأذكياء المدودين وله محفوظات كثيرة .
تتلمذ عليه جماعة من الشيوخ المشهورين كاليونيني والدمياطي وابن الظاهري وابن جماعة .
ويروى له ابن بردى أبياتا منها قوله :
أن قوما يلحون في حب سعدي لا يكادون يفقهون حديثا
سمعوا وصفها ولا موا عليها اخذوا طيبا واعطو خبيثا
أيدمر المحيوي
كان مملوكا تركيا فاعتقه سيده ولقيه ابن سعيد المغربي عند حضوره إلى مصر والشام وترجم له في كتاب المشرق فقال :
بأي لفظ أصفه ولو حشدت جيوش البلاغة لفظه لم أكن أنصفه .
نشا في الدوحة السعيدية فنمت ازاهره وطلع بالسماء النباتية فتمت زواهره جمعت لأفنانه أنواع الفنون حتى خرج أية في كل فن وبرع في المنثور والمنظوم مع الطبع الفاضل الذي عقده وبلغه من رياسة هذا الشأن ما قصده لاسيما حين سمعت قوله الذي أتى فيه بالإغراب وترك مهيارا معلقا منه بالإعجاب :
بالله أن جزت الغوير فلا تغر باللين منك معاطف الأغصان
واستر شقائق وجنتيك هناك لا ينشق قلب شقائق النعمان
وأورد له ابن شاكر مقطوعات وقصائد وموشحات تشير إلى براعته في الوصف والغزل وتشهد برقة لفظه وحسن معناه ومنها روضيته القافية التي يقول فيها :
الروض مقتبل الشبيبة موفق خضل يكاد غضاره يتدفق
نثر الندى فيه لالى عقده فالزهر منه متوج وممنطق
وارتاع من مر النسيم به ضحى فغدت كمائم ورده تتدفق
وسرى شعاع الشمس فيه فالتقى منها ومنه سنا شموس تشرق
والغصن مياس القوام كأنه نشوان يصبح بالنسيم ويغبق
والطير ينطق معربا عن شجوه فيكاد يفهم عنه ذاك المنطق
غردا يغني للغصون فينثنى طربا جيوب الطل منه تشقق
والنهر لما راح وهو مسلسل لا يستطيع الرقص راح يصفق
وسلافة باكرتها في فتنة من مثلها خلق لهم وتخلق
شربت كثافتها الدهور فما ترى في الكأس إلا جذوة تتألق
يسعى بها ساق يهيج إلى الهوى ويرى سبيل العشق من لا يعشق
تتناوم الألحاظ منه على سنا خد تكاد العين فيه تغرق
راق العيون غضاضة ونضارة فهو الجديد ورق فهو معتق
ورنا كما لمع الحسام النتضى ومشى كما اهتز القضيب المورق
وأضلنا من فرقة وجبينه ليل تألق فيه صبح مشرق
وكان مقلته تردد لفظه ليقولها لكنها لا تنطق
فإذا العيون تجمعت في وجهه فاعلم بان قلوبها تتفرق
ويورد له ابن شاكر موشحات تدل على اقتداره في هذا الفن يقول في موشح منها :
بات وسماره النجوم ,ساهر ,فمن ترى علمك السهد يا جفون ؟
صبا إلى مذهب التصابي صابى , لايعدل
فجنبه خافق الجناب نابى , مبلبل
والطرف منه دائم السكاب كابي , مخبل
لسانه للهوى كتوم ساتر لما جرى والشان أن تكتم الشجون
سباه مستملح الماني عانى , به البصر
يذكر عن شدوه الأغاني غانى , إذا ذكر
يقول ما ناظر راني راني , إلا القمر
يرنو إلى وجهه الحليم حائر لا يرى مرأى به تفتن العيون
من أين للبدر في الكمال مالي . فيوصف
والغصن هل عطفه بحالي حاني , مزخرف
وعارص النقض للهلال لالي , التكلف
ابن المرحل
صدر الدين بن الوكيل محمد بن عمر (توفي سنة 716 ه )
ولد بدمياط على أوثق الأقوال سنة 665 وانتقل مع والده الذي تولى وكالة بيت المال ومنها استمد لقبه إلى دمشق وظل بها زمنا فنشا واخذ عن والده زين الدين عمر الفقه وتتلمذ على جماعة من المشهورين مثل ابن علان والقاسم الاربلي وشرف الدين المقدسي وتعلم النحو على بدر الدين بن مالك والفقه على العلامة صفي الدين الهندي وعنه اخذ بعض اتجاهاته الكلامية .
وكان شافعيا أتقن فقه الشافعي حتى أفتى فيه وهو شاب في العشرين قال ابن كثير :شيخ الشافعية في زمانه وأشهرهم في وقته بالفضيلة وكثرة الاشتغال والمطالعة والتحصيل والافتتان في العلوم العديدة وقد أجاد في معرفة المذهب والأصلين .
وسمع الحديث وقرا كتب السنة قال ابن كثير : وكان يتكلم على الحديث بكلام مجموع من علوم كثيرة من الطب والفلسفة وعلم الكلام وليس ذلك بعلم وعمل بتفسير القرآن .
وكان إلمامه بكثير من العلوم العقلية والطبيعية والاستعانة بها في رأيه وكتاباته ودروسه موضع مؤاخذة من علماء السنة المحافظين كابن كثير كذلك قالوا انه كان غير مجيد للنحو برغم أخذه عن بدر الدين بن مالك ابن صاحب الألفية قال ابن كثير : وكان يقع منه اللحن الكثير وينبغي أن نضع في الاعتبار أن ابن كثير ما هاجم العلماء من غير مذهبه أو من وقف منهم موقف المارضة في الرأي ورماهم بما هم منه براء
وكان اتجاه ابن الوكيل في علمه عقليا اشعري العقيدة واهتم بدراسة الطب في أخريات عصره .
وأما الأدب فقد حفظ منه كثيرا من الكتب المشهورة كالمقامات وديوان المتنبي ويقال أن مجموع ما حفظه من الكتب إذا وضع بعضه على بعض كان طول قامته وقد عرف بقوة حافظته وذكائه وكان لا يمر بشاهد إلا حفظ القصيدة كلها .
قال ابن العماد :كان أعجوبة في الذكاء .
واشتغل بالتدريس في مدارس دمشق وحلب والقاهرة ففي دمشق درس بالشامية البرانية والشامية الجوانية وتولى دار الحديث الاشرفية والمدرسة العذراوية وتولى الخطابة بالجامع الأموي زمنا لكن الناس لم يمكنوه من الاستمرار قال ابن كثير (أن الناس قاموا عليه وأخرجوها أي الخطابة ـ من يده
وفي مصر درس بالمشهد الحسيني وظل به حتى وفاته وكان يختلف في لثناء ذلك إلى مدرسة الأمام الشافعي والناصرية .
واختلف فيه معاصروه فإما أصحابه من الشافعية فقد أحبوه واجلوه قال تاج الدين السبكي (كان الوالد رحمه الله تقي الدين يعظم الشيخ صدر الدين ويحبه ويثني عليه بالعلم وحسن العقيدة ومعرفة الكلام على مذهب الأشعري ).
وذكره القاضي شهاب الدين بن فضل الله العمري في تاريخه مسالك الأبصار فأثنى عليه قائلا :أمام له نسب في قريش اعرق وحسب في عين شمس أشرق وعلم لو أن البحر سطا شبهها غرق وفهم لو أن القمر سطع نظيره لأحرق وثبت طنبه على المجرة ومد رواقه فتلالات بالمسرة ونشر رايته البيضاء الأموية وحولها ثغور الكواكب المضية وارتفع أن يقاس بنظير واتضع والثريا تاج فوق مفرقه والجوزاء تحته سرير )
لكن أعداءه ومعارضيه وخاصة من الحنابلة حملوا عليه ونسبوا إليه شيئا من الأفعال والأقوال لأنه ناظر ابن تيمية وحاججه لهذا كان ابن كثير تلميذ ابن تيمية وصفيه كثير الطعن في ابن الوكيل وذكرنا طرفا من أقواله ونضم إليها قوله فيه كذلك : له أصحاب يحسدونه ويحبونه وآخرون يحسدون ويبغضونه وكانوا يتكلمون فيه بأشياء ويرمونه بعظائم .
وقال في موضع آخر : وكان مسرفا على نفسه قد القي جلباب الحياء فيما يتعاطاه من القاذورات والفواحش وكان ينصب العداوة للشيخ ابن تيمية ويناظره في كثير من المحافل والمجالس وكان يعترف للشيخ تقي الدين ابن تيمية بالعلوم الباهرة ويثني عليه ولكنه يجاهد عن مذهبه وناحية ويدافع عن طائفته .
قال*وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يثني عليه وعلى علومه وفضائله ويشهد له بالإسلام ولم قيل له عن أعماله وأفعاله القبيحة كان يقول : كان مخلطا على نفسه متبعا مراء الشيطان منه وقال ابن كثير مرة أخرى ثم خالط نائب السلطنة فجرت له أمور لا يمكن ذكرها ولا يحسن من القبائح ).
ولكن السبكي يدفع عنه اتهامات ابن كثير وغيره في طبقاته فيقول : وتقلبت به الأحوال وله مع ابن تيمية المناظرات الحسنة وبها حصل عليه من أتباع ابن تيمية وقيل فيه ما هو بعيد عنه وكثر القائل فارتاب العاقل ) .
والأمر الظاهر من هذا كله انه كان عالما متحررا فكرا وسلوكا يجالس الناس ولا يتزمت في مظهره وسلوكه وكان حسن المظهر مهتما بهندامه حسن الشكل حلو المجالسة وعنده كرم مفرط على حد قول ابن تغري بردى .
وقال ابن شاكر وكان مع اشتغاله يتنزه ويعاشر وقال : وكان حسن البزة حلو المجالسة طيب المفاكهة وعنده كرم مفرط كل ما يحصل له ينفقه بنفس ملوكية .
وذكر الشوكاني بعضا من كيد أعدائه وحساده ومحاولتهم إقامة الدعوى عليه ولكن رد كيدهم بحسن صلاته ومما روى عنه انه كبس فوجد مع جماعة يشربون الخمر فأمر النائب بمصادرته فبادر اليوم الثاني إلى القاضي واثبت محضرا شهد فيه الذين كبسوه أنهم لم يروه سكران ولا شموا منه رائحة الخمر وإنما وجدوه في ذلك البيت وفي الكان زبدية خمر وشفع له بعض الناس فأعفى من المصادرة ثم جاء كتاب السلطان بعزله من جميع جهاته التي كان يدرس بها ثم عينت له بعد أيام وظائف كثيرة وتقدم واشتهر صيته وكانت له وجاهة عند الدولة .
وقال ابن حجر : وكان فيه لهو ولعب ( قال الصفدي :حكى لي جماعة ممن كانوا يعاشرونه في خلواته انه كان إذا فرغ توضا ولبس ثيابا نظيفة وصلى ومرغ وجهه في التراب .
وتقودنا رواية أخرى مماثلة إلى ما يمكن أن تكون عليه حياة الرجل من ازدواجية فبينا نراه دينا محافظا على دينه وورعه إذا نراه يطلق لنفسه العنان بعض الشيء ليأخذ من دنياه بنصيب فقد روى انه كان يتردد إلى الصلحاء ويلتمس دعاءهم ويطلب بركتهم قال ابن الوردي . انه كان إذا جد اسأل المدامع أو هزل أذهل السامع .
ومما يروى عن طباعه انه كان في صداقته يقبل على صاحبه أول الأمر لكنه سرعان ما يمل ويتجافى قال ابن شاكر وأما أوائل عشرته فما كان لها نظير لكنه ربما يحصل عنده ملل في آخر الحال حتى قال القائل :
وداد ابن الوكيل له شبيه بلبادين جلق في المسالك
فأوله حلى ثم طيب وأخره زجاج مع لكالك
وكذلك ذكره الصفدي .
وكان كرمه وإيثاره مضربي المثل ومما روى من ذلك انه وقف له فقير وكانت ليلة عيد فقال له : شيء لله فالتفت إلى غلامه وقال :ايش معك ؟ قال مائتا درهم قال :ادفعها إلى هذا الفقير فقال له يا سيدي الليلة عيد وما معنا شيء ننفقه غدا قال : امض إلى القاضي كريم الدين وقل له : الشيخ يهنئك بالعيد فلما رأى كريم الدين غلام الشيخ قال :الشيخ يعوز نفقة في هذا العيد ودفع له ألفي درهم وثلاثمائة للغلام فلما حضر إلى الشيخ قال : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحسنة بعشرة )مائتان بألفين .
وكانت فيه عزة نفس وإباء في مواقف السلاطين ومجالسهم لم يعن للمماليك جبروتهم قال جلال الدين القزويني : كنت عند الناصر فدخل الحاجب فقال :صدر الدين بن الوكيل بالباب فقال :يدخل قال له الحاجب :بس الأرض فامتنع وقال :مثلي لا يبوس الأرض إلا لله .
ولم يشتغل ابن الوكيل شيئا من وظائف الدولة . إنما عمل بالأدب والعلم والتدريس وحاول احد كبار رجال الدولة وهو ابن الرفاقي أن يعنيه في وكالة بيت المال وسعى له فيها ولكنه أبى وكتب له يستعفيه منها شعرا :
إلى بابك المأمول وجهت آمالي وفي فضلك المعهود قصدي وإقبالي
وأنت الذي في الشام مازال محسنا إلى وفي مصر على كل أحوالي
أتتني إياد منك في طي بعضها تملك رق الحر بالثمن الغالي
وقمت بحق المكرمات وإنما هو الرزق لا يأتي بحيلة محتال
على لكم أن أعمر العمر بالشنا وبالمدح مهما عشت من غير إخلال
وقد بقيت لي من بعد ذلك حاجة لها أنت مسئول فلا تلغ تسالي
أرحني من باب الوكالة عاطفا على بإحسان بدأت وأفضال
ومن ماء وجهي عن مشاققه الورى فهذا على ارض وهذا على مال
ولا تتأول في سؤالي تركها فو الله مالي نحوها وجه إقبال
ورزقي ياتيني واني لقانع لراحة قلبي من زماني بإقلال
واتصل صدر الدين إبان وجوده بدمشق بجماعة من نواب السلطان كاقسنقر والافرم ودخل في النزاع الذي قام بين أمراء المماليك السلار وبيبرس الجاشنكير والسلطان الناصر محمد بن قلاوون والذي أنهى بخروج السلطان من القاهرة واعتزاله بالكرك بالشام .
وكان قد توجه في ذلك الحين إلى مصر للإقامة هناك وكان كما روى الشوكاني ممن أفتى بان الناصر لا يصلح للملك وتقرب إلى الجاشنكير ودس عليه أعداؤه للناصر قصيدة ذكروا انه هجاه فيها فأراد الصاحب فخر الدين بن الخليل احد أمراء السلطان القبض عليه تقربا إلى خاطر السلطان وكان لا يزال الناصر بالشام بعد العدة للعودة إلى مصر فلما أحس صدر الدين بما يدبر له فر إلى السلطان على طريق البدرية وكان قد عزم على العودة إلى القاهرة سنة 709 لتولي السلطنة للمرة الثالثة ولقيه في الرملة فدخل عليه وبمجلسه القزويني فقال له السلطان : أنت فقيه تركب البريد وتروح إلى مصر وتدخل بين الملوك وتغير الدول وتهجو السلطان فقال :حاشا لله وإنما أعدائي وحسادي نظموا ما ارادو على لساني وهذا الذي تكلمته أنا معي .ثم اخرج قصيدة في وزن تلك القصيدة التي نسبوها إليه نحو مائتي بيت فانشدها فصفح عنه قال جلال الدين القزويني : فلما أصبحنا رأيت ابن الوكيل يساير السلطان في الموكب والعسكر سائر وعظم عند السلطان .
وكان لذكائه قادرا على الإفلات من المؤامرات التي تحاك له أو المأزق التي حوله وكان قادرا أن يحول أعداءه إلى أصدقاء وحساده إلى أحباب قال ابن شاكر : لم يقع شيء بينه وبين احد من الكبار إلا عاد من أحب الناس فيه .
وكانت إقامته بالقاهرة في أخريات حياته قرب مسجد الحاكم بأمر الله ظل به إلى أن مات سنة 716 ه .
وشعره جيد في مستوى كبار شعراء عصره وان اشتهر بالموشحات خاصة ونظم كذلك الدوبيت والمخمس والزجل والبليق قال ابن شاكر : وشعره بليغ للغاية وقال ابن كثير وكان يقول شعرا جيدا وله ديوان مجموع مشتمل على أشياء لطيفة .
وقال ابن تغري بردى : كان فريد عصره ووحيد دهره وله الشعر الرائق الفائق في كل فن من ضروب الشعر وله دوبيت وله ديوان وموشحات .
وقال الصفدي وأما الشعر فلو حاذاه ابن سناء الملك فنيت ذخيرة محاذاته وحقائبه أو ابن الساعاتي ما وصل إلى درجته ولا انتهى إلى دقائقه أما الموشحات فلو وصل خبره إلى الموصلي لأصبح مقطوع الذنب أو ابن زهر لما رأى في السماء نجما إلا هوى ولا برجا إلا انقلب وأما البلاليق فابن كلفة عنده يتكلف وابن مدغليس يغلس للسعي في ركابه وما يتخلف .
وقال ابن فضل الله العمري وأدبه أشهر من رشف الرضاب وأحلى من رضا الحبائب الغضاب .
وقال ابن الوردي وهو بحر المنثور والمنظوم ووصف أدبه بأنه كان قريبا من العمة وانه فيه الحارث بن همام وان له موشحات مأثورة وأشعارا مشهورة .
وقال ابن حجر : قال الشعر فلم يتقدمه فيه احد من أنباء جنسه واتى فيه بالرقص المطرب .
وجمع ديوان شعره بنفسه وذاع في حياته وبعد موته ونقل عنه معاصروه ومن بعدهم من الأدباء والعلماء أمثال السبكي وصلاح الصفدي وابن حجر وابن شاكر والغزولي .
وموشحاته أشهر من شعره جمعها في كتاب اسماه طراز الدار قالبا اسم كتاب سابق في الموشحات لابن سناء الملك اسمه دار الطراز .
وطبع بعض شعره بطابع علمه وفقهه فاستخدم مصطلح العلوم وألفاظ الفقهاء والفلاسفة وتعبيراتهم قال الصفدي : هذا الشيخ صدر الدين بن الوكيل لما كان الفقه اعلى فنونه تجد كلامه في الغالب إذا خلا من القواعد الفقهية ينحط عن رتبة الحسن إلا ترى ما أحسن قوله في القصيدة البائية :
ما لكاس عندي بأطراف الأنامل بل بالخمر تقبض لا يحلو لها الهرب
شججت بالماء منها الرأس موضحة فحين أعقلها بالخمس لا عجب
لا يخفي ما في من المحاسن التي تقف الإفهام دون غايتها وتؤمن الأسماع بآيتها وتمتد كف الثريا إلى رفع رايتها ولولا خوف الإطالة لأعطيت هذا المقام ما يستحق .
وقال الصفدي في موضع آخر : وما أحسن قول الشيخ صدر الدين أيضا :
ولم يصلب الرواق إلا عندما قطع الطريق على الهموم وعاقها وقوله أيضا :
أرقت دم الرواق حلا لأنني رأيت صليبا فوقه فهو مشرك
وزوجت بنت الخمر لابن غمامة فصح على التعليق بالشرط املك
وهذا الأخير من نمط الأول في استعماله قواعد الفقه والتورية بالتعليق مع تضمين المثل والأول أخذه من قول سيف الدين بن المشد في مليح نصراني :
يصبو الحباب إلى تقبيل مبسمه وتكتسي الراح من خديه أنوارا
من اجل ذا أصبح الراو وق منعكفا على الصليب وشد الكأس زنارا
واتهم صدر الدين بن الوكيل بالاعتماد في شعره على معاني غيره من السابقين أو المعاصرين وادعاء قولهم لنفسه قال ابن حجر وكان يدعى شعر غيره كالبدر المنبجي وقال : وكان قادرا على النظم مطبوعا فيه غواصا على المعاني لكنه كان في المهمات يستعين بشعر غيره فقد اخذ من ابن التعاويذي قصيدة انشدها الناصر يوم قلعة الجبل .
وقال الصفدي :انه استعمل بعض شعر سيف الدين بن المشد سنة 656 كما اخذ معنى البيتين السابقين في قوله :
يا غاية منيتي ويا معشوقي من بعدك لا أصبو إلى مخلوق
يا خير نديم كان يؤنسني من بعدك صلبت على الرواق
وذكر الصفدي أن الجيد من شعره طبقة عليا وقع فيه اللحن الخفي مع مهارته العربية .
وأعجب معاصروه ببعض قصائده السائرة وخاصة بائيته في الخمر أوردها الصفدي معجبا والغزولي وابن شاكر قال فيها :
ليذهبوا في ملامي أية ذهبوا في الخمر لا فضة تبقي ولا ذهب
لا تأسفن على مال تمزقه أيدي سقاة الطلا والخرد العرب
والمال أجمل وجه فيه تصرفه وجه جميل وراح في الدجى لهب
فما كسوا رحلتي من راحها حللا إلا وعروا فؤادي الهم واكتسبوا
راح بها راحتي في راحتي حصلت فتم عجب بها وازداد بي العجب
يقول فيها بالساقية :
عاطيتها من بنات الترك عاطية لحاظها للأسود الغلب قد غلبوا
هيفاء جارية للراح ساقية من فوق ساقية تجري وتنسكب
وهي أبيات مليئة بالصبعة تعجب مزاج العصر وقد توقف التاج السبكي عند بيتين فيها معجبا : قال انشدها الحافظ أبو العباس احمد ابن محمد بن عبد الرحمن العسجدي بقراءتي عليه قال : أنشدنا صدر الدين بن المرحل لنفسه من لفظه :
ليذهبوا في ملامي أية ذهبوا في الخمر لا فضة تبقى ولا ذهب
والمال أجمل وجه فيه تنفقه وجه جميل وراح في الدجا لهب
ويورد مختارات منها يختمها بقوله : وهي طويلة انشدها العسجدي بجملتها وقد اقتصرنا على ما انتقيناه منها .
ويقول في موضع آخر : وانظر هذا الفقيه ما أحلى قوله :
شججت بالماء منها الرأس موضحة فحين أعلقها بالخمس لا عجب
وما أحسن استقصاءه الفقه في هذا المقام واحسبه قصد بهذه القصيدة معارضة ابن الخيمي في قصيدته الغزلية التي ادعاها ابن إسرائيل :
يا مطلبا ليس لي من بعده ارب إليك آل التقصي وأنهى الطلب
وقد أعجب بها إلى جانب السبكي آخرون من معاصريه ورووها على أنها نموذج من شعره الفائق الرائق وقال الصفدي في بيت منها : وما أحلى قول صدر الدين بن الوكيل :
وان أقطب وجهي حين تبتسم لي فعند بسط الموالي يحفظ الأدب
وقال الغزولي وهذا البيت بديع في معناه دقيقه وقد اعتذر عن تقطيبه بأحسن عذر وأوضحه .
واختار له ابن الوردي قوله متغزلا .
اعني على ما دهاني اعني فاني بليت بظي اغن
فتى إذ جنيت جنى وجنتيه فاللحظ يجي وباللحظ اجني
إذا قلت ثغرك صن باللثام يقول سيحميه صارم جفني
وروى له أبياتا أخرى مليئة بالصنعة وخاصة التجنيس يمدح بها الأمير سنقر نائب حلب يقول فيها :
هب النسيم فعاش من نفحاته وسرى سمير البرق في لمحاته
يطوي إلى حلب الفتى والش وق كل ردائه والوجد بعض حداته
حي الحيا قوما بمنعرج اللوى بانوا فبان الصبر عن باناته
حلوا على الوادي فاحيوا ميتا مضني قتيل ظبائه وظباته
الخ القصيدة التي تجري على هذا النسق .
واختار له السبكي أبياتا غزلية يقول فيها :
يا رب جفن قد جفاه هجوعه والوجد يعصي مهجتي ويطيعه
يا رب قلب قد تصدع بالنوى فالي متى هذا البعاد يروعه
يا رب بدر الحي غاب عن الحمى فمتى يكون على الخيام طلوعه
وهكذا يجري في بقية الأبيات إذ يلتزم لفظه يا رب في أول كل منها وأما موشحاته فقد ذكر ابن ثغري بردى أن له ديوان موشحات ومن أجمل موشحاته ما عارض به السراج المحار ويقول فيه :
ما اخجل قده غصون البان بين الورق
إلا سلب المها مع الغزلان سود الحدق
قال ابن تغري بردى وقد ذكرناها بتمامها في ترجمته بتاريخنا النهل الصافي .
ومن موشحاته الجميلة ما رواه ابن شاكر يقول فيه :
صاح صاح الهزار قم نحث الكؤوس
قد تجلى النهار فاجل بنت القسوس
ما علينا جناح أن فصل المصيف
قد تولى وراح وتولى الخريف
قم فذات الجناح ذات رمز لطيف
يقول فيه
وهي بكر تدار والسقاة الشموس
والحباب النثار فوق وجه العروس
أن عيشي الرغيد حين القي الصديق
وصباحا جديد وسلافا عتيق
ثم القي شهيد بسيوف الرحيق
ويختلط في موشحاته اللفظ العامي بالفصيح ولهذا انفق نظمه عند العامة كما يقول بعض مؤرخيه ومنه موشحته :
ما اخجل قده غصون البان بين الورق
الذي أشرناه إليه ويقول فيه :
كالورد حواه ناعم الريحان بالطل سقى
والقد يميل ميلة الأغصان للمعتنق
أحيا وأموت في هواه كمدا
من مات جوى في هواه سعدا
يا عاذلي لا اترك وجدي أبدا
لا تعذلني فكلما تلحاني زادت حرقي
يستاهل من يهم بالهجران ضرب العنق
ويتبع في موشحاته ما اتبعه في سائر شعره من الاهتمام بالاقتباس من شعر القدماء والمعاصرين والأندلسيين خاصة وتضمين مصطلح العلوم فمن اقتباساته من ابن زيدون قوله في مطلع موشح :
غدا مناديا محكما فينا من فيه جهلا عام
وناره تحرق من هم أو قد هام
وربما يقلق فتى عليه نام
قد غير الأجسام وصير الأيام سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
ويقتبس طوال الموشح في كل قفل شطرا من أبيات قصيدة نونية ابن زيدون المعروفة .
أضحى التنائي بديلا من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
ومما استخدم فيه مصطلح الفقهاء والمحدثين قوله :
دمعي روى مسلسلا بالسند عن بصري أحزاني
لما جفا من قد بلا بالرمد والسهر أجفاني
ومن قوله في الدوبيت قوله :
كم قال معاطفي الاسل والبيض سرقن ماحوته المقل
الآن أوامري عليهم حكمت البيض تحد والقنا تعتقل
ويقول :
عانقت وبالعناق يشفي الوجد حتى شفي الصد ومات الضد
من اخصمه لثما إلى وجنته حتى اشتكت القصب وضج الورد
ولم نعثر على نماذج من منظوماته العامية من الأزجال والبلاليق .
وألف صدر الدين نثرا كتابين في الأدب احدهما الأشباه والنظائر وهو مجموع في الأدب قال عنه ابن تغري بردى :انه سبق فيه إلى ما لم يسبقه احد وأثنى عليه السبكي وقال الشوكاني انه من أحسن المصنفات .
والكتاب الثاني وضعه إجابة لسؤال لا ستدمر نائب طرابلس في الفرق بين النبي والشهيد والولي والعالم .
ويذكر له السوكاني كتابا ثالثا لم يتمه قال :وشرع في شرح الأحكام لعبد الحق فكتب منه ثلاث مجلدات .
وأثنى الصفدي على مصنفاته عامة فقال : أما الأدب فلو عاينه الجاحظ لامسى لهذا الفن وهو جاهد أو الثعالب لراغ عن تصانيفه وما اعترف منها بواحد .
الوداعي –
علاء الدين علي بن المظفر ( توفي سنة 716 هـ )
الاسكندري الأصل والنشأة , الدمشقي الدار والوفاة , ولد سنة 640 بالإسكندرية وسمع من كثير العلماء يبلغون المائتين , واشتغل بالأدب ومهر في العربية وقال الشعر فأجاد , ودخل ديوان الإنشاء في آخر عمره بدمشق وتولى عدة مناصب منها مشيخة الحديث بالنفيسية . وكان من فحول شعراء دمشق في وقته , وله شعر جيد , وقالوا أن جمال الدين بن نباتة كان يعتمد عليه في شعره .
قال ابن تغري بردى : (( احد من اقتدى بهم الشيخ جمال الدين بن نباتة في ملح أشعاره وقال الشوكاني : (( وقد ذكر جماعة من متاخري الأدباء أن ابن نباتة كان يتطفل على معانيه الرائقة )) . وأورد ابن حجة في كشف اللثام جملة مما وقع فيه ذلك .
وكان يحفظ بعض كتب الأدب , منها الحماسة ) وسمع منه الذهبي برغم ما غمزه به في كتابه , وما أبداه من كراهته للأخذ عنه حيث قال : (( كان يخل بالصلاة , ويرمي بالعظائم وحملني الشره على السماع من مثله )) .
وسمع منه الحافظ المزي وغيره من المشاهير .
ولقب بالوداعي لكتابته والتزامه في دمشق بالوزير ابن وداعة , وتوفي بدمشق , ودفن بالمزة , وخلف شعرا ً ونثرا ومؤلفات منها : (( التذكرة الكندية )) تزيد على قول ابن تغري بردى – على خمسين مجلدا ً .
قال الشوكاني : وفيها فوائد كثيرة .
وديوان شعره في ثلاثة مجلدات , وذكر الشوكاني انه كان يتشيع من غير سب ولا رفض . وقال انه كان كثير الهجاء فنفر منه الناس .
ومن معانيه الطريفة في شعره قوله :
قال لي العاذل المفند فيها يوم زارت فلمت مختاله
قم بنا ندع النبوة في العشق فقد سلمت علينا الغزاله
وقال الصفدي : ما أحسن قول علاء الدين الوداعي – ومن خطه نقلت :
بمصر وسكانها جدا شوقي وجدد عهدي الخالي
وصف لي القرط وشنف به سمعي وما العاطل كالحالي
وارو لنا يا سعد عن نيلها حديث صفوان بن عمال
ومما رواه ابن إياس قوله :
لقد سمح الزمان لنا بيوم غدا فيه السمي من المسمى
يجمعنا كأنا ضرب خيط علي ٌ في علي ٌ في علي ِ
ونقل الصفدي قوله :
ولقد وقفت على الثنية سائلا ً عما أشار به فنى شيبان
فروت أحاديث الحمى عن عامر وحديث روض السفح عن إبان
ومثال هذا التضمين لأسماء المحدثين وأهل السند فيما ينقله عنه المؤلفون من شعر كنقل الغزولي قوله :
من أم بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث من أوليت منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن
قال الغزولي : (( قرة هو قرة بن خالد السدوسي وهو فقيه , وصلة هو أشيم العدوي كان من عباد التابعين , وأما جابر فهو جابر بن عبد الله صاحب رسول الله , وحسن هو الحسن البصري )) .
الشارمساحي
شهاب الدين احمد بن عبد الدائم بن يوسف الكناني ( ت 720 هـ )
شاعر مطبوع صاحب نوادر ظريفة مضحكة , وكان العامة يطلقون عليه لقبه ( الشارمساحي ) اغرم بالهجاء وثلب الإعراض , عاش بالقاهرة وكان يحضره السلطان الناصر مجلسه أحيانا . قال ابن حجر : (( وكان شاعرا مشهورا ً , وممن تعرض لهم بالهجاء من رجال عصره صدر الدين بن المرحل وابن عدلان الفقيه )) .
الاسفوني
علي بن احمد ( ت 731 )
من شعراء الصعيد في القرن الثامن . وكان من الأذكياء – كما يقول الادفوي – وكان خفيف الروح حسن الأخلاق , كريما جوادا , قال : صحبته دهرا طويلا فرأيت منه كرما جزيلا وفعلا جميلا ويقول الادفوي : (( لطيف حتى كأنه كالنسيم , يهوى الجمال المطلق فيأخذ بمجامع قلبه كل وجه وسيم , لا يرى إلا وهو ذو ارتياح , يميل طربا ويميد كما يفعل الغصن الرطيب , عند هبوب الرياح , وهو في الآداب فارس ميدانها , وفي القصائد اخو حسانها أقام بادفو سنين كثيرة , كما كان أبوه شاهد ديوانها , وكان الاجتماع به يذهب الأتراح ويجلب الأفراح , وكانت فيه فتوة ومروءة وإنسانية , وألجأته المروءة إلى الدخول في الخدم السلطانية فما غيرته عن حاله , ولا أحالته عن جميع خلاله , ولا انحرفت به إلى الحيف , ولا أطعمته في مطلوبها , ولو أن الوقت سيف )) .
شعراء الشام في القرن الثامن
1-
السراج المحار
ومن شعراء الشام في القرن الثامن من المبدعين نذكر منهم : السراج المحار : وهو سراج الدين عمر بن مسعود المشهور بالمحار ( توفي سنة 711 هـ ) وكان احد شعراء حماة في بلاط الملك المنصور . ومدحه بمدائح كثيرة , هو وولده الملك الأفضل .
وذاعت شهرته في الموشحات خاصة , وشعره بصفة عامة يدل على مقدرة على النظم والتشبيه وحسن التخييل , ومثاله وصفه لغدير صاف :
انظر إلى النهر في تطرده وصفوه قد وشى على السمك
توهم الريح صيدها فغدا ينسج متن الغدير في الشبك
وقال في صاحب لحية :
أرى لابن سعيد لحية قد تكاملت على وجهه واستقبلت غير مقبل
ودارت على انف عظيم كأنه كبير أناس في بجاد مزمل
وقال في زامرة سوداء :
ولرب زامرة تهيج يزمرها ريح البطون فليتها لم تزمر
شبهت أنملها على ضرباتها وقبيح مبسمها الشنيع الابخر
بخنافس قصدت كنيفا واغتدت تسعى إليه على خيار الشنبر
رنت نجوم الدجى نحوى فما نظرت من يرشف الراح قبلى من فم القمر
راق العتاب وأبدت لي سرائرها في ليلة الوصل بل في غرة القمر
وسوى غزله الرقيق نجد له طربيات , منها مزدوجة سماها ( مصائد الشوارد ) قالها في وصف الصيد بوادي حماة يقول :
أثنى شذا على فضل السحب واشتملت بالوشي أرداف الكثب
ما بين نور مسفر اللثام وزهر يضحك في الأكمام
إن كانت الأرض لها ذخائر فهي لعمري هذه الازاهر
قد بسطتها راحة الغمائم بسط الدنانير على الدراهم
ويقول فيها واصفا غلمان المماليك وهم يرمون الصيد :
لما دنا زمان رمي البندق سرنا على وجه السرور المشرق
في عصبة عادلة في الحكم وغلمة مثل بدور التم
وكل معسول الشباب أغيد منعطف عطف القضيب الاملد
قد حمد القوم به عقبى السفر عند اقتران القوس منه بالقمر
لولا حذار القوس في يديه لغنت الورق على عطفيه
في كفه محنية الأوصال قاطعة الأعمار كالهلال
ومجال الحديث عن شعر ابن نباتة عريض متنوع , وليست مدائحه النبوية بأقل جودة من مدائح مشهوري المداحين , وهي تجري مجراها في الروح والمعاني .
وهكذا يبدو ابن نباتة في هذا العصر ومضة حفظت على الشعر رمقه بين غثاء كثير , فقد حافظ على لمسات من الشاعرية , وبراعة التعبير جعلته جديرا بما أتيح له من الشهرة والتقدير .
وقال الصفدي معلقا على الأبيات : شبه ثلاثة بثلاثة فأبدع وقال في آنية الخمر :
يا حبذا شكل إبريق تميل به منا القلوب وتصبو نحوه الحدق
يروق لي حين اجلوه ويعجبني منه طلاوة ذاك الجسم والعنق
كم قد شربت به ماء الحياة ولن ينالني منه لا غص ولا شرق
حتى غدا خجلا مما اقبله فظل يرشح من أعطافه العرق
وقد استخدم فن التوشيح في الأغراض الشعرية التقليدية كالمديح , في كتاب توشيع التوشيح , ومنها موشحة ذائعة قال فيها :
ما ناحت الورق في الغصون . إلا . هاجت على , تغريدها لوعة الحزين
هل ما مضى لي مع الحبايب آيب بعد الحدود
أو هل لأيامنا الذواهب واهب بأن تعود
بكل مصقولة الترائب كاعب هيفاء رود
تفتر عن جوهر ثمين جلا أن تجتلي يحمى بقضب من الجفون
ونلاحظ أن هذا الوزن مطروق مستعمل خاصة بعد أن نظم فيه المحار وقلده بعض معاصريه وهو يرضى حس العصر وميل الناس للجناس , وينوع المحار في أوزانه , وأشكال بنائه للموشحات فيغير صياغته في آخر ويقول :
أرنو لبرق لاح من دون حاجر فاجري دموعي من شئون المحاجر
وهيج لي التذكار فأضرمت الأفكار
نيران الوجيب في قلبي الكئيب أو كادت تذوب
حشاشة الأشواق
وفيه يكون القفل مركبا من ثمانية أجزاء متغايرة الوزن يتعمد فيها تغيير الإيقاع ثلاث مرات , والقافية أربع مرات , ويبدأ بمقطع طويل ذي إيقاع بطيء ثم يأتي بمقطعين من وزن واحد وقافية واحدة , ثم بثلاثة مقاطع قصار مختلفة ذات قافية مشتركة , ويختم بفقرة من مقطع واحد وقافية جديدة يلتزمها في سائر الموشح , ثم يأتي الغصن مكونا من ستة مقاطع وقافيتين :
كتمت الهوى جهدي وما أنا كاتم
وقد جد بي وجدي وشوقي لازم
ونمت بما عندي دموع سواجم
فينساب النغم قصيرا مترددا ً في الغصن , حتى يصل إلى نهايته ليبدأ الإيقاع البطيء الطويل مرة أخرى في القفل التالي وهكذا .
حتى يصل إلى الخرجة في نهاية الموشح وفي القفل الأخير , فتجدها كذلك خرجة مركبة أو هما خرجتان يقول :
فكن ناصري يا دمع إن قل ناصري عسى عادلي في الحب يصبح عاذري
ومن يعشق الأقمار ولم يكتم الأسرار
يقاسي الضلوع وفيض الدموع ونار الضلوع
كذا سنة العشاق
جمال الدين ابن نباتة
( 686 – 768 هـ - 1287 – 1366 م )
حياته ونشأته : محمد بن محمد بن الحسن الفارقي الأصل المصري أبو الفضائل وأبو الفتح , وكنيته الأخيرة أشهر كما يقول المؤرخون .
وكان والده شمس الدين محمد من علماء مصر , ( توفى سنة 730 هـ ) واتصل بابن دقيق العيد واهتم بالحديث , وحدث بالقاهرة وتولى دار الحديث بدمشق زمنا ً . وولد جمال الدين بمنزل أسرته بمنشية المهراني بزقاق القناديل بالقاهرة سنة 686 أو 676 , كما يقول ابن حجر مخالفا جميع مؤرخيه .
وكانت ولادته في حياة والده وجده وكلاهما من العلماء , فاهتما بتعليمه ويروى انه دخل على ابن دقيق العيد صحبة والده في بيت كتبه , وهو لا يزال يافعا لم تتجاوز سنه الرابعة عشرة .
قال ابن نباتة : وتولعت بالنظم من ذلك الحين وكان ذلك قبل السبعمائة , سمع وروى الحديث سماعا وحضورا ً عن شهاب الدين أبي الهيجاء غازي وأبي الفضل ابن عبد الوهاب المعروف بالرادف , والشيخ عز الدين أبي نصر عبد العزيز الحصري البغدادي , والشيخ شهاب الدين الابرقوهي . أما شيوخه في الأدب فقال عنهم : (( وأما الفضلاء والأدباء الذين رويت عنهم ومنهم فهم : القاضي الفاضل محيي الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان الكاتب المصري , والشيخ الأمام بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن النحاس الحلبي النحوي , والأمير الفاضل شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الصاحب شرف الدين إسماعيل , والشيخ العالم علم الدين قيس بن سلطان المصري من أهل منية بني خصيب قرأت عليه كثيرا ً من الكتب الأدبية , والشيخ شهاب الدين احمد بن محمد المعروف بابن المفسر والشيخ الأديب الفاضل سراج الدين عمر الوراق المصري , والأديب الفاضل نصير الدين المناوي الحمامي )) . وذكر الشوكاني بالإضافة إلى هؤلاء عبد الرحيم الدميري في الحديث والفخر بن البخاري .
وتنقسم حياته إلى ثلاث مراحل : مرحلتان منها في مصر , وهما المرحلة الأولى منذ ولادته إلى باكورة شبابه حتى بلوغه الثلاثين من عمره , ثم رجولته وقضاها بالشام , والثالثة كهولته وهرمه وقضاهما بمصر حتى توفي بها سنة 786 هـ وكانت أكثر مراحل حياته نشاطا وإنتاجا المرحلة الوسطى بالشام , أقام أكثرها في دمشق وحماة , وانتقل إلى حلب مرات , وبلغ ما قضاه بالشام خمسين عاما ً . ويذكر مرحلة شبابه وطلبه العلم بمصر في أثناء وجوده بالشام , فيقول من أبيات :
دعاه لذكر الحمى مذهب وشوق أقام فما يذهب
أمصر سقتك غوادي السرور وجادك من افقها صيب
وتفتحت مواهبه الشعرية مبكرة في شبابه الأول حوالي عشرة من عمره فظل ينظمه بمصر طوال ستة عشر عاما نضج فيها نظمه واشتهر بين الأدباء في مصر وتعداها إلى الشام فلما ذهب إلى دمشق كانت قد تمت آلته وصار شاعرا مرموقا وبها وثق صلاته بكبار العلماء والأدباء مثل ابن الزملكاني وقاضي القضاة وتقي الدين السبكي وابنه تاج الدين .
ومدح ابن الزملكاني بكثير من شعره منه قصيدته التي بدأها بالنسيب والوصف وذكر الخمر يقول فيها :
وحبذا زمن اللهو الذي انقرضت أيامه الزهر والأعوام ساعات
أيام ما شعر البين المشت بنا ولا خلت من مغاني الإنس أبيات
وقال السبكي ولما قال ابن نباته هذه القصيدة في الزملكاني حاول أدباء عصره تقليده ومعارضها فما أحسنوا صنعا بل كل قصر ولم يلحق وتأخر وما جاء الحق وأشهر من عارضه الشاعر الدمشقي شمس الدين الخياط الذي اشتهر ب الضفدع وكان مغري بمعارضته وهجائه وكان من قول الخياط :
ما شاب مدحي لكم ذكر المدام ولا أضحت جوامع لفظي وهي جامات
وذكر ابن نباته القاضي ابن صصري توفي 723 ه في مطلع حياته بدمشق وانشده مدائحه ويقول وما شهدت الدرس أمرع من نقله ولا والله النفوس ابرع من عقله وما ظفر بمثله زمان وان حلف ليأتين بمثله ومدحه بقصيدة طويلة مطلعها :
أندى البرية والأنواء ماحلة واسبق الناس والسادات تزدحم
ومدح في دمشق كذلك شهاب الدين بن فضل الله العمري الكاتب صاحب ديوان الإنشاء وأخاه علاء الدين وفي إحدى مدائحه لهما يتشوق إلى مصر قائلا :
ورب شائمة عزمي ومرتحلي إلى حمى مصر أشكو جفوة الشام
قالت وراءك أطفال فقلت لها نعم ونعمي ابن فضل الله قدامي
وكان شهاب الدين إذ ذاك يلي كتابة للناصر بالقاهرة .
واتصلت أسبابه بالملك المؤيد أبي الفداء صاحب حماة توفي سنة 732 ه وقال فيه شعر كثيرا .
ثم اتصل بابنه الملك المنصور .
واتصل في حلب ببعض الرؤساء ومدحهم .
وتولى بعض مناصب الكتابة في دمشق إذ الحق بديوان الإنشاء سنة 748 وكان احد الموقعين ثم استدعاه السلطان الناصر حسن وقد كبرت سنة إلى القاهرة و ولاه موقعا بالدست سنة 761 وكان قد بلغ الخامسة والسبعين .وسار ابن نباتة على طريقة المصريين في الشعر والكتابة القاضي الفاضل وذكر انه حمل لواء الطريقة الفاضلية في عصره .
وأضاف إلى تأثره بأسلوب الفاضل في الكتابة معرفة واسعة بالآداب العربية القديمة والمعاصرة وبدا ذلك واضحا في شرحه لرسالة ابن زيدون التي سماها سرح العيون .
أما مذهبه في الشعر فقد امتزج فيه الطابع المصري الذي ساد شعر المصريين منذ البهاء زهير بالطابع القديم ويجمع في أسلوبه بين السهولة والميل والى ضروب البديع وخاصة النورية والجناس والتشبيه والاستعارة والاقتباس والتضمين بمعاني القدماء ولكن دون تكلف يثقل على الذوق وقد افتخر في قصيدة له يمدح علاء الدين فضل الله العمري بأنه يفوق الجزار والحمامي من شعراء الطبقة السابقة .قال :
خذها منظمة الأسلاك معجزة بالجوهر الفرد فيها كل نظام
مصرية من بيوت الفضل ما عرفت فيها بنسبة جزار وحمامي
واعتبره معاصروه أمير الشعر وحامل لواء الشعراء وتتلمذ عليه في الأدب جماعة من كبار شعراء القرن الثامن وأدبائه حذوا حذوه وساروا على طريقته . وكان صلاح الدين الصفدي من اقرب أدباء العصر لابن نباته ومن أكثرهم تأثرا بطريقته واعتمادا عليه في نظمه ونثره حتى اشتهر ذلك بين معاصريه وتعقبه ابن حجة في أكثر من كتاب من كتبه وقال ابن إياس : ومما وقع للشيخ جمال الدين هذا انه كان يخترع المنى الغريب في شعره الذي لم يسبق إليه فيعارضه فيه صلاح الدين الصفدي ويأخذه منه وزنا وقافية وينسبه إلى نفسه .
نثره وكتابته :
لم يكن ابن نباتة من كتاب الرسائل الديوانية , وان تولى بعض مناصب الإنشاء , لكن كانت له رسائل في موضوعات أدبية واخوانية , من أمثلها قوله في تولي الشباب :
(( أي والله تولى الشباب وخمد آب الذهن اللهاب , وخلا الفكر الحائم من صوب والفهم الخارم من صواب , واقصر من نظمه ونثره من كانت له في الإنشاء نضأة وكانت له في الشعر أسباب , وغض بصر القريحة وتقلص ذيلها , فما يرفع لها ولا نجر أهداب , واختبأ لسان المنشئ والمنشد عجزا ً وأغلق له من شفتيه مصراعي الباب )) .
من تواقيعه في أثناء توليه الكتابة التوقيع بدمشق بمسامحة بعض الأوقاف بدمشق سنة 748 هـ يقول : (( الحمد لله الذي أرهف لعزائم الموحدين عزبا ً , وأطلعهم بهممهم حتى في مطالع الغرب شهيا ً , وعرف بين قلوب المؤمنين حتى كان البعد قربا ً , وكان القلبان قلبا وأيد بولاء هذا البيت الناصري ملوك الأرض وعبيد الحق سلما ً وحربا ً , وعضد ببقائه كل ملك . إذا نزل البر أنبته يوم الكفاح أسلا , ويوم السماح عشبا ً , وإذا ركب البحر لنهب الأعداء وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ً , وإذا بعث هداياه المتنوعة كانت عرابا تصحب عربا ً , ورياضا تسحب سحبا ً , وإذا وقف أوقاف البر سمعت الآفاق من خط يده قرانا عجبا ً , واهتزت بذكره عجبا ً )) .
ومنها : (( وذو الولاء قريب وإن نأت داره . ودان بالمحبة وإن شط بحره ومزاره , وهو بأخباره النيرة محبوب كالجنة قبل أن ترى , موصوف كوصف المشاهد وإن حالت عن الاكتمال بطلعته أميال السرى . ولما كان السلطان أبو الحسن , سر الله ببقائه الإسلام والمسلمين وسره بما كتب عن اسمه في أصحاب اليمين وما أدراك ما أصحاب اليمين , هو الذي مد اليمين بالسيف والقلم وكتب في أصحابها وسطر الختمات الشريفة , فنصر الله حزبه بما سطر من أحزابها ومد الرماح ارشية فاشتقت من قلوب الأعداء قلبيا ً , والأقلام أدوية فشفت ضعف البصائر وحسبك بالذكر الحكيم طبيبا ً )) .
وشارك في الحديث عن وقائع العصر العسكرية , فوصف حصارا ً بالنار قال : (( فما كان إلا ريثما ابتسمت له النار عن الموت العابس , وعاملتهم من أعمال وقودها باليابس , وجاءت بما يفضح ملابس الجلود وجلود الملابس . وأصلتهم نارا بنت بها أيدي الأبراج حمالة الحطب , وإذا بأبدان البدنات القائمة قد قعدت , والأبراج لتلاوة الحرب قد سجدت , فهنالك هجمها المسلمون هجوم الليث الكرار , وقطعت السنة السيوف المجادلة حجج رقاب الكفار )) .
ومن رسائله رسالة فكهة في حمام يشكو فيها من سرقة شاشه وكتب للصفدي رسالة مطولة يجيزه فيها بما روى وألف .
وله رسالة في الخيل تشبه رسالة شهاب الدين محمود .
ونثره يشبه نثر معاصريه , يكثر فيه من صنعة البديع وخاصة التورية والجناس والطباق والمقابلة , وحسن التعليل , والاقتباس من القرآن ومأثور الكلام شعرا ونثرا ً , وهو في مستواه العام اقل درجة من شعره , واقل إشراقا من كتابة غيره من الكتاب النابهين في هذا الفن ممن مر ذكرهم كالشهاب محمود , ومحيي الدين عبد الظاهر .
شعره : ويعد جمال الدين شاعرا ولا يعد كاتبا ً , فديوان شعره كبير , وقد اعتد بوراثته الأدب عن آبائه وأجداده فهو ينتسب إلى الخطيب ابن نباتة من كبار أدباء القرن الرابع . يقول :
ورثت اللفظ عن سلفي فأكرم بآل نباتة الغر السراة
فلا عجب للفظي حين يحلو فهذا اللفظ من ذاك النبات
ولكنه اشتكى من ضيعة أدبه بين معاصريه فقال :
فكفى من وضوح حالي إني في زماني هذا من الأدباء
ضاع فيه لفظي الجهير وفضلي ضيعة السيف في يد شلاء
ويعتد بأدبه اعتداد كل مقتدر فيقول :
من مبلغ العرب عن شعري ودولته أن ابن عباد باق وابن زيدونا
إذا رأيت قوافيها وطلعتها فقد رأت مقلتاك البحر والنونا
كأن ألفاظها في سمع حسدها كواكب الرجم يحرقن الشياطينا
ويتلاعب في شعره بصنعة البديع تلاعبا رقيقا ً وينقش به أبياته نقش مقتدر .
وله وقد اقتبس في مطلعها من القرآن من سورة التكوير :
نفسي عن الحب ما أغفت وما غفلت بأي ذنب – وقال الله – قد قتلت
دعها ومدمعها الجاري لقد لقيت ما قدمت من أسى قلبي وما عملت
وفيها من التلاعب بالتورية والجناس فنون , كقوله :
استودع الله أعطافا شوت كبدي وكلما رمت تجديد الوصال قلت
عمر بن الوردي
ومن شعراء الشام في هذا القرن عمر ابن الوردي ( توفي سنة 749 هـ ) وهو زين الدين عمر بن المظفر بن عمر بن علي المعري الحلبي الشافعي , ولد ونشا بالمعرة فقد كان بها والده , وبرع في علوم اللغة والأدب والفقه ونظم الشعر وقد نظمه في درجة المجيدين .
وكان يذهب في شبابه مذهب شعراء عصره في الغزل بالمذكر ووصف الحر .
ومما اثر عنه في شعر متداول قوله :
مر بي مقرطق ووجهه يحكي القمر
هذا أبو لؤلؤة منه خذوا ثار عمر
وتولى بن الوردي بعض الأعمال الرسمية , فناب في الحكم في قضاء حلب وولي قضاء منبج زمنا لكنه لم يوفق فيه , وكان ابن الزملكاني قاضي قضاة الشام قد ولاه قضاءها وهو كاره , فكتب إليه قصيدة يرغب فيها في العودة إلى قضاء حلب , فلما تعذر اعرض عن القضاء وخلع نفسه .
قال :
خلعت ثوب القضاء عمدا ً ولم أكن فيه بالظلوم
إن زال جاه القضاء عني كان لي الجاه بالعلوم
واكتفى بالعلم وبالتدريس والتأليف , بعد أن مل القضايا ومشكلاتها بين الناس . قال :
إني تركت عقودهم وفروضهم وفسوخهم والحكم بين اثنين
ولزمت بيتي قانعا ً ومطالعا كتب العلوم وذاك زين الزين
وقد يعمد في بنائه إلى البساطة في التركيب , كذلك الموشح الذي رواه الصفدي ويتكون من قفل ذي أربعة أجزاء اثنان منها طويلان والآخران قصيران , وغصن من أربعة مصاريع متساوية مقفاه يقول :
ترى دهر مضى بكم يؤوب منيبا
ويضحى روض آمالي الجديب خصيبا ً
عسى صب تملكه هواه
يعاود جفن مقلته كراه
ويبلغ من وصاكم مناه
ويرجع دهرنا عما جناه
وبدراسة موشحات المحار يمكن التعرف على جوانب التجديد النغمي الذي ادخله المصريون والشوام على الموشح الأندلسي الذي كتب له أن يحيا في مصر والشام بعد سقوط الأندلس دهرا طويلا ً .
ويعبر مرة أخرى عن برمه بالقضاء , وبما يبذل الناس في سبيله من الجهد والمال :
قيل لي تبذل الذهب بتولي قضايا حلب
قلت هم يحرقونني وانأ اشتري الحطب
وانصرف للتأليف وعمل الشعر فكانت له الكتب العديدة في الفقه والأدب منها في الفقه : (( البهجة الوردية في نظم الحاوي في الفتاوي )) وهو مجموع فوائد فقهية منظومة , نظمها في خمسة آلاف وسبعين بيتا ً , واتى فيها على كتاب الحاوي الصغير للفتاوي بغالب ألفاظه , واقسم بالله لا ينظم احد بعده في الفقه إلا ويقصر دونه .
ونظم في النحو ( ضوء الدرة ) على ألفية ابن معطي , وشرح ألفية ابن مالك وله منظومة ( اللباب في الإعراب ) وشرحها واختصار ( ملحة الإعراب ) نظما ً و ( تذكرة الغريب ) نظما ً وشرحها , والمسائل المذهبية في المسائل الملقبة ) و ( أبكار الأفكار ) في تتمة تاريخ حماة .
وله أرجوزة في تعبير المنامات وأرجوزة في خواص الأحجار .
وله في الأدب : (( منطق الطير )) مجموع من النظم والنثر و ( مقامة في الطاعون ) ومجموع رسائل , و( الكلام على مائة عام ) وهو مائة مقطوعة منظومة , و ( الدراري السارية في مائة جارية ) وهي مائة منظومة أخرى في محاسن النساء .
وقال الصفدي في شعره: ( (شعره أحلى من عيون الغيد , وأبهى من الوجنات , ذوات التوريد )) وقال السبكي : ( (شعره أحلى من السكر المكرر , وأعلى قيمة من الجوهر )
واتهمه الصفدي بسرقة معاني شعره , ولكن ابن حجر ينفي ذلك , قال : (( وذكر الصفدي في أعوان النصر في أعيان العصر انه اختلس معاني شعره , وانشد في ذلك شيئا ً كثيرا ً , ولم يأت على أن ابن الوردي هو المختلس , بل المتبادر إلى الذهن عكس ذلك )) .
وله أبيات جيدة في الوصف منها قوله يصف الناعورة :
ناعورة ماعورة للبين ثكلى حائرة
الماء فوق كتفها وهي عليه دائره
ونلاحظ في شعره مرحلتين متباينتين في المعاني والأسلوب , أما المرحلة الأولى فهي مرحلة شعر الشباب ومطلع الرجولة , وفيها يتجه في موضوعاته إلى مباهج الدنيا ومسراتها ويكثر القول فيها في الغزل , ووصف الخمر والمجون كما يتجه بالمديح لكثير من رجالات عصره , أما المرحلة الثانية من شعره فيغلب عليها الشكوى والعلل , والإعراض عن ملاقاة الحياة ومباهجها والزهد والاعتذار عما بدر منه في شبابه ويرضى قانعا ً بحاله وبما قسم الله له من عوز , مع علمه وتقدمه رغم ما يرتع فيه كثير من الجهلة من الغنى والثراء . يقول :
ما الأغنياء الأغبياء حجة يكفيك أن القوم جهال
رضيت ما يقسمه ربنا لنا علوم ولهم مال
بدر الدين الغزي ( 706 – 753 )
الحسن بن علي بن احمد , قال ابن حجر : (( تعانى النظم فبرع فيه )) وانتحب ابن فضل الله العمري من ديوانه نحو أربعة كراريس , وبالغ في الإطراء عليه .
وكانت بينه وبين جمال الدين ابن نباتة منافرة شديدة , وله فيه هجاء واتفق أن قرأ على ابن نباتة قطعة من نظمه ونثره فكتب له : (( الحمد لله حاشى من فخر , والصلاة والسلام على محمد ما نبح الكلب ضوء القمر )) واستمر على هذا النهج وهي من عجائب إنشاء ابن نباتة .
ومدح القاضي الخطيب جلال الدين القزويني , وأولاده وغيرهم من أعيان دمشق .
وشعره رقيق متنوع الموضوعات , وله فيه معان مبتكرة جيدة , منها قوله في الشمعة :
كالشمع يبكي ولا يدري أعبرته من صحبة النار أم من فرقة العسل ؟
ومن غريب ما يروى له , ما قاله في إحساسه بخمول الذكر :
لا تشكون من الخمول فربما كان الخمول إلى السلامة سليما ً
لولا كمون الدر في أصدافه ومشقة استخدامه ما فخما
وقوله :
لا تشك فالأيام حبلى ربما جاءتك من أعجوبة بجنين
فكذا تصاريف الزمان مشقة في راحة وخشونة في لين
ما ضاع يونس بالعراء مجردا ً في ظل نابتة من اليقطين
وقال في المعنى نفسه , مستغلا مصطلح النحو :
قالوا نزلت فقلت الدهر اقسم بي لا وجه للرفع في المجرور بالقسم
ويجري في شعره مجرى زملائه من شعراء العصر , ويكاد يميزه تحفظ قليل في الصنعة , فلا يوغل فيها بإسراف كما يفعل الصفدي أو ابن الوردي ويكثر من الشكوى , والنظر إلى الحياة تلك النظرة السوداء التي ينظرها الغاضبون الغرباء .
شمس الدين الخياط
المعروف بالضفدع(693 _ 756 )
محمد بن يوسف بن عبد الله الدمشقي الحنفي الشاعر اشتغل بالأدب ولازم شمس الدين بن الصائغ وشهاب الدين محمود واتصل بابن صصري ومدحه ومن مدائحه قصيدة مطلعها:
أما ولواحظ الحدق الواجي لقد أصبحت منها غير ناجي
وقرظها الشهاب محمود وكان النظم سهلا على الخياط فأكثر فيه حتى بلغ ديوانه ستة مجلدات ودخل الديار المصرية فمدح أعيانها واتصل بالناصر فمدحه بقصيدة قراها عليه القاضي جلال الدين القزويني .
قال الصفدي ( كان طويل النفس في الشعر لكن لم يكن له غوص على المعاني والاحتفال بطريقة المتأخرين لكنه مقراض الإعراض فكان هجوه أكثر من مدحه وقد أهين بسبب ذلك وصفع وذلك انه حج سنة 755 فلم يترك في الركب أحدا إلا هجاه فاجمعوا عليه بسبب ذلك ورفعوه إلى أمير الركب فاستحضره وأهانه جدا وحلق لحيته وصرفه ينادي عليه فانزعج من ذلك ومات كمدا )
ويذكر ابن كثير انه كان قد أثرى مما اخذ من الناس بسبب المديح والهجاء .
واتهمه ابن حجر بأنه كان ( عريض الدعوى قليل الجدوى )يعني أن شعره كان اقل مما يدعيه من المقدرة ويبدو انه أحس بعدم استطاعته مباراة غيره من كبار شعراء عصره كابن نباته في جيد الشعر فاتجه إلى الهجاء ليحصل به على كسبه .
بدر الدين الغزي
( 904 _984 _ 1499 _ 1577 )
توطئه وتعريف :
أبو البركات بدر الدين محمد بن محمد بن محمد الغزي العامري الدمشقي يتصل نسبة بعامر بن لؤي أخي كعب بن لؤي جد النبي من سلسلة النسب النبوي ولد سنة 904 (1399 م) وكان من فقهاء الشافعية البارزين والمعروف عنه انه كان عالما بالأصول ومتضلعا من التفسير والحديث له مائة وبضعة عشر كتابا منها ثلاثة تفاسير وهي موجودة ضمن عشر كتابا منها ثلاثة تفاسير وهي موجودة ضمن ذخائر المخطوطات في دار الكتب الظاهرية أولها ( قطعة من تيسير التبيان في تفسير القرآن ) وثانيها (التفسير المنظوم الصغير ) وهو يحتوي على نصوص فصول من القرآن متتابعة وهو يحتوي على نصوص فصول من القرآن متتابعة ثم تفسير كل واحد منها نظما وقد تضمن النظم نص الآيات بالحرف وثالثها : ( التفسير المنظوم الكبير ) وهو بخط المؤلف نفسه وفي شذرات الذهب وكشف الظنون انه مائة ألف بيت وثمانون ألف بيت ومن مؤلفاته أيضا * المراح في المزاح )وهو مطبوع و (المطابع البدرية في المنازل الرومية ) وجواهر الذخائر في الكبائر والصغائر )أما رسالته (آداب المؤاكلة )فهي موجودة عندي مخطوطة ضمن مجموع قد نشرتها في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق في المجلد 42 الجزء الثالث والجزء الرابع سنة 1969 .
النص :
ألف الشيخ بدر الدين الغزي رسالة في آداب المؤاكلة وقد أورد واحد وثمانين عيبا من عيوب الناس خلال تناولهم الطعام ومن هذه العيوب التي ذكرها حديثه عن المعرض .
والمعرض هو الذي يعرض بذكر ما اخل به رب المنزل من الأطعمة ولو في حكاية يوردها فان في ذلك نوع استصغار لهمة صاحب المنزل أن لم يقدر على إحضاره في الوقت كمن يطعم الأرز باللبن فيقول أن هذا الطعام نافع وإذا أكل بالسكر كان سريع الانهضام كثير التغذية فيضرب صاحب المنزل ويضطر إلى إحضار السكر وكذلك إذا كان في الطعام جنس ما عرض به لكنه قليلا فيحتاج رب المنزل إلى الزيادة ويخجله أن لم يكن عنده وحكي أن المأمون طلب من علي بن هشام أن يعمل له دعوة ولم يمهله الزمان الذي يمكن أن يحتفل فيه لدعوته فلما دخل المأمون دار علي شاهد من آلات التجمل ما حار له .فقال : ما ظننت أن احد تبلغ مروءته ونبله إلى ما أرى فخاف محمد بن عبد الملك على علي من المأمون فقال : يا أمير المؤمنين أن عليا شعر بأننا نهجم عليه فاستعد لنا واستعار فلم يفطن علي لمقصوده وظنه يذهب إلى الاستنقاص بمروءته فبذر وحلف برأس المأمون أن كان استعان بأحد في تجمله واستعار شيئا فلما جلسوا على الطعام غمز المأمون أبا احمد ولد الرشيد فقال أبو احمد : اشتهي مخا فنقلت صحاف المخ وهو يأكل ويستزيد فلما شعر الطباخ بمقصوده قال للاستادار علي بن هشام : ويحك أن هؤلاء إنما قصدوا الزري على مروءة سيدنا ونبله ولا ينبغي لنا أن نمكن من ذلك وقد ذبحت كل ما عندي وملأت الصحاف بمخه وهم غير مقنعين ولا يملا عيونهم إلا المخ المهري وكان لعلي مهر يسابق الريح وقد اشتراه بعشرة آلاف درهم فقال له : وما انتظارك به فقال : نستاذنه فقال : ليس هذا وقت إذن فبادر الطباخ إلى الفصيل فذبحه وخلص عظامه وسلقها واستخرج المخ وصار بصحاف المخ وهم يأكلون وأبو احمد يستزيد إلى أن استحيا المامون وغمز أبا احمد فامسك .
المحبـــي
(1061 ـــ 1111 ه , 1650 ــــ 1699 م )
توطئه وتعريف :
محمد أمين بن فضل الله بن محب الله بن محمد المحبي , الحموي الأصل الدمشقي .
ولد في دمشق سنة 1061 1651 وسافر إلى الاستانة وبروسة وادرنة ومصر وولي القضاء في القاهرة مؤرخ وباحث أديب لغوي صنف آثارا مختلفة منها كتابه المشهور (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر ) وهو مطبوع ونفحة الريحانة ورشحه طلي الحانة قلد فيه الخفاجي في كتابه (ريحانة الالباء )ومن آثاره أيضا قصد السبيل بما في اللغة من الدخيل وهو معجم على حروف الهجاء وصل فيه إلى حرف الميم وما يقول عليه في المضاف والمضاف إليه وجنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين )وهو مطبوع والأمثال وقد خلف له ديوان شعر ما زال مخطوطا توفي سنة 1111 1699 م .
النص : قال المحبي في مقدمة كتابه ( خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر ) يصف حبه للمطالعة , ويشير إلى أعلام عصره :
(( وبعد , فاني منذ عرفت اليمين من الشمال , وميزت بين الرشد والضلال , لم ازل ولوعا بمطالعة كتب الأخبار مغرى بالبحث عن أحوال الكمل الأخيار , وكنت شديد الحرص على خبر اسمعه , أو على شعر تفرق جمعه فاجمعه , خصوصا لمتاخري أهل الزمن المالكين لازمة الفصاحة واللسن , من كل ملك تتلى سورة فخره بفم كل زمان , وأمير لم تبرح صورة ذكره تجلى على ناظر كل مكان وأمام لم تنجب أم الليالي بمثاله , وأديب تعتز معاطف البلاغة عند سماع فضله وكماله , حتى اجتمع عندي ما طاب وراق وزين بمحاسنه الأقلام والأوراق , فاقتصرت منه على أخبار أهل المائة التي أنا فيها , وطرحت ما يخالفها من أخبار من تقدمها وينافيها , حرصا على جمع ما لم يجمع , وتقييد شيء ما قيل إلا ليسمع , ووقع اختياري , على إضافة كل اثر إلى ترجمة من اسند إليه حسبما يعول من باب التاريخ عليه , فصار تاريخ رجال وأي رجال , يضيق عند سرد مآثرهم من الدفاتر المجال . . .
وما أقدمني على هذا الشأن , إلا تخلف أبناء الزمان , عن إحراز الفضل في هذا الميدان :
لعمر أبيك ما نسب المعلى إلى كرم الوفاء وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوح نبتها رعي الهشيم
فانا ذلك الهشيم الذي سد مسد الكريم , كيف وقد نجم نجم الجهل وصوح نبت بيت الفضل , وصدئت القلوب , وضعف الطالب والمطلوب , وربما يظن أن ما تخالج في صدري وهجس , لرعونة أوجبها الفراغ والهوس , كلا بل ذلك الأمر يستحسنه اللبيب , ويحسن موقعه لدى كل أريب , لما فيه من بقاء ذكر أناس شنفت مآثرهم الأسماع , وجمع أشتات فضائل حكم الدهر عليها بالضياع , وليس غرضي إلا أداء حقهم المفترض , وابرأ إلى الله من تهمة الغرض )) .
التهانوي
( 0 00 – 1158 هـ ؟ - 000 – 1745 م ؟ )
توطئة وتعريف :
محمد بن علي بن محمد حامد بن محمد صابر المولولي الفاروقي الحنفي التهانوي , وهو باحث هندي الأصل , لا نعرف على الضبط تاريخ ولادته ووفاته ومن آثاره ( كشاف اصطلاح الفنون ) وهو مطبوع في مجلدين مرتين , وقد أنهى تصنيفه سنة 1158 ه ـ وكتاب ( سبق الغايات في نسق الآيات ) وهو مطبوع أيضا . توفي بعد سنة 1158 هـ( 1745 ) م .
قال التهانوي في حديثه عن العلوم (( العلوم العربية )) :
(( في ( شرح المفتاح ) : اعلم أن علم العربية المسمى بعلم الأدب علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا أو كتابة وينقسم على ما صرحوا إلى اثني عشر قسم , منها أصول هي العمدة في ذلك الاحتراز ومنها فروع . أما الأصول فالبحث فيها , أما عن المفردات من حيث جواهرها فعلم اللغة , أو من حيث صورها وهيئاتها فعلم الصرف , أو من حيث انتساب بعضها إلى بعض بالأصلية والفرعية فعلم الاشتقاق , وأما عن المركبات على الإطلاق , فأما باعتبار هيئاتها التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية فعلم النحو , وأما باعتبار أفادتها لمعان زائدة على أصل المعنى فعلم المعنى , أو باعتبار كيفية تلك الفائدة في مراتب الوضوح فعلم البيان , وأما عن المركبات الموزونة فأما من حيث وزنها فعلم العروض أو من حيث أواخر أبياتها فعلم القافية .
أما الفروع فالبحث فيها أما أن يتعلق بنقوش الكتابة فعلم الخط , أو يختص بالمنظوم فعلم عروض الشعر , أو بالمنثور فعلم إنشاء النثر من الرسائل أو من الخطب أو لا يتخص بشيء منها فعلم المحاضرات ومنه التواريخ , وأما البديع فقد جعلوه ذيلا لعلمي البلاغة لا قسما برأسه .
( وفي ( إرشاد القاصد ) للشيخ شمس الدين الاكفاني السخاوي , : الأدب : وهو علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة وموضوعه اللفظ والخط من جهة دلالتهما على المعاني , ومنفعته : إظهار ما في نفس الإنسان من المقاصد وإيصاله إلى شخص آخر من النوع الإنساني حاضرا كان أو غائبا ً , وهو حيلة اللسان والبيان . وبه يتميز ظاهر الإنسان على سائر أنواع الحيوان , وإنما ابتدأت به لأنه أول أدوات الكمال , ولذلك من عري عنه لم يتم بغيره من الكمالات الإنسانية .
وتنحصر مقاصده في عشرة علوم وهي : علم اللغة وعلم التصريف وعلم المعاني وعلم البيان وعلم البديع وعلم العروض وعلم القوافي , وعلم النحو وعلم قوانين الكتابة , وعلم قوانين القراءة وذلك لان نظره أما في اللفظ أو الخط , والأول : فإما في اللفظ المفرد أو المركب , أو ما يعمهما .
وما نظره في المفرد فاعتماده أما على السماع وهو اللغة أو على الحجة وهو التصريف .
وما نظره في المركب فاما مطلقا أو مختصا بوزن , والأول أن تعلق بخواص تراكيب الكلام وأحكامه الاسنادية فعلم المعاني : وإلا فعلم البيان والمختص بالوزن فنظره أما في الصورة أو في المادة . والثاني علم البديع والأول أن كان مجرد الوزن فهو علم العروض وإلا فعلم القوافي .
وما يعم المفرد والمركب فهو علم النحو , والثاني فان تعلق بصور الحروف فهو علم فوانين الكتابة , وإن تعلق بالعلامات فعلم قوانين القراءة وهذه العلوم لا تختص بالعربية بل توجد في سائر لغات الأمم الفاضلة كاليونان وغيرهم .
واعلم أن هذه العلوم في العربية لم تؤخذ عن العرب قاطبة , بل عن الفصحاء البلغاء منهم , وهم الذين لم يخالطوا غيرهم كهذيل وكنانة , وقيس غيلان ومن يضاهيهم من عرب الحجاز , وأوساط نجد . فأما الذين صاقبوا العجم في الأطراف فلم تعتبر لغاتهم وأحوالهم في أصول هذه العلوم , وهؤلاء كحمير , وهمدان , وخولان , والازد , لمقاربتهم الحبشة والزنج وطي وغسان لمخالطتهم الروم بالشام , أو عبد القيس لمجاورتهم أهل الجزيرة , وفارس . ثم أتى ذوو العقول السليمة والأذهان المستقيمة ورتبوا أصولها وهذبوا فصولها , حتى تقررت على غاية لا يمكن المزيد عليها )).
ابن النقيب , ناصر الدين :
الحسن بن شاور بن طرخان بن الحسن ( توفي سنة 680 هـ ) .
كان من شعراء القاهرة المعدودين في القرن السابع , وصحب الجزار والوراق وابن سعيد عند حضوره إلى القاهرة , والتقى به العلامة أثير الدين أبو حيان قبيل وفاته . قال : (( جالسته بالقاهرة مرارا ً وكتبت عنه )) .
وكان عالما , حتى أن أبا حيان يذكر أن الدمياطي الفقيه والشيخ فتح الدين بن سيد الناس وغيرهما اخذوا عنه , وكانت له مع شهاب الدين محمود صحبة ومجالسة ومذاكرة في القريض .
وقال الشهاب عن شعره (( وشعره جيد عذب منسجم فيه التورية الرائقة اللائقة المتمكنة , وهو احد فرسان تلك الحلبة الذين كانوا من شعراء مصر في ذلك العصر . ومقاطيعه جيدة للغاية , وله ديوان في مجلدين )) . وقال ابن تغري بردى : (( كان من فضلاء الأدباء )) .
وألف من الكتب : (( منازل الأحباب ومنازه الألباب )) في مجلدين وهو اشعر من الحمامي والسراج الوراق وإن ذاع اسم الوراق أكثر منه . لخفة روحه وميل الناس له لدعابته .
ومن مراسلاته الشعرية ما كتب به إلى الوراق يقول :
ما زلت مذ غبت عنك في بلدي تصفح عنها حتى أزحت علتها
أقمت أجرانها على عجل وبعد هذا خزنت غلتها
وكتب إليه ابن سعيد المغربي :
أيا ساكني مصر غدا النيل جاركم فأكسبكم تلك الحلاوة في الشعر
وكان بتلك الأرض سحر وما بقي سوى اثر يبدو على النظم والنثر
فأجابه ابن النقيب :
ولما أتيت الثغر زاد حلاوة وخليته أغلى من الشذر والدر
فرحت ولي شوق وما كنت شيقا ً لملثم ذاك الثغر لولاه في الثغر
فلا تطلبن سحر البيان بأرضنا فكم فيه موسى مبطل أية السحر
ولا رقة الشعر الذي كان أولا وكيف رقيق الشعر مع قسوة الدهر
وكانت تجمعه بالسراج خاصة صداقة وطيدة , وكان السراج يسكن الروضة فبعث إليه ابن النقيب متشوقا ً :
يا ساكن الروضة أنت المشتهى من هذه الدنيا وأنت المقتضى
ويا سرور النفس بين الشعرا أنت الرضى فيهموا والمرتضى
ويا سراجا لم تزل أنواره تعيد مسود الليالي ابيضا
مالي أراك قاطعا لواصل ومعرضا عن مقبل ما اعرضا
وأجابه السراج :
يا سهم عتب جاء من كنانة أصبت من سواد قلبي الغرصا
لكن أسوت ما جرحته بما أعقبته من العتاب بالرضا
يا ابن النقيب ما أرى منقبة إلا وأولتك الثناء الابيضا
إن ولائي حسن في حسن إذ ما أرى لعمر أن يرفضا
وقد أشار ابن النقيب إلى ما كان بينه والوراق من الود , والتلازم , والتزاور , وكثرة التردد كل على دار صاحبه . فقال :
لو فر بغلي من اصطبلي لقلت لمن يجري وراه تمهل أيها الجاري
ففي زقاق سراج الدين موقفه أو ذلك الخط أو في حومة الدار
فأجابه الوراق :
أفدى خطاك ولو كانت على بصرى لكان في ذاك تشريف لمقداري
وإن دارك صان الله مالكها اعز عندي من أهلي ومن داري
وما بين أيدينا من شعره يشير إلى اقتداره على الصياغة الجيدة , على النمط القديم والجديد معا . ومن شعره السهل غير المتكلف الذي يرصعه بالبديع قوله :
قلدت يوم الببن جيد مودعي دررا ً نظمت عقودها من ادمعي
وحدا بهم حادي المطي فلم أجد قلبي ولا جلدي ولا صبري معي
ودعتهم ثم انثنيت بحسرة تركت معالم معهدي كالبلقع
ورجعت لا ادري الطريق ولا تسل رجعت عداك المبغضون كمرجعي
واشد ما بي في القضية شامت قد جاءني في صورة المتوجع
يا صاحبي أنصت لأخبار الهوى حاشا لمثلك أن يقول ولا يعي
إني احدث في الهوى بعجائب وغرائب حتى كأني الأصمعي
يا نفس قد فارقت يوم فراقهم طيب الحياة ففي البقا لا تطمعي
هيهات يرجع شملنا بالاجرع ويعود أحبابي الأولى كانوا معي
وشاع في شعره على شاكلة كثير من معاصريه اصطلاح العلوم . كالفقه في قوله :
يا مالكي ولديك ذلي شافعي ما لي سالت فما أجبت سؤالي
فوخدك النعمان إن بليتي وشكيتي من طرفك الغزالي
فاستغل بعض أسماء المذاهب والفقهاء المشهورين كالنعمان والغزالي ويستخدم ما جرى بين الناس وشاع بين المماليك ومجتمعهم من ألفاظ كالنوبة وأمير النوبة في قوله :
أقول لنوبة الحمى اتركيني ولا يك منك لي ما عشت نوبة
فقالت كيف يمكن ترك هذا وهل يبقى الأمير بغير نوبة
واقتبس من القرآن وقصصه في مثل قوله :
ما كان عيبا ً أن تفقدني وقلت : هل اتهم أو انجدا
فعادة السادات من قبل أن يفقدوا الأتباع والاعبدا
هذا سليمان على ملكه وهو بأخبار له يقتدي
تفقد الطير وأجناسها فقال ما لي لا أرى الهدهدا
فيشير إلى قصة سليمان الحكيم مع ملكة سبأ .
وله بعد ذلك كله كسابقيه قصائد ومقطعات يشكو فيها الفقر والعوز : ونذكر منها هذه الأبيات الغريبة في أسلوبها وصورها . يقول :
نحن إلا قطاعة الأجناد وبرايات غر هذا النادي
نحن إلا حكاية وخيال وحديث لحاضر ولبادي
نحن إلا غسالة لمراق بقدور تفرغت وزبادي
نحن إلا زبالة ضمها الزبال فوق الأكوام للوقاد
جردونا فما قطعنا فردو نا وقد أحسنوا إلى الاغماد
وتعكس هذه الأبيات أزمة جندي من أجناد الحلقة من عامة العسكر غير مماليك الأتراك . وقد مر بها ابن النقيب الذي كان من رجال السيف والقلم . وكان ملحقا بجيش بيبرس حين خاض الفرات وقاسى في تلك الجملة مع غيره من جنود الحملة الويلات . وقد آثاره أن يفوز المماليك بكل الطيبات وان يعامل جند الحلقة من عامة الناس تلك المعاملة السيئة . ولابن النقيب شعر في الهجاء بعضه مقذع . وله في الغزل والمجون المكشوف مثل السراج وكثيرين .
ابن دانيال :
شمس الدين محمد بن دانيال الحكيم الكحال ( توفي سنة 708 هـ )
ولد بالموصل سنة 646 وجاء إلى مصر شابا في عهد السلطان بيبرس قال في مقدمة ( طيف الخيال ) : (( لما قدمت من الموصل إلى الديار المصرية في الدولة الظاهرية . سقى الله من سحب الأنعام عهدها وأعذب مشاربها . . . الخ )) .
وعمل كحالا بسوق القاهرة . وكان دكانه داخل باب الفتوح , واشتهر بحبه للأدب , وكان خفيف الروح طيب العشرة ظريفا ً , اتصل بجماعة من أدباء مصر وشعرائها وعلمائها فكانوا يقصدونه , ويجلسون إليه في دكانه يسمرون . وبين من تردد عليه العالم الفقيه الأديب ابن سيد الناس , والجزار . والوراق . قال ابن حجر (( وقرأت بخط الكمال جعفر : (( اجتاز الوراق والجزار بابن دانيال , فقال له احدهما خذ هذه الرزمة من العكاكيز عندك فقال لهم : بل قودوا انتم )) وحكى ابن شاكر عن الصفدي قال اخبرني الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس قال : كان الحكيم شمس الدين بن دانيال له دكان كحل داخل باب الفتوح فاجتزت عليه أنا وجماعة من أصحابه فرأينا علبه زحمة ممن يكحله , فقالوا تعالوا نخايل بالحكيم فقلت لهم لا تخايلوه تخزوا معه . فلم يسمعوا . قالوا : يا حكيم تحتاج إلى عصيات ! يعنون أن هؤلاء الذين يكحلهم يصابون بالعمى فيحتاجون إلى العصي لتقودهم , فقال لهم : لا , إلا أن يكون فيكم من يقود لله تعالى , فمروا خجلين )) والنكتة في معنى التورية في كلمة (( يقود )) .
وحدثنا ابن دانيال عن صنعته في شعره فقال :
يا سائلي عن حرفتي في الورى وضيعتي فيهم وإفلاسي
ما حال من درهم إنفاقه يأخذه من أعين الناس
والنكتة في التورية (( يأخذه من أعين الناس )) بين صنعة التكحيل والقول العامي يأخذ الشيء من عينه .
واشتهر ابن دانيال بروحه المرحة , وسخريته الضاحكة حتى في مجلس السلاطين والأمراء وكانت دعوتهم له للمشاركة فيها ليخلع عليها ذلك الجو المرح , واتصل بالاشرف خليل بن قلاوون وتروى له نادرة معه .
قال ابن تغري بردى : (( ومن نوادره الطريفة انه كان يلازم خدمة الملك الاشرف خليل بن قلاوون قبل سلطنته , فأعطاه الاشرف فرسا ً ليركبه , فلما كان بعد أيام رآه الاشرف وهو على حمار زمن , فقال : يا حكيم ما أعطيناك فرسا ً لتركبه ؟ فقال : نعم يا خوند بعته . وزدت عليه واشتريت هذا الحمار . فضحك الاشرف وأعطاه غيرهما .
واتصل بالأمير الكبير سلار نائب السلطنة , وصحبه في بعض رحلاته , قال ابن حجر (( توجه مرة صحبة الأمير سلار إلى قوص , فاتفق أن بعض الخصيان في خدمة الأمير توجه إلى النزهة في بستان مع شخص من أتباع الأمير يقال له ( الحليق ) وكان حليق الذقن , فبحث الأمير عنهما إلى أن وجدهما , فأراد معاقبتهما فنهض ابن دانيال فقال : يا خوند احلق ذقن هذا القواد – وأشار إلى الحليق – واخص هذا الخادم , وأشار إلى الخصي فضحك الأمير سلار وسكن غضبه )) .وروى ابن حجر انه دخل على سلار وقد قطع الوزير راتبه من اللحم , فتعارج , فقال السلار : مالك ؟ قال : بي قطع من اللحم , فضحك وأمر برده عليه . وقال ابن حجر (( وكان كثير النوادر )) . ووصفه ابن العباد في الشذرات (( الأديب الخليع )) وانه كانت له نكت غريبة وطباع عجيبة . وقال ابن تغري بردى : (( صاحب النكت الغريبة والنوادر العجيبة . وكان كثير المجون والدعابة )) .
وقال المقريزي : وكان كثير المجون .
وغالبية شعره مطبوع على الفكاهة والنكتة وحلاوة النادرة . قال الصفدي : (( ابن حجاج عصره وابن سكرة مصر )) . وقال ابن حجر : (( تعانى الآداب ففاق في النظم , وسلك طريق ابن حجاج ومزجها بطريقة متاخري المصريين يأتي بأشياء مخترعة .
والحق انه كان موهبة عجيبة , فقد كان ساخرا ً بطبعه يأتي بالحكمة ممزوجة بالفكاهة والهزل , وله قدرة عجيبة على صياغة المعاني الرفيعة في صور حسية عامية شعبية سائرة , كما أن قدرته على التشخيص والتجسيم فائقة , ومكنته من تأليف تمثيلياته الهزلية , ( البابات ) , لخيال الظل جمعها في كتابه المعروف بطيف الخيال , الذي عده معاصروه فريدا ً في نوعه .
وكان يصور في شعره الساخر الهزلي بعض أحداث عصره وخاصة ما كان منها متصلا اتصالا مباشرا بحياة الناس . ومنه قصيدتان طويلتان في حدثين هامين أولاهما بمناسبة ما أمر به السلطان بيبرس سنة 766 هـ من تحريم للمنكرات وتشديد على مرتكبيها وتعقبهم في كل مكان , وعقابهم على المجاهرة بشرب الخمر بالقتل . حتى قتل ابن الكازروني لشربه الخمر , وهو حد لم يعرفه الشرع الإسلامي , وعلق في عنق الشارب زق وداروا به في شارع القاهرة , ونادوا عليه هذا عقاب من يشرب الخمر .





الباب الخامس
الفصل الرابع
رموز الشعر الصوفي
1 ـ الخيمي هو محمد بن عبد المنعم توفي 685 ه
ولد باليمن ونشا بها ولقبه شهاب الدين وكنيته أبو عبد الله جاء إلى مصر وأقام وبها توفى قال عنه ابن العماد حامل لواء النظم في وقته سمع جامع الترمذي وأجيز من كبار علماء عصره واتصل بعمر بن الفارض وروى عنه جماعة من المصريين من علماء القرن السابع وبرع في الشعر حتى قبل فيه وكان المقدم على شعراء عصره وشعره في الذروة وكان معروفا بالأجوبة المسكتة ولم يعرف عنه غضب وتنازع هو وابن إسرائيل قصيدة صوفية بائية حكم فيها له وحكايتها انه روى أن نجم الدين محمد بن إسرائيل الشاعر الصوفي المعاصر حج فرأى ورقة ملقاة فيها القصيدة البائية التي لابن الخيمي فادعاها قال قطب الدين البونيني أن ابن إسرائيل والخيمي اتفقا واجتمعا بعد ذلك في حضرة جماعة من الأدباء وجرى الحديث فتحاكما إلى شرف الدين بن الفارض فقال ينبغي لكل منكما أن ينظم أبياتا على هذا الوزن والروى فنظم الخيمي
لله قوم يجر وعاء الحمى غيب
ونظم ابن إسرائيل
لم يقض من حقكم بعض الذي يجب
فلما وقف عليهما ابن الفارض قال لابن إسرائيل لقد حكيت ولكن فاتك الشنب وهو عجز بيت من القصيدة المتنازع عليها تمامه
يا بارقا بأعالي الرقمتين بدا لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
وحكم بالقصيدة للخيمي واستجاد بعض الحاضرين أبيات محمد بن إسرائيل وقال من ينظم مثل هذا ما الحاجة له إلى ادعاء ما ليس له فابتدر الخيمي وقال هذه سرقة عادة لا سرقة حاجة وانفض المجلس وسافر ابن إسرائيل لوقته من الديار المصرية .
وطلب ابن خلكان وكان نائب الحكم بالقاهرة الأبيات من الخيمي فكتبها له وذيل آخرها بأبيات وسأله بينه وبين من ادعاها والقصيدة موضوع الخلاف تبدأ بقوله
يا مطلبا ليس لى في غيره ارب إليك ال التقصى وأنهى الطلب
يتبع . . .
والحكم في جملتها مجموعة من الفقرات القصار مختلفة الأغراض والمعاني تتجه بالخطاب إلى المريد يخاطبه المؤلف فيها خطاب المفرد وتزدان أحيانا بالسجع المتواتر أما المعاني فهي صوفية يميل صاحبها إلى التجريد أحيانا كقوله :
من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل وكقوله : تنوعت الأعمال لتنوع واردات الأحوال )).
وتارة يميل في أسلوبه من التجريد إلى التجسيد والتصوير بالتشبيه كقوله : ادفن وجودك في ارض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه وقوله :لأترحل من كون ارتحل منه ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون )وتارة يقف عند المعنى فيديره في صور متشابها من اللفظ لا تختلف إلا فيما تقره القافية . كقوله:
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي اظهر كل شيء
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر قبل وجود كل شيء
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو اظهر من كل شيء
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الواحد الذي ليس معه شيء
وتجد بصورة عامة أن حكم ابن عطاء الله أقوال مأثورة لا يربط بينهما رباط معنوي متسلسل يحكم فقراتها نظمت على فقرات في أوقات مختلفة ثم ضم بعضها إلى بعض وجاء في أقوال من ترجموا لحياته أن انصاره ومر يديه جمعوا كلاما كثيرا وكانت هذه الحكم من بين ما جمع ونلاحظ في الحكم الطبوعة تكرر المعنى الواحد في صور مختلفة من التعبير مثل قوله (أن إرادتك في التجرد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية )
وقوله (ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله فيه ).
وقوله (لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها فلو أرادك لا ستعملك من غير إخراج )وقوله :أرح نفسك من التدبير فما قام به غيرك عندك لا تقم به لنفسك )
والمعنى العام لهذه العبارات جميعا هو أن المريد ينبغي أن يقف حيث إقامة الله دون ما ضجر من نقص أو طمع في زيادة فهو في هذه المجموعة من الحكم يدعو ــ على اختلاف التعبير ـــ إلى احترام واقع الإنسان ذلك انه لا يرى عملا أفضل من عمل ما دامت كل الأعمال بإرادة الله ومشيئته .
ففي رأيه أن الاهتمام بالعمران والمعاش لا يتعارض مع أدب المريد وإنما ينبغي أن يقف المريد حيث أراده الله وان يتجرد من الأعمال الدنيوية حتى لا يخرب العالم .
ولكن الرضا عن الحال والعمل غير الرضا عن النفس فلك أن ترضى عن حالك التي اقامك عليها في الحياة أما النفس فان الرضا عنها أصل كل معصية وغفلة وشهوة )
ويعرض ابن عطاء الله بين ما يعرض له في حكمه لأدب الصداقة والصحبة بين الصوفية وينصح المريدين السعي للشهرة لان الشهرة تميت القلب وتقطع أسبابه بالله فيقول :
ادفن وجودك في ارض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه ونعثر بين حكمه بعبارات توحي بمذهب الصوفية الحلولية كقوله :إنما يستوحش العباد الزهاد من كل شيء لغيبهم عن الله في كل شيء ولو شهدوه في كل شيء لم يستوحشوا من كل شيء )وكقوله : علم منك انك لا تصبر عنه فأشهدك ما برز منه )كما قد تحوى معاني تشير إلى مذهب الوحدانية المنفصلة عن الكون كقوله (الأكوان ثابتة بثباته وممحوة باحدية ذاته )
ونلاحظ في أسلوبه كما في معانيه خلطا بين عبارات الصوفية وطريقتهم
في التعبير وميلهم للرمز والغموض واستخدامه مصطلحهم وبين أساليب الأدباء من ميل إلى الجزالة والإيجاز واستخدام بعض حلي الفظ والمعنى .
ونجد في ختام المطبوع من حكمه مجموعة استغاثات هي اقرب إلى أسلوب الابتهالات التي نظمها أبو حيان التوحيدي في الإشارات الإلهية في مجموعة من السجع القصير الفقرات وتأثر فيها بطريقة شيخه أبي الحسن الشاذلي في حزب البر فأنت فيها أمام رجل بليغ لا يكتفي بزخرف اللفظ وإنما يفتن أفتانا شائقا في زخرف المعاني مع تكلف أو افتعال ومن تلك الاستغاثات قوله :الهي إنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيرا في فقري .
الهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولا في جهلي وكقوله (الهي أن ظهرت المحاسن مني فبفضلك ولك المنة علي وان ظهرت المساوئ فبعدلك ولك الحجة علي )
وقوله :ها أنا أتوسل إليك بفقري إليك وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل إليك أم كيف أشكو إليك حالي وهي لا تخفي عليك وأم كيف أترجم لك بمقالي وهو منك برز إليك
أم كيف تخيب أمالي وهي قد وفدت إليك أم كيف لا تحسن أحوالي بك قامت واليك :
وينكر ابن عطاء في موضع وحدة الشهود أو وحدة الصنعة والصفة في الكائنات دالة عليه تعالى فيقول : كيف يستدل عليك بما هو في وجود مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى نحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك )
وبهذا ينظر ابن عطاء الله نظر المحذوبين لا نظر السالكين فالسالك يستدل بالموجودات على الله والمجذوب يستدل بالله على الموجودات لأنه أصل كل شيء وعبر عن هذا المعنى أكثر من مرة في الحكم ويكاد أن يكون من عقائده الرئيسية ومع ذلك فهو لا ينكر تماما أن تكون الآثار شواهد على الله تعالى فيقول : الهي أمرت بالرجوع إلى الآثار فارجعي إليها بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار حتى ارجع إليك منها مصون السر عن النظر إليها ومرفوع الهمة عن الاعتقاد عليها انك على كل شيء قدير .
ويقول :
الهي منك اطلب الوصول إليك وبك استدل عليك فأهدني بنورك إليك واقمني بصدق العبودية بين يديك .
وكتب لحكم ابن عطاء الله أن تسير وتشهر بين الناس فجرت عباراتها على السنهم وتواترت في دعواتهم وابتهالاتهم من مثل قوله وقد جرى على كل لسان في دعواتهم وصلواتهم :
الهي هذا ذلي ظاهر بين يديك وهذا حالي لا يخفى عليك )
وقوله :
بك استنصر فانصرني واليك أتوكل فلا تكلني وإياك اسأل فلا تخيبني وفي فضلك ارغب فلا تحرمني ولجانبك انتسب فلا تبعدني وببابك أقف فلا تطردني )
وتنوع أدب الصوفية النثري في هذا العصر بين تأملات فلسفية وسبحات صوفية ومواعظ ومواجد ورواتب للسالكين وأدعية واستغاثات وققص وعبر
ومنه كتاب للصوفي العروف بشروره شرف الدين عبد المؤمن بن هبة الله الأصفهاني في الزهد (أطباق الذهب ) وكتاب روض الرياحين في حكايات الصالحين لابن فلاح عفيف المتوفي سنة 768ه وكتاب ريحان القلوب في الوصل إلى المحبوب ليوسف العجمي ت 768 ه )
ويتضمن شرائط التوبة ولبس الخرقة ويلقن الذكر وله كذلك ذكر أو ورد اشتهر في عصره على السن العباد قال ابن حجر واشتهر عنه الذكر الذي ملا الآفاق ولابن أبي حجلة التلمساني ت 776 ه مجموعة مؤلفات معروفة في بعض أوساط الصوفية مثل ديوان الصبابة ومنطق الطير وسكر دان وأطيب الطيب .
ولا نستطيع أن نختم حديثنا عن التصوف في القرنين السابع والثامن دون أن نلاحظ أن التصوف في مصر والشام قد التقى فيه تياران عظيمان احدهما وافد من المغرب يحمله جماعة من كبار الصوفية من الأندلس وشمال أفريقيا والمغرب أمثال ابن سبعين وابن العربي وأبي الحسن الشاذلي وأبي العباس المرسي وثانيهما جاء من المشرق يحمله جماعة من كبار الصوفية من بلاد فارس والعراق أمثال السهروردي صاحب عوارف المعارف وشمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي المتوفي سنة 672 ه وقد استقر في قونية واسس فرقة الدراوشة الدوارين أو الراقصين والقونوي ابن العجمي الذي تتلمذ له ابن عفيف التلمساني الشاعر الصوفي .




موسوعة تاريخ الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية

عصر الانحدار
-2-
فنون النثر
حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية





حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية

مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط

ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب





الباب الثامن
النثر في عصر الانحدار

الباب الثامن
النثر في عصر الانحدار
نظراً لاتساع رقعة الدولة وانتشار العلوم والمعارف المختلفة ، فقد ازداد الاهتمام بالكتابة النثرية، وأصبحت الحاجة ملحة سواء أكان ذلك في دواوين الدولة ومراسلاتها ومكاتباتها ، أم كانت من خلال انتشار التأليف والكتابة الوعظية والخطابة الدينية والاجتماعية ، وهذا ما جعل الاهتمام بهذا الفن يأخذ منحىً جديداً. وقد انقسم النثر في هذا العصر إلى نثر علمي ونثر فني ،
فالنثرالفني: اعتمد الصنعة البيانية والبديعية واستخدم فيه السجع و الاقتباس والتضمين والجناس.
والنثر العلمي :غلب عليه التحرر من الصنعة والاهتمام بوضوح المعاني وسهولة الأداء، وقد ظهر إلى جانب ذلك أدب شعبي قارب العامية وابتعد عن لغة القصور ، والغاية عند الكتاب في هذا العصر إبراز مقدرتهم الفنية واللغوية وإن أودى بهم الأمر إلى القيود في الصنعة حولت الأدب من مساره الحقيقي.



الباب التاسع
الكتابة في هذا العصر
الفصل الأول
الكتب والمصنفات
يعد هذا العصر من أكثر العصور غزارة في التأليف بسبب جمع الأدباء بين الشعر والنثر وتباري الأدباء في عدد التصانيف التي تربو على المئات أحيانا والملفت للانتباه في هذا العصر ظهور الموسوعات الكبرى الدينية واللغوية والأدبية والتاريخية لحفظ التراث الإسلامي والفكر العربي فمن الشعراء أصحاب الدواوين ( شرف الدين الانصاري و الكعفري والتلمساني وابنه شمس الدين الملقب الظريف والبوصيري والوراق وابن نباته وصفي الدين الحلي وابن الوردي وعائشة الباعوينة وابن معتوق وابن مليلك الحموي وابن النقيب وعبد الغني النابلسي ومن أصحاب النثر النويري صاحب كتاب نهاية الأدب والقلقشندي صاحب كتاب صبح الاعشى والابهشي صاحب كتاب المستطرف والنواجي صاحب كتاب حلبة الكميت والعاملي صاحب الكتكوت والوطواط صاحب كتاب غرب الخصائص الواضحة والبهائي الغزولي وكتابه مطالع البدور وداود الأنطاكي وكتابه تزيين الأسواق وكتاب تذكرة الألباب .
وفي المعاجم ابن منظور وكتابه لسان العرب والفيروز ابادي والقاموس المحيط والزبيدي وتاج الرؤوس وفي التاريخ والجغرافية والطب ابن أبي اصبيعة وكتابه طبقات الأطباء وابن خلكان وكتابه وفيات الأعيان والقزويني وكتابه عجائب المخلوقات وابن العبري وكتابه تاريخ مختصر للدول وابن الطقطقي وكتابه الفخري في الآداب السلطانية وأبو الغداء وكتابه تقويم البلدان وكتاب المختصر في تاريخ البشر وابن فضل الله العمري وكتابه مسالك الأبصار وابن شاكر في كتابه فوات الوفيات والصفدي وكتابه أعيان العصر ولسان الدين ابن الخطيب وكتاب الإحاطة في أخبار غرناطة وابن بطوطة ورحلته تحفة الأنظار وابن خلدون ومقدمته المشهورة والمقريزي وكتابه السلوك المعزمة دول الملوك وابن تغري بردي وموسوعته النجوم الزاهرة في ملوك القاهرة وابن عرب شاه وكتاب عجائب المقدور في أخبار تيمور وحاجي خليفة وكتابه كشف الظنون واهم ما خلفه علماء هذا العصر دوائر المعارف الإسلامية والعربية الكبرى في مختلف العلوم والآداب والمعارف والتي تميزت بخمس صفات رئيسية :
1- الموضوعية العلمية والمنهجية في تحقيق النصوص المنقولة والاقتباس من المصادر المتعددة .
2- المنهجية في جمع العلوم وتنظيمها .
3- الشمول والاتساع .
4- التقسيم الموضوعي والتفريغ المنطقي ( أبواب – فصول – أنواع – أجزاء ) .
5- انعدام الدافع النفعي من وراء ذلك والمصلحة الخاصة .
. الكتب والمصنفات
ومصادر دوائر المعارف كتب الأقدمين من الآداب والأشعار والحكماء والفلاسفة وقد كانت دوائر المعارف العربية والإسلامية اسبق في الظهور من مثيلاتها في أوروبا وقد كان معظم من ألف في دوائر المعارف علماء عرب منحدرين من قبائل عربية أصيلة , فابن منصور يمت بنسبه إلى قبيلة فرازة وابن فضل العمري يرجع بنسبه إلى عمر بن الخطاب والنويري من أحفاد عبادة البكري وقد كانت دوائر المعارف تهدف إلى إحياء أمجاد الأمة العربية المغلوبة فهي يقظة عربية حرة ردا على طغيان الشعوبية ومن الجدير بالذكر أن مناصب القضاء والفقه والفتيا والتدريب والكتابية والتوقيع في دواوين الإنشاء قد تولاها رجال عرب
الباب التاسع

الفصل الثاني
المجموعات الأدبية
كتب أدباء عصر الانحدار كتبا منوعة في الأدب على شكل محاضرات وامالي تعددت موضوعاتها ( كحلبة الكميت للنواجي ) ومطالع البدور للعزولي , وتنشيف السم بانسكاب الدمع لصلاح الدين الصفدي , وسجع المطوت لابن نباته , ونسيم الصبا لابن حبيب الحلبي و وتذكرة ابن العديم , في النوادر ومسالك الأبصار في ممالك الأنصار لابن فضل الله العمري , ونهاية الأدب في فنون الأدب اللغوي , وسرور النفس بمدارك الحواس الخمس للتيغاش .
والغيث المنسجم في شرح لامية العجم لمهيار الديلمي وهو كتاب شامل للنقد والذوق الأدبي ومعالم القرية في أحكام الحسبة لضياء الدين بن احمد القرشي .
الباب التاسع

الفصل الثالث
خصائص الكتابة
وأول ما نلاحظه من خصائص الكتابة أنها تنقسم إلى قسمين أساسيين : الكتابة الفنية كالرسائل والمقامات , والكتابة الأدبية المتصلة بموضوع من الموضوعات الحيوية , أو معالجة أحداث أو مشكلات في الحياة ولكل من هذين القسمين قسماته الأسلوبية واللغوية.
أما الكتابة الفنية فقد اتجه الكتاب فيها إلى مزيد من التزويق باستخدام البديع استخداما مسرفا ً , وتركيز الاهتمام في مصر خاصة على التورية وفي الشام على التجنيس .
ودخلت لغة الكتابة تعبيرات عامية وألفاظ دارجة أو دخيلة , تركية أو فارسية أو إفرنجية , وقد انتشرت الألفاظ التركية خاصة وكان للمماليك دورهم الكبير في إشاعة هذه الألفاظ والعبارات . وربما تلقفها بعض الكتاب والشعراء ولم يحسنوا استخدامها . وكان السجع إطارا لفظيا سائدا ً لمعظم فنون الكتابة , وكان بعضهم يجيده , ويتكلفه آخرون ويسيئون استخدامه فيسقطون سقطات مشينة , وأشار بعض علماء العصر إلى أولئك المتكلفين .
واهتم الكتاب كذلك بالاقتباس من القرآن الكريم والحديث والشعر القديم والمثل السائر والنوادر وقصص العرب وحكاياتهم وأحاديثهم , وتفننوا في هذا الاقتباس بين تضمين الكلام بنصه ولفظه أو الإشارة إلى معانيه أو إيراد بعض لفظه أو التلميح له , وهي جميعا درجات في الاقتباس .
وألف بعض العلماء في هذا الفن أيضا كما ألفوا في التورية , والجناس مبينين أصوله . ومن بينهم صلاح الدين الصفدي , وشهاب الدين محمود صاحب كتاب التوسل إلى صناعة الترسل , وابن حجة الحموي واختيار الدين بن غياث الدين الحسيني صاحب أساس الاقتباس


الباب الثامن
الفصل الأول
أبرز فنون النثر:
تناول الأدب المملوكي موضوعات من صميم الحياة ، فهاجم العادات الشاذة، ونقد موظفي الدولة المتهاونين ونقد المكوس، ودعا إلى الكفاح وطرد المغتصبين، وتبدى ذلك في الرسائل والخطابة والقصص والمقامات والأدب الشعبي والسير وغيرها :
1-الكتابة والرسائل الرسمية: الكتابة والرسائل
تعد كتابة الرسائل في عصر الانحدار من المناصب الرفيعة لدى السلطان تضاهي منازل قادة الجيوش وكبار القضاة فهو بمنزلة الوزير أو نائب السلطان كما هو مع القاضي الفاضل يتولى ديوان الإنشاء وقد استحدث المماليك منصب كاتب السر أو رئيس الديوان السلطاني ومن أشهر من تولى منصب كاتب السر ابن عبد الظاهر وابن فضل الله العمري وعلاء الدين ابن الأثير .
تعددت موضوعات الرسائل الديوانية الرسمية كرسائل الملوك ورسائل السلاطين في الأمور المهمة والأحداث الجليلة في السلم والحرب كرسائل السلاطين لملوك العرب والمسلمين والصليبيين وملوك أوروبا وسلاطين التتار وبيزنطة وقد تكون الرسائل تهديد ووعيد أو سلام وصداقة وهنا رسائل تعالج حالات اجتماعية أو الدعوة لترك أمور سيئة تخالف الدين كترك الحشيش أو رسائل وصفية كرسالة ابن دقيق العبد في وصف متاعب العلم وتحصيله أو رسالة أبي الخصال في وصف السراج وقد شاركت الرسائل الناس في أفراحهم وأتراحهم .
وتراسل الأدباء بين بعضهم عتابا وشكوى ومفاكهة وقد سميت الاخوانيات ويمثلها شرف الدين عيسى ابن حجاج العالية التي كتبها للوزير الكاتب بن مكانس وتخطت الرسائل إلى أغراض أخرى كالرثاء مثل رسالة ابن الوردي في رثاء العالم الفقيه البارزي الشافعي كما كتب الكتاب رسائل في المفاضلة بين السيف والقلم وبين البلاد والأقاليم أو في مدح مدينة وذمها كرسالة ذم القاهرة لزكي الدين الحسين ومدحها لأخيه كذلك رسائل المعارضات كرسالة الشاعر الحسن بن علي بن احمد ( قريض القرين ) التي عارض فيها رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد .

استحدث المماليك منصب (كاتب السر) رئيس الديوان السلطاني ، وهو أعلى من صاحب ديوان الإنشاء تنافس في توليه كبار الكتاب كابن عبد الظاهر وابن فضل الله العمري ، وعلاء الدين بن الأثير.
وتنوعت رسائل الديوان بموضوعاتها بين رسائل تدور بين الملوك والسلاطين، وما بين رسائل تهديد ووعيد وتهاني.
وأشهرها رسالة قلوون إلى السلطان أحمد غازان سلطان التتار ، وقد كتبها ابن عبد الظاهر ردا على رسالة من سلطان التتار طلب فيها الهدنة بعد اعتناقه الإسلام.
وقد كثرت فيها المحسنات البديعية والصنعة .
2- الرسائل الذاتية:
وهي رسائل الأخوانيات بين الأدباء والكتاب ، تنوعت موضوعاتها ، وترك فيها العنان لخيال وعواطف الكاتب ، وشاركت في عرض مبكيات ومضحكات الحياة، فكانت رسائل في وصف الطبيعة ووصف مجالس الخمرة ، ووصف الشمعة والديك والببغاء والرسائل المجانية، إضافة إلى رسائل الشكوى والعتاب والمفاكهة وتبادل الرأي ، ومن أمثلتها رسالة من الأديب عيسى بن حجاج إلى الوزير الكاتب فخر الدين بن مكانس إضافة إلى رسائل في الرثاء والمفاضلات بين البلاد أو بين السيف والقلم.
3- الخطابة :
وقد تنوعت الخطابة بين الدين والحرب والسياسة والمناظرة والمواعظ والقصص الديني ، وقد كانت لهذه الخطابة مقاييس وشروط ، ومن أقصر هذه الخطب وأبلغها خطبة قطز في أمراء الجيوش في مصر حين خرج لحرب المغول في(عين جالوت)
ونقتطف منها:
" يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال ، وأنتم للغزاة كارهون ، وأنا متوجّهٌ ، فمن اختار الجهاد يصحبني ، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته . فإن الله مطلع عليه، وخطيئه حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
4- المقامات:
التي بدأها الهمذاني وثنّى بها الحريري ، والتي أخذت تستغل للوعظ الديني في عصر الانحدار بحيث ركز على التنميق في أسلوبها وحفلت بألوان البديع ومن زعمائها صلاح الدين الصفدي وابن الوردي والشاب الظريف، وقد بقيت محافظة على طريق الأوائل باستخدام راوية وحدث وأقصوصة. المقامات
إذا كانت المقامة حكاية قصيرة في ثوب منمق مرصعة بألوان البديع يتلاعب فيها الكاتب بمقدرته التعبيرية متعة للسامعين كما هو في العصر العباسي فإنها في عصر الانحدار قد تخلصت من الرواية واكتفت بالحكاية وحافظت على السجع والبديع وقد فضلها كثير من الأدباء للتعبير عن وجدانهم الخاص أو للتعبير عن الأحداث والهموم والأفراح في ثوب قصصي استعملت في الوعظ الديني واللهو واللعب والإضحاك ورسم صور هزلية لبعض الشخصيات ومن أشهر كتابها صلاح الدين الصفدي وابن الوردي وشهاب الدين التلمساني ومن المقامات مقامة في وصف الخير والجوارح لمحمد بن يوسف ومن المقامات ما يركز على موضوع أو مناسبة ولعبت المقامة دور الشعر وشاركت في الأحداث الجارية وكذلك قامت بدور المقالة كمقامة ابن الوردي في الطاعون الذي اكتسح مصر والشام / 749 / هـ .

ومن أهم هذه المقامات : المقامة الساسانية لشهاب الدين الخفاجي.
المواعظ الدينية
نظرا لاستشراء الفساد والانحلال الديني والأخلاقي فقد انبرى الكتاب والمصلحون وعلماء الدين في دفع هذا الفساد بلون يدعى المواعظ الدينية ومن أشهر ما كتب في المواعظ الدينية كتاب ( معيد النعم وعبيد النقم ) للسبكي و( إغاثة الأمة في كشف الغمة) للمقريزي يدور ما فيهما على النقد الاجتماعي البناء ومعالجة وجوه الانحراف وتحليل النشاط الاجتماعي وطرق السلوك السائدة في هذا العصر والتي خرجت عن نهج الشريعة وخالفت أحكام الدين وقد صور الكتاب نقائص العصر المملوكي وصفات طبقاته الاجتماعية وعلاقاتها ببعضها ابتداء من السلطان وانتهاء بالعبيد .
وعلى خطى الكتاب مشى الأمام النووي وابن عطاء الله السكندري في مؤلفاتهم .

6- النثر الوصفي:
وهو كلّ ما كتب في التراجم والرحلات ووصف الرياضيات والطرديات والخواطر التأملية ، وبعضها يميل إلى البساطة والآخر إلى الصنعة. وصف حديقة لابن حبيب الحلبي المتوفى سنة / 977 ه / انحدار
لما صدئت مرآة الجنان لجان قصدت لجلائها بعض الجنان فدخلت إليها وما كدت أن أقدم فإذا هي جنة عالية قطوفها دانية وطلحها منضود وظلها ممدود وأعلام أشجارها مرفوعة وفاكهتها لا مقطوعة ولا ممنوعة تجوس المياه خلال ديارها وتشرق بآفاقها أنوارا نوارها نزهة النواظر وشرك الخواطر بها أشجار لا تحصى وثمار لا تعد ولا تستقصى .
وصف عاصفة لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة / 911 ه / انحدار
إني عارض في ليلة الجمعة التاسعة من جمادى الآخرة وكانت فيه ظلمات متكاثفة ويروق خاطفة ورياح فقويت أهويتها واشتد هبوبها فتدافعت لها أعنة مطلقات وارتفعت لها صواعق مصعقات فرجفت لها الجدران واصطفت وتلاقت على بعدها واعتنقت وثار بين السماء والأرض عجاج فقيل لعل هذه على هذه أطبقت وتحسب أن جهنم قد سال منها وعدا منها وزاد عصف الرياح إلى أن انطفأت مصابيح النجوم ومزق أديم السماء ومحى ما فوقه من الرقوم لا عاصم من الخطف للأبصار ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار وفر الناس نساء ورجالا ونفروا من دورهم خفافا وثقالا لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاعتصموا بالمساجد الجامعة وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة ووجوه عانية ونفوس عن الأهل والمال سالية ينظرون من طرف خفي ويتوقعون أي خطب جلي قد انقطعت من الحياة علقهم وعميت عن النجاة طرقهم ووقعت الفكرة فيما عليه قادمون وقاموا إلى صلاتهم وودوا أن لو كانوا من الذين عليها دائمون إلى أن إذن الله في الركود وأسعف الهاجدين بالجهود .
وصف ابن الأثير المتوفى سنة 759 أبا تمام والبحتري والمتنبي / انحدار
قال : لقد وقفت من الشعر في كل ديوان ومجموع وانفدت شطرا من العمر في المحفوظ والمسموع فألفيته بحرا لا يوقف على ساحله وكيف يحصي قول لم تحص أسماء قائليه ؟ فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده وتتشعب مقاصده ولم أكن ممن اخذ بالتقليد والتسليم في أتباع في قصر نظره على الشعر القديم إذ المراد من الشعر إنما هو إيداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل اللطيف فمتى وجدت ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل وقد اكتفيت من هذا بشعر أبي تمام والبحتري والمتنبي وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزاه ومناته الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين وفصاحة القدماء وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء أما أبو تمام : فانه رب معان وصقيل أذهان وقد شهد له بكل معنى مبتكر لم يمشي فيه اثر فهو غير مدافع عن مقام الإعراب الذي برز فيه على الإضراب .
وصف البحتري والمتنبي
ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير ولم اقل ما أقوله إلا بعد التنقير فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضة وراض فكره برائضه إطاعته أعنة الكلام وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام فخذ مني في ذلك قول حكيم وتعلم ففوق كل ذي علم عليم .
وأما البحتري : فانه في سبك اللفظ على المعنى ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق فبينا يكون في شظف نجد إذ يتشبث بريف العراق وسئل المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال : أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري ولعمري انه أنصف في حكمه وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه فان البحتري أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلافه الماء فأدرك بذلك بعد المرام مع قربة إلى الإفهام وما أقول إلا انه أتى في معانيه بالنوادر الغالية ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية وأما المتنبي فانه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه ولكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال وأنا أقول قولا لست فيه متأثما ولا منه متلثما وذاك انه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من أنصالها وأشجع من أبطالها وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها حتى يظن أن الفريقين قد تقابلا والسلاحين قد تواصلا فطريقه في ذلك تضل بسالكه وتقوم بعذر تاركه ولا شك انه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة فيصف لسانه ما أداه إليه عيانة ومع هذا فإني رأيت الناس عادلين عن سنن التوسط فأما مفرط في وصفه وأما مفرط على انه إذا كان انفراد بطريق صار أبا عذره ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة :
لا تطلبن كريما بعد رؤيته أن الكرام باسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره قد افسد القول حتى احمد الصمم
وكتب بدر محمد بن حبيب الحلبي المتوفى سنة 799 ه / انحدار
رفقا بمن ملك الوجد قيادة وعطفا على من أذب الشوق فؤاده متيم أقلقه فرط صدودك ومغرم أغراه بحبك قول حسودك وسقيم لا شفاء له دون مزارك ومقيم على عهدك ولو طالت مدة نفارك الأم هذا التنائي والنفور ؟ وعلام ياذا القد العادل تجور ؟ لقد تضاعف الأسف والأسى وتطاول التعلل بعلل وعسى .
هبني تخطيت إلى زلة ولم أكن أذنبت فيما مضى
أليس لي من بعدها حرمة توجب لي منك جميل الرضا
ولست ألوذ إلا بباب نعمك ولا اعتمد في محو الإساءة إلا على حلمك وكرمك وما جل ذنب يضاف إلى صفحك ولا عظم جرم يسند إلى عفوك ومثلك من يقيل العثرات ويتجاوز عن الهفوات :
وكنت أظن أن جبال رضوى تزول وأن ودك لا يزول
ولكن القلوب لها انقلاب وحالات ابن ادم تستحيل
طالما أنستني بقربك ودنوت مني مفارقا ظباء سربك وأنجزت وعودي وأطعت نجوم سعودي :
وكنت إذا ما جئت أدنيت مجلسي ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرة إلى بها في سالف الدهر تنظر
قيدت أملي عن سواك وبهرت ناظري بنظرة سناك وكسرت جيش قراري وتركتني لا افرق بين ليلي ونهاري أحوم حول الديار وأعوم في بحر الأفكار وأتمسك بعطف عطفك وأتعلق بأذيال مكارمك ولطفك أما علمت أن الكريم إذا قدر غفر ؟ وإذا صدرت من عبده زلة أسبل عليها رداء العفو وستر ؟ وأن شفيع المذنب أقراره ؟ ورفض خطيئته عند مولاه استغفره ؟
ومن كان ذا عذر لديك وحجة فعذري إقراري بأن ليس لي عذر
لهفي على عيش بسلاف حديثك سلف وأوقات حلت ثم خلت
وأورثت التلف واها لأيام بطيب انسك مضت ويروق ليال لولا قربك ما أومضت
قد كنت اعرف في الهوى مقدارها رحلت وبالأسف المبرح عوضت
كيف السبيل إلى إعادة مثلها وهي التي بالبعد قلبي أمرضت
والتناسي وارع الود القديم وأبدل شقاء محبك بالنعيم ولا تعدل عن منهاج المعدلة وسلم فقد أخذت حقها المسالة واغمد سيف حيف صيرته مسلولا وأوف بالعهد أن العهد كان مسئولا .
وكتب القاضي الفاضل إلى أخيه عبد الكريم يؤنبه على إيذائه علم الدين
ابن النحاس : سبب إصدار هذه المكاتبة إلى الأخ – أصلحه الله – أعلامه ما صح عندي من الأحوال التي أخفاها والله مبديها في حق علم الدين .
وبالله اقسم لئن لم تداو ما جرحت وتستدرك ما فعلت وتمح ما اثبت وتستأنف ضد القبيح الذي كتبت به وشافهت وتعتذر بالجميل فيما قاطعت الله به وبارزت ليكونن الحديث مني بغير الكتاب ولا زيلن السبب الذي قدرت به على مضرة الأصحاب وما اشد معرفتي بأن الطباع لا تتغير وبأنك ستحوجني بعد هذا الكتاب إلى ما لا يتأخر وبالجملة فاستدرك بفعلك لا بإيمانك لي وتنصلك إلى فالدم في النصل شاهد عجب
وويل لمن كانت غنيمته من الأيام عقد القلوب على البغضاء وإطلاق الألسنة بالمذام ولولا إنني شريكك في كل ما تستوحيه من الناس لألقيت حبلك على غاريك وتركتك وما اخترت لنفسك ولكن كيف بمن يرمي وليس برام ؟
ولكن سكوت الناس عن قبيحك مقابلة لجميل كثير مني فإذا أنت لا تنفق إلا من كيسي فأشفق على نفسك أن كنت تنظر في غد وعلى بيتك أن كنت تنظر في أمس وعلى مكانك مني أن كنت لا تنظر إلا في اليوم ولا تجاوبني إلا بلسان الرجل شاكرا لك فانه وأن كان والله ماذمك فقد ذممتك به عنه وما أظن انك تذكر إنني كتبت إليك كتابا ولا كنت اوثره ولولا حافظ غليظ ما كتبته ولولا علمي أن الكثير مما قيل عنك في أمر الرجل هو القليل مما فعلته لأضربت عن هذا كما أضربت عن غيره وستعرفك الأيام ما كنت تجهل .
والله بأخذ بنا صيتك إلى رضاه ويغمد سيف حليلتك عن مقلتك والسلام .
وكتب عبد الرحمن محمد بن طاهر المتوفى سنة 931 ه :
كنت – أعزك الله – عن ضمير اندمج على سر اعتقادك دره وتبلج في آفق ودادك بدره وسال على صفحات ثنائك مسكه وصار في راحتي سنائك ملكه ولما ظفرت بفلان حملته من تحتي زهرا جنيا يوافيك عرفه ذكيا ويواليك انسه نجيا ويقضي من حقك فرضا مأتيا على أن شخص جلالك لي مائل وبين ضلوعي نازل لا يمله خاطر ولا يمسه عرض دائر أن شاء الله عز وجل .






7- القصص الوعظية:
وهي قصص رمزية أو متخيلة غايتها تنبيه الناس أو حثهم على النضال أو دعوتهم للتخلص من ذنوبهم وانحرافاتهم ككتاب ( كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار) لعز الدين عبد السلام المقدسي ، وقد وفق الكاتب في ايجاد تسلسل واضح بين الحوادث وإقامة الحوار الشيق والعبرة لبني الإنسان.

8-المناظرة:
مناظرة السيف والقلم
لزين الدين عمر بن الوردي المتوفى سنة / 749 / انحدار
لما كان السيف والقلم عدتي والقول وعمدتي الدول فان عدمتها دولة فلا حول وركني إسناد الملك المعربين عن المخفوض والمرفوع ومقدمتي نتيجة الجدل الصادر عنهما المحمول والموضوع فكرت أيهما أعظم فخرا وأعلى قدرا فجلست لهما مجلس الحكم والفتوى ومثلتهما في الفكر حاضرين للدعوى وسويت بين الخصمين في الإكرام واستنطقت لسان حالهما للكلام فقال .
القلم : بسم الله مجريها ومرساها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها أما بعد حمد الله بارئ القلم ومشرفه بالقسم وجاعله أول ما خلق جمل الورق بغصنه كما جمل الغصن الورق والصلاة على القائل جفت الأقلام فان للقلم قصب السباق والكاتب بسبعة أقلام من طبقات الكتاب في السبع الطباق جرى بالقضاء القدر وناب عن اللسان فيم نهى وأمر طالما اربي على البيض والسمر في إضرابها وطعانها وقاتل في العبد والصوارم في القرب ملء أجفانها وماذا يشبه القلم في ناسه ؟ ومشيه لهم على أم رأسه ؟ قال السيف : بسم الله الخافض الرافع وأنزلنا الحديد فيه باس ومنافع أما بعد حمد الله الذي انزل أية السيف فعظم بها حرمة الجرح وامن خيفة الخيف والصلاة على الذي نفذ بالسيف سطور الطروس وخدمته الأقلام ماشية على الرؤوس وعلى اله وصحبه الذين أرهفت سيوفهم وبنيت بها على كسر الأعداء حروفهم فان السيف عظيم الدولة شديد الصولة محا اسطار البلاغة واساغ ممنوع الاساغة من اعتمد على غيره في قهر الأعداء تعب وكيف لا وفي حده الحد بين الجد واللعب ؟ فان كان القلم شاهدا فالسيف قاض وأن اقتربت مجادلته بأمر مستقبل قطعه السيف بفعل ماض به ظهر الدين وهو العدة لقمع المعتدين حملته دون القلم يد نبينا فشرف بذلك في الأمم شرفا بينا الجنة تحت ظلاله ولا سيما حين يسل فترى ودق الدم يخرج من خلاله زينت بزينة الكواكب سماء غمده وصدق القائل ( السيف اصدق أنباء من ضده ) لا يعبث به الحامل ولا يتناوله كالقلم بأطراف الأنامل ما هو كالقلم المشبه يقوم عروا عن لبوسهم ثم نكسوا كما قيل على رؤوسهم فكان السيف خلق من ماء دافق أو كوكب راشق مقدرا في السرد فهو الجوهر الفرد لا يشتري كالقلم بثمن بخس ولا يبلى كما يبلى القلم بسواد وطمس كم لقائمه المنتظر من اثر في عين في اثر فهو في جراب القوم الحرب ولهذا جاء مطبوع الشكل داخل الضرب .
قال القلم : أو من ينشا في الحيلة وهو في الخصام غير مبين يفاخر وهو القائم عن الشمال وأنا الجالس على اليمين ؟ أنا المخصوص بالرأي وأنت المخصوص بالصدى أنا آلة الحياة وأنت آلة الردى ما لنت إلا بعد دخول العمر وما حددت إلا عن ذنب كبير أنت تنفع في العمر ساعة وأنا افنى العمر في الطاعة أنت للرهب وأنا للرغب وإذا كان بصرك حديدا فبصري ماء ذهب أين تقليدك من اجتهادي وأين نجاسة دمك من تطهير مدادي ؟
قال السيف : أمثلك يعير مثلي بالدماء ؟ فطالما أمرت بعض فراخي – وهي السكين – فأصبحت من النفاثات في عقدك يا مسكين فأخلت من الحياة جثمانك وشقت انفك وقطعت لسانك ويلك أن كنت للديوان فحاسب مهموم أو للإنشاء فخادم لمخدوم أو للتبليغ فساحر مذموم أو للفقيه فناقص في المعلوم أو للشاعر فسائل محروم أو للشاهد فخائف مسموم أو للمعلم فللحي القيوم أما أنا فلى الوجه الأزهر والحلية والجوهر والهيبة إذ أشهر والصعود على المنبر ثم إني مملوك كمالك فالك كناسك اسلك الطريق واقطع العلائق .
قال القلم : أما أنا فابن ماء السماء وأليف الغدير وحليف الهواء أما أنت فابن النار والدخان وناثر الأعمار وخوان الأخوان تفضل مالا يفصل وتقطع ما أمر الله أن يوصل لا جرم أن صعر السيف خده وصقل قفاه وسقى ماء حميما فقطع معاه يا غراب البين ويا عدة الحين ويا معتل العين ويا ذا الوجهين كم أفنيت وأعدمت ؟ وار ملت وايتمت ؟
قال السيف : يا ابن الطين الست ضامرا وأنت بطين كم جريت بعكس وتصرفت في مكس وزورت وحرفت ونكرت وعرفت وسطرت هجوا وشتما وخلدت عارا وذما ابشر بفرط روعتك وشدة خيفتك إذا قست بياض صحيفتي بسواد صحيفتك فالن خطابك فأنت قصير المدة وأحسن جوابك فعندي حدة وافلل من غلظتك وجبهك واشتغل عن دم في وجهي بقيح في وجهك وإلا فادني ضربة مني تروم أرومتك فتستأصلك وتجثت جرثومتك فسقيا لمن غاب لك عن غابك ورعيا لمن لو أهاب بك لسلخ أهابك .
فلما رأى القلم السيف قد احتد الآن له من خطابه ما اشتد وقال : أما الأدب فيؤخذ عني وأما اللطف فيكتسب مني فان لنت لنت وأن أحسنت أحسنت تحن أهل السمع والطاعة ولهذا نجمع في الدواة الواحدة منا جماعة وأما انتم فأهل الحدة والخلاف ولهذا لا يجمعون بين سيفين في غلاف قال السيف : امكرا ودعوى عفة لأمرها ما جدع قصير انفه لو كنت كما زعمت ذا أدب لما قابلت رأس الكتاب بعقدة الذنب أنا الصيت والصوت وغراري لسان مشرفي يرتجل غرائب الموت أنا من مارج من نار والقلم من صلصال كالفخار وإذا زعم القلم انه مثلي أمرت من يدق رأسه بنعلي قال القلم : صه فصاحب السيف بلا سعادة كأعزل قال السيف : مه فقلم البليغ بغير حظ مغزل قال القلم : أنا ازكي واطهر قال السيف : أنا أبهى وابهر فتلا ذو القلم أنا أعطيناك الكوثر وتلا صاحب السيف لسيفه : فصل لربك وأنحر فتلا ذو القلم لقلمه : أن شانئك هو الأبتر قال : أما وكتابي المسطور وبيتي المعمور والتوراة والإنجيل والقران ذي التبجيل أن لم تكف عليك بقلمي سجلا بهذا الحكم قال السيف : أما ومتني المتين وفتحي المبين ولساني الرطبين ووجهي الصلبين أن لم تغب عن بياضي بسوادك لامسن وجهك بمدادك ولقد كسبت من الأسد في الغابة توقيع العين والصلابة مع إني ما الوتك نصحا افنضرب عنكم الذكر صفحا ؟ قال القلم : سلم أن كنت أعلى فانا اعلم وأن كنت أحلى فانا احلم وأن كنت أقوى فانا أقوم أو كنت الوي فانا ألوم أو كنت اطري فانا اطرب أو كنت أغلى فانا اغلب أو كنت اعتى فانا اعتب أو كنت أقضى فانا اقضب ؟ قال السيف : كيف لا أفضلك والمقر الفلاني شاد أزري قال القلم : كيف لا أفضلك وهو عز نصره ولي أمري ؟ قال الحكم بين السيف والقلم : فلما رأيت الحجتين ناهضتين والبينتين بينتين متعارضتين وعلمت أن لكل واحد منها نسبة صحيحة إلى هذا المقر الكريم ورواية مسندة عن حديثه القديم لطفت الوسيلة ودققت الحيلة حتى رددت القلم إلى كنه وأغمدت السيف فنام ملء جفنه وأخرت بينهما الترجيح وسكت عما هو عندي الصحيح إلى أن يحكم المقر بينهما بعلمه ويسكن سورة غضبهما الوافر ولجاجهما المديد ببسط حلمه .


مناظرة بين الجمل والحصان للمقدسي المتوفى سنة / 875 /
قال الجمل : أنا احمل الأحمال الثقال واقطع بها المراحل الطوال وأكابد الكلال واصبر على مر النكال ولا يعتريني من ذلك ملال وأصول صولة الادلال بل انقاد للطفل الصغير ولو شئت استصعبت على الأمير الكبير فانا الذلول وللأثقال حمول لست بالخائن ولا الفلول ولا الصائل عند الوصول اقطع في الو حول ما يعجز عنه الفحول واصابر الظلماء في الهوا جر ولا أحول فإذا قضيت حق صاحبي وبلغت مأربي ألقيت حبلي على غاربي وذهبت في البوادي اكتسب من الحلال زادي فان سمعت صوت حادي سلمت إليه قيادي وواصلت فيه سهادي وطلقت طيب رقادي ومددت عنقي لبلوغ مرادي فانا أن ضللت فالدليل هادي وأن زللت اخذ بيدي من إليه انقيادي وأن ظمئت فذكر الحبيب زادي وأنا المسخر لكم بإشارة وتحمل أثقالكم فلم أزل بين رحلة ومقام حتى أصل إلى ذلك المقام .
فقال الحصان : أنا احمل صاحبي على كاهلي فاجتهد به في السير وانطلق به كالطير اهجم هجوم الليل واقتحم اقتحام السيل فان كان طالبا أدرك بي طلبه وأن كان مطلوبا قطعت عنه سببه وجعلت أسباب الردى عنه محتجبة فلا يدرك مني إلا الغبار ولا يسمع عني إلا أخبار وأن كان الجمل هو الصابر المجرب فانا السابق المقرب وأن كان هو المقتصد اللاحق فانا المقرب السابق فإذا كان يوم اللقاء قدمت أقدام الواله وسبقت سبق نباله وذلك متخلف لثقل أحماله وأن أوثق سائسي قيدي وامن قائدي كيدي أوثقت بأشكالي لكيلا أحول على إشكالي وألجمت كيلا أكل عن أقدامي فانا الموعود بالنجاة العدود لنيل الجاه المشدود للسلامة المقصود للكرامة قد أجزل المنعم على أنعامه امضي بالعناية الأزلية أحكامه فان الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة خلقت من الريح فكم ركضت في ميدان السباق وما أبديت عجزا وكم حزرت رءوس أهل النفاق حزا وكم أخليت منهم الآفاق هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا .

9- النثر العلمي :
وهو ما كتب في العلوم الطبيعية والطبية والرياضية بأسلوب واضح ، سهل بعيد عن التكلف كما في كتاب: (حياة الحيوان) للدميري
10-السير الشعبية :
وهي قصص شعبية تدور أحداثها حول مفاجآت وبطولات ومآزق ترسم صورة من صور المجتمع تعتمد في أسلوبها على السجع والترادف وتكرار الألفاظ والعبارات مع وصف حي للمدن والأرياف والجبال والأنهار ، وتصوير واقعي للأسواق التجارية .
11- المسرح:
وقد ظهرت بدايته في (خيال الظل) من خلال مسرحيات ابن دانيال ( طيف الخيال- عجيب وغريب- المتيم).
وقد تنوعت قوالب المسرحيات بين الشعر والنثر والزجل.

الباب الثامن
الفصل الثاني
أهم المؤلفات في هذه العصور:
استأنف العلماء والأدباء نشاطهم العلمي في مصر والشام بعد تخريب بغداد ، ويعد عصر الانحدار عصر الموسوعات إذ بدأ المتأدبون في تجميع العلوم في موسوعات مستقلة من أهمها:
1- المؤلفات الدينية : في علوم القرآن والحديث والتفسير والفقه مثل : فتاوى ابن تيمية (38) مجلداً.، والاتقان في علوم القرآن للسيوطي.
2- كتب اللغة : لسان العرب لابن منظور – القاموس المحيط للفيروز آبادي – مغني اللبيب لابن هشام – قطر الندى و شذور الذهب لابن هشام – ألفية ابن مالك- كتاب المزهر في اللغة والأشباه والنظائر في النحو وكلها للسيوطي.
3- كتب الأدب : المستطرف في كل فنّ مستظرف للأبشهي – نسيم الصبا لابن حبيب الحلبيّ – خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحمويّ. 4-كتب البلاغة: تلخيص المفتاح للقزويني.
5-كتب التاريخ: كتاب المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء البداية والنهاية لابن كثير – النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي.
6- كتب الجغرافيا والرحلات: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقزيزي – تقويم البلدان لأبي الفداء– تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار لابن بطوطة.
7- الكتب الموسوعية : مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لشهاب الدين العمري- نهاية الأرب للنويري – وصبح الأعشى للقلقشندي.



الباب الثامن
أنواع الأدب الشعبي
الباب الثامن
الفصل الأول :
ماهية الأدب الشعبي وخواصه
الذي يحمل الأدب الشعبي خاصتين , أولاهما أن يكون بلغة عامية ( ملحونة ) أي بلغة عامة الشعب والناس في أحاديثهم العامة وقضاء حاجاتهم اليومية , وثانيهما انه يعرض لحياة الناس من عامة الشعب , وخبايا وجداناتهم , ومكنون مشاعرهم , كما يبين عن اهتماماتهم , وربما كان هذا الضرب من الأدب من صنع مجهول أو من صنع جماعة من الناس اشتركوا فيه في جيل واحد أو أجيال متعاقبة , في بلد واحد أو بلاد متفرقة , وربما كان من صنع علم معروف مشهور من رجال الأدب والفن , ولكن سار , وتناقلته السنة الناس .
ولاحظنا في الأدب العربي عامة والمصري خاصة اتجاها إلى هذا اللون من الأدب منذ القرن السادس الهجري , وكانت قد تعددت ألوانه ظهورا في المشرق والمغرب , في بلاد العراق وفارس , وفي الأندلس والمغرب ثم ما بينهما .
واظهر تلك الألوان في المنظوم : ( القوما – والكان كان – والمواليا والزجل والموشح ) , وفي المنثور ( المقامة والقصة الشعبية والسيرة ) .
ولم يقتصر دور الأدب الشعبي على ظهور تلك الألوان الجديدة في المنظوم والمنثور بل تعداه إلى الأدب الفصيح فاثر فيه ومال به نحوه , وصار أدباء الفصحى يقلدون أدباء العامية في اللفظ والأسلوب وبعض التغييرات السائرة , بل وفي الخيالات والصور .
وممن تأثر بهذا كثير من أدباء العصر أمثال البهاء زهير , والأسعد ابن مماتي , والبوصيري , والحسين الجزار , ومحمد بن دانيال .
وعدد الصفي الحلي أنواع النظوم المعروفة في عصره سبعة أنواع بين فصيح وشعبي . هي الشعر القريض , والموشح والدوبيت والزجل والمواليا والكان كان , والحماق وأهل العراق وديار بكر ومن يليهم يثبتون الخمسة منها , ويبدلون الزجل والحماق بالحجازي والقوما , وهما فنان اخترعهما البغاددة للغناء بهما في السحور في شهر رمضان , خاصة في عصر الخلفاء من بني العباس , فأما عذرهم في إسقاط الزجل فلأن أكثرهم لا يفرق بين الموشح والزجل , والمرنم , فاخترعوا عوضه الحجازي , ( وهو وزن بيتين من بحر السريع بثلاث قواف ) , كما اقتطع الوسطيون المواليا ( وهو بيتان من بحر البسيط ) , وهذا يشبه الزجل في كونه ملحونا , وانه بعد كل أربعة أقفال منه بيت ويخالفه بكون القطعة منه لو بلغ عدد أبياتها ما بلغ لا تكون إلا على قافية واحدة . فأما عذرهم في إسقاط الحماق , فإنهم لم يسمعوه أبدا .
وإذا أضفنا الفنين اللذين أوردهما الصفي الحلي لأهل العراق , وهما الحجازي والقوما ثم الثالث وهو المزنم , والبليق الذي عرفه المصريون وبعض الشوام كان عددهم احد عشر فنا ً منظوما ً .
وفيما عدا القريض – وهو الشعر الفصيح – يصبح عدد الفنون الشعبية المنظومة عشرة كاملة بعضها معروف الأشكال والأوزان محددها , وبعضها الآخر مختلط غير محدد . وذكر الحلي أن ثلاثة منها معربة أبدا لا يغتفر فيها اللحن هي القريض والموشح والدوبيت , ومنها ثلاثة ملحونة أبدا وهي الزجل وكان وكان والقوما وواحد كالبرزخ بينهما يحتمل الإعراب واللحن وإنما اللحن فيه أحسن وأليق . وهو المواليا .
وإذا تأملنا قول الحلي وجدنا انه لا يصح دائما لان الموشح نظم باللغة العامية . كذلك لو أدخلت عليه العامية حتى في أولى أطواره في القرن الخامس الهجري , حين لجأ الوشاحون إلى تذييله بالخرجة , وهي أكثر ما تكون بالعامية الدارجة غير المعربة ,.والفصيح منها قليل نادر . كذلك الدوبيت ليس من فنون نظوم الفصيح , وما هو عامي كله بل تناقلته العامية والفصحى .
ولا تزال أشكال من الدوبيت في اللهجات العامية تعيش إلى الآن في السودان . وكاختلاط اللغة اختلطت الأوزان والأشكال , وقد حاول بعض القدماء كالمجنى في ( خلاصة الأثر ) دراسة كل نوع منها , وبيان أوزانه وعروضه وبنائه .
1- الموشح :
وأول هذه النظوم وأقربها إلى ( القريض ) ( الموشح ) لأنه يستخدم الأوزان الشعرية المعروفة , وإن تصرف فيها وادخل بعض اشطرها على بعض أو استخدم تفعيلات مفردة منها وألف بينها . وله كذلك قوالب متوارثة مدروسة , تحد في ثلاثة أصول هي : القفل والغصن ( أو الأبيات ) ثم الخرجة , وهي القفل الأخير لكن يلفظ عامي , ويراعى فيها أن تكون خارجة في موضوعها عن تسلسل موضوع الموشح . فتجيء كالملحة في الختام . ومنه نوعان الأول يسمى الموشح الأقرع , ويتكون من خمسة أقفال , وخمسة أبيات أو أغصان . وسمي كذلك لحذف القفل الأول من مطلعه , وبدايته مباشرة بالغصن أو الأبيات .
والبسيط , ويتكون من قفل بسيط من شطرين من وزن واحد وغصن من أربع شطرات , والمركب وفيه يتركب كل من القفل والغصن بزيادة عدد الفقرات أو الشطرات أو بإدخال أجزاء منها وتفعيلات بينها أو في نهايتها .
ويشترط في الأقفال أن تكون موحدة القافية والوزن في الموشح كله من أوله إلى آخره .
وإما الأبيات والأغصان فهي موحدة الوزن متغيرة القوافي , في كل غصن قافية مختلفة , والخرجة , هي الجزء الثالث وهي من وزن القفل وقافيته , لكنها تكون غالبا ً باللغة الدارجة المعربة كما اشرنا .
إلا أن هذه الأصول لم تراع دائما في الموشحات التي صنعت فيها في هذا العصر , بل تصرف الوشاحون تصرفا ً كبيرا في عدد الأقفال والأغصان في الموشح الواحد , كما تصرفوا في بناء المركب ولم يراعوا حدود الموشح الأندلسي تماما ً .
فمنهم من زاد كثيرا ً في عدد الأقفال والأبيات عن العدد المقرر وهو ستة أقفال وخمسة أبيات في التام أو خمسة وخمسة في الأقرع , ونجد النصيري الادفوي – على سبيل المثال ينظم موشحا من ثمانية أقفال وسبعة أغصان , وابن مكانس فخر الدين ينظم موشحا من واحد وخمسين قفلا وواحد وخمسين غصنا وقد يخلط بعض الوشاحين بين الدوبيت والموشح في نظم واحد مثل قول الشهاب العزازي في موشح دوبيتي :
أقسمت عليك بالأسيل القاني أن تنظري حال الكثيب الفاني
أو تقصر عن إطالة الهجران يا من سلب المنام من أجفاني
ما أليق هذا الحسن بالإحسان
والله لقد ضاعفت عندي الكمدا مذ جزت في الهجر الطويل الامدا
أدرك رمقي أو هب فؤادي جلدا يا من اخذ الروح وأبقى الجسدا
ما اصنع بعد الروح بالجثمان
ويمضي على هذا النسق حتى آخر الموشح , مكونا من سبع فقرات , تجمع بين سبعة أغصان وسبعة أقفال , وهذا النظم من نوع الأقرع .
وكانت الموشحات تصنع ليتغنى بها , وغالبا ما يكون الوشاح مغنيا أو عالما بالموسيقى وعازفا ً على آلة من آلاتها , ويراعي في بنائها أن تكون طيعة اللحن تقبل ما يدخله عليها الموسيقى من فنون النغم , كذلك اظهر الوشاحون براعتهم في التلاعب بأصوات الحروف , وإيجاد ضروب من التناسق والتلاؤم أو الجناس الصوتي . كقول النصير الحمامي :
يا منتهى الآمال أما لي في الحب من مجير
أرئي لجسمي البالي يا بالي وارحم في أسير
فقد بذلت الغالي يا غالي في القدر يا أمير
وخرجت بعض موشحات العصر بأوزانها عن الأوزان المألوفة المعتادة , وإيقاعاتها عن الإيقاعات المعهودة في الشعر الفصيح , وحاولت أن تدخل إيقاعات جديدة , ممزوجة بكثير من التراث الشعبي والأجنبي والمحلي في كل إقليم .
وغالبا ما يكون وفود الموشح إلى مصر والشام في أخريات القرن السادس الهجري , فقد نظم فيه ابن سناء الملك الشاعر المصري , كما قيل أن ابن البلطي المصري صنع موشحا بديعا في القاضي الفاضل على طريقة المغاربة . وحافظ فيه على أحرف العين والضاد والذال والطاء وصرع التوشيح بورودها , وكانت موضوعات الموشح التقليدية هي الغزل , والشراب والوصف , لكن استخدمه بعضهم في المديح والرثاء أي في مواقف الزلفى والتكسب كما استخدم شعر القصيد . قال ابن حجر : قال حميد الضرير يرثي ابن أبي الرضى الفقيه بموشح منسجم النظم :
على ابن الرضى مضى اصطباري وسارا
وعيني قد جرت من عظم ناري بحارا
مدارس درسه حنت إليه وحن العلم والعلما لديه
وأشياخ الحديث بكت عليه
الزجل :
ويعتبر الصورة العامية الخالصة للموشح , فهو يتخذ شكله ومادته وبناءه من الأقفال والأغصان وان استخدم عروض الشعر الفصيح ونظام الموشح في التركيب والبساطة .
وفد الزجل إلى مصر والشام صحبة الموشح من الأندلس والمغرب , وكان قد خرج هناك واشتد عوده على يد ابن قزمان , ولكن المصريين تفننوا فيه وبرعوا , وتمثل للزجل وكونه على صورة الموشح شكلا ووزنا لكن كلامه عامي , يقول عبد الملك بن الأعز الاسنائي ( توفي سنة 707 ) قال ابن شاكر : (( ومن شعره في وزن من أوزان الشعر العامي :
جفوني ما تنام إلا لعلي أن أراك
فزرني قد براني الشوق يا غصن الأراك
وطرفي ما رأى مثلك وقلبي قد حواك
فهو لم يزل مسكن
فسبحان الذي اسكن
وحسنك كم به افتن
وما قصدي سواك
حبيبي آه ما أحلى هواني في هواك
ونلاحظ على هذا الزجل ملاحظات :
أولا ً : انه لا تجري على صورة الموشح التقليدية فهو مكون من خمس فقرات , وكل فقرة من غصن مركب من ثلاثة أغصان , كل واحد منها ثلاثة أبيات مقفاة بقافية مشتركة , ثم قفل مكون من ثلاثة أجزاء منها جزآن بقافية مشتركة ملتزمة في طول الزجل , والوسطة مطلقة . ثانيا ً : اللغة الغالبة هي العامية أو غير المعربة , فاللحن هو الأساس ويأتي الفصيح تملحا وتوشية وسط اللفظ الملحون .
ثالثا ً : هذا الشكل نادر في الموشح , نادر كذلك في الزجل العادي المألوف في العصر وقد أورد لنا الادفوي زجلا لهارون بن موسى بن محمد الرشيد المعروف بابن المصلي الارمني المتوفي سنة 730 هـ يسير فيه على نمط الموشح بتصرف , ويخرجه عن كونه موشحا لغته العامية وتصرفه في أقفاله وأغصانه . يبدأ نظمه على شكل الموشح التام , فيقول في القفل الأول :
بدوية في بيوتي ساكنة صير تعندي المحبة كامنة
اسمها ست العرب هيجت عندي الطرب
وبدوية اسم الفتاة التي يتغزل بها , وبدوية اسم بلدتها .
ويأخذ في بقية الموشح فيجيء الغصن الأول من جزأين يعرض فيه قصته فيقول :
أنا قاعد بين جماعة نستريح
عبرت واحدة لها وجه مليح
بقوام اعدل من الغصن الرجيح
في الملاحة زايدة
ووراها قايدة
لو تكون لي رايدة
ثم يأتي القفل :
كنت نعطيها ألف دينار وازنه وبندخل في بيوتي مادنه
وترى مني العجب في تصانيف الأدب
ويستمر في هذا الزجل اللطيف فيقول :
نفرت مني كما نفر الغزال وأسفرت لي عن جبين يحكي الهلال
ورنت أرمت بعينها نبال
ثم قالت يا فلان
خد من أحداقي أمان
معك على طول الزمان
فانا والله مليحه فاتنة ومن الحساد ما أنا آمنة
والملوك وأهل الرتب ياخذو مني الحسب
قلت يا ستي أنا هوني نموت
ادفنوني عندكم جوا البيوت
والعذارى حولها يمشون سكوت
ثم قالو كلميه
يا غريبة وارحميه
دا غريب لا تهجريه
يشتهر حالك يصير لك كاينه يقتلوه اهلك وتبقي ضامنة
دا الحديث فيه العطب ليس دا وقت الغضب
وتبدو في هذا الزجل خصائص اللهجة المحلية في إقليم ادفو بالصعيد , ويقفنا على بعض الكلمات التي كانوا ينطقونها بطريقة تخالف نطق أهل القاهرة مثلا من العامية المتداولة في كثير من الزجل الذي وصنا لمشاهير الزجالين والأدباء , ويمتاز هذا الزجل بطرافة موضوعه لأنه يحكي قصة حب الزجال لفتاة بدوية , أهلها أصحاب صولة , ولا تزال قصص عشق البدويات تدور في الأدب الشعبي المنظوم والمنثور , ويشكل هذا الزجل في أسماعنا نظما ً طريفا ً له موسيقاه الجديدة بالنسبة لغيره من الأزجال في عصره , ولكن نغمته لا تزال لها أصداء بعيدة تتردد في أغاني الصعيد بمصر إلى الآن , ويتدرج فيه النغم ويتنوع ., وقد اكتسب شهرة في عصره بين مواطنيه بالصعيد .
وليست كل منظومات الزجل كتلك المنظومة متعددة الأوزان . بل غالبا ًما تكون المنظومة الزجلية متحدة الوزن وإن تعددت القوافي , كقول ابن جابر البغدادي في دراويش الصوفية :
لا بد تظهر بين الناس قلندري محلوق الرأس
تلبس عوض دا الكتان وحلتك صوف الخرفان
أو دلق أو تصبح عريان
ومن الزجل ما يمضي على شكل الرباعي أو الدوبيت .
ويمضي الزجل على هذه الصورة إلى آخره . ونلاحظ بدأه بمطلع مزدوج على قافية واحدة تتكرر في كل مقطع أو دور , تكرر القفل في الموشح , لكن الزجال يكتفي هنا بشطر واحد ذي قافية ثابتة .
وشاع هذا الشكل الأخير في الزجل أكثر من غيره , ونظم فيه معظم زجالي العصر . ومع ذلك فقد اعترف بعض الباحثين في هذا الفن من القدماء بتعدد أشكال الزجل وأوزانه .
ويتضح أن بعض الباحثين في تلك الضروب النظمية حاولوا تحديدها وحصرها , لكنهم على قدر ما جمعوا من الأسماء اشتبكت أمامهم السبل واختلطت , ولم يحددوا المسميات تحديدا ً قاطعا من حيث الوزن والشكل والمضمون .
وليس حصر الزجل في موضوعات الغزل , وحكاية الحال صحيحا إلى حد كبير في هذا العصر , ذلك أن الزجل في عرفهم شمل كثيرا من الموضوعات الأخرى ( التقليدية ) أو الرسمية التي خاضها شعر التكسب , كالمديح والرثاء . ومنه ما نظمه بدر الدين الزيتوني يرثي أهل مصر ممن أهلكهم الطاعون فقال :
وحدوا من قد حكم بالموت ونفذ حكمه بما يختار
واحتجب عن العيون سبحانه جل من لا تدركو الأبصار
بالممات رب البشر لما قد حكم في الكائنات باجمع
وخلف الغباري هذا زجل في مناسبات شتى , فقد كان يقوم بدور الشاعر الرسمي للبلاط المملوكي في عصره , ينظم في كل حدث أو مناسبة كبيرة , يؤرخ بها لوقائع سيده السلطان , فمن ذلك ما نظمه في وقعة العربان بالبحيرة سنة 781 هـ . يقول :
باسم رب السما ابتدي فارج الهم والكرب
ونعيد للذي حضر قصة الترك والعرب
جا الخبر يوم الاربعا بأن في ليلة الأحد
جا دمنهور عرب خدوا سوقها واخرابوا البلد
وابن سلام أميرهم هو الذي للجميع حشد
فبرز ايتمش سريع بمماليك وروس نوب
والزجل طويل قسمه الغباري إلى ادوار , كل دور من مقطعين , ويقص قصة تلك الواقعة بين العربان والمماليك , وهو صورة لاتخاذ الزجل شكلا ً للملاحم التاريخية , وقد سار في هذا الطريق فورث الشعر الفصيح شيئا ً فشيئا ً في مصر المملوكية , وبعض البلاد العربية الأخرى .
البلاليق : ( البليق ) :
ومفردها بليقة , وهي منظومة زجلية , لكنها اختلفت عند المصريين عن الزجل في موضوعاتها إذ اقتصرت على الموضوعات الخفيفة السائرة الفكاهية , أو الساخرة . وغالبا ً ما تكون أوزانها خفيفة على السمع واللسان , ولذا كانت أكثر سيرورة بين العامة من الزجل , ونظم فيها العامة في صور مختلفة ومناسبات متعددة , ومن عصر السلطان الناصر نجد بليقة تداولها الناس , واشتهرت . قال ابن إياس : (( إن العوام صنعوا كلاما ً ولحنوه , وصاروا يغنونه في أماكن التفرجات وغيرها , وهو هذا :
سلطاننا ركين ونائبو دقين
يجنا الماء منين
هاتوا لنا الأعرج يجي الماء يدحرج
يشيرون بذلك إلى ما أصاب مصر بعد سلطنة الناصر الأولى من انخفاض النيل , وما جرى من الشدة . وعزا العامة ذلك إلى ظلم المماليك والسلطان ركن الدين بيبرس الجاشنكيز الذي اغتصب هو ونائبه سلار السلطة من الناصر محمد وهو غلام سنة 706 هـ ونفياه إلى الكرك . ويقصدون بركين ركن الدين تصغيرا للاحتقار , ودقين هو الأمير النائب سلار , لأنه كان قليل شعر الذقن , اجرد , فهو من أصل مغولي .
ومثل هذه البليقة الشعبية التي تتميز بخفة الوزن وسرعة الجريان على السنة الناس قول ابن مولاهم :
من قال إني جندي خلق فقد صدق
عندي قبا من عهد نوح على الفتوح
لو صادفتو شمس السطوح كان احترق
وعلى هذا الوزن نفسه نجد بليقة أخرى نظمها الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن الخراط الفقيه , مطلعها :
من قال أنا فقيه بشر فقد فشر
ومع هذا الشكل الخاص الذي غلب على كثير من بلاليق العصر , إلا أن البناء العام قريب الشبه ببناء الموشح والزجل , فالبليقة تحتوي على المطلع أو القفل , والغصن , والخرجة , مع بعض التحوير .
ونرى بليقة مما رواه الادفوي في الطالع على هذا النحو :
ومقبل ابق عازب ساقتني المقادير
أزوجت صرت معدود من جملة المدابير
وبناء هذه البليقة بناء زجل بسيط , لكننا نلاحظ ملاحظتين , أولاهما أن صاحبها عمد إلى التضمين في القفل الأخير , كما عمد إلى الجناس شبه التام في القفل نفسه بين اساطير ومساطير .
وترى صورة أخرى للبليقة من نظم الشرف الطفال ( توفي سنة 722 هـ ) قال :
في دي المدرسة جماعا نسا
إذا أمسى المسا ترى قرقعة
نسادي الزمان عجيبة يفلان
يكونوا ثمان يصيروا أربعة
فقد استعان ناظم هذه البليقة بنظم الدوبيت , بالتزام ثلاث قواف مطلقة , والرابعة مقيدة في كل دوبيت , ومن مجموع الدوبيت تتكون البليقة , وهو نوع مما اشرنا إليه من قبل في الموشح الدوبيتي , وهذا دليل على اختلاط هذه الأوزان الشعبية المستحدثة , التي تنتمي في أصولها إلى أقاليم مختلفة في المشرق والمغرب .
ومن البليق ما جاء على وزن المثنوي مثل قول ( ساكن البليقي ) :
بسى من الدين التاني نرجع لدين الحقاني
نرجع عن الدين الأول عن النسا لن نتحول
إن كنت في ذا بتقول اصفع وقطع اذاني
وربما عمد بعض الناظمين إلى إعرابها وإخراجها مخرج الشعر الفصيح المعرب , مع إدخال بعض الألفاظ العامية أو الملحونة على أسلوبها .
واتخذها بعض شعراء القريض شكلا مناسبا للهجاء أو الهزل والفكاهة في مواقف اللهو ومجالس الأنس .
وكان الأديب عبد الكريم بن علي الشهرزوري ( توفي حوالي سنة 710 هـ ) ينظم الأزجال والبلاليق في الهزل . وذكر صلاح الصفدي أن ابن فضل الله العمري ( نظم كثيرا من القصائد والأراجيز والمقطعات والدوبيت والموشح والبليق . )) .
وكان القاضي تقي الدين ابن دقيق العيد ( ولد سنة 657 هـ - وتوفي سنة 715 هـ ) يقول البلاليق .
المواليا : وهو صورة أخرى من النظم الشعبي يجري على وزن واحد غالبا ً . أشبه بالقصيد في الشعر الفصيح . لكنه يلتزم أشكالا خاصة في القافية . ويختلف الناس في نشأة المواليا وتاريخه فقوم يرجعونه إلى العراق ويرتدون به إلى أخريات الدولة العباسية في القرن الخامس ا وفي أخرياته وبداية السادس , ويبعد آخرون به في التقدم فيردونه إلى القرن الثاني في عهد البرامكة , ويرى بعضهم أن أصل نشأته بغداد ويرجح آخرون أن موطنه الأول هو البصرة .
ولكنه على أية حال عراقي النشأة , وفد إلى مصر وتأصل كالزجل والموشح . ويقول صاحب ( تاريخ الموصل ) إن أهل واسط هم اللذين أحدثوا المواليا , فنظموا فيها الغزل , وتناولها العبيد والغلمان لسهولتها فصاروا يتغنون بها في بساتين النخل وسقي الأراضي وكانوا يقولون في آخر كل صوت ( يا مواليا ) إشارة إلى أسيادهم , ثم أخذها عنهم البغداديون وادخلوا عليها بعض الإصلاح حتى عرفت بهم دون مخترعيها )) .
وقال ابن خلكان : (( وقد الم بعض البغداديون في مواليا على اصطلاحهم فإنهم ما يتقيدون بالإعراب فيه , بل يأتون به كيفما اتفق . وهو :
ظفرت ليله بليلي ظفرة المجنون
وقلت وافي لحظي طالع ميمون
تبسمت فأضاء اللؤلؤ المكنون
صار الدجى كالضحى فاستيقظ الواشون
والشكل الشائع للمواليا هو هذا الذي أورد نموذجا له ابن خلكان في المقطوعة السابقة , ووزنه من بحور الشعر ( القريض ) يجري على بحر واحد مع تنويع آخره وتغيره أحيانا في التفعيلة . وأكثر المواليا التي وصلتنا من هذا العصر من بحر البسيط ومن الرباعي , وأورد صاحب ( مرآة الزمان ) مواليا ليس من هذا الشكل الرباعي منسوبا إلى الشاعر البغدادي وهو قريب في صورته من الزجل . وربما اخطأ في جعله من المواليا , هو :
مالي ومالي ومالي تغيرت أحوالي
لقيت ما لا يكيف ولا يدور ببالي
ما مثلهم يحسدوني ولا هم أمثالي
هم هم نفسي وضيقوا في حبسي
ومزقوا كتب درسي عمدا وهم رأسمالي
ويدور موضوع المواليا كالموشح والزجل في الغزل غالبا ً أو شكوى الحال فمن الغزل قول عز الدين أبي اسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان , :
البدر والسعد دا شبهك ودا نجمك
والقد , واللحظ , دا رمحك ودا سهمك
والبغض والحب , دا قسمي ودا قسمك
والمسك والحسن , دا خالك ودا عمك
وقد استخدم صاحب هذا الموال ضروب البديع في القريض والكتابة الفنية في العصر , وخاصة الأنواع التي شاعت بين أدباء الشام ومصر كالتورية ويظهر في البيت الأخير بوضوح في لفظي ( خالك وعمك ) إذ ورى في الخال معنى ( خال ) الحسن , الذي يشبه عادة بنقطة المسك , وفي عمك ورى فعل الشمول أو عموم الحسن .
ويلجا بعض الموالي إلى هذه الطريقة في نهاية كل دور , أو في نهاية الموال , ومنه قول البهاء خضر بن سحلول يمدح يلبغا الناصري صاحب حلب في أثناء النزاع بينه وبين السلطان الظاهر برقوق :
يا ناصري سهم عزك في العدا مرشوق
وأنت منصور , ومن حنت إليه النوق
اصبر فما دامت الشدة على مخلوق
إذا يجي الخوخ وتذهب دولة البرقوق
ويقول حوبان بن مسعود ( توفى سنة 680 هـ ) في موال يشكو موعدا ً مع حبيب وطول انتظاره :
تغيب وتبطي , أقول السا تجي واقوم
اجري عليها وامسيها مسا ميشوم
تجي ومعها الشوا والنقل والمشموم
واسكت ومن هوني قال الناس دا مطعوم
وينظم في أغراض الشعر التقليدية كالمديح والرثاء , ولكنه قليلا ما يستخدم في هذه الأغراض . ومن هذا القليل قول شمس الدين الواسطي في الرثاء :
مامت حتى جفاني كل من في الحي
وملني وقلاني كل من لو شي
وأنت ما في العجم والعرب مثلك حي
يا من طوى بالمكارم ذكر حاتم طي
ويغلب على لغة الموال اللفظ العامي , غير المعرب لكن يحلو لبعض الموالين استخدام بعض ألفاظ معربة في حشو مواويلهم تملحا ً , وربما غلب اللفظ المعرب عند بعضهم , كما في قول البطراوي الدمشقي في ذم الدنيا :
كيف اعتمدت على الدنيا وتجريبك
أراك فلك ثراها كيف تجري بك
ما زالت الخادعة تدنو فتغري بك
حتى رمتك بإبعادك وتغريبك
واستخدم الصوفية الموال في نظم أغانيهم . كقول عبد العزيز أبي فارس عبد الغني بن أبي الفراج ( توفي سنة 703 هـ ) من تلاميذ ابن عربي :
لم تدعي الذوق والوجدان والأحوال
وأنت خالي من الإخلاص في الاعمال
ارجع لجسمك فسم البين لك قتال
ترمي حجر ما يشيله خمسميت عتال
الدوبيت :
والدوبيت هو في الأصل كلمة فارسية أطلقت على شكل من أشكال النظم الفارسي هو ( الرباعية ) . وانتشر الدوبيت على لسان شعراء الفرس منذ القرن الخامس . وزاد شهرة الشاعر الفارسي عمر الخيام بنظمه رباعياته المشهورة , وكذا استخدمه جماعة من شعراء الصوفية الفرس في القرنين السادس والسابع . ومن فارس انتقل مغربا إلى سائر البلاد العربية وكان أول البلاد العربية وأكثرها تأثرا ً به العراق ثم الشام فالسودان . وظل الدوبيت في السودان شكلا ً للتعبير في النظم العامي إلى يومنا هذا .
والدوبيت من بحور الشعر المهملة , وتفعيلاته (( فعلن متفاعلن فعولن فاعلن )) . وقد لا يجري كل ما قيل من الدوبيت على هذا البحر بل كثيرا ما يشذ بعض ناظميه ويخرجون عنه بضروب من التصرف , لكنهم يحافظون على شكله العام .
وشكله العام أو بناؤه يتكون من أربع شطرات كالموال , لكنه لا يجري على قافية واحدة مثله , بل المشهور فيه ثلاث متشابهات وواحدة مطلقة مثل قول احدهم :
الصب بك المنعوب والمتعوب والقلب بك الملسوب والمسلوب
يا من طلبت لحاظه سفك دمي مهلا ً ضعف الطالب والمطلوب
ويقسم إلى ثلاثة أقسام , الأول بأربع قواف كالمواليا , والثاني أعرج بثلاثة , والثالث مردوف بأربع واحدة فيها مطلقة هي الثالثة .
وأكثرها شيوعا ً النوع الثاني ( الأعرج ) ويليه النوع الأول . ومنه قول زين الدين عبد الله بن محمد بن عبد القادر الحلبي الشافعي , ( توفي سنة 724 ) :
يا عصر شبابي المفدى أرأيت ما أسرع ما أبعدت عني ونأيت
قد كنت مساعدي على كيت وكيت واليوم فلو أبصرت حالي لبكيت
ويكون الدوبيت شعرا ً معربا ً كالمثال السابق الذي يمكن قراءته معربا وملحونا ً , ومنه يمتزج اللحن فيه بالإعراب , واللفظ العامي بالفصيح , ومنه العامي الملحون أبدا ً .
ويذكر الحلي في الحالي والعاطل انه لا يجوز في الدوبيت اللحن .
ومع ذلك فقد جاء الدوبيت ملحونا ً , فيما ذكرنا من الأمثلة وفي قول علي بن محمد بن جعفر القوصي ( المتوفي سنة 701 هـ ) :
يا عين بحق من تحبي نامي نامي فهواه في فؤادي نامي
والله ما قلت ارقدي عن ملاله إلا لعسى تريه في الأحلام
واستخدم في الدوبيت في أغراض الشعر كالغزل والعشق والتصوف , فما قيل في الغزل قول علاء الدين الجويني :
لله مبيتنا بضوء القمر والحب نديمنا وصوت الوتر
قد رق فرق نسيم سحر ما ابرد ما جاء نسيم السحر
وقال عز الدين الاربلي ( توفي سنة 660 هـ ) :
لو كان لي الصبر من الأنصار ما كان عليك هتكت الأستار
ما كان يأسمر لو بت لنا في دهرك ليله من السمار
وقال :
لو ينصرني على هواه صبري ما كنت الذ فيه هتك الستر
حرمت السمع سوى ذكرهم مالي ستر سوى حديث السمر
وقال الباجي ( توفي سنة 714 ) :
بالبلبل والهزار والشحرور يسبي طربا قلبي الشجي المغرور
فانهض عجولا وانتهب اللذة ما جادت كرما به يد المقدور
واستخدم الصوفية الدوبيت , فكثر نظمهم فيه , وربما تأثروا بصوفية الفرس . فمن نظم منهم محمد بن إسرائيل . قال :
قد بالغ في حديثه بالمين من قال قد رأيت مثله بالعين
ما يبصر مثله سوى ذي نحول من حيث يرى الواحد كالاثنين
ومنه قول محمد بن علي بن إبراهيم الواسطي ( توفي سنة 777 هـ ) وكان احد الصوفية بخالقاه البيبرسية :
ما زال بقلبه لهيب النار حتى ترك الجسم خيال ساري
دع عنك ملامه فلا يعلم ما قاساه الواسطي إلا الباري
وقال :
إن ضر مني بجذوة التذكار حبي وبري جسمي شكرت الباري
فالعاذل في هواه لا عقل له ما أبلد عاذلي وأذكى ناري
وقال , نلاحظ اختلافا في الوزن عن وزن الرباعية الشائع :
والذي خص بخال عمه الحسن حسن
لم يذق جفني لما فرض الهجر وسن
كان وكان :
ظهر هذا اللون من النظم الشعبي بالعراق , وأحدثه البغداديون وسمي بهذا الاسم لأنهم كانوا ينظمون فيه الحكايات والخرافات حتى جاء ابن الجوزي ( توفي سنة 597 هـ ) وشمس الدين الكوفي فنظما فيه المواعظ والحكم .
وظهر نظير لهذا النظم بمصر والشام في عهد الفاطميين , لكنه سمى بمصر بالزكالش . قال علي بن ظافر في البدائه : (( واخبرني بعض أصحابنا المصريين أن بعض جلساء الصالح بن زريك انشد بمجلسه بيتا من الأوزان التي يسميها المصريون الزكالش , ويسميها العراقيون ( الكان وكان ) :
النار بين ضلوعي ونا غريق في دموعي
كني فتيلة قنديل أموت غريق وحريق
ولاقى هذا النظم رواجا في العراق والشام , وكان محدود الانتشار في مصر , والشكل المعتاد له في العراق يمثله قول البغدادي :
لما تزايد وجدي فيكم وقل اصطباري
وعرفتكم عداي وقلت الحركات
يا حاضرين بقلبي يا غائبين عن النظر
متى يجيني مبشر من عندكم بقدومكم
ويفرحون أصدقائي واكمد الشمات
ومن اسم الكان وكان , وما روي عنه , نجد انه كان شكلا من النظم مخصوصا بالقصص القصيرة التي يقصد بها الوعظ والتبصير , والنصح . ولكنه مع ذلك استخدم في أغراض أخرى , فقد استخدمه ابن جابر البغدادي في وصف المدرسة المستنصرية ببغداد وفقائها , وكان قد قيل لهم :
من قد يرضى بالخبز وحده , وإلا عندنا غيره .
حاشا لست المدارس ومن بها يضرب المثل
تهون من بعد ذاك التعظيم والتشريف
مستنصرية شيبكي قد كنت في عصر الصبا
واليوم قد صرت بهرج مزيفة تزييف
واتخذه بعضهم في الشام لتسجيل الأحداث , مثل الشاعر عمر بن الوردي الذي سجل أحداث الطاعون سنة 749 الذي اجتاح مصر والشام وأفنى قوما عديدين وخرب البلاد . قال :
أعوذ بالله ربي من شر طاعون النسب
باروده المستعلي قد طار في الأقطار
دولا بد هاساته ساعية على صارخ مارثى
ولا قدا ً بذخيرة فتاشة التيار
يدخل إلى الدار يحلف ما اخرج إلا بأهلها
معي كتاب القاضي بكل من في الدار
وساعد هذا الوزن . مع سهولة القافية لتعاقبها كل ثلاث شطرات على نظم الحكايات والقصص والأحداث , وقد سجل فيه التاريخ جماعة من الناظمين في وقعة الأمير قوصون سنة 742 هـ .

الباب الثامن
الفصل الثاني
( فنون النثر الشعبي – القصة - السيرة - المقامة )
والى جانب تلك الصور المنظومة من الأدب الشعبي نرى صورا أخرى منثورة , كالقصة والسيرة الشعبية , والمقامة ( بالعامية ) . وقد حفل هذا العصر بمجموعة من السير الشعبية الكبيرة مثل ( الظاهر بيبرس – وسيف بن ذي يزن – وظهرت قصص أخرى , وأضيفت إلى مجموعة ألف ليلة وليلة بعض القصص التي تصور جو العصر وحياة المماليك وعامة الناس .
وكانت المقامة العامية التي تقلد المقامة الفصحى من فنون النثر الشعبي الشائعة واتخذت وسيلة للتعبير عن الموضوعات الخفيفة , الفكاهية والساخرة واتخذت وسيلة للهزل والإضحاك .
اعلام الأدب الشعبي
شرف الدين بن أسد
وهو شيخ ماجن متهتك ظريف خليع , يصحب الكتاب , ويعاشر الندماء ويشبب في المجالس على القيان .
والتقى به صلاح الدين الصفدي بالقاهرة فقال عنه : (( رايته غير مرة بالقاهرة , وأنشدني له شعرا كثيرا ً من البلاليق . والأزجال والموشحات وغير ذلك , وكان عاميا ً مطبوعا ً , قليل اللحن يمتدح الأكابر , ويستعطي الجوائز , وصنف عدة مصنفات في (( شاشات الخليج )) و ( الزوائد ) التي للمصريين , والنوادر والأمثال , ويخلط ذلك بأشعاره . وهي موجودة بالقاهرة عند من كان يتردد عليهم , وتوفى رحمه الله تعالى بعد ما تمرض زمانا سنة 738 .
ومن طريف ما رواه الصفدي من ( مقاماته ) مقامة هزلية يقلد فيها كلام النحويين المنشدقين بطريقة ساخرة . قال الصفدي انه وضع حكاية حكاها له وهو معه على الخليج سنة 728 هـ , وهي : (( اجتاز بعض النحاة ببعض الاساكفة فقال له : أبيت اللعن واللعن يأباك , ورحم الله أمك وأباك , وهذه تحية العرب في الجاهلية قبل الإسلام , ولكن عليك أفضل السلام والسلام ومثلك من يعز ويكرم . )) ثم يسرد عليه قراءاته في كتب العلم واللغة والنحو . وينتهي إلى الغرض الذي جاء من اجله إلى الاسكافي فيقول : ( وقد دعتني الضرورة إليك , وتمثلت بين يديك لعلك تتحفني من بعض حكمتك وحسن صنعتك بنعل يقيني الحر ويدفع عني القر , وأعرب لك عن اسمه حقيقيا ً لاتخذك رفيقا ً , فيه لغات مؤتلفة , على لسان الجمهور مختلفة , ففي الناس من كناه بالمداس , وفي عامة الأمم من لقبه بالقدم وأهل شرنوزه سموه بالسرموزة , واني أخاطبك بلغات هؤلاء القوم , ولا إثم علي في ذلك ولا لوم , والثالثة به أولى , وأسألك أيها المولى أن تتحفني بسرموزة انعم من الموزة , واقرى من الصوان وأطول منطقة , ثابتة في الأرض الزلقة . نعلها من جلد الافيلة الخمير لا الفطير , أطول عمرا ً من الزمان , خالية البواشي , مطبقة الحواشي لا يتغير وشيها .
فلما امسك النحوي عن كلامه , وثب الاسكافي على أقدامه وتمشى وتبختر , واطرق ساعة وفكر , وتشدد وتشمر , وتجرب وتنمر , ودخل حانوته وخرج وقد داخله الحنق والحرج .
فقال له النحوي : جئت بما طلبته ؟
قال : لا , بل بجواب ما قلته .
فقال : قل وأوجز , وسجع ورجز .
فقال : ( اخبرك أيها النحوي أن البشر سنجوري شطبطاب المتفوقل , والمتيعب من جانب الشرشنكل , والديوك تصهل كنهيق زقازيق الصولجانات , الخ ) , ويورد كلاما مسجوعا لا معنى له على تلك الصورة حتى يقول : (( اعيذك بالزحزاح وابخرك بحصى لبان المستراح , وأرقيك برقوات مرقاة قرقرات البطون لتخلص من داء البرسام والجنون . ) .
ونزل من دكانه مستغيثا ً بجيرانه وقبض لحية النحوي بكفيه , وخنقه بإصبعيه حتى خر مغشيا عليه , وبربر في وجهه وزمجر ونأى بجانبه واستكبر وشخر ونخر , وتقدم وتأخر . فقال النحوي الله اكبر الله اكبر الله اكبر , ويلك يا هذا الغفان . قال من هذا الهذيان . والسلام )) .
وهكذا يتخذ في هذه المقامة الهزلية شكل المقامة الفصيحة الجدية ولكنها تنحو أسلوب ابن دانيال في باباته .
ونقل لنا ابن شاكر مجموعة من منظوماته وبلاليقه , منها بليقة هزلية في شهر رمضان وقد جاء في الصيف فأثقل على الناس , فيرجو رمضان أن يرحل خفيفا ً ويعده بأن يصومه في شهر رطوبة , حيث البرد واليوم قصير , ولا حاجة للشرب ولا إرهاق العطش .
إبراهيم المعمار
ويعرف بغلام النويري قال عنه ابن شاكر انه عامي مطبوع , تقع له التوريات المليحة المتمكنة لا سيما في الأزجال والبلاليق . وقال عنه ابن إياس صاحب الأشعار اللطيفة العامرة بالمحاسن والتورية . وقال ابن حجر ( الشاعر المشهور , كان عاميا ً إلا انه كان ذكي بالفطرة , قوي القريحة , لطيف الطبع , وشعره سائر مشهور . وكان يلزم القناعة , ولا يتردد إلى احد من الأكابر إلى أن مات في الطاعون سنة 749 هـ . بعد أن نظم فيه البيتين المشهورين :
يا من تمنى الموت قم فاغتنم هذا أوان الموت ما فاتا
قد رخص الموت على أهله ومات من لا عمره ماتا
وأكثر نظمه في الخلاعة والمجون , ويكثر فيه من التوريات على طريقة أدباء المصريين مثل قوله :
يا قلب صبرا ً على الفراق ولو رميت ممن تحب بالبين
وأنت يا دمع إن ظهرت بما يخفيه قلبي سقطت من عيني
فقد ورى في كلمتي ( سقطت من عيني ) .
وروى له ابن إياس مقطعات عديدة من منظوماته الشعبية في مناسبات شتى , ونقل الغزولي في مطالع البدور , بعضها مثل قوله في باب زويلة وكان يعلق عليه المجرمون ويصلبون :
حاذر زويلة إن مررت ببابها وطعامها كن ايسا ً من خيره
فموسط القتلى يقول به انظروا من لم يمت بالسيف مات بغيره
وقال فيه :
زويلة بابك هذا سيفه يشرب ماء الخمر جهرا بفيه
ولم يزل يألف سفك الدماء وكل ما يقطعه الشرع فيه
وكان المعمار من شعراء العوام الذين يترددون على مجالس السلطان الناصر محمد بن قلاوون , وكان يرتاح له , ويأنس به , وبحديثه وفكاهته , وكان يمزج بالكلام بالملح . واعتبر شاعر السلطان ينشده في المناسبات .
النثر

الباب العاشر
السير الشعبية
الفصل الأول
الشعب وحلم العدالة والتحرر
السير الشعبية نمط من الحكايات كتبها مجهولون من أبناء الشعب غالبا وهي تعكس الوجدان الجماعي للأمة , ولا يزدهر هذا اللون من الأدب إلا في فترات تاريخية معينة أي حين تخبو روح الحضارة أو يشرع نجمها في الافوال , أو حين تسوء الأوضاع الاجتماعية فيجد الشعب في الأدب متنفسا له .
وقد نشأت الخطوط الأولى للسير الشعبية منذ العصر الجاهلي على شكل حكايات يتناقلها الجوالون , وأسهمت مجالس السمر في نسج أساطير أضيفت إلى بعض الشخصيات الأدبية والتاريخية , فاكتست طابعا ملحميا ً أو أسطوريا ً يعكس رغبات الشعب وأمانيه , من هذه الشخصيات عنترة , ومجنون ليلى وأبو نواس على أن السير الشعبية لم تتخذ صورتها المعروفة إلا بعد بداية القرن الرابع الهجري ويتعذر تحديد تاريخ نشأة كل سيرة لان مؤلفي أكثر هذه السير مجهولون تناقلها الرواة مشافهة , ولان مؤرخي الأدب لم يولوها عنايتهم .
أهم السير والقصص الشعبية : عنترة بن شداد , الأميرة ذات الهمة , الملك الظاهر بيبرس , ألف ليلة وليلة , الملك سيف بن ذي يزن , تغريبة بني هلال , حمزة البهلوان , وقد ألف بعضها في أواخر العصر العباسي .
مضمونها : من المؤكد أن الملاحم والقصص الشعبية في أدبنا العربي نشأت في مرحلة من تاريخ الأمة العربية تميزت بالظواهر الآتية :
1- ضعف الأمة العربية وانقسامها فالبويهيون في العراق والفاطميون في مصر والحمدانيون في حلب , وفي هذا التشتت ضعف الأمة .

- مواجهة أعداء أقوياء يتربصون بالأمة العربية , ومنهم الروم والفرنجة . .
- سوء الواقع الاجتماعي والتباين الكبير في الفقر والغنى والظلم الاجتماعي الذي يثقل الطبقات البائسة فلا تجد لها متنفسا للتعبير إلا في الخيال , ولا تستطيع أن تبدل واقعها إلا بتصور بطل أو منقذ يخلص الشعب من ماسيه .
- ضعف الروح الحربية وفتورها , مما دفع القائمين على الأمر إلى إلهاب الضمائر وتحريك الهمم وبث الروح المقاومة والبطولة من خلال سير الأبطال والاقتداء بهم .
والخيال الشعبي أداة من أدوات تضخيم تلك البطولة فهو خلاصة نقية لآمال الشعب والبطل رمز الجماعة ولسانها وممثلها الحقيقي , يمارس الخوارق , ويتخطى العقبات وينتصر في كل معركة , ويقهر أعداء الشعب .
والى جانب التصور الاجتماعي في هذه السير نلمس وصفا للعادات والتقاليد ومعتقدات الشعب , وحياة مختلف طبقاته .
للسير الشعبية قيمة فنية ومع أنها في بناها وتصميماتها تخالف الخصائص الفنية للقصة أو السيرة ولا تخلو من تضخيم وتهويل وتجاوز للواقع والمنطق , ويغلب على أساليبها الركة والصنعة والتزويق من سجع وترادف وتكرار في العبارات والألفاظ وضعف في التحليل , إلا أنها تمتاز بالعفوية وصدق العاطفة وحيوية التعبير وواقعيته , واقترابها من الضمير الجمعي للشعب .
الفصل الثاني
سيرة علي الزيبق
سايرت ظاهرة العيارة والشطارة والفتوة التاريخ العربي والحضارة العربية , وكان لهذه الطوائف مواقف نظر إليها على أنها خروج على السلطة , أما الوجدان الشعبي فقد رأى في أبطالها ثوارا مناضلين , فصاغ سيرهم على صورة حكايات شعبية منها سيرة علي الزيبق .
ونواة هذه السيرة كانت مجموعة حكايات شعبية تسربت إلى ألف ليلة وليلة , ثم توسع الرواة في نسجها حتى تكاملت في أوائل الحكم العثماني .
وأبطال هذه السيرة منتزعون من التاريخ العربي الإسلامي , فعلي الزيبق هو الذي تزعم فتنة العيارين ببغداد عام 444 هـ وأستاذه احمد الدنف اشطر الشطار الذين رسم السلطان بتوسيطهم عام 891 م ودليلة المحتالة شخصية تاريخية ذاع صيتها في القرن الثالث هجري في حروب المكر والحيلة وقد استخدم المؤلف المجهول بعض الشخصيات التاريخية كابن طولون وهارون الرشيد استخداما روائيا لا يعترف بالزمن التاريخي فكأن المؤلف جمع بين زمن روائي وبيئة روائية لا علاقة لها بالواقع التاريخي .
تبدأ السيرة بقدوم دليلة إلى بغداد موفدة من ملك فارس وأصفهان والعجم في مهمة رسمية , ويطيب لها المقام , فتنسى مهمتها الرسمية وتطمع في أن تكون مقدما لدرك بغداد , وتثير الفوضى في العاصمة بمكرها ودهائها , وتحتل منصب احمد الدنف , لان ذلك الزمان كان أيام دهاء ومكر , فأحبها الرشيد وأوكل إليها تدبير المملكة .
وكان على درك مصر المقدم حسن الذي طرده مقدمها الحالي صلاح الدين الكلبي , فاختفى عن الأنظار وتزوج خفية بنت قاضي الفيوم , فأنجبت له ولدا ذكرا كأنه ( فلقة القمر ) أسمته عليا ً , واعدته فروسيا ً , ليثأر لأبيه المظلوم وينتقم من أرباب الشر والفساد .
وقد رفض علي التعليم المدرسي في الأزهر , وتحول إلى ميادين المصارعة في الرميلة وقرة ميدان , واعترف له الأقران بالشجاعة والحيلة وهما مقياس الرجولة في ذلك العصر . واصطدم بخصم أبيه صلاح الدين الكلبي , وبعد أن دوخه وحرمه النوم والهناءة شرع يحرض الناس عليه في المساجد , وكان يتنكر كل يوم في زي ليكيد خصمه , فلما وصل خبر إخفاق صلاح الدين إلى عزيز مصر استدعاه وبطانته لكن وزير العزيز كان يناصره فاتفقا على الإيقاع بالبطل ولكنهما اخفقا في القبض عليه بفضل فاطمة الزهراء والدة الزيبق التي كان لها دور الأم المنقذة , التي تقوم بتوثيق الصلة بين ابنها البطل واحمد الدنف كبير المقدمين .
وكان الدنف يعرف عليا ً بعد أن قام بتدريبه انه ابن المقدم حسن , فيعهد إليه بالانتقام من صلاح الدين الكلبي والوزير , ثم ينال على ( منديل الأمانة ) من عزيز مصر , ويعين مقدما ً لدرك مصر , فينصف المظلوم ويأخذ لصاحب الحق حقه , حتى أحبه الجميع .
ويرفض صلاح الدين أن يتنازل للزيبق عن مقدمية مصر ويحرجه أمام العزيز بطلب المستحيل لكن البطل ينجح في المهمات كلها , ويطهر البلاد من الفاسدين , وتتوالى سلسلة العوائق التي يواجهها , ليس في مصر وحدها بل في بغداد والمغرب والشام , ويدرك البطل أن امن كل قطر مرتبط بأمن القطر الآخر وتبلغ أنباء انتصاراته مسامع الرشيد ويقسم مقدميه درك بغداد مناصفة بينه وبين دليلة المحتالة , وينشأ صراع بينه وبين دليلة ( الصراع بين النفوذ العربي والأجنبي ) ينتصر في نهايته ويصل إلى السلطة وينشر الأمن والاستقرار في ربوع البلاد , وتلجأ دليلة إلى فلول العجم والروم , لكن الزيبق فريسة مرض قتال , فتحزن الرعية لفقده , ويرثي فيه الخليفة بطلا ً عربيا ًوركنا من أركان الإسلام ويجمع الخليفة أولاده فيوصيهم قبل وفاته بالحكم بالعدل والإنصاف والمساواة بين الغني والفقير والسهر على حماية البلاد وراحة العباد .
نص من سيرة علي الزيبق
وصية الرشيد إلى أولاده
تعكس هذه الوصية التي جاءت في سيرة علي الزيبق رغبة الوجدان الشعبي في إقامة مجتمع عادل , يخلو من الفساد والحق وتروي السيرة على أن الرشيد تأثر بما قام به البطل علي الزيبق من إصلاح للأمور فجمع أولاده بعد وفاة علي الزيبق وأوصاهم بتصريف الأمور بالعدل والإنصاف :
(( وضعوا الأشياء في محلها , والمناصب في أيادي أهلها , ولا سيما الولاة وأرباب الوظائف الكبار , فينبغي أن يكون هؤلاء من أهل الفضل والكمال موصوفين بالاستقامة والأمانة , وان يكون مشهودا لهم بالحلم وصدق الديانة , لا يميزون بين الحقير والشريف , ولا يظاهرون القوي على الضعيف , فيهابهم جميع المأمورين ويقتدي بهم باقي المستخدمين , فإذا كانوا على هذه الحالة تستقيم أحوال الرعايا , فترعى الذئاب مع الغنم , أما إذا كانوا على خلاف هذه الأوصاف مائلين إلى الانحراف , لا يبالون بمنافع الخلق , ولا يفعلون ما يقتضيه الحق , بل يصرفون الأوقات بالملاهي والملذات , ويسمعون كلام الوشاة , فسوف تضطرب الأحوال , ويقع الاختلال ويكون سببا لضرر البلاد عوض الإصلاح , وتقمع العباد فيضيع الحق والإنصاف , ويكثر الحور والاعتساف , فيسقط شرف الخلافة بعد علة شانه , ويعلو فوقه الذل والهوان )) .
الفصل الرابع
البطل في السير الشعبية
استطاع بطل السيرة الشعبية أن يسد حاجة المبدع العربي لتغطية المراحل التاريخية المختلفة للوطن العربي ككل في مواجهاته لأعداء حدوده التقليديين , فعن طريق الأحداث التي بنيت في السير الشعبية حول البطل الشعبي في المنطقة العربية قبل الإسلام وبعده .
والواقع أن السير الشعبية يمكن أن تمثل الكتابة الشعبية للتاريخ العربي , أو يمكن أن تمثل الرؤية الاجتماعية لواقع المكونات الرئيسية في المجتمع العربي في أثناء لحظات التمزق الذي عانى منه هذا المجتمع في لحظات تكونه من أكثر من جنسية أو سلالة عرقية تدخل المجتمع الإسلامي الجديد , ولحظات التدمير الذي عانى منه هذا المجتمع تحت عرقيات غريبة عنه منذ نهاية العصر العباسي وخلال عصر الولايات والمماليك , وكذلك التفسخ الذي أدى إلى ظهور طبقات غنية متحكمة جاهلة بموروث الشعب وآماله وأحلامه , وتعيش متقوقعة داخل قيمها . . ومن هنا ظهر أبطال المقاومة الشعبية ردا على التناقض المرضي في المجتمعات داخل العواصم العربية : بغداد ودمشق والقاهرة , ظهر علي الزيبق واحمد الدنف ودليلة المحتالة وزينب النصابة في سيرة علي الزيبق . كما ظهر عثمان ابن الجبلي وإبراهيم الحوراني وشيخه جمال الدين في سيرة الظاهر بيبرس , يرسمون مظاهر الفساد الاجتماعي والسياسي الذي أهمله المؤرخ العربي في كتابة هذه المراحل التاريخية في مختلف الأقاليم العربية , كما يبرزون الدور الشعبي لمقاومة هذا الفساد ومحاولة حصاره بتحديد أسبابه والقضاء عليه . ومن هنا اخذ بطل السيرة الشعبية بعده التاريخي المميز , فهو هنا يقوم بدور بارز في تحويل المسار التاريخي للشعب , من الاستسلام المنهزم أمام إرادة المستغلين والمستبدين إلى قوة مقاومة دائمة لا تعرف السكون الغبي أمام حركة التاريخ , بل تقوم بدورها الفعال المؤثر في حركته وتياره , وتغليب مسار قوة على قوة لإحداث التغيير الذي لا بد منه .
والبطل هنا أما عنصر حقيقي مستمد من المشاركين في أحداث حقبة تاريخية معينة بالفعل, وأما يخلق الخيال الشعبي بطله خلقا فنيا ً, أي بعيدا عن الأبطال التاريخيين المعروفين داخل حدث معين . ولكنه يخلقه بمواصفات مستمدة من وقاع ما تحتاج إليه هذه البيئة وهذه المرحلة التاريخية المعينة , ولهذا فالبطل قد يبدو واقعيا مغرقا في الواقعية , وقد يكون بطلا رومانسيا يحل المشكلات هذا الحل الفردي المبني على المهارة والتفوق وحدهما . كما قد يكون البطل قريبا من الشكل الخرافي الذي يختلط فيه عالم الحقيقة بعالم الحلم .
الأبطال اللصوص الذين يسرقون الأغنياء المستبدين لصالح الفقراء المستضعفين يظهرون كثيرا ً في علي الزيبق وفي الظاهر بيبرس , فالشريحة المجتمعية التي تتعرض لها السيرتان شريحة متقطعة من أسوا العهود التاريخية التي مرت بالشعب العربي . فالبلاد تخوض حربا طاحنة في مواجهة قوى الغزو الفرنجي وحكامها قساة لا يلتقون جماهير الشعب إلا في الطقوس الدينية وحدها , ومن المشكوك فيه أنهم كانوا يفهمونها الفهم الصحيح . وهم يستنزفون قوى البلاد وثرواتها في شراهة لا يقف أمام ضراوتها شيء لا العدالة ولا القيم ولا حقوق الإنسان , فكل شيء عندهم مباح لا حرمة له , وهم يشكلون طبقة ذات تقاليد بعيدة عن الفهم الجماهير العربية الكادحة المستنزفة المنهوبة , ومثل هذه الشريحة التي استقطعت من العصر المملوكي لا تفرز بالقطع إلا نوعين من الأبطال , أبطال الفروسية الارستقراطية لأبناء الطبقة الحاكمة , وأبطال الحلية والخفة والدهاء الذين يحاولون انتزاع حقوق العامة من أنياب الحاكمين , وهم من نسميهم الأبطال اللصوص .
وفي حسن شومان واحمد الدنف ودليلة المحتالة من سيرة علي الزيبق سنجد البطل الواقعي الذي يمثل قدرات الإنسان العادي وطاقاته , كما يمثل احتياجاته ومثله المحدودة , ونظرته الضيقة إلى الأمور , فهو لص في مجتمع من اللصوص , يسرق ليعيش وليعيش من حوله , دون فلسفات أو معان , ودون خوارق في القدرة أو المهارة . . . أما علي الزيبق نفسه هو بطل السيرة , فيمثل البطل الرومانسي بكل معاني هذه الصفة من الناحية الفنية . . . فهو فرد متميز , قدراته وطاقاته أعلى من قدرات الإنسان العادي وطاقاته . تجتمع له مهارة السيف وقوة الجسد إلى مهارة الذكاء وقوة الحيلة , وهو يملك ملكات متفردة لا يملكها الإنسان العادي تجعله يتميز بخاصية الإفلات السريع من أكثر الاشراك التي تنصب حوله إحكاما ودقة , ومن هنا جاءت تسميته بالزيبق . وعلي الزيبق بطل له هدف محدد منذ البدء فهو يريد أن ينتقم من قتلة أبيه , وان يصل إلى احتلال المنصب الذي كان يشغله أبوه من قبل وهو يستطيع أن يحقق هذا الهدف بعد أن يكشف أعداءه جميعا ً , وبعد أن يعريهم لتبدأ بعد هذه المرحلة الملحمية من حياة البطل بحكم انه زعيم المتمردين , وبحكم أن اسمه يلقي الرعب في قلوب من يستغل البسطاء من الناس في العواصم العربية . فهو بطل صاحب رسالة طريفة تخلب الألباب وتستهوي أفئدة الناس , لأنه البطل المتمرد والخارج عن السلطة أبدا ً . ولأنه حامي الضعفاء , وسالب الأغنياء ليعطي الفقراء المسلوبين والمغلوبين على أمرهم , وهو بطل تمتزج الحيلة عنده بالشجاعة امتزاجا ً يقربه من الحس الشعبي وخاصة في المدينة حيث يستبدل أهلها بقوة السواعد قوة الحيلة وسرعة البديهة والفكاهة الحادة , ولعلي الزيبق قصة حب تمتزج فيها الشاعرية بالتعامل الواقعي مع الحياة , وتزيد هذه القصة من تأكيد طابعه الرومانسي , إذ تجعل القضية الفردية عنده قضية محورية وهامة .






الباب التاسع
الفصل الثالث
أبرز النثار في هذا العصر:
اشتهر في هذا العصر مجموعة كبيرة من الذين اهتموا بالنثر وتنافسوا في تجويده للوصول إلى المناصب العليا في الدولة وقد كان هؤلاء الأعلام يجمعون بين صناعتين : صناعة الشعر وصناعة النثر على اعتبار أن البلاغة لا تنهل إلا بهما ، ومن هؤلاء النثّار:



1- شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب:
المولود سنة (677هـ) والمتوفى عام(733) وقد كان بحاثة غزيرة الإطلاع ، اتصل بالملك الناصر ووكل في بعض أموره وتولى نظر الجيش في طرابلس الشام،
ومن أشهر كتبه ( نهاية الأدب في معرفة فنون العرب) ويقع في ثلاثين مجلداً قسمه في أربعة فنون تتعلق بالسماء والإنسان والحيوان والنبات والتاريخ.
وأسلوب كتابه يحرص على الجمال الفني والصنعة من جهة وعلى الإبانة عن المعنى دون تكلف من جهة ثانية.
2 ـ أحمد بن علي القلقشندي:
المولود عام(756هـ) والمتوفى(821) وقد ولد في قرية قلقشندة قرب القاهرة ، وطلب العلم في الاسكندرية ثم توفي في القاهرة ، وأهم مؤلفات هذا المؤرخ الأديب:
( صبح الأعشى في صناعة الإنشا)
وقد كتب في الإنسان والفقه ، وقد رتب المؤلف كتابه الذي يقع في أربعة عشر جزءاً على مقدمة وخاتمة وتناول فيه كل ما يتعلق بالكتابه وفضلها وأدواتها مبتعداً عن التكلف وإن لم يسلم من الصنعة البديعية.
3 ـ عبد الرحمن بن محمد بن خلدون:
المولود عام( 732هـ) والمتوفى عام(808هـ) ولد في تونس بعد هجرة أسرته إلى اشبيلية، وتتلمذ على يد أبيه ، وتوفي في القاهرة ويعد المؤسس الأول لعلم الاجتماع إضافة إلى كونه فيلسوفاً مؤرخاً بحاثة ، تميز بسموا أخلاقه ، وقوة شخصيته ، وأهم كتبه ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) وهو في سبعة مجلدات وأهم ما فيه المقدمة وقد تميز أسلوبه بالسهولة وعدم التكلف والصنعة.
4-أبناء الأثير:
أسرة تميزت بالكتابة مؤسسها شمس الدين سعيد بن محمد الكاتب أحد أعيان دمشق ، انتقل إلى القاهرة وأنجب أبناءً عملوا في ديوان الإنشاء منهم شرف الدين محمد بن سعيد ، وتاج الدين أحمد بن سعيد، وعلاء الدين كاتب سر السلطان محمد الناصر.

أبناء الأثير
وهم أسرة تتشابه في اللقب مع الأسرة الموصلية التي أنجبت جماعة من الكتاب والعلماء , وكان مقر هذه الأسرة الحلبية الأصل بالقاهرة , تولى جماعة من أبنائها مناصب هامة في دولة المماليك الأولى منذ نهاية القرن الثامن , واشتغلوا بالكتابة والعلم والأدب .
ورأس هذه الأسرة شمس الدين سعيد بن محمد بن سعيد الكاتب الرئيس , كان من أعيان دمشق وتولى الكتابة بها سنين طويلة ثم انتقل إلى القاهرة .
وأنجب أبناء عملوا في ديوان الإنشاء وصحبوا الملوك بالشام ومصر , ومنهم شرف الدين محمد وقد عمل بدمشق كوالده وصار من أعيانها , وظل بها حتى غزو التتار سنة 699 هـ , وشهد هزيمة الناصر محمد إمامهم في سلطتنه الأولى . وتزوج ابنة العلامة القاضي محيي الدين بن فضل الله العمري , فأنجب منها الكاتب الأديب سعيد بن محمد , الذي مارس الكتابة بدمشق كذلك ومات شابا سنة 720 هـ .
وثاني أبناء سعيد تاج الدين احمد بن سعيد بن محمد , وكان أشهرهم هو وابنه علاء الدين الذي تولى كتابة السر للسلطان محمد الناصر ولقي عنده حظوة كبيرة .
وكان تاج الدين بارعا فاضلا , معظما في الدولة باشر الإنشاء بدمشق ثم بمصر للملك الظاهر بيبرس ثم للملك المنصور قلاوون . وكان له نظم ونثر ولكلامه رونق وطلاوة .
قال : (( ولم يزل تاج الدين هذا يترقى إلى أن ولى كتابة السر بمصر بعد فتح الدين محمد بن عبد الظاهر , ولما ولى السر سافر مع السلطان إلى الديار المصرية , فأدركه اجله فمات بغزة ودفن هناك )) .
وتردد بين مصر والشام مرات , وروى ابن تغرى بردى بعض ما حدث له بمصر قال : (( ومن عجيب ما اتفق أن الأمير عز الدين ايدمر السناني النجيبي الدوادار تاج الدين المذكور عند قدومه إلى القاهرة في الأيام الظاهرية أول اجتماعه به – ولم يكن يعلم اسم أبيه – قول الشاعر :
كانت مساءلة الركبان تخبرني عن احمد بن سعيد أحسن الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري
فقال تاج الدين : يا مولانا , أتعرف احمد بن سعيد ؟ فقال : لا , فقال : المملوك احمد بن سعيد .
والتق مرة بالشام بفخر الدين ابن لقمان في أثناء توليه ديوان الإنشاء بالقاهرة .
تولى الإنشاء للاشرف خليل لأنه خدم المنصور قلاوون , بعد الظاهر بيبرس , وقد بعث به قلاوون برسالة إلى الأمير الأشقر سنة 684 هـ يلومه على مكاتبته التتار والاستنجاد بهم ويدعوه إلى الحضور , فذهب إليه تاج الدين ووبخه ولامه حتى أناب ووعد بإرسال ولده .
ورافق في الكتابة للمنصور قلاوون فتح الدين بن عبد الظاهر واضطرب المؤرخون في وقائع حياته , وخلطوا بينه وبين أقربائه , كما اضطربوا في تحديد سنة وفاته فمنهم من قال أنها سنة 670 وهو في صحبة السلطان على تل العجول , وبعضهم يذكر أنها سنة 671 عند عودة السلطان بيبرس من الشام إلى مصر قرب غزة . ولكن التاريخ الأقرب إلى الصحة ما ذكره صاحب النجوم الزاهرة وهو سنة 691 هـ .
قال في وصف معركة : (( والمنجنيقات تفوق إليها سهام قسيها , وتخيل إليهم أنها ساعية إليهم بحبالها وعصيها , وهي للحصون من ألد الخصوم , وإذا أمت حصنا ً حكم بأنه ليس بإمام معصوم , ومتى امترى خلق في آلات الفتوح لم يكن فيها احد من الممترين , وإذا نزلت بساحة قوم , فساء صباح المنذرين , تدعى إلى الوغى فتتكلم , وما أقيمت صلاة حرب عند حصن إلا كان ذلك الحصن ممن يسجد ويسلم )) . وقد أقام فكرة هذه المقطوعة في وصف المجانيق على أساس الصلاة والإمامة واشتق صوره ومعانيه وجناساته كلها منها .
وكان له نظم كغيره ممن عرضنا لهم , وله يد في في النظم والنثر . ومن شعره القصيدة التي أولها :
أتتني أياديك لو تصورت محاسنها كانت من الأنجم الزهر
وذكر المقريزي أن فتح الدين بن عبد الظاهر توفي سنة 691 هـ وكان في تركته قصيدة رثاء تاج الدين بن الأثير عند مرضه , ولكن شاء الله أن توفي ابن عبد الظاهر , فرثاه ابن الأثير بعد موته وتولى كتابة السر عوضا عنه .
ولتاج الدين مؤلفات في الأدب والبلاغة , والكتابة منها (( كتاب كنز البلاغة )) واختصره ابنه علاء الدين وسماه ( جواهر الكنز ) ونقل عنه السبكي في مواضع كثيرة من عروس الأفراح .
عماد الدين بن الأثير :
هو ابن تاج الدين وتولى بعد أبيه كتابة السر فترة قصيرة , أعقبه عليها شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله العمري , وكان يخدم الاشرف خليل بعضا من عامي 691 و 692
وقد اخذ العلم على جماعة من علماء العصر , كابن دقيق العيد الذي كتب عنه شرح العمدة في الفقه وصحب الناصر محمد إلى الشام سنة 699 حيث قتل في وقعة حمص بينه وبين التتار .
ولد بالقاهرة سنة 680 هـ وتعانى الخدم الديوانية , وعمل صاحبا لديوان الإنشاء مدة عزل أخيه إسماعيل , وكان ذكيا حسن الكتابة , كثير البر والمعروف , ولزم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون , فلما توجه الناصر للكرك سنة 708 هـ صحبه , ووعده بكتابة السر إذا عاد للسلطنة فلما عاد سلطانا للمرة الثالثة , عاد علاء الدين معه إلى القاهرة وأراد تذكيره بوعده , فقدم إليه هدية ثمينة من الحلوى , فقال السلطان لدويداره : (( اكتب إلى محيي الدين بن فضل الله يكتب إلى أخيه شرف الدين أن يطلب مني دستورا إلى الشام , فاني استحي أن أواجهه بذلك , فكتب محيي الدين إلى أخيه فلم يلتفت إليه فواجهه السلطان بالأمر وعزله عن كتابة سر مصر إلى كتابة السر بدمشق . وقام مكانة علاء الدين سنة 711 هـ )) .
وقد عظمه السلطان وأكرمه ونوه بقدره , وبلغ عنده ما لم يبلغ احد , حتى انه كان يأمره أن يكتب إلى نواب الشام بأشياء يأمرهم بها عن نفسه فعظم قدره جدا ً , وباشر الوظيفة وكان يركب في ستة عشر مملوكا من الأتراك وكانوا يقفون في الديوان صفين , ولا يتكلم احد إلا معهم بالتركي , وهم يترجمون عنه للناس .
وما كان يخرج من الديوان كتاب حتى يتأمله , ولا بد أن يزيد فيه شيئا بقلمه , وظل في كتابة السر للناصر إلى أن أصابه الفالج سنة 726 هـ فقدم السلطان ابنه بدر الدين مكانه , ثم ما لبث أن استدعى محيي الدين ابن فضل الله العمري من دمشق وعهد إليه بكتابة السر .
وردد المؤرخون والأدباء ذكر وجاهته وجلال قدره وكان ذا سعادة جليلة وحرمة وافرة , وجاه عريض , ويضرب به المثل في الحشمة .
وكان ممدحا ً , اتصل به جماعة شعراء العصر وكبار أدبائه ومدحوه مدائح كثيرة مذكورة ومنهم شهاب الدين محمود وجمال الدين بن نباتة المصري .
وكان يكتب خطا قويا منسوبا . قال الشوكاني : (( وله اقتدار على إصلاح اللفظة وإبرازها من صورة إلى صورة )) .
ومن رسائله الديوانية ما كتبه على لسان السلطان الملك الناصر محمد من الكرك سنة 708 هـ إلى بيبرس الجاشنكير والسلار القائمين بالحكم بالقاهرة آنذاك يقول :
(( بسم الله الرحمن الرحيم , حرس الله تعالى نعمة الجنابين العاليين الكبيرين الغازيين المجاهدين , وفقهما الله توفيق العارفين . أما بعد , فقد طلعت إلى قلعة الكرك , وهي من بعض قلاعي وملكي , وقد عولت على الإقامة فيها , فان كنتم مماليكي ومماليك أبي فأطيعوا نائبي , ولا تخالفوه في أمر من الأمور , ولا تعملوا شيئا ً حتى تشاوروني , فانا ما أريد لكم إلا الخير , وما طلعت إلى هذا المكان إلا لأنه أروح لي واقل كلفة , وإن كنتم ما تسمعون مني فانا متوكل على الله , والسلام )) . وتوفي علاء الدين وهو مفلوج سنة 730 هـ .
بدر الدين بن علاء الدين الأثير :
تولى الكتابة للسلطان بعد مرض أبيه حقبة وجيزة , ثم عزل بابن فضل الله العمري , ولم يعرف عنه تأليف ولم تنقل عنه رسائل .
نجم الدين احمد بن عماد الدين إسماعيل بن احمد بن سعيد بن الأثير :
عمل بالكتابة ضمن كتاب الدرج , ولم يبلغ مراتب آبائه وأقربائه من أبناء الأثير , لكنه لقب بالصدر الكبير , وذكر انه كان من كبار الرؤساء بالقاهرة , ومن المتقدمين في كتابة الإنشاء وكان ممن يحضرون دار العدل مع السلطان . سمع صحيح البخاري عن ابن الشحنة , وتوفي سنة 737 هـ . ولم يؤثر عنه كذلك شيء من الكتب أو الرسائل .
كمال الدين محمد بن عماد الدين إسماعيل :
اخو نجم الدين , تولى كتابة السر بدمشق زمنا بعد محيي الدين بن فضل الله العمري ثم عزل سنة 736 هـ وتوجه إلى مصر معزولا ً وحل مكانه القاضي علم الدين .
جمال الدين عبد الله بن كمال الدين محمد بن عماد الدين إسماعيل :
ابن كمال الدين السابق . ولد سنة 708 وعين كاتبا بدمشق سنة 734 , وفي كتابة السر سنة 764 هـ . سمع من الحجار ووزيره وحدث بالصحيح وكان ماهرا في العربية , ثم اعتزل المناصب وانقطع في أخريات حياته بالقاهرة للعبادة إلى أن توفي سنة 778 هـ .
وكان هذا آخر من اشتهر من أسرة ابن الأثير في الدولة الأولى .



5 ـ أسرة آل فضل الله العمري:
مؤسسها محي الدين بن فضل الله العمري كاتب السلطان الناصر في القاهرة ، وقد أنجب علاء الدين كاتب السر وشهاب الدين الكاتب الفقيه ، وبدر الدين كاتب السر بعد علاء الدين . وقد كانت هذه الأسرة تنافس أسرة أبناء الأثير في الوصول إلى أعلى مناصب الدولة . آل فضل الله العمري
وهم أسرة كبيرة جليلة من الأسر التي تولت مناصب الكتابة في القاهرة ودمشق زمنا طويلا أيام حكم الدولة الأولى , ورأس الأسرة محي الدين ابن فضل الله العمري . وكانت تنافس أسرة ابن الأثير في الجاه وتولى كتابة السر .
محيي الدين بن فضل الله العمري :
ولد سنة 645 هـ بالكرك وكان صدرا كبيرا ً معظما في الدولة التركية وشاركه في مكانته أخوه شرف الدين . تولى كتابة السر للسلطان الناصر بالقاهرة , ثم نقل إلى دمشق بعد تولي علاء الدين بن الأثير منصبه . ولما عزل ابن الأثير لمرضه عاد إلى القاهرة مرة أخرى ليتولى كتابة السر للمرة الثانية .
وخدم في الكتابة قبل تولي السر جماعة من السلاطين , كالسلطان حسام الدين لاجين والاشرف خليل , ثم الناصر محمد , وخدم في دمشق الأمير تنكز نائب السلطنة .
وكان محيي الدين رجلا ً فاضلا ً كاملا ً عالما محترما لنفسه يدعو الناس إلى إجلاله .
وتوفي بالقاهرة سنة 737 هـ وهو على كتابة السر .
وأنجب ثلاثة من الأبناء , تولى احدهم , علاء الدين كتابة السر بعده . وكان ممدحا مدحه جماعة من شعراء عصره . وقال فيه ابن نباتة :
يا سائلي عن كاتب السر الذي يعزى علاه إلى أب أواه
هذاك غيث الله محيي الأرض من بعد الممات , وذاك فضل الله
شهاب الدين عبد الوهاب بن فضل الله العمري :
شقيق محيي الدين , ولد سنة 623 هـ , وتعانى الكتابة , وأجاد الخط وفاق في الترسل المنسجم العاري من السجع والتكلف والتصنع . ولما مات الصاحب فتح الدين بن عبد الظاهر تولى بعده الكتابة عماد الدين إسماعيل ابن الأثير حقبة وجيزة ثم قرر السلطان الاشرف خليل شرف الدين هذا في كتابة السر فباشرها بقية حكم الاشرف , وبقي في هذا المنصب حتى رجع السلطان الناصر من الكرك سنة 709 هـ , فنقل إلى كتابة السر بدمشق عوضا عن أخيه محيي الدين , فدخلها في المحرم سنة 712 هـ , واستمر بها حتى مات سنة 717 هـ وكان مرتبه كل شهر ألف درهم .
وبلغ في دمشق من الوجاهة وعلو المكانة درجة كبيرة , وقصده الشعراء والأدباء مثل شهاب الدين محمود وعلاء الدين بن غانم .
وكانت مكانته في الكتابة مذكورة مرموقة , وكان إماما في الكتابة والإنشاء عارفا بتدبير الملك مليح الخط غزير العقل , و كان كاملا في فنه , لم يكن في عصره من يداينه أو يقاربه .
كان مترسلا ممتعا بحواسه , ولم يفقد منها شيئا ً ولم تتغير كتابته . وكان مقدرا ً من سلاطين المماليك وأمرائهم كأخيه محيي الدين , بل فاقه في ذلك . حكي انه كان يوما بالكرك يقرأ على تنكز نائب الشام كتاب بريد جاء من السلطان والمماليك قد رموا جلة على عصفور , فاشتغل تنكز بالنظر إليها , فبطل شرف الدين القراءة وامسك وقال : يا خوند إذا قرأت عليك كتاب السلطان اجعل بالك كله مني , ويكون ذهنك عندي , لا تشتغل بغيري أبدا ً وافهمه لفظة لفظة .
وكان مبدأ أمره يلبس القماش الفاخر , ويأكل الأطعمة الشهية , ويعمل السماعات ويعاشر الفضلاء أمثال بدر الدين بن مالك وابن الظهير وغيرهم , ثم انسلخ من ذلك كله لما دخل الدولة , وقتر على نفسه واختصر في ملبسه وامتنع عن الناس امتناعا كليا .
وتوفى شؤف الدين وهو جالس على كرسيه يراجع بعض الرسائل وخلف بعد وفاته أموالا طائلة , ورثاه شهاب الدين محمود وهو بمصر وكتب بها إلى أخيه محيي الدين يقول :
لتبك المعالي والنهى الشرف الأعلى وتبكي الورى الإحسان والحلم والفضلا
وتنتحب الدنيا لمن لم تجد له وإن جهدت من حسن أوصافه مثلا
سأندبه دهري وارثيه جاهدا وأكثر فيه من بكاي وإن كلا
ولم لا وقد صاحبته جل مدتي أراه أبا برا ويعتدني نجلا
إلى أن يختمها بقوله :
إلى الله أشكو فقد صحب رزئتهم وفقد ابن فضل الله قد عدل الكلا
وتوفي شهاب الدين سنة 717 هـ بدمشق .
شهاب الدين احمد بن يحيى بن فضل الله العمري
ثاني أولاد محي الدين يحيى . ولد بدمشق سنة 700 هـ , وكان إماما بارعا , وكاتبا فقيها . درس على كثير من علماء عصره وأدبائه . واتصل بمشاهيرهم ممن كانوا يرتادون مجلس والده محيي الدين أثناء توليه كتابة السر بمصر أو بالشام .
ولما ولي والده كتابة السر بمصر صار يعاونه في وظيفته فيقرأ البريد على السلطان الناصر محمد , وينفذ في المهمات , ثم صرفه السلطان سنة 738 هـ , وأقام ثالث إخوته عليا مكانه . وذلك لأنه كقول ابن العماد – فاجأ السلطان بكلام غليظ .
تخرج في الكتابة بوالده وبشهاب الدين محمود , واخذ الأصول عن الاصبهاني , والنحو عن أبي حيان أثير الدين , والفقه عن برهان الدين الفزاري وابن الزملكاني , وفي الأدب على شهاب الوداعي , وشمس الدين ابن الصائغ الكبير , وقد عدد الصفدي شيوخه تفصيلا .
وكان قوي الشخصية معتدا ً بنفسه , يتوقد ذكاء مع حافظة قوية وصورة جميلة , واتهمه ابن العماد بأنه كان شرسا لا يهاب السلطان , بل عارضه وأغلظ عليه , فأبعده وصادره وسجنه بالقلعة زمنا ً . ثم اخرج إلى الشام سنة 740 هـ حيث ولى كتابة السر بدمشق حقبة ثم عزل مرة ثانية ورسم عليه أربعة أشهر وطلب إلى مصر . فشفع فيه أخوه علاء الدين فعاد إلى دمشق . وظل بها لا يشغل وظيفة إلى أن مات .
وعاصر في دمشق نائبها بعد أن قبض على تنكز .
ويروي ابن حجر انه عمر بدمشق دارا آهلة بسفح قاسيون مع أبيه وأخيه , وخرج للحج سنة 743 هـ وجاور بمكة حيث توفى هناك سنة 749 هـ ولم تتجاوز سنه الخمسين ونقل إلى دمشق حيث دفن بها مع أبيه وأخيه بسفح قاسيون .
واجمع المؤرخون للعصر والأدباء المعاصرون , على انه كان مقتدرا في الكتابة والنظم.
وكان يكتب من رأس القلم ما يعجز عنه غيره في مدة . وكان يشبه القاضي الفاضل في زمانه . وكان يشبه القاضي الفاضل في زمانه .
وقال الصفدي : هو الأمام الفاضل البليغ المفوه الحافظ حجة الكتاب . أمام أهل الأدب احد رجالات الزمان كتابة .
مثل الحمام إذا تألق والشهاب إذا توقد
كالسيف يقطع وهو مسلول ويرهب حين يغمد
ومن إنشائه :
قوله في وصف الكأس : (( تكون من جوهر مكنون وتجسد من هواء مظنون , واتخذ خدر الآنية العنب , وطاف به الساقي فأصبح منه في راحة وهو في تعب , قهقه عليه الإبريق فصدح وطار منه شرار المدام فقيل : قدح )) .
وانشأ كثيرا ً من التقاليد والمناشير والتواقيع ومكاتبات الملوك .
وله كتب معروفة متداولة أشهرها كتاب (( مسالك الأبصار في ممالك الأمصار )) , في 27 مجلدا ً وهو كتاب حافل ما اعلم أن لأحد مثله .
وكتاب في الإنشاء والتوقيعات قال عنه ابن إياس : ( وصنف كتابا في صناعة التوقيع وصار العمل عليه إلى الآن بين الموقعين . وبه يقتدون .
وكتاب التعريف بالمصطلح الشريف , وفواصل السمر في فضائل آل عمر في أربع مجلدات , والدعوة المستجابة , وصبابة المشتاق في المدائح النبوية , و سفرة السفرة ودمعة الباكي ويقظة الشاكي , ونفحة الروض , وله كتاب دمية القصر جمع فيه تراجم ومختارات لبعض الشعراء المعاصرين على طريقة ( خريدة القصر للعماد ) .
وأما نظمه فيقول العلماء انه وسط , لا يبلغ فيه مبلغ نثره متانة ورصانة , وروي انه نظم الشعر الفصيح أو القريض , من قصائد وأراجيز كما نظم المقطعات والدوبيت والموشح والبليق .
ومما روي من شعره قوله يرثى نفسه :
قلت لأقلامي اكتبي وانطقي فقالت الأقلام وا سوأتاه
وشقت الألسن من حزنها وولولت واسود وجه الدواء
علاء الدين علي بن محيي الدين بن فضل الله :
ثاني أبناء محيي الدين , تولى كتابة السر للسلطان الناصر محمد سنة 735 هـ بعد عزل أخيه شهاب الدين . قال فيه إبراهيم المعمار الشاعر :
لابن فضل الله فضل غمر الناس ووفى
كيف لا وهو على علم السر أخفى
وظل بكتابة السر بعد موت الناصر وطوال حكم السلطان المظفر حاجي والسلطان الناصر حسن .
بدر الدين بن محيي الدين بن فضل الله :
تولى بعد أخيه علاء الدين كتابة السر . وهو آخر من اشتهر ذكرهم من آل فضل الله العمري ممن ولي الكتابة في هذا العصر .



محي الدين بن عبد الله بن عبد الظاهر:
المولد عام(620هـ) والمتوفى عام(672هـ) وتولى رئاسة ديوان الإنشاء في عصر الظاهر بيبرس وكتابة سر المنصور قلوون ، وابنه الأشرف خليل ، وقد كان كاتباً وشاعراً اهتم بالمحسنات البديعية ، وبرع في
وألف كتاباً في سيرة الملك المنصور ، وكتاباً آخر سماه ( النجوم الدرية في الشعراء المصرية) وله ديوان شعر معظمه في المناسبات والأخوانيات.

يعتبر الكاتب الأديب محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان الجذامي المصري من أشهر كتاب المصريين في دولة المماليك الأولى في النصف الثاني من القرن السابع ولد سنة 620 هـ وتوفي بالقاهرة سنة 692 هـ وقال عنه ابن شاكر : (( الكاتب الناظم الناثر , وشيخ أهل الترسل ومن سلك الطريق الفاضلية في إنشائه )) . وقال : وكان بارع الكتابة وله في قلم الرقاع طريقة غريبة حلوة .
تدرج في ديوان الرسائل حتى تولى رياسة الإنشاء في عهد الظاهر بيبرس وقيل انه أول من تولى منصب ( صاحب ديوان الإنشاء ) كما قيل انه أول من تولى كتابة السر لسلاطين المماليك , وصار لا يشغل هذا المنصب من بعده إلا كل خطير عظيم القدر من كبار الكتاب , فهو الذي يشير على السلطان في الرسائل والمراسيم ويتلقى عنه المرسوم شفاها لصوغة بعبارته ثم يوقع السلطان عليه بخاتمه .
وقد ينوب عن السلطان في التوقيعات على الشكاوي والقصص التي تقدم له بإيجاز وعبارات مقتضبة في الرقاع التي يبعث بها السلطان إلى من يشاء من الأعوان أو الولاة .
وكان كاتب السر يقرأ كل الرسائل الواردة للسلطان , وعليه أن ينشئ الرد , وهو أول كاتب سر كان في الدولة التركية وغيرها , وإنما كانت هذه الوظيفة في ضمن الوزارة , والوزير هو المتصرف في الديوان , وتولاه ابن عبد الظاهر كما يقول – صاحب النجوم – سنة 678 هـ لأول مرة للمنصور قلاوون , وابنه الاشرف خليل , ولما أىسن تولى ابنه فتح الدين الملقب بالصاحب .
وعرف معاصروه قدره في كتابة الرسائل فقرظوه . وهو آخر من برز في هذا الفن على أهل زمانه , وسبق قرانه .
وكان من سادات الكتاب ورؤسائهم وفضلائهم . وهو صاحب النظم الرائق والنثر الفائق.
والتزم محيي الدين في كتابته شكل السجع , واتبع المحسنات البديعية , وخاصة التورية . ووضع كثيرا من صيغ الكتابة الرسمية , التي ظل الكتاب محافظين عليها طوال عصر المماليك والى العصر العثماني .
وتأثر في كتابه بالقاضي الفاضل , وقد تتلمذ على طريقته وكان مخلصا لها , واهتم بإنشاء الفاضل فجمع كثيرا من رسائله في كتاب سماه الفاضل من رسائل القاضي الفاضل .
وتأثر من فن الفاضل الكتابي بصفة خاصة بالتورية والاقتباس , والاهتمام بنشر المنظوم والاستعانة بالقران الكريم في ترصيع القول , وكثرة استخدام شعر القدامى , لكنه لم يستطع مجاراته في الصور البيانية , وإتقان التشبيه والاستعارة في عبارات موجزة مشرقة موحية , وانتزاع أوجه الشبه من حقول غريبة ببراعة ودقة .
ومن أمثلة كتابته قوله في وصف شمعة :
( في حين ما شق ريحي الدجى عن ترائبه جيبا ً , ونشر الظلام ضفائره وقد اشتعل رأسه من النجوم شيبا ً , في ضوء شمعة نشرت على الورق رداء الأصيل , واخفت من الدجى سواد جفنه الكحيل وسترت ذوائبه معصفرة . أبهج من وجنتي بثينة لولا أنها في صفرة وجه جميل ) .
ويتضح من النص اقتباسه من الآية ( واشتعل الرأس شيبا ) والتورية في قوله : ( صفرة وجه جميل ) .
ونراه يستخدم في رسالة أخرى الاستعارات الجارية , والتشبيهات المعروفة على لسان الشعراء والكتاب , يقول في رسالة يصف روضا ً : والأغصان قد اخضر نبات عارضها , ودنانير الأزهار ودراهمها قد تهيأت لتسليم قابضها والمنثور قد انتظمت قلائده , وصيغت ولائده , والحور وقد جاوز السها بالتباشير والسرور , وقد كشفت عن سوقها , والسوسان وقد لاحظ جفنه الوسنان , والورد وقد ورد والبان وقد بان .
ويسترعي الانتباه في هذه السطور من الرسالة التورية والاستخدام واقتباس الصورة القرآنية والاستطراد مع إيحاءاتها , ومنه التورية في وصف شجر الحور , وتشبيهها ببلقيس ملكة سبأ حين دخلت صرح سليمان عليه السلام فشمرت عن ساقيها .
وألف ابن عبد الظاهر كتبا في الأدب والتاريخ والسيرة , منها تشريف الأيام والعصور , في سيرة الملك المنصور , و ( النجوم الدرية في الشعراء المصرية ) . و ( رسالة في الخيل ) وكتاب في التاريخ والخطط والمسالك يسمى ( الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة ) . نقل عنه المقري في خططه .
وإذا م انظرنا في سيرة قلاوون وجدناه يؤرخ لحياة السلطان وعصره وأعماله ويهتم ببطولاته في معاركه ضد أعدائه من الصليبيين والتتار . ويجري الكتاب بأسلوب مرسل في سرد أعمال قلاوون عن إظهار عظمته وشجاعته وتصميمه واقتداره على جلائل الأعمال مما لم يستطعه من سبق من الملوك .
يقول في وقعة حصن المرقب : (( وهو حصن عظيم منيع ما زال مولانا السلطان الملك المنصور – نصره الله – يدأب في أمره , ويتحيل في تحصيله للإسلام ويستفيد الرأي والتدبير في افتتاحه , وأصحاب جماحه , لأنه كان قد اعجز الملوك ولم يقدر احد منهم على التقرب منه , فكيف النزول عليه , واجتهد الملك الظاهر في الإغارة عليه مرارا ً فما قدر الله ذلك ولا سهله ولا عجله وتوجه إليه مرة من حماة فصادفته ثلوج وبرد وأمطار وحجبته عنه , وحجزته المضايق والاوعار , ومرة من غير حماة ولم يحصل له منه قصد بالجملة الكافية وخبأه الله لمولانا السلطان , ليكون من فتوحاته المنيرة , ولتطرز به أحسن سيرة , وكان بيت الاسبتار الذين به قد زاد بغيهم وعدوانهم وكثر فسادهم , حتى بقيت أهل البلاد المجاورة لهم كأنهم في حبس , بل في رمس , وكان الفرنج يعتقدون انه لا يدرك بحول ولا حيلة , وان الحيلة فيه قليلة , واستمروا على هذا الطغيان , ولم يقفوا عند الإيمان , وعملوا في نوبة القليعات كل قبيح من الغدر والأسر والنهب ومولانا السلطان المنصور رابض لهم كالأسد الهصور , وهو يهتم بأمر هذا الحصن من غير إظهار , وكلما أوقدوا نارا للحرب أمدته من الهداية الربانية الأنوار ))
ولا يترك المؤلف فرصة دون أن يكيل له صفات المديح من الشجاعة والبسالة إلى حسن التدبير , إلى الصلاح والرشاد وهداية الله له , وإمداده بنوره .
شعره :
وللشيخ محيي الدين شعر كشعر غيره من الكتاب أكثره في المناسبات الاخوانية أو الرسمية , والغزل ينمقه تنميق الرسائل , ويثقله بصنعة البديع :
إن كانت العشاق من أشواقهم جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا
فأنا الذي أتلو لهم يا ليتي كنت اتخذت مع الرسول سبيلا
وروى له قوله :
يا من غدا لي من عوا صف هجره الريح العقيم
أترى يطيب لي الهوى ويقال لي رق النسيم ؟
وروى لنفسه قصيدة في كتاب ( تشريف الأيام والدهور ) في رقعة السلطان المنصور قلاوون في فتح حصن المرقب بالشام . قال :
يا فاتح الحصن الذي فتحه يأتي به شكرك من يثرب
حصن عظيم القدر في سيرة لمن مضى قبلك لم يكتب
إذا بدا والغيم من حوله تقول نجم لاح في غيهب
وإن تلح للعين أبراجه يقال هذا موكب الكوكب
وروى عنه شهاب الدين محمود قوله في شبابة :
وناطقة بالنفخ عن روح ربها تعبر عما عندنا وتترجم
سكتنا وقالت للقلوب فأسمعت فنحن سكوت والهوى يتكلم
ويجري أكثر شعره المنقول في كتب المجموعات على هذا النسق .
7-القلقشندي ( 756 – 821 هـ - 1355 – 1418 م )
هو أبو العباس شهاب الدين احمد بن علي بن احمد بن عبد الله الغزاري القلقشندي القاهري الشافعي , عربي محض من فزارة من ذبيان من غظفان حيث وردت فزارة من إلى مصر أيام الفتح العربي الإسلامي وبعده ونزلوا بإقليم القليوبية ويبدو أن أصل القلقشندي العربي دفعه ليدافع عن أصله العربي فيكتب كتابين ( نهاية الأدب في معرفة انساب العرب ) و ( قلائد الجمان في الفقر بين قبائل عرب الزمان ) .
تلقى ثقافته الأولى في مسقط رأسه فتعلم القرآن ونال حظه من ثقافة عصره وبقي في بلده حتى الخامسة عشرة من عمره ثم انتقل إلى الإسكندرية لان بلده لم تتسع لطموحه وآماله واخذ عن مشاهير العلماء ابن الملقن وغيره الذي أجازه مرتين إجازة في الفتيا والتدريس وأجازه بأن يروي عن أستاذه كل ماله من مؤلفات في الفقه والحديث ثم عكف على التأليف والتصنيف في الفقه كشرحه لجامع المختصرات للمدلجي وشرحه للحادي الصغير لنجم الدين القزويني وشرحه لقصيدة كعب بن زهير بانت سعاد كما وأفاد الناس بعلمه من خلال مجالس التدريس ثم اختير ليكون منشئا ً في ديوان الإنشاء عام 791 هـ في مصر وألف مقامة متقنة في الثناء على رئيس ديوان الآن القاضي على القلقشندي تعيين كتاب مستقل لتعريف الكتاب على صناعة الإنشاء فكان كتابه ( صبح الأعشى ) ثم اختير لينوب في الحكم حتى وفاته ليلة السبت في العاشر من جمادى الآخرة 821 هـ 1418 م – في القاهرة عن خمس وستين سنة وقد خلت لنا مجموعة من المؤلفات هي :
1- الغيوث الهوامع في شرح المختصرات ومختصرات الجوامع .
2- شرح كتاب الحاوي الصغير في الفروع .
3- حيلة الفضل وزينة الكرم في المفاخرة بين السيف والعلم .
4- كنه المراد في شرح بنائت سعاد .
5- الكواكب الدرية في المناقب البدرية .
6- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء .
7- ضوء الصبح المسفر وجنى ألد مثمر .
8- نهاية الأدب في معرفة انساب العرب .
9- قلائد الجمان في التقريب لقبائل عرب الزمان .
10- مآثر الانافة في معالم الخلافة .
والمعروف أن القلقشندي بدأ بكتابة هذه الموسوعة بعد التحاقه بديوان الإنشاء مباشرة بمدة يسيرة سنة 791 هـ , ولا شك أن المقامة البدرية السابق ذكرها ليست إلا المنهج والخطة الشاملة لما يحويه هذا السفر الضخم الذي تفتخر به المكتبة العربية , وقد وضعها ليفسح أمامه طريق البحث والتصنيف في صناعة الإنشاء فكرا ً وعملا وسلوكا , وهكذا بقي المؤلف يستزيد من فنون الكتابة وضروبها وصناعتها حتى فرغ من تأليفه يوم الجمعة في الثامن والعشرين من شهر شوال سنة 814 هـ أي قبل وفاته بسبع سنوات , وقد استغرق العمل فيه قرابة عشرين عاما , وقد تمت طباعة هذا السفر الضخم في أوائل القرن العشرين .
لا شك أن كتاب الأعشى يمثل عصرا بكامله , هذا بالإضافة إلى انه استوعب التراث العربي المتعلق بموضوع الكتاب . وقد كان اعتماده على المصادر العربية القديمة عامة . والمصادر المتعلقة بموضوعه في صناعة الإنشاء خاصة , وقد أحصى جامع فهارس الصبح مئات الكتب التي ورد ذكرها فيه , وهي مختلفة الأنواع تشمل معظم العلوم المعروفة في عصره .
يتألف الكتاب من مقدمة هامة جدا وعشر مقالات أسهب المؤلف في كتابة المقدمة , فتحدث فيها عن فضل الكتابة ومدح أفاضل الكتاب , ثم تطرق إلى مدلول الكتابة , وبيان معنى الإنشاء وترجيحه النثر على الشعر , وذكر آداب الكتاب وصفات الكتاب , ثم حدثنا عن تاريخ ديوان الإنشاء منذ وجوده حتى عصره .
انتقل المؤلف بعد ذلك فتحدث عن صناعة الإنشاء في عشر مقالات كبيرة : المقالة الأولى في ثقافة كاتب الإنشاء , والثانية في ثقافته الجغرافية والتاريخية . والثالثة في ثقافته الديوانية , والرابعة في أصول تحرير المكاتبات , والخامسة في الولايات والبيعة , والسادسة في الوصايا والمسامحات والاطلاقات في الإيمان , والتاسعة في كتب الأمان والعقود وغيرها والعاشرة في كتب أخرى غير ديوانية .
نوه المستشرق كراتشكوفسكي بأهمية هذا الكتاب وذكر : ( أن مصنف القلقشندي يمثل ظاهرة مبرزة فريدة في نوعها في مجال الأدب الجغرافي أيضا , ويختتم بجدارة سلسلة موسوعات عهد المماليك التي تكاد تكون أكثر ذلك العهد الصالة في محيط الأدب .
ولم يكتف بذلك , وإنما وقف وقفة مطولة في تبيان وتوضيح خصائص هذه الموسوعة القيمة , وخلص إلى القول : (( بأن صبح الأعشى يختتم عصرا ً معينا ً في تاريخ الأدب الجغرافي إذ إن عهد الجغرافيا العامة . . . قد انتهى وحل محله نمط الجغرافيا الإقليمية .
أما كتاب مآثر الانافة في معالم الخلافة فقد قصد في تأليف الديوان العزيزي العالي . المعتضدي .
وقد ألفه في الوقت الذي كانت فيه الخلافة العباسية قائمة في القاهرة بعد سقوط بغداد , وقد أشار القلقشندي في خطبة هذا الكتاب في معرض التحميد إلى ذلك بقوله : (( احمده على أن رفع قدر الديار المصرية بنقل الخلافة إليها , وقدمها على سائر الممالك فأمست ومدارها في المهمات عليها )) .
ثم تحدث بعد ذلك عن الخليفة المعتضد بالله أبي الفتح داود , وقال : (( أحببت أن اخدم خزانته العالية بتأليف في معالم الخلافة , يشتمل دقائق حقائقها , ويتكفل بذكر لوازمها المستطرفة ولواحقها , محليا , ويرتفع به ذكره , ليسير هذا التأليف بانتسابه إليه في الآفاق وتعاقب الدول وسميته ( مآثر الإنافة في معالم الخلافة ) على إني اعتذر مما أتيت واستغفر مما لمثله تصديت , إذ لم أكن من قبيل هذا الشأن ولا من فرسان هذا الميدان , بل أمير المؤمنين أمتع الله وجود الوجود بوجوده بذلك أدرى , وبمعرفته أجدر وأجرى )) .
وقد رتب المؤلف الكتاب على مقدمة وسبعة أبواب وخاتمة , تحدث المحقق في مقدمته عن أهمية هذا الكتاب وحدد لنا تاريخ تأليفه اعتمادا على ما جاء في هذا الكتاب من دلائل , فقال : (( إن مآثر الخلافة آخر ما ألفه , ولم يذكر هذا الكتاب في الضوء اللامع , ولا شذرات الذهب , وخفي اسمه على المحدثين , ويقول القلقشندي في كتابه مآثر الإنافة ( الجزء الثاني ص 211 ) وفي صفحة 255 ( وهو القائم بها إلى زماننا في سنة ثمان عشرة وثمانمائة ) .
الفنون النثرية
تعددت الفنون النثرية التي استخدمها الكاتب وهو في ديوان الإنشاء , وكان في مقدمة الكتاب المنشئين الذين يتصرفون في الأمور الديوان بما يتطلبه الظرف الطارئ ولكل حدث أسلوب وفن متبع ولا شك انه كان يخطط لذلك كله , ويوعز إلى صغار المنشئين ليقوموا بما يقتضيه منهم متطلبات الحكم في الأمور السياسية والدينية والاجتماعية وغيرها .
والظاهرة الواضحة أن الأسلوب المشجع شرط لا بد منه في كل ما يصدر عن ديوان الإنشاء السلطاني والدواوين الأخرى المتفرعة عنه .
ويمكن أن نجمل أنواع النثر الديواني في ثلاثين نوعا وهي التالية كما جاءت في صبح الأعشى : الإجازات العلمية والأمان , والإيمان , والتذاكر والتفاويض , والتقاريظ , والتقاليد , والتهاني , والتواقيع , والخطب والرسائل الاخوانية , والسجلات , والصدقات الشرعية , والمراسيم الطرخانية , والظهورات , وعقود الصلح , والعمرات , والعهود , وقدمات البندق , والكتب والمكاتبات والمبايعات والمثالات الاجتماعية , والمراسيم الوظيفية , والمسامحات المالية , والمطالعات , والمقامات , والملطفات , والمنشورات , والمهادنات , والوصايا .
تدلنا هذه الأنواع الكثيرة للفنون النثرية الديوانية على الأهمية الكبرى التي يعتمد عليها في ديوان الإنشاء في العصر المملوكي , ولذلك وجدنا أن المختارين للعمل فيه كانوا من الأعلام المنشئين المبرزين في حقل اللغة والأدب والدين .
أورد المؤلف شواهد كثيرة عن هذه الأنواع , ولم تكن في معظم الأحيان من إنشائه , وإنما كان يختار النص الجيد والمناسب من الكتاب السابقين والمعاصرين , ويبدو أن اهتمامه الكلي كان متعلقا بالذين اشتهروا وعرفوا في مضمار الإنشاء والترسل كالشهاب محمود , وهم من شيوخ دواوين الإنشاء والموقعين والمنشئين .
لن نعرض في هذه الدراسة الأنواع الثلاثين الواردة في الصبح الأعشى , وإنما نقتصر على الأنواع التي أورد المؤلف فيها شواهدها من تأليفه .
الفصل الرابع
الإجازات العلمية
إن الإجازات العلمية في العصر المملوكي ظاهرة علمية أصيلة قديمة , بلغت عند هؤلاء العلماء الذين وضعوا لها طرائق وشروطا خاصة , بعد أن كانت بسيطة تعتمد على الإجازة الشفوية , ولكنها الآن أخذت منهجا آخر .
تلك هي الثقافة العامة في هذا العصر يتدرج الطالب في مراحل تعليمه حتى يصبح فقهيا منتهيا ً , ويختص بعلم من العلوم التي يؤثرها , وينال إجازته العلمية , ويشهد المدرس لطالبه انه أتم دراسته وأصبح أهلا للتدريس والفتوى ومنحه الإجازة العلمية , فيذكر فيها اسم الطالب , وشيخه الموجز ومذهبه , وتاريخ الإجازة وغير ذلك .
وقد أورد المؤلف الإجازة التي نالها في ثغر الإسكندرية , وهو في الحادية والعشرين من عمره , وهي الإجازة التي كتبها له كما رأينا أستاذه العلامة الشيخ سراج الدين أبو حفص بن أبي الحسن الشهير بابن الملقن , ويزيد من قيمة هذه الإجازة أنها كتبت بخط موقع الحكم العزيز بالإسكندرية القاضي تاج الدين بن غنوم .
الإجازة بعراضة الكتب
يذكر القلقشندي انه ( جرت العادة أن بعض الطلبة إذا حفظ كتابا في الفقه أو أصول الفقه , أو النحو , أو غير ذلك من الفنون , فيقطع الشيخ المعروض عليه ذلك الكتاب , ويفتح منه أبوابا ومواضع يستقرئه إياها من أي مكان اتفق , فإن مضى فيها من غير توقف ولا تلعثم استدل بحفظه تلك المواضع على حفظه جميع الكتب .
الإجازة بالمرويات على الاستدعاءات
النوع الثالث من أنواع الإجازات , والطريقة أن يكتب بعض طلبة العلم إلى الفقهاء والعلماء الأعلام المختصين والمشهورين في بعض فروع العلم استدعاءات يطلبون فيها منهم إجازتهم على ما يطلبون من حق الرواية وغير ذلك . وقد جرت العادة في مثل هذه الأحوال أن يكتب الإجازة وترسل إلى طالبها . وهذا النوع من الإجازات يبين المدى الذي بلغته الثقافة في هذا العصر .
التفاويض والتقاريظ
أعجب القلقشندي بالتفويض الذي كتبه المقر شهاب الدين بن فضل لقاضي دمشق شهاب الدين بن المجد عبد الله , وذكر انه لم يقف على تفويض كتب لقاض من كتابه من تقدم كهذا التفويض , حيث تحدث من خلاله عن شامة الشام وذكر أن : (( أن دمشق حرسها الله هي أم ذلك الإقليم ومدده الذي يحنو على مشارعها حنو الوالدة على الفطيم , وتنبت منها فوائد لا تأمن معها الغواني حتى تلمس جانب العقد النظيم )) وهي دار العلم ومدار الحكم , ومواطن علماء تتعاقب فيها كواكبهم وتتناوب فيها سحائبهم . . . ))
أما التقاريظ فهي التي تكتب عادة على المصنفات والقصائد , وقد ذكر القلقشندي في تعريفها أن العادة جرت (( انه إذا صنف في فن من الفنون أو نظم شاعر قصيدة , فأجاد فيها , أو نحو ذلك , أن يكتب له أهل تلك الصناعة على كتابه أو قصيدته بالتقريظ والمدح , ويأتي كل منهم بما في وسعه من البلاغة في ذلك )) .
التقاليد
نذكر منها التقليد الذي أنشأه المؤلف بالإشارة للأمير جمال الدين يوسف البشاشي استادار في الدولة الناصرية ( فرج ) , وذلك حسين فوضت إليه الإشارة مضافة إلى الاستادارية , وكتب له به المقر الشمس العمري في سنة 809 هـ .
استهله كالعادة بالحمد والتشهد في أكثر من صفحة ونصف الصفحة ثم قال : (( هذا وقد علا في الدولة القاهرة مقامه , ورشقت أغراض مقاصدها بانقضاء الآجال في الوقائم سهامه , وساس العساكر فأحسن في سياستها التدبير وبذل في نفقاتها الأموال بمجامع القلوب واقتاد النفوس الأبية قهرا فأطاعه من بين الشمال والجنوب )) .
التواقيع
كتب القلقشندي تواقيع كثيرة في هذا الباب , نشير منها إلى توقيعه الذي كتبه بتصدير احمد الأنصاري الشهير بالشاب التائب في الجامع الأزهر , وتوقيعه الذي كتبه عن الناصر فرج بن الظاهر برقوق للقاضي ناصر الدين محمد الطناجي في سنة 804 هـ وتوقيعه الذي كتبه بالقضاء للقاضي شرف الدين مسعود , وتوقيعه الذي كتبه لقاضي القضاة بدر الدين محمد وولده جلال الدين محمد بإعادة تصدير كان باسمهما بالجامع الأموي بدمشق , وتوقيعه الذي كتبه بالخطابة للشيخ شهاب الدين حاجي , ومما جاء فيه قوله بعد التقديم والحمد والتشهد : (( لا سيما الجوامع التي هي منها بمنزلة الملوك من الرعية , وأماثل الأعيان من سائر البرية , ومن أعظمها خطرا ً , وأبينها في المحاسن أثرا , وأسيرها في الآفاق النائية خبرا , بعد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها , ويعول في قصد الزيارة عليها , جامع دمشق الذي رست في الفخر قواعده , وقامت على ممر الأيام شواهده ... )) .
الرسائل
للرسائل أنواع مختلفة , وقد أورد القلقشندي عددا لا باس به منها , ويهمنا أن نقف عند الرسائل التي أنشاها المؤلف نفسه , وهي ثلاث رسائل أدبية هامة .
الأولى والثانية كتبهما المؤلف في تقريظ المقر الفتحي أبي المعالي فتح الله صاحب دواوين الإنشاء بمصر , والملاحظ انه كتب الثانية منهما في سنة 814 هـ .
أما الرسالة الثالثة فهي رسالة طويلة في المفاخرة بين العلوم المختلفة , أنشاها المؤلف سنة 798 هـ لقاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن البلقيني , وهذه الرسالة على غاية من الأهمية لطرافة موضوعها , وهي طويلة جدا ً ذكر منها نيفا وسبعين علما ً , ابتدأها بعلم اللغة واختتمها بفن التاريخ , وقد ذكر فخر كل علم على الذي قبله , محتجا عليه بفضائل موجودة فيه دون الآخر , وأهمية هذه الرسالة ترجع إلى أنها تعطينا صورة عن الحياة الفكرية في هذا العصر .
أشار المؤلف إلى أهمية هذه الرسالة , وذكر انه لم يتعرض للمفاخرة بين العلوم سوى القاضي الرشيد أبي الحسين بن الزبير , لكن رسالته لم تكن جارية على هذا النمط ولا مرتبة على هذا الترتيب , مع الاقتصار فيها على علوم قليلة , أشار إلى المفاضلة بينها على ما تقدم ذكره .
يضاف إلى هذه المفاخرة رسالة أخرى بين السيف والقلم أنشاها للمقر الزيني أبي يزيد الدوادار الظاهري سنة 794 هـ وسماها ( حلية الفضل وزينة الكرم في المفاخرة بين السيف والقلم ) , والمعروف أن لابن نباتة المصري رسالة أيضا في المفاخرة بين السيف والقلم أوردها ابن حجة كاملة في كتابه خزانة الأدب ( تقديم أبي بكر ) .
السجلات
ذكر القلقشندي أن العادة جرت (( أن أبناء العلماء والرؤساء تثبت عدالتهم على الحكام , ويحكم الحاكم بعدالة من تثبت عدالته لديه , ويشهد عليه بذلك , ويكتب له بذلك في درج عريض )) .
وأورد لنا بعد ذلك نسخة سجل أنشأه سنة 813 هـ , كتب به لولده نجم الدين أبي الفتح محمد , وكتب له ثبوت عدالته على الشيخ العلامة ولي الدين احمد بن زين عبد الرحيم العراقي .
استهل المؤلف سجل عدالته كالعادة بالحمد والتشهد , ثم قال : (( وبعد , فلما كانت العدالة هي أسس الشريعة وعمادها , وركنها الأعظم في الاستناد إلى الصواب وسندها , لا تقبل دونها شهادة ولا رواية , ولا يصح مع عدمها إسناد أمر ولا ولاية )) .
الصدقات
ذكر القلقشندي انه جرت العادة إذا تزوج سلطان أو ولده أو احد من الأمراء الأكابر واعيان الدولة أن تكتب له خطبة صداق تكون في الطول والقصر بحسب صاحب العقد , فتطال للملوك وتقصر لمن دونهم بحسب الحال .
ومن جملة الصدق التي استشهد بها الصداق الذي أنشأه لزين الدين صدقة السيفي ازدمر على بنت أمير المؤمنين المتوكل على الله , في خلافة أخيها المستعين بالله العباسي .
العهود
تحدث القلقشندي عن طريقتين في إنشاء العهود , الطريقة الأولى اتبعها المتقدمون , والطريقة الثانية اتبعها المحدثون . أما طريقة المتقدمين فهي أن لا يأتي بخطبة في أثناء العهد , ولا يتعرض الكاتب إلى ذكر أوصاف المعهود إليه والثناء عليه , أو يتعرض لذلك باختصار , ثم يأتي بالوصايا , ثم يختمه بالسلام أو بالدعاء أو بغير ذلك مما يناسب وعلى ذلك كانت عهود السلف من الصحابة والتابعين , ويهتدي بذلك فيما كتبه أبو بكر الصديق لعمر بن الخطاب .
أما طريقة المحدثين والمتأخرين من الكتاب في هذا العصر فهي يأتي بالتحميد في أثناء العهد , ويأتي من ألقاب ولي العهد بما يناسب على الاختصار وقد أشار القلقشندي إلى ما ذكره شهاب الدين بن فضل الله في كتابه ( التعريف ) إذ نص على أن عهود الخلفاء عن الخلفاء لم تجر عادة من سلف من الكتاب أن يستحقها إلا بما يذكر , ولكن المؤلف حين عرض هذا الضرب الثاني من العهود لم يظفر بنسخة عهد على هذا الأسلوب الذي ذكره شهاب الدين بن فضل الله , وإنما انشأ عهدا ً ترويضا منه للخاطر في مثل هذه الأحوال .
يقول القلقشندي : (( وقد أنشأت عهدا على الطريقة التي أشار إليها , امتحانا للخاطر : لان يكون عن الأمام المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد أبي الفتح بن أبي بكر , خليفة العصر , لولده العباس , ليكون نموذجا ينسج على منواله )) .
الكتب والمطالعات
تحدث القلقشندي عن أنواع المكاتبات وأساليبها , وأورد نماذج كثيرة منها , نشير إلى ما كتبه محيي الدين بن عبد الظاهر عن السلطان المظفر قطز بالبشارة بهزيمة التتار بعد معركة عين جالوت .
أما المكاتبة الثانية فهي للمؤلف نفسه القلقشندي , وهي المكاتبة التي كتبها عن السلطان الناصر فرج بن برقوق جوابا إلى صاحب فاس بالمغرب ابن أبي الحسن المريني الذي بعث بكتاب يستخبر فيه عن وقعة تيمور لنك .
المبايعات
ذكر القلقشندي المبايعات وما يقع عليه عقد المبايعة , ويأتي بما سنح من أمر البيعة ثم يذكر الحلف عليها , وعلى ذلك جرى كتاب خلفاء بني أمية ثم خلفاء بني العباس من بعدهم .
وقد أورد لنا كثيرا من المبايعات وحسبنا أن نشير إلى نص البيعة التي أنشاها بعد موت الخليفة وتعرض إلى قيام السلطان بعقدها ونص البيعة التي أنشاها مرتبة على خلع الخليفة , وتعرض فيها لذكر السلطان القائم بها .
أسلوب الكاتب ومذهبه الفني ومكانته العلمية
لاحظنا فيما تقدم معنا أن القلقشندي استخدم ضربين من النثر في كتابه , استخدم في الضرب الأول الأسلوب الحر , واستخدم في الثاني الأسلوب المقيد السجع .
الأسلوب المطلق
يعتقد كثير من الأدباء المحدثين أن هذا العصر لم يشهد غير الأسلوب المسجع الذي عرف منذ أقدم العصور الأدبية , وهذا يخالف الحقيقة , يكفي أن نرجع إلى ابن خلدون وغيره لنرى أن الكتاب كانوا يستخدمون الأسلوب الحر المطلق دون أي التزام للسجع .
لو رجعنا إلى صبح الأعشى وصرفنا النظر عن خطبة الكتاب والنصوص الديوانية المسجعة المستشهد بها لرأينا أن المؤلف يتحرر من قيود السجع , وقد لاحظنا ذلك حين يبدي رأيه في بعض الأمور التي يتحدث عنها , ويعلق على ما يورده من النصوص بقوله ( قلت ) وما يأتي من مقوله بعد ذلك لا يلتزم فيه أي سجع . والشواهد كثيرة في كتابه الصبح , ولن نذهب بعيدا يكفي أن نرجع إلى المقدمة التي كتبها المؤلف ( في فضل الكتابة ) وقال في مستهلها : (( أعظم شاهد لجليل قدرها , وأقوى دليل على رفعة شانها أن الله تعالى نسب تعليمها إلى نفسه واعتده من وافر كرمه وأفضاله , فقال عز اسمه : ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) . وفي ذلك من الاهتمام بشأنها ورفعة محلها مما لا خفاء فيه . )) .
واستطرد بعد ذلك ليقول : (( والكتابة إحدى الصنائع فلا بد فيها من الأمور الأربعة : فمادتها الألفاظ التي تخيلها الكاتب في أوهامه وتصور من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة تامة في نفسه بالقوة , والخط الذي يخطه بالقلم , ويقيد به تلك الصور , وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة , والتها القلم , وغرضها الذي ينقطع الفعل عنده تقييد الألفاظ بالرسوم الخطية فتكمل قوة النطق , وتحصل فائدة للأبعد كما تحصل للأقرب , وتحفظ المستثمر منها , وهي انتظام جمهور المعاون والمرافق العظيمة , العائدة في أحوال الخاصة والعامة بالفائدة الجسيمة في أمور الدين والدنيا ) .
هذان النصان من المقدمة على طولهما لم يحويا إلا على سجعة واحدة , لم يتكلفهما الكاتب , وإنما وردت عرضا في سياق الكلام , وهذا شانه في سائر فنونه النثرية غير الديوانية .
ولا نستغرب أن نجد الأسلوب نفسه في الكتاب كله على الرغم من ضخامته , ما عدا النصوص التي يوردها مستشهدا بها على الفنون النثرية الديوانية سواء كانت من إنشائه أم من إنشاء غيره .
الأسلوب المسجع
التزم المؤلف بالأسلوب المسجع في إنشائه الرسمي الذي يتعلق بالأغراض الديوانية وظاهرة السجع في هذا العصر , وكأنما كان الكتاب يهدفون من وراء ذلك إلى إعطاء الخلافة والسلطنة والملك ابهة ليضاهي النثر عزة أولي الأمر .
لقد كان النثر صورة عن الحياة في العصر المملوكي , ولذلك كان الكتاب يجودون إنشاءهم الديواني لأنه مظهر من مظاهر السلطان ولأنه يجب أن يكون زينة وحلية , ولذلك اثر الكتاب في الإنشاء تعمد الصيغة في التزام السجع وغيره من ضروب الالتزام الفنية كاقتباس الآيات القرآنية والمزاوجة بين الجمل والفقرات في سياق النص . وقد أشار المؤلف إلى ذلك في صبحه فقال : (( وقد اخترت أن أضع في هذا المحل ما وافق الصنعة وجرى على أسلوب البلاغة )) .
أما شواهد هذا النوع فكثيرة نكتفي بما مر معنا في عرض فنون المؤلف النثرية , وحسبنا منها ذلك هنا .

مذهبه الفني
نخلص من ذلك كله لنقرر أن مذهب الكاتب الفني كان ذا طابع ازدواجي , إذ انه جمع بين مذهبين متباينين متناقضين , مذهب النثر المطلق , ومذهب النثر المسجع ولكل مذهب من المذهبين مكانه من أدب القلقشندي .
كما نقرر أن هذه الازدواجية النثرية ظاهرة هامة في هذا العصر , والغريب حقا أن نجد كثيرا ً من الأدباء والنقاد المحدثين يقومون بنثر المسجع المعروف من دواوين الإنشاء ناسين أو متناسين أسلوب ابن خلدون وغيره من أعلام النثر البارزين , ويضربون صفحا عن النثر المطلق الذي لم يلتزم فيه الكتاب أي نوع من أنواع الالتزام البلاغي .
وبالطبع فإن الأمانة العلمية في البحث والتأليف تحتم على هؤلاء التزام النظرة الكلية في الأحكام الأدبية , إلا إذا كان ذلك ناتجا عن قناعة وعن فكرة معينة مسبقة , أو أن ذلك ناتج عن الجهل أو التجاهل أو قلة الاطلاع , على ما في هذا العصر من تيارات متباينة في النثر والشعر على السواء .
وهكذا يتضح مما تقدم معنا من بحث القلقشندي انه يمثل عصره خير تمثيل , وان صناعة الإنشاء عنده إنما كانت علما قائما بذاته له أصوله وأحكامه والتزاماته , ولا شك أن موسوعته النثرية الديوانية الكبرى , خير ما خلف لنا هذا العصر من الموسوعات الأدبية , وقد نوه بها المرحوم الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي , وقدمها على غيرها من الموسوعات , وقال : (( لو لم يكن لهذا العصر إلا الموسوعات لكفاه )) .
يضاف إلى ما تقدم ذكره عناية كثير من المستشرقين بهذا الكتاب والمؤسف حقا أن يتنبهوا قبل العرب أنفسهم إلى أهميته وسوف نوضح هذا الجانب في خاتمة بحثنا عن المؤلف .
أهمية القلقشندي عند المستشرقين والعرب في العصر الحديث
لم تقتصر أهمية القلقشندي في تاريخ أدبنا العربي على المفكرين العرب القدماء , وإنما تعدى ذلك إلى الغربيين أنفسهم في العصر الحديث , ولا سيما المستشرقين يهتمون بالدراسات الاجتماعية والإدارية والاقتصادية , ولذلك انصب اهتمامهم على ترجمة كثير من أجزائه وفصوله وأقسامه إلى اللغات المختلفة للإفادة مما فيها من أخبار مروية ونظريات اجتماعية واقتصادية وسياسية معروفة في عصر المؤلف .
ونرى توضيحا لذلك أن نقف عند أربعة من المستشرقين البارزين وهم الذين درسوا القلقشندي وترجموا بعض أجزاء كتابه ( صبح الأعشى ) أو بعض أقسامه .
تحدث المستشرق كودوفري ديمومبين عن القلقشندي في كتابه ( سورية في العصر المملوكي ) وترجم ما ورد في الجزء الرابع من كتاب صبح الأعشى خاصا بنيابات الشام , وصدره بمقدمة تاريخية وافية بلغت مائة صفحة , بين فيها نظام الحكم عند المماليك , وتكلم على الوظائف الإدارية والمالية والقضائية , وعلى موظفي الحاشية والبلاط السلطاني , ثم أفاض في الكلام على الاقطاعات وتطوراتها في العصور المختلفة , وذيل المؤلف جميع ما كتبه بقلمه , وما ترجمه عن القلقشندي بحواش جديرة بعناية الباحثين في نظم الحكم أيام المماليك .
والمستشرق الثاني هو ميشيل برنارد وقد ترجم ما ورد في كتاب صبح الأعشى عن موارد الدولة المالية في مصر والاقطاعات , وذلك في كتابه ( التنظيم المالي المصري عند القلقشندي ) .
والمستشرق الثالث هو وستنفيلد وقد تحدث في كتابه عن النظام الإداري والحربي في مصر في عصر الفاطميين , وترجم ما في كتاب صبح الأعشى معا هو خاص بهذين البحثين , وذلك في كتابه عن الفاطميين .
أما المستشرق الرابع فهو المستشرق الروسي كراتشكوفسكي وقد تحدث فيه عن القلقشندي حديثا مسهبا أشاد فيه بأهميته الكبيرة في كتابه الهام ( تاريخ الأدب الجغرافي العربي ) وقد أورد فيه طرفا من حياة المؤلف , ووضح لنا أهميته في عصره , ووقف عند كتابه ( صبح الأعشى في صناعة الانشا ) , ولخص لنا هذا الكتاب وذكر أهمية ما فيه من الوثائق الديوانية الواردة في مقالاته , قال : (( يسوق نماذج من الوثائق الأصلية , مما يجعل من كتابه مصدرا أساسيا بالنسبة للتاريخ والإدارة والحياة الاجتماعية للعالم الإسلامي والأقطار المتصلة به في أوائل القرن الخامس عشر )) .
أما المحدثون فقد انتبهوا إلى أهمية ( صبح الأعشى ) وقد اشرنا إلى الكتب وبعض المقالات التي كتبوها حول المؤلف وكتابه ولا بد لنا من أن نذكر أن المقالة التي كتبت عن المناخ في صبح الأعشى للأستاذ صباح محمود الحلي , حيث بدأ بالتحدث عن المعرفة الجغرافية عند القلقشندي فذكر شكل الأرض وأقسامها وأقاليمها وانتقل لذكر المناخ , فتحدث عن الرياح وأنواعها , والسحاب والبرق والرعد والمطر والثلج والبرد , ووصف بعض الظواهر الضوئية من الهالة وقوس قزح وطبائع الفصول الأربعة وغير ذلك .
ونذكر من المحدثين أيضا الأستاذ محمد بن تاويت , فقد اهتم باستقصاء ما في صبح الأعشى مما يتعلق بالأندلس والمغرب , وقد نشر حتى الآن ثلاث مقالات في مجلة المناهل المغربية .
ومن المحدثين كذلك الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور , فقد اشرف على وضع فهارس مفصلة لهذا الكتاب , وكتب في مستهلها مقدمة هامة تحدث عن أهمية هذه الموسوعة بين موسوعات هذا العصر ( نظرا لغزارة مادتها وتنوعها ومكانة مؤلفها وسعة افقه وغزارة علمه وخطورة المنصب الذي وليه في الدولة ) .
شافع بن عباس
وهو سبط ابن عبد الظاهر , وقيل ابن أخته وربما خلط المؤرخون بين محيي الدين وابنه فتح الدين , فهو سبط محيي الدين وابن أخت فتح الدين . ولد سنة 649 هـ وتوفى سنة 730 هـ الأمام الكاتب باشر الإنشاء بمصر زمانا إلى أن اضر لأنه أصيب بسهم في نوبة بحمص الكبرى سنة 680 هـ , ولزم بيته بعد ذلك إلى أن توفى .
وكان احد كتاب الإنشاء , وكان أديبا ً مشاركا ً في عدة علوم وله مصنفات , وله نظم جيد ونثر مليح .
اشتغل وسمع الحديث واخذ عن جمال الدين ابن مالك وتعانى الأدب وأتقن الخط والنظم والإنشاء , وكتب في الديوان زمانا ً . واتصل بجماعة من العلماء والأدباء واخذ عنهم , وخاصة عن الشيخ محيي الدين جده لامه وابنه فتح الدين , وعمل معهما في ديوان الإنشاء . وروى عنه واخذ منه جماعة من أدباء العصر المشهورين في مصر والشام من بينهم الشيخ أبو حيان , وعلم الدين البرزالي المؤرخ الأديب , والشاعر المصري السراج الوراق , وقد استشفع عبد الفتح بن عبد الظاهر .
ولقيه صلاح الدين الصفدي فأجازه ببعض كتبه , ولم يحفظ لنا من رسائله ومؤلفاته شيء , مع كثرة ما يذكر عنها . قال الصفدي : (( وله النظم الكثير والنثر الكثير )) .
وروى له الصفدي بعض كتبه وذكر منها ديوان شعره ومجموعة سير لبعض السلاطين مثل سيرة الناصر محمد بن قلاوون , والاشرف الخليل وكتبا في الأدب مثل قلائد الفرائد وفرائد القلائد فيما للشعراء المصريين الاماجد ) , ومناظرة ابن زيدون في رسالته و قراضات الذهب المصرية في تقريظ الحماسة البصرية , و الأحكام العادلة فيما جرى بين المنظوم والمنثور من المفاضلة والرأي الصائب فيما لا بد منه للكاتب . والأشعار بما للمتنبي من الأشعار , و عدة الكاتب وعمدة المخاطب , وشوارد المصائد فيما لحل الشعر من الفوائد , ومخالفة المرسوم في الوشي المرقوم . و شنف الآذان في مماثلة تراجم قلائد العقيان , و أفاضل الحلل على جامع قلعة الجبل .
ومما روي من رسائله ما كتبه يصف شمعة , قال : (( وشمعة قد استتم نبتها في روض الإنس حتى نور , ولان عطفها بدوحة المفاكهة حتى أزهر , وأومأ بنان تبلجها إلى طرق الهداية , وأشار , ودل على نهج التبصر , وكيف لا وهي علم في رأسه نار , كأنما هي قلم امتد بمزاليق من ذهب , أو صعدة إلا أن أسنانها ذهب , وحسبها كرما ً أن جاءت بنفسها وأعلنت بامتناعها عن جموده حسها , سائلها في الجود بأمثالها مسئول , ودمعها بالعفو للصفو من سماحتها مطلول , تحيتها : عموا صباحا ً بتألق نجرها وتمام بدرها في أوائل شهرها , قد حميت من ماء دمعها ونار توقدها بين نقطتين ومن حسن تأثرها وعين تبصرها بين الأثر والعين )) .
وله شعر وسط قريب من شعر جده محيي الدين وأمثاله من كتاب عصره .
وكان شافع محبا للكتب واسع الاطلاع وكان جماعا للكتب خلف ثماني عشرة خزانة مملوءة كتبا ً نفيسة أدبية .
وكان من شدة حبه للكتب يقول : هذا الكتاب الفلاني ملكته في الوقت الفلاني , وإذا طلب منه أي مجلد قام إلى الخزانة فتناوله كأنه كما وضعه .
8-النويري شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب . . البكري النويري
وينعت بالشهاب نويري المحتد , قوصي النشأة . سمع الحديث على الشريف موسى بن علي وعلى بن يعقوب بن احمد الصابوني . واحمد الحجار وزينب بنت يحيى وقاضي القضاة ابن جماعة .
تقلب في الخدم السلطانية وحصل له قرب من السلطان الناصر ووكله ببعض أموره وتولى نظر الجيش بطرابلس الشام . ونظر الديوان بالدقهلية , قال الادفوي : وكان ذكي الفطرة حسن الشكل وفيه مكرمة وأريحية وفيه ود لأصحابه وذكر المقريزي واقعة له مع احد وكلاء السلطان واسمه احمد بن عبادة وكيل الناصر محمد فقد ضربه بالمقارع سنة 710 هـ , لأنه كان استنابه بالمدرسة الناصرية والمنصورية وغيرها , وجعله يدخل على السلطان ويطالعه بالأمور فاغتر بذلك , وبسط القول في ابن عبادة , فلم يعجب السلطان تلك الوقيعة من النويري , فعرف ابن عبادة ما قاله في حقه وسلمه إليه ومكنه منه فضربه بالمقارع ضربا ً مبرحا ً .
وذكره ابن تغري بردى فقال : انه كان فقيها فاضلا ً ومؤرخا ً بارعا ً وله مشاركة جيدة في علوم كثيرة , وكتب الخط المنسوب .
وصحب جماعة من علماء عصره كالادفوي , وكان يواظب على القراءة فكان كل يوم بعد الظهر يستفتح بالقران إلى قرب المغرب , وقيل انه كتب صحيح البخاري ثماني مرات , وكان يبيع كل نسخة منه بخطه بألف درهم , وكان يكتب في كل يوم ثلاث كراريس .
وأشهر ما ألف كتابه الجامع ( نهاية الأرب في علم الأدب ) في ثلاثين مجلدا ً , قال ابن تغري بردى : رايته واقتنيته ونقلت منه بعض شيء في هذا التاريخ يعني ( النجوم الزاهرة ) وغيره وله نظم يسير ونثره لا باس به .
ومات النويري سنة 733 هـ بمرض أصاب أطراف أصابع يديه .
9-علاء الدين بن غانم
أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان ( توفي سنة 737 هـ )
احد الكتاب المشهورين بالفضائل وحسن الترسل وكثرة الأدب والأشعار والمروءة التامة .
ولد سنة 651 هـ بالقدس , وسمع الحديث الكثير وحفظ القرآن , وباشر الجهات , وقصده الناس في الأمور المهمات . وكان كثير الإحسان إلى الخاص والعام .
وتعانى الأدب . قال الصفدي : (( كتب في ديوان الإنشاء وعرض عليه كتابة السر فامتنع , وله نظم كثير وأعمال جيدة في الآداب والمكاتبات ومراجعات مع فضلاء عصره من زمن محيي الدين بن عبد الظاهر وهلم جرا .
وكان رئيسا ً كبيرا ً كثير القضاء لحاجات الناس حتى كان صدر الدين ابن الوكيل يقول : ما اعرف أحدا في الشام إلا وعلاء الدين بن غانم في عنقه منه مأثرة . وكان وقورا مهيبا ً , ولما أسن صار منور الشيبة ملازما للجماعات منطرح الكلفة . ولم يحبه ابن الزملكاني وكانت بينهما نفرة ومع ذلك قال ابن الزملكاني : ما أردت أن اذكره إلى واحد بسوء إلا قال لي : ما في الدنيا مثل علاء الدين بن غانم .
قال الذهبي : كان دينا ً وقورا ً , مليح الهيئة , ذا مروءة وفتوة . وقال ابن شاكر : هو الشيخ الفاضل البليغ , الكاتب الشاعر , صدر الشام , بقية الأعيان , كان حسنة من حسنات الزمان , وبقية ما ترك الأعيان , ذا مروءة فاقت الواصف , وجود اخجل الغمام الواكف .
وقيل انه أوذي من الدولة مرارا ً ومع ذلك لم يرجع عن عمل الخير والشهامة والمروءة وخدمة أصحابه ومعارفه ممن يقصده .
وكان صديقا ً للقاضي ابن صصري , وسعى لدى الحكام لتعيينه في قضاء الشام , وكان ابن الزملكاني يسعى إلى ذلك المنصب كذلك . ولهذا كانت الكراهة والنفرة . وقام ابن غانم بكثير من الرحلات طاف فيها البلاد وكان يتكلم بالتركي والعجمي والكردي , ويلبس زي العرب إذا سافر .
كتب بين يدي الصاحب بن غبريال , وأقام ردحا من الزمن بحماة عند الملك المنصور أبي الفداء , واتصل بكثير من علماء عصره وأدبائه , ومدحه بعض شعرائه كالشهاب محمود وابن نباتة , وكان حلو المحاضرة , جميل المعارضة , وصف ابن حجر علمه باللغة , وأسلوب كتابته فقال : (( وكان مستحضرا ً لكثير من اللغة , وكان يتقر في كلامه ويحفظ من شعر أبي العلاء المعري شيئا ً كثيرا ً , ويتعانى في نظمه ونثره الحوشي من الكلام , وإذا أراد أن ينظم أو ينشئ يطيل الفكر)) .
ومن نثره قوله في وصف قلعة ذات أودية وحاجر :
(( لا ترى العيون لبعد مرماها إلا شذرا ً , ولا يرى سكانها العدد الكثير إلا نزرا ً , ولا يظن ناظرها إلا أنها طالعة بين النجوم بما لها من الأبراج ولها من الفرات خندق يحفها كالبحر , إلا أن هذا عذب فرات . وهذا ملح أجاج , ولها واد لا يقي لفحة الرمضاء ولا حر الهواجر , وقد توعرت مسالكه فلا يداس فيه إلا على المحاجر , وتفاوت بين مرآه العلي وبين قراره العميق , ويقتحم راكبه في هبوطه , فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق )) .
ومن نظمه وصف روضة يقول :
وكم سرحة لي بالربا زمن الصبا أشاهد معي حسنها متلمسا
ويسكرني عرف الشذا من نسيمها فاقضي هوى من طيبة حتف انفيا
واسأل فيها مبسم الروض قبلة فيبرز من أكمامه لي اياديا
10-شهاب الدين محمود
محمود بن سليمان بن فهد بن محمود الحلبي ثم الدمشقي
ولد سنة 644 هـ وسمع من جماعة بينهم جمال الدين بن مالك وتأدب به وبابن الظهير الاربلي ولازم ابن الظهير هذا وكان شاعرا فحذا حذوه في الشعر . وسلكه طريقه في النظم والكتابة كما يقول ابن تغرى بردي , ومما كتب له من أبيات قوله :
ابارق ٌ لاح في صباح أم نظم الدر في سحاب
أم اسطر مثل جيش صب حين تسارعن في طلابي
وكان يمت بصلة إلى محيي الدين بن عبد الظاهر . فقد كان جده وكان ابنه علاء الدين خاله , وقد كتب إليه شعرا يقول فيه :
فلم تنقطع كتبي لنقص مودة ولكن دهاني صرف دهري فأذهلا
رماني عن قوس القساوة عامدا باسهم اوصاب فصادفن مقتلا
وتولى ديوان الإنشاء بدمشق , ذكر ابن العماد انه خدم فيه نحوا ً من خمسين سنة .
وكان يكتب التقاليد على البديه , تعلم الخط المنسوب , ونسخ بالاجرة بخطه الانيق كثيرا ً من الكتب واشتغل بالفقه . وكان أول صلته بالانشاء في مصر مع جده لامه محيي الدين بن عبد الظاهر وخاله علاء الدين , ولكنه ذهب إلى دمشق فعلا بها نجمه , ولقيه هناك ابن خلكان في المدرسة النجيبية سنة 681 هـ واتنصل به وكان يعوده في مرضه الذي مات فيه , وكان توليه سر دمشق سنة 717 هـ , قال ابن كثير : (( وفي بكرة نهار الثلاثاء الثامن والعشرين من شوال وصل الشيخ الأمام العلامة شيخ الكتاب شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي على البريد من مصر إلى دمشق متوليا كتابة السر بها عوضا ً عن شرف الدين عبد الوهاب ابن فضل العمري )) .
وانتقل مرة أخرى إلى مصر , قال ابن حجر : (( انه كتب الإنشاء أولا بدمشق , ثم نقله ابن سلعوس إلى الديار المصرية عقب موت محيي الدين بن عبد الظاهر أيام الملك الاشرف خليل فكتب بها في ديوان الإنشاء , ثم عاد فولي كتابة السر بدمشق بعد موت شرف الدين بن فضل الله , وظل بها إلى أن مات , وظل شاغلا لمنصب السر ثمانية أعوام .
واتصل بسلاطين المماليك من الاشرف خليل حتى الناصر محمد , وتقرب من نواب السلطنة بالشام , ولقي ترحيبا ً واحتراما ً من صاحب حماة الملك المنصور . وخلد في شعره مدائح لكل هؤلاء .
كذلك اتصل بجماعة من العلماء والأدباء والشعراء والكتاب , وكانت بينه وبينهم مكاتبات ومحاورات , وكانت بينه وبين الكاتب علاء الدين ابن غانم صداقة وطيدة . قال ابن غانم : عتبني يوما القاضي شهاب الدين محمود وقال : بلغني أن جماعة ديوان الإنشاء يذمونني وانت حاضر ما ترد غيبتي , فكتبت إليه :
ومن قال إن القوم ذموك كاذب وما منك إلا الفضل يوجد والجود
وما احد إلا لفضلك حامد وهل عيب بين الناس أو ذم محمود
فكتب إلي أبياتا منها :
علمت باني لم اذم بمجلس وفيه كريم القوم مثلك موجود
ولست ازكي النفس إذ ليس نافعي إذا ذم مني الفعل والاسم محمود
وما يكره الإنسان من اكل لحمه وقد آن أن يبلى وياكله الدود
فلم يبق إلا أيام قليلة وتوفى .
ورثا القاضي ابن صصري , وكان من اصدقائه بمريثة جيدة سنة 723 هـ مطلعها :
قاضي القضاة ومن حوى رتبا محت عن أن تسام سنا ربزت من سما
واتصل به صلاح الدين الصفدي , فأجازه ببعض كتبه وانشده كثيرا ً من شعره , رواه في كتبه ( شرح اللامية ) و ( الوافي بالوفيات ) .
ويلقب الشهاب محمود بلقب القاضي كما أول الكلام , وربما أثار هذا تساؤلا ً , لكن ابن حجر يجيب على ذلك بقوله : انه عين مرة لقضاء الحنابلة .
لكن المشهور انه كان كاتبا ناثرا ً وناظما ً بليغا ً . قال ابن حجر : فاق الأقران في النظم والإنشاء والكتابة , وكان نثره يدخل في ثلاثين مجلده .
وله كتاب في صناعة الإنشاء مشهور وهو ( حسن التوسل إلى صناعة الترسل ) , جوده وقيل انه كان يكتب التقاليد الكبار والتواقيع تظهر بخطه وثوقا ً حتى جمع منها بعض الراغبين مجلدين .
ومن محاسن نثره الكتاب الذي وصف فيه الخيل , والرسالة التي في وصف البندق , قال ابن العماد : ويقال : لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله , وله من الخصائص ما ليس للقاضي الفاضل من القصائد المطولة الحسنة الأنيقة .
وقال الصفدي : وقرأت على السيخ الأمام شهاب الدين أبي الثناء محمود الكاتب كتابا أنشأه في وصف الخيل جاء منه (( لا يستن داحس في مضماره ولا تطمع الغبراء في شق غباره , ولا يظفر لاحق من لحاقه بسوى آثاره , تسابق يداه مرامي طرفه , ويدرك شوارد البروق ثانيا ً من عطفه )) .
ويقول فيها : (( فمن أشهب غطاه النهار بحلته , واوطأه الليل على أهلته , يتموج أديمه ريا , ويتارج رئيا ً , ويقول من استقبله في حلى لجامه : هذا الفجر قد اطلع الثريا , إن التقت المضايق انساب انسياب الايم , وإن انفرجت المسالك مر مرور الغيم , كم أبصر فارسه يوما ً ابيض بطلعته . وكم عاين طرف السنان فقاتل العدا في ظلام النقع بنور أشعته . . .
وله في الشعر قدم ثابتة , برع فيه وفاق أقرانه , وعد من شعراء عصره المتقدمين , بدأ في النظم في باكورة شبابه , ومن أوائل شعره الجيد قصيدته في مديح الظاهر بيبرس ووصف انتصاره على التتار وخوضه خلفهم الفرات .
ومدح كثيرا ً من سلاطين المماليك المعاصرين مثل المنصور قلاوون والاشرف خليل , والناصر محمد , كما مدح غيرهم من نواب السلطنة والأمراء وكبار رجال الدولة من القضاة والكتاب , ومدح زملاءه من الشعراء والأدباء .
وله قصائد في مناسبات مختلفة وموضوعات متعددة كالوصف والرثاء والاخوانيات يجاري فيها الشعراء فيما يعرضون له . ويتأنق تأنقهم في التعبير ويذهب مذاهبهم في التورية والتجنيس وضروب البديع الأخرى الشائعة آنذاك .
ومن اخوانياته قصيدة بعث بها من القاهرة إلى صديقه الشاعر عبد الله ابن احمد بن تمام بجبل الصالحية بالشام يتشوق فيها ويبنيها بناء الرسائل , فيقول :
هل عند من عندهم برئى وأسقامي علم بأن نواهم أصل آلامي
وان قلبي وجفني بعد بعدهم ذا دائم وحده فيهم وذا دامي
والأبيات مبنية بناء الرسالة , من مقدمة ثم نتيجة وما بينهما وصلة من صنوف البديع وصنعة اللفظ والمعنى . وكان شهاب الدين خبيرا ً بهما كل الخبرة . وينتقل بين أجزاء موضوعه فصلا فصلا ً فيذكر بقاءه في مصر وشوقه إلى الشام :
يا ليت شعري الم يبلغه أن له أخا بمصر ضعيف الجسم مذ عام
ما كان ظني هذا في مودته ولا الحديث كذا عن ساكني الشام
ويذكر بلوغه السبعين من عمره :
ولت بشاشة أيامي فلو عرضت علي أعرضت عنها غير مستام
هل بعد سبعين لي إلا التأهب من اجل الرحيل بإسراج وإلجام
ولا يتخلى عنه ميله للصنعة حتى في هذا الموقف الذي يذكر فيه الموت والبعث والندم على ما فوت من العمر في الآثام والمعاصي , والرجاء في العفو وفي شفاعة النبي محمد عليه الصلاة والسلام , وسبيله إلى ذلك فرط من المحبة له .
ويختم هذه القصيدة ختام الرسائل فيقول :
فاذكر أخاك بظهر الغيب وادع له فأنت في نفسه من خير أقوام
عليك مني سلام الله ما ابتسمت أزاهر الروض من دمع الحيا إلهامي
وأعجب به الصفدي :
استغفر الله أين الغيث منفصلا ً من بره وهو طول الدهر متصل
من حاتم ؟ عد عنه واطرح فيه في الجود لا بسواه يضرب المثل
ويعجب الصفدي بوصفه لحصن المرقب الذي فتحه المنصور قلاوون إذ يقول :
ولقد ذكرتك والسيوف لوامع ٌ والموت يرقب تحت حصن المرقب
والحصن من شفق الدروع كأنه حسناء ترفل في رداء مذهب
كذلك أعجب علماء عصره وكثير ممن أرخو حياته بقصيدة لامية رقيقة اختارها ابن شاكر :
يا من أضاف إلى الجمال جميلا ً لا كنت إن طاوعت فيك عذولا
عوضتني من نار هجرك جنة فسكنت ظلا من رضاك ظليلا
وحللت من أحشائي ربعا دارسا ً فغدا بقربك عامرا ًمأهولا
ومن قصائده الجيدة قصيدة بعث بها إلى فتح الدين بن عبد الظاهر يقول فيها :
هل البدر إلا ما حواه لثامها أو الصبح إلا ما جلاه ابتسامها
أو النار إلا ما بدا فوق خدها سناها وفي قلب المحب ضرامها
أقامت بقلبي إذ أقام بحبها فدارتها قلبي ودارى خيامها
وأورد الصفدي في شرح اللامية بيتين من القصيدة , وأعجب بتشبيهه فيهما الثريا والهلال والدارة . قال : (( أنشدني من لفظه لنفسه الشهاب أبو الثناء محمود بدمشق سنة 723 هـ
كأن الثريا والهلال ودارة حوته وقد زان الثريا التئامها
حباب طفا من حول زروق فضة بكف فتاة طاف بالراح جامها
وكاتب بشعره بعض شعراء المصريين فكتب إلى السراج الوراق المصري في سجادة : يا إماما ألفاظه الغر في الأسماع تزرى بالدر في الاسماط
وشهاب تجاوز الشهب قدرا فغدت عن علاه ذات انحطاط
بابي إنني وطأت حلالا ً مستبيحا ما لا يباح لواطي
لم أحاول تقبيلها غير خمس حال زهدي فيها وحال اغتباطي
ويتلاعب فيها بالتورية مداعبا إليه بشهاب الدين مجيبا ً :
يا سراجا لما سمت به الشمس غدا البدر دونها في انحطاط
أنت بحر نداك موج والفا ظك در وصنع يمناك شاطي
لا تلمني إذا نظمت معانيك فمن در فيك كان التقاطي
وله في المدائح قصائد كثيرة جميعها في كتاب سماه ( اسنى المنائح في اهنى المدائح ) ومقدماتها تروي الشوق للديار المقدسة المشرفة بالكعبة والروضة الشريفة , وتجيش في رحلته الوجدانية عواطفه وأحاسيسه فيقول :
اعد حديث الحمى فالركب في طرب وقص أنباء من بالجزع من عرب
كرر حديث الثنايا فهي أعذب لي على الظمأ من رضاب الخرد العرب
إذا الكرى ذر في أجفاننا سنة من النعاس نفضناها من الهدب
ويقول :
إلا حبذا مسرى الركاب وقد رأت لها معلما عند الثنية معلما ً
وقد نزل الركبان وعفروا سحيرا ً على الأرض الوجوه تكرما ً
وكان شهاب الدين ذا اثر بين في عصره لما أتيح له من طول العمر .
ولأنه شغل منصب كتابية الإنشاء ردحا طويلا ً من الزمن بلغ خمسين عاما ً كان خلالها على صلة بالشعراء والأدباء في مصر والشام .
وترك مجموعة كبيرة من الرسائل قال الصفدي أنها بلغت ثلاثين مجلدة , وترك من الشعر ما بلغ ثلاث مجلدات . وعده الصفدي من الكلمة الذين عاصرهم وقال : (( ولم أر من يصدق عليه اسم الكاتب غيره لأنه كان ناظما ً ناثرا عارفا بأيام الناس وتراجمهم ومعرفة خطوط الكتاب مع الأدب الكثير والديانة والعلم والرواية )) .
ومما ذكر ابن حجر من كتبه ذيل على كتاب القطب اليونيبي في التاريخ .
11-صلاح الدين الصفدي
خليل بن أيبك
ولد بصفد سنة 766 هـ , وتعانى أول حياته صناعة الرسم فبرع فيها ثم حبب إليه الأدب فولع به وذكر عن نفسه أن أباه لم يمكنه من الاشتغال حتى استوفى عشرين سنة , فطلب بنفسه . وكان أول ما ولي من الوظائف كتابة الدرج ببلده صفد , ثم كتابة الدرج بالقاهرة زمنا ً ثم التوقيع بدمشق وكتابة السر بحلب والرحبة , ثم كتابة السر بالقاهرة فترة حتى عاد إلى دمشق فولي في أخريات عمره وكالة بيت المال وظل بها حتى وفاته .
وأتيحت له الرحلة مرات بين الشام ومصر , وسجل في بعض كتبه تواريخ تشير إلى تنقله , فقد ذكر انه كان بالديار المصرية سنة 729 هـ وروي عن عيسى الناسخ شعرا ً , وكان إذ ذاك في الثلاثين من عمره وظل بمصر حتى سنة 732 هـ حيث جاء في شرح اللامية انه كان ينظم مقطوعات في النيل .
وكان الصفدي رجلا ً حسن العشرة ذا مروءة محببا ً إلى كل أصدقائه ومخالطيه من الرؤساء أو الزملاء وظل يود الناس والناس يودونه , ويتقرب إلى الشيوخ والأعيان . وكان مختصا ً ببعض أدباء العصر وشعرائه كجمال الدين ابن نباتة الذي لازمه وتأثر به كثيرا ً في كتابته وشعره . وقد كان يجتمع به دائما بالحائط الشمالي من الجامع الأموي بكرة النهار وبعد العصر يتذاكران .
وطلب الصفدي الحديث وكتب بعض الطباق , ولكنه انصرف إلى الشعر والأدب وكان من شيوخه فيهما شهاب الدين محمود . وابن نباته وغيرهما , وقرأ على شهاب الدين زمنا ً ولازمه وسمع منه كثيرا من شعره وأجازه أباه وبكثير من مؤلفاته , وروى بعضه في شرح اللامية وما قرأه عليه من كتب مقامات الحريري .
وسمع من ابن سيد الناس بالقاهرة وروى عن دقيق العيد . وابن دانيال سنة 728 وسمع بعض كتبه , قال سمعته وهو يقرأ علينا من لفظ كتابه الذي وسمه بـ ( منح المدح ) . والتقى بالقاهرة كذلك بابي حيان أثير الدين سنة 728 وانشده بعض شعره وروى عنه بعض كتبه .
وسمع الحديث بالقاهرة عن يونس الدبوسي . وطاف مع الطلبة وكتب الطباق . وكان لإقامته بمصر أثرها في جمعه كثيرا من أثار شعرائها وأدبائها في عصره .
والتقى في دمشق بكثيرين كابن نباتة الذي قلنا انه لزمه زمنا وأجازه برواية كتبه عند ما لقيه بالقاهرة في مستهل شعبان سنة 739 هـ .
واتهم الصفدي لتأثره الواضح بأستاذه ابن نباتة بسرقة شعره ومعاني نثره ونظمه . وسمع منه جماعة من أعيان العصر في الأدب والعلم كابن كثير الدمشقي . روى ابن كثير قال : (( وأنشدني القاضي الصفدي ليلة الجمعة رابع عشر صفر سنة 764 هـ لنفسه فيما عكس عن المتنبي في بديه من قصيدة , وهو قوله :
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأيسر ما يمر به الوصول
قال الصفدي :
دخول دمشق يكسبنا نحولا ً كأن لها دخولا في البرايا
إذا اعتاد الغريب الخوض فيها فأيسر ما يمر به المنايا
واشتغل الصفدي كذلك بالتدريس في أخريات حياته بالجامع الأموي بدمشق . قال ابن حجر : وكان قد تصدى للإفادة بالجامع . وقد سمع منه الذهبي وابن كثير والحسني وغيرهم , قال الذهبي سمع مني وسمعت منه .
وبرع الصفدي في الآداب . وافتن الكتابة والتأليف . قال الذهبي : (( الأديب البارع الكاتب . شارك في الفنون وتقدم في الإنشاء , وجمع وصنف )) . وقال : (( ساد في علم الرسائل )) . وقيل أن مؤلفاته بلغت مائتين من المجلدات , ولعل الذي كتبه من الرسائل في ديوان الإنشاء ضعف ذلك .
قال ابن سعد : (( كان من بقايا الرؤساء الأخيار , وقد وجد بخطه : كتبت بخط يدي ما يقارب خمسمائة مجلدة . قال : ولعل الذي كتبه في الإنشاء ضعف ذلك )) .
ومما اشتهر من كتبه في التاريخ والتراجم :
1- كتاب ( الوافي ) المذكور , وهو في نحو ثلاثين مجلدة رتبه على حروف العجم . ونقل عنه ابن شاكر في فوات الوفيات كثيرا ً .
2- ( أعوان النصر وأعيان العصر ) , وافرده لأعيان عصره من الأعلام , والأدباء والشعراء خاصة .
ومن كتبه في الأدب :
3- شرح لامية العجم .
4- (( التذكرة الصفدية : وجمع فيها مجموعة من المختارات الأدبية , ضم الجزء الأول منها مجموعة القصائد البائية التي نظمها الشعراء في عصره معارضة أو مماثلة للقصيدة البائية التي ادعاها كل من الخيمي وابن إسرائيل وسبقت الإشارة إليها والتي مطلعها :
(( يا مطلبا ليس لي في غيره ارب )) .
5- نكت الهيمان في نكت العميان )) وجمع فيه تراجم مشاهير العميان .
6- (( الحان السواجع )) : وجمع فيه جملة من الرسائل المتبادلة بينه وبعض الشيوخ عصره من الأدباء .
7- مجموع مختار من شعر الأربعة الكبار أبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلاء المعري .
8- (( تشنف الدمع بانسكاب الدمع )) وهو مجموع في الأدب .
9- (( لوعة الشاكي ودمعة الباكي )) مقامة في المحبة والعشق .
10 – فض الختام عن التورية والاستخدام .
11- (( جنان الجناس )) .
12- (( نصرة الثائر على المثل السائر )) .
13 – تمام المتون وشرح رسالة ابن زيدون .
ومن رسائله رسالة في وصف الخيل على غرار رسالة الشهاب محمود سماها (( جر الذيل في وصف الخيل )) .
وأخرى في وصف الخال سماها (( كشف الحال في وصف الخال )) .
ويختلف أسلوب الصفدي في مؤلفاته بين السرد والتأنق حسب الموضوع الذي يكتب فيه , لكنه يعمد في رسائله ومقاماته دائما ً إلى تكلف السجع والبديع . ومن أمثلة رسائله المسجوعة قوله من رسالة في البشارة بالنيل :
(( فلو خاصمك النيل مياه الأرض لقال عندي قبالة كل عين إصبع ولو فاخرها لقال أنت بالجبال أثقل وانأ بالملق أطبع , والنيل له الآيات الكبر العجائب والعبر , منها وجود الوفاء عند عدم الصفاء وبلوغ الهرم إذا احتد واضطرم وامن كل فريق إذا قطع الطريق , وفرح قحطان الأوطان إذا كسر , والماء كما يقال سلطان , إلى غير ذلك من خصائصه وبراءته مع الزيادة من نقائصه , وهو انه في هذا العالم المبارك جذب البلاد من الجدب وخلصها بذراعه وعصمها بخنادقه التي لا تراع من تراعه , وحصنها بسواري الصواري تحت قلوعه وما هي إلا عمد تحت قلاعه )) .
وهو في شعره اقل مستوى من نثره على كثرته . وقد عدد القول في كثير من الموضوعات واشتهر بسرقاته من ابن نباتة . قال ابن حجة : (( وكان بينهما صداقة وأحوال , وكان الصفدي يسرق معاني ابن نباتة ألف كتابا ً في سرقاته سماه " خبز الشعير " قال الشوكاني : (( وكان يختلس معاني شعر شيخه وينظمها لنفسه . وقد صنف ابن نباتة في ذلك مصنفا سماه " خبز الشعير " المأكول المذموم , بين فيه سرقاته لشعره )) .
وذكر ابن نباتة سبب تأليفه ذلك الكتاب فقال : (( وعجبت له كيف رضي لنفسه هذا الأمر منكرا وكيف حلا لذوقه اللطيف هذا الحرام مكررا ً .
نقده ومؤلفاته في البلاغة :
لا نعدم ذوقا في النقد يعكس إحساسا بالجمال وفطنة لمعايير النظم الجيد , وقد نقل لنا السبكي مثالا من نقده وتذوقه للنصوص قال : قال جرير :
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة فارجعي بسلام
فعيب عليه قوله (( فارجعي )) وهو نقد حسن فانه ليس هناك لفظة أبشع من قول المحب لمن يحبه : ارجع . ورأيت الشيخ صلاح الدين الصفدي نفع الله به – قد قال رادا عليه :
يا خجلة لجرير من قول كفانا الله عاره
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة
هل كان يلقى إن أتاه خيال صاحبه خساره ؟
فعجبت له كيف ترك لفظة ارجعي وهو أبشع ما عيب به جرير ؟ . وقلت :
أما جرير فجر ثوب العار في دعوى الصبابة وازدياد غرام
إذ كذب الدعوى وقال لها وقد زارته في الغلس ارجعي بسلام
ثم قلت لعل الشيخ صلاح الدين إنما ترك لفظة الرجوع لنكارتها وقلت :
إني لأعيب من جرير وقوله قولا عدوت به لأنكر حاله
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة فاستمع أقواله
فاعذر فلست بقادر والله أن أحكى الذي بعد الزيارة قاله
فلما وقف الشيخ صلاح الدين على كلامي هذا كله زعم إني اعترف له بحسن النقد وقال:
أما جرير فلم يكن صبا ً ولكن يدعي
أولم تجئه صا ئدة القلوب فلم يع
بل قال جهلا ً ليس ذا وقت الزيارة فارجعي
لو كنت حاضر أمره قلت ارجعي وله اصفعي
ومن الأمثلة الأخرى لنقدة لألفاظ الشعر قوله في بيت الطغرائي :
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
انظر إلى قلق المثل في بيت الطغرائي لأنه عطف الناقة والجمل على السكن ولو عطف ما يناسب على ذلك من أهل وولد لكان أحسن وأوقع في النفس . وانظر إلى وروده في أبيات الشهاب محمود فانه جاء في مكانه منسجم التركيب ثابتا ً في معناه حتى كأنه ما برز إلى الوجود إلا في هذا المكان ولا ظهر إلا في هذا القالب , ولست أنكر أن الناس ضمنوه كثيرا ً في أغراض مختلفة طلبا ً للتبري مما ينتفي الإنسان عنه , ولكن كلما كان الكلام أكثر ارتباطا وتعلقا في أجزائه كان أحسن إلا ترى إلى قول شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني :
وعيون امرضن جسمي وأضرمن بقلبي لواعج البلبال
وخدود مثل الرياض زواه ما الأيام حسنها من زوال
لم أكن من جناتها علم الله واني لجمرها اليوم صالي
ما أحلاه وما ارشقه وكيف خدمته لفظة جناتها . فصارت من الجنى لا من الجناية .
ومن نقده للألفاظ تعليقه على قول عيسى الناسخ :
شكوت إلى ذاك الجمال صبابة تكلف جفني انه قط لا يغفوا
فلانت لي الأعطاف والخصر رق لي ولكن تجافى الشعر واثاقل الردف
قال الصفدي : لا اعرف يغفو – بالواو – إنما هو هو غفا يغفي , وان كان فهو لغة رديئة غير فصيحة , لان غفا يغفو لم يرد في كلام فصيح والله اعلم .
ومنه قوله ناقدا بيتي عبد الرحمن بن بابك :
ألوح واخفي والعيون رواصد وشمس الضحى تنأى منا ولا تقرب
فيضمرني جو من الأرض غابر ويطلعني حقف من الرمل اجدب
قلت : هذا نقلته من خط ابن خروف النحوي . ولو قال بدل (( جو )) (( وهد )) لكان أحسن لان الجو لا يقابل الحقف . وإنما يقابله (( وهد )) ولو قال بدل الأرض والرمل السهل والحزن لكان أبدع . فانه لا تضاد بين الأرض والرمل .
ومن تلك الأمثلة تتضح نظرة الصفدي إلى الشعر باعتباره صورا ً من الزخرف اللفظي والمعنوي .
ومما يتصل بنقده للألفاظ النظر في تمكن القافية , ووقوعها موقعها دون قلق . يقول : (( والقافية المتمكنة هي التي يبنى البيتمن أوله إلى آخره عليها , فإذا ختم البيت بها نزلت في مكانها ثابتة فيه متمكنة في محلها , وقد رسخت في قراراها ودفعت إلى مركزها , فهي لا تتزحزح ولا تتغير منه , غريبة من تركيبه , عارية عن الالتحاف بها والالتحاف بحسبه , ومتى غيرت القافية المتمكنة بغيرها جاءت نافرة عن الطباع في غاية الركاكة )) .
ويمثل لقلق القوافي بأبيات لابن الرومي :
لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها لأفسح مما كان فيه وارغد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه بما سوف يلقى من أذاها يهدد
قال الصفدي : (( وأنت ترى قافية ابن الرومي الدالية كيف أن لفظة ( ارغد ) فيها قلق , وكيف أن " أوسع " أحسن منها . وكيف أن لفظة " يهدد " أليق , وهذا أمر يشهد به الذوق ).
ويكشف عن ذوقه الأدبي ما علق به على فنون التعبير البديعية كالاستعارات والتشبيهات ويهتم منها بصفة عامة بتقارب الصورة وتناسبها ودلالتها المعنوية والشعورية , لكنه لا يغفل عن التنبه إلى اللفظ وتمكنه في السياق أو نفوره وقلقه , يقول : (( ويعجبني قول ابن خفاجة :
إلا رب يوم حثت الكأس خطوه فطار وأيام السرور قصار
عثرت بذيل السكر فيه عشية وللريح في موج الخليج غبار
وقد فضض الدوار كل رباوة وسال عليها للأصيل نضار
قلت : كل هذه الألفاظ في الأبيات فصيحة إلا قوله رباوة , فانه غير مستعمل لان في ربوة أربع لغات : تثليث الراء بالضم والفتح والكسر . والضم أفصحها . واللغة الرابعة رباوة , ولكنها غير مستعملة إلا فيما قل ولغة القرآن أفصح . ولو قال : وقد فضضت جيد الروابي أزاهر يسيل عليها للأصيل نضار
لكان أعذب موقعا في السمع من ذلك )) .
وقال في التشبيه بالهلال : (( وقد جمع بعض الأفاضل في وصف الهلال ما يقارب السبعين وانأ اذكر الآن هنا ما يمكن من تشبيهه, ولم اذكر الشاهد عليه خوفا ً من الإطالة ’ فأقول المقدم على ذلك كله تشبيه القرآن العظيم – له – بالعرجون . وشبه بحاجب النوبي الشائب وبقلامة الظفر وبضلع ملقاة في فلاة , وبالصدع في الزجاجة , وبالزورق , وبحرف النون , وبشفرة السكين , وبالنؤى وبالسرج وبطوق العروس وبناب من الفيل , وبالخلخال والسوار وبالدملج و بوقف من عاج , وبالقوس وبمليحة انتقبت , وبأثر الظفر في تفاحة , وبزنابي عقرب من فضة , ووبمقبض سرطان من ذهب وبراكع منحن وبخشكنانة , وبعين المليحة , وبقراصة دينار وبالفخ والمنجل وبطرف الصدغ , وبالمكرك وبشفة الكأس , وبوجه مسافر رفع العمامة عن جبينه , وبجانب مرآة انكشف عنها الغلاف , وبإكليل ملك وبأثر الحافر وبنعل الحافر وبالعذار الشائب , وبالسنان المنعطف , وبعطفة اللام وبصولجان وبطيلسان مقور , وبنصف زردة , ولقد ذكرت الشواهد على هذه التشبيهات في مقتضب لي سميته ( التنبيه على التشبيه )) .
ويعلق على التشبيه المعنوي الذي أورده أبو العلاء المعري في بعض شعره فيقول : (( وقد استعمله أبو العلاء المعري . وهو الأديب أيضا فقال :
خبريني ماذا كرهت من الشيب فلا علم لي بذنب المشيب
أضياء النهار أم وضح اللؤلؤ أم كونه كثغر الحبيب
واذكري لي فضل الشباب وما يجمع من منظر يروق وطيب
غدره بالخليل أم حبه للعشى أم انه كدهر الأديب
وهذا هو التشبيه المعقول بالمحسوس , وهو أعلى مراتب التشبيه طبقة لأنه ينشأ عن لطف ذوق وسلامة فطرة وصحة تخيل فهو صعب على من يرومه متقاعس عمن جذب زمامه , لان العلوم العقلية تستفاد من الحواس في المقادير والألوان والطعوم والرائحة وطيب النغم ونعومة الملمس وخشونته ولهذا قالوا : من فقد حاسة فقد طعما ً , وإذا كان كذلك فالمحسوس أصل والمعقول فرع , وتشبيه المعقول بالمحسوس من باب رد الفرع أصلا والأصل فرع .
ويعلق على الكناية في قول الطغرائي :
تؤم ناشئة بالجزع قد سقيت نصالها بمياه الغنج والكحل
قال الصفدي : (( وفي بيت الطغرائي من أنواع البديع الكناية , وهي ابلغ من التصريح وأوقع في النفوس , إلا ترى أن قولك ( بعيدة مهوى القرط ) ابلغ من قولك : طويلة العنق , وقل امرؤ القيس :
ويضحى فتيت المسك فوق فراشها نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
ابلغ من قوله منعمة ذات خدم وجوار يخدمونها , فهي تنام الضحى ولم تشد وسطها بنطاق الخدمة , وامرؤ القيس أبدع الناس في الكتابة , لان الناس كانوا يقولون أسيلة الخد حتى جاء هو فقال أسيلة مجرى الدمع , وكانوا يقولون طويلة القامة ونامة العنق حتى قال : بعيدة مهوى القرط وكانوا يقولون في الفرس السابق : يلحق الظليم والغزال , وما أشبه ذلك حتى قال : قيد الأوابد .
وقد لا يهتم الصفدي في نقد النصوص بالإشارة إلى ما جاء فيها من البديع وتحليله وبيان جماله , بل يبدي إعجابه بالنص في ألفاظه تعبر عن هذا الإعجاب ليس لها دلالة محددة سوى أنها تعبير عن نشوته وتأثره بوقع النص , قال : قال ابن الوكيل :
ما الكأس عندي بأطراف الأنامل بل بالخمس تقبض لو يحلو لها الطرب
شججت بالماء منها الرأس موضحة فحين أعلقها بالخمس لا عجب
لا يخفى ما في هذا الثاني من المحاسن التي تقف الافقهام دون غايتها , وتؤمن الأسماع بآيتها وتمتد كف الثريا إلى رفع رايتها , ولولا خوف الإطالة لأعطيت هذا المقام ما يستحقه ونبهت على ما تضمنه من أنواع البديع الذي يمتلك القلب الغليظ ويسترقه , وإن كان قد أخذه من قول عكاشة العمي في أصل المعنى :
حمراء مثل دم الغزال وتارة بعد المزاج تخالها جريالا ً
وإذا المزاج علا فشج جبينها نفشت بالسنة المزاج حباب
ولكنه أخذه ذهبا فجعله يتوقد لهبا ً , وتناله قبسا ً فأطلعه من أفق البلاغة شهبا ً وزاده من الفقه رقصت بها الأعطاف طربا ً : وهزت الرءوس عجبا ً , ومن تأمله وجد التورية قد مدت فيه على المجرة طنبا ً وأخذت محاسن النيرين سلبا ً . )) .
وعلق على قول ابن خفاجة :
لقد جبت دون الحي كل تسنوفة يحوم بها نسر السماء على وكر
وخضت ظلام الليل يسود فحمه ودست عرين الليث ينظر عن جمر
وجئت ديار الحي والليل مطرف منمنم ثوب الأفق بالأنجم الزهر
أشيم بها برق الحديد وربما عثرت بأطراف المثقفة السمر
ولا شمت إلا غرة فوق أشقر فقلت حباب يستدير على خمر
فسرت وقلب البرق يخفق غيرة هناك وعين النجم تنظر عن شزر
قلت وهذا هو النظم الذي تخجل منه درر العقود , ويستحي من طرسه رقم البرود , وقد جمع الانسجام والجزالة , وأضاف إلى الاستعارة حسن التخييل , فقلت هذا البدر ضمن هالة وابرز في صورة تفرق منه الضراغم , وتتوج على من تلبس بتلك الحالة , ساجعات الحمائم , فإذا حاول محاكاتها ناظم وجدها كالحرير ملبسا ً , وأين الثريا من يد المتناول .
وقوله أيضا :
وليل طرقت المالكية تحته أجد على حكم الشباب مزارا
فخالطت أطراف الأسنة أنجما ودست لهالات البدور ديارا
ومنه تعليقه على قول الطغرائي :
خبروها إني مرضت أضنى طارفا شكا أم تليدا
وأشاروا بأن تعود وسادي فأبت وهي تشتهي أن تعودا
واتتني في خيفة وهي تشكو الم الوجد والمزار البعيدا
ورأتني كذا فلم تتمالك أن أمالت علي عطفا وجيدا
قال الصفدي : قلت هذه الأبيات يرشفها السمع مداما ً , ويفضلها الشاهد على العقود نظاما ً , ويظن الناظر ألفاتها غصونا ً , والهمزات عليها حماما ً .
كتبه في البلاغة :
وللصفدي مجموعة كتب في البلاغة والبديع نذكر منها (( جنان الجناس )) وفض الختام عن التورية والاستخدام , و نصرة الثائر على المثل السائر , ويتصدى الأول لعرض أصل الجناس ثم يبين فنونه وتصرف الشعراء فيه , ومر بنا غرامه بالجناس , وقد استشهد في الكتاب بكثير من قوله نظما ً ونثرا ً .
وفي فض الختام يخصص حديثه للتورية , وهو الفن التعبيري المقابل للتجنيس , والذي نال شهرة في العصر بين أدبائه , واغرم به المصريون خاصة .
يقول في مقدمته : (( ومن أنواع البديع ما هو نادر الوقوع , ملحق بالمستحيل الممنوع , وهو نوع التورية والاستخدام الذي تقف الإفهام حسرى دون غايته عند مرامي المرام :
نوع يشق على الغبي وجوده من أي باب جاء يغدو مقفلا
لا يفرع هضبته فارع ولا يقرع بابه قارع إلا من تنحو البلاغة نحوه في الخطاب , ويجري ريها بأمره رخاء حيث أصاب . على أن المتقدمين ما قصدوه جملة كافية , ولا شعروا به لما شعروا انه دخل معهم في بيت تحت قفل قافية . وأما المولدون من الشعراء كالفرزدق وجرير ومن عاصرهم وخاض معهما لجة بحر البلاغة , فلم يرد احد منهم ورد هذا الغدير , وأما الذين تفقهوا بعدهم في الأدب وتنبهوا لتخلل طرقه بالطلب فربما قصدوا بعض أنواع البديع , فجادت إذ جاءت , وفاتت مرة أخرى وأخرى فاءت , وقد قصد أبو تمام كثيرا من الجناس . وفتح أبوابه , وشرع طرقه للناس .
أما التورية والاستخدام فما تنبه لمحاسنهما وتيقظ , وتحرى وتحرر وتحفز وتحفظ إلا من تأخر من الشعراء والكتاب وتضلع من العلوم , وتطلع من كل باب , وأظن أن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى هو الذي ذلل منها الصعاب وانزل الناس بهذه الساحات والرحاب , حتى ارتشف هذه السلافة أهل عصره وأصحابه الذين نزلوا ربوع مصره , وخفقت راياتهم بالإخلاص في نصره , كالقاضي سعيد هبة الله بن سناء الملك , ومن انخرط معه في هذا السلك .
ولم يزل هو ومن عاصره على هذا المنهج في ذلك الأوان , ومن جاء بعدهم من التابعين بإحسان إلى أن جاء بعدهم حلبة أخرى وزمرة أخرى , فكلهم يرمون هذا الإحسان عن قوس واحدة )) .
وفي نصرة الثائر ينقد ضياء الدين بن الأثير في كتابه المثل السائر , مؤيدا ً ابن أبي الحديد .
وهكذا عاش الصفدي أديبا كاتبا شاعرا ناقدا , مؤرخا جمع كثيرا من تراث عصره وأخباره , وعلق عليه , وعادت كتبه مرجعا قيما ً له .




12-الشهاب محمود
( 644-725 هـ , 1247 – 1325 م )
ولد أبو الثناء , شهاب الدين , محمود بن سليمان بن فهد بن محمود , في شهر شعبان 644 بدمشق الفيحاء .
عكف منذ طفولته على طلب العلم , ثم لقي بعدئذ مشاهير علماء عصره , فاخذ عنهم ثقافته الدينية والأدبية . اشتغل بالنحو على ابن مالك وتأدب بالمجد بن الظهير , ولازمه وسلك طريقه وحذا حذوه في الشعر والنثر , فبرع في الأدب وتضلع من الفقه , وفاق أقرانه في عصره حتى اختير وهو شاب ليلي قضاء الحنابلة , على الرغم من صغر سنه بعد أن أجازه يوسف بن خليل .
عرف الشهاب محمود بحسن الخلق , فكان هادئ الطبع , وجم التواضع , وعرف بالمقدرة والعلم , فعين لكتابة الإنشاء , وهو في الثلاثين من عمره تقريبا لأنه (( كان من أئمة الكتاب , ورأس البلغاء في عصره , وكانت له معرفة بأيام الناس وتراجمهم ومعرفة بخطوط كتاب الخط المنسوب , وكانت بينه وبين أهل عصره مكاتبات ومراجعات )) .
وجدير بالذكر هنا انه أصبح كاتب الدرج في ديوان الإنشاء بدمشق في عهد السلطان المملوكي المنصور قلاوون سنة 678 هـ .
ويبدو أن شهرته قد اتسعت حين مدح السلطان المذكور خلال قدومه إلى بلاد الشام وفتحه قلعة المرقب المنيعة التي كانت بيد الصليبيين والتي لم يستطع الأيوبيون تحريرها من قبل .
الله أكبر هذا النصر والظفر هذا هو الفتح لا ما تزعم السير
ويمدح الملك قلاوون ويذكر فتحه طرابلس والقصيدة أولها :
علينا لمن أولاك نعمته الشكر لأنك للإسلام يا سيفه ذخر
أعجب به الصاحب الوزير شمس الدين بن السلعوس , وأحبه كثيرا ً فنقله إلى مصر عقب موت محيي الدين بن عبد الظاهر , فكتب بها في ديوان الإنشاء فتقدم ببلاغته وبديع كفاية وإنشائه وأصبح أثيرا لدى السلطان المنصور لاجين .
فنظم في الحال بيتين :
ثياب مملوكك يا سيدي قد بيضت حالي بتسويدها
ما وقع الحبر عليها بلى وقع لي منك بتجديدها
فأمر له المنصور بتفصيلتين وخمسمائة درهم , فقال ( يا خوند مماليكك الجماعة رفاقي يبقى ذلك في قلوبهم ) فأمر لكل منهم بمثل ذلك وصارت راتبا لهم كل سنة )) .
وهكذا ارتفعت منزلته كثيرا حتى أصبح صاحب ديوان الإنشاء عند السلطان بيبرس البندقداري سنة 708 هـ , بقي مستمرا في منصبه حتى وفاة شرف الدين بن فضل الله , فأعيد إلى دمشق سنة 717 هـ وولي مكانه نظر ديوان الإنشاء وكتابة السر فيها .
ترجم له الشاعر جمال الدين بن نباتة المصري في كتابه ( سجع المطوق ) ووصف مكانته في الشام ومصر .
لم يغتر الشباب بما بلغه من منزلة سامية ومكانة مرموقة في دواوين الإنشاء قرابة خمسين عاما , وإنما كان دمث الخلق مستقيما في عمله , أحسن معاملة الناس جميعا ً , فأحبوه واحترموه , كما كان محبا لأهل الخير ومواظبا على التلاوة والنوافل , فلا عجب أن رأينا تنكز نائب السلطنة بدمشق يحترمه ويجله , شانه في ذلك شان من سبقه , فلم يعرف عنه انه عزل أو طرد من عمله طوال حياته المديدة , ولكن شانه شان كل ذي نعمة أن يكون محسودا على ما حباه الله من منزلة تطمح إليها الأبصار , وقد توضح لنا ذلك في كتابه لعلاء الدين بن غانم حيث بلغه أن جماعة في الديوان كانوا يذمونه , وهو حاصر لا يرد غيبته .
أقام بعد عودته من مصر في منصبه ثمانية أعوام إلى أن توفي ليلة السبت الثاني والعشرين من شعبان سنة 725 هـ في منزله ودفن في تربته التي أنشاها في سفح قاسيون بالقرب من اليغمورية .
2- آثاره الأدبية
كان شيخ صناعة الإنشاء في عصره , وان نثره كثير جدا يبلغ أضعاف نظمه , وذكروا أن له ( تصانيف تملأ الأذهان فهما ً , وتسع فنون الآداب علما , ومواقع أقلام تخرس الأفواه والأفواه توسعها رشفا ولثما ً ) .
أشهر تصانيفه ( حسن التوسل إلى صناعة الترسل ) .
استهل الشهاب محمود مقدمة الكتاب المذكور بالتحدث عن مكانته في كتابة الإنشاء وذكر العوامل الشخصية التي حدث به إلى تأليف الكتاب المذكور . تحدث بعد ذلك أمور كلية لا بد للترشيح لهذه الصناعة من التصدي لها والاطلاع عليها , وعن أمور خاصة في علوم المعاني والبيان والبديع , ثم ختمها بذكر بعض ما يتصل بخصائص الكتابة كالاقتباس والاستشهاد والحل , وشفعها بمجموعة قيمة من رسائله , اختارها مما أنشأه بحكم عمله الرسمي أو مما أنشاه ( رياضة للخاطر لصعوبة مسلكه ) وهي تبرز لنا مختلف فنون نثره .
من تصانيفه ( مقامة العشاق ) وهي مفقودة , ومنها أيضا ً ( منازل الأحباب ومنازه الألباب ) وهي في الهوى العذري , وما زال مخطوطا , وله أيضا كتاب ( ذيل على الكامل لابن الأثير ) وهو مخطوط , و ( الذيل على ذيل القطب اليونيني ) وهو مفقود .
يضاف إلى هذه التصانيف النثرية تقاليده الرسمية وتواقيعه الكثيرة ورسائله الاخوانية التي كان يشنها , وقد أشار الصفدي أنها تدخل في ثلاثين مجلدة , جمع منها بعض الفضلاء الراغبين مجلدين , أما قصائده فكثيرة تدخل في ثلاث مجلدات , ولم تجمع في ديوان شعر مستقل وأما المقاطيع فقليلة .
افرد الشهاب محمود من شعره المدح النبوية , وجمعها في ديوان خاص سماه ( أهنا المنائح في اسنى المدائح ) , وعدد أبياته ألفا بيت وثلاثمائة وخمسة وستون بيتا , وقد سمعه أستاذه يوسف بن خليل من لفظه , وذكر الذهبي انه لم يخلف في معناه مثله .
نثره ومذهبه
1- فنون النثر
اجمع معاصرو الشهاب محمود على انه كان رأس البلغاء في عصره وشيخ صناعة الإنشاء دون منازع , وذكروا انه أربى على كثير من تقدمه , وأصبح المنظور إليه في البلاد الشامية والمصرية على السواء وقد بقي في ديوان الإنشاء بدمشق والقاهرة قرابة نصف قرن من الزمن , لان له في نثره خصائص ليست لغيره .
أشار الشاعر جمال الدين بن نباتة المصري إلى هذه المنزلة الكبيرة التي عرف الشهاب في الأوساط الثقافية والسياسية في كتابه ( سجع المطوق ) الذي ترجم في الأوساط الثقافية والسياسية في كتابه ( سجع المطوق ) الذي ترجم فيه الشاعر لكل من زكى كتابه ( مطلع الفرائد ومجمع الفوائد ) .
كتب الحروب والفتوح والتهاني
أشار الشهاب محمود إلى الكتب التي كان ينشئها في أوقات الحروب إلى نواب الملك عنه , والى مقدمي الجيوش والسرايا , وذكر أنها تتميز بالإيجاز والألفاظ البليغة .
وأشار إلى الكتب التي كان ينشئها في أوقات الحروب إلى نواب الملك , يعلمهم بالحركة للقاء عدوهم , وقد ذكر أنها تتميز بالبسط في القول في وصف العزائم , : (( أصدرناها ومنادي النفير قد أعلن بـ ( يا خليل الله اركبي ) , ويا ملائكة الرحمن اصحبي , ويا وفود التأييد والظفر اقربي , والعزائم قد ركضت على سوابق الرعب إلى العدا , والهمم قد نهضت إلى عدو الإسلام , فلو كان في مطلع الشمس لاستقربت ما بينها وبينه من المدى )) .
أما كتب التهاني والفتوح , فيشترط فيها الشهاب محمود أن يبسط الكلام في مضمونها , فتتصف بالإطناب في الأوصاف , وخاصة إن كان المكتوب إليه ملكا ً صاحب مملكة . فمن ذلك رسالة كتبها في جواب ابن الأحمر , صاحب حمراء غرناطة من الأندلس : (( أما بعد حمد الله . . . فإننا أصدرناها , ونعم الله بنا مطيفة , ومواقع نصره عندنا لطيفة , ونبدي لعلمه الكريم ورود كتابه الجليل مسفرا ً عن لوامع صفائه مبينا بجوامع وده ووفائه , مشرقا ً بلآلئ فرائده , محدقا ً بروض كرمه الذي سعد رأى رائده , بما بلغه من أنباء النصرة التي سارت بها إليه سرعان الركبان , وذلت بعز ما تلي عليه منها عباد الصلبان , وطبق ذكرها المشارق والمغارب , ومزقت أعداء الله التتار , وهم في رأي العين أعداد الكوكب , وخلطت التربة بدمائهم حتى لم يبح بها التيم .
نلاحظ أهمية هذا النص , إذ انه يوضح لنا بجلاء علاقة المشرق بالمغرب وموقف الأخير من الأحداث الكبرى الطارئة في فترة اكتنفتها الحروب في الشرق والغرب على حد سواء , كما يوضح لنا تصميم المسلمين على دحر التتار وإرجاع الخلافة العباسية إلى بغداد بعد أن تقوضت أركانها .
كتب التقاليد والتواقيع والمناشير
تحدث الشهاب محمود عن هذا النوع من الإنشاء في عصره , وأشار إلى كثرة ما أنشأه منها , فقال : (( وفي أيدي الناس مما كتبت فيه شيء كثير )) فمن تقليد كتبه لصاحب سيس بإقرار على ما قاطع النهر من بلاده قوله في خطبة التقليد : (( الحمد لله الذي خص أيامنا الزاهرة باصطناع ملوك الملل , وفضل دولتنا القاهرة بإجابة من سأل بعض ما أحرزته لها البيض والاسل , وجعل من خصائص ملكنا إطلاق الممالك وإعطاء الدول . وبعد , فإنه لما أتانا الله ملك البسيطة , وجعل دعوتنا بأعنة ممالك الأقطار محيطة , ومكن لنا في الأرض , وأنهضنا من الجهاد في سبيله بالسنة والفرض , وجعل كل يوم تعرض فيه جيوشنا من أمثلة يوم العرض , وأظلتنا بوادر الفتوح وأظلت على الأعداء سيوفنا التي هي على من كفر بالله وكفر بالنعمة دعوة نوح , وأيدنا بالملائكة والروح , على من جعل الواحد سبحانه ثلاثة , فانتصر بالأب والابن والروح.
تطالعنا هذه الرسالة ببعض المعاني الدينية التي كانت معروفة في أدب هذا العصر , وقد حاول الكاتب أن يبرز لنا من خلالها صورة جمعت بعض المعاني الإسلامية والنصرانية .
الطرديات
يرى الشهاب محمود أن الكاتب يكون مقيدا في نثره الرسمي بقيود يجب أن يرعاها ويطبقها في إنشائه , غير انه حينما يتحدث عن الطرديات من ذكر أوصاف الخيل والجوارح والسلاح وآلات الحرب وأنواع الرياضات من لعب الكرة والصيد ورمي البندق , كان يشير إلى أن الكاتب مطلق العنان ليبز مهارته وبراعته بالأسلوب الذي يشاء .
أورد في طردياته رسالة البندق , وهي تشتمل على أنواع من الأوصاف وفنون الانظم والنثر , يستعين بها الكاتب على ما شاء من إنشاء قدمه في أي نوع أراد من الطير الواجب ومنها قوله : (( فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها , وتشير من الأفق الغربي إلى جانب رمسها وتغازل عين النور بمقلة أرمد , وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض إلى وجوه العود , فكأنما كئيب أضحى من الفراق على فرق , أو عليل يقضي بين صحبه بقايا عمر بالرمق , وقد أخضلت عين الورد لوداعها , وهم الروض بخلع حليته المموهة بذهب شعاعها )) .
الاخوانيات
انتشرت الاخوانيات في هذا العصر شعرا ً ونثرا ً , وقد عدها الشهاب محمود من الكتب التي يكون الكاتب فيها مطلق العنان , مخلى بينه وبين قوته وضعفه .
أورد من اخوانياته صورة كتاب إلى إنسان يتضمن مخاطبته تزويج آمه .
(( يقبل الأرض ابتداء بالخدمة من حين ظهر إلى الوجود , وشوقا إلى امتطاء صهوات الجياد بين يدي سيده قبل المهود , وتمنيا أن يكون أول شيء يقطع عليه نظره من الدنيا وجه مولانا الذي تعلو بنظرة الجدود , ويتيمن برؤية كواكب السعود , وينهي انه تعجل الشوق على صغره , وكان كمال المسرة به أن يقع نظر مولانا الشريف عليه قبل البشرى بخبره لتلقى سعادة مولانا في ساعة ظهوره , ويكسي قبل أن تلقى عليه الملابس من إشراق محياه الكريم حلل نوره , ويكون أول ما يلج مسامعه صوت مولانا يحمد ربه على الزيادة في خدمه , وتكثير من يضرب بين يديه في الحرب بسيفه , ويقف في السلم أمامه على قدمه , فإن من يكون نجل مولانا تنطق بالنجابة مخايله , وتدل على الشجاعة سماته قبل أن تدل عليه شمائله , والهلال سيصير في افلقه بدرا ً منيرا ً , والشبل سيعود كأبيه أسدا هصورا ً , والله تعالى يهب العبد عمرا ً , ويبلغ من طاعة مولانا ما يجب عليه , ويرزقه عملا صالحا يتقرب به إلى ربه , واليه بمنه وكرمه )) .
مذهبه الفني
أوردنا في باب الشعر قصائد الشهاب محمود في وصف الحروب التترية , وقد رأينا انه كان شاعرا مجيدا ً , شانه في ذلك شان العماد الكاتب , إذ جمعا الصناعتين , فكان شاعر المعارك التترية , بينما كان العماد شاعر المعارك الصلاحية .
كما اتضح مما تقدم معنا أن الشهاب محمود كان شيخ الكتاب وأمام البلغاء في عصره بالشام ومصر , وقد قال عنه معاصروه : (( انه لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله )) , وذكروا عنه انه كان يقيم في دار القاضي الفاضل نفسه بدمشق قرب باب الناطفيين .
جرى الشهاب محمود في إنشائه على سنة من سبقه من الكتاب على رأسهم العماد الكاتب وابن الأثير الكاتب , فاستخدم الأسلوب المسجع وضمنه دون تكلف وتصنع ما راقه من الزخارف البديعية والصور البيانية أما السجع فقد لاحظنا انه كان يستخدمه في أسلوبه خلال رسائله وكتبه الرسمية والذاتية , كما رأينا منه شواهد مختارة , انه كان كابن الأثير من قبله , كان يحاول أن يتحرر من قيود السجع في بعض تصانيفه , وقد لاحظنا ذلك في كتابه ( حسن التوسل ) ما عدا خطبة الكتاب فقد جاءت كالعادة مسجعة , أما الفنون البلاغية , فقد نعتها بالأمور الخاصة , لأنها (( من المكملات لهذا الفن , وإن لم يضطر إليها ذو الذهن الثاقب , والطبع السليم , والقريحة المطاوعة , والفكرة المنقحة والبديهة المجيبة , والروية المتصرفة , وهو يرى أن الأديب والكاتب العاريين من هذه الفنون قاصران عن أدنى رتب الكمال لأنهما يجيدان ولا يدريان .
أشار الشهاب محمود في الأمور الخاصة إلى ( الإبداع ) : (( وهو أن يأتي في البيت الواحد من الشعر أو القرينة الواحدة من النثر عدة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جمله, وربما كان في الكلمة الواحدة المفردة ضربان من البديع ومتى لم تكن كل كلمة بهذه المثابة فليس بإبداع )) .
الجولة الأخيرة – للقاضي الفاضل
لما تم تحرير القدس من الفرنجة عام 583 هـ ودخلها الجيش العربي باحتفال مهيب , كتب القاضي الفاضل وزير صلاح الدين الأيوبي إلى الخليفة العباسي الناصر ببغداد يبشره , ويصف له المعركة الأخيرة التي دارت رحاها حول الأسوار :
. . . ولما لم يبق إلا القدس وقد اجتمع إليها كل شريد منهم وطريد , واعتصم بمنعتها كل قريب منهم وبعيد , ظنوا أنها من الله مانعتهم , وان كنيستها إلى الله شافعتهم , فلما نازلهم الخادم رأى بلدا كبلاد وجمعا كيوم التناد , وعزائم قد تآلفت وتألبت على الموت , فزاول البلد من جانب فإذا أودية عميقة ولجج وعرة غريقة , فعدل إلى جهة أخرى كان للمطامع عليها معرج وللخيل فيها متولج .
فنزل عليها وأحاط بها , وقرب منها وضربت خيمته بحيث يناله السلاح بأطرافه , ويزاحمه السور بأكتافه , قابلها ثم قاتلها , ونزلها ثم نازلها وبرز إليها , ثم بارزها وحاجزها ثم ناجرها , فضمها ضمة ارتقب بعدها الفتح وصدع اهلها فإذا هم لا يصبرون على عبودية الجد من عتق الصفح , فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدة ٍ وقصدوا نظرة من شدة , وانتظارا لنجدة , فعرفهم في لحن القول , وأجابهم بلسان الطول , فشج مرادع أبراجها , واسمع صوت عجيجها , ورفع مثار عجاجها , وتقدم إلى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله , واظهر من صناعته الكثيفة ما يدل على لطافة أنمله , واسمع الصخرة الشريفة أنينه حتى كادت ترثي لمقلته .
14-ابن خلدون
832 – 908 م
أبو زيد عبد الرحمن بن محمد , نزح أجداده من المشرق وسكنوا اشبيلية , ثم انتقلوا إلى تونس , وفيها ولد ابن خلدون .
ولي الكتابة والوساطة بين الملوك في المغرب والأندلس , ثم كثر خصومه فارتحل إلى مصر حيث قلده السلطان برقوق قضاء المالكية , فاستدعى أسرته إليه فغرقت في البحر قبل وصولها , فانقطع عن العمل في منصبه وانصرف إلى التدريس والتأليف , إلى أن مات بمصر .
كتب ابن خلدون في التاريخ مؤلفا عنوانه : (( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر )) .وهو يقع في ثلاثة كتب تتألف من سبعة مجلدات , أهمها الكتاب الأول المسمى : (( مقدمة ابن خلدون )) وقد ضمنها المؤلف أصول فلسفة التاريخ والاجتماع , ونقد فيه المؤرخين قبله , ثم وصف تطور الأمم من البداوة إلى الحضارة , وترقي الشعوب في الاجتماع والدين والسياسة , والاقتصاد والعلوم والفنون , وعوامل نشأة الدولة وضعفها وانهيارها , وطبائع أهل البدو والحضر , وقد نالت مقدمته اهتمام الغربيين فترجمت إلى اللغات الأجنبية , وعد ابن خلدون بها مؤسسا لعلم الاجتماع إذ لم يسبقه احد إلى إرساء أسس هذا العلم .
وأسلوب ابن خلدون سائغ سهل لا تكلف فيه , ولا التزام بالسجع والبديع اللذين طغيا على الكتابة في عصره وهو يعرض فكره الجبار بأسلوب منطقي يعززه بالشواهد والأدلة المنتزعة من التاريخ والحياة .
يعد ابن خلدون علما متميزا ً في الثقافة العربية الإسلامية وعبقريا في فكره التحليلي المبدع في عصر جمد فيه الإبداع وانصرف فيه الناس إلى الجمع والتصنيف دون استنباط أو استقراء أو تجديد .
الترف مؤذن بخراب الدولة
ابن خلدون
يقدم ابن خلدون تحليلا مفصلا لعواقب ابتزاز الرعية الذي يميز الدول التي بلغت حد الانهيار ويستنتج أحكامه من الواقع المضطرب لدول المغرب في عصره في القرن الرابع عشر الميلادي .
إن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها , لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم . وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك , وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب . فإذا كان الاعتداء كثيرا ً عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك , لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها , فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران واختل حال الدولة . . .
ولا تحسبن الظلم إنما هو اخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور , بل الظلم اعم من ذلك , وكل من اخذ ملك احد , أو غصبه في علمه , أو طالبه بغير حق , أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه , فجباة الأموال بغير حقها ظلمة , والمعتدون عليها ظلمة , والمنتهبون لها ظلمة , والمانعون لحقوق الناس ظلمة , وغصاب الأملاك على العموم ظلمة , ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها .
ومن اشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكلف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق . وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع , فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرعايا لان عامته من البيع والشراء وإذا كانت الأسواق عطلا منها بطل معاشهم وتنغص جباية السلطان أو تفسد , لان معظمها من أواسط الدولة وما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه . واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض عليهم من الترف في الأحوال فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة . فيستحدثون ألقابا ووجوها يوسعون بها الجباية ليفي الدخل بالخرج , ثم لا يزال النزف يزيد , والخرج بسببه يكثر والحاجة إلى أموال الناس تشتد ونطاق الدولة بذلك يزيد , إلى أن تنمحي دائرتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها .
النص :
كتب ابن خلدون عن علم الأدب في مقدمته : (( هذا العلم لا موضوع له , ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العربي ومناجيهم , فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة من شعر عالي الطبقة , وسجع متساو في الإجادة , ومسائل في اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة , ويستقري منها الناظر في الغالب قوانين العربية , مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها , وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة , والأخبار العامة , والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم , ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه , فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه , ثم أنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا : الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف , يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط وهي القرآن والحديث إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم , وتوسلهم بالاصطلاحات العلمية , فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم قائما على فهمها .
وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين , وهي ( أدب الكتاب ) لابن قتيبة , وكتاب ( الكامل ) للمبرد , وكتاب ( البيان والتبيين ) للجاحظ , وكتاب ( النوادر ) لأبي علي القالي البغدادي , وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها وكتب المحدثين في ذلك كثيرة .
وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه , وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على أساليب الشعر وفنونه . فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة . وقد ألف القاضي أبو الفرج الأصفهاني كتابه في ( الأغاني ) جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم , وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد , فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه . ولعمري انه ديوان العرب , وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال , ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه , وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنى له بها , ونحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان , والله الهادي للصواب )) .
15- ابن غانم المقدسي
( 000 – 678 هـ , - 000 – 1280 م ) حياته وآثاره
عز الدين عبد السلام بن احمد بن غانم بن علي بن عساكر بن حسن الأنصاري المقدسي .
لا نعرف كثيرا عن حياته , ومعظم ما ذكره السابقون انه قد اشتهر أمره بالوعظ , وطبق في الآفاق ذكره , وهو ينزع في أدبه إلى مدرسة وعظية شعبية ظهرت في هذا العصر , ونسجت على منوال ابن الجوزي وأمثاله من الوعاظ المتقدمين .
لقي قبولا كثيرا عند عامة الناس , وكان يحضر وعظة في المجلس الذي عقده مرة تجاه الكعبة كثير من الناس بالإضافة إلى الصفوة المختارة من العلماء الكبار أمثال تقي الدين بن دقيق العيد وتاج الدين الفزاوي وابن العجيلي وغيرهم .
توفي هذا الواعظ الكبير في القاهرة سنة 678 هـ ( 1280 م ) .
نظم الشعر ولكن نثره الوعظي كان أشهر من نظمه , كما خلف لنا بعض الآثار في التصوف وغيره .
آثاره الأدبية :
صنف هذا الواعظ آثارا متعددة , وقد عرفنا منها ما يلي :
1- حل الرموز : وهو كتاب في التصوف .
2- الروض الأنيق : وهو كتاب في المواعظ .
3- كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار .
4- تفليس إبليس , وهو كتاب محاورات ومناظرات مع الشيطان .
والكتابان الأخيران مطبوعان وسوف نتحدث عنهما بالتفصيل في بحث فنونه النثرية .
فنونه ومذهبه الفني
تتضمن دراستنا النظر بشكل مفصل في كتابيه المشهورين والمطبوعين وهما (كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار ) و ( تفليس إبليس ) .

























اتجاهات الشعر إبان الحروب الصليبية .
نظرا لتوسع رقعة الدولة الإسلامية وتعدد مكوناتها ومؤثراتها فقد تنوعت اتجاهات الشعر بين مقلد ومحافظ وخطابي وموضوعي ومحترف يعتمد التجانس والتقابل والتضاد , فهناك شعراء جعلوا الشعر حرفة للتكسب للوصول للمال والجاه ارتقوا بشعرهم من خلال النظر بهذا الشعر وتنقيحه وإضافة المعارف له من خلال التنقيح والتثقيف والتمحيص متكلفين قصائدهم وقد التزم هؤلاء الشعراء مناهج الشعر القديمة في بناء القصيدة وتعدد الأغراض الشعرية حيث تستهل القصيدة بمقدمة مختلفة الموضوعات حيث تكون المقدمة إيحاء بموضوع القصيدة ورمزا لها حيث يتشاكل الشعراء بين أهداف القصيدة ومضمون النسيب مع توظيف الاستهلال وحسن التخلص ويعدون أغراض ويستطردون في الأوصاف لا سيما في الغزل والرحلة ومحاسن الممدوح مع اختتام القصائد بالدعاء للممدوح بثبات المجد والملك وطول العمر كما وأن الشعراء المحترفون المقلدون حافظوا على الذوق السلوكي الأخلاقي والغزل المحتشم والجنوح للعذرية ومحاكاة الأقدمين في ذكر الأسماء والأماكن والوقوف على الأطلال واستحضار صبا نجد وعبير خزاماه والتمتع برياضه والأعراض عن المجون والغزل بالمذكر .
أما في ميادين الجهاد فقد اعرضوا عن المقدمات الغزلية حيث تفتتح القصيدة بالثناء على القائد الملك فابن قسيم الحموي يمدح عماد الدين زنكي :
بعزمك أيها الملك العظيم تذل لك الصعاب وتستقيم
الم تر أن كلب الروم لما تبين انك الملك الرحيم
فجاء بطبق الغلوات خيلا ً كأن الجحفل الليل البهتم
أما من حيث الأوزان فقد مالوا للأوزان الطويلة ذات النفس الطويل والمضمون الوافر مع ما تحمله من وقار يتلاءم مع مقام الشاعر والسلطان وأطول الشعراء نفسا ً والارجائي .
ويغلب على هؤلاء الشعراء المحترفين المواقف الخطابية التي تستدعي التلوين الصوتي الذي يوظف اللغة بجمل مزدوجة متقاربة الطول والفقر وما يطرأ عليها من جناس وترصيع وإتقان بالصنعة وحروف تمثل الجهد والفخامة كما وتسود أشعارهم النظرة الموضوعية التي تصف الأشياء وصفا خارجيا ً عن الذات إلا في المقدمات الغزلية . وقد وقف هؤلاء الشعراء المحترفون من التجانس موقفا ً معتدلا سواء أكان اشتقاقا ً أو تكرارا ً أو جناسا ومن ذلك ما قاله الارجاني :
فلئن أقمت فلآت حين أقلمة ولئن رجعت فلان حين رجوع
وإذا سمعت به سمعت بماجد يأتيك واصفة بكل بديع
والمرء يمنع ثم يرتع أمنا ما نجعه إلا وراء نجيع
وقد ظهر في قصائد هذا العصر التقابل والاشتقاق كقول ابن الخياط الدمشقي :
يقيني حادثات النوائب وحزمي حزمي في ظهور النحائب
فيقيني تعني ( الأولى من اليقين والثانية من الوقاية ) وحزمي تقي الأولى من الإرادة والعزيمة والثانية من ربط الرحل , ولو رحنا نستقصر التجانس في قصائد شعراء هذا العصر لأصبحنا إلى كتاب مستقل .
وكذلك اعتمد الشعراء في قصائدهم على التقابل والتضاد كقول الارجاني :
النار قبس من وطيس جوانحي والماء يورد من غدير دموعي
قلبي وعيني يغنيان ركابكم عن رحلتي قيظ لكم وربيع
وكقول العماد الأصفهاني مشيدا ً بالأمير مجد العرب العامري :
حويت حسام الدين بكل فضيلة سواك لها طي وأنت لها بنشر
فما ينتهي إلا إلى كفك الندى ولا يعتري إلا إلى بيتك الفخر
ومن اعلم الشعراء المحترفين ( الارجاني ) وابن منير الطرابلسي ) والقيسراني , والمهذب بن الزبير وأبو الفوارس حيص بيص وعرقلة الكلبي وأسامة بن منقذ , وسبط التعاويذي وابن عنين .
وهناك شعراء جاء الشعر لديهم طبقا تبعثه دفقات شعورية صادقة بسبب استحواذ التجربة الشعرية عليه امتدادا لشعراء الجاهلية ومن سلك سلوكهم في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي والعباسي وقد رزق الله تعالى هؤلاء الشعراء المطبوعين الموهبة الشعرية مغمورة بنزعات نفسية ومستفاضة بتجارب فردية حيث يظهر الشكل عندهم متماثلا ً مع الطبع وهذا النوع من الشعر يكثر في دواوين شعراء هذا العصر ومنى أوائل شعر الطبع والظرف ابن جكينا ومن شعره المطبوع في الدم :
سألوني من أعظم الناس قدرا ً قلت مولاهم انو شروان
لست اهوي صفاية غير إني ما رأيت الإعسار منذ راني
وإذا اظهر التواضع فينا فهو من أية الرفيع الشأن
ومتى لاحت النجوم على صفحة ماء فما النجوم دواني وللشر وطي البغدادي قوله :
حي جيران لنا رحلوا فعلوا بالقلب ما فعلوا
رحلوا عنا فكم ابروا بالنوى صباكم قتلوا
من لصب ذاب من كمد طرفه بالدمع منهمل
واقف بالداء يسألها سفها لو ينطق الطلل
ومن سمات الشعراء المطبوع :
أ- الأوزان الخفيفة والمجزوءة كقول بهاء الدين زهير
لله بستاني وما قضيت فيه من المآرب
لهفي على زمني به والعيش مخضر الجوانب
وقوله : يا اعز الناس عندي كيف خنت اليوم عهدي
سوف أشكو لك بعدي فعسى شكواي تجدي
ب – الذاتية : المتمثلة بياء المتكلم وأنا الشاعر ومن ذلك قوله :
يا مالكا رقي برقة خده ومعذبي دون الأنام بصده
ومكذبي وأن الصدوق وهاجري وأنا المشوق وما نعي من رفده
ج- السطحية في المضمون : الناتجة عن ظهور الشعر طبعا دون تكلف حيث يلمس المؤثر الشعوري شفاف فكتب الشاعر فتصدر عنه القصيدة وهذا ما يجعل المضمون سطحيا أحيانا ومن ذلك قول الشاب الظريف واصفا ما بينه وبين محبو بته
له مني المحبة والوداد ولي منه القطيعة والبعاد
فقلبي لا يلائمه اصطبار وجفني لا يفارقه السهار
د- قصر النفس والميل للمقطوعات القصيرة التي لا تتجاوز عشرة أبيات لأن شعرهم يمثل لحظة محدودة تخضع لتجربة مخصوصة فللشاعر تاج الملوك يوري ديوانا فيه سبع وعشرون قصيدة جلها اقل من عشرة أبيات وكذلك معظم قصائد الشاب الظريف مقطعات لا تتجاوز عشرة أبيات وعدد مقطعاته 322 مقطعة .
ومن أعلام الشعر المطبوع تاج الملوك الأيوبي وبهاء الدين زهير والشاب الظريف وغيرهم .
وهناك اتجاه بديعي جنح إلى التجدد في الشعر من خلال استخدام البديع الذي شكل تيار مال إليه أصحاب الشعر الذاتي الذي يتطارحونه في منتدياتهم كالصاحب بن عماد في قصيدته :
قد ظل يجرح صدري من ليس يعدوه ذكري
وهذا الاتجاه البديعي اتخذ من الاشتقاق والتوليد وسيلة تمد النص بالحلل الموسيقية والإيقاع الصوتي المتناسق والديباجة اللفظية وقد كان الحريري أول من فتق هذا اللون ومن ذلك قوله
بني استقم فالعود يتمي عروقه قديما ويغشاه إذا ما التوى التوى
ولا تطع الحرص المذل وكن فتى إذا التهبت أحشاؤه بالطوى طوى
وعاص الهوى المروي فكم من محلق إلى النجم لما أن أطاع الهوى هوى
وأسعف ذوي القربى فيقبح أن يرى على من إلى الحر اللباب انطوى ضوى
ومن الاشتياق الذي يكر داخل البيت حلة موسيقية جميلة قول الحريري :
فلست انس تلاقينا بضيق مني وقوله لي بذاك الخيف لاتخب
وحلفه ب الصفا أن الضمير صفا وانه لي حين الوفاة وفي
وأن هذا الاشتياق والتماثل بالأسماء والصفات يزيد المعنى رونقا وأن كان يخلو من الشعر النابض وقد استمد أصحاب البديع التلوين الموسيقي جديدهم من متامات بديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري وأسلوبه الشعري ومن كون اللغة الفصحى حاضنة للتعليم حيث اقبل طلبة العلم على النهل منها فأصبحوا بها علماء مما جعلها تلين وتسخر في الشعر إضافة إلى اقتفاء الشعراء أثار من سبقوهم في العصر العباسي مما جعل الإعجاب والتقليد يغلب على الإبداع وهذا ومن جانب آخر فان التنظير السليم للشعر بمفهومه النقدي قد تراجع عن جادة الصواب بسبب تملق المتأدبين والشعراء الصاعدين لكبار شعراء السلطة يطرونهم لينالوا رضاهم .
وبذلك فقد تكلف بعض الشعراء ما جعل قصائدهم باهتة كقول ابن سناء الملك يرثي العفيف التلمساني
لقد عفت عيش بعد العفيف على العيش بعد العفيف العفاء
فما غاب ما غاب إلا الجميل وما ملت ما مات إلا الوفاء
وإلا الصديق وإلا الصدوق وإلا الصفي وإلا الصفاء
نعم هذه الأبيات تمثل قدرة لغوية بارعة ولكنها تفتقر إلى الانسيابية الشعرية حيث أصبح هذا البديع عبئا على الشعر لا عاملا مساعدا في تطويره .
صحيح أن التجانس الصوتي على النص جمالية خاصة ولكنه إذا تحول إلى هدف فقد براعته وجماليته وحسن الأخذ فيه يقول الشاعر ابن سناء الملك .
كحلاء ما كحلت جفوني بالكرى فلا تبصرها جفوني مردودا
كحل على كحل وما احتاجت له إلا لتسقيني السلاف مولدا
ملامح التجديد في الشعر إبان الحروب الصليبية
سلك شعراء عصر الحروب الصليبية مسلك الشعراء ممن سبقوهم حينا وحاولوا الجديد في معاني الشعر وأساليبه ومضامينه أحيانا أخرى وقد بدت ملامح التجديد عندهم في ناحيتي المعنى ( المضمون ) والمبنى )( الشكل )
ا – فمن ناحية المعنى المضمون اقتضت تراكمات الحياة بروز مضامين جديدة للشعر تمثلت في
1 – استخدام الرمز المجسد باستلهام الماضي بمسميات الأماكن والشخوص والأحداث كما حصل عند الصوفيين في رمزهم للحب الإلهي واستخدام الماء رمزا للممدوح
2- استلهام أحداث الحروب الصليبية في مضامين جديدة كتخريب المساجد والديار وهتك الأعراض ووصف آلات الحرب
3 – تصوير المتنزهات والقصور في دمشق ووصف الأتراك وتأثيرهم وجدانيا ووصف الكنائس والأديرة وما تحويه من نساء وإفرنجيات جذابة
4 – استخدام الألغاز والأحاجي في مضامين جديدة تمثل حالة اللهو والعبث
ب- ومن ناحية المبنى الشكل فقد اهتم الشعراء بالبناء اللغوي كمحور للتجديد الغني وقد وظف الشعراء اللغة توظيفا فنيا تمثل في
1- الحروف التي وظفت فنيا كاستخدام الحروف المعجمية في قصيدة واحدة أو الحروف المهملة في السياق نفسه أو بجعل كل بيت أوله يستخدمه الشاعر في القافية حتى نهاية القصيدة .
2- الكلمات التي وظفها الشعراء توظيفا دلاليا وبلاغيا وجماليا وموسيقى باستخدام الاشتقاق والتكرار والجناس وإيراد الكلمة التي ترد فيها ض ظ أو مجيء المصور وبعده اسم الفاعل في القافية .
أبى الدمع أن يشفي به هم هائم ولا ربي إلا الرشف من ظلم ظالم
يضم اصطباري من يعز ببعده منافي فوا لهني على ضيم ضائم
وكذلك البحث عن الكلمات المهجورة بقصد إظهارها وأحيائها وكذلك التكرار والجناس والطباق .
3 – التراكيب في عدد الكلمات أو جمل مختومة بحروف متماثلة الترصيع و التصديع والإكثار من الجمع والتقسيم كقول القاضي الفاضل :
همي بهم زائد زادته أربعة ينمي ويهمي ويستشري ويزداد
وكيف يبلي على العينين أربعة عدا ودمع وإطراق وسهاد
هيهات يصدق منك الظن أربعة عهد وور وأقوال وميعاد
ج – ومن ناحية الموسيقى : اتضاح دلالة الموسيقى الداخلية ومعالمها بتوظيف الحروف الداخلية المدات – الحركات – التنوين – تكرار الحروف – الكلمات المتجانسة وكذلك استخدام شعراء هذا العصر الأوزان المهملة في الدوائر العروضية واستخدام القافية فتكرارها ولزوم مالا يلزم والرباعيات والمخمسات والسداسيات والمسمطات والد وبيت وشواهد ذلك كثيرة .
د- ومن ناحية رد الفخر على الصدر فقد أكثر منه الشعراء وأبدعوا فيه كما صنع ابن سيناء الملك
ولتظهرن على عدوك أن حزب الله ظاهر
سر في ضمان الله والفتح المبين إليك سائر
وزر الخليل فقد تشوق أن تكون إليه زائر
وتستروا في زعمهم بأريجهم هل عندك سائر
ه- استخدام الرموز كمظهر تجديدي كما صنع الارجاني باستخدام الماء للعطاء الكريم = الماء .
يا ماء ها أنا عن فنائك راحل فلقد أطلت ولم ينلك رشائي
وكاستخدام الصوفيين للحب العذري رمزا للحب الإلهي .
الباب الرابع – السمات الفنية لشعر الحروب الصليبية
نتيجة للتراكم المعرفي والشعري والبحث عن الجديد والتطور تألق الشعر فنيا في جانب من جوانبه أسهم في ذلك وتنامي ألوان البديع والتعامل مع اللغة من خلال الوعي في توظيف مفرداتها وتراكيبها والاهتمام الحضاري بالزينة والتنميق ومن ضمنه الشعر إضافة إلى الاقتضاء بسبل التعليم اللغوي التي حسنها الأدباء من خلال الإرث المعرفي الذي تركه أدبنا من خلال القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ودواوين الشعراء الأفذاذ الذين سبقوا هذا العصر .
وبروز معالم الجمال الشعري من خلال تنمية الجماليات الحياتية في القصور وأدوات الزينة وزخرفة المساجد وغيرها مما جعل الأسلوب الشعري يمدنا بغيض من التراكم العرفي بحيث تلمح البناء الفني للقصائد وعمود الشعر معا وستقرئ السمات الخارجية لهذا الشعر من خلال التجانس والتقابل والتناص والاقتباس والتضعين والرمز ومدى تأثر الشعراء بالجديد في عصرهم كثائر العماد الاصبهاني بمدرسة الحريري البديعة حيث ترى كل فئة من الشعراء تتأثر بالموقع الجغرافي الذي يعيش فيه فشعراء المدن المتحضرون قد تلون شعرهم بالذوق الحضاري الذي عاشوه سواء أكان جدا أم عبثا .
ومن خلال ذلك عاشت اللغة بين المثالية والواقعية ورسمت أسلوب تعبيرها من خلال قضايا العصر الجديدة ونفسية الشعراء والموضوعات التي تحدثوا عنها فإذا كانت غزلا رقت لغتهم ولانت وإذا كانت حماسة وجهاد قويت وجزلت وإذا كانت مدحا وهجاء تناسبت مع كل غرض كما هذا العصر بانتشار الألفاظ المبتذلة وشيوع المصطلحات الدينية والعلمية وكلمات البذاءة والجنس والمزاح والمعايثه ومما شاع في هذا العصر قول البهاء زهير أصبحت لا شغل ولا عطلة ) مذبذبا في وصفة فآسره
وجملة الأمر وتفصيله أن صرت لا دنيا ولا آخرة
وقول الآخر أرى عنوان أشياء ( ما يبعد أن تجري )
ومنها أيها الزائرون أهلا وسهلا ومرحبا
ومنها راح يدعونا التصابي فسمعنا واطعنا
ومنها قال ما ترجع عني ؟ قلت لا قال : ما تطلب مني ؟ قلت شيء
وكثرت الألفاظ الشعبية السهلة والألفاظ العامية ( ياما ) ست ومجان وكذلك الألفاظ الإسلامية بسبب تلاقيهم مع الأعداء الفرنجة الدين – الكوثر النفاث – النار – المحشر – استعرت – المشعر – الكفار ) .
الباب الرابع – بناء القصيدة
لم تشذ القصيدة الشعرية في هذا العصر عن قصائد الشعراء العرب من حيث المعطى العام ولكنها حاولت أن ترسم لنفسها خارطة طريق جديدة فقد كانت القصيدة في الوقت المتزامن للحروب الصليبية حيث كان الشعراء يطيلون بمقدماتهم الشعرية والتي تصل إلى أربعين بيتا من قصيدة للشاعر الابيودي مدح فيها المقتدين بالله والتي مطلعها
بعيشكما يا صاحبي دعاينا عشية شام الحي برقا يمانيا
يتحدث فيها عن معشوقته ويشكوا زمانه وكذلك قصيدة الشاعر الارجاني في مدح وزير من ولد نظام الملك والتي تبلغ خمسا وستين بيتا والتي تصل مقدمتها تسعة وعشرين بيتا ومطلعها :
سرى ولثام الصبح كاد يخط خيال تسدي القاع والحي قد شطوا
ومع ذلك فقد بقي الشعراء لا يطيلون في مقدماتهم أكثر من خمسة أبيات وباستثناء شاعر الشام ابن الخياط الذي يطيل مقدماته الغزلية بقيت هذه المقدمات قصيرة وقد بقي الشعراء في قصائدهم يتأثرون بأعمال ممدوحيهم من جهاد في سبيل الله وأعمال الخير وتقي وصلاح ومثل ذلك ابن الدهان وأبو الفوارس أما ابن عرقلة الكلبي فقد كانت قصائده لا تتجاوز خمسة وعشرين بيتا أما قصائد الجهاد فقد كانت تباشر الموضوع وتنأى عن المقدمات كقول القيسراني
الحق منبتهم والسيف مبتسم ومال اعد مجير الدين مقتسم
قدت الجياد وحضنت للبلاد وأمنت العباد فأنت الحل والحرم ولكنها أي قصائد في السلم تستهل بالغزل الذي لا يتجاوز خمسة أبيات .
هذا من جهة القصيدة أما من حيث مضمونها فقد تلونت بتلون توجهات الشاعر وتأثره بمورداته الاجتماعية بسبب وجود التنافس بين الأجناس العربية والفارسية والتركية فمن الشعراء من استلهم القديم بأسمائه العربية ليلى – سعدى – هند – تبعا لأصوله العربية كالابيوردي الأموي الأصل ومنهم من استلهم الأسماء العربية لكونها مهبط الوحي عند شعراء الصوفية البوهيري وابن الفارض وبعضهم استلهم الماضي والمكان تبعا للعرب والأمة الإسلامية ومنهم يستلهم واقع حياته كعرقلة الكلبي في وصف دمشق .
وربما يختم الشاعر قصيدته بالغزل كما في قصيدة الشاعر الحموي في مدحه للرئيس ابن حسان
الباب الرابع – معالم الرمز في شعر الحروب الصليبية
استمر شعراء عصر الحروب الصليبية قضية الرمز في قصائدهم ذلك أن الرمز من طريقة في التعبير عن الأفكار والعواطف يستخدمها الشاعر اختصارا لقصة أو قضية أو فكرة وهو يهدف إلى معنى باطن نستشفيه من خلال المعنى الظاهر ويكون بالمحاكاة أو الإشارة أو الإيحاء أو التورية أو التلميح الملاحين والإيعاز والأحاجي وقد تعددت أنواع الرمز
ا- الرمز القرآني المتمثل باقتباس لفظه تستدعي أية قرآنية أو سورة أو قصة قرآنية كقول ابن سناء الملك .
ثفايا لا تفليل منها ولا شفى وقامته لا أمت فيها ولا عوم
إشارة إلى قوله تعالى لا ترى فيها عوجا ولا أمتا )
2- الرمز بالتراث : الديني والثقافي والاجتماعي والفلك والنجوم ومن ذلك قول فنتأن الشاغوري مشيرا إلى النفحات الإيمانية عند نبينا داود عليه السلام
تطير إذا الحادي حداها كأنما بترتيل داود النبي حداها
3- الرمز بالتورية : كالرمز بإنسان العين بالمحبوبة
يا نظرة ما جلت في حسن طلعته حتى انقضت وأدامتني على وجلي
عاتبت إنسان عيني في تسرعه فقال لي خلق الإنسان من عجل
ومنه قول الشاعر :
قسما بشمس جبينه وضحاها ونهار مبسمه إذا جلاها
أشار إلى قول تعالى والشمس وضحاها
4- الرمز بالإيحاء : ويكون بذكر كلمة في القصيدة توحي إلى معنى لاسم شخص أو لبرق أو مكان كالحجاز والعقيق والحمى والهوادج التي ترمز للترف والثراء عند المرأة ومن ذلك اسم لبيد واربد إشارة إلى قصة الشاعر لبيد ابن الأعصم مع أخيه اربد حيث بكى الأول الثاني بكاء حارا .
بكيت على عصر الشباب الذي مضى بكاء لبيد ضم اربد القبر
5- الرمز بالمشابهة : ويقوم على المحاكاة كاستدعاء صورة لمحها الشاعر صورة أخرى تماثلها وتشايعها كتشبيه الشاعر الجيلاني لموكب نجم الدين الأيوبي لما وند على ابنه صلاح الدين بمصر بقصة يوسف عليه السلام مع إخوته وأبيه .
في مشرق المجد نجم الدين مطلعه وكل أبنائه شهب فلا أفلوا
جاؤوا ليعقوب والأسباط إذ وردوا على العزيز من أرض الشام واشتملوا
لكن يوسف هذا جاء إخوته ولم يكن بينهم نزع ولا زلل
وملكوا أرض مصر في شماخته ومثلها لرجال مثلهم نزلوا
6- الرمز الأسطوري : ويشير إلى علاقة عجيبة بحادثة خارقة أو كالخرافات القديمة كقول عرقلة الكلبي في الشعري والجوزاء وبرج الحمل
شعرا تعالى على الشعري وجاز على الجوزاء وأصبح محمولا على الحمل
7- الرمز التاريخي : كتمثيل حادثة معاصرة للشاعر بحادثة تاريخية كتمثيل فتوحات صلاح الدين بفتوحات عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه .
يقول عرقلة الكلبي :
مثل فتوح الفاروق نائله شرقا وغربا في السهل والجبل
8- الرمز الصوفي : كاستخدام الشعر العذري رمزا للحب الإلهي عند الصوفية كقول ابن عربي
ادر ذكر من أهوى ولو بملام فان أحاديث الحبيب مرامي
الحبيب هنا هو ( الله ) تعالى بزعمهم
الباب الرابع – الصورة الشعرية عند شعراء الحروب الصليبية تعد الصورة الشعرية من أعظم الأدوات التي يستخدمها الشاعر في توصيل أفكاره ومعانيه للمتلقي فإذا أحسن الشاعر استخدامه بلغ مراده في إقناع المتلقي وبجمالية نصه والشعراء على مر العصور يستخدمون الصورة الشعرية كل بحسب عصره وثقافته وذكائه وشعراء الحروب الصليبية كغيرهم من الشعراء استخدموا هذه الصورة الشعرية من خلال التشبيه والاستعارة والكناية وبذلوا معظم جهودهم في اتقاتها وإبرازها في أبها حلة وأحسن صورة ومن الصور الرائعة ما ورد في قصيدة الشاعر أبي الفوارس حيص بيص .
لواني زماني بالمرام وربما تقاضيته بالمرهفات القوا ضب
وأحسن أبو الفوارس استخدام التوظيف الزمني في الصورة كقوله ( خذوا من ذمامي ) فيه استحضار للمستقبل واستعدادا له وقوله لواني زماني فيه دلالة زمنية على ثبات الصراع مع الأحداث وقوله تقاضيته بالمرهفات إشارة إلى مرارة الصراع والإنهاك الذي توحي لفظه تقاضيته لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى واستخدام الشعراء قصائدهم التصوير الحركي والتشخيص والتجسيم ومن ذلك
على حينما ذوت الصبا عن صبابة ديار المطايا عن عذاب المشارب
فقد صور الصبابة بالإبل وصور الصبابة بالحياض وهكذا تحولت الدواعي النفسية والحب إلى أجسام وأشخاص تتحرك كذلك في قول ابن الخياط :
يقيني يقيني حادثات النوائب وحزمي حزمي في ظهور النجائب
حيث جعل اليقين يتصدى به مصائب الحياة وشيه حزمه الصادق بحزام الراحلة فاليقين والحزم معاني تحولت إلى ماديات وأجسام وكثيرا ما كان الشعراء يشبهون المدن بالفتاة البكر التي لم يحجبها وليها كما فعل القيسراني في تصوير دمشق :
خطبت فلم يحجبك عنها وليها وخطبت العلى بالسيف مادونه ستر
ومن ذلك تصوير تقي الدين عمر بن شاه نشأة للقدس بعد فتحها بالقادة الحسناء
جاءتك أرض القدس تخطب ناكحا يا كفاها ما العذر من عاذراتها
زقت إليك عروس خدر تتجلى مابين اعبدها وبين أمائها
إيه صلاح الدين خذها غادة بكرا ملوك الأرض من وقبائها
كم خاطب لجمالها قد رده عن نيلها أن ليس من اكفائها
وغالبا ما يستخدمون المرأة طرفا في صورهم الشعرية ولو كانت الصور حربية ومصادر هذه الصور أما القرآن الكريم كقول احدهم:
شربت شرب الهيم من فم ذاك الريم
فقوله شرب الهيم مأخوذة من قوله تعالى فشاربون شرب الهيم .
والحديث النبوي الشريف كقول احدهم:
قد غم بدر التمس منه فهو في الغموم
ذاك الكريم ابن الكريم ابن الكريم الخيم
فقوله قد عم إشارة إلى الحديث الشريف إذا غم عليكم وابن الكريم إشارة إلى يوسف بن يعقوب ويصور ابن النبيه المصري الخليفة محاطا بالملائكة
يعلوه من زمر الملائك فيلق بالرعب ينصر عزمه ويؤيد
كذلك يستوحي الشعراء صورهم من التراث الشعري الجاهلي والإسلامي والطبيعة الفاتنة من حدائق ورياض غناء
لله أيامي بقليوب والعيش مخضر الجلابيب
والطير في الأغصان فاتنة مابين تلحين وتطريب
والشمس في المغرب مصفرة كعاشق من بعد محبوب
وقد تكون الصورة مستمدة من تصاد ير الفر نجيات أو العنصر التركي وهذا باب واسع نكتفي منه بذلك .
الباب الرابع – الموسيقى الشعرية لأدباء الحروب الصليبية
تتضمن الموسيقى الشعرية جانبين مهمين هما الأوزان والقوافي وتعني الموسيقى الخارجية والنغمية المتواترة داخل كل بيت وتعني الموسيقى الداخلية .
وقد تأثرت موسيقا الشعر في هذا العصر بنوعيها بالقيم الحضارية الجمالية التي عاشها أبناء هذا العصر وقد رحلت الموشحات الأندلسية إلى المشرق وروضها ابن سناء الملك وكذلك كتب شعراء هذا العصر شعرهم على شكل رباعيات ومسمطات ومخمسات وتجاوزوا ذلك إلى لون جديد قائم على الإيقان بوزنين مختلفين وقافيتين مختلفتين كقول ابن الهبارية .
بالعين يصطاد الضب + العين في تلك الدروب + والاصطياد لباطل
وأنا خفيف الكيس في + اسر الحوادث والخطوب + حليفهم شاغل
وتعد المسمطات اقرب نسبيا للموشحات ومما قاله ألشروطي
يا ريم كم تجنى ؟ لم قد صددت عنا صل عاشقا معنى بالوصل ما تهنا
السلسبيل ريق والشهد والرحيق والورود والشقيق من وجنتيه يجنى
وقد يعمد الشعراء إلى جعل كل القصيدة المصراع حروف والقافية حرف آخر
للحرب صار حسامه إلى مهج يلقي الشرار غراره غداة طحا
وقد يتناثر التصريع في قسم كبير من الأبيات بعد أن كان يضم البيت الأول للقصيدة وربما عمد الشعراء إلى التلوين الموسيقي كما قول الطفرائي :
يا أيها المولى الذي اصطنع الورى شرقا وغربا
والمستعان على الزمان إذا اعترى واجد حربا
لقد ابتنيت الملك مرفوع الذرى بك مستتبا
وقد أكثر الشعراء من الأوزان القصيرة والمجزوءة والمشطورة والمنهوكة في المدح ومن ذلك ما يقوله فتيان الشاغوري في مدح الأمير بدر الدين مودود
مولاي بدر الدين لا عاندك الزمان
ودمت ما أقام في مقامه ثهلان
يكلؤك القرآن مما يحدث القرآن
أما الموسيقى الداخلية فقد أكثر منها الشعراء توفيرا للإيقاع المنبعث من داخل البيت الشعري نبرا وجرسا وموسيقى وترصيعا وتجانسا وهذا الأخير التجانس له دور كبير في تكوين الموسيقى الداخلية وكذلك أسهم في تنويع هذه الموسيقى الداخلية التقابل والتضاد ومن ذلك تكوين البيت الواحد من كلمات متماثلة في الوزن كقول العماد الاصبهاني :
انتم ملوك زماننا وسراته وكرامه وعظامه وفصاحة
عظماؤه كبراؤه فضلاؤه ورزانة ورصانة وصباحه
وكقول فتيان الشاغوري :
والنبت بين معمم ومنمنم والروض بين مغوف ومدبج
والماء بين مكفر ومعتبر ومصندل ومسلسل ومسجسج
والطير بين مغرد ومعربد والورد بين مزور ومفرج
وقد تكون الموسيقى الداخلية بتكرار الحروف في الكلمة أو تكرار الكلمة في الجملة
فأعجب له رشأاغن مهفهفا يسطو على أسد أزل مهجهج
ودمشق في دمشق رجال سلم لحور نسائهم منهم نساء
وقد يكون بتكرار حرف المد المتناسب مع نغمة الانين والحزن وقد يستخدم الشعراء التجانس
يضني فؤادي ويضني جفني مقلته بكسرها فهو يضنيها ويضنيني
وقد يستخدمون التقابل كقول ابن سناء الملك :
هو الملك المحيي المميت ببأسه ونائله أيان يرجي ويرهب
فقد قابل بين يحيي ويميت لما لهما من وقع في نفس الإنسان وكذلك الازدواج حيث تتعادل الجمل فتماثل النغمات كقول الابيوردي :
فالعدل منتشر والعزم مجتمع والعمر مقتبل والرأي مكتهل
وقد يكون تقارب مخارج الحروف أو تباعدها أو توسطها مكونا من مكونات الموسيقى الداخلية مع العلم أن بعض التقارب قد يكون ثقيلا يقول فتيان الشاغوري :
أن شدت أنشدت نسيب نصيب أو تغنيت غنيت عن إسحاق
الباب الرابع – المعارضات الشعرية أيان الحروب الصليبية
أعجب الشعراء في عصور ما بعد الجاهلية وصدر الإسلام والعصر العباسي بمن قبلهم من الشعراء لما وجدوه عندهم من بناء ساحق للقصائد من حيث الأفكار والموضوعات واللغة والأسلوب من خلال ما جاءت به قرائحهم النقية وطبعهم السليم حتى غدت قصائدهم نموذجا فاخرا من حيث الشكل والمضمون
وقد جاءت أحداث هذا العصر مشابهة في بعضها للعصور السابقة مما حدا بالشعراء إلى بناء قصائدهم على الوزن والبحر والقافية نفسها كما صنع الشاعر القيسراني بمعارضته لقصيدة أبي تمام في فتح عمر ربه
قال أبو تمام :
السيف اصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
وقال القيسراني :
هذي العزائم ما لا تدعي القضب وذي المكارم لا ما قالت الكتب
وكذلك عارض العماد والاصبهاني قصيدة أبي تمام قائلا :
بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب كم راحة جنيت من روحة التعب
وكذلك عارضها الجاحظ أبو القاسم في مدح نور الدين :
لما سمحت لأهل الشام بالخشب عرضت مصر بما فيها من النشب
ومن العارضات الأخرى ما قاله ابن الدهان في ناصر الدين محمد بن شيركوه معارضا لامية كعب بن زهير رضي الله عنه قال كعب :
بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول متيم أثرها لم يغد مكبول
وقال ابن الدهان :
سيف يجفنك مغمد مسلول ماض على العشاق وهو كليل
وقد تكون المعارضات من شعراء عاصروا بعضهم كما حديث بين ابن منير الطرابلسي والعماد الاصبهاني
قال الطرابلسي :
حي الديار على علياء جيرون مهوى الهوى ومغاني الخرد العين
وقال العماد الاصبهاني :
اهدي النسيم لنار يا الرياحين أم طيب أخلاق جيراني بجير ون
كما وشطر الشعراء قصائد غيرهم كتشطير شرف الدين الأنصاري للامية كعب بن زهير وكلا القصيدتين في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم
أوهمت نصحا لوان النصح مقبول لا أنهيك إني عنك مشغول
بأن التجدد عني والتصبر مذ بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول
ومن ذلك مسمطات لشاعر أسامة بن منقذ التي سمط فيها شعر قيس بن ذرع ومجنون ليلى ومهيار ومن تسميطه لشعر قيس
كعهدك بأنات الحمى فوق كثبها
ودار الهوى تحمي العدى سرح سربها
أقول وسمر الخط حجب لحجبها
سقى طل الدار التي انتم بها حناتم ويل صفي وربيع
بدارك ما بي من بلى الشوق والهوى
وبي ما بهاء من وحشة البين والنوى
الفصل السادس – الشعر التأملي – حروب صليبية
يعد الشعر التأملي من أنواع الشعر التي يقرا صورة الكون والحياة على صفحات النفس الإنسانية حيث تتجلى عظمة الخالق وقد أكثر الشعراء في هذا العصر وخاصة الشعراء الصوفيون من هذه التأملات الذاتية والإنسانية وقد أكثر الشاعر البوصيري من هذه التأملات التي تستمد هذا التأمل من قوله تعالى (وفي أنفسكم أفلا يبصرون )
يا قسوة القلب مالي حيلة فيك ملكت قلبي فأضحى شر مملوك
حجبت عني افا دات الخشوع فلا يشفيك ذكر ولا وعظ يداويك
وما تماديت من كسب الذنوب ولكن الذنوب أراها لصق تماديك
وأنت يا نفس مأوى كل معضلة وكل داء قبلي من عواديك
أنت الطليعة للشيطان في جسدي فليس يدخل إلا من نواحيك
ولما بلغ الشاعر الصر صري الستين اخذ يئن تحت وطأة الأمراض ويستذكر من قضى نحبه من محبيه وأهله حيث يقول
ذهب الشباب وخانني جلدي وتفشت الأسقام في جسدي
ورمتني السنون من عمري فأصاب رشق سهامها كبدي
ويتألق القاضي في تأمله قائلا :
نظرت إليه نظرة فتحيرت دقائق فكري في بديع صفاته
فأوحى إليه القلب إني أحبه فاثر ذاك الوهن في وصفاته
وقد يتأمل الشعراء في صفات الله تعالى وفي مخلوقاته وسمائه وأرضه ونجومه فهو الذي رصع السماء بنجومها وانشأ السحاب الثقال وحبل الشمس ضياء والقمر نورا ومحا أية الليل ورحى الأرض .
فيا ملكا زان السماء بأنجم على الفلك الأعلى طفت أحسن الطفو
وسخر ما بين السماء وأرضه سحائب يخفو برقها أحسن الخفو
وأبقى على شمس النهار ضيائها وخص بنقص أية الليل بالمحو
ولما دحا الأرض اقتدارا وحكمة علما الماء ارسي الشم في اثر الدحو
واحييا بفضل ميت الأرض بالحيا وزينها من بعد ذلك بالصحو
ولكن تأمل الشعراء في هذا العصر لم يصل إلى حد التفلسف انه تفكر وتذكر واعتراف لله بقدرته وفضله
الفصل السابع – الشعر العابث
يعد الشعر العابث لونا جديدا في هذا العصر جاء نتيجة الميل للزخرفة القولية ومحاولة اكتشاف طرق جديدة للتعبير عن قضايا عصرية أو لادعاء التجديد في الشعر ومن ذلك قول الحريري الذي يمثل هذا العبث اللغوي
أس أرملا إذا عرا وارع إذا المرء أسا
اسند أخا بنا هسة ابن أخاء دنسا
اسل جناب غاشم مشاغب أن جلسا
اسر إذا هب مرا وارم به إذا رسا
اسكن تقو فعي يسعف وقت نكسا
وإذا كانت الأبيات تفتقر إلى التدفق الشعوري وتخلو من المضمون وتنأى عن الخيال الشعري المبدع فإنها تنبض بالصناعة اللفظية التي تجاوزت دور الشعر في عكس صورة الحياة .
وكذلك قول الارجاني في بيته المشهور :
مودته تدوم لكل هول وهل كل مودته تدوم
وقد تكتب الشاعر أبياتا غير معجمية أو أباتا تأكلها معجمه الحروف مثل :
اعدد لحسادك حد السلاح وأورد الأمل ورد السماح
واسع لإدراك محل سما عماده لا لادراع المراح
والله ما السؤدد حد الطلا ولا مراد الحمد رؤد رداح
ومثل :
فتنتني فجننتني تجني بتجن يفتن غب تجن
شفتني بجفن ظبي غضيض غنج تقيضي تغيض جفني
وقد يلتزم الشاعر الحرف الأول من الأبيات ليماثل آخرها أو قد يستهل كل بيت بحرف من حروف الميم حتى آخر القصيدة ويعبر هذا العبث الشعري عن نزهة أدبية يرتادها الشاعر في فراغه ولهوه ومنتدياته .
وقد أكثر شرف الدين الأنصاري من اللزوميات في مقطوعاته ومن ذلك ما قاله في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم .
أمر علياك في الورى غير خاف فأليك انتهى مدى الأوصاف
بعث الله منك خير بني خاتم الرسل فاتح الأطراف
وهكذا فلم يكن هذا اللون العابث مما انتشر عند كل الشعراء بل كانوا يتداو لونه لهوا .
الفصل الثامن شعر الألغاز والأحاجي
يتبين لنا من خلال معنى كلمة لغز في الشعر غموض شعري بقصيدة إخفاء معنى من معاني تحت عباءة ألفاظ موهمة تؤول عدة تأويلات بحيث يكون للكلام ظاهر عجيب وباطن غير عجيب من خلال التلاعب بالألفاظ من خلال صنعة أدبية ومع توغل الصليبيين في عالمنا الإسلامي وما وقع للمسلمين من هزائم لم يكن لهذا النوع من الشعر وجود ولكنه لما استعاد الأيوبيين بيت المقدس وخفت الحروب وكثر الفراغ والثراء انتشر هذا اللون من الرياضة الشعرية الفكرية من خلال المباريات والمطارحات القولية والارتجالية ومن هذه الألغاز في العقرب .
وما حيوان يتقي الناس شره على انه واهي القوى واهن البطش
إذا ضعفوا نصف اسمه صار صائرا وأن ضعفوا باقية صار من الوحش
ومنه في تلغيز المشمش والسمسم
نباتان من أصله سامق قاس وذا من خائي قاصر
أيهما صحفت معكوسا دل بلا شك على الآخر
ويفتقر شعر الألغاز إلى خاصية التجربة الشعورية وما يؤثر في النفس وهي بذلك تقترب من النظم أكثر من الشعر قريبة إلى الارتجال والسطحية الفنية وتبتعد عن الإبداع والمضمون الإنساني للشعر وقد كتب الملك المعظم لغزا في الإسلام وطلب من الشاعر ابن عنين الإجابة عنه
أي شيئا تراه حقا يقينا حالما اعوج في الزمان استقاما
وقد رد عليه ابن عنين وقرضه قائلا :
أيها السيد الذي جعل الشر ك حطاما وشيد الإسلام
قد أتاك الجواب لا شك فيه فاتخذني للمشكلات إماما
ومن ذلك قول البهاء زهير ( يافا )
بعيشك خبرني عن اسم مدينة يكون رباعيا إذا ما ذكرته
على انه حرفان حين تقوله ومعناه حرف واحد أن قلبته
ومنه قول الشاب الظريف في ( مقراض )
ومجتمعين ما اجتمعا لاثم وأن وصفا بضم واعتناق
لعمر أبيك ما اجتمعا لمعنى سوى القطيعة والفراق
وقد أدرك الأوائل عبثية هذه الألفاظ فلم يدونوها وإنما جاءت في هذا العصر كتسلية مداعبة ومطارحة .
وصف حديقة لابن حبيب الحلبي المتوفى سنة / 977 ه / انحدار
لما صدئت مرآة الجنان لجان قصدت لجلائها بعض الجنان فدخلت إليها وما كدت أن أقدم فإذا هي جنة عالية قطوفها دانية وطلحها منضود وظلها ممدود وأعلام أشجارها مرفوعة وفاكهتها لا مقطوعة ولا ممنوعة تجوس المياه خلال ديارها وتشرق بآفاقها أنوارا نوارها نزهة النواظر وشرك الخواطر بها أشجار لا تحصى وثمار لا تعد ولا تستقصى .
وصف عاصفة لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة / 911 ه / انحدار
إني عارض في ليلة الجمعة التاسعة من جمادى الآخرة وكانت فيه ظلمات متكاثفة ويروق خاطفة ورياح فقويت أهويتها واشتد هبوبها فتدافعت لها أعنة مطلقات وارتفعت لها صواعق مصعقات فرجفت لها الجدران واصطفت وتلاقت على بعدها واعتنقت وثار بين السماء والأرض عجاج فقيل لعل هذه على هذه أطبقت وتحسب أن جهنم قد سال منها وعدا منها وزاد عصف الرياح إلى أن انطفأت مصابيح النجوم ومزق أديم السماء ومحى ما فوقه من الرقوم لا عاصم من الخطف للأبصار ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار وفر الناس نساء ورجالا ونفروا من دورهم خفافا وثقالا لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاعتصموا بالمساجد الجامعة وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة ووجوه عانية ونفوس عن الأهل والمال سالية ينظرون من طرف خفي ويتوقعون أي خطب جلي قد انقطعت من الحياة علقهم وعميت عن النجاة طرقهم ووقعت الفكرة فيما عليه قادمون وقاموا إلى صلاتهم وودوا أن لو كانوا من الذين عليها دائمون إلى أن إذن الله في الركود وأسعف الهاجدين بالجهود .
وصف ابن الأثير المتوفى سنة 759 أبا تمام والبحتري والمتنبي / انحدار
قال : لقد وقفت من الشعر في كل ديوان ومجموع وانفدت شطرا من العمر في المحفوظ والمسموع فألفيته بحرا لا يوقف على ساحله وكيف يحصي قول لم تحص أسماء قائليه ؟ فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده وتتشعب مقاصده ولم أكن ممن اخذ بالتقليد والتسليم في أتباع في قصر نظره على الشعر القديم إذ المراد من الشعر إنما هو إيداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل اللطيف فمتى وجدت ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل وقد اكتفيت من هذا بشعر أبي تمام والبحتري والمتنبي وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزاه ومناته الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين وفصاحة القدماء وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء أما أبو تمام : فانه رب معان وصقيل أذهان وقد شهد له بكل معنى مبتكر لم يمشي فيه اثر فهو غير مدافع عن مقام الإعراب الذي برز فيه على الإضراب .
وصف البحتري والمتنبي
ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير ولم اقل ما أقوله إلا بعد التنقير فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضة وراض فكره برائضه إطاعته أعنة الكلام وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام فخذ مني في ذلك قول حكيم وتعلم ففوق كل ذي علم عليم .
وأما البحتري : فانه في سبك اللفظ على المعنى ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق فبينا يكون في شظف نجد إذ يتشبث بريف العراق وسئل المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال : أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري ولعمري انه أنصف في حكمه وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه فان البحتري أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلافه الماء فأدرك بذلك بعد المرام مع قربة إلى الإفهام وما أقول إلا انه أتى في معانيه بالنوادر الغالية ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية وأما المتنبي فانه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه ولكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال وأنا أقول قولا لست فيه متأثما ولا منه متلثما وذاك انه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من أنصالها وأشجع من أبطالها وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها حتى يظن أن الفريقين قد تقابلا والسلاحين قد تواصلا فطريقه في ذلك تضل بسالكه وتقوم بعذر تاركه ولا شك انه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة فيصف لسانه ما أداه إليه عيانة ومع هذا فإني رأيت الناس عادلين عن سنن التوسط فأما مفرط في وصفه وأما مفرط على انه إذا كان انفراد بطريق صار أبا عذره ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة :
لا تطلبن كريما بعد رؤيته أن الكرام باسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره قد افسد القول حتى احمد الصمم

مناظرة السيف والقلم
لزين الدين عمر بن الوردي المتوفى سنة / 749 / انحدار
لما كان السيف والقلم عدتي والقول وعمدتي الدول فان عدمتها دولة فلا حول وركني إسناد الملك المعربين عن المخفوض والمرفوع ومقدمتي نتيجة الجدل الصادر عنهما المحمول والموضوع فكرت أيهما أعظم فخرا وأعلى قدرا فجلست لهما مجلس الحكم والفتوى ومثلتهما في الفكر حاضرين للدعوى وسويت بين الخصمين في الإكرام واستنطقت لسان حالهما للكلام فقال .
القلم : بسم الله مجريها ومرساها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها أما بعد حمد الله بارئ القلم ومشرفه بالقسم وجاعله أول ما خلق جمل الورق بغصنه كما جمل الغصن الورق والصلاة على القائل جفت الأقلام فان للقلم قصب السباق والكاتب بسبعة أقلام من طبقات الكتاب في السبع الطباق جرى بالقضاء القدر وناب عن اللسان فيم نهى وأمر طالما اربي على البيض والسمر في إضرابها وطعانها وقاتل في العبد والصوارم في القرب ملء أجفانها وماذا يشبه القلم في ناسه ؟ ومشيه لهم على أم رأسه ؟ قال السيف : بسم الله الخافض الرافع وأنزلنا الحديد فيه باس ومنافع أما بعد حمد الله الذي انزل أية السيف فعظم بها حرمة الجرح وامن خيفة الخيف والصلاة على الذي نفذ بالسيف سطور الطروس وخدمته الأقلام ماشية على الرؤوس وعلى اله وصحبه الذين أرهفت سيوفهم وبنيت بها على كسر الأعداء حروفهم فان السيف عظيم الدولة شديد الصولة محا اسطار البلاغة واساغ ممنوع الاساغة من اعتمد على غيره في قهر الأعداء تعب وكيف لا وفي حده الحد بين الجد واللعب ؟ فان كان القلم شاهدا فالسيف قاض وأن اقتربت مجادلته بأمر مستقبل قطعه السيف بفعل ماض به ظهر الدين وهو العدة لقمع المعتدين حملته دون القلم يد نبينا فشرف بذلك في الأمم شرفا بينا الجنة تحت ظلاله ولا سيما حين يسل فترى ودق الدم يخرج من خلاله زينت بزينة الكواكب سماء غمده وصدق القائل ( السيف اصدق أنباء من ضده ) لا يعبث به الحامل ولا يتناوله كالقلم بأطراف الأنامل ما هو كالقلم المشبه يقوم عروا عن لبوسهم ثم نكسوا كما قيل على رؤوسهم فكان السيف خلق من ماء دافق أو كوكب راشق مقدرا في السرد فهو الجوهر الفرد لا يشتري كالقلم بثمن بخس ولا يبلى كما يبلى القلم بسواد وطمس كم لقائمه المنتظر من اثر في عين في اثر فهو في جراب القوم الحرب ولهذا جاء مطبوع الشكل داخل الضرب .
قال القلم : أو من ينشا في الحيلة وهو في الخصام غير مبين يفاخر وهو القائم عن الشمال وأنا الجالس على اليمين ؟ أنا المخصوص بالرأي وأنت المخصوص بالصدى أنا آلة الحياة وأنت آلة الردى ما لنت إلا بعد دخول العمر وما حددت إلا عن ذنب كبير أنت تنفع في العمر ساعة وأنا افنى العمر في الطاعة أنت للرهب وأنا للرغب وإذا كان بصرك حديدا فبصري ماء ذهب أين تقليدك من اجتهادي وأين نجاسة دمك من تطهير مدادي ؟
قال السيف : أمثلك يعير مثلي بالدماء ؟ فطالما أمرت بعض فراخي – وهي السكين – فأصبحت من النفاثات في عقدك يا مسكين فأخلت من الحياة جثمانك وشقت انفك وقطعت لسانك ويلك أن كنت للديوان فحاسب مهموم أو للإنشاء فخادم لمخدوم أو للتبليغ فساحر مذموم أو للفقيه فناقص في المعلوم أو للشاعر فسائل محروم أو للشاهد فخائف مسموم أو للمعلم فللحي القيوم أما أنا فلى الوجه الأزهر والحلية والجوهر والهيبة إذ أشهر والصعود على المنبر ثم إني مملوك كمالك فالك كناسك اسلك الطريق واقطع العلائق .
قال القلم : أما أنا فابن ماء السماء وأليف الغدير وحليف الهواء أما أنت فابن النار والدخان وناثر الأعمار وخوان الأخوان تفضل مالا يفصل وتقطع ما أمر الله أن يوصل لا جرم أن صعر السيف خده وصقل قفاه وسقى ماء حميما فقطع معاه يا غراب البين ويا عدة الحين ويا معتل العين ويا ذا الوجهين كم أفنيت وأعدمت ؟ وار ملت وايتمت ؟
قال السيف : يا ابن الطين الست ضامرا وأنت بطين كم جريت بعكس وتصرفت في مكس وزورت وحرفت ونكرت وعرفت وسطرت هجوا وشتما وخلدت عارا وذما ابشر بفرط روعتك وشدة خيفتك إذا قست بياض صحيفتي بسواد صحيفتك فالن خطابك فأنت قصير المدة وأحسن جوابك فعندي حدة وافلل من غلظتك وجبهك واشتغل عن دم في وجهي بقيح في وجهك وإلا فادني ضربة مني تروم أرومتك فتستأصلك وتجثت جرثومتك فسقيا لمن غاب لك عن غابك ورعيا لمن لو أهاب بك لسلخ أهابك .
فلما رأى القلم السيف قد احتد الآن له من خطابه ما اشتد وقال : أما الأدب فيؤخذ عني وأما اللطف فيكتسب مني فان لنت لنت وأن أحسنت أحسنت تحن أهل السمع والطاعة ولهذا نجمع في الدواة الواحدة منا جماعة وأما انتم فأهل الحدة والخلاف ولهذا لا يجمعون بين سيفين في غلاف قال السيف : امكرا ودعوى عفة لأمرها ما جدع قصير انفه لو كنت كما زعمت ذا أدب لما قابلت رأس الكتاب بعقدة الذنب أنا الصيت والصوت وغراري لسان مشرفي يرتجل غرائب الموت أنا من مارج من نار والقلم من صلصال كالفخار وإذا زعم القلم انه مثلي أمرت من يدق رأسه بنعلي قال القلم : صه فصاحب السيف بلا سعادة كأعزل قال السيف : مه فقلم البليغ بغير حظ مغزل قال القلم : أنا ازكي واطهر قال السيف : أنا أبهى وابهر فتلا ذو القلم أنا أعطيناك الكوثر وتلا صاحب السيف لسيفه : فصل لربك وأنحر فتلا ذو القلم لقلمه : أن شانئك هو الأبتر قال : أما وكتابي المسطور وبيتي المعمور والتوراة والإنجيل والقران ذي التبجيل أن لم تكف عليك بقلمي سجلا بهذا الحكم قال السيف : أما ومتني المتين وفتحي المبين ولساني الرطبين ووجهي الصلبين أن لم تغب عن بياضي بسوادك لامسن وجهك بمدادك ولقد كسبت من الأسد في الغابة توقيع العين والصلابة مع إني ما الوتك نصحا افنضرب عنكم الذكر صفحا ؟ قال القلم : سلم أن كنت أعلى فانا اعلم وأن كنت أحلى فانا احلم وأن كنت أقوى فانا أقوم أو كنت الوي فانا ألوم أو كنت اطري فانا اطرب أو كنت أغلى فانا اغلب أو كنت اعتى فانا اعتب أو كنت أقضى فانا اقضب ؟ قال السيف : كيف لا أفضلك والمقر الفلاني شاد أزري قال القلم : كيف لا أفضلك وهو عز نصره ولي أمري ؟ قال الحكم بين السيف والقلم : فلما رأيت الحجتين ناهضتين والبينتين بينتين متعارضتين وعلمت أن لكل واحد منها نسبة صحيحة إلى هذا المقر الكريم ورواية مسندة عن حديثه القديم لطفت الوسيلة ودققت الحيلة حتى رددت القلم إلى كنه وأغمدت السيف فنام ملء جفنه وأخرت بينهما الترجيح وسكت عما هو عندي الصحيح إلى أن يحكم المقر بينهما بعلمه ويسكن سورة غضبهما الوافر ولجاجهما المديد ببسط حلمه .
مناظرة بين الجمل والحصان للمقدسي المتوفى سنة / 875 /
قال الجمل : أنا احمل الأحمال الثقال واقطع بها المراحل الطوال وأكابد الكلال واصبر على مر النكال ولا يعتريني من ذلك ملال وأصول صولة الادلال بل انقاد للطفل الصغير ولو شئت استصعبت على الأمير الكبير فانا الذلول وللأثقال حمول لست بالخائن ولا الفلول ولا الصائل عند الوصول اقطع في الو حول ما يعجز عنه الفحول واصابر الظلماء في الهوا جر ولا أحول فإذا قضيت حق صاحبي وبلغت مأربي ألقيت حبلي على غاربي وذهبت في البوادي اكتسب من الحلال زادي فان سمعت صوت حادي سلمت إليه قيادي وواصلت فيه سهادي وطلقت طيب رقادي ومددت عنقي لبلوغ مرادي فانا أن ضللت فالدليل هادي وأن زللت اخذ بيدي من إليه انقيادي وأن ظمئت فذكر الحبيب زادي وأنا المسخر لكم بإشارة وتحمل أثقالكم فلم أزل بين رحلة ومقام حتى أصل إلى ذلك المقام .
فقال الحصان : أنا احمل صاحبي على كاهلي فاجتهد به في السير وانطلق به كالطير اهجم هجوم الليل واقتحم اقتحام السيل فان كان طالبا أدرك بي طلبه وأن كان مطلوبا قطعت عنه سببه وجعلت أسباب الردى عنه محتجبة فلا يدرك مني إلا الغبار ولا يسمع عني إلا أخبار وأن كان الجمل هو الصابر المجرب فانا السابق المقرب وأن كان هو المقتصد اللاحق فانا المقرب السابق فإذا كان يوم اللقاء قدمت أقدام الواله وسبقت سبق نباله وذلك متخلف لثقل أحماله وأن أوثق سائسي قيدي وامن قائدي كيدي أوثقت بأشكالي لكيلا أحول على إشكالي وألجمت كيلا أكل عن أقدامي فانا الموعود بالنجاة العدود لنيل الجاه المشدود للسلامة المقصود للكرامة قد أجزل المنعم على أنعامه امضي بالعناية الأزلية أحكامه فان الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة خلقت من الريح فكم ركضت في ميدان السباق وما أبديت عجزا وكم حزرت رءوس أهل النفاق حزا وكم أخليت منهم الآفاق هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا .
وكتب بدر محمد بن حبيب الحلبي المتوفى سنة 799 ه / انحدار
رفقا بمن ملك الوجد قيادة وعطفا على من أذب الشوق فؤاده متيم أقلقه فرط صدودك ومغرم أغراه بحبك قول حسودك وسقيم لا شفاء له دون مزارك ومقيم على عهدك ولو طالت مدة نفارك الأم هذا التنائي والنفور ؟ وعلام ياذا القد العادل تجور ؟ لقد تضاعف الأسف والأسى وتطاول التعلل بعلل وعسى .
هبني تخطيت إلى زلة ولم أكن أذنبت فيما مضى
أليس لي من بعدها حرمة توجب لي منك جميل الرضا
ولست ألوذ إلا بباب نعمك ولا اعتمد في محو الإساءة إلا على حلمك وكرمك وما جل ذنب يضاف إلى صفحك ولا عظم جرم يسند إلى عفوك ومثلك من يقيل العثرات ويتجاوز عن الهفوات :
وكنت أظن أن جبال رضوى تزول وأن ودك لا يزول
ولكن القلوب لها انقلاب وحالات ابن ادم تستحيل
طالما أنستني بقربك ودنوت مني مفارقا ظباء سربك وأنجزت وعودي وأطعت نجوم سعودي :
وكنت إذا ما جئت أدنيت مجلسي ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرة إلى بها في سالف الدهر تنظر
قيدت أملي عن سواك وبهرت ناظري بنظرة سناك وكسرت جيش قراري وتركتني لا افرق بين ليلي ونهاري أحوم حول الديار وأعوم في بحر الأفكار وأتمسك بعطف عطفك وأتعلق بأذيال مكارمك ولطفك أما علمت أن الكريم إذا قدر غفر ؟ وإذا صدرت من عبده زلة أسبل عليها رداء العفو وستر ؟ وأن شفيع المذنب أقراره ؟ ورفض خطيئته عند مولاه استغفره ؟
ومن كان ذا عذر لديك وحجة فعذري إقراري بأن ليس لي عذر
لهفي على عيش بسلاف حديثك سلف وأوقات حلت ثم خلت
وأورثت التلف واها لأيام بطيب انسك مضت ويروق ليال لولا قربك ما أومضت
قد كنت اعرف في الهوى مقدارها رحلت وبالأسف المبرح عوضت
كيف السبيل إلى إعادة مثلها وهي التي بالبعد قلبي أمرضت
والتناسي وارع الود القديم وأبدل شقاء محبك بالنعيم ولا تعدل عن منهاج المعدلة وسلم فقد أخذت حقها المسالة واغمد سيف حيف صيرته مسلولا وأوف بالعهد أن العهد كان مسئولا .
وكتب القاضي الفاضل إلى أخيه عبد الكريم يؤنبه على إيذائه علم الدين
ابن النحاس : سبب إصدار هذه المكاتبة إلى الأخ – أصلحه الله – أعلامه ما صح عندي من الأحوال التي أخفاها والله مبديها في حق علم الدين .
وبالله اقسم لئن لم تداو ما جرحت وتستدرك ما فعلت وتمح ما اثبت وتستأنف ضد القبيح الذي كتبت به وشافهت وتعتذر بالجميل فيما قاطعت الله به وبارزت ليكونن الحديث مني بغير الكتاب ولا زيلن السبب الذي قدرت به على مضرة الأصحاب وما اشد معرفتي بأن الطباع لا تتغير وبأنك ستحوجني بعد هذا الكتاب إلى ما لا يتأخر وبالجملة فاستدرك بفعلك لا بإيمانك لي وتنصلك إلى فالدم في النصل شاهد عجب
وويل لمن كانت غنيمته من الأيام عقد القلوب على البغضاء وإطلاق الألسنة بالمذام ولولا إنني شريكك في كل ما تستوحيه من الناس لألقيت حبلك على غاريك وتركتك وما اخترت لنفسك ولكن كيف بمن يرمي وليس برام ؟
ولكن سكوت الناس عن قبيحك مقابلة لجميل كثير مني فإذا أنت لا تنفق إلا من كيسي فأشفق على نفسك أن كنت تنظر في غد وعلى بيتك أن كنت تنظر في أمس وعلى مكانك مني أن كنت لا تنظر إلا في اليوم ولا تجاوبني إلا بلسان الرجل شاكرا لك فانه وأن كان والله ماذمك فقد ذممتك به عنه وما أظن انك تذكر إنني كتبت إليك كتابا ولا كنت اوثره ولولا حافظ غليظ ما كتبته ولولا علمي أن الكثير مما قيل عنك في أمر الرجل هو القليل مما فعلته لأضربت عن هذا كما أضربت عن غيره وستعرفك الأيام ما كنت تجهل .
والله بأخذ بنا صيتك إلى رضاه ويغمد سيف حليلتك عن مقلتك والسلام .
وكتب عبد الرحمن محمد بن طاهر المتوفى سنة 931 ه :
كنت – أعزك الله – عن ضمير اندمج على سر اعتقادك دره وتبلج في آفق ودادك بدره وسال على صفحات ثنائك مسكه وصار في راحتي سنائك ملكه ولما ظفرت بفلان حملته من تحتي زهرا جنيا يوافيك عرفه ذكيا ويواليك انسه نجيا ويقضي من حقك فرضا مأتيا على أن شخص جلالك لي مائل وبين ضلوعي نازل لا يمله خاطر ولا يمسه عرض دائر أن شاء الله عز وجل .
:
وكتب أبو الفضل بن العميد المتوفى سنة 360 ه
قد قرب أيدك الله محلك على تراخيه وتصاقب مستقرك على تنائيه لأن الشوق يمثلك والذكر يخيلك فنحن في الظاهر على افتراق وفي الباطن على تلاق وفي النسبة متباينون وفي المعنى متواصلون ولئن تفارقت الأشباح لقد تعانقت الأرواح .
استعطاف للخوارزمي
لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالأغصان بالماء اعتصاري
كيف يقدر – أبقى الله السيد – على الدواء من لا يهتدي إلى أوجه الداء وكيف يداري أعداءه من لا يعرف الأعداء من الأصدقاء ؟ أم كيف يسربلا دليل في الظلماء ؟ أم كيف يخرج الهارب من بين الأرض والسماء ؟ الكريم أيد الله مولاي – إذا قدر غفر وإذا أوثق أطلق وإذا اسر اعتق ولقد هربت من الشيخ إليه وتسلحت بعفوه عليه وألقيت ربقة حياتي ومماتي بيديه فليذقني حلاوة رضاه عني كما أذاقني مرارة انتقامه مني ولتلح على حالي غرة عفوه كما لاحت عليها مواسم غضبه وسطوه وليعلم أن الحر كريم الظفر إذا نال أقال وأن اللئيم لئيم الظفر إذا نال استطال وليغتنم التجاوز عن عثرات الأحرار ولينتهز فرض الاقتدار وليحمد الذي أقامه مقام من يرتجي ويخشى وركب نصابه في رتبة شاب الزمان ومجدها فتى واخلق العالم وذكرها طري وليعقد انه قد هابه من استتر ولم يذنب إليه من اعتذر وفق الله تعالى لما يحفظ عليه قلوب أوليائه وعصمه مما يزيد به في جماجم أعدائه .
وكتب ابن مكرم إلى بعض الرؤساء :
نبت بي غرة الحداثة فردتني التجربة وأفادتني الضرورة ثقة بإسراعك إلى وأن أبطات عنك وقبولك لعذري وأن قصرت عن واجبك وأن كانت ذنوبي سدت على مسالك الصفح عني فراجع في مجدك وسؤددك واني لا اعرف موقفا أذل من موقفي لولا أن المخاطبة فيه لك ولا خطة أدنا من خطتي لولا أنها في طلب رضاك – والسلام .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف