الأخبار
جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني تُنشئ مخيمات لإيواء النازحين العائدين إلى غزة وشمالهاعودة حرب الإبادة والتهجير"العمل لوقف حرب أوكرانيا".. تفاصيل مكالمة هاتفية بين ترمب وبوتين(حماس) تجري مشاورات في القاهرة بشأن اتفاق غزةمصر والأردن في موقف موحّد: رفض التهجير والتأكيد على ضرورة إعادة إعمار غزة فوراًمصر تعتزم طرح تصور لإعادة إعمار غزة يضمن بقاء الشعب الفلسطيني على أرضهالعاهل الأردني: مصر والدول العربية سيقدمون خطة بشأن غزة(حماس): مخطط ترحيل شعبنا لن ينجح.. وملتزمون بالاتفاق ما التزم الاحتلال بهصحيفة (معاريف): المؤسسة الدفاعية الإسرائيلية ترى أن حماس لم تنتهك الاتفاق حتى الآناستمرار الخروقات.. شهيد وإصابة حرجة برصاص الاحتلال غرب رفح"الصحة" بغزة: الاحتلال يتعمّد عرقلة سفر الحالات المرضية عبر معبر رفح"الإعلامي الحكومي" بغزة: الجهات المختصة تتابع محاولات التلاعب بالأسعار وتحذّر المخالفينلابيد يوجه رسالة لنتنياهو: لقد نفذ الوقت اذهب إلى الدوحة وأحضر المختطفينمسؤولو مستوطنة (كيسوفيم) يعلنون مقتل محتجز في غزةلليوم 22 على التوالي: الاحتلال يواصل عدوانه على مدينة جنين ومخيمها مخلفاً شهداء ودمار
2025/2/13
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

أدب الدولةالعباسية بقلم:حسين علي الهنداوي

تاريخ النشر : 2013-12-16
الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية
في العصر العباسي
-1-

المجلد السابع


حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية


حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية

مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط

ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب



الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية
في العصر العباسي





بسم الله الرحمن الرحيم





بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المجلد السابع
الأدب في العصر العباسي
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبع هداهم إلى يوم الدين ... وبعد :
لقد كان لتوسع رقعة الدولة العباسية مساحة ، وازدياد عدد السكان وتنوعهم عرقا ولونا وجنسا ومذاهباأثر كبير في تنوع الثقافات والتنافس في حمل لواء الحضارة العربية الإسلامية ذلك أن القرآن الكريم بمفهومه الإنساني الداعي أولا إلى المساواة بين جميع الناس عربهم وعجمهم دون النظر إلى أعراقهم وألوانهم وأجسامهم والمفسح المجال ثانيا لكل أمة أن تقود مسيرة الحضارة الإسلامية ضمن شروط إسلامية صحيحة نظريا وتطبيقيا ، وقد ترك الباب مفتوحا لقيادة المسيرة الإسلامية من قبل أي فئة من الناس تحقق شروط القيادة دينيا ودنيويا مما جعل الشعوب الإسلامية تتنافس فيما بينها على هذه القيادة ولكن هذا التنافس اتخذ صورا غير دينية ، فاتخذ من الدماء وسيلة للوصول إلى ذلك وتحول التنافس الثقافي والمعرفي والقيادي إلى سفك دماء للوصول للخلافة وقيادة الأمة من خلال استخدام مبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة) شعارا لا محيد عنه فكانت السيوف تتصارع والدماء تسفك دون حرمة دينية أو خلقية أو إنسانية والهدف الوصول للسلطة وحكم الناس فكما أن الأمويين سفكوا الكثير من الدماء في سبيل المحافظة على الخلافة ولم ينجحوا ، كذلك سفك العباسيون الكثير من الدماء في سبيل سلب الخلافة من أبناء عمومتهم الأمويين وهكذا كانت كل فئة تدعي أحقية الخلافة لها ومثلما أن الأمويين اعتبروا أنهم سادة العرب قبل مجيء الإسلام كذلك اعتبر العباسيون أن العباس رضي الله عنه عم الرسول هو أحق من يرث ابن أخيه بالخلافة مع أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( نحن الأنبياء لا نورث) والخلافة ليست حكرا على أحد إنما هي أمانة في عنق من يتسلمها وهي (مهمة تكليف لا مهمة تشريف) وقد وعاها الخلفاء الراشدون المهديون وأكدوا على صعوبتها واعتبروها مسؤولية عظيمة أمام الله تعالى أولا وأمام الناس ثانيا لقد استلم العباسيون مقاليد الخلافة بالسيف ، فتوقفت الفتوحات التي من أجلها وجه الخلفاءالراشدونوالأمويون الجيوش وهي رفع لواء (التوحيد ونشر الدين الجديد) وتخليص الناس من عبادة العباد ، ونقلهم إلى عبادة رب العباد وأخذ العباسيون يتنعمون بغلال الخلافة ويبنون دولتهم على غرار الدولة الفارسية مظهرين العظمة والأبهة والكبرياء ، وأخذت الثقافات تصطرع وتتنافس وبدا كل عرق ولون يتعصب لأبنائه ، وأخذت شوكة العرب تضعف رويدا رويدا حتى لم يبق للعرب من الخلافة سوى اسمها وانتشرت الزندقة والشعوبية وأخذ الأدب يرتقي كما وكيفا وزاد عدد الشعراء الذين وضعوا أنفسهم تحت راية الخلافة وكثر شعر المدح والهجاء واختلق الشعراء أنواع مديدة من الأغراض فرضتها طبيعة الحياة الجديدة شعر التصوف – شعر الزندقة – الغزل – الشعر التعليمي ، واهتم الشعراء بالصنعة والتصنع وتنافسوا على من يكون شاعر الخليفة ، كذلك في فن النثر فقد كثرت المنافسة بين كتاب الديوان وزحف النثر باتجاه التوسع والانتشار ، وأصبح له كتابه المختصون كالجاحظ وابن الزيات وغيرهم ، وتململت الفلسفة وعلم الجدل والمناظرة والرسائل ، وانقسم الأدب إلى قسمين قسم ارتقى بقيمه الايجابية وقسم انحط نحو الحضيض يحرك النعرات العرقية عرب – عجم يتغزل بالذكور على عادة غير العرب ويدعو للفسق والمجون والانحلال وأخذ النقد الأدبي مكانه الصحيح فتشكلت حركة نقدية واعدة استطاعت أن تؤفر للحركة الأدبية أبعادها الصحيحة فكونت نظرية عمود الشعر ودعا بعض أفرادها إلى الثورة على الشكل والمضمون وصار للأجناس الأدبية مكانة مهمة كل بحسب حاجة المجتمع إليه وصار للأديب العباسي مكان مرموقعند الخليفة وعند عامة الناس .



الباب الأول
الحياة العامة في العصر العباسي
الباب الأول
الفصل الأول
الدعوة العباسية
روي في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم العباس باستيلاء ولده على الخلافة بعد بني أمية , وقد كان العباس أسنّ من رسول الله عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين وأولاده ( الفضل – عبد الله – عبد الرحمن – قثم – معبد – أم حبيب ) وأمهم " لبابة بنت الحارث " أخت ميمونة زوجة النبي عليه الصلاة والسلام , وهي أول امرأة أسلمت بعد خديجة بنت خويلد .
وقد حنّك رسول الله عليه الصلاة والسلام عبد الله بن العباس بريقة المقدس ودعا له قائلا ً :( اللهم بارك فيه وانشر منه ) . وأولاد عبد الله بن العباس ( العباس – علي – السجاد – الفضل – عبد الله – لبابة ) ومن ولده " علي السجاد " وهو أبو الخلفاء وقد اتفق العباسيون مع أبي مسلم الخراساني في الثورة على الأمويين ، ونجحوا بذلك وأصبحت الخلافة عباسية وقد تزعمها أبو العباس السفاح الذي بويع له عام 132 هـ ويقال له المرتضى وكان قد ولد في أيام هشام بن عبد الملك وقد توفي 136 هـ وقد قتل في عهده خلق كثير فلقب بالسفاح وفيه يقول الشاعر :
فكانت أمية في ملكها تجور وتظهر طغيانها
فلما رأى الله أن قد طغت ولم تطق الأرض عدوانها
رماها بسفاح آل الرسول فخر بكفيه أذقانها
ومن أولاده " محمد " مات صغيرا ً و " ريطة " تزوجها المهدي ومن أهم وزرائه " خالد بن بربك " جد البرامكة .
ثم جاء بعده الخليفة أبو جعفر المنصور الذي بويع له بالخلافة بعد أخيه أبي العباس , زار بيت المقدس وحج البيت الحرام , غدر بعمه عبد الله بن علي بعد أن أعطاه الأمان لأنه طالب بالخلافة وبنى له دارا ً أساسها ملح فلما سكنها أجرى الماء في الأساس فوقعت الدار عليه فمات وكان قد كتب العهد بين المنصور وبين عمه عبد الله بن علي ابن المعتصم وقال فيه " فمتى غدر أمير المؤمنين والمنصور بعمه عبد الله بن علي سرا ً أو علانية فنساؤه طوالق ودوابه حبيس وعبيده أحرار لوجه الله تعالى والمسلمون في حل من بيعته " . وكان أمر البيعة إثرها وقد قتل ابن المقفع بأمر من المنصور غدرا ً وكان قد قام بالدعوة العباسية أبو مسلم الخراساني وله إحدى وعشرون سنة وفي ذلك يفتخر قائلا ً :
أدركت بالصبر والكتمان ما عجزت عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى إليهم في ديارهم والقوم في غفلة بالشام إذ رقدوا
حتى طرقت لهم بالسيف فانتبهوا عن رقدة لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنما ً في أرض مسيعة ونام عنها تولى رعيها الأسد
وكان أبو مسلم قد قتل خلقا ً كثيرا ً أكثر من ستمائة ألف وتوفيغدرا ً حيث أجلسه الخليفة عنده وخرج عليه القوم بأسيافهم والمنصور ينشد :
اشرب بكأس كنت تسقي بها أمر في فيك من العلقم
كذلك ضرب المنصور أبا حنيفة النعمان على مرأى من الفقهاء بعد أن رفض توليه وجيشه حتى مات .
توفي المنصور سنة 158 هـ عن ثلاث وستون سنة ودفن بالحرم الشريف وقضى خليفة اثنين وعشرين سنة , وترك من الأولاد ( محمد المهدي – جعفر – صالح – سليمان – عيسى – يعقوب – القاسم – عبد العزيز – العباس – خالد ) ووزراؤه : ( أبو أيوب المرياني – والربيع وخالد بن برمك ) .
ثم جاء المهدي المولود/ 127/ هـ وبويع بالخلافة /158 /هـ وهو أول من قتل الزنادقة وألبسالكعبة الخز والديباج وطلاها بالمسك واشترى ما حول الكعبة وجعلها بالوسط كما هي الآن وكانت بجانب المسجد ولما دخل أبو دلامة الشاعر على المهدي قال له كيف أنت؟ فقال أبو دلامة :
إني حلفت لئن رأيتك سالما ً بقرى العراق وأنت ذو وفر
لأصلين على النبي محمد ولتملأن دراهما ً حجري
وأرادت إحدى زوجتيه أن تسم الأخرى فعثر المنصور على الرسول بينهما فأطعمه الحلوى المسمومة .
وقد خرجفي زمنه " حكيم المقنع " يقول بتناسخ الأزواج فحاصره المهدي فشرب المقنع السم مع أولاده وبناته فماتوا , توفي المهدي 169 هـ وأولاده ( هارون الرشيد – موسى الهادي – علي – عبد الله – منصور – يعقوب – اسحق – المأمومة – العالية – العباسية – سليمة ) ومن كتابه ( معاوية ابن عبد الله – يعقوب بن داوود ) وقد حبس الأخير حتى أطلقه الرشيد وقضاته ( محمد بن علامة وعافية بنيزيد ) , ومن حجابه ( سلامة الابرش ) ومن شعره :
أرى ماء وبي عطش شديد ولكن لا سبيل إلى الورود
أراح الله من جسدي فؤادي وعجل بي إلى دار الخلود
وقد قيل في رثائه :
وأفضل قبر بعد قبر محمد نبي الهدى قبر سبذان
عجبت لأيد جثت الترب فوقه غداة فلم ترجع بغير بنان
ثم جاء بعده موسى الهادي وأمه أم الرشيد الخيزران بويع له مات أبوه وهو يحارب أهل طبرستان وبقي خليفة سنة وشهر ثم توفي وصلى عليه هارون وكان قد أخذت له البيعة وكان عمر موسى 24 سنة وكان موسى شجاعا ً بطلا أديبا ً جوادا صعب المرام , قال فيه سالم الخاسر :
لقد قام موسى بالخلافة والهدى ومات أمير المؤمنين محمد
فمات الذي عم البرية جوده وقام الذي يكفيك من يتفقد
وقد كان موسى الهادي يحب الشعر وإنشاده . قال الضحاك الشاعر أنشدته هذين البيتين :
موسى الأمام أبان مشتبه الهوى بعد الدروس فصار نهجا ً معلما
بسط الأنامل بالعطاء أظنه أن ليس يترك في الخزائن درهما
وقتل موسى الهادي جاريتين له بلغه أنهما كانتا تتحابان وتأتيان ما لا يحل لهما وتكلم الناس بذلك فقال :
يلومني من جهل الأمر فكيف لي إن يسمع العذرا
يزعم إني آثم والذي فعلته أرجو به الأجرا
ومن له صبرا ًعلى مثل هذا فلست فيه أملك الصبرا
وأولاده ( عيسى – إسماعيل – جعفر – عبد الله – اسحق – موسى – وهو أعمى وله أم عيسى تزوجها المأمون ) .
وزراؤه "( الربيع بن يونس – ثم عمر بن بزيع) وحجابه (الفضل بن الربيع ) وقاضيه (أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم) . ثم جاء أخوه هارون الرشيد الذي بويع بالخلافة يوم مات أخوه وولد له المأمون كان شجاعا ً سمحا ً كثير الغزو والحج , يحج سنة ويغزو سنة , وقد قال فيه أبو العسلي :
فمن يطلب لقاءك أو يرده فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو على ظمر وفي أرض الثنية فوق طور
وما حاز الثغور سواك خلق من المستخلفين على الأمور
وقد كملت الخلافة بكرمه وعدله وتواضعه وزيارته العلماء في مواضعهم كمالك بن أنس وسفيان بن عينيه وعبد الرزاق بن همام والفضيل بن عياض وقد كان يدافع الروم في الثغور وكان الرشيد مضطلعا ً في العلم والأدب والشعر ويميز بين الشعراء وقد فضل العباس بن الأحنف على جميل : قال جميل :
إلا ليتني أعمى وليت تقودني بثينة لا يخفي علي كلامها
قال العباس :
طاف الهوى في بلاد الله كلهم حتى إذا مر بي من بينهم وقنا
قال الرشيد :
أما يكفيك أنك تملكيني وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي لقلت من الهوى أحسنت زيدي
وخرج على الرشيد الوليد بن الطريف الشاري واستولى على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وهزم جيوش هارون وقال :
أنا الوليد بن الطريف الشاري أخرجني ظلمكم من داري
ولكن بعض الأعراب قتل الوليد وحمل رأسه للرشيد ورثته أخته الفارعة بنت طريف قائلة :
أيا شحر الخابور مالك مورقا ً كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يعد الزاد إلا من التقى ولا المال إلا من قنا وسيوف
وخرج عليه أبو الخصيب فقتله الرشيد وقضى على الخرمية بأذربيجان وسبى صبيانهم ونسائهم وخرج عليه الخزر وقتلوا من المسلمين وأهل الذمة وسبوا مئة ألف وأربعين ألف وقتلوا من الرجال والنساء والولدان وأحرقوا المدن وقد قال إسحق بن هلال الموصللي في الرشيد وفي يحيى البرمكي :
ألم تر أن الشمس كانت مريضة؟ فلما أتى هارون أشرق نورها
تلبست الدنيا جمالا ً بملكه فهارون واليها ويحيى وزيرها
ثم أن الرشيد سخط على البرامكة بعد أن اصطفاهم لإظهارهم الزندقة وإفساد الملك فنكبهم وقتلهم وطلب لعنهم على المنابر ، وقيل:إن جعفر البرمكي كان بارا ً للعباسية أخت هارون فزوجها الرشيد منه على أن لا يمسها ليكون لها محرما ً إذا حضرت المجلس فقضى أنها حملت بتوأمين فغضب هارون وضرب عنقه ونقم على البرامكة وقد كتب كتابا ً بالبيعة للأمين ومن بعده المأمون أولاده ( الأمين – المأمون – المعتصم – صالح – محمد أبو عيسى – القاسم – علي – إسحق – أبو أيوب – أبو أحمد ) وبعض البنات ومن وزرائه " يحيى البرمكي – وأبناؤه جعفر والفضل والفضل بن الربيع ومن قضاته " نوح بن دراج وحفص بن غياث – وعون بن عبد الله المسعودي وحجابه " بشر مولاه – محمد بن خالد بن برمك – الفضل بن الربيع " ثم جاء بعده محمد الأمين . والده هارون وأمه العزيزة وهي هاشمية بويع له سنة/ 193/ هـ وكانت ولايته أربع سنين ونصف كان سمحا ً بالمال قبيح السيرة سفاكا ً للدماء ضعيف الرأي وقد كان الرشيد قد ولى الأمين ثم المأمون العهد ، فنكث الأمين وولى ولده العهد وخرق عهد أخيه وحدث بعده صراع عسكري جاؤوا بعده برأس الأمين لأخيه وقد قتل سنة/ 198 هـ/ ومن أولاده " موسى – عبد الله – إبراهيم – وكان وزيره الفضل بن الربيع ثم إبراهيم بن صبيح , وحاجبه العباس بن فضل بن الربيع وقضاته إسماعيل بن حماد البحتري ومحمد بن سماعة .
ثم جاء من بعده المأمون وقد كان كامل الفضل عظيما ً عفوا ً حسن التدبير وقد أخذ البيعة لأخيه المعتصم وأحيا العلم القديم وأظهر علم النجوم والفلسفة واتخذ الأتراك للخدمة وفي أيامه تحركت الخرمية وقام رئيسهم بابك وقضى عليهم وغفا عن عمه إبراهيم بن المهدي . جالس العلماء وناظرهم وكان يحضر مع الناس الطعام يتفقد عسكره والناس , يحب الناس ولا ينام حتى يقف على قضاياها غزا الروم وفتح قلاعا ً وحصونا ً ونفذ أمره من أفريقية إلى السند وأسلم على يديه ملك التيبت بعد أن قد له صحنا ً من ذهب أرسله المأمون للكعبة وقال المأمون بخلق القرآن واعتبر عليا ً بن أبي طالب أفضل الناس بعد الرسول الكريم ورد " فدكا ً " على ولد فاطمة بنت رسول الله وفي عهده توفي الإمام الشافعي رحمه الله ،وكان يحب رياضة الشطرنج من أولاده " محمد الأصفر – عبد الله – علي – الحسن – إسماعيل – الفضل موسى إبراهيم – يعقوب – الحسين – سليمان – جعفر – إسحق – أحمد - هارون – عيسى – وعدة بنات ) . ووزراؤه : الفضل بن سهل – وأخوه الحسن وقضاته محمد بن عمر الواقدي – يحيى بن أكثم .
ثم جاء من بعده المعتصم ابن هارون أمه ماردة بويع له يوم مات المأمون 218 هـ وتوفي بسامراء 227 هـ وخلا فيه حوالي 9 سنوات كان شجاعا ً فتح عمورية بعد أن نزلت الروم بزبطرة وقاد الحلمة بنفسه وقتل ثلاثين ألفا ً وأسر مثلهم وقصيدة أبي تمام فتح عمورية:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
قيلت في ذلك , وخرج في عهده بابك فحمله الأفشين للمعتصم بسامراء فقطعت يداه ورجلاه وصلب ثم بعثت جثته ورأسه إلى بغداد وقيل بالاثنين :
إنما الاثنين سيف يله قدر الله بكف المعتصم
ثم قتل المعتصم الأفشين لأنه أراد نقل الملك إلى العجم وقد بنى المعتصم سامراء وأبعد الجند عن بغداد امتحن ابن حنبل في خلق القرآن وكان أميا ً وقد ضربه وسجنه. أولاده ( هارون – الواثق – جعفر – المتوكل – محمد أبو المستعين ) ووزراؤه الفضل بن مروان– أحمد بن عمار– الزيات) وحجابه(وصيف مولاه )وقضاته محمد بن سماعة وأحمد بن أبي داوود الأيادي ) .
ثم جاء بعده الواثق بالله أبو جعفر واسمه هارون بن المعتصم بويع له 227 هـ وتوفي 232 هـ وخلافته ست سنين , وكان يعاقب من امتنع عن القول بخلق القرآن فقد حبس ابن حنبل وكذلك كان يحب النساء وكثرة الجماع ولما احتضر بسبب كثرة جماعه ردد هذين البيتين :
الموت فيه جميع الخلق مشترك لا سوقه منهم ولا ملك
ما ضر أهل قليل في تنافرهم وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا
أولاده " محمد المهتدي – عبد الله – أحمد – إبراهيم – عائشة " , وزيره محمد بن عبد الملك الزيات , وحاجبه ايتاخ – ووصيف .وقاضيه أحمد بن أبي داوود .
ثم جاء بعده جعفر المتوكل علي الله بن المعتصم وأمه تركية اسمها شجاع , بويع له 232 هـ وقتل 247 هـ ودفن في القصر الجعفري بسامراء وخلافته 15 سنة رفع الفتنة في الدين وحض على قراءة الحديث وأخرج ابن حنبل من السجن وخلع عليه وأخرج ذا النون المصري من السجن وأكرمه وقد منع المتوكل النصارى واليهود من التزيي بلباس المسلمين والركوب على السرج وجعل أزر النساء علية ليعرفن وأمر بهدم البيع المحدثة وتحويل الواقع منها لمسجد وأمر بجعل صور الشياطين على أبواب النصارى اتخذت نورا ً من خشب فيه مسامير من حديد للتعذيب , قبض على وزيره الزيات وعزل عن القضاء محمد بن أبي داوود وحجز أمواله , قتل المتوكل ولده محمد وكان معه وزيره الفتح بن خاقان ودفنا معا ً ورثاه البحتري بقصيدة غاية في الصدق .
أولاده " محمد – موسى – المعتز – إبراهيم – أحمد – الموفق – إسماعيل " وزراؤه " الزيات – الجرجاني – بن خاقان " وحجابه " وصيف التركي وقاضيه يحيى بن اكثم
ثم جاء من بعده المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن جعفر قاتل المتوكل أمة رومية تسمى جشيلة , بويع له عام 247 هـ مات مسموما ً وولايته ستة أشهر , وكان ذا شهامة وإمساك , خلع أخويه المعتز , والمؤيد وكان يسيء للعمال ويبخل بالمال , قال عن نفسه " عاجلت فعجلت "
من أولاده " أربعة ذكور , وزيره أحمد بن الخصيب وحاجبه وصيف ثم بغاثم ابن المرزبان .
ثم جاء بعده المستعين بالله أبو العباس أحمد بن محمد المعتصم وأمه مخارق , بويع له عام 248 هـ وخلافته حوالي ثلاث سنين ونصف ورد الخلافة للمعتز لأن الأمور اضطربت عليه فقد كان لينا ً ومنقادا ً لأتباعه مهملا ً لأموره شديد الخوف على نفسه لأنه كان رجلا ً صالحا ً وقد نفي إلى واسط وقد قتل وحمل رأسه إلى المعتز 252 هـ , أولاده ستة ذكور ووزراؤه أحمد بن الخطيب ثم أحمد بن صالح بن رداد .
ثم جاء بعده المعتز بالله أبو عبد الله واسمه محمد وقيل الزبير بن جعفر بن المتوكل بويع له سنة 252 هـ بعد خلع المستعين وأخرج أخاه المؤيد من الحبس وخلع عليه ثم عاد وسجنه لتآمره عليه واختلف في طريقة قتله وفي سنة 255 هـ خلع بعد أن لطم على وجهه وكان حكمه ثلاث سنين وسبعة أشهر ومن أولاده عبد الله بن المعتز ومن وزرائه جعفر بن محمد الاسكافي .
ثم جاء بعده المهتدي بالله أبو عبد الله محمد بن هارون الواثق أمه رومية اسمها " قرب ", بويع له 255 هـ وكان المعتز أول من بايعه وقتل في 256 هـ وله تسع وثلاثون سنة وخلافته أحد عشر شهرا ً , كان ورعا ً كثير العبادة بقي صائما ً منذ جلس للخلافة حتى قتل وله خمسة عشر ذكرا ً .
ثم جاء المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن جعفر المتوكل أمه " قينان " , بويع له 256 هـ وتوفي 279 هـ وله خمسون سنة مسموما ً وكانت خلافته 23 سنة , وكان مقبلا ً على اللذات مشغولا ً عن الرعية مضطرب الأحوال كثير الغزل والتوليه مغلوبا على رأيه ومن أولاده ( عبد العزيز وجعفر وإسحق ومحمد ) ووزراؤه " عبيد الله بن يحيى بن خاقان – سليمان بن وهب – الحسن بن سهل – صاعد بن مخلد – إسماعيل بن بلبل ) , وحجابه موسى بن بغا وقضاته " الحسن بن أبي الشوارب.
ثم جاء المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن طلحة الموفق بن جعفر المتوكل وأمه ضرار , بويع له 279 هـ وتوفي 289 هـ قيل سمه وزيره إسماعيل بن بلبل وخلافته تسع سنين وتسعة أشهر ) كان عادلا ً ضابطا ً ذا تجربة وحنكة أسقط المكوس وبذل المال وحج وغزا وجالس المحدثين وأهل الفضل والدين وتسلم الخلافة وبيت المال فيه دينارا ً فأحسن التدبير وقمع الذعار وأباد الأشرار وأنصف بالمعاملة ورفق بالرعية وفي أيامه خرج " زكرويه بن مهرويه " داعية القرامطة فقتل منهم الكثير , تزوج المعتضد قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون وأولاده " المكتفي – المعتد – القاهر – هارون – وإحدى عشر بنتا ً ووزراؤه عبيد الله بن سليمان بن وهب ومن قضاته إسماعيل بن إسحق بن حماد بن يزيد .
ثم جاء بعده المكتفي بالله أبو محمد علي بن المعتضد بالله أمه " خاضع " بويع له 289 هـ وتوفي 295 هـ وخلافته ست سنين وتسعة أشهر أمواله جمة وعساكره متوافرة , بنى جامع القصر في بغداد وأنفق أموالا ً كثيرة في حرب القرامطة , استرد أنطاكية من الروم , أولاده " المستكفي بالله وثمانية ذكور تولى الخلافة من أولاده " المستكفي – المقتدر – القاهر " وزيره العباس بن حسن .
ثم تولى بعده المقتدر بالله جعفر بن المعتضد . أمه " شضب " , بويع له بالخلافة 295 هـ وقتل 320 هـ وسنه ثمان وثلاثون سنة ومدة خلافته 25 سنة , تولى الخلافة وعمره ثلاثة عشر سنة وقد دبر الخلافة وغلب النساء على أمره والخدم وكانت جارية أمه ثمل القهرمانية تجلس للمظالم ويحضرها القضاة والوزراء والفقهاء .
وبطل الحج في عهده لدخول سليمان القرمطي صاحب البحرين وأخذه الحجر الأسود وقتل الحجيج ورمي القتلى في زمزم وخلع باب الكعبة وعراها وبقي الحجر الأسود معه 22 سنة ثم رده الله تعالى على يد أبي محمد بن سنبر بمبلغ 50 ألف دينار يولى وزيرا ً ثم يخلعه بالرشا قتله مؤنس المظفر بالسيف وأخذ برأسه وتركه عاريا ً فستره رجل من الأكراد بحشيش ودفنه , وفي أيامه ظهر المهدي بالمغرب وخلع المقتدر مرتين وفي عهده ظهر الحلاج فقطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرق بالنار , وقد كان المقتدر سمحا ً جوادا ً كان يبذل المال على الحرمين والثغور ويجزي القضاة والفقهاء ومن يتولى الحسبة والمظالم , أولاده " الراضي – المتقي – إسحق " ووزراؤه أبو الحسن بن الفرات – محمد بن عبيد الله بن خاقان . ابن الجراح ثم جاء القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد وبويع له 320 هـ وخلع وسملت عيناه 322 هـ وولايته سنة ونصف , كان موصوفا ً بالظلم مقدما ً على سفك الدماء أهوج محبا ً لجمع المال قبيح السياسة , صادر أمهات أولاد المقتدر وضرب أم المقتدر وعلقها بحبل .
ثم جاء الراضي بالله أبو العباس محمد بن المقتدر وأمه ظلوم , بويع له 322 وتوفي بالاستسقاء 329 ومدة خلافته أقل من سبع سنوات وعاش 32 عاما وكان أولياؤه مستبدين بالأمور وكان أديبا ً شاعرا ً , ومن شعره :
كل صفو إلى كدر كل أمر إلى حذر
ومصير الشباب فيه للموت أو الكبر
أين من كان قبلنا؟ درس الشخص والأثر
وقد كان أصحابه ينفردون به بالأمر دونه ولا يقدر أن يغير الأمر البلاد تتقسم ويظهر الفساد حيث استرجع الروم عامة الثغور وممن أفسد دولته ابن مقلة فقطعت يده وكان ينوح عليها وفي وقت الراضي محمد بن أبي العراف الذي ادعى الربوبية فقتل وصلب . أولاده " أبو جعفرأحمد – أبو الفضل عبد الله " . ثم جاء بعده المتقي بالله أبو إسحق إبراهيم بن المقتدر وأمه خلوب , بويع له 329 هـ وتوفي 357 هـ وعمره ستون سنة حدث في عهده غلاء شديد ونادى الناس الجوع وكان المتقي عابدا ً كثير الصلاة والصوم ولم يشرب النبيذ وكان يقول نديمي المصحف لم يغدر بأحد أشار عليه أصحابه بالخروج إلى الرقة هربا ً من البريدي وأعطي العهود للعودة لبغداد ثم سملت عيناه 333 هـ أولاده أبو منصور ولي عهده .ثم جاء المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بالله وبويع له 333 هـ وكان عمره 41 سنة تلقب بإمام الحق قبض عليه معز الدولة بن بويه 334 هـ وعمره ست وأربعون وخلافته سنة وأربعة أشهر ثم صارت الخلافة لابن عمه .
ثم جاء المطيع لله أبو القاسم الفضل بن المقتدر بويع له 334 هـ وبقي في الخلافة إلى 363 هـ وقضى في الخلافة 29 سنة ولم يكن له من الخلافة سوى الاسم بينما الحاكم الفعلي معز الدولة أحمد بن بويه .
كان المطيع لله كريما ً حليما ً وصل العلويين والعباسيين في يوم واحد ثلاثين ألف دينار وكان ينفق على ثلاثة خلفاء خلعوا . وهم ( القاهر – المستكفي – المتقي ) كذلك الإنفاق على الحجرة النبوية ووضع قنديل ذهب في الكعبة وقد أعيد الحجر الأسود في عهده إلى موضعه في البيت الحرام 339 هـ وفي عهده تحكمت الديلم على الخليفة ومات القائم صاحب المغرب 331 هـ ومات ابنه المنصور 341 هـ ودخل جوهر الصقلي مصر من قبل المغرب 358 هـ وخرجت مصر والشام والحجاز والمغرب وصقلية عن بني العباس ثم عادت بعد ذلك وفي عهده تغلب نقفور على ثغور المسلمين وملك حلب , أولاده " أبو بكر الطائع – عبد العزيز – جعفر " .
ثم جاء الطائع لله أبو بكر عبد الكريم بن الفضل أمه اسمها عتب , بويع له عام 363 هـ وعمره ثمان وأربعون سنة وأقام فيها خليفة حوالي 18 سنة انحدر مع سبكتكين للحرب .
ولما ملك عضد الدولة بغداد وهزم الأتراك عنها أصعد الطائع معه إلى تكريت وفي عهده عاد الشام مع الحرمين إلى الدولة العباسية وخلع الطائع من الخلافة ورمي عن السرير ونهبت دار الخلافة 393 هـ .
ثم جاء بعده القادر بالله أبو العباس أحمد بن إسحق بويع له 381 هـ بلغ من العمر ستين سنة ولما تولى الخلافة جعل علامته " حسبنا الله ونعم الوكيل " كان حسن الدين والتهجد والورع وكان أيضا ً صالحا ً ورعا ً تقيا ً حسن الخليقة جميل الطريقة طلق النفس كثير المعروف وبلغ من العمر حوالي 87 سنة توفي في 422 هـ وقد فتحت السند والهند في عهده . أولاده " أبو جعفر عبد الله ولي العهد " .
ثم جاء بعده القائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بن أحمد القادر وأمه بدر الدجا , بويع له 467 هـ وعمره حوالي 75 سنة وخلافته حوالي 45 سنة كان كريما ً حليما ً حسن السيرة مجتهدا ً في إصلاح الدين وزال في أيامه حكم العجم ممن تحكم بالخلافة ودعي له بأفريقية وفي أيامه غرقت بغداد بالماء حتى خرج هذا الماء على سريره . ومن شعره :
سهرنا على سنة العاشقين وقلنا لما يكره الله نغم
وما خيفتي من ظهور الورى إذا كان رب الورى قد علم
ومن شعره أيضا :
قالوا الرحيل فانشبت أظفارها في خدها وقد اعتلقن فضايا
واحمر تحت بنانها فكأنما غرست بأرض بنفسج عنابا
ثم جاء بعده المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله , توفي والده ( ذخيرة الدين ) وله أربع عشرة سنة فحفظ الله به دولة بني العباس وبويع له 469 هـ وتوفي 487 هـ فكانت خلافته 19 سنة وكانت به صرامة وشهامة ولم يكن له أعوان على ذلك تذب عنه بل كانت له دعوة مجابة قد جربت منه وقد طلب منه جلال الدولة ابن عضد الدولة أن يخرج من بغداد فطلب منه أن يمهله عشرة أيام مات بعدها جلال الدولة في اليوم العاشر 485 هـ حيث سمته شمس النهار – القهرمانة في الطعام , وروي للمقتدي من الشعر :
أردت صفاء العيش مع من أحبه فحاولني عما أريد مريد
وما اخترت بت الشمل بعد اجتماعه ولكنه مهما يريد أريد
ومن شعره أيضا ً :
أما والذي شاء غير ما بنا فأهوى بقوم في الثريا إلى الثرى
وبدلنا من ظلمة الجور بعدما دجا ليلها صبحا ً من العدل مسفرا
ومن وزرائه فخر الدولة – عميد الدولة – أبو شجاع محمد بن الحسين ثم جاء المستظهر بأمر الله أبو العباس أحمد بن أبي عبيد الله المقتدي بالله , بويع له 487 هـ وتوفي 512 هـ وله إحدى وأربعون سنة وخلافته 26 سنة ذكره أبوه على المنابر بولاية العهد وعلى السكة ودبر أمر خلافته عميد الدولة وقهرمانة والدة شمس النهار – وكتم أمر موت المقتدي بأمر الله ثلاثة أيام .كان لين الجانب كريم الأخلاق يحب فعل الخير ويسمح بالمال والإحسان والاقطاعات حسن المعاشرة لين الجانب كثير الميل لخواصه حسن الخلق .
وقد أخذ الإفرنج في أيامه بيت المقدس 492 هـ وقتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألف نفس وهزم الأفضل شاهنشاه بعسقلان أقبح هزيمة .
أولاده " أو منصور الفضل المسترشد بالله – أبو عبد الله محمد المقتفي لأمر الله " , وزراؤه " ربيب الدولة – أبو المعالي هبة الله " .
ثم جاء بعده المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله وبويع له 512 هـ وقتل بخراسان 528 هـ فكانت خلافته 17 سنة وقد كان ذا نفس أبية وعزمة قرشية يسمح بالأموال ويخرج بنفسه للقتال وكان أديبا ً شارعا ً ومن شعره :
أقول لشرخ الشباب اصطبر فولى ورد قضاء الوطر
فقلت قنعت بهذا المشيب وإن زال غيم فهذا مطر
فقال المشيك أيبقى الغبار على حجرة ذاب منها الحجر
وقد قامت جماعة من الباطنية بقتل الخليفة بعد أن أرسلهم السلطان سنجر وقد قتلوا جميعا ً وحرقت جثثهم بالنار وحمل المسترشد مقتولا ً ودفن في المراغة 529 هـ وناح عليه الرجال والنساء في بغداد في الطرقات وكان له من العمر 43 سنة . أولاده أبو جعفر منصور الراشد بالله ووزراؤه عضد الدين أبو شجاع عميد الدولة . ثم جاء بعده الراشد بالله أبو جعفر المنصور , بويع له 529 هـ فجلس للمظالم ورد على الناس الأملاك المصادرة فصلحت أحوالهم وأعاد عليهم خطوطهم ووثائقهم ودبر أمره وتولى البيعة له ناصح الدولة وحسن بن الهاروني للخليفة الخروج على السلطان مسعود فخلع الخليفة لكنه جمع عساكره ونزل أربيل وجرد سيفه في بلاد الباطنية فقتل منهم جماعة عظيمة ولكن الباطنية عادت وقتلته على باب أصبهان بعد أن تظاهروا بخدمته فتزين بلباس الخراسانية وقيل قتل مسموما ً ومن شعره :
زمان قد استنت فصال صروفه وذلك أسار الكرام لدى القرعى
أكولته تشكو صروف زمانه وليس لها مأدى وليس لها مرعى
فيا قلب لا تأسف عليه فربما ترى القدم في أكناف آفاقه صرعى
ثم جاء بعده المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن أحمد المستظهر بالله وبويع له 530 هـ وتوفي 550 هـ وكانت خلافته 25 سنة وصحب الأعيان وعرف الزمان كان محبا ً للمال وجمعه قبض على كثير من أهل بطانته جعل قاضيا ً ابن المرخم يتولى عقوبة عماله ووجوه دولته وأخذ أمواله .
قال فيه أحد الشعراء :
سخمي وابك والطمي قد ولّى ابن المرخم
واه على الحكم والقضاء واه على كل مسلم
وارى إلى المقتفي الأمام عن الحق قد عمي
فنكل المقتفي بالشاعر وعذبه ولما مات السلطان مسعود وقتل أتابك زنكي صفت للخليفة الدنيا , وكان اختياره للوزير ابن هبيرة توقيتا ًجيدا ًلعلمه وحنكتهواستخلاصه العراق وجميع أعماله من يد السلجوقية . ومن أولاده يوسف ولي عهده .
ثم جاء بعده المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله بويع له 550 هـ فرد الأموال التي غصبها ابن الرقم من أموال المسلمين إلى أصحابها وسجن قوما ً ينسبون للظلم وأسقط مكوسا ً كانت تأخذ في الطرق وأطلق ضريبة الغنم ببغداد , وقد كان شاعرا ً ومن شعره :
عيرتني بالشيب وهو عار ليتها عيرتني بما هو عار
إن تكن شابت الذوائب مني فالليالي تزينها الأقمار
توفي 566 وهو على أحسن الأحوال على يد مملوكه قايماز برأي طبيبه ابن صفية النصراني بعد أن شفي من مرضين حيث دبر له قايماز شربة مسمومة وأغلق عليه الحمام وكانت خلافته 11 سنة ثم جاء بعده ابنه الحسن بن يوسف المستنجد بالله , بويع له 566 هـ وكانت ولادته 536 واستطاب الناس بيعته وهاجر إلى بغداد لحسن سيرته وعدله حيث أطلق المسجونين وفرق الكثير من الأموال وأمر بإسقاط المكوس والضرائب وخلع على الفقهاء والعلماء والإشراف والغرباء ورد الشريد وأغنى الفقير وأمن الخائف وأنشد الشاعر الحيص بيص :
أقول وقد تولى الأمر خير ولي لم يزل برا ً رقيا ً
وفاض الجود والإحسان حتى حسبناه حنانا ً أو أقيا
بلغنا فوق ما كنا نرجى هنيئا ً يا بني الدنيا هنيا
سألنا الله يرزقنا إماما ً نسر به فأعطانا نبيا
وفتحت مصر في أيامه وأعمالها على يد الملك المنصور أسد الدين , ثم الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد أقام المستضيء بأمر الله في الخلافة 10 سنين وتوفي سنة 575 هـ وأولاده أبو العباس أحمد الناصر لدين الله ولي العهد وأبو منصور هاشم .ثم تولى بعده الأمام الناصر لدين الله أبو العباس أحمدبن المستضيء بالله , بويع له 575 هـ البيعة العامة وأخذ الأمر حقا ًوقوة وفتح البلاد طاعة وعنوة وطبقت دعوته جميع الآفاق وطلعت شمس كلمته باهرة الإشراق .







الباب الأول
الفصل الثاني
أ-الحياة السياسية في العصر العباسي
1-زمانية العصر العباسي :
يمتد العصر العباسي من عام 132هـ وينتهي عام 656هـ وقد قسمه المؤرخون إلى أربعة عصور، تميز بعضها بالقوة ،وتميز البعض الآخر بالضعيف بحيث لم يستطع الخلفاء في نهاية الأمر أن يحموا أنفسهم ، فكان سقوط بغداد واجتياحها من قبل هولاكو ، وانتهاء هذه الخلافة.
2-مكانية العصر العباسي:
بسط العباسيون نفوذهم على مساحة شاسعة من الكرة الأرضية، تضم أجزاء من قارة أسيا وقارة أفريقيا، وتشتمل بلاد فارس والجزيرة العربية وبلاد الشام ، ووادي النيل، وشمال أفريقيا.
وأقاليم الخلافة العباسية بعضها حار،وبعضها معتدل تضم الساحل والجبل والسهل والصحراء بحيث أضحت متكاملة اقتصادياً.
3-المعطى السياسي للخلافة العباسية:
ينتسب العباسيون إلى العباس عم الرسول محمد عليه السلام ذي المكانة العالية، والذي كان يستسقى به عمر بن الخطاب بعد موت الرسول الكريم إذا شحّ المطر، وقد كان هؤلاء العباسيون يؤازرون علي بن أبي طالب- رضي الله عنه – في طلب الخلافة أولا إلاّ أنّهم ما لبثوا أن تنبهوا إلى قيادة الصراع .
جند الأمويين ، ووثقوا العلاقة مع أبي هاشم بن محمد ابن الحنيفة إمّام الشيعة الكسانية من خلال محمد بن عبد الله بن العباس والذي تولى الإمامة لهذه الفرقة بعد موت أبي هاشم، ثم تبع محمداً بن العباس بعد موته أخوه إبراهيم بن عبد الله بن العباس الذي انتصر العباسيون في زمنه على الأمويين بقيادة أبي مسلم الخراساني في معركة الزاب شمال العراق عام 132هـ- 750هـ
4-حكم العباسيين ومعارضوهم:
بعد انتصار العباسيين على الأمويين ، نقلوا مركز الخلافة من دمشق إلى العراق ،وبرز منهم خلفاء أقوياء : ((أبو العباس السّفاح- أبو جعفر المنصور- المهدي- الرشيد – المأمون- المعتصم)) وقويتْ شوكة العناصر الفارسية والتركية في أيامهم وبرزت معارضة لهم من العلويين في الداخل ومن البيزنطيين في الخارج، وأخد العنصر العربي يضمحل ، وتفقد الثقة به كرجل دولة ،، وكثر الاعتماد على العناصر الأعجمية ، ودبّ الضعف في الخلفاء الذين كان منهم (الواثق – المتوكل) ثم ضعف مركز الدولة في بغداد لتنفصل بعض من الإمارات عن الدولة : (الحمدانية في حلب – العقيلية في الموصل – الإمارات العلوية في طرستان 0 الطولونية – الأخشيدية – الفاطمية في مصر والشام – البويهية في فارس).
وتنتهي الخلافة العباسية بخلع هولاكو الخليفة العباسي وشنقه عام 656هـ - 1258م.
كانت معركة الزاب الأعلى أحد روافد دجلة الذي ينصب قرب الموصل نهاية العصر الأموي وبداية عصر جديد، فقد تحطم ملك مروان بن محمد عام (132هـ) وطورد الأمويون في كل مكان، ولم ينج منهم سوى نفر قليل على رأسهم صقر قريش عبد الرحمن الداخل الذي أسس ملكاً جديداً لبني أمية في الأندلس .
وجاء عهد جديد انتقلت فيه عاصمة الخلافة إلى العراق وجعل أبو العباس الهاشمية (مدينة قرب الكوفة) قاعدة انطلاق له حيث أتم تأسيس الدولة وأخضع الثائرين، وفكر في تأسيس عاصمة جديدة كانت محط أنظار المهندسين هي بغداد، وبناها الخليفة أبو جعفر على شكل مستدير قصره في وسطها وقصور الحاشية والوزراء حوله، وقد تميزت هذه الدولة سياسياً بحقبتين :
أولاً- الحقبة الأولى (العراقية).
ثانياً- الحقبة الثانية (المصرية).
أولاً- الحقبة العراقية في بغداد:
امتدت هذه الحقبة 132هـ - 656هـ أي حتى سقوط بغداد بيد التتار وقد قسمها المؤرخون إلى:
آ- فترة القوة والعمل ومدتها 100عام (132هـ - 232هـ) .
ب- فترة استبداد المماليك الأتراك ومدتها 102عام (232هـ- 334هـ) .
ج- فترة استبداد الملوك البويهيين ومدتها 113عام (334هـ - 447هـ) .
د- فترة استبداد الملوك السلاجقة وتمتد حوالي 85عاماً .
هـ- فترة استعادة الخلفاء العباسيين بعض نفوذهم السياسي مع غلبة القادة العسكريين وتمتد (120عاماً)

ثانياً - الحقبة المصرية:
وقد امتد منذ سقوط بغداد (656هـ) حتى عام (922هـ) وذلك بسقوط الحكم المملوكي بيد العثمانيين عام /1516م/ في معركة مرج دابق حيث بدأت فترة جديدة، وقد بنيت في الحقبة المصرية مدينة القاهرة وكانت السلطة في هذه الحقبة اسمية للخلفاء وفعلية للمماليك:
ب-المظهر السياسي والإداري في العصر العباسي
بدا المظهر السياسي والإداري عند العباسين من خلال الدواوين والحجابة والسفارات , والديوان أصلا كلمة فارسية معناها السجل , وأول من أنشأه الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى لتسجيل الجند( ديوان الجند ) وتبعه الأمويون الذين أنشؤوا أيضا ديوان الرسائل والإنشاء وديوان الخاتم والبريد ثم جاء العباسيون وأضافوا لها ديوان الطراز الخاص بلباس الخليفة وأقاموا ديوان العزيز ( المجلس الأعلى للخليفة ) وديوان الجهبذة ( النظر في مصالح أهل الذمة ) وديوان الحجابة . ومن حيث السفارات العربية في هذا العصر فقد ازداد نشاطها حيث أوصل العباسيون سفاراتهم إلى بلاد الفرنجة ( سفارة الرشيد لشارلمان ) ويعد من يقوم بذلك بمثابة وزير الخارجية وقد عرفت السفارات العربية قواعد اللباقة ( البروتوكول ) كمراسيم الاستقبال وأوراق الاعتماد وجواز السفر والحصانة الدبلوماسية .
وقد اهتم العباسيون بالجيش والأسلحة الفردية ( الدروع – الخوذ – الدبابة – رأس الكبش – البرج المتحرك – سلالم الحصار ) ورتبوا الجيوش ووضعوا طرق القتال وشكلوا طلائع الاستطلاع وعرفوا كلمة السر ووضعوا أسطولا ً بحريا للقتال .
ج-المظهر القضائي والتشريعي في العصر العباسي:
تطور القضاء في زمن العباسيين وتجددت سلطات القاضي واختصاصاته في الإقليم واستحدث الرشيد منصب قاضي القضاة بمثابة ( وزير العدل ) وللقاضي مناصب عدة ( النظر في المنازعات المدنية – النظر في الأوقاف – تنصيب الأوصياء – المظالم – الشرطة – بيت المال ) وكان لصاحب المظالم سلطة أعلى من سلطة القضاة في ردع الخصوم ومنع التسلط ومن اختصاصه أيضا مراقبة تعدي الولاة على الرعية والنظر في أجور العمال فيما يجبونه من مال وتصفح أعمال كتاب الدواوين وأعمال رجال الدولة .
أما الحسبة فقد كانت مهمتةبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن اختصاص المحتسب المحافظة على الآداب والنظامومراعاة أحكام الشرع ومراقبة الغش والتدليس والأسواق ومراقبة الأسعار ومخالفة الطرق العامة والأبنية وتعديات الجيران والنظر في أهل الصنائع ومنع أصحاب الدواب من استعمالها في ما لا تطيق .
الباب الأول
الفصل الثالث
الحياة الاجتماعية في البيئة العباسية:
نظراً لامتداد العباسيين في فترة القوة واقتدارهم وسيطرتهم على مقاليد الخلافة، توسعت الحياة وتدفقت الأموال وتوافدت إلى العاصمة عناصر أعجمية طبعت الحياة الاجتماعية بمنهاج تفكير جديد حيث اختلطت العادات و الأعراف الأعجمية مع الأعراف العربية، وقويت شوكة الحركة الشعوبية واهتمت الدولة بالزراعة وشق الأقنية للري وعززت الصناعة، ومال الناس إلى اللهو وشاع الفراغ فتفننوا في المأكل والملبس والمشرب وراحت أسواق الغناء والرقص وشاع التسري، وانتشرت تجارة الرقيق ومال الناس إلى ممارسة هويات مختلفة كالصيد والشطرنج وسباق الخيل، وزاد الاهتمام بالعلماء والأدباء والشعراء والمغنين والموسيقيين فأصبحت مجالس هؤلاء تعج بها بلاطات الخلفاء والأمراء.
ونظراً لاتساع الدولة العباسية ، وكثرة الفتوح وتدفق أموال الخراج والفتح، نشأت مجموعة من الطبقات في العصر العباسي تتمثل في طبقة السادة، وطبقة التجار، وطبقة الموالي، وطبقة العامة ، وطبقة الرقيق والجواري.
وتنوعت مذاهب العيش في هذا العصر بسبب اتساع رقعة الدولة ، وانتشار العلم والأخذ عن الشعوب الأخرى علومها وعاداتها ، فكان مذهب الزهد بزعامة أبي العتاهية ، ومذهب الزندقة بزعامة ابن المقفع والمجون بزعامة أبي نواس ، والتصوف بزعامة السهر وردي.
-النزعة القومية والشعوبية: واحتدام الصراع بين العرب والفرس فقومية العرب يمثلها الأصمعي والجاحظ وابن قتيبة والمتنبي وأبو فراس .... وغيرهم أما قومية الشعوبية يمثلها بشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبو نواس .... وغيرهم .
-النزعةالإقليمية والإنسانية: وذلك من خلال تصوير البخلاء من أهل مرو، ومن خلال تأملات أبي العلاء المعري لإنسانية الإنسان وكتابات الجاحظ .
-الصناعة اللفظية والعمل الذهني :وقد تمثل ذلك بالاهتمام بالشكل تأثراً بالثقافة الفارسية واعتماد الصنعة الزخرفية في الكلام ، ومثل ذلك مسلم بن الوليد ، والاهتمام بالمعنى تأثراً بالثقافة اليونانية كما عند أبي تمام ، والمعادلة بين الشكل والمعنى كما هو عند ابن المقفع والمتنبي .
الاتباع والابتداع في الشكل والوزن بين قديم وحديث وظهور أوزان جديدة وأشكال جديدة للشعر.
-الحركات الاجتماعية في العصر العباسي
1 ـ حركة أخوان الصفا.
قامت هذه الحركة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي، وقد كانت عبارة عن جمعية سرية اتخذت من البصرة مقراً لها، وجاءت تسمية هذه الجمعية من العشرة الصاغية، والصداقة النقية منهم الأصدقاء الأوفياء توادوا وتحابوا وأقبلوا على العلم وتعاونوا فيه. وهي جماعة سرية باطنية مزجت الفلسفة اليونانية والعقيدة الباطنية بالعقيدة الإسلامية في خليط متضارب وبالتالي فهي أول ثمار الحركة الباطنية التي استغلت والتصوف الفلسفي ستاراً لنشر رسائلهم وأفكارهم وكان أول ظهورها في البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري. وقد ألفوا ما يقارب الخمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة عملياً وعلمياً ، وأفردوا لها فهرساً وسموهما رسائل إخوان الصفا التي تعتبر برنامج العمل السري الذي يستهدف القضاء على الإسلام ودولته لتأسيس دولتهم التي تضم شتى العقائد الوثنية والمجوسية والإباحية وكان للمذهب الأفلاطوني الجديد تأثيره البالغ في هذه الرسائل
1-بوحدة الوجود على قول أفلاطون
2-وقالوا إن الإمام إلهي الذات وإنه معصوم بينما لا يرى الإسلام معصوماً سوى الرسول عليه السلام بما عصمه الله تعالى فيه،
3-وأيضاً دعوا إلى وحدة الأديان وإلغاء التعصب الديني
4على أنه لا حاجة للشرائع للخاصةمن الناس
5-ودعوا إلى التملص من الفرائض إلا في حق العامة
6-وقالوا إن العلم له باطن وغير ذلك مما يدل على انحرافهم ، وخروجهم على مفهوم الإسلام الأصيل هدماً للمفاهيم الأساسية للإسلام ، وهدماً للنبوة وحرباً للإسلام ، وطعناً في الصحابة.
ومن أهم أحلام هذه الحركة: محمد بن شيرا البستي وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، ومحمد بن أحمد النهر جودي والعوضي،وزبير بن رفاعة .
وصلنا من أخوان الصفا اثنين وخمسين رسالة من أهم مؤلفيها زيد بن رفاعة ومحمد بن نصر المقدسي وقد جمعت هذه الرسائل شتات العلم وتقسم هذه المسائل من الناحية العلمية إلى أربعة أقسام:
1-الرسائل التعليمية الرياضية وتبحث في العدد والهندسة والنجوم والموسيقا
2-الرسائل النفسانية العقلية وتبحث في مبادئ الموجودات العقلية والعقل والمعقول والبعث والقيامة
3– الرسائل الجسمانية الطبيعية وتبحث في الحركة والزمان والمكان والعالم والسماء والكون
4– الرسائل الشرعية والدينية وتبحث في الآراء والديانات والطريق إلى الله عز وجل وقد استوعبت فلسفتهم المذاهب جميعاً ، فللإنسان العاقل حسب رأيهم حرية اختيار المذهب والرأي الذي يراه ولكنهم لا يسيرون في هذا الرأي بلا حدود بل يذكرون رأي الدهرية التي تقول بقدم العالم وبأنه لا صانع له ، وقد دعوا إلى تفهم جديد للدين أي تفسيره بالفلسفة والعلوم الطبيعية، ورسائل أخوان الصفا لا تنتهج في كتابها منهجاعلمياحيث خلطوا العلم بالسحر والفلك بالتنجيم، ولكنهم كانوا أول من وضع كتاباً بالعربية يحوي بين دفتيه آراء فلسفية في الفيزياء وما وراء الطبيعة وبقية فروع الفلسفة،وهم يعدون من الأوائل الذين فتحوا باب عبثية الفكر على مصرعيه في الإسلام
2 ـ الشعوبية:وأثرها في إقصاء العنصر العربي عن قيادة الدولة العباسية.
الشعوبية إحدى حلقات مسلسل المؤامرة والكيد للإسلام وأهله متسترة أحياناً بحب آل البيت والتشيع لهم، وأحياناً بستار الأدب والفنون، وقد انتظمت في طياتها عدة دعوات هدّامة من بينها الباطنية والقرامطة والزندقة والجهنية . وتهدف في مجموعها إلى إذاعة موجة الإلحاد التي ترمي إلى إنكار الأديان كلها ومن بينها الإسلام، وكان منهاج عملها يقوم على أساس الزندقة الفكرية والانحلال الاجتماعي ومهاجمة القيم الأخلاقية والسخرية بأصول الدين والنظم الاجتماعية ، وإثارة الجدل والشك في تحريم الخمر وغيرها من المحرمات ، وتارة بالهجوم على الثقافة العربية واللغة والأدب والتاريخ والانتقاص من شأن العرب بهدف التشكيك في السواعد التي حملت الإسلام ، ومحاولة إسقاطها ، وإسقاط قواعد الفكر الإسلامي معها ، وتارة أخرى بإعلاء الشخصيات غير العربية في التاريخ الإسلامي سواء من الصحابة أو من غيرهم، واتخاذ حركة الترجمة والنشر وسيلة لإحياء المجوسية ، ونشر كتب المانوية ، والمزدكية ، والزنادقة وكذلك إعلاء شأن الفلسفة اليونانية والعقل الإنساني على الروح الرباني مما أوجد في المجتمع الإسلامي طبقة من المترفين والدعاة لإحياء المجوسية ، مما دعا أئمة السلف الصالح مثل الحسن البصيري وتلميذه محمد بن سيرين إلى مواجهة هؤلاء بقوة، وظهر خالدا وبرنامجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب الإصلاح ، وأيضاً سهل بن سلاقة الأنصاري كما قامت فرق من الحنابلة لنفس الأمر ذلك وكان للمعتزلة كذلك دور كبير في التصدي لفتنة الشعوبية فألفوا في ذلك الكتب وأقاموا المناظرات معهم، وكانت هذه الفتنة أحد العوامل الرئيسية لنشأت علم الكلام لاستخدام هذا العلم في مواجهة الزنادقة. ومن أبرز دعاة الشعوبية : لقد حمل لواء هذه الدعوة كثيرون في مختلف الميادين ومن أبرزهم: أبو النواس حيث دعا الناس إلى الخمر وحث الناس عليها مستتراً بالظرف وبشار بن برد حامل لواء نشر الفساد الخلقي وإشاعة الفسوق بالنساء ، وحماد عجرد، وأخوان الصفا، حيث عارضوا الشويعة الإسلامية بنظام جديد نظموه من خليط من الأفكار القديمة ، مما حدا بهم إلى إنكار البعث وفسروا الآخرة وأحوالها تفسيراً باطنياً ، وابن الراوندي ومحمد بن زكريا الرازي حيث أثاروا الشكوك حول مفهوم الإسلام ، وإنكار الوحي ، وعبيد الله بن ميمون القداح حيث استخدم الباطن كوسيلة لضرب الدين وإنكار المفاهيم الأساسية للإسلام ، وذلك من خلال تفسير القرآن الكريم تفسيراً باطنياً فلسفياً
ومنأبرز سمات الأدب الشعوبي :
1- الإباحية ونشر الانحلال في مجال الشعر
2– انحراف الشعراء في أشعارهم إلى التغزل الفاحش والمنادمة والإغراء بالخمر والحسان ، وكلها عوامل دخيلة على الأدب الإسلامي ، بل هي من مخلفات المجوسية الفارسية بمذاهبها ، والمزدكية والمنانوية، وما زال للشعوبية امتداد في الساحة العربية بين مدعي الثقافة من أدباء ومفكرين يعلون من شأنها ومن شأن دعائمها بالإضافة إلى إحياء تراثها.
3-الزهد :
وهو تيار اجتماعي ظهر بفعل التمايز الطبقي بين الناس يسبب وجود فوارق مادية ساعد على ذلك التدين العاطفي في المجتمعات العربية وكان من أبرز الشعراء الذين مثلوا ذلك أبو العتاهية


4-التصوف:
وهو طريقة في الحياة من حيث المأكل والملبس تعتمد على التقشف ولبس ثوب واحد دون تغييرة لمدة طويلة، والتعبيرعنذلك من خلال الموقف الديني وفلسفة الحياة على أنها مدة قصيرة وفانيةوأدباؤه كثر.

الباب الأول
الفصل الرابع
الحياة الاقتصادية
المظهر الاقتصادي والمالي في العصر العباسي
ازدادت أهمية الاقتصاد في هذا العصر عما كانت عليه بسبب اتساع رقعة الدولة،1-الزراعة:ففي مجال الزراعة نجد ازدهارا كبيرا ً حيث كثرت كتب الزراعة والنبات وبرز علماء طوروا الزراعة كابن البيطار وأبي حنيفة الدينوري صاحب كتاب النبات , واستعمل العرب الأسمدة وأدخلوا فن التلقيح فيها وعرفوا تطعيم الأشجار واستخرجوا أصنافا جديدة وأدخلوا إلى أوروبا زراعة الأرز وقصب السكر والزيتون والمشمش واعتنى العباسيون بمشروعات الري وأنشؤوا ( ديوان الماء ) في خراسان وشقوا الأبنية والترع وبنوا السدود واستخدموا الدولاب والناعورة والشادوف وأعادوا لسواد العراق خصبه ونماءه وأهم المحصولات التي زرعوها ( الشعير – القمح – الأرز – التمور – السمسم – القطن – قصب السكر – الأزهار – الرياحين – الزيتون – الأشجار المثمرة ) .
2-الصناعة :وفي مجال الصناعة فقد تقدمت صناعة الأسلحة وازدهرت صناعة الأثاث والرياش والنسيج بأنواعه ( الحرير – القطن – الصوف – الكتان ) والبسط والسجاد والخيام والسفن والخزف والزجاج وضرب النقود والأوسمة والفسيفساء والساعات وأدوات الجراحة الطبية والأدوية واستخراج الكحول والصابون والورق والجلود
3-التجارة : وفي مجال التجارة فقد اتسعت البلاد وتنوعت منتجاتها وتوحد النقد وارتقت الصناعة مما زاد النشاط التجاري بين الأقطار داخلا وخارجا ً وأتقن التجار العرب التجارة علما ً وعملا ً فطافوا الدنيا وكانوا رواد العلم وصار لهم قوافل تجارية بحرية هامة وكبيرة وتعاملوا مع غيرهم بالدراهم الفضية والدنانير والصكوك ( الشيكات ) والسفنجة ( الكمبيالا ) وحاربوا الربا ومن المواد التجارية التي تاجروا فيها ( الذهب- القصدير – الخزف – الأحجار الكريمة – التوابل – الزيوت العطرية – القطن – الكتان – الصوف – الحرير – البسط – خشب الأبنوس – الجلود – الفراء ) . ومن أشهر المراكز التجارية ( دمشق وحلب بغداد – البصرة - مصر – الأندلس – المغرب العربي – فارس – خراسان – القاهرة – الإسكندرية – طرابلس – القيروان – طليطلة – غرناطة – بخارى – سمرقند ) .



الباب الأول
الفصل الخامس
الحياة الفكرية
المظهر الفكري عند العرب في العصر العباسي
عرف العصر العباسي تطورا فكريا ً متميزيا ً تمثل في اختلاط العرب بغيرهم من الأمم الأخرى كالفرس والهنود واليونان وتطورت حركة التعريب والترجمة ونقل ما لدى الشعوب الأخرى من أعمال فكرية وأدبية وفلسفية ودينية ؛ فقد اهتم أبو جعفر المنصور بالحركة الفكرية ، فاستقدم العلماء إلى عاصمته وأرسل في طلب الكتب العلمية ونقل الطبيب ابن البطريق بعض الكتب ورعى هارون الرشيد ( بيت الحكمة ) في بغداد وحلب إليها الكتب الكثيرة وبلغت الحركة الفكرية أوجها في عهد المأمون وحشد لها علماء أجلاء وكان يكافئ المعربين على عملهم بمثل وزن الكتب المعربة ذهبا ً، وأرسل موفديه في طلب الكتب اليونانية واتصل بالإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث لتسهيل مهمة موفديه وشهد العصر العباسي ازدهارا كبيرا في إنشاء المكتبات العامة والخاصة الملحقة بالمدارس والمساجد وقد ضخت هذه المكتبات نفائس الكتب العلمية والأدبية والدينية وفي المجال الأدبي فقد ظهر عباقرة الشعراء والنثر العربي وفي علوم التاريخ والجغرافية والفلسفة ومن أشهر الفلاسفة ( الكندي – الفارابي ) . أما في علوم الطب فقد ازدهر بفضل مركز ( جند بيسابور ) وبعض الأطباء السريان وبفضل حركة التعريب والترجمة وشجع العباسيون دراسة الطب وفتحوا المستشفيات والحقوا بها الصيدليات وتطور الطب في هذا العصر من خلال التخصص والتشخيص والعلاج الوقائي والاهتمام بالطب النفسي والعصبي والأمراض السارية والتشريح والجراحة كما واخترعوا الأدوات الجراحية المتنوعة واستعملوا المخدر في العمليات الجراحية واكتشفوا الدورة الدموية الصغرى والكبرى ومن أشهر الأطباء ( ابن النفيس – ابن سينا ).ومن أشهر الكتب الطبية ( الأرجوزة في الطب ) ( كتاب القانون ) .
وكذلك أدى التبدل السياسي في الحكم، والاعتماد على العناصر غير العربية إلى التطلع إلى حياة أكثر جدة وأعمق فكراً، خاصة وأن الخلفاء شجعوا أصحاب الثقافة على النقل والترجمة عن الهندية، والفارسية ، و السريانية ، كما أنه نقلت العلوم من مكانها ونقلت الآداب والفنون وطرق الجيش.
الباب الأول
الفصل السادس
الحياة الدينية
تجذر الإسلام في حياة الناس وأصبح القرآن الكريم المصدر الثر للأحكام الحياتية والدينية ، وإن حاول الكثير من الأدباء والشعراء والمفكرين من غير العري حرف مسيرته بإدخال الأفكارالمانوية والمزدكية والأفلوطنية في تعاليم الدين الإسلامي وبرزت تيارات متعددة على رأسها الفكر الاعتزالي ، وقد كان الفكر الاعتزالي من أهم التيارات الجارفة في العصر العباسي حتى إن المأمون اعتنق هذا المذهب رسيماً وشايعه على ذلك المعتصم والواثق، وتفرعت المعتزلة إلى فرق أهمها (البشرية) نسبة إلى بشر بن المعتر الهلالي، و(الثمامية) نسبة إلى ثمامة بن أشرس، والهذبية نسبة إلى أبي الهذيل العلاّف و(النطاعية) نسبة إلى أبي اسحق النظّام، و(الجاحظية) نسبة إلى أبي عثمان عمرو الجاحظ.
وكانت البصرة المرتع الخصيب للاتجاه الاعتزالي والتي كانت قد احتضنت الجاحظ فكراً وأدباً وشخصيته إذ أنها مركز حساس يصل إيران بالعراق والجزيرة العربية بالشام أيضاً، وبقي الفكر السني على مسيرته التي خطها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
الفصل السابع
الحياة والأدبية
حاول الخلفاء العباسيون بناء دولتهم على غرار بناء الدولة الفارسية فاهتموا بالأدباء والشعراء لما لهم من أثر كبير في بناء الدولة وتقدم سيرها وفتحوا أمام أرباب العقول والمذاهب ورجال الفكر حرياتٍ واسعة وكثر الباحثون والدارسون وأئمة المذاهب الدينية وتم تدوين الحديث وتسجيل اللغة والشعر، وكثر المترجمون عن اليونانية والسريانية، ونشأت فلسفات حياتية ودينية وزهدية انطلقت من مزج الدين بالفلسفة أحياناً، وتسلح العلماءوالأدباء بالجدل والمنطق، وتميزت الحياة الأدبية بالغنى والتنوع والاتساع وغلبت عليه الحرية واتكامل شعرا ونثرا وأصبح لأدب العباسيين خصائص متميزة
-خصائص أدب البيئة العباسية:
ومن خصائص أدب البيئة العباسية:
أن الأدب العباسي صورة حقيقية عن البيئة العباسية وقد امتاز هذا الأدب بمجموعة من الخصائص تمثلت في:
1-العلمية
2- والسماح بحرية الفكر : وقد مثل ذلك المعتزلة وأخوان الصفا .
3-الواقعية والاجتماعية: وذلك من خلال ما صوره لنا ابن المقفع والجاحظ في كتابيهما (الأدب الكبير والأدب الصغير – النجلاء ) . وكذلك الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي.
4-التجديد والمحافظة: وذلك بانقسام الأدباء إلى قسمين ، قسم مقلد يحافظ على السلوك الأدبي الموروث (كالأصمعي – البحتري – أبي فراس )وقسم يمثلالتجديد : (ابن المقفع – الجاحظ – أبي نواس – أبي تمام ) .
5-الالتزام السياسي والمذهبي والمعاناة الفردية : وقد تمثل ذلك في صراع العباسيين مع العلويين ، وانقسام الشعراء إلى موالٍ للعباسيين كمروان بن أبي حفصة والبحتري، وموالٍ للعلويين كدعبل الخزاعي وابن الرومي والسيد الحميري وكذلك
6-وجود صراعات سياسية قومية عبّر عنها المتنبي وأبو فراس.
7-الحسية والغنائية : وقد تمثلت بتصوير الشعراء للمحسوسات والمرئيات كالغزل الحسي عند بشار ، وتصوير ابن الرومي للخبّاز وصاحب الزلابيا والحمال الأعمى ، وتمثل الاندفاع نحو الغنائية باستلهام الوجدان الفردي ، والعزوبي .




الباب الثاني
التغيرات التي طرأت على الأدب العباسي
الباب الثاني
الفصل الأول
التغيرات الجمالية الفنية في الأدب في العصر العباسي
شهد العصر العباسي تغيرات فنية في الأدب مستفيدة من التجارب الفنية في العصر الجاهلي والإسلامي والأموي من خلال التغيرات السياسية والاجتماعية
والواقع إن التغير السياسي يحدث فجأة ويأخذ شكل الطفرة ، وليس معنى التغير السياسي المفاجئ تغييرا مفاجئا أيضا في الإبداع الفني ، وإنما يحدث التغيير الفني في نطاق التطور الذي يأخذ بعض الوقت مهما كانت سرعته ، لقد حدثت النقلة السياسة من الأموية إلى العباسية فجائية ، وأما النقلة الفنية في ميدان الشعر والحضارة فقد اتخذت عدة مراحل .
إن التغير السياسي – لطابع السرعة فيه – قد يصادف تألقا سريعا ، وليس الأمر كذلك في النتاج الأدبي الذي يحتاج إلى فترة تحول ثم نضوج ثم تألق ، ومن ثم فقد تخبو الجذوة السياسية وتتألق الجذوة الأدبية والفنية ، إن ابن الرومي وابن المعتز وأضرابهما ظهروا في بداية فترة الانهيار السياسي للدولة العباسية ، والمتنبي ظهر مع سقوط بغداد تحت سنابك خيل الديلم وعاش في عهد تمزق الدولة العباسية شر ممزق وأخذ يتنقل من إمارة الحمدانيين في حلب إلى إمارة الإخشيديين في مضر إلى إمارات الديلميين من بني بوية في العراق والعراق العجمي ، وكذلك كان أبو العلاء المعري .
وليس الأمر في هذا الموضوع مقصورا على الشعر وحده ، فالنثر الفني لم يتألق إلا في عهد ما يسمى بالدول المنقطعة التي هي حصاد هشيم الانحلال والتحلل الذي أصاب الدولة العباسية الكبرى ، فالكاتبان الوحيدان اللذان عاشا في عهد بني أمية هما عبد الحميد الكاتب وعبد الله بن المقفع ، ثم قتل عبد الحميد مع مروان بن محمد آخر ملوك بني مروان وبقي ابن المقفع بعض الوقت في عهد العباسيين إلى إن لقي مصرعه ، وتصل الدولة العباسية إلى أوج عظمتها في عهد الرشيد ولا نستطيع أن نقول : إن الكتابة العربية أو النثر كانت آنذاك في مرتبة عليا من الإجادة ، وإنما بلغ النثر أرقي منزلة له بعد تفتت الدولة العباسية ، وبعد احتلال بغداد من قبل بني بويه ، بدأنا نسمع عن ابن العميد والصاحب بن عباد والوزير المهلبي وأبي إسحق الصابي وأبي بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمداني وأبي حيان التوحيدي وأبي الفتح كشاجم وأبي الفرج الببغاء أعلام النثر العربي الذي لم ينتج عصر من عصور الأدب اللاحقة فنا مثل فنهم أو عددا مثل عددهم .
وإذن: فليس معنى سقوط دولة بني أمية وقيام دولة بني العباس إن يتحول شعر الشعراء بين يوم وليلة إلى لون أخر وفن أخر يسمى اللون العباسي أو الفن الهاشمي ، فإن للسياسة أن تغير نفسها في إي وقت تشاء ، وأما الشعر فهو كالكائن الحي الذي لا ينتقل من مرحلة الطفولة إلى دور الشباب مرة واحدة بل يأخذ مراحل متتابعة متدرجة . فالأدب شعره ونثره تتقدم به الأيام ، ويظل بعضه ناظرا إلى الماضي مستمسكا بعاداته وتقاليده ، والبعض الآخر يأخذ من بيئات الماضي بعض سماتها ويأخذ من البيئة الحاضرة قدرا قد يكون مساويا لما أخذه من بيئته الماضية ، وبعض ثالث يكون تأثره بالبيئة الجديدة أكثر من سابقته ، فيطور نفسه معها ، ولكن بحكم سنة الطبيعة تظل أعماقه مرتبطة ببيئته القديمة يحن إليها وتهفو نفسه إلى أثارها ، وأما النقلة الأدبية المفاجئة فهي مستحلية الحدوث لأنها ضد طبيعة الأشياء ، ومن ثم فإننا حين نتحدث عن الشعر العربي الذي عاش في فترتي بني أمية وبني العباس فإننا نجده يحبو نحو التداخل المنظم ، ويسير سيرا بين الوئيد والنشط لكي يلتحق بالمجتمع الجديد ، يتطور شيئا فشيئا حتى يكون هو ومنشؤة المنطلق الذي منه يقفز الشعراء الذين ولدوا في الدولة الجديدة قفزات تدفع بأكثرهم إلى الأمام وأحيانا ترتد ببعض منهم إلى الوراء .
وانطلاقا من هذا القول يكون شعر مخضرمي الدولتين يسير على مراحل ثلاث : 1-مرحلة المحافظين المتمسكين بالأرضية الفنية الأموية ،
2-مرحلة تقف بجسمها على (( الأموية )) وتطل برأسها على ((العباسية
3- ومرحلة تقف بنصفها على ((الأموية )) وتضع نصفها الآخر في العباسية .
1-المرحلة الأولى: المحافظة التي امتازت بنقاء الأسلوب وإشراقه جزالة القول وفحولته الأحمير السعدي الذي عاش أكثر حياته في الصحراء وفي الخلوات قاطع طريق ، إذا ما خلا لنفسه رجعت الصحراء أصداء شعره ، ورددت الفيافي رجع قصيدة ، وتلقي الوحش من وديع ومفترس عربون صداقته له في قوله
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير
ومن جملة أبناء هذه المرحلة السائب بن فروخ الذي اشتهر باسم أبي العباس الأعمى ، وكان ذا ولاء فريد لبني أمية مدحهم في أيام ملكهم وبكاهم بعد اندثار دولتهم ، وهجا أعداءهم من بني الزبير وإن لم يجرؤ على هجاء بني العباس ، كما عرض لبعض كبار شعراء زمانه هاجيا مثل البعيث المجاشعي وعمر بن أبي ربيعة ، وأبو العباس في أسلوبه ومعانيه من الفحولة والصفاء والبعد عن أسلوب الحضر بحيث يعتقد أنه أصر على إن يظل مقيما في العصر الأموي رغم مجيء عصر أخر هو عصر بني العباس ، يتنفس أنسامهم ويعيش في ذكرياتهم ويترحم على أيامهم ، وهو بذلك يصر على ((الأموية)) إصرارا عنيدا لم تنفع معه محاولات الملك العباسي أبي جعفر المنصور .على إن أشهر أبناء هذه المرحلة ذكرا وأنبههم شانا هو الشاعر الراجز ابن ميادة الذي كانت المحافظة طابعا له وميزه ظاهرة فيه ، لقد التزم (( الأموية )) التزاما كاملا ، وأحيا تقاليدها وحافظ على معالم تراثها بخبرة وشره ، فمن ناحية أخيرة التزم العفة في الغزل الذي برع فيه براعة سابقيه من زعماء مدرسته ، والتزم الأصالة في المديح مقتفيا آثار سابقيه من الشعراء الفحول أسلوبا و دربا ، بحيث يمكن أن نلحقه في كل من فني الغزل والمديح بمدرسته جرير ونعتبره امتدادا لها ، وإن إصرارا ما على الهجاء والنقائض يمكن ملاحظته في يسر عند ابن ميادة ، وكأنما قد شق عليه أن تموت ظاهرة فنية شعرية (( أموية )) حتى ولو كانت هذه الظاهرة جديرة بالزوال .
وقد نستطيع إن نضيف إلى هذه القافلة المحافظة من قافلة الشعراء المخضرمين المحافظين محمد بن ذؤيب المعروف باسم العماني الذي مدح الأمويين والعباسيين على حد سواء ابتداء من مروان بن محمد المرواني حتى الرشيد العباسي ، وكان يجمع بين قول الرجز والقصيدة إلا أنه كان بدوي الطبع في كليهما مع صعوبة وإغراب ومن شعراء هذه المرحلة أيضا الحكم الخضري إلا أنه لسوء الحظ لم يصل إلى أسماعنا من أخباره إلا القليل ، غير أنه من خلال معاركة مع ابن ميادة ومن خلال النماذج الشعرية التي قالها في هذا السبيل يمكن أن نضمه بغير ما تردد إلى مدرسة هذه المرحلة المخضرمة المحافظة التي حافظت على الوجه (( الأموي )) للشعر ورفضت في إصرار الانتقال من جو الفحولة والجزالة والإشراق والنقاء والتزام عمود الشعر إلى مرحلة تالية فيها شيء من التطور أو التجدد
2-المرحلة التالية: في شعر مخضومي الدولتين هي تلك التي وقفت على الأرض الأموية بنصف منها وأطلت على الأرض العباسية – فنيا – بنصفها الآخر ، ذلك إن شعراءها حافظوا على أصالة الجو الأموي للقصيدة قدر استطاعتهم ، ولكنهم راضوا أنفسهم على شيء من التطور في غير ما إسراف أو تسرع ، وظلوا يلتفتون إلى الماضي بين الحين والحين حتى لا تغيب عنهم صورته فيفقد شعرهم سماته التي لا يرضون عنها بديلا من إشراق ونضرة ونقاء وجزالة والتزام لعمود الشعر ، والذين يمثلون هذه المرحلة المتوسطة شعراء كثيرو العدد ، قد يختلفون مشربا ويتباينون في الشعر مذهبا ، ولكن كلا منهم خطا إلى الأمام خطوة أو خطوتين ووضع نفسه على دولاب التطور حتى يتحرك به دورة أو بعض دورة . منهم من أغرق نفسه في السياسة إغراقا كاملا مثل سديف وأبي عدي العبلي وأبي نخلية الراجز ، فسديف حمل على بني أمية في أيام ملكهم وكان يؤلب الناس عليهم ، وحين تقوم الدولة العباسية وتبقي على بعض الأمويين يسارع إلى استخدام شعره في القضاء عليهم واستئصال شأفتهم ويقول للسفاح في مواجهتهم :
لا يغرنك ما ترى من رجال إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أمويا
وسديف في نطاق عيشه فنيا في مرحلته يلاحق الأحداث السياسية وينقلب من عباسي الهوى إلى حسني العقيدة ، ويدعو لمحمد بن عبد الله بن الحسن ، وأما في ميدان الغزل فهو يجمع بين رقة غزل البادية وتأنق غزل الحضارة .
وقريب من سديف أبو عدي العبلي الأمير الأموي الذي يكره بني أمية ويشايع بني علي ، فيغضب قومه ويرضى بني الحسن ويؤيدهم ويعمل واليا لهم على جنوب الحجاز ، وهو على أمويته ينجو من محنة الإبادة التي قام بها السفاح ، وهو شاعر متدفق ثر هطال كالغيب ولكن تطوره كان وئيدا ، فهو وإن لم يغير أسلوبه البياني الأموي إلا أنه فتح موضوعا جديدا هو رثاء الدول ، فرثى دولة قومه رثاء جعل محمد بن عبد الله بن الحسن يبكي عليهم رغم ما الحقوا بأهله من عذاب واضطهاد ، والعبلي في تقديرنا خير الشعراء من أبناء بني أمية مقدرة على الشعر.
ومن هذه الفئة السياسية نفسها أبو نخلية الراجز الذي مثل عند العباسيين دور مسكين الدرامي عند الأمويين ، فإذا كان مسكين هو الذي أثار في بلاط معاوية أخذ ولاية العهد ليزيد دون بقية رؤؤس بني أمية ، فان أبا نخلية هو الذي أثار أخذ ولاية العهد في بلاط المنصور لابنه المهدي وكان الأمر ثابتا لعيسى بن موسى ، ولكن في حالة مسكين استطاع معاوية إن يحميه ، أما أبو نخلية فقد دفع حياته ثمنا لأرجوزته التي دعا فيها إلى تحويل ولاية العهد إلى المهدي .
ولكن شكل التحول الفني عند أبي نخلية ينحصر في تطوير الأرجوزة وتمهيد الطريق أمامها بحيث جعلها تسير على نسق قصيدة المديح خطوة خطوة من وقوف على الطلل ونسيب ورحلة إلى الممدوح مع التخفيف من أعباء الألفاظ الوحشية التي تعتبر لازمه من لوازم الرجز . ومن هنا تكون خطورة الخطوة التي خطاها أبو نخلية إلى الأمام في ميدان يستعصي التحول عن إطاره بحيث فرض نفسه أستاذا لكبار الشعراء الذين حاولوا قول الرجز في نطاق تمدنهم مثل الوليد بن يزيد وبشار وأبي نواس
ومن شعراء هذه المرحلة الوسطى الذين يطلعون على العصر العباسي وأقدامهم ثابتة على الأرض الأموية شاعر كبير حالت كثرة أخباره الفكهة دون تسنم مكانته الحقيقية في دنيا الشعر ومحاولاته الابتداعية فيه ، إنه أبو حية النميري ، نفسه في الشعر طيب ، وغنائيته صادقة الحب ، شفافة الحس ، مهتاجة الوجد ، وهو رقيق حواشي الشعر رائع الغزل اكتملت له تماما أسباب رسم الصورة الشعرية وهو أبرع من وصف حديث المرأة ، ومن أبرع من وصفوا الشيب
هذا وهناك شاعر مرقرق عرف في أوساط الدارسين بأنه شاعر عباسي ، بل شاعر المهدي والرشيد ، يصنف في المرحلة الوسطى ، إنه الشاعر الشهير مروان بن أبي حفصة ، فهو نجدي من اليمامة واشتهر بمدح معن بن زائدة الشيباني ورثائه وحاول أن يمدح الملوك العباسيين فلم يوسعوا له صدرهم ولم يفسحوا له في بلاطهم أول الأمر لإفراطه في مدح معن ثم إفراطه في البكاء عليه ، حتى ظنوا أنه لم يعد في كنانته من جديد القول ما يتلاءم مع مكانتهم التي هي بطبيعته الحال أرفع من مكانة عاملهم معن بن زائدة ، فكان على مروان إن يطور نفسه ، ولعله حاول ذلك في نطاق المعاني الجديدة فلم يستطع ، فحاول في نطاق الموضوع فأفلح معهم ، لأنه طرق بابهم من ناحية (( أحقيتهم )) بالخلافة والملك ، وفي الوقت نفسه عمد إلى غمز آل علي والتطاول عليهم ، فكان أن أصبح أقرب شاعر إلى قلوب بني العباس وأكثر الشعراء نوالا من عطائهم ، وأما من ناحية الأسلوب فقد لزم مروان طريقا وسطا بعيدا عن الصحراوية في جزالة ، قريبا إلى الحضرية في غير ما تهافت عليها ، فكان واحدا من أبناء هذه المدرسة التي تمثل المرحلة الوسطى بين فئة المرحلة الأولى الغارقة في الأموية وفئة المرحلة الثالثة المنطلقة إلى شأو بعيد من الحضرية والتحرر من بعض السمات التقليدية التي لم تعد في نظرها – جزئيا – متمشية مع طبيعة الحياة الاجتماعية التي تغير وجهها تماما على أيام دولة بني العباس .
3- المرحلة الثالثة: من مراحل شعر المخضرمين فهي مرحلة التطور والخلق والإبداع ، ولكن في ظل إطار التقليدية ، فشاعر هذه المرحلة الذي وطد دعائم التجديد وهيا سبيله لكل القادمين من بعده ، كان لا يزال ينظر إلى الماضي بعين وينطلق إلى المستقبل بعين أخرى فآدم بن عبد العزيز والحسن بن مطير وإبراهيم بن هرمة وبشار بن برد وهم رؤوس التجديد الحقيقي في الشعر العربي كانوا دائما يتمسكون بشخصيتهم الفنية (( الأموية )) على الرغم من انطلاقاتهم التجديدية أو الإبداعية ، فهم إذا مدحوا – والمديح خلال العصور الأموية والعباسية هو محك مقدرة الشاعر – كانوا يلتزمون السمة الأموية ، وكذلك الحال في الرثاء ، حتى إن فنانا كإسحق الموصلي كان بفضل مروان بن أبي حفصة على بشار ومروان محافظ كل المحافظة وبشار منطلق في بعض شعره كل الانطلاق ، ولكن مهما نظر شعراء هذه المرحلة إلى الخلف فإن كل واحد منهم قد خطا في ميدان التجديد والخلق والإبداع بقدر ما ، وإن اختلف من حيث الشكل أو تباين من حيث الموضوع .
فآدم بن عبد العزيز يقف على إيوان كسرى ويرثي مجد حضارة زائلة ، وهو في هذا يمثل الحلقة الثالثة لترتيب المراحل المتتابعة الثلاث لشعر المخضرمين وشعرائهم ، إن أبا العباس الأعمى من شعراء المرحلة الأولى يبكي ذهاب بني أمية ولا يتنكر لهم حتى في مواجهة الملك العباسي المنصور ، ثم يجيء أبو عدي العبلي ويمثل الحلقة الثانية بقصيدتين أحداهما همزية والأخرى سينية يرثي بهما بني أمية ودولتهم رثاء يؤثر على واحد من أعدائهم هو محمد بن عبدالله بن الحسن فيبكيه ، ويثير واحدا آخر من أعدائهم هو أبو جعفر المنصور فيطرده من مجلسه ، ثم تجيء الحلقة الثالثة التي تشكل فنا جديدا وإن يكن مبتدئا وهو رثاء الأمم ، ويكون صاحب أبيات الرثاء – وهو سيء لا يدعو إلى الغرابة – آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان ، ومن بعد آدم تكتمل لهذا الموضوع الجديد أسباب ثباته حين يجيء البحتري بعد ذلك مما يناهز قرنا من الزمان ليقول سينيته المشهورة في إيوان كسرى . وبعد ذلك يصبح بكاء الدول فنا أصيلا في الشعر العربي عند شعراء الأندلس .
و الشعراء الثلاثة أبا العباس الأعمى وأبا عدي العبلي وآدم بن عبد العزيز لم يعيشوا في أزمان متعاقبة ، لقد عاشوا جميعا في وقت واحد ، ولكن كان كل واحد منهم يمثل مرحلة من مراحل الكيفية الفنية للشعر ، هذا محافظ ، وذاك متطور ولكن جذور المحافظة تشده إليها بعنف والثالث متطور ولكن إغراء التجديد خطوته إلى الأمام تغلب نظراته إلى الماضي .
ولا يقف الأمر بآدم بن عبد العزيز عند حد معين من التجديد والإبداع وإنما يعمد إلى قول شعر صوفي رقيق يدهشنا لما بينه وبين أبيات رابعة العدوية من شبه بل مشاركة في الألفاظ والمعاني والبحر والروي إلى حد المطابقة ، ومع هذا الشعر الصوفي يقدم لنا آدم نماذج من الشعر الفكه الساخر – يشاركه في ذلك معاصرة أبو دلامة صاحب النوادر الطلية الذي يمكن أن يعتبر القالب الذي احتذاه ابن الرومي بعد ذلك بحوالي قرن من الزمان .
ومن شعراء هذه المرحلة الثالثة الحسين بن مطير الفحل الصوغ الخصب الشاعرية الرائع الموسيقي البارع تخليق المعاني ، الذي أعاد العذرية إلى الغزل فبدأنا من خلال نماذجه الشعرية نرى لونا جديدا في الإلحاح على المذهب الأخلاقي والحرص على إظهار معاني العفة في الحب ، كما بعث شعر الحكمة من جديد بعثا قويا وراسخا ، هذا ما كان منه في ميدان التجديد ، وأما في ميدان الخلق والإبداع فهو من أوائل من وصفوا الروض وأحسنوا الهجوم على المعاني المبتكرة والأساليب الرائقة وجاؤوا باستعارات جديدة وتشبيهات محبوكة وفنون بديعية من تشطير وطباق ومقابلة
ويجيء على رأس هؤلاء جميعا في المرحلة الثالثة شاعران مجيدان في نطاق الفحولة والشموخ من حيث ثبات الأقدام على الأرض الأموية زمانا وفنا ، مبدعان كل الإبداع في نطاق الانتقال بالصورة الشعرية إلى مرحلة فيها جدة فنية ورقة موضوعية ، أن هذين الشاعرين هما إبراهيم بن هرمة وبشار بن برد اللذان يمثلان المعبر الحقيقي العريض الذي عبر عليه الشعر من عصر إلى عصر ومن صورة إلى صورة ، وهو معبر يثري من يمر عليه ويرفد من يعبره بما نما على جنباته من ورود وأزاهير وضعت في أناقة وصفت في افتنان ونسقت في ذوق وحسن ابتكار ، تلك الأزاهير هي الصور الجديدة في الشعر التي جاء بها كل من ابن هرمة وبشار موضوعا وأسلوبا .
إن أبا عمرو الجاحظ وهو ليس بعيد العهد عن القافلة الضخمة من شعراء تلك الفترة يقول : (لم يكن في المولدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة) ، وإن حكما كهذا له خطورته الكبرى لأنه ليس صادرا عن أديب عادي ،
والحق إن لكل من الشاعرين الكبيرين صفات وسمات بعضها مشترك بينهما وبعضها الآخر مختلف متباين ، فهما في نطاق المديح كانا يقفان على الأرض الأموية من حيث بناء القصيدة ، ولكنهما من حيث المعاني أتيا بكل عجيب . لقد ابتدعا ضروب القول وتوليد المعاني التي سار على نهجها جمهرة الشعراء العباسيين بعدهم وفي مجال الهجاء كان ابن هرمة يوجع ولا يفحش ، ويؤلم ولا يتدنى إلى الهاوية الكريهة التي كان يتردى فيها بشار ، ولذلك فقد نجد متعة في قراءة هجاء ابن هرمة ، ولكننا نتقزز ونحن نقرا هجاء بشار اللهم إلا بعض القصائد القليلة التي ضغط فيها على نفسه وراضها على تجنب ذكر العورات وفاحشات الألفاظ وجارحات المعاني .
ومن الناحية السياسية كان ابن هرمة فاطمي الهوى وأما بشار فكان أموي المشرب ، وكلاهما مدح العباسيين لنيل العطاء ، على إن مدائح ابن هرمة في العباسيين أجود من مدائح بشار .
ولقد اصطنع كل من الشاعرين الحكمة فجاءت عذبة رخاء ، واستقرت أبياتهما في أسماع الناس وقلوبهم ينشدونها ويتمثلونها حين تدعو الحاجة إلى حسن التمثيل ، وإن كانت ثروة الحكمة من أقوال بشار أكثر عددا ، ربما لأن نصف ديوان بشار بين أيدينا ، وأما ديوان ابن هرمة الذي قيل أن الصولي قد جمعه فمفقود ، وكل شعره الذي بين أيدينا هو ما وقعت عليه عيوننا في بعض كتب الأدب والطبقات .
وأسهم كل من الشاعرين بنصيب وافر في قول الغزل ، غير أن غزل ابن هرمة غنائي وجداني رفيع في مجمله ، وأما بشار فقد جمع في غزله بين العذب الفاتن الرفيع والغث الساقط الرقيع ،وهو نفسه يعترف بذلك حينما اعترض بعض المتأدبين ولا حظوا تأرجحه بين الجيد الممتاز والرديء الساقط ، فقال مدافعا عن نفسه : إنما الشاعر المطبوع كالبحر ، مرة يرمي صدفة ومرة يقذف جيفه . إن شاعرا مخضرما آخر من شعراء المرحلة الأولى من المخضرمين أجاب نفس الإجابة عندما ووجه بنفس الاعتراض ، إنه ابن ميادة حين دافع عن تباين وجه شعره قوة وضعفا ، قال :إنما الشعر كنبل في خفيرك ترمي به الغرض ، فطالع وواقع ، وعاصد وقاصد فالدفاع واحد عند الشاعرين وإن اختلفت لغة كل منهما اختلاف مابين البصرة بلدة بشار والمدينة بلدة ابن ميادة .
الواقع أن كلا من الشاعرين – بشار وابن هرمة – مزج رقة البداوة وصفاءها ببهجة الحضارة وطراوتها ، فجاء شعرهما في هذا الدرب الذي اختطاه لنفسيهما على سمات من الملاحة استهوت القلوب إليه وحببته إلى الإسماع ، فوعته القلوب ورددته الألسنة ، وشعر بشار في هذا الدرب أكثر رواجا من شعر ابن هرمة الذي لم يفرق نفسه في دنيا الحضر إغراق بشار نفسه فيها ، ومن ثم أيضا كان بمنأى عن السقطات التي تردى فيها بشار وبخاصة الأقوال التي جنحت به إلى الزندقة ، ولكن بشارا من ناحية أخرى قد اختطفت منه بريق الشهرة ، ولذلك قال عنه الحصري إنه أرق المحدثين ديباجة كلام ، وسمي أبا المحدثين لأنه فتق لهم أكمام المعاني ونهج لهم سبيل البديع فاتبعوه.
وهكذا نجد كلمة ((البديع)) تكررت عند كل من الجاحظ والحصري ، فإذا كانت كلمة البديع هنا بمعناها اللغوي وهو (( الجديد)) فقد يكون الأمر صحيحا بالنسبة إلى بشار ، وأما إذا كانت بمعناها الفني أي الصفة البديعية فإن ابن هرمة أقرب إلى هذا الفن من بشار ، بل لقد عمد إليه عمدا من لعب بالألفاظ وإكثار من الجناس والطباق وذهب به الولوع بالتلاعب بالكلمات إلى الحد الذي جعله ينشئ قصيدة من أربعين بيتا كل حروف ألفاظها مهملة.
وفي الحق إن الناقد المنصف لا يستطيع إن يصدر حكما مجملا على إي الشاعرين كان أقرب إلى التطور والتجديد طالما كان ديوان ابن هرمة مفقودا ، ولكنه بقلب راض وضمير مستريح يستطيع أن يضعهما سويا على رأس مدرسة هزت الشعر العربي هزة صحية عنيفة دفعت به إلى كثير من المسالك والدروب فكثرت دوحاته وظلاله وتنوعت رياضه وثماره . وحتى لا تتشعب الدروب على السالك ، فإننا سوف نكتفي – في نطاق مرحلة مخضرمي الدولتين – بدراسة شعر مروان بن أبي حفصة ، وهو من شعراء المرحلة الوسيطة من المخضرمين ، ثم شعراء المرحلة الثالثة وشعرهم ، وهم آدم بن عبد العزيز والحسين بن مطير وإبراهيم بن هرمة وبشار بن برد .

الباب الثاني
الفصل الثاني
التلاقح في الشعرفي العصر العباسي
ازداد التلاقح الشعريفي العصر العباسي عمقا وتنوعا وغنى واتساعا
من خلال أشجع السلمي ، الذي يمدح الرشيد والبرامكة ويسحر الخليفة بميميته المشهورة وبخاصة البيتين التاليين :
وعلى عدوك يا ابن عم محمد رصدان : ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعته وإذا غفا سلت عليه سيوفك الأحلام
ويعيشأشجع عصره ، ويحيا حياة شعراء زمانه من خلاعة وشراب وغزل ومجون ، فيتقميص شخصيتين شاعرتين ، فالشاعر في مواقف الوقار أو التوقر ، إذا لم يكن وقورا بطبعه ، يرى نفسه مدفوعا إلى نسج الديباجة الصافية ، والتزام عمود الشعر ، واصطناع البحور الطويلة ، مع إجادة الوصف والحرص على الإيقاع الموسيقي الجميل ، فكان أن ظهرت مدرسة الديباجة والوصف عند البحتري .
و الشاعرنفسه الذي التزم هذه السمات الشعرية يصطنع الفكرة العميقة في شعره لكي ينال التقدير والاحترام من خاصة النقاد والقارئين ، وفي الوقت نفسهيعمد إلى الصيغة البيانية والصنعة البديعية
و كان هذا التلاقح وذاك الصراع أكثر ظهورا عند علي بن جبلة المشهور بالعكوك ، في اختياره جانب الأوزان القصيرة ينظم فيها قصائد المديح التي جرت العادة إن تصاغ على الأوزان الطويلة الفخمة الجزلة ، ومن العجيب أن قصائده في نطاق هذه المغامرة ذاعت وشاعت وسارت في الآفاق – حسب تعبير ابن المعتز – مسير الشمس والريح ، وحفظها الناس ، ووعاها الخاصة ، ورددها الخلفاء بل غاروا منها ، وكثيرا ما طرده العظماء وحالوا بينه وبين أبوابهم مثلما فعل المأمون وعبدالله بن طاهر بن الحسين حينما أبلغاه متسائلين : ما عسى إن يقول فيهما بعدما قال في أبي دلف العجلي :
إنما الدنيا أبو دلف بين بادية إلى حضره
فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره
إن المديح في مثل هذا الوزن لم يكن مألوفا كثيرا – إذا استثنينا قصيدة أبي نواس : أيها المنتاب – ومع ذلك فقد ذاعت القصيدة على هذا النحو الذي ذكرنا ، كما انتشرت مثيلات لها آخر نظمت على أوزان أقصر من هذا الوزن .
وفي مجال المديح أيضا فترة الصراع والتفاعل يأمل الشاعر أنيأتي بصورة جديدة بعد أن ملت الأسماع كل المعاني التي طرقت في هذا السبيل ، فيعمد العكوك إلى الإسراف في خلع صفات التمجيد على ممدوحه إلى الحد الذي يجعله لا يتحرج من إلباسه بعض صفات الخالق ، فذاع هذا الأسلوب من الإسراف في المديح عند الشعراء المتأخرين وهذا النوع من المدح لا مكاتة له في نفوس الشعراء العرب .
والعكوك أعمى يريد إن يلحق بالمبصرين ويتحداهم ، وربما كان خير مجال لهذا التحدي هو مجال الوصف ، فيتوفر عليه ويصف فرس أبي دلف وصفا ربما لم تنعم بمثله فرس من قبل ، بل إنه يصف المرأة وأجزاء جسمها ، قطعة قطعة ، وقسمه قسمة ، من أعلى الرأس متدرجا إلى أسفل حتى يصل إلى مكان الخلاخيل من قدمها ، غير متحرج ولا خجل ، وهو في ذلك يكثر من التشبيهات التي يتحدى بها المبصرين ، ولا يقف به الأمر في الوصف عند الفرس التي تحسس أعضاءها قبل الوصف ، ولا عند المرأة التي له بها خبرة من منطلق مجانته وبشريته وجرأته على القول غير العفيف ، ولكن الأمر يصل به إلى وصف المعارك الحربية التي خاض غمارها ممدوحوه من القواد وهذا من تخليط الشعراء الذي أشار القرآن الكريم إلي حسن وصف الشعراء بقوله ( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ).
وكأنموذح ثالث لمرحلة التلاقح الشعري نلمس صنوفا من القول ، وأشتاتا من المعاني ، وحصادا من الأساليب عن عوف بن محلم الخزاعي الذي عاش متنقلا بين رأس العين وبغداد وخراسان ، وهو مرافق لطاهر بن الحسين وولده عبدالله من بعده .
وعوف بن ملحم في نطاق التلاقح الشعري يقول شعرا بدوي السمات بسيط الصوغ إذا ما ألح عليه الحنين إلى أهله وهو مغرب بعيد عنهم ، فإذا جنح إلى الوصف كان عليه إن يواكب الزمن ، فيعمد إلى الاستعارات العذبة والصناعة البديعة التي يتحرى فيها المحسنات اللفظية ورقة الجرس وزنه الإيقاع ، وإذا قال في الخمر مجن أشد المجون معنى وتعبيرا ، واستعمل أساليب الحضر البغداديين في وصفها والحديث عنها ، وإذا ما ذهبت السكرة وجاءت الفكرةقال أبياتا اصطنع فيها الحكمة وأخرى ساق من خلالها فخرا يصدق أقله ويكذب أكثره ،
وإذن فقد كانت فترة التلاقح، مسيطرة على خواطرالشعراء ، متحكمة في توجيه ملكاتهم ، فكان الشاعر الواحد يأتي بالعديد من النماذج والصور والأفكار والأساليب ، الأمر الذي انتهى بالشعر العباسي في أزمنة معاصرة لهؤلاء أو تالية لهم إلى التخصص في ألوان بعينها مثل الفكرة الشعرية أو الديباجة الشعرية أو الصورة الشعرية حسبما
وهناك بعض الشعراء الذين عاشوا في العصر العباسي ولكن ظلوا على بداوتهم مقيمين بعيدا عن المدينة مثل ناهض بن ثومة الذي كان يعيش في البادية ويأتي إلى البصرة بين الحين والحين فيأخذ بعض الناس عنه اللغة ، وله نوادر مضحكة مثل تلك التي تحدث للبسطاء الريفيين في كل زمان . وشعر ناهض بدوي خالص بحيث لا يفترق في شيء عن شعر الجاهليين والإسلاميين وأصحاب النقائض ، ولم تكن مرحلة التكامل الشعري مقصورة على الرجال وحدهم , بل اجتذبت المرأة وصهرتها فقالت الشعر في كثير من أغراضه , وإن كانت الغالبة عليه هي الغزل , ولقد كان بين الشاعرات حرائر وقيان , فمن الحرائر عليه بنت المهدي أخت كل هارون الرشيد والمغني إبراهيم بن المهدي , وكان الأول يطرب لغنائها وعزفها , وكان الثاني يأخذ عنها الألحان , ومن الحرائر أيضا – ولكن في غير ما تحرر وانفلات – الفارغة بنت طريف الشيبانية وولادة المهزمية .وأما الجواري الشاعرات فمنهن عريب, وفضل الشاعرة الذكية التي ارتبط اسمها بسعيد بن حميد , وعنان الناطفية صاحبة النوادر والأخبار مع أبي نواس ودعبل والعباس والأحنف وغيرهم
لقد كانت مرحلة التكامل الشعري هذه ذات شأن كبير وأثر خطير في الحركة الشعرية العباسية بحيث أهدت للأدب شعرا متنوع المذاهب مختلف الأغراض متباين الأساليب , وظلت جذوره تمتد وتعمق , وأغصانه تمرع وتورق حتى خلفت واحات مزدهرة متقاربة للشعر العربي , ليس في بغداد وحدها , وإنما امتد أثرها فشمل الأمصار الإسلامية جميعا .
الباب الثاني
الفصل الثالث
شعراءعلى الخارطة الإسلامية
لم تجتذب بغداد على ترفها كل الشعراء المجيدين ، ولكن وفد إليها شعراء كثر من الامبراطورية الإسلامية ، فمن الجزيرة وفد عليها مروان بن أبي حفصة والحسين بن مطير وإبراهيم بن هرمة ،
ومن العراق وفد عليها مسلم بن الوليد وأبو نواس ودغبل الخزاعي وأبو الشيص وسلم بن عمرو المعروف بالخاسر ووالبة بن الحباب والحسين بن الضحاك وأشجع السلمي وغيرهم ، و بشار بن برد وأبو دلامة والحمادون الثلاثة : حماد عجرد وحماد بن الزبرقان وحماد الراوية ، وصالح بن عبد القدوس وأبو الشمقمق وغيرهم .
ومن الشام والجزيرة وفد أبو تمام والبحتري والعتابي وتلميذه منصور النمري وأبي يعقوب الخريمي وعوف بن ملحم الخزاعي ، وكان ربيعة الرقي يستدعي من موطنه الرقة ليمدح أو لتسمع جواري القصر إنشاده ويعود إلى موطنه.
ولا نكاد نقع بين الشعراء الكبار من البغداديين إلا على عدد قليل جدا مثل علي بن جبلة (( العكوك )) ، وعلي بن الجهم ، وعلي بن العباس (( ابن الرومي )) وعبد الله بن المعتز .
ولمتستهو بغداد كل شعراء الزمان ، فقلد ظل بالبصرة والكوفة عدد من الشعراء الكبار ، ولقد ظل ببلاد الشام عدد آخر من الشعراء آثروا الإقامة في بلدهم لم يبرحوها وفضلوها على بغداد .
وقد حجب الشهرة عن كثير من هؤلاء عدم قدومهم لبغداد ، وإن عبقرية بعض هؤلاء الشعراء قد فرضت نفسها على بغداد ، فسعت بغداد بأبنائها إليهم كما هو الحال بمحمد بن يسير في البصرة ، وديك الجن في حمص الذي سعي إليه وشهد له كل من دعبل وأبي نواس دون إن يهم بترك حمص. بل إن بغداد كانت تفرض نفسها على ربيعة الرقي الأعمى الذي كان يستدعي إلى بغداد فلا يطيق البقاء فيها طويلا.
وهجر بعض الشعراء الكبار العظام ببغداد كمسلم بن الوليد ، وهذا أبو تمام يتركها ويعمل على بريد الموصل فيموت فيها ، وهذا علي بن الجهم البغدادي الولد يضيق ببغداد و ((بمتوكلها)) فيهجرها إلى خراسان ، فيغادرها إلى حلب ، ومن حلب يخرج للغزاة فيخرج عليه وعلى جماعته لصوص من بني كلب ، فيقتتل الفريقان ويجرح علي جراحا مميتة قضت عليه فلما نزعت ثيابه وجدت فيها رقعة وقد كتب فيها هذين البيتين الجليلين :
وارحمتا للغريب في البلد النازح مـاذا بـنفسـه قد صنعـا
فارق أحبابه فما انتفعوا بالعيش من بعده ولا انتفعا
وهذا أبو عبادة البحتري يقول لابنه : هيا بنا يا ولدي .....، ويصطحب ولده ويتجهان إلى مسقط رأسه منبج غير بعيد عن حلب ،فلا يقر به المقام فيها طويلا حتى يلقي منيته .
لم تكن مدينة كل الشعر ولا مقر كل الشعراء . لقد وجد من الشعراء من فضلوا الإقامة في بلادهم على الإقامة في بغداد ففي الكوفة ، على سبيل المثال عاش محمد بن عبد الله بن كناسة الأسدي الشاعر المتدين المحدث ذي الشمائل . روى عنه عدد كبير من المحدثين في جملتهم سفيان الثوريومن عذب شعره قوله:
فيّ انقباض وحشمة فإذا صادفت أهل الوفـاء والـكرم
أرسلت نفسي عـلى سجيتها وقلت ما شئت غير محتشم
ومن شعره حيث رقت حالة بعد يسر قوله :
ضعفت عن الإخوان حتى جفوتهم على غير زهد في الإخاء ولا الود
ولكن أيامي تخرمن منتي فما أبلغ الحاجات إلا على جهد
ولقد كان ابن كناسة محبا للكوفة مغرما بالإقامة فيها ، وله فيها شعر رقيق
في محل الخيام في النجف المعرض فوق الجنان والأنهار
فالرحى فالسدير فالحيرة البيضاء ذات الحصون والأحبار
فالمخلبات الفراتيـات تهدي لها الشمال الصحاري
فالفرات المغير يحني على الكوفة ذات الربـا وذات القـرار
والحق إن لابن كناسة شعرا كثيرا جميلا أكثره في الثناء على الكوفة والنجف وفي الموضوعات التي تتصل بالجوانب الإنسانية الرفيعة في حياة الناس .
واتسم شعرأبي فرعون الساسي بالفكاهة وخفة الروح كوصف منزلة وعلامات الفقر الكامنة فيه :
ليس إغلاقي لبـابي إن لي فيـه مـا أخشى عـليه السرقـا
إنما أغلقه كي لا يـرى سوء حالي من يجوب الطرقا
منزل أوطنه الفقر فلو دخل السارق فيـه سرقا
لا تراني كاذبا في وصفه لو تراه قلت لي : قد صدقا
و أكثر الشعراء الذين وفدوا على البصرة من الأرباض أو البوادي القريبة منها وفضلوا الإقامة فيها كانوا من الأعراب ، وشعرهم يعود بنا إلى أيام نقائض الفحول ، ويمثل هذا الفريق من الشعراء ناهض بن ثومة.
وهناك شعراء في شعرهم سماحة الصحراء حين ترق ، ويسر البداوة حين تصفو ، فمن هؤلاء أبو البيداء الرياحي فقد كان بدويا وأقام بالبصرة أكثر عمره .
ولأبي البيداء شعر ساذج كثير ، فلما مات رثاه أبو نواس بمرثية قافية هازلة .
ومن شعراء البصرة الذين فضلوها على بغداد لبداوتهم أبو فرعون الساسي التيمي وكان يسأل الناس وشعره لطيف ، ومنهم أيضا معبد بن طوق العنبري وكان شاعرا مجيدا . على أن معبدا رغم بداوته تلك كان متدينا زاهدا في الحياة ، وقد اتسم شعره بهذه الظاهرة فمن ذلك قوله:
تلقي الفتى المنية هاربا منها وقد حدقت به لا يشعر
نصبت حبائلها له من حولـه فإذا أتاه يومه لا يـنظر
إن امرءا أمسى أبوه وأمه تحت التراب لحقـه يتفكر
حسناتها محسوبة قد أحصيت والسيئات ، فأي ذلك أكثر
ومن الشعراء الذين رفضوا الإقامة في بغدادوأقاموا في الشام ، ديك الجن و البطين بن أمية البجلي و محمد بن يزيد الحصني المسلمي الذي يمثل أخلاق البداوة مع عزة أبناء الملوك في شعره وسلوكه ،
وفي حلبعاش شاعر عباسي المنتمى والنسب هو محمد بن علي بن صالح الذي عرف بالحماحمي ولقد وصفة أبو هفان الراوية بأنه ليس في بني العباس بعد إبراهيم المهدي والعباس بن الحسن العلوي أشعر منه في الغزل ، ومن رقيق غزله قوله:
كم موقف لي بباب الجسر أذكره بل لست أنسى ، أينسى نفسه أحد
نزهت عيني في حسن الوجوه به حتى أصاب بعيني عيني الحسد
غير إن الحماحمي كان أيضا هجاء مفحشا وشاعرا بذيئا .
وللبطين بن أمية البجلي وكان من حمص أشعار لطيفة ،
ومن طريف شعره ما رواه من أنه قدم على علي بن يحيى الأرميني يريد مدحه ، فشاء إن يعمد إلى خلق صورة جديدة من المدح فقال :
رأيت في النوم أني راكب فرسا ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قوم لهم حذق ومعرفة رأيت خيرا ، وللأحلام تعبير
رؤياك فسر غدا عند الأمير تجد تعبير ذاك وفي الفأل التباشير
فجئت مستبشرا مستشعرا فرحا وعند مثلك لي بالفعل تيسيـر
ولكن الممدوح كان من ((الظرف بحيث وقع في أسفل كتابي : ( أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ) ، ثم أمر لي بكل شيء ذكرته في كتابي ورايته في منامي ))وأكثر شعر البطين من هذا القبيل الفكه الخفيف ، لقد كان البطين موضع اهتمام كثير من رجال الأدب والنقد وأصحاب التراجم وأقام ربيعة الرقي الضريرفي الشام في الرقة ، وهو صاحب الوصف الطريف لبلدته :
حبذا الرقة دارا أو بلـد بلـد ساكنه ممن ......
ما رأينا بلـدة تـعدلهـا لا ولا أخبرنا عنها أحد
إنها بريـة بحريـة سورها بحر وسور في الجدد
يسمع الـصلصل في أشجارها هدهد البـر ومكـاء غـرد
لم تضمـن بلـدة ما ضمنت من جمال في قريش أو أسد
ولقد كان شعر ربيعة وهو في بلدته يصل إلى أسماع الخلفاء في بغداد بل أسماع جواريهم ، فقد اشتهت جواري المهدي إن يسمعنه ، فوجه إليه المهدي من أخذه من مسجده بالرقة ، وحمل على البريد إلى بغداد ، وأدخل إلى المهدي ، فسمع حسا من وراء الستر ، فقال إني اسمع حسا يا أمير المؤمنين فقال له : اسكت يا ابن اللخناء ، واستنشده ما أراد فضحك وضحكن ، ثم شكا إلى المهدي حمله إلى بغداد على هذه الصورة وطلب إن يعاد إلى بلدته الرقة البيضاء قائلا :
يا أمير المؤمنين الله سماك الأمينا
سرقوني من بلادي يا أمير المؤمنينا
سرقوني فاقض فيهم بجزاء السارقينا
فقال المهدي قد قضيت فيهم يردوك إلى حيث أخذوك ، ثم أمر به فحمل على البريد من ساعته إلى الورقة.
قال دعبل لمروان بن أبي حفصة : من أشعركم قال ربيعة الرقي الذي يقول :
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر بن حاتم
يقصد يزيد بن أسيد السلمي ويزيد بن حاتم المهلبي .وقصة هذا البيت الذي بنى عليه مروان حكمة على ربيعة من الطرافة بمكان فقد مدح الشاعر كلا من يزيد بن أسيد السلمي – وهو قريبه – ويزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة فبخل عليه الأول وقصر ، وأجزل الثاني له العطاء فقال :
حلفت يمينا غيـر ذي مثنوية يمين امرئ إلى بها غير آثم
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر ابـن حاتم
يزيد سليم سالم المال ، والفتى أخو الأزد للأموال غيـر مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم
فيأيها الساعي الـذي ليس مدركا لمسعاته سعي البحـور الخضارم
سعيت ولم تدرك نوال ابن حاتم لفك أسير واحتمال العظائم
كفاك بناء المكرمات ابن حاتم ونمت ، وما الأزدي عنها بنائم
فيا ابن أسيد لا تسام ابن حاتم فتقرع ، إن ساميته سن نـادم
هو البحر ، إن كلفت نفسك خوضه تهالكت في آذيه المتلاطم
وقد كان يجمع بين الظرف والمرارة كقوله متوجها بالمدح إلى يزيد بن حاتم ومعرضا فيه بيزيد بن أسيد:
يزيد الأزد إن يزيد قومي سميك لا يجود كما تجود
تقود كتيبة ويقود أخرى فترزق من تقود ومن يقود
وربيعة الرقي على الرغم من أنه مكفوف البصر وأنه يسكن قرية بعيدة في أطراف الشام شرقا هي الرقة ، فقد كان من أقدر شعراء زمانه على القول في المديح والهجاء على حد سواء ، وكان إذا مدح فلم يجزل له العطاء أسرف في هجاء ممدوحه ، فمن ذلك أنه مدح العباس بن محمد ابن عم الرشيد بقصيدة من عيون شعر المديح قال فيها:
لو قيل للعباس : يا ابن محمد قل : لا ، وأنت مخلد ، ما قالها
ما إن أعد من المكارم خصلة إلا وجدتك عمها أو خالها
وإذا الملوك تسايروا في بـلدة كانوا كواكبها وكنت هلالها
إن المكارم لم تـزل معقولة حتى حللت براحتيك عقالها
وأما ابن يسير فهو صورة للبصرة بكل تناقضاتها ، ففي البصرة مجون وخلاعة و شعر وأدب وثقافة وعلم ، وحياة اجتماعية نشطة ذات أشكال وألوانوفي البصرة زهد وحمكة فيذهب ابن يسير إلى إجادة تصويرها ، إنه يصف السكارى ، ويصف نفسه سكرانا ، ويصف نفسه ماشيا إلى غاية بعيدة لأن جاره رفض أن يعيره حمارا ، ويصف نعليه مثقوبين وحذاءه باليا ، ويبكي كتبه التي أكلتها نعجة جاره ويهجوها ويهجو صاحبها ، ويبكي ألواحه التي يكتب عليها حين سرقت منه ، ويلتذ بمصاحبة الكتب فيصفها ، وينقلب ابن يسير في آخر حياته زاهدا أو مصطنعا الزهد ويقول وفي ذلك شعرا جميلا ، ويقول في الحكمة شعرا رائقا عذبا سهل المأخذ حسن الترديد
وأم ديك الجن كان شعوبيا خليعا ماجنا ، بارع الشعر سعي إليه أبو نواس وأبدي إعجابه بشعره ، وكذلك فعل دعبل ، وتتلمذ عليه وأخذ عنه أبو تمام .
فقد جمع شعر ديك الجن بين الفحولة والمحافظة من ناحية ، وبين التطور والتجديد من ناحية أخرى ، تجديده واضح صارخ لفت أنظار سكان العاصمة ،
إن حادث قتله زوجته والبكاء عليها أثرت في شعره وأمدته بطاقات من العواطف وشحنات من الأحاسيس . لقد جمع الشاعر الحمصي بين الأضداد ، فهو خليع موغل في خلاعته حين يقول شعرا منحرفا ، وهو حكيم العقل رصين القول حين ينشئ شعرا في الرثاء ،وهو من كبار شعراء الرثاء في العربية تجلى التجديد عنده في الصنعة البديعية واستحداث حركات داخل الأوزان العروضية التقليدية مع تلاعب بالقوافي في نطاق القصيدة الواحدة ، وهو رائد الصورة الشعرية ومبتكرها حين وصف الديك ، وقد سبق بذلك كلا من ابن الرومي وابن المعتز .
و منصور النمريشاعر من الشام جزري غزا بغداد بعد إن تتلمذ على شاعر المثقفين العتابي وصاحبه وروى شعره ، وهو ، إذ يصل إلى مقر الخلافة ويصل إلى منتدى الخليفة – وكان الرشيد – سرعان ما يأسره بمبادراته الشعرية الفنية الرائقة ، ويزاحم مشاهير الشعراء المقيمين في بغداد من أمثال مسلم بن الوليد ومروان بن أبي حفصة .
وله لون خاص ومذهب في الشعر أنيق جعله يفرض نفسه على مجتمع شعراء بغداد فرضا.



الباب الثاني
الفصل الرابع
الشعراء المتميزون كمثال
تميز في المرحلة العباسية العديد من الشعراء ، ولقد كان العتابي أكثر قربا من الثقافة بأعماقها البعيدة وآفاقها الرحيبة ، وكان أدنى موردا إلى مناهل المعرفة بلججها الغامرة وأمواجها المتواكبة . تعلم الفارسية من تلقاء نفسه حتى يقرا الحضارة الفارسية في لغتها الأصلية وكان يتكلمها في طلاقة ، وزار مكتبة بلخ مرات عديدة ، وكان هو نفسه صاحب مكتبة خاصة تحوي من المراجع النفسية ما يعينه على إشباع رغبته من المعرفة ، وكان كاتبا بليغا بالإضافة إلى كونه شاعرا فريدا ، وهو بذلك من القليلين جدا في تاريخ الشعر العربي الذين جمعوا إلى خصوبة الشعر ورقته رونق القلم وبراعته فكان الشاعر المبدع والكاتب الساحر . والعتابي بالإضافة إلى ذلك علم من أعلام البلاغة العربية ، له تصوره الخاص لها ، وتعريفه الذاتي بها ، النابغ من عقلية أحسن تكوينها ، والعتابي أستاذ صاحب كتب وتأليف حوت من المعرفة ألوانا ومن العلوم فنونا ، الأمر الذي جعل الخلفاء يحتفلون به في مجالسهم ، ويستدنونه إلى بلاطهم ،
وكان لشعره لون متميز ووجه متفوق في حال مقارنته بالآخرين . إنه شعر المفكرين أو شعر الفكرة ، إي الفكرة العميقة النفسية تصاغ في قالب شعري أنيق رقيق ، وافر الموسيقى عذب الإيقاع ، وتلك الصفات الأخيرة تعني شيئا جديدا في الأسلوب إنه جدير بأن يكون أستاذا لأبي تمام ومن سار على دربه .
وللرجل مدرسة في الأخلاق ، ومذهب في الحكمة يكمل الواحد منهما الآخر وعالج من خلالهما موضوع الصداقة والصديق ، وكذلك كان أبو يعقوب إسحاق بن حسان الخريمي . الذي كات يكره تعصب العرب على غيرهم وتعاليهم على سواهم ، وهو في ذلك منسجم مع الإسلام الذي سوى بين الناس جميعا بحيث لا فضل لإنسان على آخر إلا بما يقدم من خير.والخريمي بلاغي كبير ومعلم بلاغة ثقة ، وكان الجاحظ يطرز صفحات البيان والتبيين – أعظم كتبه – بآراء الخريمي وأقواله محيطا إياه بهالة من التقدير هو بها جدير جاعلا آراءه مصدرا من مصادره ومرجعا من مراجعه . هذا فضلا عن كونه ناقدا ذواقة ، وصيرفيا في الشعر لا تخطئ معاييره ولا تتهافت إحكامه ولا تنبو نظراته . والخريمي يطبق معاييره البلاغية على شعره ، سبك إنشاء وانتقاء لفظ وتحري معنى وسهولة مأخذ ، وقد سئل : ما بال شعرك لا يسمعه أحد إلا استحسنه وقبلته طبيعته ؟ فيجيب لأني أجاذب الكلام إلى إن يساهلني عفوا فإذا سمعه إنسان سهل عليه استحسانه .والخريمي صاحب مذهب في الأخلاق والحكمة ضمنه شعره بالأسلوب نفسهيقول شعرا كثيرا جزلا جميلا نابعا من علم وتحصيل ، صادرا عن خبرة ومعرفة وتجربة ،منبعثا من خلق ودين عرف الرجل بهما وذكرتهما له بالحمد كتب التاريخ والأدب والسير التي ترجمت تأثر به أبو حيان التوحيدي ومسكويه ونظرائهما من علماء الأخلاق قد تأثروا بأفكاره وأفكار العتابي حول الفضيلة والشجاعة والحكمة والصداقة والصديق و كان الخريمي صاحب أطول قصيدة قيلت في رثاء بغداد حين تعرضت للمحن الكثيرة الشديدة أيام حرب المأمون والأمين ابني هارون الرشيد في صراعهما على عرش بني العباس ، فكان بذلك رائدا في الشعر التاريخي ريادته في الشعر الأخلاقي والحكمي . والخريمي يتحرى المدرسة المحافظة على عمود الشعر ، ويحرص على جزالة الصياغة متخذا من ذلك أسلوبا ومذهبا ، وهو ركيزة من ركائز عمود الشعر ومدرسة الديباجة .يعد أستاذا أصيلا للبحتري في مذهبه الأسلوبي وهو في جزالة لفظه وفخامة صوغه وحكمة قوله وأخلاقيات معانية أستاذ أصيل صريح لأبي الطيب المتنبي ، وهو في قصيدته الطويلة في رثاء بغداد أستاذ مباشر لابن المعتز في أرجوزته الطويلة في التاريخ لبني العباس وأحمد بن عبد ربه في تاريخه لعبد الرحمن الناصر .







الباب الرابع
الشعر العباسي
الباب الرابع
الفصل الأول
الأغراض التقليدية في الشعر العباسي
1ً- المدح:
وقد ازدهر هذا العرض بسبب تشجيع الخلفاء للشعراء ومحاولتهم إبراز عظمة الملك لديهم، بينما أمعن الشعراء بالمدح استدراجاً للأعطيات ، وقد زاد الشعراء ثروة المدح معانياً جديدة أضفت على المعاني القديمة أشكالاً أخرى فمدحوا الخلفاء إضافة إلى الكرم والشجاعة والقوة بالتقوى وحسن الإدارة و القيادة السياسية والذبّ عن الدين داخلياً وخارجياً وقد أشار أبو تمام إلى مهمة الشعر :
ولولا خلال سنّها الشعر ما درى
بغاة الندى من أين تؤتى المكارمُ
وغدت المدائح وثائق تاريخية تقوم برسم مسيرة الخلفاء كما تصنع الصحافة ، فهذا البحتري يصوّر دور يوسف بن محمد الثغري الطائي الذي هزم بابل الخرمي و صلبه في سامراء:
ما زلت تقرع باب – بابك – بالقنا وتزوره في غارة شعواء
حتى أخذت بنصل سيفك عنوة منه الذي أعيا على الخلفاء
ويقول البحتري أيضاً مادحاً المتوكل بأنه قيم الدنيا وقيم الدين :
خلق الله جعفراً قيّم الدنيا سداداً وقيمّ الدين رشدا
أظهر العدل فاستنارت به الأرض رغمّ البلاد غوراً أو نجدا
ويقول أبو تمام في فتح غمورية مادحاً المعتصم
تدبير معتصم لله منتقم في الله مرتغبٍ لله مرتقب
ويقول علي بن الجهم في مدح المتوكل
له المنة العظمى على كلِّ مسلمٍوطاعته فرض من الله منزلُ

ولما تمزقت الدولة إلى الإمارات ، أصبحت كلّ إمارة تسابق الأخرى في استجلاب الشعراء وتبني أحد هؤلاء كشاعرٍ للأمير كما صنع الحمدانيون مع أبي الطيب المتنبي الذي يقول في مدح سيف الدولة :
ليس إلاك يا علي همام سيفه دون عرضه مسلول
أنت طول الحياة للروم غار فمتى الوعد أن يكون القفول

2- الهجاء :
وقد بقي هذا الفن نشيطاً في هذا العصر، ولكنه لم يعد قائماً على العادات القبلية كما كان في شعر النقائض وقد تنافس الشعراء في رسم صورة الهجاء من خلال القيم الجديدة فهذا نشوان الحميري يرد على الهجاء الذي ورد من قبل عبد الله بن القاسم الزبيدي فيقول بعد أن يسمه عبد الله بن القاسم بفساد الأصل :
أمّا الصحيح فإن أصلك فاسدٌ وجزاك منا ذابلٌ ومهندُ

فيجيبه نشوان:
من أين يأتيني الفساد وليس لي نسبٌ خبيث في الأعاجم يوجد
لا في علوج الروم جدٌّ أزرق أبداً ولا في السود خالٌ أسود
وقد استخدم الشعراء في هجائهم مختلفَ العيوب النفسية والخلقية ولم يتورعوا عن هجاء الخلفاء والوزراء إذا رأوهم منحرفين من الصواب:
يقول بشار في هجائه لرجل شديد البخل:
إذا جئته للعرف أغلق بابه فلم تلقه إلاّ وأنت كمين
وهذا حمّاد عجرد يستخف ببشار بن برد ويحفره قائلاً
وأعمى يشبه القردا إذا ما عمي القردُ
دنيء لم يرح يوما إلى مجدٍ ولم يغدوُ
وقد يتهم المهجو بالزندقة التي تنتهي بالحكم بالموت كما حصل مع بشار لقوله:
تفاخر يا بن راعية وراع بني الأحرار حسبك من خسار
وكنت إذا ظمئت إلى قراح شركت الكلب في ولغ الإطار
ومن تصوير ابن الرومي وصفه لصاحب الأنف الطويل:
حملت أنفاً يـراه النـاس كلـهم من ألف ميل عيانـاً لا بمقياسس
لو شئت كسباً به صادفت مكتسباً أو انتصاراً مضى كالسيف والفاس
وكذلك وصفه للحمّال الأعمى:
رأيت حمّالا بين العمى يعثر في الأكم كما يعثر في الوهدِ
بين مجالاتٍ وأشباهها من بشـرٍ نامـوا عـن المجـد
والبائس المسكين مستلمٌ وكلُّ يصدمه عامداً أو بغير عمدِ
ووصفه اللحية الطويلة قائلاً :
إن تطلْ لحية عليك، وتعرضُ فالمخالي معروفةٌ للحمير
علّق الله في عذاريك مخلاة ولكنها بغير شعير
لو غدا حكمها إليّ لطارت في مهب الرياح كلَّ مطير
لحية أهملت فسالت وفاضت فإليها يشير كلُّ مشير
لو رأى مثلها النبي لأجرى في لحى الناس سنة التقصير
وكذلك قوله في وصف وجه عمرو:
وجهك يا عمرو فيه طول وفي وجه الكلاب طول
وقد يكون الهجاء سياسياً كما حصل عند موت المعتصم حيث هجاه دعبل الخزاعي قائلا:
خليفة مات لم يخرب له أحدٌ وآخر قام لم يفرح به أحد
واستمر الهجاء في عصر الدول والإمارات يتخذه الشعراء غرضاً إذا تأخرت الأعطيات كما صنع أبو العلاء الأسدي في هجاء الصاحب بن عباد وزير البويهيين:
إذا رأيت مسجَّى في مرقعةٍ يأوي المساجد حراً ضرَّه باد
فاعلم بأن الفتى المسكين قد قذفت به الخطوب إلى لؤم ابن عبادٍ

3ً- الرثاء :
بقي الرثاء نشيطاً في العصر العباسي، وإن اتجه بمعاينة إلى صفاتٍ جديدة يصفها الشاعر على صفات من يقوم برثائه من القادة والأمراء والخلفاء إضافة إلى التأمل بحقائق الكون والوجود والموت والحياة وانتشر رثاء المدن والحيوانات المستأنسة والأصدقاء والزوجات.
يقول أبو العلاء المعري في رثاء أحد أصدقائه معرضاً لحقائق الموت :
ربّ لحدٍ قد صار لحداً مرارا صاحك من تزاحم الأضداد
ضجعة الموت رقدةً يستريح الجسم فيها، والعيش مثل السهادِ
ويقول أبو تمام الطائي في رثاء بن حميد الطوسي :
فتىً مات بين الضرب والطعن ميتةً تقوم مقام النصر إذ فاته النصرُ
تردّى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلاّ وهي من سندس حضرُ
ويقول محمد بن عبد الملك الزيات في رثاء زوجه:
ألا من رأى الطفل المفارق أمه بعيد الكرى عيناه تبذران
رأى كلَّ أمٍّ وابنها غير أنه يبيتان تحت الليل ينتجيان
وهذا الشاعر الخريمي يرثي بغداد في أيام الخلاف بين الأمين والمأمون:
حلت ببغداد وهي آمنةٌ داهيةٌ لم تكن تحاذرها
يحرّقها ذا وذاك يهدمها ويشتفي بالنهاب شاطرها
ويقول ابن العلاف النهرواني يرثي قطاً (هراً) :
يا هرُّ فارقتنا ولم تعد وكنت منا بمنزل الولد
صادوك غيظاً عليك وانتقموا منك وزادوا ومن يصْد يصد
4ً- الفخر :
يتمحور الفخر عند الشعراء العباسيين في ثلاثة مجالاتٍ
أولها ما يخص نفس الشاعر ، يقول المتنبي مفتخراً بنفسه:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بحدودي
والثاني ما يخص نسبه و قبيلته،
والثالث ما يخص عقيدته وهواه السياسي .
ويقول بشار مفتخراً بأصوله الفارسية:
هل من رسول مخبر عني جميع العرب
بأنني ذو نسب عالٍ على ذي الحسب
جدي الذي أسمو به كسرى وساسان أبي
5ً- الغزل:
نظراً لاختلاط العرب بالأعاجم، وانتشار الفتوح والغزو وتدفق الأموال، وكثرة الجواري والقيان، توسعت أبواب الشعر الغزلي ، فبعد أن كانت في العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام والعصر الأموي لا تعدو من أن تكون معانياً سامية وصفات لمفاتن جسدية عند المرأة فتح الشعراء العباسيون بابين جديدين
-الأول هو باب الغزل الإباحي : الذي تجرأ فيه العباسيون على وصف خلواتهم بجرأة وفحش ،
- والثاني غزل الغلمان الذي لا عهد للعرب به .
يقول بشار بن برد : في الغزل الجريء .
يا ليلتي تزداد نكرا من حب من أحببت بكرا
حوراء أن نظرت إليك سقتك بالعينين فخرا
ومع ذلك فقد تعفف قسم من الشعراء بغزلهم كما عند العباس بن الأحنف الذي وصف ما يجول بخاطره باتجاه محبوبته فوز
أتأذنون لصبٍ في زيارتكم فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضجر السوء إن طال الجلوس به عفا الضمير ولكن فاسق النظر
وقد انصرف قسم من الشعراء إلى غزل الأعرابيات معرضاً عن غزل النساء المتحضرات بسبب كثرة اللهو والمجون .
قال المتنبي :
هام الفؤاد بأعرابية سكنت بيتا من القلب لم تمدد له طنبا
وقد أشار هذا الشاعر بجمال الأعرابيات قائلاً:
حسن الحضارة مجلوبٌ بتخلية وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الجواجيب
وبرز من الشعراء العفيفين الشريف الرضي في (حجازياته) التي فرج بها حنينه للحجاز والنساء اللواتي قصدن أداء فريضة الحج :
من معيد لي أيامي بجزع السحراتِ
وليالي بجمعٍ ومنى والجمرات
وظباءً حاليات كظباء عاطلات
راميات بالعيون النجل قبل الحصيات
ومن الشعراء الذين تغنوا بالحب الصافي مهيار الديلمي
قل لجيران الغضا آهٍ على طيب عيش بالغضا لو كان داما
وقد استفاد المتصوفة من الغزل البدوي فمرجوه بالغزل الصوفي كما في قول عيسى بن سنجر الحاجري:
أأحبابنا بنتم عن الخيف فاشتكت لبعدكم آصالها وضحاها
كأنكم يومَ الرحيلِ رحلتمُ بنومي فعيني لا تصيب تراها
رعى الله ليلاتٍ بطيب حديثكم تقضّت وحيّاها الحيا وسقاها
6ً- الوصف:
إنّ امتداد الحياة العباسية وتوسعً هذه الحياة، ورخاءَ العيش جعل الوصف غرضاً مهماً، اتّسع مداه بين الأشياء المادية ، والمعنوية فوصف الشعراء في هذا العصر آثار الحضارات القديمة ، وقصور الخلفاء وحدائقهم وملاهي الناس والصيد، كما وصفوا في الجانب الآخر البؤس الاجتماعي والأمراض ، الطباع ، والغرائز والأزهار والرياض ، والأطعمة، فوصف البحتري إيوان كسرى ، ووصف ابن الرومي الخبار والحمّال الأعمى والنرد والشطرنج ، ووصف نطاح الكباش وصياح الديكة.
يقول ناصح الدين الأرجاني في وصف حصان كسرى:
وقد بان حتى عرقه تحت جلده وإن لم تبنْ في صفحتيه ندوب
ويقول المعري في وصف ديكٍ أحبَّ له الحياة، فكان هذا الديك طعاماً لأحد الصائمين :
أياديك: عدت من أياديك صيحة بعثت بها ميتَ الكرى وهو نائم
ولو كنت لي ما أرهفت لك مدية ولا رام افطاراً بأكلك صائم
ويقول البحتري في وصف القصر الكامل للمتوكل:
لبست من الذهب الصقيل سقوفه نوراً يضيء على الظلام الحافل
وكأنّ حيطان الزجاج بجوّه بحجٌ يمجن على جنوب سواحل
ويقول علي بن الجهم يصف لعبة الشطرنج وما يدور على رقعتها من معارك :
أرض مربعة حمراء من أدم ما بين إلفين موصوفين بالكرم
هذا يغير هذا وذاك على هذا يغير، وعين الحرب لم تنم
فانظر إلى الخيل قد حاشت بمعركةٍ في عسكرين بلا خيلٍ ولا علم
ويقول أبو نواس واصفاً كلب صيد له اسمه (سرياح):
ما البرق في ذي عارض لمّاح ولا انفضاض الكوكب المتضاحِ
ولا انبتاتُ الدّلو بالمتّاح ولا انسياب الحوت بالمنداح
حين دنا من راحة السبّاح أجدَّ في السرعة من سرياح
يطير في الجو بلا جناح يفترُّ عن مثل شبا الرماح
ويقول الشاعر أبو فرعون الساسي في وصف منزله المتواضع الخالي من الحضارة والحياة:
منزل أوطنه: الفقر فلو دخل السارقُ فيه سرقا
ويصور الشاعر أبو الشمقمق واصفاً حاجة عياله للخبز والإدام
وقد دنا الفطر وصبياننا ليسوا بذي تمرٍ ولا أرز
فلو رأوا على شاهق لأسرعوا للخبر بالجمز



الباب الرابع
الفصل الثاني
الأغراض الجديدة في أدب العصر العباسي
وقد تمثلت في :
1 ـ الشعر التعليمي :
وهو الشعر الذي نظم فيه العلماء مختلف العلوم المعاصرة لهم، وقد غلب على هذا النوع من الشعر العقل والمنطق وخلال من العاطفة واعتمد على إظهار الحقائق ، وقد نظم فيه العلماء علوم الفرائض . علم الواريث – العبادات – السلوك – الأخلاق واليسير والتاريخ والنحو .كما صنع أبان ابن عبد الحميد اللاحقي في نظمه (ككليلة ودمنة ) وابن مالك في (ألفيته) وابن المعتز في أرجوزته (مسيرة الخليفة العباسي المعتضد).
- يقول أبان اللاحقي :
هذا كتاب أدبٍ ومحنةٍ وهو الذي يدعى ككليلة ودمنة
فيه دلالات وفيه رشد وهو كتابُ وضعته الهندُ
- ويقول ابن المعتز واصفاً تسلط الأتراك على أموال الخلافة
كذلك حتى أفقروا الخلافةْ وعوّدوها الرعب والمخافةْ
2 ـ الشعر الفلسفي:
وقد بدأ الشعراء العباسيون التأثر بأفكار الفلسفية من خلال الترجمات البيزنطية للفكر،ومن خلال صراع الأفكار والمذاهب الدينية التي تبنَّت بعض الأفكار الفلسفية ،كما هوعند المعتزلة ،ومن خلال اطلاع أبي تمام على فلسفاتالبيزنطيين،ومزاوجتة بين الشعر، والفلسفة ، وإدخاله قضية الديالكتيك "الجدلية" في شعره ، كذلك ما بثّه المتنبي من حكم يونانية في شعره ، وما صنعَه المعري في تأملاته في الكون والقدر ، والنجوم، والحديث عن العقل والروح ،والبعث والنشور ، وما صنعه ابن سينا في حديثه عن النفس واتصالها بالبعث .
قال أبو النواس في وصف الخمرة مستعملاً كلمات فلسفية :
رقّت عن الماء حتى ما يلائمها لطافة وجفا عن شكلها الماء
ويقول أبو تمام :
شرست بل لنت بل قانيت ذاك بذا فأنت لا شك فيك السهل والجيل

ويقول المتنبي :
لأتركن وجوه الخيل ساحمةً والحرب أقوم من ساق على قدم
بكل منصلت مازال منتظري حتى أدلت له من دولة الخـدم
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ويستهل دم الحجاج في الحرم

ويقول المعري :
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادِ
ويقول ابن سينا في وصف النفس :
هبطت إليك من المحلِّ الأرفع ورقاءَ ذاتُ تعزز وتمنّع
وصلت على كرهٍ إليك وربّما كرهت فراقك وهي ذات توجّع

3ً- شعر اللهو والمجون:
نظراً لكثرة تدفق الأموال وانتشار اللهو والمجون فقد أكب قسمٌ من الشعراء على وصف أماكن الخمرة ومجالسها كمنطقة الكرخ في بغداد، ومنطقة قطر بّل ، ومن الشعراء الذين وصفوا الخمرة وأكثروا من الخمر والمجون في شعرهم : أبو نواس ومطيع بن إياس بن عجرد، والشاعر بشار بن برد ، ومسلم بن الوليد وغيرهم ....
ويقول بشار بعد أن أصدر الخليفة أمراً بمنعه من وصف الخمر والغزل المخجل :
نهاني الخليفة عن ذكرها وكنت بما سرَّه أكدحُ
فأعرضتُ عن حاجتي عندها وللموتُ من تركها أروحُ
ويقول أبو نواس بعد أن سجنه الأمين لشربه الخمر :
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمرُ ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهرُ
ويقول أبو نواس
تفتير عينيكَ دليلٌ على أنك تشكو سهر البارحة
عليكَ وجهٌ سيئ حاله من ليلةٍ بتَّ بها صالحه

4ً- شعر الزهد:
وقد جاء هذا العرض رداً على اللهو والمجون ووصف الخمرة وفي الوقت الذي كانت فيه حانات بغداد مملوءة بأصحاب الخمرة ، كانت مساجد بغداد مملوءة بالعباد والنساك والعابدين، وقد عرف العباسيون لونين من الزهد .
أً- زهد إسلامي في مستقى من القرآن الكريم والسنة الشريفة معتمدة على قوله تعالى ((وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ، ولاتنسى نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك)).
وكذلك من قوله عليه السلام : ((من بات آمناً في سريه، معافاً في بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما ملك الدنيا كذا فيرها)).
ب - زهدٌ مانوي نسبة إلى زعيم فارسي اسمه ((ماني)).
وهذا الزهد مرتبط بالديانة الزردتشية والبوذية والنصرانية وقد كان من زعماء هذا اللون : صالح بن عبد القدوس، أما الديانة الزردتشية فتؤمن بعقيدتي النور والظلمة ، وإباحة زواج الأباء من بناتهم وأخواتهم، أما البوذية فتؤمن بقضية تناسخ الأرواح ، وتحريم ذبح الحيوان والطيور وأما النصرانية فتؤمن بالنسك والزهد، وليست الرهبانية إلا جزءا من ذلك . ومن أمثلة الزهد الإسلامي قول أبو العتاهية:
لدو للموت وابنوا للخراب فلكم يصيرُ إلى ذهابٍ
ويقول أبو نواس :
.........في أملي وقد قصّرت في عملي
فأيامي تقربني وتدنيني إلى أجلي
ويقول المعري:
أغنى الأنام تقيُّ في ذرا جبلٍ يرضى القليل ويأبى لوشي والتاجا
وأفقر الناس في دنياهم ملكٌ يضحى إلى اللجب الجرار محتاجا
وقد علمت المنايا غير تاركة ليثاً بخفان أو طبياً بفرتاجا
ويقول عبد الله بن المبارك الذي جمع بين الزهد والجهاد في رسالةٍ إلى الفضيل بن عياض الناسك الذي كان مجاوراً مكة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنّك في العبادة تلعب
من كان يخضبُ جيده بدموعهِ فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
ويقول ابن المبارك يخاطب أحد أصحابه وهو اسماعيل بن عليَّه وكان قدولي الصدقات بالبصرة:
يا جاعل الدين له بازياً يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذّاتها بحيلةٍ تذهبُ بالدين
ويقول ابن الرومي في أجمل صورة للزهد والورع:
بات يدعو الواحد الصمدا في ظلام الليل منفرداً
كلما مر الوعيد به سح دمع العين فاطّردا
قائلاً يا منتهى أملي نجني مما أخاف غدا

ومن عجب إن الذين أقبلوا على الزهد وسعوا إليه وقالوا فيه شعرهم هم أنفسهم الذين أسرفوا على أنفسهم وعلى مجتمعهم إثما ومعصية وانحرافا ، أو على وجه أدق هم بعض أولئك الذين انغمسوا في طلب اللذة المحرمة حتى جرفهم تيارها وغمرهم عبابها ، إن منهم أبا نواس ، ومسلم بن الوليد ، وصالح بن عبد القدوس ، وأبا العتاهية ، كما كان هناك أيضا محمود بن الحسن الوراق الذي لم يكن من فريق العصاة ، ولذلك فإن شعره في الزهد والحكمة أنقي منهم روحا وأصفى محتوى وأقرب إلى النفس تقبلا وأسرع إلى الخاطر تلقيا
أما أبو نواس فلم يقل ما قال من شعر الزهد إلا بعد إن قعدت به الصحة عن أن يستمر فيما ظل يخوض فيه من وحل وما يرتكبه من إثم ورجس طوال حياته ، ومن ثم فإن مرارة الندم قد ألحت عليه فعدل إلى جانب النسك
و يؤوب أخيرا من رحلة العصيان الطويلة إلى رحاب الله فيؤدي فريضة الحج ويكبر مع المكبرين ويلي مع الملبين وهو يطوف بالبيت العتيق : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك البيك ، أن الحمد والنعمة لك والملك ، لاشريك لك . وتنساب إلى قلب الشاعر ومضات الإيمان لتصب في وجدانه فيتذوق روحانيتها فيقول :
إلهنا مـا أعدلك مليك كـل من ملـك
لبيك قد لبيت لك
لبيـك إن الحمد لـك والملك ، لا شريـك لـك
مـا خاب عبد سالـك أنت لـه حيث سلـك
لولاك يارب هلـك
لبيك إن الحمد لـك والملك لا شريك لـك
كل نـبي وملـك وكل من أهل لك
وكل عبد سألك سبح أو لبى فلك
لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك
والليل لما إن حلك والسابحات في الفلك
على مجاري المنسك
لبيك إن الحمد لك والملك،لا شريك لك
اعمل وبادر أجلك واختم بخير علمك
لبيك إن الحمد لك والملك..لا شريك لك
ويفتكر أبو نواس في مصير كل حي ولكن بعد إن انقضت شرتهفيرعوي ويستجيب إلى نداء عقله
أيها الغافل المقيم على السهو ولا عذر في المقام لساه
لا بأعمالنا نطيق خلاصا يوم تبدو السماء فوق الجباه
غير أني على الإساءة والتف ـريط راج لحسن عفو الله

ويلجأ أو نواس إلى المحسن الرحيم بكل رجائه وبتوسل المعترف بخطئه وضراعة النادم غير اليائس من رحمة الله معبرا عن صدق إسلامه قائلا آخر شعر صدر عنه
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بان عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير الجرم
ادعوك رب كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم
ومن شعراء الزهد صالح بن عبد القدوس الذي يقول في الدعوة إلى الإيمان والاستقامة:
فوحق من سمك السماء بقدرة والأرض صير للعباد مهادا
إن المصر على الذنوب لهالك صدقت قولي أو أردت عنادا
و أشهر شعراء الزهد في تلك الفترة العباسية أبو العتاهية فهو يدعو إلى ترك الدنيا وتحقيرها حينا ويدعو إلى التقى وصالح الأعمال حينا آخر ويذكر الموت وملاحقته للخلق ويلح في ذلك إلى الحد الذي يصد الناس فيه عن ترك أية متعة ولو كانت حلالا ويقف على القبور ويناجيها حينا ويسائل ساكنيها آونة أخرى ويقرن بين الدنيا والآخرة أو بالأخرى بين الحياة والموت ثم النشور والحساب والثواب والعقاب ويرجو الثواب ويخشى العقاب
تصبر عن الدنيا ودع كل تائه مطيع هوى يهوي به في المهامه
دع الناس والدنيا فبين مكالب عليها بأنياب وبين مشافه
ومن لم يحاسب نفسه في أموره يقع في عظيم مشكل متشابه
وما فاز أهل الفضل إلا بصبرهم عن الشهوات واحتمال المكاره
ويقول أبو العتاهية في قصيدته التي نالت شهرة عريضة وتكررت ترديدا على ألسنة معاصريه وفي مقدمتهم الخليفة المأمون
فمالي لست مشغولا بنفسي وما لي لا أخاف الموت ما لي
لقد أيقنت أني غير باق ولكني أراني لا أبالي
أما لي عبرة في ذكر قوم تفانوا ربما خطروا ببالي
كأن ممرضي قد قام يمشي بنعشي بين أربعة عجال
وخلفي نسوة يبكين شجوا كأن قلوبهن على مقال
سأقنع ما بقيت بقوت يوم ولا ابغي مكائرة بمال
هب الدنيا تساق إليك عفوا أليس مصير ذاك إلى زوال
خبرت الناس قرنا بعد قرن فلم أر غير ختال وفال
وذقت مرارة الأشياء طرا فما طعم أمر من السؤال
ولم أر في الأمور اشد وقعا وأصعب من معاداة الرجل
ولم ارفي عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على الكمال
يقول أبو العتاهية في آخر أبيات قالها قبل موته :
الهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كلن مني
وما لي حيله إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومن
إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني
يظن الناس بي خيرا واني لشر الناس إن لم تعف عني


5ً- شعر التصوف:
شهد العباسيون نوعاً من الزهد أفضل من التصوف القائم على إرضاء الخالق وذم التعلق بالدنيا: (( الأموال – الأبناء – النساء)) ولكن هذا التصوف خرج في معظمه عن تعاليم الإسلام بفعل الترجمات اليونانية والهندية واعتمد هذا التصوف على مجموعة من ركائز
أولها: فكرة المحبة الإلهية ،
وثانيها فكرة انكار الذات
وثالثها الاعتماد على القلب والكشف ونظرية التوحد ((وحدة الوجود ، ووحدة الخالق والمخلوق)).
يقول الحلاح :
مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسَّك شيءٌ مسني فإذا أنت أنا في كل حالِ
وهذا كلام خطير يخرج عن حدود الشرع الإسلامي
ويقول عبد الكريم القشيري متمثلاً :
يا من تقاصر شكري عن أياديه وكلَّ كلُّ لسانٍ عن معاليه
لا دهر يخلقُه لا قهر يلحقُه لا كشفَ يظهره لا ستر يخفيه
ويقول السهروردي من عشقه الالهي :
أبداً يحن إليكم الأرواح ووصالكم ريحانها والسرّاح
وا رحمت للعاشقين تكلّفوا ستر المحبة والهوى فضّاحُ
6ً- شعر تحليل الصفات الخلقية :
رسم الشعراء العباسيون الصفات العظيمة عند ممدوحيهم كما رسموا الصفات الذميمة عند مهجويهم ، ولم يقتصروا في معانيهم الشعرية على الكرم والحلم والحياء والعفة وإنما تجاوزوا ذلك إلى واجبات الأخوة والصداقة واختيار الأصدقاء والصبر على أخطائهم ، وقد صوّر ذلك ابن المعتز قائلاً :
يا من يناجي ضغنه في نفسه ويدبُّ تحتي بالأفاعي اللدغ
وبيت تنهض زفرةً في صدره حسداً وإن دميت جراحي يولغِ
ويصف ابن الرومي الصبر والجزع محللاً عمق هاتين الصفتين :
وقد يظن الناس أن أساهم وصبرهم فيهم طباعٌ مركَّب
وليسا كما ظنوهما بل كلاهما لكل لبيب مستطاع مسبّب
7ً- شعر الشكوى من الزمان ونوازله:
وقد كثر ذلك في العصر العباسي بسبب المفارقات السياسية والاجتماعية والثقافية وبرز نوعان من الشكوى .
أ- نوع فردي بثّ فيه الشعراء همومهم الشخصية .
ب- نوعٌ عام جاء بسبب فساد الأحوال السياسية وتولي المناصب من قبل غير الأكفاء .
يقول ابن المعتز في الشكوى العامة:
لم يبق في العيش غيرُ البؤس والنكد فاهرب إلى الموت من همِّ ومن نكد
ملأت يا دهرُ عيني من مكارهها يا دهرُ حسبك قد أسرفت فافتصد
ويقول المتنبي في الشكوى الفردية :
عيد يأية حالٌ عدت يا عيد بما مضى أم لأمرٍ فيه تجديد
أصخرة أنا مالي لا تحركني هذى المدام ولا هذي الأغاريد
ويقول الطغراني في لا ميته العجمية شاكياً من الدهر والزمن :
والدهر يعكس آمالي ويقنعني من الغنيمة بعد الكدِّ بالقفل
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً والخظ عني بالجهال في شغلٍ



8ً- شعر النوادر والفكاهات:
وهو غرض استجد في العصر العباسي كرد فعلٍ على صعوبة العيش وانقسام الناس إلى مذاهب يحاول بعضها هدم البعض الآخر ، وقد برز من شعراء هذا الغرض أبو دلامة وقد تندر الشعراء على البخلاء والأكلة والجشعين ، وأصحاب اللحى الطويلة ، ولا بن الرومي باع طويل في وصف العيوب الخلقية والخلقية كوصف الأعمى والأحدب والأصلع ، وطويل الأنف وغيرهم...
يقول بشار بن برد واصفاً قصة جبٍّ عذري أجراها على لسان حمارٍ له مات عشقاً وقد رآه بشار في اليوم فقص عليه قصته:
سيدي ملْ بعناني نحو باب الأصبهاني
إن بالباب أتانا فضلت كلَّ أتان
تيمتني يوم رحنا بثناياها الحسان
ولها خدٌّ أسيلٌ مثل خدِّ الشيفران
9ً- شعر التهكم والعبث :
وقد اعتمد فيه أصحابه على فحش القول وهجر الكلام وقد ساهم في إبرازه شعراء من أمثال: ((ابن سكرة – ابن حجاج – صريع الدلاء الذي عارض مقصورة ابن دريد)).
يقول صريع الدلاء يعارض مقصورة ابن دريد:
من لم يرد أن تنتقب نعاله يحملهُ في لفِّه إذا مشى
ومن أراد أن يصون رجلهُ فلبسه خيرُ له من الحفا
ومن طبخ الديك ولا يذبحه طار من القدر إلى حيث يشاء

10ً- شعر التهاني والهدايا:
وقد برز هذا العرض في المناسبات والأعياد والتهنئة بقدوم المواليد الجدد، كما صنع البحتري في وصف موكب المتوكل في عيد الفطر.
يقول ابن الرومي في وصف قدحٍ أهداه إلى علي بن يحيى المنجم:
وبديع من البدائع يسبي كل عقلٍ ويطبي كلَّ طرفِ






الباب الرابع
الفصل الثالث
التحولات التي طرأت على الشعر العباسي
1ً- في بناء القصيدة :
لم يلتزم العباسيون التزاماً كاملاً تهج القصيدة العربية التي رسم أسسها الجاهليون ، وكان بعضهم قد حاول ترسم خطا الجاهليين في الوقوف على الأطلال ووصف قصور بغدادٍ، ووصف الخلفاء بالصفات التي تتلائم مع البداوة وقد أعرض بعض الشعراء عن ذلك، ونددوا بطريقة الوقوف على الأطلال كما قال أبو النواس:
عاج الشقي على رسمٍ ليسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد
ولكن شاعراً كأبي تمام والبحتري وابن المعتز حاولوا تغيير مطالع قصائدهم ، فهذا أبو تمام صنع لقصيدته في مدح المعتصم مقدمة في وصف الطبيعة فقال:
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر وغد الثرى في حلية يتكسَّر
يا صاحبيَّ تقصّيا نظريكما تريا وجوه الأرض كيف تصوَّر
تريا نهاراً مشمسا قد شابه وجه الضحى فكأنما هو فقصر
كما وبدأ قصيدته في فتح عمورية بالحكمة:
السيف أصدقُ أبناءً من الكتب في حدّه الحدُّ بين الجدّ واللّعب
وهذا ابن المعتز يخاطب الخليفة المعتضد الذي نفاه وأبعده عن مجالسه قائلاً:
أتسمع ما قال الحمام السواجع وصائح بين في ذرا الأيك واقع
منعنا سلاما وهو محلل سوى لمحات أو تشير الأصابع
أما المتنبي فقد سلك في بناء قصائده مسلكا مغايرا بحيث جعل لكل قصيدة مطلعا يتناسب مع مضمون القصيدة كقوله :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وقوله :
إذا كان مدحا فالنسيب المقدم أكل فصيحا قال شعرا مقيم


2-الزخارف اللفظية والمحسنات البديعية :
نظرا لتغير مظاهر الحياة العباسية عن سابقتها وازدياد الاهتمام بالشكل عند الإنسان أكثر من المضمون ، فقد انعكس ذلك الشعر فأخذ الشعراء يهتمون بشكل الشعر لديهم أكثر من المضمون ، ونشأ فن البديع القائم على المحسنات والزخارف اللفظية والمعنوية كالجناس والطباق والمقابلة والإرصاد وتحول الشعر من مطبوع إلى مصنوع .كما عند أبي تمام في قوله :
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب
وقد تحول الاهتمام بالزخارف اللفظية والمحسنات البديعية من كونها وسيلة إلى كونها غاية وأصبحت في العصور التالية عبئا ثقيلا على الشعر العربي .
3-الأوزان والقوافي :
لم يتجاوز شعراء العصر الجاهلي والإسلام والأموي الأوزان الخليلية ، لكن شعراء العصر العباسي بسبب انتشار الموسيقى والغناء حاولوا أولا أن يوجدوا أوزان البحور الست عشرة وزنا ،وأضافوا أوزان جديدة ( المواليا )
وكان أبو العتاهية يقول : أنا أكبر من الوزن الخليلي ونوع الشعراء بالقوافي فظهرت أوزان
كالمزدوج – المسحطات – المربعة – المخمسة
واهتم الشعراء بالأوزان المجزوءة التي تتناسب مع الغناء والموسيقا . يقول بشار :
ربابة ربة البيت تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت
وقوله :
سلاف دن كشمس دجن
كدمع جفن كخمر عدن
4-التصوير الفني :
لم يرتض العباسيون الطريقة العربية الجاهلية والإسلامية القائمة على الإيضاح والاقتراب من الحقيقية ، وملاحظة التناسب في وجه الشبه بين المشبه و المشبه به والحرص على الدقة في الوصف في التصوير الفني في شعرهم ، بل حالوا أن ينهجوا نهجاً جديداً في هذا التصوير كما صنع بشار حينما حاول أن يجعل العلاقة مضطربة بين المشبه والمشبه به، وأن يمازح بين الحواس و يعتمد الإبهام كأن يشبّه (المسموع بالمنظور) و(المنظور بالمذاق) يقول بشار في وصف جارية:
حوراء إن نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا
وكأن رجع حديثها قطع الرياض كيسين زهرا
فكأنّ الحديث المختص بحاسة السمع مشبّه بقطع الرياض الخاصة بحاسة النظر، وقد بلغ التصوير الفني منتهى الابداع الذي غدا ركناً أساسياً عند أبي تمام في تجديده حيث اختفت الصور المستوحاة من البادية واعتمدت الصور المستوحاة من حياة الترف. يقول ابن المعتز واصفاً الهلال:
انظر إلى حسن هلالٍ بدا يهتك من أنواره الحندسا
كمنجلٍ قد صيغ من فضة يحصد من زهر الربا نرجسا
5-في المعاني الشعرية:
كما أن العباسيين لم يقبلوا بشكل القصيدة الجاهلية ، كذلك رفضوا معانيهم، وحاولوا تجديدها وقد أسرهم في تغير المعاني في ثلاثةِ أشياء:
أ ـ قضية الفكر الإسلاميالذي تمثل بالقرآن الكريم والسنة النبوية وما فتحه هذان الكتابان من آفاق جديدة للعقل في ذلك كمناقشة وسائل الكون والحياة والعقل والخالق والمخلوق والروح والجسد، وما نتج ع ذلك من علمٍ سمّي في ما بعد الكلام الذي تبناه أصحاب المذاهب بالإضافة إلى المعتزلة.
ب- الثقافة الفلسفية:التي ترجمت من كتب الأمم التي مازجها العرب المسلمون والتي تمحورت حول ديانات تلك الشعوب كالمانوية والمزدكية والزيد ثنية وأثر ذلك على بعض الشعراء كما حصل مع المعري حينما حرّم على نفسه أكل اللحوم.
جـ- تغيرات الحياة الجديدة :التي فرضت نفسها من خلال امتزاج الحضارات الأخرى وحياة الشعوب الأخرى وما ابتدعه المفكرون من طرائق جديدة للفكر ، فقد نقل العرب حكمه الفرس ووصاياهم وآدابهم وأساليبهم في الحياة السياسية والصداقة والمشورة . قال بشار:
إذا بلغ الرأيُ المشورة فاستعن برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليل غضاضة فريشُ الخوافي قوةٌ للقوادمَ
ونقل العرب أيضاً حكمة الهند وعلومها في الحساب والفلك والطبيعة ، فقد زعم علماء الهند أن الشيء إذا أفرط في البروده عاد حاراً، وقد أخذ هذا المعنى أبو نواس :
قل لزهير إذا حدا وشدا أقلك أو أكثر فأنت مهذارُ
سخنت من شدة البرودة حتى صرت عندي كأنك النارُ
ويقول المعري:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالماً ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح
ونقل العرب الثقافة اليونانية وفلسفتها المعتمدة على المنطق والأقيسة والأدلة واستخدام الشعراء مصطلحات فلسفية، كفكرة الجوهر، والكل والتعليل والتضاد يقول أبو العتاهية في سكون الحركة:
يا عليُّ بن ثابت بان مني صاحبٌ حلَّ فقده يوم بنتا
قد لعمري لي غصص المو ت وحرَّكتني لها وسكنتا
ويقول أبو نواس في فكرة الجزء الذي لا ينفكك :
يا عاقد القلب مني هلا تذكرت حلا
تركت مني قليلاً من القليل أقلاّ
يكاد لا يتجزّأ أقلّ في اللفظ من لا
ويقول أبو تمام في التضاد فصوّر جمال إحدى صواحبه :
بيضاء تسري في الظلام ميكتسي نوراً وتسرب في الضياء فيظلم







الباب الخامس
الصعاليك في العصر العباسي
لم تكن الحياة الاجتماعية في العصر العباسي صحيحة مستقيمة بل كانت مضطربة مختلة لا تحقق الخير ولا توفر الحياة الحرة الكريمة ، فقد تمتع الخلفاء والوزراء ومن في حكمهم بهذه الحياة وعاش الباقون حياة بائسة بسبب سوء توزيع الثروة وهذا ما استدعى اختلالا ً اقتصاديا ً من مظاهره :
1- العنف في جباية الخراج .
2- زيادة الخراج .
3- خيانة العمال ( جباة الضرائب ) .
4- عزل الخلفاء للوزراء واسترداد ما جمعوه بغير حجة .
5- إنفاق الأموال على سبل لا تفيد الناس .
6- كثرة المتمردين الذين استدعوا أموالا ً طائلة للقضاء عليهم .
7- إغداق الأموال على القادة العسكريين لضمان ولائهم .
8- إجراء الأعطيات على بعض الأمصار كالحجاز , وهذا ما دعى الناس إلى محاولة رد المظالم عنهم تارة برفع الشكاوي للخليفة أو الولاة وتارة بالامتناع عن دفع الخراج وأخرى بالثورة على العمال ومحاربتهم .
وقد انقطعت الصلة بين بيوت المال والرعية ولم تعد بيوت المال تدفع للمعوزين ما فرضه القرآن الكريم لهم مما أدى لانتشار الفقر والعجز عن التماس العيش بالطرق المشروعة وهذا ما كانت عليه نتيجة التمرد على الأوضاع السيئة والسعي لكسب الأقوات بطرق غير مشروعة والإغارة على المدن وسرقة الأسواق والتجار ولقد ساعد في انتشار الصعاليك كثرة الفتن والاضطرابات بسبب استبداد العباسيين بالحكم واستئثارهم بالحكم والخلافة والفتك والتنكيل بمعارضيهم وهذه الفتن التي وقعت كان بعضها بسبب الصراع على الحكم والتنازع على السلطان وكان بعضها الآخر بسبب نزعة الانفصال والاستقلال عن الدولة العباسية بينما كانت تارة بسبب البغي والطغيان في الحكم وقد عبر أبو العتاهية عن الحالة المتردية والحاجة المزرية شاكيا ً غلاء الأسعار وظلم العمال وانتشار البطالة إلى الخليفة :
من مبلغ عني الأمام نصائحا ً متواليه
إني أرى الأسعار أسعار الرعية عالية
وأرى المكاسب نزرة وأرى الضرورة قاسية
وأرى غموم الدهر رائحة تمر وغادية
وأرى اليتامى والأرامل في البيوت الخالية
يشكون مجهدة بأصوات ضعاف عالية
من يرتجي للناس غيرك للعيون الباكية
من للبطون الجائعات والجسوم العارية
وقد سجل لنا القدماء أخبار بعض الفقراء اللصوص في هذه الاضطرابات والفتن وأكثر ما كان ذلك في صراع الأمين مع المأمون حيث انتهز العيارون هذه الفرصة ونهبوا أموال التجارة وكثر اللصوص وقطاع الطرق في مصر وفي خراسان كذلك مما يدل على أن الاختلال الاقتصادي والاجتماعي كان له السبب الأكبر في ظهور الصعلكة .
وحركة الصعلكة العباسية تختلف أبعادها وأدواتها عما كانت عليه في العهد الاموي والجاهلي لأن الإسلام وفي عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والعهد الراشدي جفف منابع ذلك .
إن حركة الصعلكة العباسية كان مكانها الحواصر والمدن لا الصحراء كما كان سابقا ً بحيث استقر الصعاليك العباسيون مع أزواجهم وأولادهم في هذه الحواضر وهذا ما جعلهم يحرصون على العناية بأولادهم ويعطفون عليهم بعكس الصعاليك الجاهليين الذين كانوا مغامرين لا يبالون بالموت ولا يخافون المكاره .
ومن الطرق التي اتبعها الصعاليك في العصر العباسي الهجاء الساخر الذي يلقونه إلى العامة والصبيان ليرددوه وبالتالي ليجبر التاجر البخيل على دفع إتاوة للشاعر كما صنع أبو فرعون الساسي وأبو الشمقمق وأبو الينبعي والحمدوني فهم هجاؤون كثيروالفحش خبيثو الألسنة سريعون إلى أعراض الناس قبحا ً ورذالة , ومن ذلك ما قاله أبو الشمقمق في داوود بن بكر والى فارس والأهواز عندما مدحه ولم يعطه :
وله لحية تيس وله منقار نسر
وله نكهة ليث خالطت نكهة صقر
وكذلك هجا أبو الينبعي الفضل بن مروان فأغرى به الواثق بحبسه حتى مات .
وعلى العموم فإن اللصوص لم يستخدموا السلاح والإغارة على فرائسهم بل كانوا يحتالون لسرقة حاجاتهم يحتملون الضرب ويصبرون على العذاب حتى لا يفشوا أسرارهم وبينما كان الطفيليون يشبعون حاجاتهم بالدخول إلى الأعراس وحضور الولائم دون دعوة .
وليس معنى ذلك أن الصعاليك العباسيين لم يكن فيهم من يغير أو يسلب وينهب كجعفر بن علبة الحارثي , دنيئا ً يشرب ويلهو مع كونه فارسا ً شجاعا ً شرب مرة فحبسه السلطان فقال
لقد زعموا إني سكرت وربما يكون الفتى سكران وهو حليم
لعمرك ما بالسكر عار على الفتى ولكن عارا ً أن يقال لئيم
وإن أمرأ دامت مواثيق عهده على دون مالا قيمته لكريم
وقد قتل على يد والي مكة بعد أن حوصر مع رفيقيه " علي بن جندب الحارثي والنضر بن مضارب المعاوي , وفي ذلك يقول :
خلعت يمينا ً برة لم أرد بها مقالة تسميع ولا قول باطل
ليختطمن الهندواني منهم معاني قد يخشاها الطبيب المزاول
وهذا يدل على معاني عباسية لها جذور جاهلية , أما أبو الندى فقد قاد جيشا ً من اللصوص وأغار على قرى الشام يتربص بالقوافل وفي ذلك يقول بعد معركة بينه وبين ابن الوزير الجزري :
أقول إذا الرفاق بدت لوجهي إلا حلوا رحالكم وطيروا
وإن لم تتركوها فاستعدوا لحرب مثل خاصية تغور
أقول لصحبتي كروا عليهم فليس يهزهم إلا الكرور
ويعد بكر بن النطاح الشاعر من الصعاليك التوابين إذ كان بطلا ً شجاعا ً فارسا مقداما ً حيث كان في صدر حياته صعلوكا ً يصيب الطرق ثم ما لبث أن تاب والتحق بجيش يزيد بن مزيد الشيباني القائد المشهور في عهد المهدي والهادي والرشيد فأجرى له راتبا ً ثم غضب الرشيد منه لأنه مدح يزيد فانتقص من شأن قريش في مدحه وانتقد الخلافة العباسية وما تقوم عليه ما من استبداد حين قال :
فإن يك جد القوم فهر بن مالك فحسبي فخرا ً فخر بكرين وائل
ولكنهم فازوا بإرث أبيهم وكنا على أمر من الأمر باطل
كذلك اتصل بكر بن الفطاح بابي دلف العجلي القائد المظفر لعصر الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم فجعله من جنده وأجرى عليه رزقا ً وانعقدت بينهما مودة وصداقة وقاد له جيوشا ً لردع من كانوا يعيثون بعمله فسادا ً أو كان يريد التمرد والخروج على السلطان وبقي معه ومع مالك بن علي الخزاعي حتى قتله الشراة بحلوان , وكان قد هزمهم قبل ذلك , فرثى بكر بن النطاح مالك بن علي الخزاعي قائلا ً :
عز الغواة به وذلت أمة محبوة بحقائق الإيمان
وبكاه مصحفه وصدر حسامه والمسلمون ودولة السلطان
أفتحمد الدنيا وقد ذهبت بمن كان المجير لنا من الحدثان
أما الصعاليك الفقراء فقد أكثروا من وصف فقرهم وإملاقهم وبؤسهم وتعاستهم وضيق حياتهم وحرمانهم ويأسهم لانقطاع أسباب رزقهم بينما عاش الأغنياء في سعة من العيش ونعم كثيرة على حساب فقر الناس وإن هؤلاء الأغنياء سبب محنة الفقراء وبلائهم وقد لخص الحمدوني وضع الشعراء الصعاليك الفقراء الهجاؤين قائلا ً :
من كان في الدنيا أخا ثروة فنحن من نظارة الدنيا
نرمقها من كتب حسرة كأننا لفظ بلا معنى
وقد وصف هؤلاء الصعاليك عري أبنائهم وجوعهم واصفرار وجوههم وهزال أبدانهم ومن ذلك قول الساسي :
وصبية : مثل صغار الذر سود الوجوه كسواد القدر
جاء الشتاء وهم بشر بغير قمص وبغير أزر
تراهم بعد صلاة العصر وبعضهم ملتصق بصدري
وبعضهم ملتصق بظهري وبعضهم منحجر بحجري
إذا بكوا علتهم بالفجر حتى إذا لاح عمود الفجر

كأنهم خنافس في حجر هذا جميع قصتي وأمري
كذلك كان أبو الشمقمق همه خبز عياله شأنه شأن الشعراء الصعاليك , ولقد استخدم الشعراء الفقراء من الصعاليك وسائل عدة لنيل أرزاقهم كاستخدام الرقاع ورفع الشكوى لكبار رجال الدولة من القضاة والوزراء والإشراف طالبين مساعدتهم كما صنع أبو فرعون الساسي حين كتب إلى قاضي البصرة :
يا قاضي البصرة ذا الوجه الأغر إليك أشكو ما مضى وما عبر
عفا زمان وشتاء قد حضر إن أبا عمرة في بيتي الخجره
يضرب بالدف وإن شاء زمر فاطرده عني بدقيق ينتظره
فأجابه القاضي إلى ما سأل .
وهذا أبو الشمقمق يستعدي بعض الهاشميين على الفقر قائلا ً :
يا أيها الملك الذي جمع الجلالة والوقاره
إني رأيتك في المنام وعدتني منك الزيارة
فغدوت نحوك قاصدا ً وعليك تصديق العبارة
إن العيال تركتهم بالمصر خبزهم العصارة
وشرابهم بول الحمار مزاجه بول الحماره
ضجوا فقلت تصبروا فالنجح يقرن بالصبارة
حتى أزور الهاشمي أخا الغضارة والنضارة
وكان هؤلاء الشعراء الصعاليك يمدحون " العمال والكتاب " وبعض أبناء البيت الهاشمي مما لم يكن لهم شأن كبير وأكثر مديح الصعاليك متضمن الشكوى والاستعطاف مما دفع ممدوحيهم للصدود عنهم , ومديح أبي فرعون الساسي للحسن بن سهل وزير المأمون أوضح مثال لذلك :
إليك أشكو صبية وأمهم لا يشبعون وأبوهم مثلهم
قد أكلوا اللحم ولم يشبعهم وشربوا الماء فطال شربهم
وامتذقوا المذاق فما أغناهم والمضغ إن نالوه فهو عرسهم
لا يعرفون بالخبز إلا باسمه والتمر هيهات فليس عندهم
وما رأوا فاكهة في سوقها ولا رأوها وهي تنحو نحوهم
وكذلك اتخذ الشعراء الفقراء طريقة الهجاء سلاحا ً لكسب قوتهم وكان هؤلاء الشعراء يستخدمون فاحش القول وخبث اللسان ومن هذا النوع قول أبي الشمقمق يهجو رجلا ً يسمى معبدا :
يا من يؤمل معبدا من بين أهل زمانه
لو أن في اسمك درهما لاستله بلسانه
وكذلك قوله يهجو القائد سعيد بن سلم الباهلي هجاء ً مزج فيه بين التحقير والسخرية مع بيان بخله :
هيهات تضرب في حديد بارد إن كنت تمطح في نوال سعيد
والله لو ملك البحار بأسرها وأتاه سلم في زمان مدود
يبغيه منها شربة لطهوره لأبى وقال تيممن بصعيد
ويقول الحمدوني هاجيا ً الجاحظ :
لو يمسخ الخنزير مسخا ً ثانيا ً لرأيته من دون قبيح الجاحظ
ويقول في هجاء أحمد بن حرب المهلبي بعد أن وهبه طيلسانا ً قديما ً لم يعجبه :
رأينا طيلسانك يا ابن حرب يزيد المرء ذا الضعة اتساعا
إذا الوفاء أصلح منه بعضا ً تداعى بعضه الباقي انطواعا
ولقد شكل اللصوص في العصر العباسي حركة قوية ومنظمة أفرادها على درجة عالية من الوعي الاجتماعي والثقافة الواسعة والمعرفة الصحيحة بمفاسد الحكام وطغيانهم واختلال الاوضاع الاقتصادية وطمع التجار وعدم أداء حقوق الفقراء الواجبة على الأغنياء وقد كان لهؤلاء اللصوص لباسهم الخاص بهم مع كونهم أذكياء يدربون بعضهم على اللصوصية وقد حملوا مبادئ رفيعة حافظوا عليها حيث كان أفرادها يتخذون شكل العصابات التي تنتشر في المدن حيث يقوم كل فرد من العصابة بعمل بعينه ودور خاص به , وقد كان اللصوص العباسيون يمارسون أعمالهم بالحذر والحيطة والمراقبة من الأعوان والمساعدين حين يريدون السطو على الأسواق أو سرقة التجار .
وبما أن اللصوص العباسيين قد نشؤوا في بيئة حضرية ومجتمع مستقر ومدن كبيرة فقد غيروا وسائلهم وبدلوها بحسب الواقع والحال فاعتمدوا الخداع والحيل اللطيفة والخدع الخفيفة حتى يضمنوا النجاح لأعمالهم في كل مكان فقد ابتدعوا للمسجد حيلة وللسوق حيلة وللمسافر حيلة وللسائر في الطرق حيلة وللتجار حيلة وللدور حيلة .
ففي المساجد التي يأوي إليها التجار ينتظرون التاجر حتى يدخل ويصلي ويضع ماله تحت رأسه وينام يربطون رجله بحبل متين مشدود إلى وتد قوي ثم يستلون صرته أو كيسه , فإن لم يشعر بهم فروا آمنين وإن أفاق وأحس أنه سرق وانطلق يعدو خلفهم لم يمكنه الاستمرار بالعدو ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء اللصوص كانوا ذوي مبادئ وأهداف فلا يسرقون إلا التجار الذين يمتنعون عن الزكاة أو التجار الكاذبين المخادعين الذين يأكلون أموال الناس ظلما ً وعدوانا ً أو التجار الخونة , أما الأثرياء الكرماء فكانوا يحترمونهم ويقدرونهم ولا يصيبونهم بسوء وكذلك كانوا يسطون على البخلاء وفي ذلك يقول أحدهم :
وعيابة للجود لم تدر أنني بإنهاب مال الباخلين موكل
غدوت على ما احتازه فحويته وغادرته ذا حيرة يتململ
وقد يلص أحدهم كعثمان الخياط على حواشي الخلفاء المتمتعين بزينة الحياة الدنيا والشحاذين وقطاع الطرق والفاسقين العابثين والأغنياء المترفين :
سأبقي الفتى أما جليس خليفة يقوم سواء أو مخيف سبيل
وأسرق مال الله من كل فاجر وذي بطنة للطيبات أكول
ومع ذلك فكان هؤلاء اللصوص مراعين لحق الجوار لا يجازون سيئة بسيئة صادقين أوفياء بالعهد والأمانة في المعاملة وقد اصطلحوا على تسمية أعمالهم بالفتوة .
ولا ينبغي أن ننسى فئة العيارين أولئك الأحباش والأفارقة الذين جلبوا للخدمة في مختلف الميادين كالقصور والمزارع فشعروا بالضيق ووعورة العيش وظلموا فاضطروا للثورة والتمرد والاكتساب الرزق بالتلصص والسرقة مما جعلهم يدخلون السجون .
وفي ذلك يقول أحدهم :
وما قتل الأبطال مثل مجرب رسول المنايا ليله يتلصص
وقد أثبت هؤلاء العيارون مقدرتهم الحربية في أصعب المواقف :
خرجت هذه الحروب رجالا ً لا لقحطانها ولا لنزار
معشرا ً في جواشن الصوف يعدون إلى الحرب كالأسود الضواري
وكذلك يجب ألا نغفل اللصوص الشطار الفتيان الذين تركوا أهلهم مراغما ً وتمردوا على مجتمعاتهم بالتلصص والسرقة يتفننون أوقات الفوضى في المدن ويغيرون على التجار والأغنياء والقرى ويتسولون على ما يستطيعون نهبه وحمله يحملون مبادئ وأهداف محمودة ويعرفون بالفتيان وقد حمل العوز إسحق الحنفي على الانضمام لركب الشطار لكي يوفر لابنة أخته التي يتبناها ورباها بلغ العيش ويجنبها السؤال :
لولا أميمة لم أجزع من العدم ولم أجب في الليالي حندس الظلم
وزادني رغبة في العيش مفرقتي ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم
أحاذر الفقر يوما ً أن يلم بها فيهتك الستر عن لحم على وضم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ً والموت أكرم نزالا ً من أذى الكلم
أخشى فضالة عم أو جفاء أخ فكنت أبقي عليها من أذى الكلم
وقد عدل الشاعر عن اللصوصية إلى المدح والهجاء للتأثير على كبار رجال الدولة علهم يواسونه ببعض المال . وكذلك ظهرت فئة التطفيل الذين كانوا يأتون الولائم من غير أن يدعوا إليها بسبب عدم حيائهم وشح الأثرياء وقعودهم عن مساعدة الضعفاء ومواساة الجائعين ،وقد عبر عن ذلك أحدهم حين قال :
ولما رأيت الناس ضنوا بما لهم فلم يك فيهم من العيش إلى الفضل
ولم أر فيهم داعيا ً لابن فاقة يمن إلى شرب ويصبو إلى أكل
ركبت طفيليا ً وطوفت فيهم ولم أكترث للحم والعلم والأصل
ومن أعلام التطفيل " طفيل بن زلال " و " عثمان بن درج " الذي يقول :
لذة التطفيل دومي وأقيمي لا ترممي
أنت تشفين عليلي وتسليني همومي
فالطفيليون والشطار والعيارون فقراء جائعين لا يميلون إلى التلصص على الناس ونهبهم بل إلى الحيلة لتحصيل رزقهم .


الباب السادس
أبرز أعلام الشعر في العصر العباسي
كثر الشعر الذي كتبه الرجال في العصر العباسي وكذلكالنساء ،ولم يكن الشعر النسائي في المجتمع العباسي مقصورا على الحرائر وحدهن دون القيان ،فقد غض ذلك المجتمع بالكثير من الجواري اللائي سكن القصور واستولين في كثير من الحالات على قلوب أصحاب القصور أنفسهم ، وإذا كانت أساليب القيان في الاستيلاء على إعجاب مواليهن قد قامت في وقت ما على ما تملكه الجارية من لباقة وجمال وإظهار أسباب الدلال ثم أضيف إلى ذلك عزف بارع وصوت حسن وغناء متقن أخاذ ، فان الأمر ما لبث أن تطور فأصبح القيانون يحرصون قدر استطاعتهم على إن يعدوا جواريهم إعدادا أدبيا ويخرجوهن على اللغة ويدربوهن على قول الشعر ، فنبغ من بينهن القينات الشاعرات الموهوبات ، وبعض أولئك جمعن إلى إجادة الشعر جمال الصوت وإتقان العزف وبراعة الضرب وحسن الأداء مع جمال وافر وبديهة حاضرة ونكته سريعة في غير تحرج من فحش اللفظ سماعا أو قولا .
لقد وجد عدد غير قليل من هؤلاء الشاعرات القيان اللاتي فرضن أنفسهن على بغداد فشغلن الناس فيها ابتداء من الخليفة في قصره مروا عبر طبقات المجتمع وصولا إلى الفقير في كوخه ، وأكثر هؤلاء كن منحرفات منحلات وراء ستار من التظاهر بالظرف واصطناع الفكاهة ، ولعل أشهر من شغل مجتمع (( العباسية ) من هؤلاء القيان عنان جارية الناطفي – أو النطاف – وفضل التي عرفت بأنها جارية المتوكل وعريب التي عرفت باسم عريب المأمونية لشدة تعلق المأمون بها .
غير أن هذا السلوك المنحرف عن جادة الفضيلة لم يكن ظاهرة عامة بحيث شمل جميع الجواري والقيان الشاعرات ، لقد وجد من بينهن الصالحات الفاضلات من أمثال سكن جارية محمود بن الوراق وخنساء جارية هشام المكفوفوسنذكر أهم الشعراء والشاعراتإننا نضع الشعرالعباسي من حيث موضوعاته وأساليبه في إطارين متباينين لفريقين مختلفين .الإطار الأول هو إطار البيت السهل التركيب في القصيدة أو المقطوعة الناعمة الإنشاء ، وأكثر هذا الشعر لا يكاد يصدر عن عاطفة ولكنه يصدر عن اصطناع للعاطفة أو ابتداع للظرف ، وأكثره شعر اجتماعي أو شعر مناسبات ، ولا نستطيع إن نسجل لهذا الفريق من الشاعرات شيئا أكثر من انهن عايشين مجتمعهن ، وكان شعرهن في نطاق أنوثتهن سهلا بسيطا محدود ملكة الإبداع إلا في حالات قليلة ، إن الفريق الذي يتمثل داخل هذا الإطار هو فريق الشاعرات القيان ومن كن في سلوكهن وعيشهن قريبات من سلوك القيان ، ومن ثم فإن الشاعرة عليه بنت المهدي تعتبر واحدة من هذا الفريق .
وأما الإطار الثاني فهو إطار القصيدة النسائية العربية المتماسكة المصقولة ذات الموضوع والرونق والديباجة والأحكام ، ولا شك في إن هذه السمات الموضوعية والأسلوبية مرتبطة أيضا بطبيعة هذا الفريق الثاني من الشاعرات وبالموضوعات التي كن يعالجنها من خلال قصائدهن ، إنهن فريق الحرائر اللائي كابدن قضايا كبيرة وعشن حياة جليلة خطيرة دفعت بهن إلى القول الجاد الذي ارتفع إلى مستوى الأحداث والقضايا التي عايشنها وعالجنها ونحن نعني بهذا الفريق الفارعة بنت طريف الشيبانية وولادة المهزمية ونلحق بهما من الجواري من سلكن سبيل الحرائر وبالتالي يندرج في نفس الإطار ((سكن)) جارية محمود الوراق (( وخنساء)) جارية هشام المكفوف.




(1)
علية بنت المهدي
عرفت المرأة العربية بقول الشعر سلسا فصيحا بليغا في الجاهلية والإسلام وعصر بني أمية وكان امرأ طبيعيا إن تنبغ شاعرات من بين النساء في عصر بني العباس ، غير إن طبيعة البيئة العباسية التي فصلنا الكثير من جوانبها في فصول سلفت لم تقدم لنا الشاعرة الحرة القول العفيفة المشاعر النقية الحب على ما ألف الشعر العربي وإلفنا نحن بالنسبة للعصور السابقة . صحيح أنه وجد بين الشاعرات الجاهليات والإسلاميات من غرقن في الحب واكتوين بلوعة ولكن واحدة منهن لم تخرج عن الجادة ولم تترخص أو تتهافت كما فعلت أكثر شاعرات ((العباسية )) ولا زالت بعض أنغام العفة تترنح في دلال على عتبات إسماعنا في قول ليلى الأخيلية لصاحبها توبة الحميري وقد ظنت أنه أراد بها ريبة :
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي إن نخونه وأنت لأخرى صاحب وخليل
أما في العصر العباسي فإن هذه القيم قد انمحت أو كادت ، بل إن الشاعرات قد تناقص عددهن بالنسبة إلى عددهن في العصور السابقات .
على أن أشهر الشاعرات العباسيات على الإطلاق كانت أميرة عباسية أبوها كان خليفة هو المهدي بن المنصور ، وثلاثة أخوة لها كانوا خلفاء ، احدهم أشهر خلفاء بني العباس على الإطلاق وهو هارون الرشيد ، والأخوان الآخران هما موسى الهادي وإبراهيم بن المهدي ، وهذا الأخير ولي الخلافة في بغداد لبعض الوقت حين خلع المأمون ، وكذلك شهدت ابنين من أبناء أخيها جلسا على عرش بني العباس هما الأمين والمأمون ، تلك هي الأميرة العباسية الشاعرة علية بنت المهدي أخت الرشيد والهادي وإبراهيم من الأب ، أما أمها فكانت جارية مغنية اسمها مكنونة ، اشتراها المهدي في حياة أبيه بمائة ألف درهم فولدت له عليه التي تعرف أحيانا باسم العباسة
لم تكن عليه شاعرة وحسب وإنما كانت تجيد العزف وتحسن الغناء ، وكان الرشيد يذهب إليها لكي يطرب بالاستماع إليها تغني شعرا في مديحه من إنشائها وغنائها وكذلك كان يستمع إليها ابنا أخيها الأمين ثم المأمون . أما أخوها إبراهيم فكان مثلها شاعرا عازفا مغنيا وكان يأخذ عنها الألحان ويرددها حتى إن الاصبهاني يردد خبرا مفاده أنه ما اجتمع في الإسلام قط أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدي وأخته عليه
وعلى الرغم مما ذاع عن عليه من مغامرات في الحب مع غلاميها (( رشا)) و ((طل )) وما ذاع من قصائد التشبيب بهما ، فإن الاصبهاني ينسب إلى أحد المقربين من بني العباس قوله إنها كانت حسنة الدين لا تغني ولا تشرب النبيذ إلا إذا كانت معتزلة الصلاة ، فإذا طهرت أقبلت على الصلاة والقرآن وقراءة الكتب ولا تلذ بشيء غير قول الشعر ، وينسب إليها كلاما جميل المعاني مثل قولها : ما حرم الله شيئا إلا وقد جعل فيما حلل منه عوضا ، فبأي شيء يحتج عاصية والمنتهك لحرماته ؟ أو قولها عن نفسها : لا غفر الله لي فاحشة ارتكبتها قط ، ولا أقول الشعر إلا عبثا.
على كل حال كانت تشرب وتغني وتعبث وتتغزل ، ولقد سبق لعمر بن أبي ربيعة أن قال كلاما شبيها بهذا فترجو أن يكون كلاهما صادقا ، والله اعلم بالسرائر .
على أن الأمر الذي لا شك فيه إن عليّه كانت شاعرة رقيقة وكانت ذكية واسعة الثقافة الشيء الذي يبدو جليا في شعرها ما كان منه في الغزل أو في أغراض أخرى على قلتها وأكثرت ما قالت عليه من شعر قالته في الغزل والحب وأتت فيه بأفكار شتى وطلعت على الناس منه بصور عديدة فيها حلية ورقة ولطف وفكاهة ، ويبدو أنها نفسها كانت فكهة مرحة شأن أكثر أصحاب الفنون ، ولكنها كانت موجعة في هجائها مسرفة فيه مريرة في سبابها ، فقد هجت جارية اسمها ((طغيان )) لوشاية قامت بها تجاه من تحب فقالت فيها أبياتا ثلاثة من أشنع ما تهجى به امرأة نذكر منها اثنين فقط ونمسك عن الثالث :
لطغيان خف مذ ثلاثين حجة جديد فلا يبلى ولا يتحرق
وكيف بلى خف هو الدهر كله على قدميها في الهـواء معلق
فإذا ما انتقلنا إلى غزلها فإننا نلمس أنه مر في أطوار عدة ،
1-الطور الأول هو مرحلة التكبر والاستعلاء على الناس أجمعين ، وأنها تخلو وحدها إلى الراح تنادمها لأنها لم تجد الصاحب الكفء الذي يصلح لمنادمتها ومشاركتها فتقول :
خلوت بالراح أناجيها آ منها وأعاطيها
نادمتها إذ لم أجد صاحبا أرضاه إن يشركني فيها
ثم لا تلبث الأميرة أن تعشق ، وتفصح عن عواطف حبها ، ولكنها تلوذ بالكتمان وتتسربل بالحياء ، وتود السفر إلى بلد ناء بعيد حتى تنطق باسم الحبيب :
كتمت اسم الحبيب عن العباد ورددت الصبابة في فؤادي
فواشوقي إلى بلـد خلي لعلي باسم من أهوى أنادي
ويبدو أن الحب قد ملك عليها بعد زمان أمرها ، فأصبحت لا البعد يسليها ، ولا القرب يشفيها ، فراحت تفلسف الحب وتجعل منه قضية منطقية ذات مقدمة ونتيجة ولكنها قضية تنم عن يأس ولوعة:
إذا كنت لا يسليك عمن تحبه تناء ولا يشفيك طـول تـلاقي
فما أنت إلا مستعيـر حشاشة لمهجة نفس أذنت بفراق
وتمضي الشاعرة الأميرة المحبة المثقفة فتدلف بالحب إلى منعطفات فلسفية ذاتية وتحاول أن تصبغ حالاته معها بصيغة الحكمة ، وربما تصورت أن أبياتها سوف تذيع يوما ما وتجري مجرى الأمثال ، فتقول هذا الشعر اللطيف الذي ربما عمدت فيه إلى التظرف أكثر مما عمدت فيه إلى نهج من الجدية :
بني الحب على الجور فلو أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستحسن في وصف الهوى عاشق يحسن تأليف الحجج
لا تعيبن من محـب ذلـة ذلة العاشق مفتاح الفرج
وقليل الحب صرفا خالصا لك خير من كثير قد مزج
وعليّه ذكية فطنة ذات ثقافية دينية فقهية فيما يبدو ، أنها تستعمل المصطلحات الفقيهة في شعر الغزل برشاقة تحسد عليها وأسلوب ينم عن نفس صافية عذبة وشاعرية خصبة تنثال عليها المعاني ميسرة الأسباب متى استدعتها ، أنها تشكو الحب وخطبة – فالحب عندها من المصائب – بهذا الأسلوب الرائق الصوغ
ليس خطب الهوى بخطب يسير ليس ينبيك عنه مثل خبير
ليس أمر الهوى يدبر بالرأي ولا بالقياس والتفكير
ويلح سلطان الحب على شاعرة بني العباس فتشكو الأم الحب ولوعة الجوى شكوى صريحة بعيدة عن الاستتار واصطناع الأقنعة الكلامية ، وتحاول أن تجامل محبوبها بخلع صفات الجمال عليه ولا تنسى نصيبها هي الأخرى من إطراء نفسها ترغيبا له وإثارة وإشفاقا فتقول بأسلوب يكاد يقترب من أسلوب الصوفية :
لم ينسنيك سرور لا ولا حزن وكيف لا كيف ينسى وجهك الحسن
ولا خلا منك لا قلبي ولا جسدي كلي بكلك مشغول ومرتهن
وحيدة الحسن ما لي عنك مذ كلفت نفسي بحبك إلا الهم والحزن
نور تولد من شمس ومن قمر حتى تكامل فيه الروح والبدن
ويحدث تطور في شعر الغزل عند عليّة حين تعلن حبها لإنسان بعينه ، وتفصح عن أنها تقول فيه شعرها ، ولكنها تعلن في نفس الوقت أنها تعمد إلى التعمية فتكني عنه باسم زينب ولم تكن زينب هذه سوى غلامها رشأ الذي قالت فيه شعرا كثير.
وجـد الفـؤاد بزينبـا وجدا شديدا متعبا
أصبحت من كلمي بها أدي سقيما منصبا
ولقد كنيت عـن اسمها عمـدا لكـي لا تغضبا
وجعلت زينب سترة وكتمت أمرا معجبا
قالت لقـد عـز الوصال ولـم أجد لـي مذهبا
والله لا نلت المـودة أو تنـال الكوكبـا
ولم يكن ((رشأ)) الفتى الوحيد الذي استولى على قلب عليّة ، بل كان هناك فتى آخر يصارع قلبها حبه ربما أكثر مما كان يحتله رشأ منه ، إن هذا الفتى الثاني هو ((طل)) ويبدو إن عليه كانت تحب ((طلا)) حبا حقيقيا فبعض شعرها فيه شبيه إلى حد ما بشعر العذريين ، وكانت تعمد إلى التورية حين تتغزل فيه ذاكرة اسمه ، ولكنها تورية عذبة لطيفة إنها تقول في أبياتها تلك الغزلية التي جمعت بين التورية والعذرية :

أيا سروة البستـان طـال تشوقي فهل لي إلى ((طل)) لديـك سبيل
متى يلتقي من ليس يقضي خروجه وليس لمـا يقضي إليه دخول
عسى الله أن نرتاح من كربة لنا فيلقي اغتباطا خلـة وخليل
ويستبد حب علية لطل ويحتجب عنها فترة زمنية تطول بعض الوقت ربما خشية على حياته من بطش الرشيد فيدفع الشوق بالأميرة إلى أن تخاطر بالسعي إليه على ميزاب وتحس علية بالمخاطرة التي أقدمت عليها وهي مخاطرة لا يقدم عليها العاشقون من الرجال فما بالك إذا كان الذي قام بها ليس مجرد أنثى ولكنها أميرة خطيرة إنها على كل حال لا تخفي مشاعرها نحو هذة الحادثة و تذكرها في هذين البيتين
قد كان ما كلفتة زمنا يا طل من وجد بكم يكفي
حتى أتيتك زائرا عجلا أمشي على حتف إلى حتفي
ويعلم الرشيد بقصة غرام أخته وفتاها (طل )فينهرها ويأخذ عليها عهدا ألا تكلم (طلا) ولا تسمية باسمه وتستجيب الأميرة لرغبة أخيها الخليفة ثم تلعب المصادفات الطريفة دورا فكها حين يمر الرشيد على مقربة من أخته وهي تدرس آيات من سورة البقرة حتى بلغت إلى قوله تعالى (فإن لم يصبها وابل فطل ) وتفطن الأميرة إلى لفظ (طل)التي وردت في الآية وتتذكر أنها أقسمت ألا تنطق هذه الكلمة أخذت علي فتقرأ الآية هكذا : فإن لم يصبها وابل فالذي نهانا عنه أمير المؤمنين، وهنا يدخل الرشيد و يمديده إليها ويقبل رأسها ويقول لها قد وهبت لك (طلا ) ولا أمنعك بعد ذلك من شئ تريدينه.
وكأنما أخذت علية من أخيها بهذا التصريح ميثاق تحرر وانطلاق وانفلات فطفقت تقول في الحب والغزل قول من لا يخشى ولا يتحرج ، وكأنما جعلت من نفسها سادنة لفن الغزل وأساليب القول فيه ، فأخذ أسلوبها يرق ومعانيها تعذب إلى إن وصلت إلى هذه المرتبة في الحديث إلى العاشقين وحضهم على العشق قائلة :
تحبب فإن الحب داعية الحب وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
تبصر فإن حدثت أن أخا هوى نجا سالما فارج النجاة من الحب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا فأين حلاوات الرسائل والكتب
إن عليّة شاعرة كبيرة ما في ذلك شك، ولكنها شاعرة في نطاق أنوثتها بحيث إذا ما قورن شعرها بشعر الشعراء من الرجال فربما خبا ضوؤه وخفت صوته ، إنها أستاذة الشاعرة الأميرة ولادة بنت الخليفة المستكفي بالله الأندلسي ، التي ظهرت هناك بعد ذلك مما يناهز ثلاثة قرون من الزمان ، ولكن علية على كل ما نسب إليها حقا كان أو باطلا ، لم تنس أنها من بيت الخلافة فلم ترد في غزلها كلمة نابية أو معنى خارج على حدود المألوف اللهم إلا في حالات قليلة ، ربما لم تقصد بشعرها الذي قيل في تلك الظروف الخاصة إلى إذاعته وروايته وترديده . ثم إنها حين مدحت لم تمدح غير أبناء أسرتها مثل الرشيد وولديه اللامين والمأمون ، ولكننا ينبغي أيضا أن نحكم ربطها بالبيئة الاجتماعية للدولة العباسية فهي تغني ويسمعها أخوها الخليفة وابنا أخيها الخليفتان ، وهي تعشق وتتغزل وتهذي بمن تحب تحت سمع الخليفة وبصره فلا يفعل أول الأمر أكثر من إن يزجرها بلطف ، ثم لا يلب ثان يهبها الغلام الذي ملأت الدنيا صراخا بحبه وهجره ، إنها ظاهرة اجتماعية عباسية فارسية غير عربية على كل حال .. ولذلك فإن كلا من علية هذه وأخيها إبراهيم بن المهدي كانا من السوءات التي استغلها الشعراء من أعداء بني العباس وبخاصة شعراء الشيعة ، واستطاعوا إن ينالوا من خلق الخلافة العباسية ومن سمعة البيت العباسي بسببهما نيلا كثيرا ، خصوصا حينما كانوا يجرون المقارنات بين حشمة وطهارة نساء آل البيت ورجاله وبين مجون وانفلات نساء بيت بني العباس ورجاله .




(2)
الفارعة بنت طريف :
إذا كانت علية قد نشأت في بيت الملك وتحت سقوف القصور المذهبة فان الفارغة بنت طريف الشيبانية كانت على العكس من ذلك ، إن الفارعة التي اختلفت المصادر في اسمها الحقيقي فسمتها ليلى تارة وفاطمة تارة أخرى شاعرة فارسة خاضت غمار الحب ممتطية صهوة جوادها لابسة درعها ممسكة بجوشنها شاهرة سيفها غير هيابة ولا رعديدة ، إنها أخت الفارس الخارجي الوليد بن طريف الشيباني الذي لقب بالشاري ، وهو اللقب الذي اصطلح الخوارج على تسمية الواحد منهم به ، وكان الوليد رأسا للخوارج على أيام الرشيد مقيما بنصيبين والخابور وما حولهما من نواح ، وكان شجاعا صاحب بأس وصولة ، جريئا مقداما جسورا قوي الشوكة بحيث كان سكان ضواحي بغداد لا يأمنون نزوله إليهم وغارته عليهم ، فبعث إليه الرشيدة قائده الفارس المشهور يزيد وقتل الوليد ، كان ذلك سنة 179هـ وتعلم الفارعة بمقتل أخيها البطل المغوار فتلبس لباس الحرب وتهاجم جيش يزيد الذي يكشف أمرها فيواجهها ويطاردها ويضرب بسيفه مؤخرة فرسها قائلا: اغربي ، لقد فضحت العشيرة ، يريد عشيرة بني شيبان التي ينتسب إليها كل من يزيد والوليد وأخته الفارعة .
ويبلغ التأثر بالفارعة مبلغا عظيما لفقد أخيها البطل الشجاع ، وكانت شاعرة بليغة مالكة ناصية القصيد ، فتقول في رثائه من جزل الشعر ما يجعلها شبيهة بالخنساء في رثاء أخيها صخر ، غير أن الفارعة ربما كانت أطول نفسا وأجزل عبارة ، فأنشأت قصيدتها الفائية الرائعة في رثاء الوليد واقفة على القبر في المكان الذي صرع فيه قائله :
ألا قاتل الله الجثا كيف أضمرت فتى كان للمعروف غير عيوف
فإلا تجبني دمنة هـي دونه فقد طال تسليمي وطـال وقوفي
وقد علمت أن لا ضعيفا تضمنت إذا عظم المرزي ولا ابن ضعيف
ولهول الفجيعة في أخيها البطل تطلب الفارعة من الدنيا كلها أن تحزن لقتله ، إنه جدير بأن تحزن الدنيا عليه ، فهو ثائر على الظلم خارج على الجور متعشق للحرية ، تقدم إلى ساحة المعركة التي قتل فيها بعد أن أبلى أحسن البلاء وهو يقول :

أنا الوليد بن طريف الشاري قسورة لا يصطلى بناري
جوركم أخرجني من داري
إن من كانت هذه شجاعته يستحق أن يحزن عليه عديد من الناس بل الأرض التي خر فيها صريعا في منطقة الخابور الخضراء ذات الأشجار المورقة ، الأمر الذي يجعل الفارعة تؤنب الشجر على اخضراره وإيراقه وتطلب إليه الجفاف والتعري ، ثم تمضي خالعة أنبل الصفات على أخيها البطل الفارس الصريع قائلة :
فيا شجر الخابور مالـك مورقا كأنك لم تحزن على ابن طريف
فتى لا يلوم السيف حين يهزه إذا ما اختلى من عاتق وصليف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ولا المال إلا من قنا وسيوف
ولا الخيل إلا كل جرداء صلدم واجرد ضخم المنكبين عطوف
فقدناه فقدان الربيع وليتنا فديناه من ساداتنا بألوف
وما زال حتى أزهق الموت نفسه شجا لعدو أو لجـا لضعيف
حليف الندى إن عاش يرضى به الندى وإن مات لا يرضى الندى بحليف
فإن يك أرداه يزيـد بـن مزيد فيا رب خيل فضها وصفوف
وتمضي الفارعة في قصيدتها الحزينة الجزلة الباهرة مصورة صنوفا من الحزن ، مولدة ألوانا من الجزع على الوليد وما أصاب قومه فيه من رزء ،فقد كان يشتمل بصفات من البطولة والحمد لا تكاد تتجمع في أحد من بني قومه ، وتمضي الأبيات هكذا:
ألا يا لقومي للنوائب والردى ودهر ملح بالكرام عنيف
وللبدر من بين الكواكب إذ هوى وللشمس همت بعده بكسوف
ولليث فوق النعش إذيحملونه إلى حفرة ملحودة وسعوف
بكت تغلب الغلباء يوم وفاته وأبرزمنها كل ذات نصيف
يقلن وقد أبرزن بعدك للورى معايد حلي من برى وشنوف
كأنك لم تشهد مصاعا ولم تقم مقاما على الاعداء غير خفيف
ولم تشتمل يوم الوغى بكتيبة ولم تبد في خضراء ذات رفيف
دلاص ترى فيها كدوحا من القنا ومن ذلق يعجمنها بحروف
وطعنة خلس قد طعنت مرشة على يزني كالشهاب رعوف
ومائدة محمودة قد علوتها بأوصال بختي أحذ عليف
وتطرق الفارعة معاني كثيرة عديدة في رثاء أخيها وذكره والبكاء عليه وتوبخ قومه لعدم الثبات معه في الحرب فضيعوه وضيعوا أنفسهم ،بل إنها توبخ السيوف التي أصابت جسمه ،ولو قد علمت من تصيبه لنبت عنه وارتدت هيبة وخوفا ،وهو معنى جميل وتعليل بارع جرى على لسان الشاعرة الفارسة :
ذكرت الوليد وأيامه إذ الأرض من شخصه بلقع
فأقبلت أطلبه في السماء كما يبتغي أنفه الأجدع
أضاعك قومك فليطلبوا إفادة مثل الذي ضيعوا
لو أن السيوف التي حدها يصيبك تعلم ما تصنع
نبت عنك إذ جعلت هيبة وخوفا لصولك لا تقطع





(3)
ولادة المهزمية البصرية :
واحدة من الشاعرات الحرائر ، وهي قريبة لأبي هفان عبد الله بن أحمد بن حرب المهزمي الراوية المعروف . لقد روى أبو هفان لولادة شعر جزلا فخما فيه فحولة الأوائل ورصانة المجيدين وقوة المتمكنين .بل إن الأنموذج الذي وصل إلينا من شعرها ربما لم يرق إلى مستواه الفني بعض شعر كثير من الشعراء الكبار .
إن ولادة المهزمية البصرية المشرقية ـــ وهي غير ولادة بنت المستكفي بطبيعة الحال ـــ تفخر بشمائلها ومكانتها وبقومها بهذه الأبيات الجليلة البناء البارعة الإنشاء فتقول :
لولا اتقاء الله قمت بمخفر لا يبلغ الثقلان فيه مقامي
بابوة في الجاهلية سادة بزوا العلا ، امراء في الاسلام
جادوا فسادوا ما نعين أذاهم لنداهم بذل على الاقوام
قد أنجبوا في السؤددين وأنجبوا بنجابة الأخوال والأعمام
قوم إذا سكتوا تكلم مجدهم عنهم فأخرس دون كل كلام
إن هذا الضرب من الشعر فن جزل ، حافظ على رونق الشعر العربي وفخامته ،بحيث يشكل نمطا وسطا بين رقة المدينة وخشونة البداوة ، و لعل حياء المرأة غير الحضرية أو عدم احتفالها بنشر شعرها كان يحول بينها وبين أن تنشر ذلك الشعر ،وهناك سبب آخر وجود هذا النوع من الشاعرات بعيدات عن عاصمة الدولة ،ومن ثم يكون القليل منه الذي وصل إلينا هو بعض الذي جرى على ألسنة الرواة فردده بعض المتأدبين

.





(3)
عنان الناطفية : 000 – 226 هـ
كانت عنان من أشهر جواري زمانها لفصاحتها وبلاغتها وسرعة بديهتها وحدة خاطرها ، ولانحراف مولاها الناطفي الذي كان يجمع لها الشعراء في بيته على موائد الخمر فتتناشد معهم الشعر الجيد والرديء والعف والبذيء ، أو بالأحرى الذي كان أقله جدا وأكثره بذاءة ولا غرابة في ذلك فقد كانت هذه طبيعة هذا القطاع وسليقته من مجتمع ((العباسية )) .المهم إن ((عنانا)) هذه قد شغلت مجتمع الأدباء والشعراء في بغداد على عصر الرشيد مثل أبي نواس ، ودعبل الخزاعي ، ومروان بن أبي حفصة والعباس بن الأحنف ، واليزيدي الحميري مؤدب المأمون ، وأبي النضير شاعر البرامكة ، وأبي زهير رزين العروضي الشاعر نزيل بغداد فضلا عن بعض الأعراب الذين كانت المصادفات تلقي بهم في ناديها أو بالأحرى نادي مولاها لطارحتها الشعر. بل لقد كان على رأس هؤلاء جميعا الخليفة نفسه الذي هم بشرائها من صاحبها ذات يوم ثم رأى أن يرجع عن قولة ,ثم ما لبث أن اشتراها بعد عدة أعوام بعد وفاة مولاها الناطفي ,ودفع فيها مسرور الخادم في المزايدة على شرائها مائتين وخمسين ألف درهم لحساب سيده.
لقد كانت عنان جديرة بان تشغل مثل ذلك المجتمع الذي كان الشعر والموسيقي والشراب والمجون يشكل بعض سماته ، وكانت هذه باستعدادها الفطري من ذكاء وموهبة وطبيعتها الأنثوية من جمال وشباب ، وانحرافها السلوكي من مجون وخلاعة ، كل ذلك كان قمينا إن يلفت إليها الأنظار ، وبخاصة إذا كان مولاها من هؤلاء الذين يتاجرون بالرذيلة ويغضون الطرف عما لا ينبغي لكرم الناس أن يغضوا الطرف عنه.
كانت عنان تكتب علي عصابتها بالذهب ((ليس في العشق مشورة)) بحيث جعلت من هذا المعنى شعارا لها ، وذلك في حد ذاته لون من تحريض الناس ومراودتهم عن ما لا يحسن الظن به ، ولقد شجعت هذه الحلة عددا من الشعراء المجان على أن يكاتبوها بشعر كل معانية وانحلال مثلما فعل أبو النضيركما شجعت عدا آخر مثل دعبلوأبي نواسعلى إن يطرحوا عليها أبياتا من الشعر ويطلبون إليها إن تقطعها في تفعيلات عروضية بحيث ينتج عن تقطيعها ألفاظ نابية فاحشة معيبة فتضحك هي ويضحك الآخرون ، وهي بعد ذلك تستطيع أن تجيز أي بيت من الشعر مهما كانت جودته ، ومهما كان قائله ، بشعر أن لم يفقه طرافة معنى أو براعة صياغة فان لا يقصر دونه ، ثم هي بعد ذلك لها من أصالة القول ما يجعلها تقول شعرا فخما جزلا تستطيع أن تواجه به الفحول من الشعراء من غير ما تردد أو وجل، فلقد فعلت ذلك عندما هجت أبا نواس بأبيات موجعة سلكت فيها مذهب بشار نذكر البيت الأول منها ونعف عن بقيتها :
مت متى شئت قد ذكرتك في الشعر وجرر أثواب ذيلـك فخرا
ولقد فعلت ذلك عندما أفحمت العباس بن الأحنف وقد طارحها يوما ببعض شعره ، ، ولقد فعلت ذلك عندما مدحت يحيى بن خالد البرمكي بقصيدة يضاهي نهجها وأسلوبها نهج الفحول وأساليبهم .
كانت ((عنان)) بارعة في إجازة أبيات الشعر ، والحق إن بعضا من الشعراء قد نازلوها في هذا الميدان فإذا هي تستولي على مجامع إعجابهم ، وأحيانا تصرعهم ، يدخل مروان بن أبي حفصة بيت الناطفي وقد ضرب جاريته موضوع حديثنا هذا ، ويشهد دموعا تنحدر على صفحة وجهها فلا يلبث أن يقول :
بكت عنان فجرى دمعها كالدر قد توبع في خيطه
وإذ بها ترد عليه في الحال والعبرة في حلقها على حد تعبيره:
فليت من يضربها ظالما تجف يمناه على سوطه
فيفزع مروان لهذه العارضة القوية ويقول :هي والله أشعر الجن والإنس.
ويقع بصر أحد المتأدبين على هذا البيت من الشعر :
وما زال يبكي الحب حتى سمعته تنفس من أحشائه أو تكلما
فيقع البيت من نفسه موقع الإعجاب وهو لا يعرف قائله ، ويطلب من يجيزه فلا يجد أحدا فيذهب إلى عنان وينشدها إياه ،ما تلبث أن تقول :
ويبكي فأبكي رحمة لبكائه إذا ما بكى دمعا بكيت له دما
ويذكر أبو زهير رزين العروضي أنه دخل على عنان وعندها أعرابي فقالت له يا عم جاء الله بك على حاجة ، فيقول لها وما هي ؟ فتقول هذا الأعرابي يسألني أن أقول بيتا ليجيزه ، وقد عسر على الابتداء ، فابتدئ أنت علي بالقول فقال أبو زهير :
لقد قل العزاء فعيل صبري غداة حمولهم للبين زمت
فقال الأعرابي :
نظرت إلى أواخرها ضحيا وقد رفعوا لها عصبا فرنت
فقالت عنان :
كتمت هواهم في الصدر مني على أن الدموع علي نمت
ويعلق أبو زهير على ذلك فيقول : فكانت عنان أشعرنا
ولعل أطرف ما يروى عن براعة عنان في إجازة الشعر أن تغني في مجلس سمر الرشيد أبيات جرير :
إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلا بعينك ما يزال معينا
ويطرب الرشيد طربا شديدا ويعجب بالأبيات وبالغناء ، ثم يلتفت إلى جلسائه قائلا : هل منكم أحد يجيز هذه الابيات بمثلهن وله هذه البدرة ؟ وكان بين يديه بدرة من دنانير ، فحاولوا فلم يوفقوا إلى شىء من الشعر ذي قيمة ، فقال خادم على رأسه : أنا بها لك ياأمير المؤمنين . قال : شأنك . فاحتمل البدرة ثم أتى الناطفي ، فقال له : استأذن لي على عنان . فأذنت له . فدخل وأخبرها بالخبر . فقالت : ويحك ! وما الأبيات ؟ فأنشدها إياها . فقالت له اكتب :
هيجت بالقول الذي قد قلته داء بقلبي ما يزال كمينها
قد أينعت ثمراته في حينها وسقين من ماء الهوى فروينا
كذب الذين تقولوا يا سيدي إن القلوب إذا هوين هوينا
فقالت له : دونك الأبيات ، فدفع إليها البدرة ورجع إلى هارون . فقال له : ويحك ! من قالها قال : عنان ، جارية الناطفي . وعنان بعد ذلك شاعرة قديرة متمكنة إذا ما عالجت صناعة الشعر أو مارست عمل القصيد . إن العباس بن الأحنف كان قد تعلق بها فؤاده ، وما كان أكثر ما يتعلق فؤاده بالغواني والقيان ، فطارحها ذات يوم شعرا أظهر فيه عشقا ودلا، فأجابته عنان قائلة :
من تراه كان أغنى منك عن هذا الصدود
بعد وصل للشعر لك مني فيه إرغام الحسود
فاتخــــــذ للهجــــــــــر إن شئـــت فؤاد من حديــــد
ما رأيناك على ما كنت تجني بجليد
وأما الشعر الذي عمدت فيه عنان إلى انتهاج الأسلوب الجزل مقلدة في ذلك فحول الشعراء فقصيدتها في مدح يحيى بن خالد البرمكي حيث تقول:
نفى النوم من عيني حوك القصائد وآمال نفس همها غير نافد
إذا ما نفى عني الكرى طول ليلة تعوذت منها باسم يحيى بن خالد
وزير أمير المؤمنين ومن له فعالان من حمد طريف وتالد
من البرمكيين الذين وجوههم مصابيح يطفي نورها كل واقد
على وجه يحيى غرة يهتدى بها كما يهتدي ساري الدجى بالفراقد
تعود إحسانا فأصلح فاسدا وما زال يحيى مصلحا كان فاسدا
وكانت رقاب من رجال تعطلت فقلدها يحيى كرام القلائد
على كل حي من أياديه نعمة وآثاره محمودة في المشاهد
حياضك في المعروف للناس جمة فمن صادر عنها وآخر وارد
وفعلك محمود وكفك رحمة ووجهك نور ضوؤه غير خامد





( 4)
فضل : 000ــ 260 هـ
اقتضت ظاهرة كثرة القيان والاجتهاد في الإعداد إعدادا جيدا للمشاركة في الأدب والرواية والشعر والغناء أن يلمع بينهن شاعرات محسنات وعازفات مجيدات ومغنيات بارعات ، وبسرعة غريبة تسلقن مراقي سلم المجتمع وأصبحن صاحبات منتديات في دورهن يؤمها الوزراء والرؤساء والقواد والشعراء ، وأصبحت الواحدة منهن أملا كبيرا لهذا الوزير أو ذاك الرئيس أو ذياك الشاعر ، يرضى بها من نظرة عابرة ويقنع منها بتحية خاطفة.كانت ((فضل )) واحدة من هؤلاء القيان اللائي عرفن بالفصاحة واللباقة وجودة الشعر . وكانت ذات جاه على الكبراء ، وصاحبة نفوذ في الحكم ، تقضي حوائج الناس وتشفع لهم ، وكانت ذات علاقة بالوزير الأديب الشاعر سعيد بن حميد ولكل منهما في الآخر شعر رقيق ومن الطريف أنها كانت متشيعة إلى درجة الغلو ، وكان هو ناصبيا ومع ذلك فما أفسد اختلاف مذهبيهما شيئا من حبهما أو كان سببا في تعكير العلاقات بينهما .
واشتهرت ((فضل)) بحضور البديهة وسرعة الخاطر ، وبخاصة في إجازة بيت ببيت أو معنى بمعنى ، بل إن ((فضلا )) كانت ترتجل الشعر على البديهة في اللحظة نفسهاالتي يطلب إليها ذلك ، فقد سألها الملك العباسي المتوكل أشاعرة أنت ؟ فقالت : كذا يزعم من باعني واشتراني ، فقال لها : أنشدينا ، فأنشدت على البديهة :
استقبل الملك إمام الهدي عام ثلاث وثلاثينا
خلافة أفضت إلى جعفر وهو ابن سبع بعد عشرينا
إنا لنرجو يا إمام الهدي أن تملك الناس ثمانينا
لا قدس الله امرءا لم يقل عند دعائي لك آمينا
وقد ارتبط اسم فضل بعد ذلك بالمتوكل أكثر من ارتباطه بسعيد بن حميد فكانت تذكر باسم ((فضل جارية المتوكل )) وكانت تبعث إليه بالكثير من المدائح التي لم تكن تجد لديه صدى وقبولا نظرا لما كان ينشد بين يديه من روائع شعر البحتري وغيره من صفوة شعراء ذلك الزمان .
إن أكثر شعر فضل كان في الغزل والشكوى والغيرة واللوعة والصد والهجر إلى غير ذلك من المعاني المتعلقة بالغزل ، وقليل منه كان في المديح أو الهجاء .
ومن شعر ((فضل)) اللطيف أبيات ترتبط بقصة طريفة . كان سعيد قد افتصد فبعثت إليه فضل بهدايا قيمة ، بالغ الأصفهاني في وصفها كثيرا ، فكتب سعيد إليها يرجوها الحضور ليتم سروره وسرور أضيافه ، فلبت دعوته ، وتصادف أن دخل إلى الندوة بنان بن عمرو المغني وكان شابا وسيما حسن الغناء ، فأظهرت فضل نحوه الكثير من التودد والإعجاب الأمر الذي جعل سعيدا يتميز غيرة ويستشيط غضبا ، فما كان من فضل إلا إن أمسكت بقلمها وكتبت هذه الأبيات الطريفة .
يا من أطلت تفرسي في وجهه وتنفسي
أفديك من متدلل يزهى بقتل الأنفس
هبني أسأت وما أسأت بلى أقر أنا المسي
أحلفتني ألا أسارق نظرة في مجلسي
فنظرت نظرة مخطيء اتبعتها بتفرس
ونسيت أني قد حلفت فما له عقوبة من نسي
ولكل من سعيد وفضل شعر كثير مليح في صاحبه وكان كلما اشتاق أحدهما إلى الآخر أسرع فكتب إليه من رائق الشعر ما يبث من خلاله وجده ولو عته من ذلك ما كتبته فضل إلى سعيد في رقعة بعثت بها إليه وهو جالس في دار الحسن بن مخلد:
الصبر ينقص والسقام يزيد والدار دانية وأنت بعيد
أشكوك أم أشكو إليك فإنه لا يستطيع سواهما المجهود
إني أعوذ بحرمتي بك في الهوى من أن يطاع لديك في حسود
وهذه الأبيات من أرق الشعر وأعذبه وأكثره تصويرا لبعض حالات العاشقين وبخاصة البيت الأخير فيها.
وعلى عادة القيان العاشقات تحاول فضل أن تشكو لوعة الحب وصبابة العشق ومرارة الكتمان هذه الأبيات :
لأكتمن الذي بالقلب من حرق حتى أموت ولم يعلم به الناس
ولا يقال شكا من كان يعشقه إن الشكاة لمن تهوى هي اليأس
ولا أبوح بشيء كنت أكتمه عند الجلوس إذا ما دارت الكأس
وتعمد فضل في أبيات أخريات لها في مطارحة سعيد بن حميد الهوى إلى ما تعمد إليه القيان العاشقات من اشعار المحب المعجب إنه الأثير الوحيد لديها فتكتب إليه هذه الأبيات الخفيفة السهلة:
وعيشك لو صرحت باسمك في الهوى لأقصرت عن أشياء في الهزل والجد
ولكنني أبدي لهذا مودتي وذاك وأخلو فيك بالبث والوجد
مخافة أن يغرى بنا قول كاشح عدو فيسعى بالوصال إلى البعد
والأمر الذي لاشك فيه فضلا كانت تغار على صديقها الوزير الوسيم الشاب سعيد حتى إن هجرته وتعلقت بالمغني بنان بن عمرو الذي مر ذكره ، بلغها أنه عاشق لإحدى القيان فكتبت إليه أبياتا توبخه فيها وتحذره من القيان وتظهره على حقيقة أخلاقهن وخبايا سلوكهن ، لأنها من أهل الخبرة في هذا الشأن إذا هي واحدة منهن وغن فضلتهن حظا وجمال ورجحتهن ثقافة وبيانا قالت فضل في أبياتها لسعيد
يا حسن الوجه سيء الأدب شبت وأنت الغلام في الأدب
ويحك إن القيان كالشرك المنصوب بين الغرور والكذب
لا تتصدين للفقير ولا يتبعن إلا مواضع الذهب
بينا تشكى إليك إذا خرجت من لحظات الشكوى إلى الطلب
تلحظ هذا وذاك وذا لحظ محب بعين مكتسب
واستطاعت فضل أن تمزج البكاء بحكمة القول حين رثت المعتز فقد رئيت صبيحة قتله تبكي وتقول :
إن الزمان بذل كان يطلبنا ما كان أغفلنا عنه وأسهانا
مالي وللدهر قد أصبحت همته مالي وللدهر لا كانا
و((لفضل)) شعر آخر كثير في أغراض شتى أكثره شعر إخواني مما يقال في المنتديات في شكل مطارحات أو مساجلات، ولم تكن فضل تتحشم في بعض شعرها وبخاصة حين تتناول أحوال النساء وصفاتهن من عذارى وثيبات، ونعني بذلك المساجلة الشعرية التي جرت بينها وبين أبي دلف في قوله :
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم أشهى المطي إلى ما يركب

(5)
عريب : 181 ـــ 277 هـ
يذكر الأصفهاني أن ((عربيا) ابنةجعفر البرمكي من إحدى العاملات في قصور البرامكة ، ولدت سنة 181 هـ وماتت أمها وهي طفلة فعهد بها جعفر إلى سيدة تتولى شئونها ، ولكن ما لبثت النكبة أن حلت بالبرامكة فنهبت قصورهم وبيوتهم وخدمهم وقيانهم وأموالهم ، وسرقت عريب الطفلة آنذاك وتداولتها أيدي النخاسين حتى اشتراها عبد الله بن إسماعيل صاحب مراكب الرشيد.
خرج بعريب مولاها واتجه بها إلى البصرة ، وكانت البصرة لا تزال مركز احتكاك الثقافات ومقصد الشعراء والمغنين والمتأدبين ، فأدبها وخرجها وعلمها الخط والنحو والشعر والغناء ، فبرعت في ذلك كله ، برعت في الغناء إلى الحد الذي أحص لها فيه ما يربو على ألف صوت ، ونبغت في الكتابة وحكيت بلاغتها لبعض الكتاب فقال معلقا على ذلك : فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر البرمكي ، وكانت هي بدورها حين تذكر الفضل بن يحيى البرمكي تقول ((عمي الفضل )) .
ولعل قينة من القيان الشاعرات لم تشغل أهل زمانها من خلفاء ووزراء وقواد وعمال وخدم كما شغلتهم هذه القينة المغنية الشاعرة ، لأنها جمعت كل أخلاق القيان وصفاتهم ، كانت جميلة فصيحة شاعرة عذبة الصوت بارعة الضرب سارحة الإيقاع ، واستطاعت أن تستأثر بقلوب عدد من خلفاء بني العباس ابتداء من الأمين ثم المأمون ثم المعتصم ثم الواثق ثم المتوكل ثم المعتز ، ولها مع كل واحد من هؤلاء الخلفاء أخبار أكثرها بطبيعة الحال مما لا يلتقي مع الفضيلة في شىء ، هذا فضلا عن أبناء الخلفاء من أمثال أبي عيسى ابن الرشيدوجعفر بن المأمون ، وإن كانت قد فضلت أبا عيسى ابن الرشيد على جميع إخوته وأبنائهم وكانوا جميعا من الخلفاء .
وقد يتساءل المرء : كيف يتسنى لمثل هذه القينة أن تفتن هذا العدد الكبير من ملوك بني العباس الذين احتل حكمهم حقبة زمنية طويلة ؟ والواقع أن الأمر صحيح ، ذلك أن عريبا عاشت ستة وتسعين سنة مليئة بالخلاعة والمجون والإباحية المطلقة ، تلقي بشباكها على هذا وعلى ذاك من خاصة القوم وعامتهم ، وقد تفتن بواحد من العامة فتواصله وفي الوقتنفسه تنفر من خليفة أو رئيس ،
والحق أن الأخبار التي ترتبط بعريب كلها مما يشين إذا ما وزنت بمعايير الفضيلة ، ويبدو أنها كانت تعيش في شيء من النعمة ، وكان الرؤساء يتهافتون عليها ، بل كان المأمون على سبيل المثال يصطحبها معه وهو ذاهب إلى حرب الروم . وقد ذكرت هي نفسها كيف كان يتهافت الخاصة عليها ويجتهدون في التقريب إليها لقد طلبت من اليزيدي – أحد رجال المأمون – إن ينشدها بعض الشعر في إحدى أسفارها مع المأمون فأنشدها :
ماذا بقلبي من دوام الخفق إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردن أو دمشق لأن من أهوى بذاك الأفق
فما أن سمعت هذا الشعر حتى تنفست تنفسا كادت ضلوعها تقصف منه ، فقال لها هذا والله تنفس عاشق ، فقالت له : اسكت يا عاجز ، أنا اعشق ؟ والله لقد نظرت نظرة مربية في مجلس فادعاها عشرون رئيسا ظريفا.على أن عربيا رغم كل أخبارها مع الخلفاء والرؤساء فإن بيتا واحدا من شعرها الذي وصل إلينا لم تقله في خليفة أو أمير ، بل إن أكثر شعرها قالته في شخصين أحدهما صالح المنذري الخادم وكانت أحبته وتزوجته بعض الوقت ، والثاني هو محمد بن حامد الخاقاني أحد قواد خراسان
أما المنذري الخادم فكان المتوكل قد أرسله إلى مكان بعيد في حاجة له ، فقالت عريب في ذلك شعرا وصاغت لحنه قائله :
أما الحبيب فقد مضى بالرغم مني لا الرضا
اخطات في تركي لمن لم ألق عنه عوضا
وأما محمد بن حامد الخاقاني الذي كان – فيما يبدو – أشقر أصهب الشعر أزرق العينين ، فغن عريبا تتغزل فيه وفي شقرته كما لو كان امرأة جميلة فتقول :
باب كل أزرق أصهب اللون أشقر
جن قلبي به وليـ س جنوني بمنكر
ومرة أخرى تكتب إليه تشكو صبابتها ولوعتها وبكائها فتقول :
تبينت عذري وما تعذر وأبليت جسمي وما تشعر
ألفت السرور وخليتني ودمعي من العين ما يفتر
ويبدو أنعريبا كانت صادقة العاطفة نحو محمد بن حامد هذا فشعرها فيه وسمات الشكوى والصبابة ، هذا والشاعرة المحبة الغانية تجتهد في أن تدفع عن نفسها تهمة الخيانة حياله ، ولو لم تكن تحمل له مودة فيها صدق واهتمام لما حفلت بأن تدفع تهمة عن نفسها مهما كان مبلغ كذبها . إنها تقول هذه الأبيات الدفيئة وترسل بها إلى ابن حامد.
ويلي عليك ومنكا أوقعت في الحق شكا
زعمت أني خؤون جورا علي وأفكا
إن كان ما قلت حقا أو كنت أزمعت تركا
فأبدل الله ما بي من ذلة الحب نسكا
وكان لعريب شعر لطيف تقوله على البديهة في بعض مجالس الشراب ، فقد ذهب علي بن يحيى المنجم إلى عريب يزورها فسألته عن أخبار أمسه ، فذكر لها سهرة له مع الخليفة استمع فيها وإياه إلى المغني بنان يغني :
تجافي ثم تنطبق جفون حشوها الأرق
وذي كلف بكى جزعا وسفر القوم منطلق
فوجهت في الحال رسولا إلى بنان يستدعيه – وهو الذي أحبته وهجرت بسببه سعيد بن حميد – فحضر من وقته وقد بلل المطر ثيابه ، فأمرت له بخلع فاخرة فخلعت عليه ، وقدمت له الطعام والشراب وطلبت إليه إن يغني الصوت الذي غناه للخليفة بالأمس فغناها إياه ، فأخذت على الفور قلما ودواة ورقعة وكتبت هذه الأبيات في وصف المجلس والغناء والشراب :
أجاب الوابل الغدق وصاح النرجس الغرق
وقد غنى بنان لنا (( جفون حشوها الأرق ))
فهات الكاس مترعة كان حبابها حدق
ويبدو أن طول عمر عريب قد أثر في أفكارها وأقوالها فقالت بعض الشعر الذي يصور صروف الزمان وتغير الأيام ،
وكل شيء وإن طالت إقامته إذا انتهى فله لا بد أقصار

(6)سكن :
تعد سكن من القيان الشاعرات ممن كان نصيبهن من الجمال وفيرا ، وحظهن من الأدب وقرض الشعر كبيرا ، وقدرهن في الغناء جليلا ، ما انحرفت عن الجادة ولا زجت بنفسها في مواطن الريب ، إنها سكن جارية الشاعر محمود بن الحسن المشهور بالوراق من أحسن خلق الله وجها ، وأكثرهم أدبا وأطيبهم غناء تأتي بالمعاني الجياد والألفاظ الحسان.
لقد حاول بعض الطاهريين أن يشتري(( سكن )) وأعطى فيها محمودا الوراق مائي ألف درهم فامتنع عن بيعها ، ولكن في أحيان كثيرة كان الوفاء يدفع بالجارية – حين ترى مولاها في ضيق مالي شديد – إلى أن تعرض عليه إن يبيعها ، أو تسعى هي نفسها إلى ذلك ، وقد حاولت ((سكن )) أن تفعل الشيء نفسهحين دست رسولا إلى المعتصم إن يشتريها ، ولكن المعتصم خرق رقعتها التي كانت بعثت بها إليه ، فانتهزت ((سكن )) الفرصة وبعث إليه بقصيدة من جيد الشعر تعاتبه في لطف ، وتعطيه درسا في الأخلاق الفاضلة ولكن في لباقة ولياقة ، وتنتقد بعض أساليب الحكم ولكن في فطنه وحرص ، وهي في نطاق هذا الإطار من الشعر تسدي إليه قدرا من المديح المنسوج بجمع من الألفاظ العذبة الإيقاع التي تشكل قافلة من المعاني السامية ، فبدت القصيدة غير متهافتة ولا متخاذلة
ما للرسول أتاني منك بالياس أحدثت بعد رجاء جفوة القاسي
فهبك الحقت بي ذنبا بظلمك لي فما دعامك إلى العينين والراس
إني احبك حبا لا لفاحشة والحب ليس به في الله من باس
قل للمشارك في اللذات صاحبها ومدمن الكأس يحسوها مع الحاسي
إن الامام إذا أوفى إلى بلد أوفى إليه بعمران وإيناس
أما ترى الغرس قد جاءت أوائله والعود نضر الذرا مستورق كاسي
يا غارس الآس والورد الجنى بها غرس الإمام خلاف الورد والاس
غراسه كل عات لا خلاق له عبل الذراع شديد الباس قنعاس
وتمضي الأيام ويبدو أن حال محمود يظل على ما هو عليه رقة حال وشدة فقر ، فيعرض على سكن أن يبيعها حتى يجنبها مرارة الفقر وشظف الحياة قائلا لها :
(( قد ترين يا سكن ما أنا فيه من فساد الحال ، وصعوبة الزمان ، وليس بي وجلال الله ما ألقاه في نفسي ، ولكن ما أراه فيك ، فإني أحب إن أراك بأنعم حال وأخفض عيش ، فإن أثرت أن أعرضك على البيع فعلت ، لعل الله عز وجل إن يخرجك من هذا الضيق إلى السعة ، ومن هذا الفقر إلى الغنى . قالت الجارية : ذلك إليك . فعرضها ، فتنافس الناس ورغبوا في اقتنائها ، وكان أحد من بذل فيها أحد الطاهريين مائة ألف درهم ، وأحضر المال ، فلما رأى محمود تلك البدر سلس وانقاد ومال إلى البيع ، وقال : يا سكن البسي ثيابك واخرجي . فلبست ثيابها وخرجت على القوم كأنها البدر الطالع وكان محمود – وهي كذلك – معها ، فقالت سكن وأذرت دمعها : يا محمود ، هذا كان آخر أمري وأمرك إن اخترت علي مائة ألف درهم ؟ قال محمود : فتجلسين على الفقر والخسف ؟ قالت : نعم ، اصبر أنا وتضجر أنت ، فقال محمود : أشهد كم أنها حرة لوجه الله ، وأني قد أصدقتها داري وهي ما أملك ، وقد قامت علي بخمسين ألف درهم . خذوا مالكم بارك الله لكم فيه . قال الطاهري : أما إذ فعلت ما فعلت فالمال لكما ووالله لا رددته إلى ملكي . فأخذ محمود المال وعاش مع سكن بأغبظ عيش ) ) .
وهكذا تجمع ((سكن )) بين الشعر والغناء والاستقامة والوفاء . وهناك مثال ثان لهذا الفريق من القيان والجواري ، والمثال جارية أخرى لمحمود الوراق اسمها نشوى كان المعتصم يبغي شراءها وبذل في ثمنها سبعة آلاف دينار فامتنع محمود عن بيعها لأنه كان يهواها هي الأخرى ، فلما مات محمود اشتريت هذه الجارية من تركته للمعتصم بسبعمائة دينار ، وما إن دخلت نشوى على المعتصم – مولاها الجديد – حتى بادرها بقوله : كيف رأيت ؟ تركتك حتى اشتريتك من سبعة آلاف بسبعمائة !! ولكن الجارية التي علمت فأحسن تعليمها ترمق المعتصم بنظرة فيها الكثير من المعاني ، ثم تردف قائله : أجل ، إذا كان الخليفة ينتظر لشهواته المواريث فان سبعين دينارا لكثير في فضلا عن سبعمائة ، فخجل المعتصم من كلامها.



الشعراء الرجال
1 ـ إبراهيم بن هرمة 70 – 150 هـ
واسمه إبراهيم بن علي بن سلمة بن هرمة وكنيته أبو إسحاق . وهو من أبرع الشعراء المخضرمين بين ((الأموية )) و ((العباسية )) ولعله أوفر حظا من حيث معرفة اسمه دون أدبه من زملائه الشعراء المخضرمين ، وهو من أبناء المدينة ، بل من القرشيين أرومة أو انتسابا ،
وأخبار ابن هرمة – بفتح الهاء وسكون الراء –صورة صادقة للفترة الزمنية التي عاشها من الناحيتين الاجتماعية والسياسية . مدح ملوك بني مروان وبقي إلى آخر أيام المنصور ، وينسب الاصبهاني إلى الأصمعي قوله : ختم الشعر بابن هرمة والحكم الخضري وابن ميادة وطفيل الكناني ومكين العذري ولقد مدح الوليد بن يزيد كما مدح أبا جعفر المنصور ، يمثل في شعره وسلوكه الصورة الواضحة المعالم لبيئته زمنيا واجتماعيا ، الأمر الذي يستدعي تطور التناول الشعري معنى وأسلوبا .
لقد عاصر ابن هرمة المراحل الأخيرة من حياة جرير والفرزدق ، وتأثر بهجائهما كما تأثر بفحولتها في الصوغ والقول والالتزام بالأصول الشعرية لا يحيد عنها ، ومن ثم فانه آخر الشعراء الذين يحتج بشعرهم على قول البغدادي فضلا عن أنه معاصر لابن ميادة والحكم وأبي العباس الأعمى وبشار ، ومن الناحية الأخرى فقد كان يحمل شهادة من جرير لاشك أنها أثرت في حياته الأدبية جعلته لا يتخلف ولا يسف ، ذلك أن جريرا كان قدم المدينة فـأتاه ابن هرمة وابن أذينة فانشداه شعرا لهما ، فقال جرير : القرشي أشعرهما – يعني ابن هرمة – والعربي أفصحهما يعني ابن أذينة.
وهو هجاء بارع الهجاء ليس امتدادا لمدرسة جرير والفرزدق والأخطل في ذلك وحسب ، بل إن له نسبا فنيا في هذا المضمار يلحقه بالحطيئة أظرف الهجائين وأمرهم . هجاابن هرمة نفسه وأمه وأباه وقومه
وكان ابن هرمة لا يهتم أن يقترن اسمه بقريش التي ود كل عربي فضلا عن الأعاجم إن ينتسبوا إليها ،
وهجاء ابن هرمة من نوع جديد ، فهو يهجو أحيانا في شكل مدح أو هو يهجو أشخاصا ويتظاهر بمدح أخ لهم ، فقد كان عبد الله وحسن وإبراهيم أبناء الحسن بن الحسن وعدوه شيئا ثم أخلفوه ، فاصطحب ابن ربيح راويته واتجها إلى قصور الحسن ابن زيد فسأله عن حاجته فقال : أبيات قلتها ، قال هات ، قال:
أما بنو هاشم حولي فقد قرعوا نبل الضباب التي جمعت في قرن
فما بيثرب منهم من أعتابه إلا عوائد أرجوهن من حسن
الله أعطاك فضلا من عطيته على هن وهن فيما مضى وهن
وانصرف ابن هرمة من لدن الحسن بن زيد بعد أن أعطاه بغيته ، وبينما هو في طريق عودته لقيه محمد بن عبد الله بن حسن وقد بلغه الشعر ، فغضب لأبيه وأعمامه ، وقال لابن هرمة أي كذا (لفضة سباب ) أنت القائل :
على هن وهن فيما مضى وهن
فقال : لا والله ، ولكنني الذي أقول لك :
لا والذي أنت منه نعمة سلفت نرجو عواقبها في آخر الزمن
لقد أتيت بأمر ما عمدت له ولا تعمده قولي ولا سنني
فكيف أمشي مع الأقوام معتدلا وقد رميت برىء العود بالأبن
ما غيرت وجهه أم مهجنة إذا القتام تغشى أوجه الهجن
فكان ابن هرمة في أشد هجاء وأنقذ إيلاما لأن أم الحسن أم ولد . وإذن فلقد كان ابن هرمة صورة للهجاء المتطور في عصر ما بين الدولتين ، تغيرت الألفاظ ولكن هدف الإيلام والإيجاع والنيل من مروءة المهجو واحد .
وابن هرمة فارس أيضا في ميدان الخمر ، نفذ عليه حد الشراب وابن هرمة محب للخمر ، بل هو محب للسكر إلى الدرجة التي تجعله يترنخ في الطرقات حتى يطارده الصغار مرددين : سكران سكران ، إنه يرجو ذلك من الله وكأنها أمنية عزيزة:
أسأل الله سكرة قبل موتي وصياح الصبيان : يا سكران
وابن هرمة إذا أغوزه ثمن الخمر رهن ثيابه ليشتريها ، بل إنه يرهنها ليشتريها لصديق يشاركه المنادمة ،
إن ابن هرمة ، وهذا حبة للشراب ، يجد نفسه بين أمرين أحلاهما مر ، إما أن يقلع عنه وهذا شيء صعب تحقيقه ، وإما إن يجلد تمشيا مع الحد الشرعي ، ولكنه يفكر في حيلة تعفيه من الحد بحيث يظل عاكفا على شرابه ، ولم يكن إمامه في ذلك من سلاح إلا شعره يقدمه مدحا للملك العباسي ، فيشد الرحال إلى أبي جعفر ويصب في مسامعه هذا الشعر الجزل الفحل :
له لحظات عن حفافي سريره إذا كرها فيها عقاب ونائل
لهم طينة بيضاء من آل هاشم إذا اسود من لؤم التراب القبائل
إذا ما أتى شيئا قضى كالذي أتى وان قال إني فاعل فهو فاعل
وما يكاد المنصور يسمع هذا الشعر الرائق حتى يقول لابن هرمة : سل حاجتك ، ويجد الشاعر المغرم بالخمر الفرصة سانحة فيطلب من أبي جعفر إن يكتب إلى عامل المدينة إلا يحده إذا جيء به سكرانا ، فيقول له أبو جعفر : ويحك ، هذا حد من حدود الله تعالى لا يجوز أن أعطله ، فيقول ابن هرمة : احتل يا أمير المؤمنين ، فيكتب المنصور إلى عامل المدينة : ((من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة واجلد ابن هرمة ثمانين )) فكان رجال الشرطة يمرون بابن هرمة مطروحا من السكر في سكك المدينة فيقولون من يشتري مائة بثمانين ؟
ويتولى إمرة المدينة الحسن بن زيد في فترة حكم محمد النفس الزكية فيدخل عليه إبراهيم بن هرمة فيقول له الحسن : يا إبراهيم ، لست كمن باع لك دينه رجاء مدحتك أو خوف ذمك فقد رزقني الله تعالى بولاة نبيه r الممادح وجنبني المقابح ، وإن من حقه علي إلا أغضي عن تقصير في حق وجب ، وأنا اقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدا للخمر وحدا للسكر ، ولأزيدن موضع حرمتك مني ، فليكن تركك لها لله وجل تعن عليه ، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم ، فينهض ابن هرمة وهو يقول :
نهاني ابن الرسول عن المدام وأدبني بآداب الكرام
وقال لي اصطبر ودعها لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبري عنها وحبي لها حب تمكن من عظامي
أرى طيف الخيال علي خبثا وطيب العيش في خبث الحرام
و ابن هرمة واحدا من المؤمنين بحب آل البيت يكره بني أمية ويحمل عليهم ويؤلب الناس ضدهم ، ثم هو بعد ذلك لا يتردد في مدح العباسيين ربما تقية أو هربا من إذاهم ، يقول في محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي المعروف بالنفس الزكية :
ومهما ألام على حبــــه فإني أحب بني فاطمة
بني بنت من جاء بالمحكمات والدين والسنة القائمة
وحين خرج محمد النفس الزكية على المنصور لم يستطع ابن هرمة إن يجاريه خوفا من أذى المنصور ، وكراهيته لبني أمية لم تمنعه من إن يتصل بالوليد بن يزيد ، ويقول فيه مديحا حتى حين علم بقتله ، وما يكاد يسمع بقتل الوليد حتى يردد أبياتا لعلها كانت قيلت في حياة الوليد وقبل مصرعه
وكانت أمور الناس منبتة القوى فشد الوليد حين قام نظامها
خليفة حق لا خليفة باطل رمى عن قناة الدين حتى أقامها
وله شعرة رقيق عذب في مدح عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك ، يقول فيه
إذا قيل من خير من يجتدى لمعتمر فهر ومحتاجها
ومن يعجل الخيل يومك الوغى بإلجامها قبل إسراجها
أشارت نساء بني مالك إليك بها قبل أزواجها
أو قوله فيه:
فاسلم سلمت من المكاره والردى وعثارها ووقيت نفس الحسد
يدل على أنه فاطمي الهوى والحب كاره للأموية والمروانية ، ولكنه في الوقتنفسه مساير للعباسيين خوفا منهم وطمعا في عطائهم واستهدافا لتكريمهم إياه
ولذلك فليس غريبا إن يمدح ابن هرمة أبا جعفر المنصور مدحا ذا نغمة جديدة
كريم له وجهان : وجه لدى الرضى طليق ووجه في الكريهة باسل
وليس بمعطى الحق من غير قدرة ويعفو إذا ما أمكنته المقاتل
له لحظات من حفافي سريره إذا كرها فيها عقاب ونائل
أتيناك نزجي حاجة ووسيلة إليك وقد تحظى لديك الوسائل
ونذكر ودا شدة الله بيننا على الدهر لم تذبب إليه الغوائل
فاقسم ما أكبى زنادك قادح ولا أكذبت فيك الرجاء القوابل
ولا لام فيك الباذل الوجه نفسه ولا احتكمت في الجود منك المباخل

وهو في حقيقته مداح أكثر منه هجاء فهو في مدائحه يختار المعاني الجياد التي يمكن إن تشكل صورة للمدح كريمة كما أنه يختار المواقف التي يمكن إن تمد شاعريته بما يجعلها تخرج شعرا مصقولا من حيث الشكل والمعنى .
يقول ابن هرمة مفتخرا بنفسه مدافعا عن بعض تبذله سالكها نهج الحكمة :
عجبت أثيلة إن رأتني مخلقا ثكلتك أمك إي ذاك يروع
قد يدرك الشرف الفتى ورداوة خلق وجيب قميصه مرقوع
إما تريني شاحبا متبذلا كالسيف يخلق جفنه فيضيع
فلرب ليلة لذة قد بتها وحرامها بحلالها مدفوع
إن ابن هرمة هنا يلبس شعره ثوب الوقار وينحو الفحولة وينهج نهج الصنعة الفخمة في اختيار واحد من البحور الطويلة ويظل يرسم على نفس المنوال طالما كان غناؤه لنفسه كما في قوله :
إني وتركي نـدى الأكرمين وقدحي بكفي زندا شحاحا
كتاركة بيضا بالعراء وملحفة بيض أخرى جناحا
وتبدو قسمات التشبيه واضحة رائعة حسنة النسج بينه حدود المعالم في قول ابن هرمة:
أشم من الذين بهم قريش تداوي بينها غبن القبيل
كأن تلألؤ المعروف فيه شعاع الشمس في السيف الصقيل
إن التشبيه هنا فضلا عن روعته الظاهرة يحمل بين ثناياه آية جديدة وانطلاقه بديعة هي تشبيه الشيء المعنوي بالشيء المادي وهي سابقة بيانه لها خطرها وهكذا نجد
وتتحرك الصور أكثر رشاقة على لوحة ابن هرمة حين يفخر بكرمه ويصور كلابه وإذا أتانا طارق متنور نبحت فدلته علي كلابي
وفرحن إذ أبصرنه فلقينه يضربنه بشراشر الأذناب
ومرة أخرى يرسم صورة لكلبه فرحا بضيفه يكاد يكلمه ويرحب به رغم أعجميته :
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا يكلمه من حبه وهو أعجم
إن المستقرئ لأشعار ابن هرمة في مختلف مصادرها يعرف إن الرجل عمد إلى التجديد والصنعة ، كان المسور بن عبد الملك المخزومي يعيب شعر ابن هرمة ، وكان للمسور مكانة في عالم الشعر والنسب ، وربما كان عيبه لهذا الشعر ما لاحظه من صور غريبة جديدة لم يألفها الشعر نفسه من قبل ، فينبري له ابن هرمة هاجيا مسخفا مشيرا إلى إن هذا الضرب الجديد من الشعر مصوغ مخطط له معتنى به ، ولكن صياغة لسان وليس صوغ كفين :
إني امرؤ لا أصوغ الحلي تعلمه كفاي لكن لساني صائغ الكلم
إن الأديم الذي أمسيت تقرظه جهلا لذو نغل باد وذو حلم
ولا يئط بأيدي الخالقين ولا أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وابن هرمة منتبه لفنه ، ساهر عليه ، مخلص له ، عامد إليه ، وهو يعبر عن ذلك في قوله
وعميمة قد سقت فيها عائرا غفلا ومنها عائر موسوم
طبقت مفصلها بغير حديدة فرأى العدو غناي حيث أقوم
و لم يكن من المولدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة . وان كنا نرى فرقا كبيرا بين كل من ابن هرمة وبشار من حيث وصف الجاحظ لكل منهما بالمولد .
إن إبراهيم بن هرمة وهذه سمات شعره متأرجحة بين القديم والجديد من حيث الموضوعات والصياغة ، ومن حيث الإبداع الفني ، ومن حيث تمثيل شخصية الشاعر نفسه لبيئة عصره فنيا واجتماعيا وسياسيا ، كل ذلك يجعل منه معبرا هاما عريضا سهلا لانتقال الشعر من المرحلة الأموية بسماتها الأكثر محافظة إلى المرحلة العباسية بسماتها الأكثر تطورا وتغيرا بل لكي يكون الأمر في نصابه ، إن ابن هرمة يمثل التجديد في ثوب من وقار الجزالة وإشراق الديباجة ورقة الأسلوب ، وهو قمة في الصنعة في مجتمع المحافظين وذروة التطور في بيئة عمود الشعر ،

2-آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز0 – 160 هـ
آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيزواحد من بقايا الأمراء الأمويين الذين نجوا من مذبحة السفاحبسبب صلته بالخليفة عمر بن عبد العزيز،فأبوه عبد العزيز بن عمر ابن عبد العزيز بن مروان وأمه هي عاصم بنت سفيان بن عبد العزيز بن مروان ،.
وآدم شاعر رقيق عاش عيشة أمراء الشعر الذين لا يتكسبون بشعرهم . ، كان محلا لعطف المهدي وإكرامه ، على إن هذا الإكرام لم يحدث إلا بعد تجربة أليمة مر بها آدم تحت سياط المهدي نفسه ، فقد كان آدم ماجنا في صدر شبابه ، يشرب الخمر وينشد الشعر ،
لقد قال آدم شعرا رقيقا في الخمر جاوز في تعبيره من خلاله بعض الحدود التي تدخل في روع سامعه إن بقائله شبهة من زندقة ، فبعث إليه المهدي وأمر بضربه بالسيط حتى يقر بالزندقة ، ولكنه أبى وقال: والله ما كفرت بالله قط ولا شككت فيه فخلى سبيله
وأما الأبيات التي كانت موضع الامتحان فهي قول ادم :
اسقني واسق خيلي في مدى الليل الطويل
قهوة صهباء صرفا سبيت من نهر بيل
والقرينة تؤكد أن هذه الأبيات أموية العصر ، لأن المهدي وهو يتلمس موطنا للخطيئة عند الشاعر الأموي فوجئ بإجابة تفيد أن ذلك كان شيئا في الماضي
و كانت هذه الحادثة بداية رابطة مودة وصداقة بين المهدي وآدم .
وكان لأدم مشاركة في الظرف والدعابة ولعل ذلك كان سببا من أسباب تقريبه إلى المهدي ومجالسته إياه ، فقد كان للمهدي صديق من أهل الموصل يقال له سليمان بن المختار ، وكان لسليمان هذا لحية عظيمة مفرطة الطول ، فأراد يوما أن يركب فوقعت لحيته تحت أقدامه في الركاب فذهبت وتقطعت فقال آدم مازحا :
قد استوجب في الحكم سليمان بن مختار
بما طول من لحيته جزا بمنشار
أو السيف أو الحلق أو التحريق بالنار
فقد صار بها أشهر من راية بيطار
وذاعت الأبيات بين الناس واشتهر أمرها حتى رويت في حضرة المهدي ، فضحك لطرافتها ، ولكن احد الحاضرين من ذوي المكانة ، هو أسيد بن أسيد وكان وافر اللحية ابدي امتعاضا وضجرا وقال : ينبغي لأمير المؤمنين إن يكف هذا الماجن عن الناس ، فبلغ ادم فقال مداعبا أسيد :
لحية تمت وطالت لأسيد بن أسيد
كشراع من عباء قطعت حبل الوريد
يعجب الناظر منها من قريب أو بعيد
هي إن زادت قليلا قطعت حبل الوريد
وليس من شك أن هذه الأبيات تمثيل أساسا لشعراء الهجاء المجسم الذي تزعم مدرسته ابن الرومي بعد ذلك بأكثر من قرن من الزمان على أن الشيء الأهم من ذلك هو تجديد آدم فيما طرق من موضوعات شعرية لم يطرقها أحد قبله وهو الوقوف على الآثار الدراسة وليس على الأطلال والدمن كما كان يفعل الشعراء قبله وكما فعل بعضهم بعده .
إن آدم يقف على بقايا إيوان كسرى وينشد أبياتا تدل على معاني خطيرة متزاحمة في نفسه وعلى حسرات مكتومة في قلبه على ملك قومه الضائع ومجدهم السالف ، ويألم آدم حينما يجد الإيوان العظيم وقد أصبحت بقاياه مربطا للبغال بعد إن كانت مرتعا للحسان ،
أقول وراعني إيوان كسرى برأس معان أو أدروسفان
وأبصرت البغال مربطات به من بعد أزمنة حسان
يعز على أبي ساسان كسرى بموقفكن في هذا المكان
شربت على تذكر عيش كسرى شرابا لونه كالزعفران
ورحت كأني كسرى إذا ما علاه التاج يوم المهرجان
ومن ثم فهو يستجلب لنفسه عزاء في مقام كريم من التماسك والإباء حين يقول :
وإن قالت رجال قد تولى زمانكم وذا زمن جديد
فما ذهب الزمان لنا بمجد ولا حسب إذا ذكر الجدود
وما كنا لنخلد إذ ملكنا وأي الناس دام له الخلود
ومن الثابت أن آدم قد تصوف في آخر حياته ، وأنه كان طيب النفس متصوفا ومات على توبة ومذهب جميل وأنه قد نسك بعدما عمر ومات على طريقة محمودة
أحبك حبين لي واحد وآخر أنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الطباع فشيء خصصت به عن سواك
وأما الذي هو حب الجمال فلست أرى ذاك حتى أراك
ولست آمن هذا عليك لك المن في ذا وهذا وذاك
ف الأبيات غزل صوفي وليست غزلا ماديا وهي من أرق ما قبل في الشعر الصوفي في مضمون العشق الإلهي حتى أن الأبيات المشهورة المنسوبة إلى رابعة العدوية لا تكاد تختلف مع أبيات آدم إلا في ألفاظ قليلة ، فهي تقول :
أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
وربما تكون رابعة قد اقتسبت أبيات آدم معنى وثوبا
إن ادم بن عبد العزيز على قلة حجم شعره الذي وصل إلينا يعتبر واحدا من المعابر الهامة التي انتقل الشعر إليها من الأموية إلى العباسية وفي شعره يبدو التدرج واضحا والتجديد بينا سواء أكان ذلك في طبيعة الموضوع أو في نطاق الأسلوب .



3-مروان بن أبي حفصة
105 – 182 هـ
مروان بن أبي حفصة شاعر من أسرة لها في الشعر نصيب وإسهام ، فجده الكبير أبو حفصة كان شاعرا ، وجده الأول يحيى بن أبي حفصة كان هو الآخر شاعرا وله مقطوعات من جيد الشعر قيلت في المدح والفخر والذود عن الحمى ، ويدل شعره حتى في نطاق المديح على نفس عالية غير متهالكة ولا متخاذلة شأن كثير من شعر المدائح
أصاب مروان شهرة واسعة ومالا كثيرا عن طريق شعره الذي وقفه على المديح دون غيره من أغراض الشعر إلا في حالات قليلة جدا من رثاء أو وصف ، فأكثر الأبيات التي رويت له منفردة في غزل أو وصف شيب أو طيف خيال كلها أنشئت في الأصل في ركاب مديحة من مدائحه في هذا أو ذاك من الكبار الذين كان يمدحهم مروان .
ومروان مداح أصيل مدح كوكبه كبيرة من كبار الملوك والعظماء الذين صادفهم في حياته الطويلة من خلال دولتي بني أمية وبني العباس أو بني هاشم كما يحلو لهم إن يسموا أنفسهم لقد مدح الوليد بن يزيد من بني أمية ومدح المنصور والمهدي والهادي والرشيد من بني العباس ، ومدح البرامكة وزراء بني العباس ، كما مدح معن بن زائدة الشيباني ، ممدوحة الأصيل الذي توفر على قول الشعر فيه فاشتهر كلاهما بالآخر اشتهار زهير بهرم بن سنان واشتهار المتنبي بسيف الدولة .
، فمن ذلك قوله في الوليد بن عبد الملك لما بويع بالخلافة بعد موت أبيه :
إن المنايا لا تغادر واحدا يمشي ببزته ولا ذا جنه
لو كان خلق للمنايا مفلتا كان الخليفة مفلتا منهنه
بكت المنابر يوم مات وإنما بكت المنابر فقد فارسنه
لو غيره قرع المنابر بعده لنكرنه فطرحنه عنهنه
ولقد كان مروان بخيلا بخلا شديدا يضعه في مكان الصدارة مع المشهورين من البخلاء . فربح من شعره ما لم يربحه شاعر على الإطلاق من شعراء العربية ، فقد كان يتقاضى من بني العباس ألف درهم على كل بيت من الشعر يقوله فيهم ، وهو أول شاعر يتقاضى عن قصيدة واحدة فضلا عن قصائد عديدة رقم المائة ألف ، هذا فضلا عن الأموال الكثيرة الضخمة التي حصل عليها من معن بن زائدة في حياته ومن ولده شراحيل بعد مماته ، وأخبار الأموال والمنح التي حصل عليها مروان من ممدوحيه من ملوك بني هاشم ومعن بن زائدة وابنه شراحيل والبرامكة كثيرة تحفل بها كتب تاريخ الأدب الأمر الذي لا يستدعي البخل الموغل في الشدة بحيث نال من مروءة الشاعر وسمته وهيئته وسمعته . لقد كان يصل إلى باب المهدي وعليه فرو كبش وقميص خشن وعمامة كرابي صنعت من الكرباس ، وهو القماش الخشن الرديء ، وخف رخيص وكساء غليظ تصدر منه رائحة تؤذي الأنوف في الوقت الذي يصل فيه الشعراء إلى مجلس الملك الهاشمي وهم أشد ما يكونون عناية بلباسهم وأناقة في هندامهم تفوح منهم رائحة الطيب وتأخذهم العين لنظافتهم ورونقهم وهم أقل منه مالا ومنحا . وكان بخل مروان يمتد إلى مأكله ومسلكه في الحياة ، قال ذات مرة : ما فرحت بشيء قط فرحي بمائة ألف وهبها لي أمير المؤمنين المهدي فوزنتها فزادت درهما فاشتريت به لحما .
وروي إن جماعة نزلوا على مروان في موطنه باليمامة فأطعمهم تمرا وأرسل غلامه بفلس ووعاء ليشتري له زيتا ، فلما عاد الغلام بالزيت قال له مروان : خنتني ، فقال الغلام : من فلس كيف أخونك ؟ قال : أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت
وكان مروان إذا اشتاق إلى اللحم بعث بغلامه فاشترى له رأسا فأكله ، فسئل لماذا لا يأكل إلا الرؤوس في الصيف والشتاء فقال : الرأس أعرف سعره ولا يستطيع الغلام إن يغبني فيه ، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر إن يأكل منه ،
غدا اللؤم يبغي مطرحا لرحالة فنقب في بر البلاد وفي البحر
فلما أتى مـروان خيم عنده وقال رضينا بالمقام وبالحشر
وليس لمروان على العرس غيرة ولكن مروانا يغار على القدر
، وقد يكون بخله وحرصه على المال هما السبب الرئيسي في أنه لم يكن يذيع القصيدة بمجرد الانتهاء من إنشائها وإنما كان على حد قوله يقولها في أربعة أشهر وينتخلها في أربعة أشهر ويعرضها في أربعة أشهر ، ثم هو بعد ذلك يجعل دائما الجود والعطاء عنصرا واضحا صريحا من عناصر قصيدته مثال قوله :
له راحتان الجود والحتف فيهما أبى الله إلا أن تضرا وتنفعا
أو قوله :
هم القول إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا و أجزلوا
أو قوله :
لا تعدموا راحتي معن فإنهما بالجود أفتنتا يحيى بن منصور
لما رأى راحتي معن تدفقا بنائل من عطاء غير منزور
ألقى المسوح التي قد كان يلبسها وظل للشعر ذا رصف وتحبير
أو قوله :
أبر فما يرجو جواد لحاقه أبو الفضل سباق اللهاميم جعفر
أو قوله :
كان البرمكي بكل مال تجود به يداه يفيد مالا
أو قوله :
إن معنا يحمي الثغور ويعطي ماله في العلا وأنت كذاكا
لك من فضل باأسه يعرف البأ س كما من نداه فضل نداكا
إن مروان كان يتمثل المال دائما وهو يمدح ، يذكره تصريحا وليس تلميحا ، ويلح عليه إلحاحا شديدا في قالب من تزلف خلق الممدوح وتوريطه ، وهو إذا بكى أو رثى فلا يرثي ولا يبكي إلا معاني النوال أولا ، ثم تأتي بقية الصفات الأخرى التي كان يتحلى بها الفقيد في الدرجة الثانية :
أقمنا باليمامة بعد معن مقاما لا نريد به زوالا
وقلنا أين نرحل بعد معن وقد ذهب النوال فلا نوالا
والجدير بالذكر إن هذه الأبيات قد حالت بينه وبين الملك العباسي المهدي في أول رحلة له إليه بعد موت معن ، فحين دخل مروان عليه قال له المهدي الست القائل ، وذر البيتين ، وأردف : لقد ذهب النوال فيما زعمت ، فلم جئت تطلب نوالنا ، لا شيء لك عندنا ، ثم أمر به فجر برجله حتى اخرج . ولكن مروان المحب للمال الطامع في العطاء يفكر في الصيغة الشعرية التي يرضي بها الملك العباسي فيما لو عاد إليه حتى يجبره على الاستماع إليه وبالتالي إجزال عطائه وصلته ، فيهديه ذكاؤه إلى ناحية الحق السياسي في الحكم يجعلها مدخلا إلى المهدي ، وكان المهدي ذا علم ولماحية وذكاء حافظا للقرآن ، ومروان يبني فكرته على الآية الكريمة من سورة الأنفال (( والذين آمنوا من بعد ، وهاجروا وجاهدوا معكم ، فأولئك منكم ، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، إن الله بكل شيء عليم )) وقد تفسر الآية على أن العباس عم الرسول وجد المهدي قد هاجر مع الرسول وجاهد في الدعوة فأصبح أولى بإرث الرسول حسب التخريج الذي شاءه مروان ، ومن ثم فإن آل العباس أولى بالخلافة من بني أمية ، ويلبس مروان فكرته ثوبا جميلا أخذا من اللفظ الرائق والإيقاع الجميل ، ويطرق باب المهدي في العام التالي في مجموعة الشعراء الذين كان الملوك العباسيون يفتحون لهم أبوابهم مرة في كل عام فيستهل قصيدته استهلال يلفت نظر المهدي قائلا :
طرقتك زائرة فحي خيالها بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
فينصب الخليفة وينصت الناس وينطلق مروان في إنشاده حتى يصل إلى بيت قصيده ولب فكرته وأوج خطته قائلا :
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هلالها
أو تجحدون مقالة عن ربكم جبريل بلغها النبي فقالها
شهدت من الأنفال آخر أية بتراثهم فأردتم إبطالها
وهنا يزحف المهدي من صدر مصلاه حيث كان جالسا حتى صار على البساط إعجابا بما سمع ، ثم يقول لمروان : كم هي ؟ فيقول : مائة بيت ، فيأمر له بمائة ألف درهم ، فكانت أول مائة ألف أعطيها شاعر في أيام العباسيين
لقد كان مروان على جانب كبير من الذكاء في اقتناص المنح والعطايا ساعدته على ذلك قدرته الشعرية وصناعته المستغنية فعوض ما قد حرمه في العام الفائت .
ولكن هذه الحيلة الطريفة التي لجأ إليها مروان في قصيدته اللامية هذه تصلح لمرة واحدة ، ومروان يريد إن يوطد صلته بملوك بني العباس وبمن حولهم فهدفه واضح وهو المال ولذلك فقد فكر في موضوع يربطه ببني العباس ربطا طويلا دائما ، فهداه ذكاؤه إلى الشعر السياسي وطرق موضوع أحقيتهم بالخلافة من بني أمية وتقربه إليهم بهجاء منافسيهم ، وكان العباسون شديدي الحساسية من هذه الناحية لان الدعوة الشيعية كانت على أشدها ، ولأن العباسيين أنفسهم كانوا قد استغلوا صلتهم بالرسول وبآل علي رضي الله عنه في القضاء على بني أمية . فصادفت هذه الخطة التي رسمها مروان لنفسه رضى وقبولا وحماسة عند المهدي ومن جاء بعده من الملوك العباسيين
ولم يكنأن مروان بن أبي حفصة مخلصا في ولائه لبني العباس ، ، وإنما كان أموي الهوى والولاء ، فجده أبو حفصة كان مولى لعثمان ثم وهبه لمروان بن الحكم ، وجده الأقرب يحي كان عاملا من عمال بني أمية ، كما انه كان شاعرا من شعراء الوليد بن يزيد ، وإن مروان لا ينكر هذا الولاء وإنما يسجله شعرا في قوله :
بنو مروان قوم أعتقوني وكل الناس بعدهم عبيد
ولكنه اصطنع الولاء للعباسيين طلبا للمال وانتجاعا للنوال ، فالولاء هنا ولاء للمال الذي أحبه مروان وكنزه وأصبح حارسا عليه وحرم نفسه من طيبات الحياة التي ييسرها وجود المال ، ولذلك فإن شعره السياسي لا تبدو فيه سمات الصدق أو آيات الانفعال .
لم يقلمروان شعرا إلا في المديح والرثاء والتهنئة ولم يتعد هذه الفنون إلا في القليل النادر ، وهو يجيد في هذه ولا يجيد في تلك وحياة مروان الشعرية تنقسم إلى ثلاث مراحل
المرحلة الأولىمع بني أمية فقد اتصل بالوليد بن وأنه دخل على الوليد بن يزيد مادحا وعنده حماد الرواية يدله على مواطن الضعف والقوة في المدائح التي تلقى بين يديه والمصادر التي استقى الشعراء منها
:
المرحلة الثانيةمن شعر مروان فهي علاقته بمعن بن زائدة الشيباني الفارس الجواد الكريم ذي المكانة في عهدي بني مروان وبني العباس على السواء ، والذي حارب بين يدي المنصور يوم الهاشمية حتى كتب له النصر ، فأصبح جديرا بتقدير العباسيين له كما كان محلا لتقدير الأمويين من قبل .
على إن بداية اتصال مروان بمعن بن زائدة كانت بداية غير كريمة تدل على خسة في مروان والسعي إلى جمع المال والحصول على النوال من إي سبيل وعن إي طريق طاب أو خبث ، فقد كانت أول قصيدة مدح مروان بها ((معنا)) ليست من شعره وإنما هي لرجل من بلدته اليمامة سمعه ينشدها بين جماعة من الناس وكان قد تعدها ليمدح بها مروان بن محمد آخر ملوك الأمويين غير أنه قتل قبل أن ينشده إياها وفيها يقول :
مروان يا ابن محمد أنت الذي زيدت به شرفا بنو مروان
فأعجبت القصيدة ابن أبي حفصة فأمهل صاحبها حتى قام من مجلسه ثم أتاه في منزله وعرض عليه شراءها منه بثلثمائة درهم فوافق الرجل ، فحلفه مروان بالطلاق ثلاثا وبالإيمان المحرجة ألا ينشدها ولا يعود ينسبها لنفسه ، ثم غير منها أبياتا وزاد فيها بعض الشيء وجعلها في معن وجعل استهلالها هكذا :
معن بن زائدة الذي زيدت به شرفا إلى شرف بنو شيبان
وبهذه القصيدة نال مروان رفد معن وأصاب غنى وشهرة واسعتين .
على إن مروان ما لبث إن أخلص القول لمعن فأنشد فيه عددا من عيون قصائد المديح في الشعر العربي كله بحيث أدخلت قصائده فيه الغيرة في قلوب الملوك ، فلقد دخل معن على المنصور العباسي ذات مرة ، فقال له بلسان لا يخلو من عتب وتقريع مقنع : يا معن أعطيت ابن أبي حفصة مائة ألف درهم عن قوله فيك :
معن بن زائدة الذي زيدت به شرفا إلى شرف بنو شيبان
فقال له : كلا يا أمير المؤمنين ، ولكن لقوله :
ما زلت يوم الهاشمية معلما بالسيف دون خليفة الرحمن
فاستحيا المنصور من بادرته وتبسم وقال : أحسنت يا معن في فعلك .
على أن لمروان في معن روائع لا تنسى سارت بذكرها الركبان لقوتها وجزالتها وحسن سبكها رغم ما فيها من إلحاح على طلب العطاء ، فمن ذلك لاميته المشهورة :
تجنب لا في القول حتى كأنه حرام عليه قول لا حين يسأل
تشابه يوماه علينا فأشكلا فلا نحن ندري أي يومية أفضل
أيوم نداه الفخر أم يوم بؤسه وما منهما إلا أعز مفضل
ويمدح مروان قوم معن في نفس القصيدة فيقول :
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم أسود لها في بطن خفان أشبل
هم يمنعون الجار حتى كأنما لجارهم بين السماكين منزل
لهاميم في الإسلام سادوا ولم يكن كأولهم في الجاهلية أول
هم القول إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فعالهم وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
تلاث بأمثال الجبال جباهم وأحلامهم منها لدى الوزن أثقل
ولمروان في معن قصيدة عينية جزلة الصوغ فخمة الأسلوب تطرب لسماعها الأذن أكثر من ترحيب العقل والوجدان بها ، ذلك لان معانيها محدودة بوصف معن بالشجاعة ووسمه بصفات الكرم ، وهو يجري فيها على السنن التقليدي من استهلال بالنسيب ووصف الرحلة إلى الممدوح ثم إسباغ صفات الفضل عليه كيلا بلا حساب ، وتبدأ القصيدة بقوله :
أرى القلب أمسى بالأوانس مولعا وإن كان من عهد الصبا قد تمتعا
وفيها يصف رحلته إلى الممدوح قائلا :
ولما سرى الهم الغريب قريته قرى من أزال الشك عنه وأزمعا
عزمت فعجلت الرحيل ولم أكن كذي لوثة لا يطلع الهم مطلعا
فأمت ركابي أرض معن ولم تزل إلى أرض معن حيثما كان نزعا
نجائب لولا أنها سخرت لنا أبت عزة من جهلها أن توزعا
تدارك معن قبة الدين بعدما خشينا على أوتادها أن تنزعا
وما أحجم الأعداء عنك بقية عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا
رأوا مخدرا قد جربوه وعاينوا لدى غيله منهم مجرا ومصرعا
وليس بثانيه إذا شد إن يرى لدى نحره زرق الأسنة شرعا
له راحتان الحتف والغيث فيهما أبى الله إلا إن تضرا وتنفعا
وحين يموت معن بن زائدة تتوالى مرثيات ابن أبي حفصة عليه ، وهي جميعا مع جودة إنشائها وروح ألفاظ مروان الجزلة التي ينسج خيوطها في براعة ، فإننا نكاد نحس ببكاء مروان على عطايا معن وليس على معن نفسه ، فهو في مرثيته الدالية يقول :
يا من بمطلع شمس ثم مغربها إن العطاء عليكم غير مردود
قل للعفاة أريحوا العيس من طلب ما بعد معن حليف الجود من جود
قل للمني لا تبقي على أحد إذ مات معن فما ميت بمفقود
وكذلك يقول :
مضى لسبيلـه معن وأبقى مكارم لن تبيد ولن تنالا
كأن الشمس يوم أصيب معن من الإظلام ملبسة جلالا
هو الجبل الذي كانت نزار تهد من العدو به جبالا
تعطلت الثغور لفقد معن وقد يروي بها الأسل النهالا
وأظلمت العراق وأورثتها مصيبته المجللة اختلالا
وظل الشام يزحف جانباه لركن العز حين وهي ومالا
وكادت من تهامة كل أرض ومن نجد تزول غداة زالا
أصاب الموت يوم أصاب معنا من الأحياء أكرمهم فعالا
وكان الناس كلهم لمعن إلى أن زار حفرته عيالا
ويظل مروان يعدد مناقب الكرم والجود والهبة والعطاء في معن و كان معنا لم يكن له عمل في الحياة إلا إن يعطي الناس وإلا إن يقف الشعراء ببابه سائلين مستمنحين ويقول :
فلهف أبي عليك إذ العطايا جعلن منى كواذب واعتلالا
ولهف أبي عليك إذ اليتامى غدوا شعثا كان بهم سلالا
ولهف أبي عليك لكل هيجا غدت تلقي حواضنها السخالا
ولهف أبي إليك إذ القوافي لممتدح بها ذهبت ضلالا
أقمنا باليمامة إذ يئسنا مقاما لا نريد له زيالا
وقلنا أين نرحل بعد معن وقد ذهب النوال فلا نوالا
هي إذن معان مكررة تسير على نسق واحد وضرب من القول غير متنوع ولا متباين هذه القصيدة بذاتها تسبب لمروان موقفين متباينين موقفا مع المهدي حين دخل عليه مادحا ممتاحا ، فما كاد الملك العباسي يراه ويسمع استهلال مديحته حتى يأمر بطرده على ما مر بنا في صدر هذا الحديث ، وأما الموقف الثاني فهو على النقيض تماما ويدعو إلى الطرافة ، فقد دخل مروان على جعفر البرمكي يمدحه ، وكان مروان يتخير ممدوحيه من بين الذين يسفحون المال على مادحيهم ، وكان له في هؤلاء فراسة عمقها في نفسه حب المال ، وما كاد مروان ينشد جعفرا بيتين من قصيدة رائية حتى سارع جعفر قائلا : ويحك ، أنشد مرثيتك في معن
وكان الناس كلهم لمعن إلى أن زار حفرته عيالا
فانشدها إياه حتى أتى على آخرها وجعفر يرسل دموعه ، فلما سكن قال : هل أثابك أحد من ولده وأهله على هذه شيئا ؟ قال :لا ، قال جعفر : فلو كان معن حيا وسمعها منك ، كم كان يثيبك عليها ؟ قال : أربعمائة دينار ، قال جعفر : لكني أظن أنه كان لا يرضى لك بذاك ، وقد أمرنا لك عن معن بضعف ما قلت وزدنا نحن مثل ذلك ، فاقبض من الخازن ألفا وستمائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك
المرحلة الثالثة:يستخدم معن في هذه المرحلة نغمة السياسة وأحقية العباسيين بالخلافة دون غيرهم من المطالبين حيث يصب مديحته لخليفة بغداد في قالب من الألفاظ حضري وفي ثوب من الأقوال مترف رقيق ، ومن حيث الجانب الشعري الفني فيتمثل في استهلال رقيق بالغزل ورحلة إلى الممدوح ثم في توجيه صفات المديح إلى المهدي . يقول مروان مستهلا قصيدته :
طرقتك زائرة فحي خيالها بيضاء تخلط بالحياء دلالها
إن المطلع الذي رسمه مروان لقصيدته لا شك مطلع رائق في نطاق المعايير الإيقاعية للشعر ، فهو يطرق موضوعا كلف به شعراء زمانه وهو وصف الخيال ، أو بالأحرى زيارة خيال الحبيب ، بل إن المصراع الأول من المطلع ذاته يدعو إلى الالتفاف لأنه يشكل قضية بذاته :
(طرقتك زائرة فحي خيالها)ومن الطريف إن هذا المطلع الذي لم يعجب اليزيدي قد أعجب شيخا من شيوخ الأدب هو خلف الأحمر الذي حكم لمروان بسببه أنه أشعر من الأعشى في قوله : (رحلت سمية غدوة أجمالها) والحق أن كثيرا من مطالع القصائد كانت تثير بعض أسباب الحرج للشعراء ،
المهم إن مروان بن أبي حفصة ينشد مطلعة الجميل ثم يثني ببيت قد أحكم نسج وشائج رقته في تلاعب محبب باختيار اللفظ المونق والمعنى الندي في ظلال قافية رضية تريح السمع والخاطر :
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
وفي رواية:
مالت بقلبك فاستقاد ومثلها قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
وكأنما طرقت بنفحة روضة سحت بها د يم الربيع ظلالها
باتت تسائل في المنام معرسا بالبيد أشعث لا يمل سؤالها
في فتية هجعوا غرارا بعدما سئموا مراعشة السرى ومطالها
فكأن حشو ثيابهم هندية نحلت وأغفلت العيون صقالها
ثم ينطلق مروان بعد ذلك إلى مدح رقيق لم يلحف فيه كعادته في طلب النوال فهو يريد إن ياسر قلب محمد المهدي بطريق ما أول الأمر ،وإنما يذكر بعض الخلال الطيبة التي يطرب لها الممدوح ،ومتى طرب أجزل الصلة وجاد بالعطاء ،يقول مروان :
أحيا أمير المؤمنين محمد سنن النبي حرامها وحلالها
ملك تفرع نبعة من هاشم مد الإله على الأنام ظلالها
كلتا يديك جعلت فضل نوالها للمسلمين ، وفي العدو وبالها
وقعت مواقعها بعفوك أنفس أذهبت بعد مخافة أوجالها
أمنت غير معاقب طرادها وفككت من أسرائها أغلالها
ونصبت نفسك خير نفس دونها وجعلت مالك واقيا أموالها
ويمضي مروان في مدح المهدي في قصائد أخرى عديدة ولكن على الدربالسياسي نفسهمحاولا إن يجعل من نفسه محاميا للخلافة العباسية مدافعا عن شرعيتها ، فيقول كلاما هو إلى النظم أقرب منه إلى الشعر :
يا ابن الذي ورث النبي محمدا دون الأقارب من ذوي الأرحام
الوحي بين بني البنات وبينكم قطع الخصام فلات حين خصام
ما للنساء مع الرجال فريضة نزلت بذلك سورة الأنعام
أنى يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام
ومن الطريف أن الشعراء يدخلون في جدل حول من هم أحق بميراث النبي ، وهم جميعا منافقون كاذبون لان الأنبياء لا يورثون ، وليست النبوة ملكا فتورث ، وحتى لو تصورنا المستحيل وكان هنا حكم يحتاج إلى من يليه فالولاية الطبيعية هي عن طريق الشورى واختيار جمهور المسلمين .
إن مروان لا يكاد يخرج في شعره عن نطاق المدح أو الرثاء وقد مرن على هذين الموضوعين من فنون الشعر ، فإذا خرج عن نطاقهما لا نكاد نلمس له إبداعا أو إطرابا ، أنه قد امتلك حديقة وهبها له المهدي فقال يصفها :
نواضر غلبا قد تدانت رءوسها من النبث حتى ما يطير غرابها
ترى الباسقات العم فيها كأنها ظعائن مضروب عليها قبابها
ترى بابها سهلا لكل مدافع إذا أينعت نخل فأغلق بابها
يكون لنا ما نجتني من ثمارها ربيعا إذا الآفاق قل سحابها
حظائر لم يخلط بأثمانها الربا ولم يك من اخذ الديات اكتسابها
ولكن عطاء الله من كل مدحة جزيل من المستخلفين ثوابها
إنه شاعر أصيل ولكن في فن السؤال والاستجداء ، يجيد وسائلهما ويتفوق في انتهاج الطريق الموصول إليهما ، وبالرغم من الفترة القصيرة التي عاشها مروان في عهد بني أمية والفترة الطويلة التي عاشها في عهد بني العباس ، والتي امتدت إلى عهد المأمون ، فان مروان بن أبي حفصة يعتبر أنموذجا لشعراء المرحلة المتوسطة من المخضرمين بين الدولتين

4-الحسين بن مطير 000 – 169 هـ

حياته ونشأته :والحسين بن مطير بن مكمل الاسدي عاش في زمن الدولتين الأموية والعباسية إلا إن أخباره مع الأمويين قليلة ،وهو من أهل الجزيرة العربية من قرية يقال لها زبالة في طريق الحجاج بين الكوفة ومكة ، والأخبار تذكر لنا إن هذا الشاعر مدح هذا وذاك من بني أمية وهذا وذاك من بني العباس ، ونجد الشعر الذي قيل في بني العباس بين أيدينا وفيرا وإما ذلك الذي قيل في بني أمية فهو نادر أو قليل أو غير مسجل ،
فمن المؤكد إن الحسين بن مطير قد دخل على الوليد بن يزيد ومدحه ، فقد لقي الحسين بن مطير يوما المهدي العباسي فانشده مادحا :
أضحت يمينك من جود مصورة لا بل يمينك منها صور الجود
فقال المهدي : كذبت يا فاسق ، وهل تركت من شعرك موضعا لأحد بعد قولك في معن بن زائدة :
ألما بمعن ثم قولا لقبره سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا
وأنشد القصيدة كلها بيتا بيتا في مواجهة الشاعر حتى أتمها .
إن الملك العباسي قد صدمته الغيرة من قصيدة قالها الشاعر في رثاء أحد عماله ، وقد مر موقف مماثل له من مروان بن أبي حفصة مع نفس الممدوح وهو معن بن زائدة فمن باب أولى سوف تكون القصيدة أكثر إثارة للغيرة إذا كانت مديحا ، وهي بالتالي سوف تكون مثيرة للغضب والحفيظة والكراهية لو أنها قيلت في عدو أو خصم ، وإذن فليس ببعيد علينا إن نتصور إن هؤلاء المخضرمين كانوا يعلمون على أخفاء شعرهم ذي اللون السياسي الأموي ، وفي اضعف الإيمان كانوا يعملون على الحيلولة بينه وبين إن يذاع .
شخصيته الشعرية :والحسين بن مطير شاعر كبير متقدم في الرجز والقصيد ، وهي ملكة قلما توفرت إلا للقليل من الشعراء ،

إن البداوة والصحراء تشدانه إليهما في كثير من طرق تعبيره وشحطات خياله ، ولكن الشاعر كان ذكيا طموحا ثقف نفسه وراد شعره على معان ابتكرها ، وموضوعات استحدثها وأساليب جديدة ابتدعها ، وخيالات بارعة صاغ من خلالها شعرا رائعا كما سوف يستبين لنا من نماذج شعره التي سوف نقدمها بعد قليل .
موضوعات شعره :لقد تماوج شعره بين المديح والرثاء ، وبين الغزل والوصف ، ثم أسهم بعد ذلك في الحكمة بنصيب ، وهو في كل ذلك يجمع بين النهج التقليدي القديم في إنشاء القصيدة والأسلوب المستحدث الجديد ، أو بعبارة أدق الأسلوب الذي استحدثه في نطاق النزعة إلى التجديد ومن خلال النبوغ الذي دفع به إلى تبني صور جديدة ومعان حديثة وقعت موقع الرضى عند كثير من النقاد والمتأدبين على أيامه . وإنه ليقع من شعره الشيء بعد الشيء فيكثر التعجب من كثرة بدائعه، وشعره كأنه الديباج ، بل نظم الدر في حسن وصف وإحكام رصين، ويعد من الفحول وهو من الشعراء القليلين الذين أجادوا القول في الرجز والقصيد
ألما على معن وقولا لقبره سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا
فيا قبر معن أنت أول حفرة من الأرض خطت للسماحة مضجعا
وياقبر معن كيف واريت جودة وقد كان منه البر والبحر مترعا
بلى قد وسعت الجود والجود ميت ولو كان حيا ضقت حتى تصدعا
فتى عيش في معروفه بعد موته كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
ولما مضى معن مضى الجود فانقضى وأصبح عرنين المكارم اجدعا
ولعل الشاعر قد استطاع أن ياسر عاطفة السامع ويشدها إليه من زاويتين أساسيتين الزاوية الأولىأنه جعل رثاءه من خلال خطابه القبر الذي توسده معن ، وأنى له إن يسع خلقه وفضله وجوده ،
والزاوية الثانيةهي العاطفة الوافر التي ضمنها الشاعر معانية و ألبسها كلماته في أطار من القول الأسر والقافية الموسيقية الحزينة فأصبحنا ونحن نقرا القصيدة كأننا نستمع إلى قطعة رائعة من الموسيقى الحزينة .
إن ابن مطير قد ذهب ينتجع النوال والشهرة عند معن بن زائدة ولكنه يمر بتجربة طريفة لأنه لم يلق قبولا عند أول لقاء ، فاستعد للقاء ثان سريع يصل من خلاله إلى مبتغاه على ما سوف نفصل بعد قليل .
مدائحه :لكن لعل أولى مدائحه كانت في معن ، وكان معن فارسا كريما من أعيان بني شيبان ومن أجود العرب وإذا أخضعت هذه الأبيات لمعايير النقد التقليدية نجد الشاعر استهل قصيدته بالرحلة إلى الممدوح ثم وصفه بالمجد والأدب وجمال الطلعة ورحابة الأخلاق والشجاعة والأقدام والهيبة والعفة ، وأما إذا أخضعت لمعايير الذوق الفني وجدنا شعرا سلسا رقيقا تنساب فيه الموسيقى بوفرة ولا نحس فيه تصنعا يصدم السمع ولا تعسفا يقلق الخاطر ، كما إن المعاني التي طرقها وان لم تكن جديدة الخلق فهي جديدة الصوغ بارعة التجميع مستريحة الترتيب ، فليس كل الشعراء يأتون بالجديد من المعاني ، وليس كل من يأتي بمعنى جديد يحسن صوغه وتقديمه ولعل معنى مألوفا صيغ صياغة رقيقة سمحة خير ألف مرة من معنى جديد صيغ صياغة مريضة سمجة . لذلك فإن المهدي وقد طرب إلى مدحه طربه إلى عذوبة الشعر الذي سمعه فإنه أمر للشاعر بسبعين ألف درهم وحصان جواد .
وللحسين بن مطير في المهدي قصيدة من عيون الشعر توفرت لها كل سمات الفحولة ، اعتمد فيها المبالغة في مخاطبة العواطف مع احتشاد للمعاني وإتقان في النسج مع التطرف في المقابلة بين المعاني بحيث جعل من أبياته بناء شامخا استحقت به أن تنال شهرة ربما لم تقل عن شهرة أبياته في معن مع إن هذه مديحة والأخرى مرثية ، يقول الحسين في مدح المهدي :
له يوم بؤس فيه للناس أبوس ويوم نعيم فيه للناس أنعم
فيمطر يوم الجود من كفه الندى ويقطر يوم البأس من كفه الدم
ولو أن يوم البأس خلى عقابه على الناس لم يصبح على الأرض مجرم
ولو أن يوم الجود خلى يمينه على الناس لم يصبح على الأرض معدم
إنه فحل الصياغة خصب الشاعرية متمكن من القصيد رائع الموسيقى بارع تجميع المعاني
غزله :وأما غزلياته فقد عرض لنا منها ألوانا من القصائد ومجموعات من المقاطع التي نلمس من جملتها عفة تتمشى في أردنه ، وروحا أخلاقية تحول بينه وبين إن يتهتك أو يتهافت ، ومن ثم فإنه يبدو مطبوعا بطابع غزل أهل البداوة الذين لا يستسيغون ما يتقبله أهل الحضر من عبارات تخرج أحيانا عن مألوف الأسماع وتند عن متعارف الأذواق وقد ظل ذلك البدوي المستمسك بعادات قومه وزي أهله وأسلوبهم في الحياة والكلام .
وإن لابن مطير أحيانا شحطات غزلية عمد فيها إلى التقعر في الألفاظ والتوعر في القوافي ، وهو من ناحية أخرى له صور فيها جدة وطرافة تخرج به عن النطاق التقليدي من الشعر الجيد إلى مدرسة التجديد في نطاق الشعر الجيد أيضا . وشاعرنا بعد ذلك كله فياض العاطفة حين يعبر عن نفسه ، عميق التأثير في غزلياته .
يقول ابن مطير من غزليه طريفة عمد فيها إلى بساطة التعبير ويسر الترجمة عن كوامن حبه وخوافي مشاعره نحو صاحبته ((سهمة )) من بني عمرو :
خليلي من عمرو قفا فتعرفا لسهمة دارا بين لينة والحبل
وفيهن مقلاق الوشاحين طفلة مبتلة الأطراف ذات شوى خدل
حصان لها لونان جون وواضح وخلقان شيء من لطيف ومن عسل
وسنتها بيضاء واضحة السنـا وذروتها مسودة الفـرع والأصل
فيا عجبا مني ومن حب قاتلي كأني أجازيه المودة عن قتلي
ومن غنيات الحب أن كان أهلها أحب إلى قلبي وعيني من أهلي
ولابن مطير طاقة فريدة على تصوير وجدانه المهتاج وصبابته الحارة ، وهو يربط بين تصرير عشقه وبين وصف المحبوبة التي يجيد رسم صورتها ويخلع عليها نفحات من الجمال بحيث يبدو الانسجام بين وصفه الحبيبة ووجده بها ، ومن ارق ما أنشأ في هذا السبيل قوله :
لقد كنت جلدا قبل أن توقد النوى على كبدي نارا بطيئا خمودها
ولو تركت نار الهوى لتضرمت ولكن شوقا كل يوم يزيدها
وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي إذا قدمت أيامها وعودها
فقد جعلت في حبه القلب والحشا عهاد الهوى تولي بشوق يعيدها
وصفر تراقيها وحمر أكفها وسود نواصيها وبيض خدودها
محضرة الأوساط زانت عقودها بأحسن مما زينتها عقودها
يمنيننا حتى ترف قلوبنا رفيف الخزامى بات طل يجودها
وفيهن مقلاق الوشاح كأنها مهاة بتربان طويل عمودها
وكنت أذود العين إن ترد البكا فقد وردت ما كنت عنه أذودها
خليلي ما بالعيش عيب لو أننا وجدنا لأيام الصبا من يعيدها
ولي نظرة بعد الصدود من الجوى كنظرة ثكلى قد أصيب وليدها
هل الله عاف عن ذنوب تسلفت أم الله إن لم يعف عنها معيدها
وهذه الأبيات هي من مدرسة جرير وأبي حية النميري في الغزل نت حيث روح الجزالة الموشاة بالرقة والصدق التي اتسم بها شعر الشاعرين العظيمين السابقين
على أن الأمر لم يقف بالحسين في غزله عند حد الإجادة وانتزاع الإعجاب .
و يخطو الحسين على درب التجديد :
وصفر تراقيها وحمر أكفها وسود نواصيها وبيض خدودها
والحسين بن مطير يحرص دائما في غزله على أن يجعل لمعاني العفة مكان الصدارة وربما كان أحرص الشعراء العاشقين جميعا على أظهار هذه المعاني ، وهو يفعل ذلك دون أن ينال من رقة القول أو حرارة الشوق أو حرقة اللوعة أو الاهتمام بالعازلين ، يقول الحسين من قصيدة حب طويلة:
أحبك يا سلمى على غير ريبة ولا باس في حب تعف سرائره
ويا عاذلي لولا نفاسة حبها عليك لما باليت أنك خابره
بنفسي من لا بد أني هاجره ومن أنا في الميسور والعسر ذاكره
ومن قد لحاه الناس حتى اتقاهم ببعضي إلا ما تكن ضمائره
أحبك حبا لن أعنف بعده محبا ولكني إذا ليم عاذره
لقد مات قبلي أول الحب فانقضي ولومتّ أضحى الحب قد مات آخره
ولا يلبث ابن مطبر أن يشطح في بعض قصيده فتبدو منه بدوات تجعل البون شاسعا بين ما قصد إليه من حب وما سعى إليه من وسائل التعبير ، إن الحب معنى رقيق وإحساس رفيق وهذا المعنى وذاك الإحساس يحتاجان لا شك إلى أن يصاغا صياغة سهلة سمحة عذبة ولكنه هنا كان بدوي الألفاظ
هل يدنينك من سلمى وجيرتها قلائص ارحبيات حراجيج
هدل المشافر ، أيديها موثقة زج ، وأرجلها زل هزاليج
ولعل الشاعر كان قد عمد إلى ذلك عمدا حتى يثبت إن له قدرة على الأغراب إذا أراد ،
وإذا كان لنا إن نشير إلى بعض المعاني المستحدثة التي تضع ابن مطير في طبقة المؤسسين الأوائل لاتجاهات التجديد فعلينا بهذه الأبيات الغزلية الرقيقة :
أين أهل القباب بالدهناء أين جيراننا على الإحساء
جاورونا والأرض ملبسة نور الأقاحي تجاد بالأنواء
كل يوم بأقحوان جديد تضحك الأرض من بكاء السماء
وهذه الأبيات محدثة من وجوه شتى ، فهي ضرب جديد رقيق من وصف الطبيعة لم يعمد إليه الشعراء قبله ، ثم هي تعتمد على الكثير من الاستعارات الرائقة من الناحية البيانية ، وهي إلى ذلك قد تمخضت عن صنعه بديعية باكرة في المطابقة اللطيفة ((تضحك الأرض من بكاء السماء )) .
لقد كان ابن مطير اسبق من المحدثين جميعا في هذا الضرب من القول ولكنه كان مغمورا عند كثير من النقاد اللذين عجبوا من قوله دعبل :
لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
والمعنى مأخوذ كما هو واضح من أبيات الحسين بن مطير سالفة الذكر ، وهي بدون شك أوفر صنعة وأرق صياغة ، ولم يكن دعبل الشاعر الوحيد الذي أخذ معنى الحسين بن مطير ، بل أن مسلم بن الوليد الذي يلقبه بعض النقاد بإمام المحدثين من الشعراء قد أخذ هذا المعنى من قوله :
مستعبر يبكي على دمنة ورأسه يضحك فيه المشيب
وأخذ ابن المعتز المعنى نفسه في قوله :
ألحت عليه كل طخياء ديمة إذا ما بكت أجفانها ضحك الزهر
وللحسين أكثر من صورة طريفة مستحدثة تبدو الصناعة البديعة الباكرة واضحة فيها كل الوضوح ، مثل ذلك قوله :
بيضاء تسحب من قيام فرعها وتغيب فيه وهو جعد أسحم
فكأنها منه نهار مشرق وكأنه ليل عليها مظلم
فالمقابلة بين النهار المشرق والليل المظلم في نطاق المعاني الرقيقة التي تضمنها البيتان ظاهرة جديدة في صناعة الشعر حتى عصر الحسين بن مطير على أقل تقدير .
وإذا فلئن أغرب ابن مطير في باب الغزل بقصيدته الجيمية الحوشية التي مر نصها فلقد عوضنا عن توعره ذاك ما قد أرضى أذواقنا في قصائده الغزلية العفة الأخلاقية ، وفي صور الصناعة الجديدة المبكرة التي مرت في الأبيات السابقة والتي سوف نعرض لصور أخرى منها بعد قليل .
الحكمة :وكان للحسين بن مطير مشاركة طيبة في قول الحكمة تجري على قلمه مطواعة لينة لولا أنه يأتي بها ترجمة لتعامله مع الحياة وخبرته بها وتجريبه إياها وحلبه اشطرها ، يقول الحسين :
ولي كبد مقروحة من يبيعني بها كبدا ليست بذات قروح
أباها علي الناس لا يشترونها ومن لا يشتري ذا علـة بصحيح
وابن مطير يقدم حكمته الأصيلة في ثوب أنيق من الإيقاع وإطار رائق من الألفاظ بحيث لا تدخل من أذن وتخرج من الأخرى وإنما تدخل لكي تستقر في العقل وتنغمس في الوجدان وتبقى معهما طويلا كحصيلة دراسة عميقة واقعية لصروف الزمان ومعاملات الأخوان ، يقول الحسين بن مطير الحكيم:
تقلبت في الإخوان حتى عرفتهم ولا يعرف الإخوان إلا خبيرها
فلا أحرم الخلان حتى يصارموا وحتى يسيروا سيرة لا أسيرها
فإنك بعد الشر ما أنت واجد خليلا مديما شيمة لا يديرها
واإنك في غير الأخلاء عالم بان الذي يخفي عليك ضميرها
فلا تك مغرورا بمسحة صاحب من الود لا تدري علام مصيرها
وما الجود عن فقر الرجال ولا الغنى ولكنه خيم الرجال وخيرها
وقد تغدر الدنيا فيضحى غنيها فقيرا ويغني بعد بؤس فقيرها
وكائن ترى من حال دنيا تغيرت وحال صفا بعد إكدار غديرها
ومن طامع في حاجة لن ينالها ومن يائس منها أتاه بشيرها
ومن يتبع ما يعجب النفس لا يزل مطيعا لها في فعل شيء يضيرها
فنفسك أكرم عن أمور كثيرة فما لك نفس بعدها تستعيرها
وأبيات الحكمة التي يقولها الحسين تدخل إلى الأذن وتستقر في العقل والوجدان فينشغل العاقل بها كثيرا ، ولقد كانت بعض هذه الأبيات سببا في تسهيد ملك كبير تجمعت له كل أسباب السعادة المادية والمعنوية والاستقرار السياسي والهناء النفسي المهدي العباسي الذي قال للمفضل الضبي ذات يوم : أسهرتني البارحة أبيات الحسين بن مطير الاسدي ، قال : وما هي يا أمير المؤمنين ؟
قال : قوله :
وقد تغدر الدنيا فيضحى غنيها فقيرا ويغنى بعد بؤس فقيرها
فلا تقرب الأمر الحرام فإنه حلاوته تفنى ويبقى مريرها
وكم قد رأينا من تغير عيشة وأخرى صفا بعد إكدار غديرها
فأجابه المفضل الضبي إجابة عاقلة غير منافقة ، إجابة العلماء : مثل هذا فليسهرك يا أمير المؤمنين
الوصف:وإذا عرض ابن مطير للوصف ، وجدناه ثابت القدم راسخ البناء ، مبدعا مجددا مستحدثا من المعاني والصور والصيغ ما لم يسبق إليه .لقد مرت أبياته الهمزية التي أضحك الأرض فيها من بكاء السماء ، ومر أيضا بيتاه في وصف الفتاة الحسناء التي بدا وجهها بين شعرها كالنهار المشرق ، وشعرها بالقياس إلى وجهها كالليل الأسحم ، وللحسين تصوير جديد للمطر لم يسبق إليه ضمنه قصيدة طويلة بعض الشيء جمع فيها ألوانا من صور البيان والبديع من تشبيهات واستعارات وطباق ومقابلة وتشطير ولم يفسد معانيه ولم يجعل الألفاظ سيده لها ، يقول ابن مطير في المطر :
وكان بارقة حريق يلتقي ريح عليه وعرفج وألاء
وكان ريّقه ولما يحتفل ودق السماء عجاجة كدراء
مستضحك بلوامع ، مستعبر بمدامع لم تمرها الأقذاء
فله بلا حزن ولا بمسرة ضحك يؤلف بينه وبكاء
حيران متبع صباه تقوده وجنوبه كنف له ووعاء
ودنت له نكباؤه حتى إذا من طول ما لعبت به النكباء
ذاب السحاب فهو بحر كله وعلى البحور من السحاب سماء
ثقلت كلاه فنهرت أصلابه وتبعجت من مائة الأحشاء
غدق ينتج بالأباطح فرقا تلد السيول وما لها أسلاء
غر محجلة دوالج ضمنت حمل اللقاح وكلها عذراء
سحم فهن إذا كظمن فواحم سود وهن إذا ضحكن وضاء
لو كان من لجج السواحل ماؤه لم يبق من لجج السواحل ماء
لقد نزع الشاعر إلى الصورة الجديدة والصنعة المبتكرة والغرض المتجدد في رحاب الطبع الأصيل ، ولقد رسمللشعر في مستهل العهد العباسي خطاه ، وأسهم فيه إسهاما فعالا وإن بدا في ثوب من التواضع وإطار من البعد عن الصخب والتضجيج






5-منصور بن الزبرقان بن سلمة النمري
حياته ونشأته:منصور النمري شاعر وافد على بغداد منحدر من بلده ((رأس العين )) في الجزيرة ، وكان سكان الجزيرة يحسبون لفترة طويلة من الزمان على أهل الشام عربي صليبة من النمر بن قاسط واسمه – كاملا – منصور بن الزبرقان بن سلمة – وقيل ابن سلمة بن الزبرقان – بن شريك بن مطعم الكبش الرخم بن ربيعة بن نزار
شخصيته الشعرية :ومنصور النمري تلميذ الشاعر العبقري المثقف الحكيم كلثوم بن عمرو العتابي وروايته ، عنه أخذ ومن بحره استقى ، وبمذهبه الفني تشبه. ولكنه لم يلبث أن انقلب على أستاذه ، وأخذ يكيد له عند الرشيد حتى كاد إن يفتك به ، الأمر الذي اضطر الرجل الوقور – العتابي – إلى إن يقابل سوء الصنيع بمثله فما كان منه إلا أن سمم فكر الرشيد تجاه منصور ، وروي له بعض شعره الذي كان يتشيع فيه لآل البيت تشيعا شديدا يؤلب فيه الناس على ملك العباسيين .
على إن خصومة منصور للعتابي قد نبعت من نخوته العربية وعصبيته في الغيرة الشديدة على أهل بيته حين سخر العتابي بمنصور وزوجه وقد تعثرت في الولادة
ولكن مهما كان الأمر في نهاية العلاقة بين منصور وأستاذه على هذه الصورة المحزنة فإنه أفاد من صلته بالعتابي ورواية شعره والتلميذة عليه فائدة جليلة جعلته يواجه كبار الشعراء فيما بعد وينتزع منهم مكان الصدارة عند الرشيد .
وهذا ومنصور النمري على الرغم من مدحه الرشيد ونزوعه إلى الصيغة السياسية في ذلك ومحاولة ترجيح حق العباسيين في الخلافة على حق الهاشميين كان متشيعا لآل البيت متحمسا لهم ، باكيا لما أصابهم من تعذيب واضطهاد على يد العباسيين والأمويين بحيث يقول ابن المعتز : إن أشعار النمري في آل الرسول عليهم السلام كثيرة جدا ، وهي من أجود ما مدحوا به كما يصفه بأنه من فحول المحدثين .
وإن منصورا النمري لم يمدح أحدا من الخلفاء غير الرشيد ، وإن كان قد مدح وزراءهم من البرامكة وبعض قوادهم مثل يزيد بن مزيد الشيباني .
إن النمري قد نفذ شعره إلى قلب الرشيد بما لم ينفذ إليه شاعر آخر ، فقد أنشد منصور الرشيد قصيدته الرائية التي مطلعها :
أمير المؤمنين إليك خضنا غمار الهول من بلد شطير
وهي من أرق شعره
وإنك حيث تبلغهم أذاة وإن ظلموا لمحترق الضمير
انتفض الرشيد في مجلسه انتفاضة الرضى والإعجاب وقال له : ويحك ، ما هذا ؟ شيء كان في نفسي منذ عشرين سنة لم اقدر على إظهاره فأظهرته بهذا البيت . ثم قال الرشيد للفضل بن الربيع خذ بيد النمري فأدخله بيت المال ودعه يأخذ ما يشاء . يقول الشاعر : فأدخلني الفضل إلى بيت المال وليس فيه إلا سبع وعشرون بدورة فاحتملتها جميعا .
إن الرشيد كان قد أقام بالرقة في فصل الصيف وأطال المكث فيها ، فقد كانت أثيرة لديه لطيب هوائها ورقة اتسامها ، فاشتاقت زبيدة إلى بغداد ، وفكرت في حيلة تستعجل بها الرشيد في العودة إلى عاصمة الخلافة ، فجمعت الشعراء وقالت لهم : من يصف مدينة السلام وطيبها في أبيات يشوق أمير المؤمنين إليها أغنيته ، فتسابق الشعراء إلى القول في فضل بغداد ، ومن بينهم النمري قال أبياتا في هذا المقام أولها :
ماذا ببغداد من طيب أفانين ومن عجائب للدنيا وللدين
إذ الصبا نفحت والليل معتكر فحرشت بين أغصان الرياحين
فوقعت أبيات النمري في قلب الرشيد بحيث أسرع في الانحدار إلى بغداد ، أما الجائزة التي حصل عليها النمري من زبيدة فكانت جوهرة ثمينة وهبتها له ثم دست إليه من اشتراها منه بثلاثماتة ألف درهم .
فإذا ما انتقلنا إلى تسجيل السخط والغضب اللذين أثارهما النمري في قلب الرشيد بأسلوب وطراز من الفكرة الشعرية لما تسنحا لشاعر آخر ،
فأما الأولى التي تشير إلى نبل في سلوك الرشيد قبل أبناء عمومته من العلوية فتتمثل في أن منصورا وقف ينشد الرشيد قصيدة مدحة بها وهجا آل علي وثلبهم ، فضجر الرشيد وغضب غضبا شديدا وأردف قائلا موجها حديثه للشاعر ، يا ابن اللخناء : أتظن أنك تتقرب إلي بهجاء قوم أبوهم أبي ونسبهم نسبي ، وأصلهم وفرعهم أصلي وفرعي ؟ فقال الشاعر ممعنا في نفاقه أو استرضاء للخليفة الغاضب : ما شهدنا إلا بما علمنا . وهنا استبد الغضب بالرشيد وأمر مسرورا السياف فوجا في عنقه ثم أمربه فاخرج
وأما الثانية فإنه في غمار الخلاف الشديد بينه وبين العتابي اثر الخبر الذي أوردناه في صدر هذا الحديث حول سخرية العتابي من راويته حين تعسرت زوجته في الولادة فأشار عليه ساخرا بكتابه بيته على مكان ما من جسمها :
إن اخلف الغيث لم تخلف مخايله أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع
نذر النمري لئن سلمت زوجته ليشكون العتابي إلى الرشيد ، وقد سارع الشاعر بشكوى العتابي إلى الخليفة مما جعله يستشيط غضبا من العتابي ، الأمر الذي جعل هذا الأخير يتوارى لفترة طويلة عند الفضل بن الربيع ، فلما إن هدأت ثورة الخليفة وإذن له بالمثول بين يديه سأله عن السبب الذي دفع به أن يهزأ بالنمري وبزوجه وبالخليفة جميعا ، فأجاب العتابي قائلا : والله يا أمير المؤمنين ما حمله على التكذب علي إلا وقوفي على ميله إلى العلوية ، فإن شاء أمير المؤمنين إن أنشده شعره في مديحهم فعلت ، فقال أنشدني . فانشده قصيدة النمري :
شاء من الناس راتع هامل يعللون النفوس بالباطل
حتى بلغ إلى قوله :
ألا مساعير يغضبون لها بسلة البيض أو القنا الذابل
ثار الرشيد وغضب غضبا شديدا ، وأمر الفضل بن الربيع إن يحضره الساعة ، فبعث الفضل في طلبه في الرقة فوجده قد توفي ، والناس منصرفون من تشييع جنازته ، فأمر بنبش قبره ليحرقه ، ولكن مازال الفضل يلطف له حتى كف من طلبه
للنمري مجموعة من القصائد والمقطوعات مدح بها الرشيد في مناسبات مختلفة ولكنه لم يحفل فيها بالجانب السياسي ، وهو الأمر الذي حرص على التزامه في الكثير من شعره كوسيلة ((للتقية ))حتى لا ينكشف أمر تشيعه للرشيد .
إن منصورا يحسن استهلال قصائده ويفتتحها بالغزل الرقيق الذي يستولي على عواطف الأدباء والفنانين بحيث كان الكثير من شعره مما يتعنى به . فمن هذا اللون من القصيد ميميته التي يتغنى بهل ، والتي يقول في مستهلها متغزلا :
يا زائرينا من الخيام حياكما الله بالسلام
لم تطرقاني وبي حراك إلى حلال ولا حرام
هيهات للهو والتصابي وللغواني وللمدام
أقصر جهلي وتاب حلمي ونهنه الشيب من عرامي
وبعد هذا الاستهلال الرقيق من الغزل والشكوى الذي يطيل فيه بعض الشيء ينتقل إلى مدح الرشيد قائلا :
بورك هارون من إمام بطاعة الله ذو اعتصام
يسعى على أمة تمنى أن لو تقيه من الحمام
لو استطاعت لقاسمته أعمارها قسمة السهام
يا خير ماض وخير باق من النبيين في الأنام
لقد جاء النمري بأسلوب خفيف رقيق مطرب ، الأمر الذي جعل المغنين يتغنون بأبياته هذه لاتساقها نغما ، وخفتها إيقاعا ، بحيث تمكن المغنى من الترديد والتنغيم والتلوين وحسن الأداء .
موضوعات شعره:
المديح :لمنصور النمري أبيات أخرى في مدح الرشيد ينحت فيها المديح نحتا فيمزح المعنى الجيد بالصورة المهتزة كما في قوله :
إن لهارون إمام الهدى كنزين من أجر ومن بر
يريش ما تبري الليالي ولا تريش أيديهن ما يبري
كأنما البدر على رحله ترميك منه مقلتا صقر
إن النمري كان يعني في مدائحه للرشيد أمير المؤمنين عليا وليس الرشيد نفسه ، وهو في ذلك يستلهم الحديث الشريف : (علي مني بمنزله هارون من موسى) ومما يؤيد من ذهب إلى هذا الرأي قول النمري:
آل الرسول خيار الناس كلهم وخير آل رسول الله هارون
رضيت حكمك لا أبغي به بدلا لأن حكمك بالتوفيق مقرون
وأما في نطاق المدائح السياسية فلمنصور النمري أكثر من قصيدة بارعة الصنع ذائعة الصيت تجري على السنة المتأدبين بالإطراء والإعجاب ، وأشهر هذه القصائد على الإطلاق عينيته التي مطلعها :
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع أذل ذكرت سبابا ليس يرتجع
وقد ذهب الشريف المرتضى إلى أن هذه القصيدة هي أول شعر يمدح له النمري الرشيد ، صنعها وأنشدها الرشيد في جمع من قومه ربيعة حين أوقع الرشيد بهم . ويذكر المرتضى إن الشاعر ما كاد ينشد المصراع الأول من مطلع قصيدته حتى قال له الرشيد – بملل - : قل حاجتك وعد عن هذا. وما زال النمري ينشد والخليفة يستمتع طربا معجبا حتى إذا انتهى منصور من الإنشاد أمر الرشيد برفع السيف عن ربيعة .
والقصيدة ذات فكرة ومنهج وصناعة ، فلا شك أن النمري كان على علم بدراية الرشيد بالشعر وتمييزه الجيد من الرديء ، ومن ثم فقد استهل قصيدته بالشكوى من ذهاب الشباب وإبداء الجزع على فراقه بهذه الأبيات الفريدة في التعبير عن إحساس كل من بأن عنه الشباب مردفا ذلك بشيء من التشبيب وذلك في قوله :
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع إذا ذكرت سبابا ليس يرتجع
أودى الشباب وفاتتني بشرته صروف دهر وأيام لها خدع
ما كنت أوفي شبابي كنه غرته حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
ما كنت أول مسلوب شبيبته مكسو شيب فلا يذهب بك الجزع
إن كنت لم تطعمي ثكل الشباب ولم تشجي بغصته فالعذر لا يقع
إن ناقدا كبيرا مثل ابن المعتز – من منطلق ذوقه الخاص – يقول عن منصور انه أقام القيامة في تشبيبه وذكر الشباب في هذه القصيدة .
المديح السياسي :
وحين يقصد النمري إلى مدح الرشيد من باب السياسة فإنه يطرق الباب من خلال تقرير أحقية بني العباس بالخلافة دون بني علي ، وقد كان أكثر شعراء الرشيد يفعلون ذلك . إن منصورا النمري بضرب على الوترنفسه ، ولكنه يفوق غيره في بعض المعاني ويسبقه في خلقها وطرقها فيقول :
يا ابن الأئمة من بعد النبي ويا ابن الأوصياء أقر الناس أم دفعوا
لولا عدي وتيم لم تكن وصلت إلى أمية تمريها وترتضع
إن الخلافة كانت إرث والدكم من دون تيم وعفو الله متسع
وما لآل علي في إمارتكم حق وما لهم في إرثكم طمع
يا أيها الناس لا تعزب عقولكم ولا تضفكم إلى أكنافها البدع
العم أولى من ابن العم فاستمعوا قول النصيح فإن الحق يستمع
إن منصورا يطرق المعنى نفسه الذي طرقه مروان بن أبي حفصة في بيته المشهور
أنى يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام
فجاء النمري وصاغه صياغة أبرع وأذكى ، لأنه واجه قارئه بقضية مقررة ،وليس بصيغة استغراب واستنكار .
أما وقد اطمأن منصور إلى أنه استحوذ على إعجاب الرشيد ورضاه في تلك المرحلة الثانية من قصيدته ، فانه ينتقل إلى المرحلة الثالثة التي يطلب إليه فيها العفو عن بني قومه مركزا على الخليفة بمدح مكثف غمره به كالسيل ، في شعر يجمع بين فحولة القول وترف الصوغ وجلال المعنى وذلك في قوله :
ركب من ((النمر)) عاذوا بابن عمهم من هاشم إذ ألح الأزلم الجذع
متوا إليك بقرى منك تعرفها لهم بها في سنام المجد مطلع
أي امرئ باب من هارون في سخط فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أودية أحلك الله منها حيث تتسع
إذا رفعت امرءا فالله يرفعه ومن وضعت من الأقوام متضع
نفسي فداؤك والأبطال معلمة يوم الوغى والمنايا بينها قرع
ومن مشهورات المدائح التي قالها منصور النمري في الرشيد قصيدته الرائية التي مطلعها .
أمير المؤمنين إليك خضنا غمار الهول من بلد شطير
وكانت هذه القصيدة أول شعر ينشده منصور في مدح الرشيد بحضور شاعره المفضل مروان بن أبي حفصة ، وتذكر الروايات إن مروان قد جزع حين عرف بأمر إنشاد منصور وقال في نفسه : هذا شامي وأنا حجازي ، أفتراه يكون أشعر مني ودخله من ذلك غم وحسد .
والحق إن هذه القصيدة الرائية من أرق شعر المديح السياسي ، ومن ألينه إيقاعيا ، وابلغه معنى ، وأقربه إلى الهدف ، وكان الشاعر فيه من المكر والحصافة بحيث عرض بيني علي بما لا يجرحهم حتى يخلص من خلال ذلك إلى الحيلولة بين الرشيد وبين إن يوقع بهم – وكان الشاعر على ما مر بنا متشيعا متحمسا .
وقف منصور وأنشد الرشيد في جمع من الحضور يتقدمهم مروان بن أبي حفصة ، فقال :
أمير المؤمنين إليك خضنا غمار الهول من بلد شطير
بخوص كالأهلة خافقات تلين على السرى وعلى الهجير
حملن إليك أحمالا ثقالا ومثل الصخر والدر النثير
فقد وقف المديح بمنتهاه وغايته وصار إلى المصير
إلى من لا يشير إلى سواه إذا ذكر الندى كف المشير
وما إن يصل منصور إلى هذا البيت الذي يعتبر من عيون معاني المديح حتى يقول مروان : وددت والله أنه أخذ جائزتي وسكت .
ويطرق منصور موضوع الشيعة طرقا رفقيا بارعا يبدي الحملة عليهم ويهدف إلى الرحمة بهم ويذكر في القصيدة يحيى بن عبد الله بن حسن فيقول :
بني حسن وقل لبني حسين عليكم بالسداد من الأمور
أمطيوا عنكم كذب الأماني وأحلاما يعدن عدات زور
ويخاطب الشاعر الرشيد ممجدا صنيعة الرحيم بيحيى بن عبد الله وقومه قائلا :
مننت على ابن عبد الله يحيى وكان من الحتوف على شفير
ولو جاريت ما اقترفت يداه دلفت له بقاصمة الظهور
يد لك في رقاب بني علي ومن ليس بالمن الصغير
وإنك حين تبلعهم أذاة وإن ظلموا لمحترق الضمير
وما إن ينتهي الشاعر من ذكر هذا البيت حتى يقول الرشيد قولته النبيلة التي مر ذكرها : ويحك ! ما هذا ؟ شيء كان في نفسي منذ عشرين عاما لم أقد على إظهاره فأظهرته بهذا البيت !!
وإذ يطمئن النمري على آل البيت من خلال أظهار الرشيد العطف عليهم ، يمضي الشاعر في التعريض بهم مستعينا ببعض المعاني القرآنية مقلدا فعل غيره من الشعراء في هذا السبيل فيقول :
ألا لله در بني علي وزور من مقالتهم كبير
يسمون النبي أبا ويأبى من الأحزاب سطر في سطور
يريد قوله عز وجل :(( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين))
وهون يعلم حق العلم أنه يلوي عنق الآية ليلبسها هذا المعنى ، تماما كما فعل مروان بن أبي حفصة مع المهدي حين أنشده قصيدته الهائية التي قال فيها :
أو تجحدون مقالة من ربكم جبريل بلغها النبي فقالها
شهدت من ((الأنفال )) آخر آية بتراثهم فأردتم إبطالها
وواضح أن مروان قصد بقولة الآية الكريمة من سورة الأنفال ((والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، إن الله بكل شيء عليم ))
ويمضي النمري في قصيدته ملحا على هذا المعنى السياسي مركزا على أحقية بني العباس دون بني فاطمة ، غير قانع بأية سورة الأحزاب ، وإنما يسعى إلى توثيق دعواه بالزبور كتاب اليهود ، ولعله ذكر ((الزبور)) تمشيا مع القافية التي تستجيب لها لفظه ((الزبور )) كل الاستجابة فقال :
فإن شكروا فقد أنعمت فيهم وإلا فالندامة للكفور
وإن قالوا بنو بنت فحق وردوا ما يناسب للذكور
وما لبني بنات من تراث مع الأعمام في ورق الزبور
لقد كان الإطار العام الذي نسج منصور النمري من خلاله مدائحه في الرشيد هو إطار السياسة ، ومحاولة إسباغ الشرعية على الحكم العباسي ،
وللنمري مدائح في رجال الرشيد ، وبخاصة الفضل وجعفر ابني يحيى البرمكي ، وهي مدائح سياسية على الأغلب ، ومتصلة بمناسبات سياسية أو عسكرية . إن الفضل بن يحيى يستطيع أن ينتزع من الفرس في منطقة ((مرو)) الموافقة على جعل ولاية عهد الرشيد لولده محمد الذي عرف بالأمين ، ويرى منصور النمري إن امرأ كهذا يدخل السرور دون شك إلى قلب الرشيد ، فيمدح الفضل بهذه الأبيات التقليدية :
أمست بمرو على التوفيق قد صفقت على يد الفضل أيدي العجم والعرب
ببيعة لولـي العهـد أحكمها بالنصح منـه وبالإشفاق والحدب
قد وكد الفضل عهدا لا انتقاص له لمصطفى من بني العباس منتخب
وفي مديحه لجعفر يحلق في سماء الشعر عندما تثبت فتنة في الشام سنة مائة وثمانية فعقد الرشيد لجعفر عليها وقال له : إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا ، واهتم الرشيد لذلك هما شديدا ، فقال له جعفر : بل أقيك بنفسي يا أمير المؤمنين ، وخرج ثم دخل الكوفة وجلس إلى هشام بن الحكم الرافضي واستمع إليه واقتنع بكلامه فانتقل إلى الرفض ، إي إلى مذهب الشيعة ، وتوفر على مدح آل البيت ، يزور قبورهم ، وينشد الأشعار فيهم ، حتى قال عنه ابن المعتز : إن أشعاره في آل الرسول عليهم السلام من أجود ما مدحوا به .
يقول النمري باكيا آل البيت معرضا بخصومهم العباسيين ، حاضا على الثورة والثأر
آل النبي ومن يحبهم يتطامنون مخافة القتل
أمن النصارى واليهود وهم من أمة التوحيد في أزل
أنها دعوة صريحة إلى ثورة دامية على العباسيين ، ثورة مسلحة ، جندها الرجال الشجعان الكماة ، وعدتها السيوف الصوارم والرماح الحادة . إن هذه الأبيات هي التي أثارت حفيظة الرشيد عليه فأمر بقتله ، وأرسل رسوله إلى رأس العبن لينفذ حكم الخليفة فيه فوجده قد مات
حب آل البيت عنده :ومن قصائد الشهيرة في آل لبيت لاميته التي يحمل فيها على الناس ، كل الناس ، ويعرض بالحكم العباسي الذي يعمل القتل في ذرية النبي في وقت يتظاهر أولو الأمر فيه بالتقوى ، ويسوق النمري أفكاره الشيعية ، ويصوغ غضبه ، ويترجم عن سخريته ، ويعلن ما في نفس من مرارة على مقتل الحسين واستكانة الناس وخذلانهم له على هذا النحو.
شاء من الناس راتع هامل يعللون النفوس بالباطل
تقتل ذرية النبي و ير جون جنان الخلود للقاتل
ويلك يا قاتل الحسين لقد بؤت بحمل ينوء بالحامل
أي حباء حبوت أحمد في حفرته من حرارة الثاكل
بأي وجه تلقى النبي وقد دخلت في قتله مع الداخل
هلم فاطلب غدا شفاعته أو لا فرد حوضه مع الناهل
ما الشك عندي في حال قاتله لكنني قد أشك في الخاذل
نفسي فداء الحسين يوم غدا إلى المنايا غدو لا قافل
ذلك يوم أخنى بشفرته على سنام الإسلام والكاهل
ويمضي منصور في أظهار تشبثه بحب آل البيت رغم عذل العاذلين ، ذاكرا مذهبه السابق الذي كان يدعوه إلى جفوة آل البيت ، وهو هنا لا يقصد العباسية أو الأموية بطبيعة الحال ، ولكنه يسير دون تصريح واضح إلى سابق اعتناقه مذهب الشراة الذين ناصبوا عليا واله العداء ، فيقول هذا القول الماضي على نهج من المرارة غير قليل :
وعاذلي أنني أحب بني احمد ، فالترب في فم العاذل
قد دنت ما دينكم عليه فما وصلت من دينكم إلى طائل
دينكم جفوة النبي وما الجافي لآل النبي كالواصل
مظلومة والنبي والدها تدير أرجاء مقلة حافل
إلا مصاليت يغضبون لها بسلة البيض والقنا الذابل
لقد سبقت الإشارة إلى إن العتابي في مجال الدفاع عن نفسه أمام الرشيد من شكوى كان النمري قد وجهها إلى الخليفة انشد هذه القصيدة ، فما كاد يصل إلى البيت الأخير حتى أمر الخليفة ، من يذهب إلى الرقة لقتله على النحو الذي سبق ذكره فيما سلف من صفحات ، ذلك إن القصيدة تحوي حشدا من العواطف وان كانت دون مستوى شعر الشاعر من حيث الصوغ والديباجة .
ولقد شوهد النمري واقف على قبر الحسين بكربلاء ينشد بكائية موجعة من بكائياته فيه وفي آل البيت ، يصف فيها آل البيت بالشجاعة والصمود في القتال ، لا يفرون ولا يولون الأدبار ، وأية ذلك إن جراحاتهم وإصاباتهم كلها في الوجوه ، ودماءهم كلها تجري في الحجور ، وليس للسيوف من أثار على أكتافهم أو اقفائهم . وفي هذه القصيدة يبكي الشاعر الإمام الحسين بكاء موجعا ، ويذكر ما حل به على يد عبيد الله بن زياد ، وما حل بجدثه الطاهر على أرض كربلاء . ويمضي النمري مناجيا الأرض والجدث ، مسترحما الرسول متبرئا ممن أوقع الأذى باله الأطهار ، ويقول منصور النمري في قصيدته هذه
فما وجدت على الأكتاف منهم ولا الأاقفاء آثار النصول
ولكن الوجود بها كلوم وفوق حجورهم مجرى السيول
أريق دم الحسين ولم يراعوا وفي الإحياء أموات العقول
فدت نفسي جبينك من حبين جرى دمه على خد أسيل
أيخلو قلب ذي ورع ودين من الأحزان والألم الطويل
وقد شرقت رماح بني زياد بري من دماء بني الرسول
بتربة كربلاء لهم ديار نيام الأهل دارسة الطلول
فأوصال الحسين ببطن قاع ملاعب للدبور وللقبول
تحيات ومغفرة وروح على تلك المحلة والحلول
برئنا يا رسول الله ممن أصابك بالأذية والذحول
هذه القصيدة من أطيب الشعر ، وأصدقه ، إحساسا ، وأوفره عاطفة ، وأعمقه انفعالا
موضوعات أخرى:
1-المراسلات الشعرية :كان والعتابي صديقين حميمين ، بل انه رواية العتابي وتلميذه ، وكانت هناك مناسبات من الفرح أو الضيق أو الشوق تدفع بالشاعر إلى مراسلة صديقه بأبيات تدخل في باب المطارحات ، لان الصديق ما يلب ثان يقراها ثم يسارع إلى الإجابة عليها من البحر والقافية والروينفسه . لقد حلت بالعتابي ذات يوم ساعة ضيق فرأى أن يكتب لتلميذه وروايته هذه الأبيات :
تقضت لبانات ولاح مشيب وأشفى على شمس النهار غروب
خلا بين ندماني موضع مجلسي ولم يبق عندي للوصال نصيب
وودعت أخوان الصبا وتصرمت غواية قلب كان وهو طروب
ومما يهيج الشوق لي فيرده خفيف على أيدي القيان صخوب
وأي امرئ لا يستهش إذا جرت عليه بنان كفهن خضيب
ولا يكاد منصور يتسلم هذه الأبيات المفرطة الرقة حتى سارع إلى الرد على أستاذه بهذه الأبيات ، فأجابه النمري وقال :
أوحشة ندمانيك تبكي ؟ فربما تلاقيهما والحلم هنك عزوب
ترى خلفا من كل نيل وثروة سماع قيان عودهن قريب
يغنيك يا بنتي فتستصحب النهى وتحتازك الآفات حين أغيب
وإن امرءا أودى السماع بلبه لعريان من ثوب الفلاح سليب
وللنمري نصيب من قول الحكمة ، في هذه الأبيات
لو كنت أخشى معادي حق خشيته لم تسم عيني إلى الدنيا ولم تنم
لكنني عن طلاب الدين محتبل والعلم مثل الغنى والجهل كالعدم
يحاولون دخولي في سوادهم لقد أطافوا بصدع غير ملتئم
ما يغلبون النصارى واليهود على حب القلوب ولا العباد للصنم
2-الوصف :
الوصف محك لأصالة الشعر وبراعة الشاعر وميزان لقدرته الشعرية ومن ذلك وصفه لفرس الرشيد وسيفه ، فقد كان الرشيد قد اصطحب النمري إلى معركة في بلاد الروم بين من كان اصطحبهم وعلى الرغم من النصر الذي حازه الرشيد فقد تعرض في وقت ما لشدة كادت تعطبه ، فقال الرشيد للنمري : كيف رأيت فرسي فأجاب على الفور :
...... على فأس اللجام كأنه إذا ما اشتكت أيدي اللجام يطير
فظل على الصفصاف يوم تباشرت ضياع وذؤبان به ونسور
فاقسم لا ينسى لك الله أجرها إذا قسمت بين العباد أجور
والوصف هنا على قصره وإيجازه ينم عن تملكه في صيغة الشعر ، وامتلاك لناصية المعاني يصرفها الشاعر كيف شاء .
غير إن لمنصور النمري وصفا بارعا فريدا في السيف ربما لم يتكرر عند شاعر قبله وهو قوله:
ذكر برونقه الدماء كأنما يعلو الرجال بأرجوان ناقع
وترى مساقط شفرتيه كأنها ملح تبد من وراء الدارع
وتراه معتما إذا جردته بدم الرجال على الأديم الفاقع
وكان وقعته بجمجمة الفتى خدر المدامة أو نعاس الهاجع
مذهبه في الشعرومكانته :
يحتل منصور مكانه رفيعة بين شعراء زمانه ، وبخاصة بين شعراء الرشيد ، وهو الشامي الجزري الوافد على أصحاب الدار غير المقيم ، ولم يكن هناك سبب لهذا التقديم والتفضيل إلا
1- نكهة غريبة في شعرهومذاقا خاصا به ،
2- واحتفالا واضحا بصنعته، فهو يهتم بصناعة قصيدته وتجويدها قبل عرضها على الناس ، يتصف بصفات الفنان الأصيل الذي يحتفل بفنه ، ويهتم بعمله قبل إن يخرجه للناس ،
3- احتفال الشاعر بالفكرة الشعريةقوله : وإنما الشعر عقل المرء يظهره وهذا يعني احتفال الشاعر بالفكرة الشعرية انه بذلك تلميذ أمين لأستاذه العتابي صاحب مدرسة الفكرة الشعرية في الأدب العربي .
4- احتفاله بالصورة البيانية، انه بذلك تلميذ أمين لأستاذه العتابي وهو صاحب امدح بيت قاله محدث ، والذي قال بهذا الرأي هو الناقد الكبير أبو هلال العسكري وأما البيت فهو قوله في الرشيد في العينية المشهورة :
إن المكارم والمعروف أودية أحلك الله منها حيث تجتمع
وهو صاحب أجود بيت قيل في الفراق.
وذلك قوله :
إن المنية والفراق لواحد أو توأمان تراضعا بلبان
وهو صاحب أشهر مطلع لقصيدة ، وذلك قوله مسنتهلا قصيدة في مدح المأمون وهو ولي عهد :
لعل لها عذرا وأنت تلوم وكم لائم قد لام وهو مليم
وأخذ المتنبي عن النمري النمري ،
رضيت بأيام المشيب وإن مضى شبابي حميدا ، والكريم ألوف
أخذه المتنبي فقال بيته الذي استفاض شهرة ورواية :
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وقال النمري :
وإذا عفوت عن الكريم ملكته وإذا عفوت عن اللئيم تجرما
أخذه المتنبي فقال :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وان أنت أكرمت اللئيم تمردا و
ولقد مر بنا قبل قليل الوصف الرائع الذي صنعه النمري للسيف فأخذه المتنبي وقال
يبس النجيع عليه فهو مجرد من غمده وكأنما هو مغمد
إنه يجمع بين البراعة في تقديم الفكرة الشعرية والديباجة الشعرية ، وقد مر بنا قوله : الشعر عقل المرء يظهره ، فالشعر وإن كان من المسلم به أنه عطاء العاطفة وفيضها ، فانه عند منصور فيض من العقل المتأني ، وعطاء من الوجدان المنفعل
إن منصورا استولى على إعجاب الرشيد في المواقف الكثيرة التي مر ذكرها بالفكرة الشعرية مصبوبة في قالب أنيق من بارع القول وناصع البيان ، ونستطيع في هذا السبيل إن نردد مرة أخرى قول منصور في الرشيد .
أي امرىء بات من هارون في سخط فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أودية أحلك الله منها حيث تجتمع
وإن النمري في وصفه السيف قد أضاف إلى الفكرة الشعرية والى وضاءة الديباجة الصورة الشعرية
ومن الأبيات التي جرت على لسان النمري فجمع فيها بين الفكرة والصورة والديباجة والصنعة قوله في الرشيد :
ترى الخيل يوم الحرب يظمأن تحته ويروى القنا في كفه و المناضل
حلال لأطراف الأسنة نحـره حرام عليه منه متن وكاهل
يعمد إلى الصنعة البيانية والبديعية في خفة وبراعة دون ما إثقال على المعنى بتغليب الصورة اللفظية عليه ، وهو سيد من سادة صناع التشبيه المتقن المعجب ،
ذكر برونقه الدماء كأنما يعلو الرجال بأرجوان ناقع
وترى مساقط شفرتيه كأنها ملح تبدد من وراء الدارع
وكان وقعته بججمة الفتى خدر المدامة أو نعاس الهاجع
ويمكن أن نقف أيضا معجبين بوصفه الفرس وما صاغ فيه من تشبيه في قوله :
مضز على فأس اللجام كأنه إذا ما اشتكت أيدي اللجام يطير
أو هذا التشبيه الذي يمكن إن يكون منن ابرع التشبيهات لو انه قيل في غير الخليفة
كأنما البدر على رحله ترميك منه مقلتا صقر
وفي نطاق البديع يعمدا لنمري عمدا إلى ألوان من المقابلة والطباق والجناس ، ولكنه لا يكثر منها ولا يسف في رصفها ، بل يدعها وكأنها تأتيه عفو الخاطر ، فلنقرأ له هذا الطراز من الشعر الذي جمع أكثر من سبب من أسباب التجديد من حيث تضمين فحولة القول بحرا من البحور القصيرة:
ومنازل لـك بالحمى وبها الخليط نـزول
أيامهن قصيرة وسرورهن طويــل
وسعودهن طوالع ونحوسهن أفول
و المقابلة واضحة في البيت الأخير ، وقد سبقها طباق في البيت السابق لها . ونستطيع إن نلمس طرفا آخر من المحسنات البديعية في قصيدة النمري التي مدح بهاج عفرا البرمكي وهو في طريقه إلى الشام ، وتقع أعيننا على مقابلة يتلوها طباق في هذين البيتين :
لقد نشأت بالشام منك غمامة يؤمل جدواها ويخشى دمارها
فطوبى لأهل الشام يا ويل أمها أتاها حياها أم أتاها بوارها
وقد يجري الجناس بين دفتي البيت من شعر منصور النمري ، ولكنه يكون من النعومة بحيث لا نكاد نلتفت إليه ، لأنه لم يكن هدفا في حد ذاته ، بل هدف الشاعر ينصب دائما على الفكرة الساطعة والنغمة الصادعة والعبارة الجزلة . لنا منك أرحام ونعتمد طاعةوباسا إذا اصطك القنا والقنابل
فعلى الرغم من الجناس الواضح بين لفظي ((القنا )) و ((القنابل )) فان رنين البيت من خلال بكارة الفكرة وفحولة التقديم وجلال الصوغ قد جعلت الصنعة البديعية تجيء في مرتبة غير سباقة :
ويمكن إن تسري هذه الأحكام على أبيات أخرى مكملة لمعنى البيت السابق وردت في قصيدة النمري في استرحام الرشيد ، مثل قوله :
وما يحفظ الأنساب مثلك حافظ ولا يصل الأرحام مثلك واصل
وأنت إذا عاذت بوجهك عوذ تطامن خوف واستقرت بلابل

أشجع السليمي
000 – 195 هـ
أ-حياته وشعره : هو أشجع بن عمر السليمي واحد من الشعراء الفحول

ب-شخصيته :لم ينل أشجع بن عمر السليمي حظا وافرا من عناية الدارسين على الرغم مما يحمله شعرة من سمات أدبية أصيلة تمثل الفترة الزمنية التي عاشها أدق تمثيل بل إن شعرة كان إرهاصا بما سوف يؤول إليه فن الشعر في المرحلة العباسية من التزام اتجاهات بعينها ومدارس بذاتها إنه من هؤلاء الذين يمثلون مدرسة وسطى بين المحافظة والتجديد والانطلاق يتشح شعره برونق الديباحة المشرقة والأسلوب المونق حينا المتلفع بالفكر الرحيبة والخاطرة المتوهجة حينا آخر المصور لطبيعة البيئة اجتماعيا وسياسيا وثقافيا حينا ثالثا
ولم تكن الطريق معبدة أمام أشجع حتى برتقي في يسر سلم الشهرة الذي لا يتم الصعود إليه إلا عن طريق الخلفاء والوزراء في ظرف كانت فيه بعض مؤهلاته غير مشجعة على ذلك فقد كان رديء المنظر قبيح الوجه في عينة عور ومن ثم فقد كان فاقدا الوسامة التي تيسر الطريق وتمهدها إلى ساحات الكبار ويبدو أيضا انه كان ثقيل الروح غير مقبول المصاحبة ولكنة استطاع أن يفرض احترامه وتقديره من منطلق براعة شعرة وقوة عارضته حتى إن الرشيد قال له ذات يوم بعد أن أسمعة قصيدته براعة شعرة وقوة عارضة حتى أن الرشيد قال له ذات يوم إن أسمعة قصيدته الميمية
قصر علية تحية وسلام نشرت علية جمالها الأيام
لقد دخلت علي وأنت أثقل الناس على قلبي وانك لتخرج من عندي وأنت أحب الناس إلي
لقد صار أشجع بفضل شاعريته الخصبة احد الشعراء المفضلين لدى الرشيد كما كان مختصا بالبرامكة أيضا وبجعفر بن يحيى بصفة خاصة وكان حسبما ذكرنا في مستهل هذا الحديث سفير الشعر لدى مدرسة اللفظ والديباجة حينا ومدرسة الفكرة والخاطرة حينا آخر
ج-أشجع ومدرسة الديباجة وعمود الشعر:
كانت الديباجة الشعرية وضوحا وإشراقا وسلاسة وانسيابا أمر يحرض أشجع على بحقيقة في أكثر شعرة وبخاصة ذلك الشعر الذي يمدح به الرشيد فإن الملوك والخلفاء يطربون لهذا اللون المحافظ من الشعر ويفضلونه ولا بأس من الفكرة اللامعة تسري في حواشيه إن وجدت السبيل وبخاصة إذا كان الممدوح أديبا يتذوق الشعر وينقده ويحفظ الكثير منه مثل هرون الرشيد فمن هذا اللون من الشعر المونق الديباجة مع تصرف حسن في المعاني ووفرة موسيقي ورقة إيقاع قول أشجع في الرشيد:
قصر علية تحية وسلام ونثرت علية جمالها الأيام
فيه اجتلى الدنيا الخلفية والتقت للملك فيه سلامة وسلام
قصر سقوف المزن دون سقوفه فيه لأعلام الهدى أعلام
نشرت علية الأرض كسوتها التي نسج الربيع وزخرف الأوهام
أدنتك من ظل النبي وصية وقرابة وشجعت بها الأرحام
برقت سماؤك في العدو وأمطرت هاما لها ظل السيوف غمام
وإذا سيوفك صافحت هام العدا طارت لهن عن الرءوس الهام
أثنى على أيامك الأيام والشاهدان الحل والإحرام
وعلى عدوك يا ابن عم محمد رصدان ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعته وإذا غفا سلت علية سيوفك الأحلام
لقد اجمع النقاد المعاصرون لأشجع على إن البيتين الأخيرين هما ارق أبيات القصيدة معنى وبناء:
ويذهب الرشيد إلى الغز في هرقلة ببلاد الروم ثم يعود ليقضي آخر شهر رمضان وعيد الفطر في الرقة وكان يتخذ منها مصيفا مفضلا ويجلس للشعراء يستمع إلى مدائحهم وإذ بأشجع يتقدمهم منشدا:
لازلت تنشر أعيادا وتطويها تمضي بها لك أيام وتثنيها
مستقبلا زينة الدنيا وبهجتها أيام عزل لا تفنى وتفنيها(*)
ولا تقضت بك الدنيا ولا برحت يطوي لك الدهر أياما وتطويها
وليهنك الفتح والأيام مقبلة إليك بالنصر معقودا نواصيها
أمست هرقلة تهوي من جوانبها وناصر الله والإسلام يرميها
ملكتها وقتلت الناكثين بها بنصر من يملك الدنيا وما فيها
ما روعي الدين والدنيا على قدم بمثل هرون راعيه وراعيها
لقد كان لهذه القصيدة ديباجة وإيقاعا في سمع الرشيد وخاطرة ما جعله يجزل صلته ويطرح ويطرب بحيث اصدر أمر بالا ينشده يومذاك احد بعد أشجع والطريف في الأمر إن أشجع لا يكاد يسمع ذلك حتى يقول معلقا والله لأمره بالا ينشد احد بعدي أحب إلي من صلته.
إن هذه القصيدة ببحرها وقافيتها ورقتها هي في نظرنا الموحية إلى البحري قصيدته المماثلة في بركة المتوكل
ولأشجع عديد من القصائد التي يتسامق فيها عمود الشعر وتتألق فيه ديباجة وضاءة وحبكة من نسج القول النفس ولعل في مقدمتها قصيدته التي قالها بين يدي جعفر البرمكي بعد إن ولاه عملا ثم صرفه عنه لشكوى الناس منه مطلعها:
أمسفدة سعاد علي ديني على طول الحنين
وما تدري سعاد إذا تخلت من الأشجان كيف اخو الشجون
وفي مقام الرثاء لم يتخلف أشجع عن مدرسة الجزالة والاحتفال بالديباجة الصافية والتزام عمود الشعر وان مرئية في ابن سعيد تمثل هذا النهج تمثيلا واضحا وفيها يقول:
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق ولا مغرب إلا له فيه مادح
وما كنت ادري ما فواضل كفه على الناس حتى غيبيه الصفائح
فأصبح في لحد من الأرض ميتا وكانت له حيا تضيق الصحاصح
كـأن لم يمت ميت سواك ولم تقم على احد إلا عليك النوائح
لئن حسنت فيك المراثي وذكرها لقد حسنت من قبل فيك المدائح
سأبكيك ما فاضت دموعي فان تفض فسبك مني تكن الجوانح لعله ليس في القصيدة من جديد من ناحية المعاني فكلها عيال على قصيدة الحسين بن مطير العينية في رثاء معن بن زائد غير إن للقصيدة مستواها من حيث الاستواء والصوغ والإتقان وارتباطها بالمدرسة المحافظة التي تعني بالديباجة الوضاءة ووقار الشعر
د-مدرسة الفكرة الشعريةعنده:
ليس معنى تجويد أشجع لقصائده من الديباجة والإيقاع انصرافه عن الإتيان بالأفكار الرفيعة والمعاني الرهيفة في شعره فلم يكن الأمر كذلك على الإطلاق وإنما كان لشاعرنا نهجه الآخر الذي يحتفل فيه بالمعاني الجسام ويحتشد من خلاله بالأفكار العظام يصوغها شعر الهم به سيد مدرسة الفكر أبا تمام .
لقد ذكرنا أن أشجع كان مختصا بالبرامكة وأكثر اختصاصه كان بجعفر بن يحي وجعفر هو من نعرف سعة ثقافة وعمق معرفة ودهاء سياسة وبراعة أدب, فماذا يقول له أشجع حين يمدحه انه يقول:
ذهب مكارم جعفر وفعاله في الناس مذهب الشمس
ملك تسوس له المعالي نفسه والعقل خير سياسة النفس
فإذا تراءئه الملوك تراجعوا جهر الكلام بمنطق همس
ساد البرامك جعفر وهم الألى بعد الخلائف سادة الإنس
ما ضر من قصد ابن يحي راغبا بالسعد حل ب هام النحس
ليس من شك في أن أشجع كان يحسن اختيار نهج اعر فكرا وصوغا بحيث يعجب ممدوحه لقد كان من الفظة بحيث يعلم إن ذاك الطراز من فن القول ديباجة يعجب ممدوحه لقد كان من الفطنة بحيث يعلم إن ذاك الطراز من فن القول ديباجة وخطابة يعجب الخلفية المتشح بجلالة الملك ويطربه فيعزف على وتره وان هذا النهج من الشعر رقة إيقاع وعمق يعجب الوزير المتحلي بالرأي الثاقب والفكر الصائب فيعمد إلى النسج الذي ينتزع إعجابه ومن هنا كان أشجع وبعض أترابه من الشعراء يمثلون مفترق الطريق بين شعر الديباجة والإشراق وشعر الفكر والأعماق
وذا كنا لا نعلم شيئا كثير عن النشأة الثقافية لأشجع فإننا نستحضر في خواطرنا انه ولد باليمامة في نجد حيث اللسان القوم والمنطق السليم ثم نشا في البصرة حيث موجات الفكر ترغي وتزيد ومدارس الثقافة تتقابل وتتصادم فكان لشاعرنا من ذلك حصيلة شعرية ثقافية تعهدها ونماها حتى حطت به درب الفحولة فكان الشاعر الذي يرضى مادحيه لأنه كان من الفطنة بحيث يتحسس المدخل الذي يعجب الممدوح فليج إليه في براعة ورشاقة .
والأمر الذي يدعو إلى التام لان أشجع في الوقت الذي يملك فيه زمام الفكرة الشعرية كان لا يستطيع أن يتخلى عن المطالع التقليدية وهما أمر أن ربما ظهرا متناقضين والحذر ومع ذلك فان أشجع يستهل مديحه في إبراهيم بن عثمان بن نهيك بأبيات تقليدية في قوله
لمن المنازل مثل ظهر الأرقم قدمت وعهد أنيسها لم يقدم
فتكت بها سنتان تعتورانها بالمعصفات وكل أسحم مرزم
وفيها يذكر الأطلال المتقادمة ثم لا يلبث أن يضرب في أكناف درب مونق من المعاني المنبثقة عن ثقافة العصر المتشحة بحلل من الأفكار الراقية في دنيا المديح التي سوف يقول أشجع وقد انتقى ألفاظه ومعانية بحذف وبراعة :
في سيف إبراهيم خوف واقع لذوي النفاق وفية امن المسلم
ويبت يكلا والعيون هواجع مال المضيع ومهجة المستلم
ليل يواصله بضوء نهاره يقظان ليس يذوق نوم النوم
شد الخطام بأنف كل مخالف حتى استقام له الذي لم يخطم
لا يصلح السلطان إلا شدة تغشى البريء بفضل ذنب المجرم
منعت مهابتك النفوس حديثها بالشيء تكرهه وان لم تعلم
ونهجت في سبل السياسة مسلكا ففهمت مذهبها الذي لم يفهم
الحق أننا أمام مديح استغل الشاعر فيه جذوة فكره ولماحية فطنته فعمد إلى هذا الضرب الجديد من معاني المديح المستحدثة التي تتمشى مع طبيعة المجتمع والبيئة من حيث الزمان والمكان .
ومن الشعر المبني على الفكرة الرحيبة المتزاحمة المعاني قول أشجع في قول أشجع في الفضل البرمكي مادحا وكان المديح هو محك شاعرية الشاعر:
بديهته وفكرته سواء إذا ما نابه الفكر الكبير
واحزم ما يكون الدهر رأيا إذا عيي المشاور والمشير
وصدر فيه للهم اتساع إذا ضاقت مما تحوي الصدور
وعلى نفس هذا الدرب الممهد من شعر الفكرة يقول أشجع في مناسبة قدوم جعفر ابن يحيى البرمكي إلى الشام.
حبذا أنت قادما ترد الشام فتحتال بين ارحل عيرك
إن أرضا تسري إليها لو اسطاعت لسارت إليك من قبل سيرك
إن هذين البيتين هما اللذان أوحيا لأبي تمام فيما بعد افتتاحية قصيدته البائية الشهيرة
ديمة سمحة القياد سكوب مستغيث بها الثرى المكروب
لو بقعة لإعظام نعمى لسعى نحوها المكان الجديب
وكما كان أشجع واسع الحيلة رحب الفكرة في مدائحه فانه كان على نفس الشاكلة في كثير من أغراض الشعر الأخرى ولعل أبياته في رثاء أخيه احمد لمما يستعذب إنشاده تأسيا ، ويستحب ترديده معانيا ، ففيها عمق وتأمل ، وحكمة وتعز ، وحزن وتحسر . يقول أشجع :
خليلي لا تستبعدا ما انتظرتما فغير بعيد كل ما كان آتيا
ألا تريان الليل يطوي نهاره وضوء النهار كيف يطوي اللياليا
هما الفتيان المرديان إذا انقضت شبيبة يوم عاد آخر ناشيا
ويمنعني من لذة العيش أنني أراه إذا قارفت لهوا يرانيا
كان يميني يوم فارقت احمدا أخي وشقيقي فارقتها شماليا
لقد سبق مسلم إلى هذا المعنى في قوله :
واني وإسماعيل يوم وداعه لكالغمد يوم الروع فارقه النصل
وهو معنى بليغ ولكن المعنى الذي قصد إليه أشجع أعمق وأكثر ملاءمة لطبيعة الصلة بين الراثي والمرثي .
ه-موضوعات شعره :
كانت بيئته أشجع التي عاش في أكنافها بيئة حضرية خالصة ، خالط فيها جموع الشعراء التي كانت تقف على باب الرشيد وأبنائه ووزرائه ، ولقد أخذت حاشية الشعر ترق وصناعته تعذب وألوان البديع تتمشى فيه ، وكانت الصناعة البديعية أكثر ما تكون شيوعا في
الوصف عنده :الوصف عامة وجانب الطبيعة منه بخاصة . ولم يقصر أشجع في المشاركة في هذا السبيل ، فما إن طلب منه جعفر البرمكي إن يصف له قصر الصالحية وبساتينها حتى هب قائلا :
قصور الصالحية كالعذارى لبسن ثيابهن ليوم عرس
مطلات على بطن كسته أيادي الماء وشيا نسج غرس
إذا ما الطل اثر في ثراه تنفس نوره من غير نفس
فتغبقه السماء بصبغ ورس وتصبحه بأكؤس عين شمس
فالأبيات مترعة بالصناعة البيانية والبديعية من استعارات وجناس وطباق وتصريع .
ولأشجع أبيات في الخمر لا تغضي حياء أمام خمريات أبي نواس ، بل إن إسحاق الموصلي اعتبر قصيدة خمرية لأشجع – عندما حكمة الرشيد وجعفر البرمكي – من ارق ما قيل في الخمر ، وقد عنى بذلك قول أشجع :
ولقد طعنت الليل في أحجازه بالكأس بين غطارف كالأنجم
يتمايلون على النعيم كأنهم قضب من الهندي لم تتثلم
وسعى بها الظبي الغرير يزيدها طيبا ويغشمها إذا لم تغشم
وإذا أدارتها الأكف رايتها تثني الفصيح إلى لسان الأعجم
وعلى بنان مديرها عقيانها من لونها وعلى فضول المعتصم
ولقد فضضناها بخاتم ربها بكرا وليس البكر مثل الأيم
ولها سكون في الإناء وخلفها شغب يطوح بالكمي المعلم
ومهما كان الأمر في أشجع السلمي فهو واحد من كبار شعراء المرحلة العباسية الذين أسهموا في تكريس أكثر من اتجاه في دنيا الشعر ، أسهم في الاتجاه المحافظ إنشاء وديباجة ، وشارك في الاتجاه المجدد فكرا وأسلوبا ، ولم يتخلف عن صوغ الشعر الذي صور الحياة الاجتماعية في محيطها العام .



دعبل الخزاعي 148 – 246 هـ
أ-حياته ونشأته : اسمه محمد ، وكنيته أبو جعفر ولقبه دعبل إي البعير المسن أو الشيء القديم ، ونسبة في خزاعة التي أنجبت ابن عمه أبا الشيص شاعر الرشيد ثم شاعر عقبة بن الأشعث الخزاعي في الرقة ، كما أنجبت عددا آخر من الشعراء المغمورين ، فضلا عن أن طاهر ابن الحسين وأولاده – وكلهم ساسة أدباء شعراء – من مواليها .
وكان دعبل بن علي تلميذ لمسلم بن الوليد ملازما له معجبا به متلقيا عنه ، وكان كثيرا ما يشارك في مجالس المجون والقصف التي يشترك فيها كل من مسلم وأبي الشيص وغيرهم من الشعراء المجان ، يتناشدون فيها أشعارهم على الشراب يمثل دعبل الخزاعي مرحلة من مراحل مسيرة الشعر العباسي بصورة جعلته يطفو على السطح ويحتل الاهتمام من جمهرة العامة فضلا عن صفوة الخاصة في زمانه ، ولعل مرد ذلك راجع إلى عدة أسباب يتخلص أهمها في طول عمره ، وجرأته في الهجاء وشغفه به ، وتشيعه وكراهيته لبني العباس وخلفائهم ورجالاتهم ، واندماجه في حياة اللهو مع أعلام الشعر المعاصرين له ، ثم إسهامه في الشعر بصور جديدة ومعان جديدة وصيغ جديدة .
، فكان دعبل يقول لهم أنا ابن قولي :
لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
أي اشتهرت بقولي هذا البيت ، ومعروف أن هذا البيت قد نال شهرة واسعة عند جمهرة النقاد لما فيه من بهرجة الصنعة البديعية واللمسة البيانية ، وان كان في حقيقة أمره مأخوذ من قول أستاذه مسلم حين وصف الربيع :
كل يوم بأقحوان جديد تضحك الأرض من بكاء السماء
ولكن حظ بيت دعبل من الشهرة كان أوفر من حظ بيت أستاذه .
ب-شخصيته وأثرها شعره : : كان دعبل شاعرا فحلا بحيث أن نخبة من أعلام الأدب والفكر كانوا يقدمونه ويضعونه على رأس الشعراء غير مستثنين أستاذه مسلما فالبحتري يقول عنه : دعبل ابن علي أاشعر عندي من مسلم بن الوليد ، ويعلل البحتري حكمه بقوله : إن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم وحكم البحتري صادر عن ذوقه في الشعر وتفضيله شعر الديباجة الملتزم عمود الشعر الذي كان دعبل أكثر تمسكا به من أستاذه . وهذا ابن مهرويه يقول : ختم الشعر بدعبل والمأمون الخليفة المثقف الأديب كان يتلذذ بسماع شعر دعبل على الرغم من سلاطة لسانه على بني العباس ورجالاتهم ، وكان كثيرا ما يطلب من جلسائه والمقربين إليه أن ينشدوه شعرا لدعبل ، وكان كثير الترديد لأبيات جميلة أنشأها دعبل في سفره طويلة قال فيها :
وقائله لما استمرت بها النوى ومحجرها فيه دم ودموع
الم يأن للسفر الذين تحملوا إلى وطن قبل الممات رجوع
فقلت ولم املك سوابق عبرة نطقن بما ضمت عليه ضلوع
تبين فكم دار تفرق شملها وشمل شتيت عاد وهو جميع
كذاك الليالي صرفهن كما ترى لكل أناس جدبة وربيع
لقد كان المأمون حريا بان يغرم بترديد هذه الأبيات ، فهي من أجود الشعر وارقه وأجزله ، وأكثره أخذا بمجامع الوجدان والإفهام . كان المأمون يقول : ما سافرت قط إلا وكانت هذه الأبيات نصب عيني في سفري وهجيري ، ومسليتي حتى أعود
ج-ملامح في حياة دعبل :
في حياة دعبل بعض ملامح بارزة فيها عنوان شخصيته ومفتاح شاعريته .
الملمح الأول :لقد نشأ دعبل نشأة غريبة فيها شر كثير وخير قليل ، ذلك أنه كان يصطحب الشطار ويشاركهم جرائمهم ، واشترك في التربص لصراف في الكوفة وقتله في الطريق بقصد الاستيلاء على المال الذي يحمله ، ولشد ما كانت خيبة أمله حين اكتشف أن الصراف القتيل لم يكن يحمل معه كيسه ، وإنما كان يحمل ثلاث رمانات . إن هذه الشخصية الشريرة قد دفعت بصاحبها إلى التصعلك والأسفار الطويلة التي صورها تصويرا ملك على المأمون إعجابه حسبما مر بنا قبل قليل ، وفي هذه الأسفار كان دعبل يقابل الشراة والصعاليك فلا يؤذونه ، بل كانوا يؤاكلونه ويشاربونه ويبرونه ، وكان إذا لقيهم وضع طعامه وشرابه ودعاهم إليه ودعا بغلاميه ثقيف وشغيف ، وكانا مغنيين ، فأقعدهما يغنيان وسقاهم وشرب معهم وأنشدهم ، فكان الصعاليك يواصلونه ويصلونه بدلا من إن ينهبوا أمواله ويصادروا متاعه ، وإن دعبلا يذكر أسفاره الغربية الجريئة التي كان يعاشر فيها الشطار والصعاليك بعيدا في المفاوز أو يلتقي فيها مع الأعلام في الأمصار البعيدة ، لقد جاب دعبل أقطارا وأمصارا ، فبينما هو في الأهواز وخراسان إذ به في مكة والحجاز ، ثم إذ هو في أقصى جنوب مصر في أسوان ، وهو يصور رحلاته بقوله :
وإن امرءا أمست مساقط رحله بأسوان لم يترك له الحرص معلما
حللت محلا يقصر البرق دونه ويعجز عنه الطيف أن يتجشما
أغلب الظن أن هذه الحياة الشرسة التي عاشها دعبل كانت عاملا فعالا في تطاوله على الناس ، وهجائهم هجاء مقذعا ، يستوي في ذلك الكبير والصغير، والخليفة والحقير ، وذلك يشكل الملمح الأول في حياة شاعرنا .
والملمح الثانيالهام في حياة دعبل أنه كان متشيعا لآل البيت محبا لهم متعلقا بهم تعلقا شديدا ، وأية ذلك شعره فيهم وهو شعر رائع مفعم بالعاطفة ، في زمن كان التعلق فيه بال بيت الرسول يعتبر جريمة كبيرة من وجهة نظر الحاكمين ، ولكن دعبلا ينشىء قصيدته الجليلة ((مدارس آيات خلت من تلاوة )) ويكتبها على ثوب ثم يحرم مرتديا هذا الثوب المزين بهذه القصيدة الخالدة .
ولم يكن حظ آل البيت من شعر دعبل قصيدة أو قصيدتين ، وإنما أنشأ فيهم عددا من القصائد ، وكلها عذب رقيق ، غير أن أشهرها جميعا التالية الكبرى :
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات
ولقد أعجب الشيعة بهذه القصيدة إعجابا شديدا واهتموا بها حفظا وتريدا في محافلهم والمناسبات والمواسم التي يحيون فيها ذكر آل البيت ، بل إن بعض أدبائهم قد أضافوا إليها أبياتا عديدة تناهز التسعين لم يقلها دعبل ولم تخطر معانيها له على بال ، بل إن دعبلا يزور الإمام عليا الرضا ويستوهبه ثوبا قد لبسه ليتبرك به ويجعله في أكفانه ، فيخلع الإمام جبة كانت عليه ويعطيها له ، ويصل خبر الجبة إلى أهل ((قم)) وكانوا متطرفين في تشيعهم لآل البيت ، فسألوه إن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم ، ولكنه رفض ذلك ، فخرجوا في الطريق وأخذوها منه غصبا ، ولكنه هددهم بأن يشكوهم إلى الأمام ، فأعطوه الثلاثين ألف درهم وكما واحدا من بطانتها . وهكذا يجمع دعبل في سلوكه بين النقيضين ، الشطارة والصعلكة والعدوان على أرواح الناس وسب أعراضهم وهجائهم وبين التشيع لآل البيت وحبهم الأمر الذي كان ينبغي أن يؤدي به إلى جادة الصلاح وسبيل الرشاد .
الملمح الثالثفي حياة دعبل خبر يدعو إلى الطرافة والضحك ، ذلك أن دعبلا تقلد ولاية أسوان بمصر العليا بعض الوقت ، إي أن هذا الإنسان الذي قطع الطريق يوما ما وتصعلك لفترات متطاولة في حياته قد أصبح بين عشية وضحاها من الحكام ، حكام مصر ، ولكنه لم يتول حكم أسوان لعبقرية سياسية أو إدارية جعلته جديرا بهذا المنصب ولكن لأنه وفد على المطلب بن عبد الله بن مالك والي مصر مادحا إياه بقوله :
أبعد مصر وبعد مطلب نرجو الغنى إن ذا من العجب
إن كاثرونا جئنا بأسرته أو واحدونا جئنا بمطلب
والبيت الثاني من عيون الشعر ، وفيه يفتخر دعبل بالمطلب لأنه خزاعي مثله ولسبب ما ينقلب دعبل على المطلب ويهجوه أمر الهجاء وأقذعه بقصيدة طويلة يقول في بعضها :
تلعق مصر بك المخزيات وتبصق في وجهك الموصل
وعاديت قوما فما ضرهم وشرفت قوما فلم ينبلوا
شعارك عند الحروب النجا وصاحبك الأخور الأفشل
فأنت إذا ما التقوا آخر وأنت إذا انهزموا أول
وهو هجاء مرير موجع ، ويبلغ المطلب خبر هذه القصيدة وقصائد أخرى قالها دعبل في هجائه فلا يجد بدا من إن يعزله ، ولكن لكي يشفي ألما في صدره فانه يجعل العزل مصحوبا بحركة مسرحية ، فقد أرسل إليه كتاب العزل مع مولى له وقال له : انتظره حتى يصعد المنبر يوم الجمعة ، فإذا علاه فأوصل الكتاب إليه وامنعه من الخطبة ، وأنزله عن المنبر واصعد مكانه . فلما إن علا دعبل المنبر وتنحنح ليخطب ناوله الرسول الكتاب ، فقال له دعبل : دعني أخطب فإذا نزلت قرأته ، فقال الرسول : لا ، فقد أمرني أن أمنعك الخطبة حتى تقراه ، فقراه وأنزله عن المنبر معزولا.
والملمح الرابعإن دعبلا كان ناقدا راوية ، روى الحديث والشعر ، ولكن روايته للحديث مجرحة ، وأما روايته للشعر وأخبار الشعراء المعاصرين له فان كتب التراجم والطبقات تحفل بها وترد كثيرا من مصادر روايتها إليه ، وان من ينظر في كتاب ((الورقة)) لابن الجراح يجد أن أكثر مصادر الأخبار والأشعار مروية عن طريق دعبل حتى ليكاد المرء يظن أنه ليس من رواة للشعر الا دعبل وأبي هفان .
والطريف في الأمر أن دعبلا لا يروي للشعراء المشهورين وحسب ، بل انه يهتم اهتماما ظاهرا بشعراء مغمورين ، لشعرهم قيمة فنية رفيعة ، وفي فنهم سمات طرافة وعلامات تطور بالرغم من إن قلة من الدارسين هم الذين يعرفون أسماءهم من أمثال أبي العذافر الكندي ، وأبي الفيض القصافي البصري ، وأبي خالد الغنوي ، وزرزر ، ومحمد بن أمية البصري ، وأبي فرعون الساسي التيمي وغيرهم من هؤلاء الذين تركوا شعرا رقيقا رفيعا متطورا لم يحظ بشهرة أو ذيوع وهو في حقيقته يمثل جانبا هاما من مسيرة الشعر العربي في تلك الفترة الزمنية ، ولعلنا نوفق في المستقبل إلى كتابة دراسة عن هذا النفر المغمور من الشعراء .
أما وقد حفظ دعبل شعر هؤلاء جميعا وله عليه تعليقات وملاحظات تدخل في باب النقد ، فانه من الطبيعي أن يؤثر هذا الشعر بأشكاله وأفكاره في تطور شعر دعبل بحيث جعله يقول شعرا جيدا فيه جدة وفيه تطور ، الأمر الذي جعل بعض الدارسين القدامى يجعلون دعبلا رائدا كبيرا من رواد الشعر العباسي ، هذا إن لم يكن الرائد الأول الذي ترجع كفته كفه أستاذه مسلم حسب رأي البحري .
والملمح الخامسفي حياة دعبل – وهو ابرز ملامحه – هو غرامه بالهجاء حتى لكانت قد خلق لكي يهجو الناس ، كل الناس ، لقد مر بنا طرف من هجائه المطلب وسوف نعرض لصور أخرى من هجائه الفريد ، ولكن الذي نقصد إليه هنا انه قد هجا مالك ابن طوق احد كبار رجال الدولة العباسية وقوادها المظفرين ، ولج في هجائه وأقذع في النيل من عرضه وعرض أهله ، مثال قوله :
سالت عنكم يا بني مالك في نازح الأرضيين والدانيه
طرا فلم تعرف لكم نسبة حتى إذا قلت بني الزانية
قالوا فدع دارا على يمنه وتلك ها دارهم ثانية
لقد بلغت مالكا هذه الأبيات وأبيات أخرى أكثر منها فحشا ترفعنا عن التمثيل بها ، فأرسل إلى دعبل من ظل يتتبع آثاره حتى عثر عليه في الأهواز في قرية يقال لها سوس ، فاغتاله بان ضرب ظهر قدمه بعكاز مسموم فمات بتلك القرية ، وموطن الإثارة هنا ليس مجرد قتل دعبل ، وإنما قتله وهو في الثامنة والتسعين ، وإذن فلم تستطع سن دعبل المتقدمة التي وقفت به على أعتاب المائة إن تكف من غربة أو أن تحد من شهوة التعريض بالأعراض الأمر الذي جعله يموت غيلة في هذه السن المتقدمة .

د-شاعرية دعبل
إن لدعبل مكانة رفيعة القدر في دنيا الشعر ، الأمر الذي جعل المأمون يفتن بشعره برغم هجائه إياه ، والأمر الذي جعل البحتري يفضله على مسلم على الرغم من هجائه لأبي تمام أستاذ البحتري وصاحب الفضل الكبير عليه بأبيات طعن فيها في نسبته إلى طيء. ولولا تطرف دعبل في الهجاء ونيله من أعراض الكرام لكان له شأن آخر ، مع ذلك فان له من الشعر الرصين المتين أبياتا لا زالت تجري على ألسنة صفوة المتأدبين مجرى الإعجاب والتمثيل ، إن دعبلا هو صاحب البيت :
يموت رديء الشعر من قبل أهله وجيدة يحيا وإن مات قائله
وهو قول سديد ينطبق على الشعر في كل زمان ومكان ، ودعبل هو القائل أيضا هذين البيتين الرقيقين
الحكيمين :
وإن أولى الموالي إن تواسيه عند السرور لمن واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن
ه-شعره في آل البيت :
دعبل صاحب التائبة الخالدة في تمجيد آل البيت والأسى لأحوالهم :
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات
وهي من أجمل وأمتع الشعر العربي الذي قيل في آل بيت الرسول رقة عاطفة وإشراق ديباجة وصدق إحساس . ليس ثمة شك في أن دعبلا كان يذوب حبا في آل الرسول r ، وقد آثرهم بالقوافي التائية ، إذ أن له قصيدة أخرى فيهم رقيقة غير مشهورة يقول فيها:
طرقتك طارقة المنى ببيات لا تظهري جزعا فأنت بدات
في حب آل المصطفى ووصية شغل عن اللذات والقينات
إن النشيد بحب آل محمد أزكى وأنفع لي من القينات
فاحش القصيد بهم وفرغ فيهم قلبا حشوت هواه باللذات
إننا نحس صدقا في قول دعبل حين يجعل حب آل المصطفى شغلا عن لذاته وقنياته ، ذلك أنه صور قبل ذلك مذهب اللذة في مقصورة يقول في بعضها:
إنما العيش خلال خمسة حبذا تلـك خلالا حبذا
خدمة الضيف وكاس لذة ونديم وفتاة وغنا
وإذا فاتك منها واحد نقص العيش بنقصان الهوى
إن دعبلا شاعر بكل معنى الشعر ومفهومه ، شاعر حين يجد وشاعر حين يهزل ، وشاعر حين يمدح وشاعر حين يهجو ، غير أن الذي نريد الوقوف عليه من شعر دعبل هو تلك الظواهر التي أعلنت عن نفسها فيه ، والتي أثرت بشكل مباشر في المدرسة الوسيطة للشعر العباسي التي تمثلت في مدارس شعرية تالية له قادمة من بعده والتي يمكن التعرف عليها موضوعيا في الهجاء ، وفنيا في الصنعة والصورة الشعرية .
و-دعبل الهجاء :
دعبل شاعر هجاء فيه قسوة وعنف وشطط ومرارة ، وهو يمثل المرحلة الوسطى بين بشار وابن الرومي بمعنى انه أقسى من بشار ودون ابن الرومي ، انه يدين بمذهب بشار ومبدئه في الهجاء ويقول إن أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الموهبة ولا يبالي بالشاعر وان كان مجيدا إذا لم يخف شره ، ويستطرد قائلا : إن الهجاء المقذع – وفي رواية المفزع – أخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع. ودعبل فلم يكن يكترث بشيء ، كان عارضا دمه وحياته لمن يريد إن يقتص منه إذا أراد ، مرددا قولته الشهيرة : ((أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لا أجد من يصلبني عليها )) لقد صدق دعبل بعض الصدق إذ انه لم يجد من يقتص منه على و لوغه في أعراض الناس إلا حينما بلغ الثامنة والتسعين من العمر ، وكان لا يزال أفحش ما يكون هجاء واحد ما يكون لسانا ، وليس من قبيل المصادفات إن يشترك كل من دعبل وبشار في بعض الصفات ، فكلاهما ضخم الجثة طويل ذو آفة خلقية ، بشار كان أعمى ودعبل كان أطرش وله سلعة في قفاه ، وليس يخالجنا أدنى شك في إن آفة العمى عند الأول وآفة الطرش عند الثاني قد ملأتهما حنقا على الحياة وعلى الناس فتجسم ذلك الحنق في ظاهرة الهجاء .
إن الصورة الغالية التي وقرت في أذهان الناس عن الحطيئة تتضاءل كثيرا أمام غلو دعبل لقد هجا الحطيئة كثيرين من بينهم أمه وأبوه ثم انتهى بهجاء نفسه ، وإما دعبل فقد تخصص أول ما تخصص في هجاء ملوك بني العباس ، هجا الرشيد والمأمون
والمعتصم وإبراهيم بن المهدي الذي ولي الملك لفترة قصيرة في بغداد خلع فيها المأمون كما هجا أيضا الواثق والمتوكل وهجا من كبار رجال دولتهم أحمد بن أبي دؤاد ، ومحمد بن عبد الملك الزيات، والحسن بن سهل ، والحسن بن رجاء ، وأبا نصير الطوسي ، وبني طاهر بن الحسين ، ومالك بن طوق الذي بعث إليه من اغتاله حسبما مر بنا قبل قليل ،لقد هجا رجالا كثيرين من رجالات الدولة غير هؤلاء الذين ذكرنا ، حتى الجواري لم يسلمن من هجاء دعبل .
لقد تهاجى دعبل مع أبي سعد المخزومي الشاعر المجيد واشتدت المعركة بينهما حتى أخذت شكل النقائض أو كادت ، وكان دعبل قد أخذ يشدد الحملة على بني مخزوم ، القبيلة التي منها أبو سعد ، فما كان من بني مخزوم – حفاظا على أعراضهم من لسان دعبل – إلا إن تبرأوا من أبي سعد وادعوا أانه مجهول النسب وأصدروا في ذلك إعلاما للناس ، مع أنابا سعد هذا لم يفعل مع دعبل أكثر من أن رد عليه حين تعرض دعبل لقومه بالهجاء بقوله :
عصابة من بني مخزوم بت بهم بحيث لا تطمع المسحاة في الطين
ومن الطريف أن سعدا ، وقد شعر بالمرارة إزاء قرار قومه ، رأى إن يتبرأ هو الآخر منهم فجاء بنقاش نقش على خاتمه هذه العبارة : ((أبو سعد العبد بن العبد برئ من بني مخروم))
وقصة مهاجاة دعبل وأبي سعد المخزومي قصة طويلة مريرة فكهة ، نالت اهتمام الناس جميعا ، بل لقد استطاع دعبل بشعوذته إن يدخل الصبيان الصغار طرفا فيها وذلك بان كان يؤلف أبياتا سوقية المعاني شعبية الصياغة ويجمع الصبيان حوله ويعطيهم جوزا ثم يطلب إليهم أن يرددوا الأبيات الهجائية التي صنعها في النيل من أبي سعد .
وليس أبو سعد المخزومي هو الشاعر الوحيد الذي هجاه دعبل ، إذ لو كان أمر مهاجاة الشعراء وقف عند أبي سعد لهان الأمر ، ولكنه هجا أكبر شاعرين في عصره ، هجا مسلم بن الوليد وأبا تمام الطائي ، ومن الغريب أن يهجو دعبل مسلما وهو أستاذه ، وعليه تدرب على قول الشعر ، حتى إذا استوى عوده فيه صرح له بان يطلع بشعره على الناس . غير إن مسلما كما مر بنا كان قد ولي إمارة طبرستان ، فذهب دعبل للقائه هناك ، وكان مسلم قد بعد عن أسباب اللهو التي كان دعبل يتعشقها ويعيشها فلم ينشط كثيرا لمصافاته ، فما كان من دعبل إلا إن هجاه بقصيدة مريرة على بلاغتها ، موجعة على براعة فن القول فيها استهلها بالبيت :
أبا مخلد كنا حليفي مودة هوانا وقلبانا جميعا معا معا
وفيها يقول :
غششت الهوى حتى تداعت أصوله بنا وابتذلت الوصل حتى تقطعا
وأنزلت من بين الجوانح والحشا ذخيرة ود طالما قد تمنعا
فلا تلحيني لم أجد فيك حيلة تخرقت حتى لم أجد فيك مرقعا
فهبك يميني استأكلت فاحتسبتها وجشمت قلبي قطعها فتشجعا
وأما هجاؤه أبا تمتم فكان أكثر إيلاما من هجائه مسلما لأنه طعن في نسبة وشكك في طائيته حين قال في استخفاف:
انظر إليه و إلى ظرفه كيف ((تطايا )) و هو منشور
ويلك !! من دلاك في نسبة قلبك منها الدهر مذعور
لو ذكرت ((طي)) على فرسخ أظلم في ناظرك النور
وفي آخر المطاف حين فرغ دعبل من هجاء من وجدهم أهلا للهجاء عرج على قبيلته خزاعة فهجاها .
لقد كان دعبل يعيش الهجاء كما يعيش المرء الحياة ، لقد كان يكتب شعرا في الهجاء ويحتفظ به للوقت المناسب وللشخص الذي يظهر فيما بعد انه مستحق له ، فإذا ما ظهر ذلك المسكين لا يفعل دعبل أكثر من إن يضيف اسمه إلى الأبيات بحيث تنسجم مع بحر الشعر ووزنه .
إن مجرد ذكر اسم دعبل في ندوة ما كان يدخل الفزع إلى قلوب الناس ، إن دعبلا بحكي بنفسه بعض هذه النوادر ، فقد حكى هو نفسه للمبرد شيئا من ذلك قائلا : كنت جالسا مع بعض أصحابنا ذات يوم ، فلما قمت ، سأل رجل لم يعرفني أصحابنا عني ، فقالوا : هذا دعبل ، فقال : قولوا في جليسكم خير !! . يقول دعبل أيضا إن رجلا قد أصابه الجنون فصحت في إذنه ((دعبل )) ثلاث مرات ، فأفاق
ولم يكن دعبل يكتفي بهجاء الإحياء بل كثيرا ما كان يهجو الأموات من كرام الناس ، فقد هجا الكميت الأسدي شاعر آل البيت وناقضه في القصيدة النونية –
ألا حييت عنا يامدينا –
وعرض به بقصيدة مطلعها :
أفيقي من ملامك يا ظعينا كفاك اللوم مر الأربعينا
وقد أضرت هذه القصيدة بدعبل ونالت من شعبيته عند خاصة الأدباء وجمهره الشيعة ، وحطت من قدره عند اللذين كانوا يحملون له التقدير .
ولم يعرف الرشيد أانه أساء إلى دعبل بل لقد أرسل في طلبه بعد سماع شعره وأجلسه في حضرته ووصلة بصلات سنية ، ومع ذلك فان الرشيد لم يسلم من هجائه بعد موته فقد هجاه في قصيدته التائية – مدارس آيات – وذلك في قوله :
قبران في طوس : خير الناس كلهم وقبر شرهم ، هذا من العبر
ما ينفع الرجس من قرب ((الزكي)) ولا على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرىء رهن بما كسبت له يداه فخذ ما شئت أو فذر
وكل دعبل كثير الهجاء للمعتصم شديد الحملة عليه في حياته مع إن المعتصم كان سيف دولة بني العباس وفارسها وفاتح بلاد الروم وموقع الهزائم بالمعتدين على ديار الإسلام ، وقد مدح بما لم يمدح به خليفة عباسي لهمته في الحرب وفروسيته في الفتح حسبما سوف يمر علينا فيما يستقبل من فصول ولكن ما كاد يموت المعتصم ويلي الواثق أمر المملكة حتى ينشط دعبل قائلا لمن على البديهة
الحمد الله لاصبر ولا جلد ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد وآخر قام لم يفرح به أحد
إن دعبلا هجاء ومحترف بمعنى أنه يقول الهجاء هواية ويصنعه احترافا إن جاز هذا التغير فلتدلف إلى صور من هجائياته الموجعة ضاربين صفحا عن نماذج من هجائيات ذكر فيه الأعراض والعورات وألفاظا لا يجمل بنا إن نضمنها كتابنا هذا طالما كان في نماذجه الأخرى ما يفي بالغرض .

ز-شعره في الهجاء:
نقول ليس ثمة نزاع في شاعرية دعبل وخصوبتها في مختلف الأغراض ولكنه إذا قال في الهجاء أحس قارئه وكأنها فيض قريحته وعفو خاطره يحسن الصوغ ويتقن توليد المعاني ويمنع ويطرف مع الإيجاع إلى الحد الذي يجعل المهجو يطرب حين يسمع شعرالنفس الشاعر يهجو به فريسة أخرى وأية ذلك إن دعبلا كان قد هجا المأمون فما زال المأمون في طلبه حتى تحايل دعبل ودس إليه قوله في عمه إبراهيم ابن المهدي الذي كان خرج عليه وبايعه الناس خلفية على بغداد بين سنتي 201—203هـ حيث يقول :
إن كان إبراهيم مضطلعا بها فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من ذاك لزلزل ولتصلحن من بعده للمارق
أنى يكون ولا يكون ولم يكن لينال ذلك فاسق عن فاسق
فلما قرأ المأمون الأبيات ضحك وقال قد صفحت عن كل ما هجانا بهاذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة لقد كان دعبل من الخبث بمكان في أ بياته هذه فقلد كان إبراهيم بن المهدي مغنيا عازما مجيدا وكان مخرق مغنيا وكان زلزل صالحة لمخارق المغني دام إبراهيم ـ وهذه صفته ـ قد تسم الخلافة فإنها ولا شك صالحة لمخارق المغنى وزلزل الطبال .
وكان إبراهيم بن المهدي قد بويع بالخلافة في بغداد على النحو الذي مر بنا وكان مال خلافته قد قل فحبس العطاء عن الناس وجعل يسوفهم ثم لم يلب ثان بعث إليهم من أعلن إمامهم الآمال عنده فقال بعض غوغاء بغداد اخرجوا ألينا خليفتنا ليغني لأصحاب العطاء ثلاثة أصوات فتكون عطاء لهم ويقتنص دعبل هذا القول وينطلق من مضمونة يهجو إبراهيم بهذه الأبيات الساخرة الموجعة
يا معشر الأجناد لا تقنطرا وارضوا بما كان ولاتسخوا
فسوف تعطون حنينية يلتدها الأمرد والأشمط
والمعبديات لقوادكم لا تدخل الكيس ولا تربط
وهكذا يرزق قوادة خليفة مصحفه البربط
أما هجاؤه المأمون فكان هجاء خنا به من مقام الملك الخطير وعرض به وبأخيه الأمين الذي قتله جيش طاهر بن الحسين الخزاعي ولاء وبالتالي فان سيوف الخزاعيين هي التي أقعدت المأمون على كرسي الخلافة يهجو دعبل المأمون من هذا المنفذ فيقول :
أيسومني المأمون خطة جاهل أو ما رأى بالأمس رأس محمد
إني من القوم الذين سيوفهم قتلت أخاك وشرفوك بمقعد
رفعوا محلك بعد طول خموله واستنقذوك من الحضيض الأوهد
لقد كان المأمون يطلب دعبلا ليوقع به ولكن لا يلبث أن تصفو نفسه ويردد شعرة ويستحسنه وقد مر بنا انه كان يردد أبياته الجميلة العينية القافية كما كان يضحك لسماع هجاء دعبل في إبراهيم بن المهدي واني عباد الكاتب
ويظل دعبل مستلما ملوك بني العباس يهجوهم الواحد تلو الآخر بدا بالرشيد وثنى بإبراهيم بن المهدي وثلث بالمأمون ثم يأتي دور المعتصم وترتيبه الثامن في سلك ملوك بني العباس فينكر علية دعبل حقه في الملك ويقول هذه الأبيات الهجائية الموجعة:
ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة كرام إذا عدوا وثامنهم كلب
واني لأعلي كلبهم عنك رفعة لأنك ذو ذنب وليس ذنب
لقد ضاع ملك الناس إذ ساس ملكهم وصيف واشناس وقد عظم الكرب
وكالعادة يطلب الخلفية المهجو دعبلا ليقتله ولكنة يفر ويستر لأيام بل لسنوات ويدعي في هذا المقام إن هذه القصيدة ليست له وإنما قالها أحد أعدائه ونسبها إليه حتى يرقع به ولكن تصديق ذلك أمر بعيد الاحتمال
ويموت المعتصم فلا يسلم وهو ميت لسان دعبل أن يعتبر المعتصم رغم موته صورة للطاغية المستبد الشرير ويطلب له العذاب في نار جنهم التي يستحقها الشياطين والطغاة والظالمون فيقول :
قد قلت إذ غيبوه وانصرفوا في شر قبر لشر مدفون
اذهب إلى والنار والعذاب فما خلتك إلا من الشياطين
ما زلت حتى عقدت بيعة من اضر بالمسلمين والدين
فإذا جاء دور المتوكل فان دعبلا يهجوه ببيت واحد ولكنه بيت قاس موجع لأنه ينال من مروءة الخليفة الأنيق المترف ويعرض برجولته وذلك بقول :
ولست بقائل قذعا ولكن لأمر ما تعبدك العبيد
فعل دعبل يمدح الرجل فإذا يعطيه جائزة يرضاها انقلب علية وهجاء وقد فعل ذلك مع عدة رجال منهم أبو نصير بن حميد الطوسي الذي قال فيه قولا موجعا مرا:
أبا نصير تحلحل عن مجالسنا فان فيك لمن جاراك منتقصا
أنت الحمار حرونا إن رفقت به وان قصدت إلى معروفة قمصا
إني هززتك لا ألوك مجتهدا لو كنت ولكني هززت عصا
إن أبا نصير وقد أوجعته هذه الأبيات لم يجد أمامه غير أبي تمام الشاعر فشكا دعبلا إليه واستعان به عليه فهجاه بقصيدة يقول في بعضها :
أدعبل إن تطاولت الليالي عليك فان شعري سم ساعه
وما وقد المشيب عليك إلا بأخلاق الدناءة والرضاعه
ووجهك إن رضيت به نديما فأنت نسيج وحدك في الرقاعه
وهي أبيات ركيكة متخاذلة إذا ما قيست بهجاء دعبل .
وتتجلى براعة دعبل في الهجاء حين يهجو مجموعه من الأعلام دفعة واحدة مجتمعين غير متفرقين لقد فعل ذلك حين هجا مجموعة من الناس مكونة من دينار بن عبد الله وأخيهيحي والحسن بن سهل والحسن بن رجاء وأبيه فقال :
ألا فاشتروا مني ملوك المخرم أبع "حسنا " " وابني رجاء " بدرهم
وأعط " رجاء " فوق ذاك زيادة وأسمح " بدينار" بغير تندم
فإذا رد عيب علي جميعهم فليس يرد العيب " يحيى بن أكثم"
إن هذه الصور الهجائية التي قدمناها وتجاوزنا عن غيرها من هجائيات دعبل التي تحر جنا من التمثيل بها على الرغم مما فيها من براعة ورشاقة تعتبر مرحلة وسطى في الهجاء حسبما ذكرنا قبلا بين بشار وابن الرومي بل إن ابن الرومي يكاد يستر خلف كل صورة من صور دعبل الهجائية إن دعبلا د فرض نفسه على موضوع الهجاء فرضا فان طبيعته ونفسيته واستعداده كل ذلك قد هيأه لان يحتل مكانة في شعر وبخاصة شعرة الإنساني .
ح-الصنعة والتجديد في شعر دعبل :
على الرغم من تورط دعبل في الهجاء تورطا يكاد يحجب فنه الجديد في الشعر العربي فإن طبيعة الصناعة الصارخة والصور البهجية التي عمد اختراعها تعلن عن نفسها بصوت عال مسموع.
لقد مر بنا قبل قليل قول دعبل وهو يقدم شخصيته الشعرية أنا ابن قولي :
لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
أي أنه عرف بهذا القول واشتهر, تماما كما كان أبو تمام يقول أنا ابن قولي:
نفل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
ذلك أن كل أعر يأتي بمعنى جديد أو صوغ طريق يشيع بين الناس كان يعرف بهذا القول ومن ثم يقول: أنا ابن قولي قولي كذا , ويذكر البيت.
والحق أن بيت دعبل قد على كل لسان وغنته أكثر القيان الغنيات المجيدات لفترة طويلة من الزمان , بل إن " المكارية " كانوا يتغنون به وهم يسوقون به يسمع المكاري من خلفه يتغنى بالبيت – لا تعجبي يا سلم – فسر دعبل لذلك وأراد إن يشغل المكاري بحديث يصرفه عن حث البغل على السرعة في المسير فقال له : أتعرف لمن هذا الشعر يا فتى ؟ وتوقع دعبل أن يلقى جوابا يرضيه أو وان يسمع اسمه على شفتي المكاري ، ولكن المكاري كان من سلاطة اللسان ، أو بالأحرى كان سليقته في القول – أعنى سليقة المكارية – فأجاب : هذا الشعر لمن ..... أمه
بل إن هذا البيت هو الذي أوصل دعبلا بالرشيد ، فقد غنى ابن جامع المقطوعة التي تضم هذا البيت بين يدي الرشيد فطرب كثيرا وسأل عن قائل الشعر ، فقيل له : دعبل بن علي الخزاعي ، فأمر الرشيد بإحضار عشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه ووجه خادما من خاصته على مركب مراكبه إلى خزاعة فسال عن دعبل وأعطاه إياها وأبدى له إعجاب الخليفة به ورغبته في إن يراه متى يشاء .
إن بيتا أو مقطوعة تذيع وتشيع بين طبقات المجتمع بدءا بالخليفة في قصره وانتهاء بالمكارية وراء بغالهم وحميرهم في الطرقات لشيء يبعث على الاهتمام ، فما هي هذه المقطوعة الشعرية التي أثارت كل هذا الاهتمام ؟ أنها مقطوعة تنم عن رقة متناهية ، وإحساس شاعري رهيف ، وتلاعب بالمعاني طريف ، ومداعبة بديعية لصيغة القول ، جمعت ألوانا من الزينات اللفظية من جناس وطباق إلى نكت بيانية تمثلت في الاستعارات الحضرية التي تضمنتها الأبيات ، والتي لم ينجح في ابتكارها من الشعراء الكثيري العدد إلا عدد قليل من أمثال مسلم بن الوليد وأبي نواس ، يقول دعبل في مقطوعته الرقيقة :
أين الشباب وأية سلكا ؟ لا أين يطلب ؟ ضل بل هلكا
لا تعجبني يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعري كيف نومكما يا صاحبي إذا دمي سفكا
لا تأخذوا بظلامتي أحدا قلبي وطرفي في دمي اشتركا
قد يبدو غريبا صدور مثل هذا القول المتناهي في رقته من شاعر عمل بعض الوقت قاطع طريق ، وعايش فترات طويلة من عمره الصعاليك والشطار ، ونذر نفسه للهجاء ، ولكن تعليل ذلك في غاية من البساطة ، فالرجل يملك روحا شاعره خصبة ، وملكة سخية معطاءة ، ولكن طبيعة الحياة التي نشا فيها ودور المجتمع الذي عاش فيه قد اجريا هذا التحول المنحرف في سلوكه وبالتالي في قوله وشعره .
ومع ذلك فقد كان دعبل يرتاح وهو في شيخوخته لسماع هذه النبرة الناعمة المترفة من شعر شبابه الباكر . فلقد حل ضيفا على من دعاه إلى منزله في بلدة شهر زور ، فسمع جارية محسنة تغني : أين الشباب ...... الأبيات فارتاح دعبل وقال : قد قلت الشعر منذ سبعين سنة.
لا شك في إن دعبلا يمثل مدرستين أو بالأحرى طبيعتين ، فهو من ناحية يمثل الطبيعة الناشزة النافرة غير المستأنسة التي تتمثل في خشونته وتطاوله على الناس وهجائهم وطول الهروب من المدينة ومعاشرة الصعاليك ، ولكنه من ناحية أخرى متأثر بالبيئة الحضرية الناعمة التي تعجب بالشعر السهل المترف الذي تمثل في الأبيات السابقة .
بل إن دعبلا قطع في التأثر بالبيئة البغدادية شوطا طويلا حين شارك أبا نواس في رفض الوقوف على الأطلال واستبداله ذكر الخمر بالوقوف على الربوع حتى نكاد نقع في لبس تجاه الشاعرين الكبيرين وأيهما كان البادئ في هذا الاتجاه ، المهم أن دعبلا رفض الوقوف على الربوع والطلل في قوله مخاطبا زيادا الساقي :
يقول زياد قف بصحبك مرة على الربع ، مالي و الوقوف على الربع
أدرها على فقد الحبيب فربما شربت على ناي الأحبة والفجع
فما بلغتني ألكاس إلا شربتها وإلا سقيت الأرض كأسا من الدمع
ليس من شك في أن هذا القول يزعزع من الفكرة التي تذهب إلى ا نابا نواس هو أول من ترك الوقوف على الأطلال – وان كان في حقيقة أمره لم يفعل حسبما مر بنا – فان دعبلا ينازعه في ذلك خاصة وان فارق المولد بينهما عامان اثنان لا غير .
ومن نماذج الصيغ الشعرية البهيجة التي تألق دعبل في نسجها وزركشتها وتلوينها بحيث بدت عذبة الرنين الرنين رخية الإيقاع أنيقة التشبيهات بارعة الاستعارات تلك الأبيات التي مزج فيها شاعرنا بين الطبيعة والمديح في قوله
وميثاء خضراء زربية بها النور يلمع في كل فن
ضحوكا إذا لا عبته الرياح تأود كـالشارب وعصب اليمن
فشبه صحبي سنا نورها بديباج كسرى وعصب اليمن
فقلت بعدتم ولكنني أشبهه بجنـاب الحسـن
فتى لا يرى المال إلا العطاء ولا الكنز إلا اعتقاد المنن
وعلى نفس النهج الذي سارت فيه مدرسة الشعر المجددة المعاصرة التي التزم دعبل اتجاهاتها في شبابه لا نستطيع أن نخفي إعجابنا بقوله في الكأس والخمر .
شربت وصحبتي يوما بغمر شرابا كان من لطف هواء
وزنا الكأس فارغة وملاى فكان الوزن بينهما سواء
إن دعبلا وقد سلك نفسه في هذا النهج من القول إنما يجري في المضمار الذي جرى فيه مسلم وأبو نواس ثم أبو تمام ، ومن قبلهم الحسين بن مطير وبشار .
ومن فنون الصناعة والتلاعب باللفظ الواحد واستخدامه قافية للقصيدة بحيث جعل منه معنى مستقلا في كل بيت ، صريحا حينا ، ومن قبيل التورية حينا آخر ، قوله في الفضل بن مروان وزير المعتصم ، مكررا لفظ ((الفضل )) كل مرة :
نصحت فأخلصت النصيحة للفضل وقلت فسيرت المقالة في الفضل
ألا إن في الفضل بن سهل لعبرة إن اعتبر الفضل بن مروان بالفضل
وفي ابن الربيع الفضل للفضل زاجر إذا ازدجر الفضل بن مروان بالفضل
وللفضل في الفضل بن يحيى مواعظ إذا فكر الفضل بن مروان في الفضل
فابق جميلا من حديث تفز به ولا تدع الإحسان والأخذ بالفضل
فانك قد أصبحت للملك قيما وصرت مكان الفضل والفضل والفضل
ولم أر أبياتا من الشعر قبلها جميع قوافيها على الفضل والفضل
وليس لها عيب إذا هي أنشدت سوى أن نصحي الفضل كان من الفضل
وهكذا يكد دعبل قريحته لكي يقدم قافية متميزة غير مسبوق إليها جميعها – حسب تعبيره – (( على الفضل والفضل )) وقد اجتهد في إن يكون كل ((فضل)) بمعنى ، فتارة هو الفضل بن مروان ، وأخرى هو الفضل بن سهل وثالثه هو الفضل بن الربيع ، ورابعة هو الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي وخامسة هم هؤلاء جميعا ، وسادسة بمعنى الإحسان وسابعة بمعنى فضل القول وهكذا . ولئن اعتبر بعض الناقدين هذا النسق من القول ضربا من التجديد ، فانه تجديد غير مفيد وغير بهيج لأنه كد للقريحة في غير ما طائل يلوي فيه الشاعر أعناق الألفاظ بشدة ويجرها بحبال متينة حتى يرصها صفا واحدا ، مخايل الإبداع والبهجة فيه اقل كثيرا من المجهود الذي بذل في سبيله .
هذا ما كان من أمر الزينات اللفظية والتشبيهات والاستعارات ، غير إن جانبا ذا قيمة وخطر لا زال يكمن في شاعرية دعبل ، إن هذا الجانب هو جانب الصورة الشعرية التي ازدهت وازدهرت فيما بعد عند كل من ابن الرومي وابن المعتز .
إن دعبلا يرسم لوحة لكلابه وهي ترحب بضيفه بحيث نكاد – لفرط ما خلع دعبل على لوحته – نحس بالكلاب تحرك إذنابها سرورا وترحابا من خلال الأبيات التي يقول فيها :
ويدل ضيفي في الظلام على القرى إشراق ناري أو نباح كلابي
حتى إذا واجهنه ولقينه حيينه ببصابص الأذناب
فتكاد من عرفان ما قد عودت من ذاك أن يفصحن بالترحاب
الواقع أنها صورة رائعة بارعة استطاع دعبل إن يخلع عليها حركة رشيقة بحيث بدت وكأنها شريط سينمائي قصير .
على إن هذه الصور على رشاقتها ودقتها ورقتها ليست في واقع أمرها إلا تقليدا لشاعر سابق من مخضرمي الدولتين اعتبرناه عند دراستنا له واحد من رواد التجديد ذوي الأصالة انه إبراهيم بن هرمة الذي يصور كلبه بضيوفه في قوله :
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا يكلمه من حبه وهو أعجم
بل إن ابن هرمة قد قدم صورة أخرى لكلابه وهي تهش لمقدم ضيوفه في نفس البحر والروي والقافية التي التزمها دعبل يقول ابن هرمة في الصورة الباكرة التي قدمها لكلابه :
وإذا أتانا طارق متنور نبحت فدلته علي كلابي
وفرحن إذ أبصرنه فلقينه يضربنه بشراشر الأذناب
إن الصورة التي رسمها دعبل لكلابه – مقلدا ابن هرمة – صورة جمعت بين الجدة والطرافة ، ولكن لدعبل صور شعرية أخرى متحركة فكهة ، فيها رشاقة وسخرية وخفة روح .
طار ذات يوم ديك من بيت دعبل في بغداد فسقط في بيت صالح بن علي القيسي وكان عنده جماعة من الأصدقاء ، وما أن رأوا الديك قريبا منهم حتى قالوا : هذا صيد سمين ، فذبحوه وشوه وجعلوه على مائدة شرابهم . أما دعبل فانه قد أسرع إلى دار صالح سائلا عن ديكه مطالبا به ، غير إن القوم أنكروا معرفة شيء عنه . فلما كانت الغداة ذهب دعبل إلى المسجد وصلى ثم جلس بين صفوة العلماء وجمهرة المصلين الذين كانوا يؤثرون الصلاة في هذا المسجد وانشد هذه الأبيات التي تمثل قصة الديك – الذي اثر إن يصفه بالمؤذن – مع جاره :
أسر المؤذن صالح وضيوفه أسر الكمي هفا خلال الماقط
بعثوا عليه بنيهم وبناتهم من بين ناتفة وآخر سامط
يتنازعون كأنهم قد أوثقوا خاقان أو هزموا كتائب ناعط
نهشوه فانتزعت له أسنانهم وتهشمت اقفاؤهم بالحائط *
لقد أصاب دعبل بأبياته هدفين وحقق غرضين ، ذلك انه نال من جاره وشهر به في المسجد بهذه الأبيات الفكهة ، فضلا عن انه أهدى إلى دنيا الشعر هذه الصورة المتحركة المضحكة
وهناك صورة أخرى فكهة ضاحكة مرة بارعة رسمها دعبل لبني بسام من خلال هجائه لهم بسبب إهمال نصر بن منصور بن بسام في قضاء طلب للشاعر فقال عامدا إلى التورية والطباق :
يا آل (( بسام )) في المخازي وعابسي الوجه في السؤال
حواجب كالحبال سود إلى عثانـــين كـالمخالي
وأوجه جهمة غلاظ عطل من الحسن والجمال
بل إن الصور الشعرية المرسومة بدقة وكأنها ريشة فنان قد اكتملت أسباب نضجها عند دعبل ، وليس ابن الرومي وابن المعتز إلا مكملين لهذا اللون الذي ألح عليه دعبل من واقع نفسيته الثائرة المتمردة حتى على القريبين منه . لقد كان له جارية اسمها ((غزل)) ويبدو انه كان حانقا عليها فرسم لها هذه الصورة الطريفة الفكهة الساخرة:
رأيت غزالا وقـد أقبلت فأبدت لعيني عن مبصقه
قصيرة الخلق دحداحة تدحرج في المشي كالبندفة
كان ذراعا علا كفها إذا حسرت ذنب الملعقة
تخطط حاجبها بالمداد وتربط في عجزها مرفقه
وأنف على وجهها ملصق قصير المناخر كالفستقه
وثديان : ثدي كبلوطة وآخر كالقربة المدهقه
وصدر نحيف كثير العظام تقعقع من فوقه المخنقه
وثغر إذا كشرت خلته تخالج فانية معلقة
إن هذه الصور الشعرية الساخرة تشكل الأساس الرئيسي لمدرسة الصورة الشعرية الساخرة التي ازدهرت عند ابن الرومي بحيث عرفت به ونسبت إليه ، والواقع إن فضلا كبيرا في أصلها يرجع إلى دعبل الشاعر الرسام الساخر الهجاء الفنان .
لقد كان دعبل شاعرا كبيرا مرموقا ، وكان البحتري – شاعر العربية الكبير – يفضله على مسلم بن الوليد حسبما مر بنا ، وعلى الرغم من العداوة التي كانت بين دعبل وأبي تمام ، فان البحتري ، وهو تلميذ أبي تمام وقريبه – جمع بين الشاعرين الكبيرين في مرثيته لدعبل الذي مات بعد أبي تمام بخمس عشرة سنة وفيها يقول :
قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي مثوى حبيب يوم مات ودعبل
أخوي لا تزل السماء مخيلة تغشا كما بسماء مزن مسبل
جدث على الأهواز يبعد دونه مسرى النعي ورمة بالموصل
نستطيع الآن في غير ما جهد أن نتفهم مكانه دعبل وموقعه في الشعر العباسي ، انه الحلقة الواسعة المتينة التي تربط شعر المرحلة العباسية الباكرة ومرحلة ما قبل الدويلات ، وهذه الحلقة تستوعب اتجاهين أساسين ، الأول اتجاه شعر الهجاء وربطة بين بشار وابن الرومي والاتجاه الثاني يتمثل في التجديد في شكل الشعر لفظا ومعنى الذي مثله أبو تمام فيما بعد وفي خلق الصورة الشعرية التي ازدهرت عند كل من ابن الرومي وابن المعتز في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري .







6-مهيارالديلمي

أ-صنعة مهيار
لم يكنمهيار يستعين على شعره بثقافة ولا فلسفة، وكان أجنبيًّا عن اللغة، وحاول أن يطيل في قصائده، فظهر تلفيقه مكشوفًا،
ولذلك تأثير واسع في صناعة الشعر عنده؛ إذ كان يضل التعبير عن المعاني الدقيقة، فيسقط إلى ألوان من الإسفاف تذيع سر المهنة عنده، ولذلك كان لا يحسن التعبير الحاد عما في نفسه. وقد سلمت له نشأة فارسية مجوسية؛ ولذلك كانت قصائده تمتلئ بنوافذ يشرف منها الإنسان على فارس، ولولا أنه أخذ نفسه بالأسلوب العربي وتخرج على يد شاعر عربي أصيل؛ وهو الشريف الرضي؛ لكان لفارسيته وأجنبيته عن اللغة العربية أثر أوسع. ولعل ذلك ما جعله يقول في وصف أشعاره:
حلىً من المعدنِ الصريحِ إذا ... غشَّ تجارُ الأشعارِ ما جلَبوا
تشكرُها الفرسُ في مديحك للـ ... معنى وتَرضى لسانها العَرَبُ
فمهيار كان يشعر شعورًا عميقًا بفارسيته، وكان يرى أن لهذه الفارسية سمات خاصة في شعره، وهو يرجع هذه السمات إلى ما يسميه المعنى؛ ولكن كلمة المعنى واسعة، وهي الروح الفارسية؛ فليس في معاني مهيار ما يمكن أن نسميه فارسيًّا. وكان يؤثر في شعر مهيار تأثيرًا واسعًا مزاجهالخاص، وهو مزاج فيه رقة وحدَّة في الحس،ودماثة وليونة ما يزال ينتشر في جميع أطراف شعره.
ب-تَلْفِيقُ مِهْيَارلشعرهوتطويلهلقصائده:
كان مهيار أجنبيًّا عن اللغة؛ يلفق قصائده على طريقة الشعراء الذين عاصروه ، وهو تلفيق لا يعتمد عنده على الثقافة ؛ إنما هو تلفيق داخلي ، إذ نرى الشعراء عاجزين عن التجديد إلا في حدود ما سبقهم من أفكار وخواطر، وهم لذلك ما يزالون يتناقلونها فيما بينهم، حتى يحدثوا لأنفسهم تلك النماذج التي كانوا يسمونها قصائد، ومن السهل أن يقرأ الإنسان لأي شاعر في تلك العصور ويرد ما يقرؤه إلى من سبقه من الشعراء، قد يستعين بعضهم على إخفاء هذا الجانب عنده بما يحققه لنفسه من الأسلوب العربي الأصيل كما نجد عند الشريف الرضي؛ ولكنا لا ننتقل إلى تلميذه مهيار حتى يكشف لنا كشفًا واضحًا عن تلك المهارة الحديثة في الفن العربي، وذلك أنه كان يعمد إلى تطويل نماذجه، فانبسطت الأبيات واتضح التلفيق، وانظر إلى هذه الفكرة عند المتنبي:
أَثافٍ بِها ما بِالفُؤادِ مِنَ الصَّلى ... وَرَسمٌ كَجِسمي ناحِلٌ مُتَهَدِّمُ
تحولت هذه الفكرة عند مهيار إلى تلك الأبيات:
هل عند هذا الطَّلَلِ الماحِلِ ... من جَلَدٍ يُجِدي على سائلِ
أصمُّ، بل يسمعُ؛ لكنَّهُ ... من البلى في شُغُلٍ شاغلِ
وقفتُ فيه شبحًا ماثلًا ... مرتفدًا من شبحٍ ماثِلِ
ولا ترى أعجبَ من ناحلٍ ... يشكو ضنا الجسمِ إلى ناحلِ
لهفَكِ يا دارُ ولهفي على ... قَطينِك المحتمِل الزَّائلِ
قلبيَ للأَحْزانِ بعد النَّوى ... وأنتِ للسَّافي وللنَّاخلِ
مثلُكِ في السُّقمِ ولي فضلةٌ ... بالعقلِ والبَلوى على العَاقِلِ
أساس الفكرة في هذه الأبيات هو أنه رسم يبكي رسْمًا، وهي فكرة المتنبي بل هي فكرة أبي تمام من قبله، وكل ما جاء به مهيار من جديد أنه عمد إلى التطويل والتفصيل؛ وأصبح أسلوبه كأنه أسلوب نثر؛ فهو يعتمد على المقارنة والتفصيل. و تكرار للألفاظ، يدنو به إلى حال من الابتذالتصيب شعره بضروب من الركاكة والإسفاف،
يقول مهيار :
نشدتُكِ يا بانةَ الأَجْرعِ ... متى رفعَ الحيُّ من لَعْلَعِ
وهل مرَّ قلبيَ في التابعيـ ... ن أم خارَ ضعفًا فلم يَتْبَعِ
لقد كان يُطمُعني في المُقام ... ونيّتُهُ نيَّةُ الْمُزْمعِ
وسِرْنا جميعًا وراء الْحُمُول ... ولكن رجعتُ ولم يرجِعِ
فأنّتُهُ لكِ بين القلوبِ ... إذا اشتبهت أنَّةُ الموجَعِ
وشكوى تدلُّ على سُقْمِهِ ... فإن أنتِ لم تُبصري فاسمعي
فقد أطال مهيار الفكرة ودار حولها هذا الدوران الذي يبعدها عن طبيعة الأفكار الغنائية؛ إنه يريد أن يجدد فلا يجد عنده ثروة فكرية يستعين بها على ما يريد، وما أشبه أسلوب مهيار بالسهل المنبسط ،فإذا بك تملُّه وتسأمه لما فيه من تكْرار وعدم تنوع. وهل كلمة "إذا اشتبهت" كلمة شعرية؟ وهل نستريح إلى التعبير عن الارتحال بالارتفاع كما يقول في البيت الأول؟ وهل نستريح لكلمة النية؟ ألا نحس في ذلك كله بضروب من خبو العاطفة وضعف الأسلوب.
لم يكن يعرف العبارة الحادة في الشعر العربي لأنه أجنبي دخيل على اللغة، وهو لم ينزح إلى البادية كما نزح إليها أبو نواس، ولا تعلَّم الفصاحة من شيوخ بني عقيل كما تعلمها بشار؛ فلم تتعمق فيه السليقة العربية، وصار إذا أراد التعبير عن فكرة جاءها من بعيد وبعد لفٍّ طويل؛ فانكشفت عيوبه في التلفيق.
واقرأ له هذه القطعة.
يالُواة الديون هل في قضايا الـ ... حسن أن يَمْطُلَ الغنيُّ الفقيرا
لي فيكم عهدٌ أُغيرَ عليهِ ... يومَ سلعٍ ولا أسمِّي المغيرا
احذروا العارَ فيهِ، والعارُ أن يمـ ... سي ذمامي في رعيهِ مخفورا
أو فردُّوا على حيرانَ أعْشَى ... ناظرًا فقد أخذتموه بَصِيرا
أنا ذاك اعتبدتُ قلبي وانفقـ ... تُ دموعي عليكُمُ تبْذِيرا
فاحفظوا في الإسارِ قَلْبًا تمنَّى ... شَغَفًا أن يموتَ فيكم أَسِيرا
وقتيلًا لكم ولا يشتكِيكُمْ ... هل رأيتم قبلي قتيلًا شكورا
ولعل القارئ شعر بغرابة هذه العهود التي يغار عليها وتسلب؛ فنحن نعرف أن العهود تنقض، أما أن يغار عليها وتسلب فهذا تعبير جديد غير مألوف؛ ولكن مهيار يريد التجديد في التعبير، بل هو فارسي قد ينسى الكلمة الأصيلة في اللغة فيعمد إلى التفصيل في أفكاره والاتساع في عباراته،
وراح يحاول إدخال مراسيم الرسائل في قصائده، حتى يستطيع أن يطيل فيها طولًا شديدًا. وإن الإنسان ليشعر شعورًا واضحًا إزاء كثير من نماذجه بأنها قد ألفت كما تؤلف الرسائل؛
أما وهواها حلفَةً وتَنصُّلا ... لقد نقَلَ الواشي إليها فأمْحَلا
وما أحلى ما قال بعده:
سعى جُهْدَه لكن تجاوز حدَّهُ ... وكثَّر فارتابتْ ولو شاء قلَّلا
ومهيار كما يبدأ قصائده ببراعة الاستهلال نراه يختمها بالدعاء على نمط ما يصنع الكتاب برسائلهم، وانظر إليه يقول في نهاية إحدى قصائده:
فلا قَلَصتْ عني سحائبُ ظلِّكم ... فمنها مُرِذٌ تارة وسَكُوبُ
ولا عدِمتَكم نعمةٌ خُلقتْ لكم ... ودنيا لكم فيها الحياةُ تطيبُ
يزوركُم النَّيروزُ مقتبَلَ الصِّبا ... وقد دبَّ في رأسِ الزَّمانِ مَشِيبُ
تصَوَّحُ أغصانُ الأعادي وغصنُكم ... من السَّعد ريَّانُ النباتِ رطيبُ
دعاءٌ حِيالي فيه ألفُ مؤمِّنٍ ... تَوافقُ منهم ألسنٌ وقلوبُ
وتطويله لم يضف للشعر جمالًا، بل أضاف إليه هلهلة وإسفافًا؛ بالحشو وكثرة التَّكْرار والاعتراض،
أقولُ وقد تعرَّمَ جُرحُ حالي ... وسُدَّ على مَطالِعيَ السَّراحُ
وكاشفني وكان مجاملًا لي ... عَبوسُ الوجهِ من زمني وَقاحُ
وقد منعت غضارَتها وجفَّت ... على أخلاقها الأيدي الشِّحاحُ
غدًا يا نفسُ فانتظري أناسًا ... هُمُ فرَجٌ لصدركِ وانشراحُ
ج-الميوعةُ في غَزَلِ مِهْيَار:
فب شعر مهيار ضرب من الميوعة واللِّيونة وخاصة في غزله؛ إذ يحس الإنسان دائمًا بأن فيه إفراطًا في الحس والشعور والرقة، بل إنه لتنساب منه ألوان من الذلة والضراعة، فقد خُلِقَ - رقيق القلب، وهو يتكلف الليونة والدماثة والحس الحاد والشعور المفرط؛ فإذا شعره يفقد ما يمكن أن يكون في العواطف من حرارة وقوة. إنه شعر يمتلئ بالميوعة والرقة المفرطة ولعل ذلك ما جعله يقول في وصف قصائده:
في كلِّ نادٍ نازحٌ غائبُ ... لها حديثٌ بكم حاضرُ
تعرض أيام التّهاني بها ... ما تعرضُ المعشوقة العاطرُ
تميسُ منها بين أيامكم ... خاطرةٌ يتبعها الخاطرُ
لثَّمها التحصين عن غيركم ... وهي على أبوابكم سافرُ
د-غزلُ مِهْيَار البدَوِيَّ:
يحشد مهيار بالعناصر البدوية في قصائده، بحيث لا يمر غزل في قصيدة دون أن نحس بأنه لشاعر يقيم في نجد أوفي الحجاز؛ فدائمًا صاحبته أمامه أو الرَّباب أو لمياء أو سعدى، ودائمًا هي من سكان: مِنَى أو الخِيف أو قباء أو سَلْع، وهو لذلك يكثر من ذكر الأماكن الحجازية والنجدية من مثل: أُحد وجُمَع وسَلَم ونُعمان والألال والمحصَّب وإضم وزمزم، إلى جَمٍّ من هذه الأمكنة التي تُنْشَر في مطالع قصائده، وهو إلى ذلك ما يزال يعنى بالحديث عن الأطلال عناية شديدة. وقد يعجب الإنسان لمزاوجة مهيار بين ميوعته في غزله وبين ارتفاعه بهذا الغزل عن حياته المتحضرة إلى الحياة المبتدية وما فيها من شظف العيش وخشونة الحياة، وأكبر الظن أن هذه الحال من التبدي في الغزل تسربت للشعراء من تأثرهم بأساليب المتشيعة والمتصوفة في شعرهم الخاص، إذا كان هؤلاء ينحون بغزلهم منحى بدويًّا، يعبرون فيه بالأماكن النجدية والحجازية، وكأنهم يريدون أن يعطوه بذلك ضربًا من العبادة والقداسة، وهم لذلك يتشبثون خاصة بالأماكن المقدسة في الحجاز. وقد كان مهيار متشيعًا بل كان من غلاة الرافضة، وقد نحا بغزله هذا المنحى الذي يعبر فيه هذا التعبير الواسع عن حبه، على الرغم مما قد يظن بأن هذه العناصر البدوية تقيد في خواطره وأفكاره. والحق أنها أعطت للغزل عند مهيار وعند غيره من الشعراء ضربًا من الاتساع في التعبير عن الوجدان والعاطفة،
على كل حال كان مهيار يكثر من العناصر البدوية في شعره، سواء منها ما يتصل بأسماء صواحبه أو أماكنهن أو ما في هذه الأماكن من النباتات والأشجار والأودية والرياح، كأن يقول في مطلع إحدى قصائده:
بَكَرَ العارِضُ تحدُوه النُّعامَى ... فسقاكِ الرَّيَّ يا دارَ أُماما
وتمشَّتْ فيك أرواحُ الصَّبا ... يتأرَّجنَ بأنفاسِ الخُزامَى
سَل طريقَ العيسِ من وادي الغضا ... كيف أغسقتَ لنا رَأْدَ الضُّحى
ألشيءٍ غير ما جيراننا ... نفضوا نجدًا وحَلّوا الأَبطحا
يا نسيمَ الصُّبحِ من كاظمةٍ ... شدَّ ما هِجتَ الجوَى والبُرَحا
الصَّبا إن كان لا بدَّ الصَّبا ... إنها كانتْ لِقَلْبي أرْوَحا
يا نداماي بسلْعٍ هل أرى ... ذلك الْمَغْبَقَ والمصْطَبَحا
اذْكُرونا قد ذكرَنا عهدَكُم ... ربَّ ذكَرى قرَّبتْ مَن نَزَحا
واذكروا صبًّا إذا غنى بكم ... شرب الدَّمعَ وعافَ القَدَحَا

ه-الْمَدِيحُ عندَ مِهْيَار:
إن شعر المديح عند مهيار يفقد أصباغه العقلية القديمة وأصباغه الحسية، ويتحول كما تحول الغزل لديه إلى ضرب من المديح الباهت؛ بل إن الغزل لم يسقط عند مهيار كما سقط المديح؛ لأنه عرف كيف يستعين عليه بالعناصر البدوية القديمة، ، أما المديح فلم يستطع أن يحول بينه وبين هذا السقوط. و لم يستطع مهيارأن ينوع في معاني المديح؛ إذ كانت تنقصه الثقافة، وكان ينقصه العمق، وهو كذلك لم يستطع أن يحتفظ للعبارة بمنطق العرب الأصيل، ولم يكن مهيار يحكم التعبير في قصيدة المديح؛ إذ كان لا يزال يطيل فيها هذا الطول الممل الذي ينتهي بها إلى ما يشبه الرسالة من الرسائل؛ فهي تبدأ ببراعة الاستهلال، وتنتهي بالدعاء، وتمتلئ بينهما بالحشو وما يطوى من تفكك وتلفيق، وكأنما أجدبت الحضارة العربية أو أجدب التفكير الفني؛ فليس هناك من جديد سوى هذا الأسلوب المنبسط الذي ينشر الفكرة المطوية في أبيات كثيرة.







7-مسلم بن الوليد

التصنيع في شعر مسلم بني الوليد
فقد مضى الشعراء في القرن الثالث يقفون في صفين متقابلين، منهم من يفهم الشعر على أنه تصنيع وزخرف وتنميق مثل أبي تمام وابن المعتز، ومنهم من لا يبعد في فهمه كل هذا البعد، مثل البحتري وابن الرومي، وإن كنا نلاحظ عندهما وعند أمثالهما من أصحاب مذهب الصنعة في القرن الثالث أنهم كانوا يستخدمون زخارف التصنيع في صورة أقوى وأوضح منها عند أسلافهم في القرن الثاني، ومِن ثَمَّ أخذ مذهبهم في التعقد. ولعل في ذلك ما جعلنا نؤمن بأن إيجاد الحواجز والفوارق المطلقة بين المذاهب الفنية أمر عسير؛ إذ ما تزال تتداخل وتتشابك على هيئات مختلفة، وهذا شيء طبيعي فإن الشعراء حينئذ كانوا يلتقون كثيرًا في مجالس الخلفاء والوزراء والنوادي الأدبية العامة، وكانوا دائمًا يعلقون على ما يسمعون من شعر باستحساناتهم، وبذلك تبادلوا التأثر بعضهم ببعض، ونسوق لذلك مثلًا: وظل أصحاب التصنيع والصنعة يجتمعون في بغداد، وهيأ هذا الاجتماع لشيء من التداخل بين المذهبين العامين في حرفة الشعر حينئذ، وأصبحنا نجد عند الصانعين محسنات المصنِّعين وزخارفهم؛ ولكنهم لا يستخدمونها مذهبًا، بل تسقط في نماذجهم وقصائدهم. وهذا هو فرق ما بين العملين والمذهبين، يوجد اختلاط؛ ولكن لا يوجد اتحاد، ويوجد عند الصانعين حليات التصنيع من حين إلى حين ولكن لا يوجد استمرار التطبيق.
لما أنشدمسلم لاميته المشهورة وبلغ قوله:
هل العيش إلا أن تروح مع الصبا ... وتغدو صريعَ الكأسِ والأعين النُّجل
قيل له: أنت صريع الغواني؛ فسمِّى بذلك حتى صار لا يُعْرف إلا به . وتدلنا أخباره على أن الرشيد كان يعجب به، وفي رأينا أن مصدر هذا الإعجاب لم يكن مديحه له فحسب؛ فقد وجده يشيد بقائده يزيد بن مزيد الشيباني حين قضى على ثورة الخوارج في عهده وكان ذلك سنة تسع وسبعين ومائة، وبلغ من هذه الإشادة كل مبلغ؛ حتى جعله عز الخلافة.
إذا الخلافةُ عدَّت كنتَ أنت لها ... عزًّا وكان بنو العباس حكامًا
بل جعله سداد الملك العباسي وصمام أمانه في حروب الخوارج وعلى حافات الثغور، يقول :
لولا يزيدُ لأضحى الملك مطرحًا ... أو مائل السمك أو مسترخي الطُّول
نابُ الإمامِ الذي يفترُّ عنه إذا ... ما افترَّت الحربُ على أنيابها العصل
وأكثر شعر مسلم في المديح والغزليات والخمريات، ومسلم في شعره يعتمد اعتمادًا شديدًا على الإطار التقليدي، وما يرتبط به من جزالة الأسلوب ومتانته ورصانته ونصاعته وقوته، حتى في غزله وخمرياته؛ جارى فيهما أصحاب مذهب الصنعة وتجديداتهم في البحور الشعرية، وهما على كل حال شذوذ في عمله، أما بعدهما فشعره يغلب أن يكون من الأوزان الطويلة حتى تتلاءم مع ما يريد من جرس قوي، ومن ضخامة البناء في اللفظ والتعبير. وهو من هذه الناحية يعدُّ في طليعة من دفعوا الشعراء العباسيين إلى التمسك بالأسلوب الجزل المصقول؛ وهو أول من دفع الشعراء في هذا الاتجاه؛ فقد كان الشعر العربي عند أبي نواس وأبي العتاهية على وشك أن يزايل هذا الأسلوب إلى الأسلوب الشعبي اليومي، فأمسك به مسلم دون هذه الغاية وردَّه في قوة إلى جزالته القديمة وجعلها مقومًا أساسيًّا من مقوماته، بل جعلها المقوم الأساسي الأول بين هذه المقومات. وعمَّ هذا الذوق عند أصحاب مذهب التصنيع و عند أصحاب مذهب الصنعة وهذا الأسلوب الجزل القوي لم يكن يكلف مسلمًا مشقة؛ بل لقد كان يكلفه عناء أي عناء في اصطفاء اللفظ والملاءمة بين اللفظة واللفظة في الجرس، حتى يتم له ما يريد من ضخامة البناء وروعته. وهو بناء يقام على أعمدة هي الأبيات، وكل بيت كسابقه في الضبط والإحكام، وكل قصيدة بل كل مقطوعة كمثيلتها في هذا النمط الذي لا يتفاوت نسيجه، و مسلم صاحب رَويَّة، لا يرتجل ولا يقول الشعر عفوًا؛ فالشعر عنده صناعة مجهدة، لا بد فيها من التريث والتمهل، ولا بد فيها من الصقل والتجويد، والزخرف الجديد الذي كان يأتي على قلة في الشعر القديم، يطبقه مسلم على شعره،
أجْرِرْتُ حبلَ خليع في الصبا غزلِ ... وشمرت همم العذال في العذلِ
هاج البكاءُ على العينِ الطموحِ هوى ... مفرقٌ بين توديعٍ ومُحْتَمَلِ
كيف السُّلوُّ لقلب راح مختبلًا ... يهذي بصاحب قلب غير مختبلِ
والجهد واضح في الأبيات سواء من حيث اختيار الألفاظ، أو من حيث إضافة زخارف الجناس والطباق؛ فهو يجانس بين العذال والعذل، وهو يطابق بين المختبل وغير المختبل، وفي البيت الثاني طباق دقيق بين الهوى المقسم بين التوديع والاحتمال أو الارتحال، فإن التوديع يتضمن الإقامة القليلة، وهو عكس الارتحال. ونمضي معه إلى المديح فنراه كله على هذا الطراز.
يغشى الوغى وشهابُ الموتِ في يديه ... يرمي الفوارسَ والأبطال بالشعل
يفترُّ عند افترار الحرب مبتسمًا ... إذا تغيَّر وجه الفارسِ البطلِ
ينالُ بالرفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلًا يأتي على مهلِ
لا يرحلُ الناسُ إلا نحو حجرتِه ... كالبيتِ يفضي إلى ملتقى السُّبلِ
وأنت تراه يعتمد على النحت وقوة البناء، كما يعتمد على الزخرف والتصنيع؛ حتى يصبغ هذا الديباج أو النسيج المتين بالألوان والأطياف.
ولعلك لاحظت في أثناء قراءة أبياته السالفة دقة تفكيره، وهي دقة كانت تفتح له أبوابًا من المعاني الخفية، التي تروِّع السامع بغرابتها وطرافتها من مثل قوله في الغزل:
إن كنت تسقين غير الراح فاسقيني ... كأسًا ألذُّ بها من فيكِ تشفيني
عيناك راحي، وريحاني حديثُك لي ... ولونُ خدَّيك لونُ الورد يكفيني
وقوله:
يا واشيًا حسنت فينا إساءته ... نجي حذارك إنساني من الغرق
وقوله في الخمر :
شققنا لها في الدَّنِّ عينًا فأسبلت ... كألسنةِ الحيَّات خافت من القتلِ
وقوله في الساقي :
يسقيك بالألحاظِ كأسَ صبابةٍ ... ويديرها من كفِّه جِرْيالا




8-الإمام الشافعي
ب-شخصيته : يعد الشافعي من أنبغ أدباء اللغة وكتابها وشعرائها , فقد بدأ بعد ما ختم القرآن الكريم بحفظ الشعر وروايته وشافه العرب في البادية ويسمع منهم ويحفظ لغتهم ويتدرب على أساليبهم حتى غدا أفصح أهل عصره وقد بقي في قبيلة هذيل سبعة عشر عاما ً راحلا ً برحلتهم ونازلا ً بنزولهم يتعلم أشعار العرب وآدابهم وأخبارهم في مكة وقد كان يحضر مجالس الشافعي أهل العربية للإفادة من لغته وأسلوبه وبلاغته وقد ربحته العربية أديبا ً مشهورا ً وعالما ً مجتهدا ً مدافعا ً عن السنة النبوية عليما ً بإسرارها خبيرا ً بدلالاتها وعللها بجزالة بيانه لإتقانه لكتاب الله تعالى حفظا ً وتعمقا ً ولذلك كان حجة في اللغة والنحو يحتج بكلامه كما يحتج بالبطن من العرب الفصحاء وقد شهد بذلك علماء اللغة والنحو كموسى بن أبي الجارود وأحمد بن حنبل وأيوب بن سويد وأبو عبيد ثعلب وعبد الملك بن هشام النحوي .
وقد جمع الشافعي بين موهبة الفطرة وملكة الاكتساب من تعلمه في قبيلة هذيل التي نبغ فيها أكثر من سبعين شاعرا ً وقد كان يقصد إلى الشافعي لتلقي شعر الهذليين أو تصحيحه كما فعل الأصمعي . وقد كان الشافعي يقول أروي لثلاثمائة شاعر مجنون بالإضافة إلى ما صححه الأصمعي من شعر الشمنفري وقد كان الشافعي في أول أمره متفقها ً غلب عليه الاجتهاد الأدب والفقه ولقد شهد للشافعي رضي الله عنه زعيم البيان الجاحظ .
لقد التقت في الشافعي الموهبة والاكتساب في مختلف علوم عصره ولو شاء لكان من المجلين في شعره ولكنه صرف مواهبه وعقله وقلبه إلى السنة والفقه والاجتهاد ولذلك ترك شعرا ً جيدا ً ارتفع عن شعر الفقهاء ولم يبلغ مكانه شعر المجيدين من الفحول وقد كان يجيش صدره بقول الشعر بين الحين والحين إن دعته المناسبة وهزته لقول الشعر مع انه لم يرو عنه قصائد طويلة كالتي قالها المشهورون لأنه لم يتخذ الشعر هواية أو غاية .

موضوعات شعره: تمليها مناسبة عابرة أو حكمة اجتماعية أو دينية أو تجربة حياتية مع الناس لذلك نجد أكثر شعره يتمثل به .
ومن ذلك انه يعلن حبه لآل البيت ولو اتهم بأنه رافضي :
يا راكبا ً قف بالمحصد من فتى واهتف بساكن خيفها والناهض
سحرا ً إذا فاض الحجيج إلى من فيضا ً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضا ً حب آل محمد فليشهد الثقلان إني رافضي
وفي اشتياقه إلى وطنه غزة قائلا ً :
وإني لمشتاق إلى أرض غزة وإن خانني بعد التغرق كتماني
سقى الله أرضا ً لو ظفرت بتربها كحلت به من شعره الشوق أجفاني .
وقال في حشو الكلام وبلاغته :
لا خير في حشو الكلام إذا اهتديت إلى عيونه
والصمت أجمل بالفتى من منطق في غير حينه
وعلى الفتى لطباعه سمة تلوح على جبينه
ومن تجاربه في الحياة :
صديق ليس ينفع يوم باس قريب من عدو في القياس
وما يبقى الصديق بكل عصر ولا الخوان إلا للتآسي
عمرت الدهر ملتمسا ً بجهدي أخائفة فأكثراه التماسي
تنكرت البلاه علي حتى كأن أناسها ليسوا أناسي
أما ما يتمناه من الأصدقاء فهو :
أحب من الإخوان كل موات وكل غضيض الطرف عن عثرات
يصاحبني في كل أمر أحبه ويحفظني حيا ً وبعد مماتي
فمن لي بهذا البيت إني أصبته أصبته فقاسمته مالي مع الحسنا ت
وطلب الشاعر عباس بن الأزرق الشافعي أن يجيزه في أبيات قالها متحديا ً :
قال عباس بن الأزرق :
ما همتي إلا مقارعة العدا خلق الزمان وهمتي لم تخلق
والناس أعينهم إلى سليب الغنى لا يسألون عن الجحاد الاولق
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بنجوم أقطار السماء تعلقي
فأجابه الشافعي :
إن الذي رزق اليسار فلم يصب أجرا ً ولا حمدا ً لغير موفق
فإذا سمعت بأن مجدودا ً حوى عودا ً فأثمر كل باب مغلق
وإذا سمعت مجدودا ً أتى ماء ً ليشربه فغاض مخفق
ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وأحمق خلق الله بالهم امرؤ ذو همة يبلى بعيش ضيق
وقد كتب الشافعي شعرا ً مثبوتا ً في معاجم الأدباء وحليمة الأولياء وتاريخ بغداد وطبقات الشافعية .
















9-عبد الله بن المعتز
أ-حياته ونشأته :ولد سنه 247 تبين أنه لم يعمر من تسع وأربعين سنه
ارتقى الخلافة ليوم اسمه عبد الله ويكنى أبا العباس وأبوه الخليفة المعتز بالله بن الخليفة المتوكل بن الخليفة المعتصم بن الخليفة هارون الرشيد بن الخليفة المهدي بن الخليفة المنصور ، إي أنه في حقيقة أمره ملك من نسل ستة ملوك عباسيين .
أما قصة توليه الملك ليوم وليلة فتتخلص في أن جماعة من القواد الذين كان لهم الحول والطول في مصير خلفاء بني العباس في تلك الحقبة الزمنية قد تآمروا على خلع الخليفة المقتدر ووضعوا ابن المعتز مكانه وبايعوه بالخلافة وأطلقوا عليه لقب المرتضى بالله وقيل المنصف بالله وأيا ما كان لقبه فإن تسلمه كرسي الخلافة لم يمتد لأكثر من يوم واحد لأن القواد ما لبثوا إن اختلفوا على أنفسهم وأعادوا المقتدر الذي ظفر بابن المعتز وسلمه إلى من قتله . وكان ذلك في الشهر الأولى من عام 269 هـ ،
ولد سنه 247 تبين أنه لم يعمر من تسع وأربعين سنه وهو عمر قصير بالنسبة لشاعر عبقري لو كتب له فسحة في الأجل لتصورنا كم كان الشعر العربي يصيب ثمار جنية طيبة
وإذن فلقد كان ابن المعتز شاعرا متأثرا ببيئته الملكية ، وكان عهد به إلى من بثقفه تثقيفا واسعا شأن أبناء الخلفاء جميعا، فنقول ذلك أحمد بن صالح سعيد الدمشقي ، الذي روى أدبه بعد مقتله ، كما كان من أهم أساتذته أيضا أبو العباس محمد بن يزيد المبرد ، وأبو العباس ثعلب ، والحسن بن عليل العنزي المحدث آل عن الأديب ، ومحمد بن هبيرة الاسدي صاحب الفراء، وأحمد بن صالح المعروف بابن أبي فنن .
وكان ابن المعتز متحمسا لعباسيته ضد أبناء عمه الطالبيين ، الأمر الذي وضح في كثير من شعره ، كما أن نشأته المترفة طبعت شعره بطابع الغنى وتصوير محتويات القصور الأمر الذي ظهر جليا في شعره وتشبيهاته ، كما أغرم بالصيد والشراب فقدم لنا طرديات بارعة الإنشاء وخمريات رقيقة الخيال ، فضلا عن أن لمحات حزينة كثيرة احتلت أكثر من مكان ديوانه ومهما كان الأمر وإذا كانت شهرة ابن المعتز في شعره قامت على التشبيهات والصور واللوحات التي تستوقف القارئ وتثير إعجابه ، فان جوانب الشعر الأخرى مثل الخمر والغزل والوصف والمدح والشكوى والتأمل والسياسة نامية عنده مستكملة أسباب النبوغ والنضوج ، ابن المعتز أمير ثم خليفة ، ينحدر من تسلسل ملكي يبدأ من أبيه المعتز بالله وينتهي بالخليفة أبي جعفر المنصور ثم يمتد نسبة إلى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ب-شخصيته :يمثل عبد الله بن المعتز واحة أنيقة من واحات الشعر العربي وهو نسيج وحده فيما قدم لنا من صور شعرية بارعة أخاذة ومن تشبيهات مخملية أنيقة أو هي بلغة العصر ، بحيث لم يسبقه إليها شاعر عربي ولم يلحق به بعده شاعر آخر ، ومن ثم فهو يشكل مرحلة من مراحل تطور الشعر العربي مرحلة الصورة الشعرية
وهو أيضا واسع الثقافة عميق الفكرة كاتب مترسل رقيق العبارة أنيق التناول عميق المعنى بحيث يدخل في عداد الكتاب المرموقين ، فقد عالج بعض الموضوعات بقلم متمكن ودبج بعض الرسائل بأسلوب وفطنة كان معاصرا وصديقا لائمة الكتابة العربية في زمانه من بني وهب وبني ثوابه .
وابن المعتز عالم بأسرار اللغة خبير بفنون الشعر وصناعته ، ذواقة نقادة مطلع على تاريخ الأدب وطرائفه موهوب ملكة التعبير ، مرتب الفكر صافي الذهن ، ومن ثم فقد طرق باب التأليف وصنف للمكتبة العربية بضعة عشر كتابا بعضها صادف نجاحا وخلودا لأنها كانت رائدة في موضوعاتها وأهمها كتاب (طبقات الشعراء )) وكتاب ((البديع)) .
شغل عبد الله بن المعتز كثيرا من الدارسين ، وقد اجمعوا على الإعجاب به والإشادة بطرافة شعره ، فابن خلكان يقول عنه إنه كان أديبا بليغا ، شاعرا مطبوعا ، مقتدرا على الشعر ، قريب المأخذ سهل اللفظ جيد القريحة مخالطا للعلماء والأدباء معدودا في جملتهم ويصفه العباسي بقوله (( إنه أشعر الناس في الأوصاف والتشبيهات )) ويقول عنه الحصري القيرواني إنه من المنصب العالي من الشعر والنثر وفي النهاية في إشراق ديباجة البيان والغاية من رقة حاشية اللسان .
إنه فنان عالم يحسن وضع المصطلحات الفنية .. ومنهم أيضا من يرى إن الشعر العربي وصل بابن المعتز إلى أرقى وأجمل ما وصل إليه من ارستقراطية وشرف وقد اشتقهما من نفس صاحبه اشتقاقا وانتزعهما من كيانه من ارستقراطية وشرف ومنهم إنه مطبوع ليس متكلفا ولا متعملا في شعره .... وهو شغوف بفن الوصف عامة والمادي بصفة خاصة حتى تفوق فيه على سائر الشعراء والمعجبون بابن المعتز كثيرون من قدامى و محدثين ،
ج-شعره :
1-المدح :
أسهم ابن المعتز في فن المديح شأن غيره من جمهور شعراء العربية ، والفارق بينه وبين غيره من الشعراء الذين توفروا على علاج هذا الفن تقليدا وليس احترافا ، وانه لم يتكسب به ولم يكتد ، وأنه لم يمدح إلا الخلفاء والوزراء الذين نستطيع إن نحصيهم وهم المعتمد والمكتفي والمعتضد من الخلفاء وعبيد الله بن سليمان بن وهب وابنه القاسم بن عبيد الله من الوزراء والكتاب ، وربما يكون قد مدح بعض بني ثوابة وكانت الأسرة التي إليها انتهت مقاليد الكتابة على زمانه ، يضاف إلى ذلك كله أن ابن المعتز لم يتبذل ولم يتهالك في مدائحه إلا في حالات قليلة جدا ، ولذلك كله فقد كان في هذا المجال بين أمرين : إما أن يقول في ممدوحيه شعرا تقليديا ليس فيه جديد ، وذلك هو الطابع العام الذي يشيع في مدائحه مثل مدح الخليفة وتهنئته بإبلاله من مرض :
أمير المؤمنين فدتك نفسي لقيت سلامة وربحت أجرا
أو رائيته في مدح الوزير عبد الله بن سليمان بن وهب :
أيا موصل النعمى على كل حالة إلي قريبا كنت أو نازح الدار
وإما أن يعمد إلى الإغراب ويقدح زناد فكره ليأتي بجديد حتى يتفرد بين شعراء المديح بما يميزه عنهم ، وهذا الإغراب أو الجديد هو الذي يحاول تقديم أمثله له وهو يخفق ويأتي بالخشن الصعب حينا ، ويوفق ويأتي بالحسن الطريف حينا آخر . فمن المحاولات التي عمد فيها إلى الإغراب الفكري وعدم الترفق بشاعريته قوله يمدح القاسم بن عبيد الله :
أيا حاسدا يكوي التلهف قلبه إذا ما رآه غازيا وسط عسكر
تصفح بني الدنيا فهل فيهم له نظير ترى ثم اجتهد وتفكير
فإن حدثتك النفس أنك مثله بنجوى ضلال بين جنبيك مضمر
فجد وأجد رأيا وأقدم على العدا وشد عن الإثم المآزر وأصهر
وعاص شياطين الشباب وقارع النوائب وارفع صرعة الضر واجبر
فان لم تطق ذا فاعذر الدهر واعترف لأحكامه واستغفر الله يغفر
إن ابن المعتز أراد ا نياتي بصورة غريبة في المديح فشق على نفسه ولم يترفق بشاعريته وأتى بشيء غريب غير معجب .
ولكنه حين مدح عبيد الله بن سليمان والد القاسم وحاول الإبداع فإنه وفق كل التوفيق حين استمد معنى المدح من طبيعة الممدوح وثقافته ، وكان كاتبا ذا مكانة في فنه وأدبه فقال :
عليم بأعقاب الأمور كأنه بمختلسات الظن يسمع أو يرى
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه تفتح نورا أو تنظم جوهرا
وهي صورة بهيجة جمعت بين الوصف الجميل والمديح الرقيق ، الأمر الذي عرف به ابن المعتز وصار سمة من سماته .
ومن المحاولات الناجحة لابن المعتز في مجال المديح محاولته التي مدح فيها المعتضد وعرج فيها على تهنئته بقصر ((الثريا )) الذي أبدع الفنانون في بنائه وتنسيقه وغرس بستان أنيق حوله وشق انهار صغيرة يجري الماء فيها عذبا سلسالا ، سلمت أمير المؤمنين على الدهر ولا زلت فينا باقيا واسع العمر
حللت الثريا خير دار ومنزل فلا زال معمورا وبورك من قصر
ولا يلبث ابن المعتز أن يلفت من موقف المديح التقليدي الكريه على نفسه ليخلص إلى وصف القصر الجديد وفيه يتخلص من مأزقه ويبدع في الصور التي يأتي بها في هذا السبيل:
جنان وأشجار تلاقت غصونها فأورقن بالأثمار والورق الخضر
ترى الطير في أغصانهن هواتفا تنقل من وكر لهن إلى وكر
هجرت سواها كل دار عرفتها وحق لدار غير دارك بالهجر
وبنيان قصر قد علت شرفاته كصف نساء قد تربعن في الأزر
وانهار ماء كالسلاسل فجرت لترضع أولاد الرياحين والزهر
وميدان وخش تركض الخيل وسطه فيؤخذ منها ما يشاء على قدر
إذا ما رأت ماء الثريا ونبته يسير وثوب الكلب فيهن والصقر
عطايا اله منعم كان عالما بأنك أوفى الناس فيهن بالشكر
2-شعره السياسي :
يعدابن المعتز المدافع الحقيقي عن العباسيين في وجه الطالبيين هو شاعرهم وأميرهم عبدالله بن المعتز ، لقد كان ابن المعتز شاعر بني العباس الأول ، المدافع عن حقهم في الخلافة المجادل في لين حينا وفي عنف حينا آخر حجج الجناح الآخر من الأسرة الهاشمية وهو جناح الطالبيين .
يقول ابن المعتز في إحدى قصائده ، موجها القول إلى الطالبيين ، ذاكرا لهم جانبا من تاريخهم مع بني أمية ، مبينا أنهم لم يستطيعوا استرجاع الخلافة منهم حتى سالت دماؤهم فنهض العباسيون للآخذ بثأرهم وهزموا بني أمية وقضوا على ملكهم وبالتالي أصبحت الخلافة حقا لهم.
أبى الله إلا ما ترون فما لكم عتاب على الأقدار يا آل طالب
تركناكم حينا فهلا أخذتم تراث النبي بالقنا والقواضب
زمان بني حرب ومروان ممسكو أعنة ملك جائر الحكم غاصب
ألا رب يوم قد كسوكم عمائما من الضرب في الهامات حمر الذوائب
فلما أراقوا بالسيوف دماءكم أبينا ولم نملك حنين الأقارب
فحين أخذتم ثأركم من عدوكم قعدتم لنا تورون نار الحباحب
وحزنا التي أعيتكم قد علمتم فلما ذنبناهل قاتل مثل سالب ؟
عطية ملك قد حيانا بفضله وقدرة رب جزيل المواهب
وليس يريد الناس أن تملكوهم فلا تثبوا فيهم وثوب الجنادب
ويقول ابن المعتز زاعما أن نبي العباس وهو عم النبي أولى بإرثه من بني بنته ، وقد غاب عنه أن الأنبياء لا يورثون وأن الخلافة نفسها لا تورث ، لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك ، ولكن ابن المعتز محامي العباسيين والناطق بلسانهم يردد هذه الحجج وغيرها قائلا :
قتلنـا أمية في دارهـا ونحن أحق بأسلابها
وكم عصبة قد سقت منكم الخلافة صابا بأكوابها
إذا مـا دنوتـم تلقتكـم زبونا وقرت بحلابها
ولما أبى الله أن تملكوا نهضنا إليها وقمنا بها
وما رد حجابها وافدا لنا إذ وقفنا بأبوابها
كقطب الرحى وافقت أختها دعونا بها وغلبنا بها
ونحن ورثنا ثياب النبي فكم تجذبون بأهدابها ؟
لكم رحم يا بني بنته ولكن بنو العم أولى بها
إلى أن يقول :
فمهلا بني عمنا إنها عطية رب حبانا بها
وكانت تزلزل في العالمين فشدت ألينا بأطنابها
وأقسم أنكم تعلمون بأنا لها خير أربابها
ويستبد الحماس بابن المعتز لبني قومه فيخرجه حماسه عن الجادة حين يتورط تورطا غير كريم في إجراء مقارنة بين أبي طالب والعباس عمي الرسول ، ويلمح إلى أنابا طالب في النار والعباس في الجنة ، وأعطى لنفسه ما ليس من حقه ، فالله وحده يعلم أين الرجل العظيم الذي كفل محمدا اليتيم من بعد جده ورعاه شابا وحمى رسالته نبيا والمنسوب إليه قوله .
ولقد علمت بأن دين محمد هو خير أديان البرية دينا
ولكنها السياسة وجاه الملك والحرص عليه تدفع بعض الناس إلى التهاون في حقوق العظماء والتعريض بهم من حيث يستحقون الإجلال والإعظام .
إن ابن المعتز يستغل هذه الثغرة ، ثم يندفع في توجيه تهديدات وتحذيرات دامية إلى بني عمه الطالبيين إذا هم استمروا في السعي إلى اقتناص الخلافة قائلا :
يا بني عمي إلى كم وحتى ليس ما تطلبونه يستقيم
أأبو طالب كمثل أبي الفضل أما منكم بهذا عليم ؟
سائلوا مالكا ورضوان عن ذا أين هذا ؟ وأين هذا مقيم
وعلي فكابنه غير شك واجب حقه علينا عظيم
فدعوا الملك نحن بالملك أولى قد أقرت لنا بذاك الخصوم
3-غزله :
كلف ابن المعتز بالغزل ، وبالغ في صوره التي رسمها مبالغة واضحة سواء أكان غزلا وصفيا أو غزل شكوى ، و متطلبات الغزل من مكابدة ولوعة وصبابة لا تكاد تقتنع بصدق ابن المعتز فيها وبالتالي فنحن لا نستطيع أن ننظمه في سلك العاشقين ، ولكنه غزل المترفين الذين ينتقلون بين قلوب الغانيات يصورون مشاعر طارئة أو مغامرات متكررة ، وإذا كنا لا نلمس صدقا في غزل ابن المعتز فإننا لا نعدم فيه مواطن لطف تناول وحسن تعليل ودقة تصوير ، فمن غزله الذي يمكن إن ينال إعجابا عابرا قوله.
يا من يسارقني النظر وإذا نظرت إليه فر
ما لي أرى لحظات عينك عندنا لا تستقر
إن كنت تبخل بالكلام فلا أقل من النظر
جسمي يقول بسقمه عندي من الحب الخبر
ويصور ابن المعتز الغيرة التي هي دليل الحب وخدينه بشيء من الغلو والتطرف ولكن في معنى رقيق في قوله:
أغار عليه من ألحاظ قلبي إذا ما صورته أفكار فكري
فكيف ترى أكون إذا رأته عيون الناس في أضحى وفطر
وكان لابن المعتز محبوبة يردد اسمها كثيرا في شعره تارة باسم شرة وأخرى باسم شرير وكان متعلقا بها أشد التعلق ، وهو يذكرها في نطاق من الطرافة وأسلوب المداعبة حين يقول :
يا وجه شرة يا أخا البدر أرضيت بالأعراض والهجر
وتركتني وحججت معتمرا طوبى لركن البيت والحجر
ويرق ابن المعتز ويطرف حين يتعلل لشبيه بالأعذار فيقول :
صدت شرير وأزمعت هجري وصغت ضمائرها إلى الغدر
قالت : كبرت وشبت ، قلت لها هذا غبار وقائع الدهر
ويعبرابن المعتز بصورة جديدة فريدة عن الليل حين يقول :
ترى الشمس قد مسخت كوكبا وقد طلعت في عداد النجوم
ويعمد ابن المعتز أحيانا إلى مزج الغزل بالشكوى فيصيب رقة في القول خفيفة على السمع حين يقول :
لمتني يا مسيء والذنب ذنبك ويح نفسي حسبك الله ربك
لا تحاول بحبس كتبك قتلي قد تولى الفراق قتلى فحسبك
وإذا ما ذكر ابن المعتز صاحبته ((شرة)) رق شعره وعذب أسلوبه وقربت معانيه إلى الخاطر وكأنها صادرة عفوه ، فلنقرأ له هذه الأبيات الرقيقة :
عبق الكلام بمسكة نفحت من فيه ترضي من يعاتبه
نبهته والحي قد رقدوا مستبطنا عضبا مضاربه
فكأني روعت ظبي نفا في عينه سنة تغالبه
ومن معاني الحب المتسمة بالعزة والإباء عند ابن المعتز مع تلاعب جميل بالألفاظ قوله:
إن عيني قادت فؤادي إليها عبد شوق لا عبد رق لديها
فهو بين الفراق والهجر موقوف بحزن فيها وحزن عليها
إن غزل ابن المعتز صورة دقيقة لشخصيته رقة وشاعرية مع تهتك سافر حينا مقنعا حينا آخر ، وهو في كل أحواله معجب مطرب صوغا وصورة ، سطحي متصنع في عواطفه وصبابته ،
4-الحكمة والتشاؤم :
لم تمنع حياة الترف شاعرنا أسباب الحكمة إذا ما عمد إلى التفكير ، وليس ببعيد على مقدرته القول الحكيم المزود برصين الفكر الصافي وأبعاد الإحساس الواقعي العميق في فترة صحو أو ساعة تدبر ، إذ لم تكن حياة شاعرنا سوءا كلها .
يقول ابن المعتز في فلسفة الأيام وصنوف البشر وحكمة الخالق:
طال ليلي وساورتني الهموم وكأني لكل نجم غريم
ساهرا هاجرا لنومي حتى لاح تحت الظلام فجر سقيم
دام كر النهار والليل محثو ثين ذا منبه وهذا منيم
ورحى تحتنا وأخرى علينا كل مرء فيها طحين هشيم
وسرور وكربة وافتقار وبريق كزخوف لا يدوم
ومعافى وذو سقام وحي وحبيس تحت التراب مقيم
وغوي عاص وبر تقي واستبان المحمود والمذموم
وبخيل وذو سخاء ولولا بخل هذا ما قيل هذا كريم
وترى صنعه تخبر عن خا لقنا انه لطيف حكيم
إنها نظرات فاحصة عميقة متدبرة تنفحص في عمق طبائع الناس وتستعرض في ثقة أخلاقهم و سلوكهم ثم تنتهي هذه النظرات المجرية بالوصول إلى الخالق الحكيم
وتمر بشاعرنا فترات ضيق كتلك التي يتعرض لها كل إنسان في هذه الحياة فلا يأبه لحسبه ولا يهتم لأدبه ولا يلتفت إلى عبقريته وإنما يتمنى أن يكون واحدا من الخاملين في ظل الأمان ، أو صاحب حظ في ظل الجهل ، فيعبر عن ذلك أدق تعبير بقوله
من يشتري حسبي بأمن خمول من يشتري أدبي بحظ جهول
ساء الزمان وأوجعتك صروفه وعسى الزمان يسر بعد قليل
وابن المعتز يؤمن بقضاء الله وقدره ، وهو متشائم في بعض الأحيان استجابة لمشاعر مقبضة كسيفة تلم به ، فيعبر عن ذات نفسه في صدق وعمق وتسليم .
مسهد في ظلام الليل أواه عضته للدهر أنياب وأفواه
إن كان يخطئ سمعي ما أقدره فليس يخطئ ما قد قدر الله
ويشكو ابن المعتز من الدهر والمشيب ونهاية الحياة وفقد الأحباب وسكناهم بطن الأرض فيقول :
آخى عليك الدهر مقتدرا والدهر ألام غالب ظفرا
ما زلت تلقي كل حادثه حتى حناك وبيض الشعرا
لله إخوان فقدتهم سكنوا بطون الأرض والحفرا
أين السبيل إلى لقائهم أم من يحدث عنهم خبرا
ويشغل التفكير في الموت شاعرية ابن المعتز فيترجم عن مشاعره نازعا إلى المتاب معترفا بالذنب طامعا في العفو فيقول :
إلى أي حين كنت في صبوة اللاهي أما لك في شيء وعظت به ناه
ويا مذنبا يرجو من الله عفوه أترضى بسبق المتقين إلى الله
ويفكر ابن المعتز في الموت تفكيرا طويلا وتسطير على تفكيره وتستبد به فكرة التوبة فيذكر سكان القبور واستحالة تزاورهم على قرب المحلة والدار ، اعتبارا بالموت وتذكيرا بالآخرة ،
وسكان دار لا تزاور بينهم على قرب بعض في المحلة من بعض
كأن خواتيما من الطين فوقهم فليس لها حتى القيامة من فض
5-فخره :
تنزع النفس إلى الفخر بما تراه مآثر انفردت بها دون غيرها ، أو محامد اتصفت لها في مجتمعها أو صفات خاصة استأثرت بها ورأت فيها فضلا وامتيازا .
ويفخر ابن المعتز بفروسية وبطولة في الحرب لغلبة تصورها في حلم يقظة مع أنه لم يعرف أنه خاض حربا أو شارك في معركة ، يقول ابن المعتز مفتخرا :
ولي صارم فيه المنايا كوامن فما ينتضى إلا لسفك دماء
ترى فوق متنيه الفرن دكانه بقية غيم رق دون سماء
ويقول مفتخرا :
وليل ككحل العين خضت ظلامه بأزرق لماع وأبيض صارم
ومضبورة الأعضاء حرف كأنها تصافح رضراض الحصى بمناسم
وفي مجال الفخر بالكرم والعفة يطرق ابن المعتز هذا المعنى
وما زلت مذ شدت يدي عقد مئزري غناي لغيري وافتقاري على نفسي
ودل علي الحمد مجدي وعفتي كما دل إشراق الصباح على الشمس
وابن المعتز هاشمي عباسي أمير من بيت الملك ، فلا عليه إذا ما تمثل نفسه ضمن واقعة وانشد أبياتا طويلة يتيه فيها بالنعمى ، ويدل من خلالها بالغنى والعزة ، يطلق لنفسه عنان الفخر المتطرف بفروسيته التي جعلت منه وحده جيشا جرارا إذا تحرك وقد امتطى جوادا كميتا
هاشمي إذا نسيت ومخصوص ببيت من هاشم غير عار
اخزن الغيظ في قلوب الأعادي وأحل الجبار دار الصغار
ولي الصافنات تردي إلى الموت ولا تهتدي سبيل الفرار
وسيوف كأنها حين هزت ورق هزها سقوط القطار
أنا جيش إذا غدوت وحيدا ووحيد في الجحفل الجرار

6-الصيد والطردعنده :
كان ابن المعتز واحدا من الذين اغرموا بالصيد ، ينشئ طرديات محبوكة السبك جيدة الصنع مليئة بالصور والحركات والمعاني والتشبيهات ، إن شعر الطرد يعتبر من أدق أساليب الوصف في الشعر العربي ، فيه حركة وتلوين وإجمال وتخصيص وكر وفر ، والطبيعة في نطاق الليل والفخر والنور والسماء والنجوم تدخل بدورها طرفا فيه ، هذا فضلا عن وصف الخيل والكلاب والفهود والصقور والبزاة والطرائد من ظباء ومها ووحوش ، وها هو ابن المعتز يقدم لنا واحدة من أجمل طردياته يصف فيها خيول الصيد وكلابه وصفا دقيقا قديرا كما يصف مطاردتها للظباء الرتع في المراعي وشكل المطاردة في ميدان المعركة بين كلب الصيد وضحاياه ، عامدا إلى رسم الصور وخلق التشبيهات العديدة التي انفرد بها وفرة واتقانا دون غيره من شعراء عصره ، يقول ابن المعتز مبتدئا بوصف الفجر والخيل :
لما تعرى الأفق بالضياء مثل ابتسام الشفة اللمياء
وشمطت ذوائب الظلماء وهم نجم الليل بالإعفاء
قدنا بعين الوحش والظباء داهية محذورة اللقاء
شائلة كالعقرب السمراء مرهفة مطلقة الأحشاء
كمدة من قلم سوداء أو هدبة من طرف الرداء
تحملها أجنحة الهواء تستلب الخطو بلا إبطاء
ثم يصف كلب الصيد وصفا دقيقا وكأنما يرسم له صورة ملونة قائلا :
ومخطف موثق الأعضاء خالفها بجلده بيضاء
كأثر الشهاب في السماء ويعرف الزجر من الدعاء
بإذن ساقطة الإرجاء كوردة السوسنة الشهلاء
ذا برثن كمثقف الحذاء ومقلة قليلة الأقذاء
صافية كقطرة من ماء تنساب بين أكم الصحراء
مثل انسياب حية رقطاء آنس بين السفح والفضاء
ويستطرد الشاعر واصفاالظباء وبيئتها :
سرب ظباء رتع الأطلاء في عازب منور خلاء
أحوى كبطن الحية الخضراء فيه كنقش الحية الرقشاء
كأنها ضفائر الشمطاء يصطاد قبل الأين والعناء
خمسين لا تنقص في الإحصاء وباعنا اللحوم بالدماء
يا ناصر اليأس على الرجاء رميت بالأرض على السماء
ولم تصب شيئا إلى الهواء فحسبنا من كثير العناء
هناك هذا الرمي يا ابن الماء




د-صنعة عبد الله بن المعتز:
في شعرابن المعتز رقة الملوكية وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين و فيه أشياء كثيرة تجري في أسلوب المجيدين ولا تقصُر عن مدى السابقين، وأشياء ظريفة من أشعار الملوك ،لقد كان شاعرًا محسنًاأميرًا مترفًا، لم يُتِحْ له ترفه أن يتعمق الثقافة والفلسفة ، وهو كذلك لم يتعمق وسائل التصنيع الحديثة، فإنه لم يعرف العمق في شيء؛ إنما عرف اللهو والنعيم، وعبر عن ذلك أجمل تعبير بقوله:
شربنا بالكبيرِ وبالصغيرِ ... ولم نحفِل بأحداث الدهورِ
لقد ركضتْ بنا خيلُ الملاهي ... وقد طِرنا بأجنحة السرورِ
وابن المعتز كان من ذوق المصنِّعين، فالتصنيع والزخرف أساسيان في حياته، وهما كذلك أساسيان في فنه. بدت فيه منذ نشأته نزعة إلى الغناء والموسيقى ضاعفت حسه بالجمال كما ضاعفها ترفه ونعيمه، فالترف يتيح ضربًا معقدًا من التصنيع في شئون الحياة والحق أن التصنيع كان مادة أصلية في حياته، وسرى منها إلى فنه؛ فهو يعيش في شعره كما يعيش في حياته معيشة تعتمد على التأنق والتنميق.
كان ابن المعتز شاعرًا مصنعًا من أصحاب مذهب التصنيع، وكان يعجب بهذا المذهب إعجابًا شديدًا دعاه إلى أن يكتب في أدواته وزخرفه كتابه "البديع" وهو يشهد له بأنه كان فنانًا عالِمًا يحسن وضع المصطلحات الفنية، لم يتعمق في فهم جوانب التصنيع والزخرفه ، فهِمَ الزخرف الحسي: زخرف الجناس والطباق والتصوير والمشاكلة، ولكنه لم يفهم الزخرف العقلي، ولذلك لم يسقط في كتابه أي تعريف بلون من ألوانه سوى ما سماه بالمذهب الكلامي. فهو الذي انحاز بالبديع العربي إلى الزخرف المادي، وجعله لا يهتم اهتمامًا واسعًا بالزخرف العقلي أو المعنوي
وكان ابنُ المعتز يعنى بزخرف التصوير في شعره عناية شديدة، ولكن أي تصوير؟ إنه ليس هذا التصوير الفلسفي الذي يمزج بنوافر الأضداد، وهو أيضًا ليس التصوير الحسي الذي يحلله أبو تمام إلى أصباغه التي تحدثنا عنها من تجسيم وتدبيج وتشخيص؛ إنما هو تصوير من نوع آخر لا يحتاج تأملًا عميقًا، أو هو بعبارة أدق صبغ آخر من أصباغ التصوير؛ ولكنه ليس صبغًا معقدًا ولا مركبًا، ونقصد: صبغ التشبيه، فقد شغف به شغفًا شديدًا كاد لا يبقى فيه بقية لزخرف آخر من زخارف المدرسة. وكان لذلك الزخرف عنده طرافة خاصة، فإنه استطاع أن يحول هذا الصبغ المحدود إلى صبغ له طاقة واسعة، بل لقد خرج عن نطاقه القديم وأصبح صبغًا مستقلًا له أوضاعه التي لا تحصى، وفي هذا الوعاء من أوعية التصوير يظهر تصنيعه ويظهر أيضًا تفوقه على شعراء عصره؛ فقد اختص بصبغ واحد من أصباغ لون واحد من ألوان التصنيع، ولكن عرف كيف يحوله إلى صبغ واسع ويستخرج منه ما لا يحصى من صور وأوضاع. وكان النقاد القدماء يعرفون له هذا الجانب. يقول ابن رشيق: "إن ابن المعتز يغلب عليه التشبيه" ، ويقول صاحب معاهد التنصيص: "هو أشعر الناس في الأوصاف والتشبيهات" ، وامتلأت كتب النقد والبلاغة بأوصافه، وأشاد به عبد القاهر الجرجاني في غير موضع من كتاباته.
وطبيعي أن يعدل ابن المعتز بتصنيعه إلى التشبيه؛ لأنه لا يحتاج بعدًا في الخيال ولا عمقًا في التصوير، وكأني به قال: دَعْني أبدِّل قيثارتي بلوحة الألوان، ولكنه حين انتقل هذه النقلة لم يحسن استخدام جميع الألوان التي تركها أبو تمام، بل لم يحسن استخدام لون التصوير نفسه؛ فقد انحاز إلى صبغ واحد من أصباغه وهو صبغ التشبيه، وترك الأصباغ الأخرى من تدبيج وتجسيم وتشخيص؛ غير أن من الحق أن نحمد لابن المعتز صنيعه بهذا الصبغ، فقد حوَّله إلى صبغ واسع وراح يستخرج منه أوضاعًا لا تحصى يزيِّن بها شعره ويجمله وهنا يأتي تصنيعه، فصبغ التشبيه أصبح عنده صبغًا ثريًّا بأوضاعه المتضاربة.
وليس من شك في أن هذه مقدرة ممتازة، تلك التي استطاع بها ابن المعتز أن يحول صبغ التشبيه إلى ما يشبه اللون الأخضر مثلًا في الطبيعة؛ فإذا هو على ضروب وأوضاع مختلفة، وإذا لكل ضرب ووضع روعة فاتنة. وإنها لمهارة تلك التي يستطيع صاحبها أن يؤلف لوحة من لون واحد فإذا هو زاهٍ أو باهت في بعض الجوانب، وإذ هو يتراوح بين هذين الصبغين إلى ما لا يحصى من أصباغ في الجوانب الأخرى. وحقًا أن ابن المعتز أظهر مهارة واسعة في هذا الصبغ من أصباغ التصوير؛ إذ عرف كيف يحول صبغًا محدودًا إلى صبغ واسع، ثم أخذ يستخرج منه أوضاعًا مختلفة حتى لا يحس قارئه بتكرار في المنظر؛ فهو لون واحد، بل هو صبغ واحد، ولكن الشاعر المصنِّع بارع؛ إذ يجعلنا نخطئ في الحس والتقدير، ونظن أننا نرى لونًا واسعًا له أوضاعه الكثيرة التي تنقلنا من عالمنا الحسي إلى عالم خيالي واهم. واقرأ هذه الأبيات إذ يقول في النرجس:
كأن أحداقَهَا في حسنِ صورتِهَا ... مداهنُ التبرِ في أوراقِ كافورِ
أو يقول فيه:
كأن عيونَ النرجسِ الغضِّ حولها ... مداهنُ درٍّ حشوهن عقيقُ
أو يقول في النارنج:
وأشجارُ نارنج كأن ثمارَهَا ... حقاقُ عقيقٍ قد مُلئن من الدرِّ
أو يقول في الآذريون:
كأنَّ آذريونها ... والشمسُ فيه كاليه
مداهنٌ من ذهبٍ ... فيها بقايا غاليه
أو يقول في الهلال:
انظرْ إليه كزورقٍ من فضَّة ... قد أثقلته حمولةٌ من عنبرِ
ويقول فيه:
انظرْ إلى حسنِ هلالٍ بدا ... يهتكُ من أنوارِه الحِندِسا
كمنجلٍ قد صيغَ من فضةٍ ... يحصدُ من زهر الدجى نرجِسا
أو يقول في قمر مشرق نصفه: "كأنه مجرفة العطر"؛ فقد استطاع ابن المعتز بهذه الأوضاع من التشبيه ونظائرها أن يطوف بنا في قصور من الوهم والخيال تحكي قصور ألف ليلة وليلة. وفي هذه القصور الخيالية يعيش من يقرأ في ديوان ابن المعتز؛ فإذا هو يرى مداهن من تبر، كما يرى كثيرًا من أواني الذهب والفضة المرصَّعة بأنواع الجواهر واللآلئ. إن التشبيه صبغ واحد ولكن ابن المعتز عرف كيف يحلِّله وكيف يستخرج منه أوضاعًا لا تحصى. وهذا هو سبب ما نزعمه من أنه شاعر مصنِّع؛ بل هو شاعر يعقد في التصنيع، فقد أخذ صبغًا واحدًا من أصباغه وذهب يعقده ويستنبط منه ما لا يحصى من أوضاع رائعة، وهل هناك أروع من هذا الهلال الذي يشبه منجلًا من فضة؟
وذهب ابن المعتز يكثر من أوضاع هذه الصور والتشبيهات في شعره، ويفرط فيها إفراطًا شديدًا، حتى لتظهر في قصائده على هيئة صفوف متلاحقة؛ ففي كل جانب منها صورة أوتشبيه، وهي صور وتشبيهات ما يزال ابن المعتز يحاول أن يحدث بها طرافة في شعره؛ فهي كل ما يقدمه للفن من زينة وجمال. لم يضع ابن المعتز همَّه في إحداث تنويع واسع في زخرف شعره؛ فقد رفض الزخرف العقلي أو بعبارة أدق لم يستطع أن يستخدمه، وهو كذلك لم يستطع أن يستخدم جميع أوعية الزخرف الحسي؛ فقد انحاز إلى التشبيه، وذهب يطرز به قصائده، ويوشي به أبياته. وأظهر في براعة لم تُتَحْ لشاعر من قبله، وهل هناك أبرع من هذا التشبيه؛ إذ يقول:
ريمٌ يتيهُ بحسنِ صورتِهِ ... عبثَ الفؤادِ بلحظ مقلتِهِ
وكأنَّ عقرب صُدغه وقفت ... لما دنت من نارِ وجنتهِ
فهذه صورة رائعة روعة شديدة لما أشاعه فيها جمال وبعث من نار، هي نار الوجنات أو هي نار الفن، وما أشبهها بهذه القطع من الشمس التي كان يلقيها الساقي في أقداح جماعته؛ إذ يقول:
وكأن كفيه تقسم في ... أقداحنا قطعًا من الشمسِ
كان ابن المعتز بارعًا في صنع الصور والتشبيهات، وهي براعة نرى آثارها في كل مكان من ديوانه، ومن الصعب أن نجمعها في حيز محدود في صحيفة أو صحف، ومع ذلك فمن المحقق أنه كلما جمع ناقد منها طائفة خرجت إليه أصباغ تحكي أصباغ الطيف أصباغ للون واحد؛ ولكنه لون معقد يعقده ابن المعتز، ويستخرج منه أوضاعًا متضاربة يشيع فيها النور والجمال والحياة، وانظر إلى قوله:
وزوبعةٍ من بناتِ الرياحِ ... تريك على الأرض شيئًا عجب
تضمُّ الطريد إلى نحرها ... كضمّ المحبة من لا يحبّ
أرأيت إلى هذه الصورة؟ إنها صورة خيالية رائعة لا بد لها من خيال فنان حتى يعرضها على أنظارنا؛ فإذا هذا العناق الغريب. وانظر إلى قوله:
ودنا إليَّ الفرقدان كما دنت ... زرقاءُ تنظر في نقابٍ أسود
فإنك ترى ابن المعتز يعرف كيف يطرف قارئه بالصور الغريبة وإنها لصور نادرة. هي ليست صورًا جامدة من تلك التي تواضع عليها الشعراء وأصبحت متحجرة في اللغة، إذا فقدت نضرتها وبهجتها؛ بل هي حية ناضرة وكأنما نقشت رسومها بالأمس، نقشها شاعر كان صبًّا ببعث الحياة والحركة في صوره حتى ليحس من يقرأ في ديوانه كأنه يعيش في دار من دور الصور المتحركة، فما يزال يرى مناظر وأشكالًا من شخوص ووجوه. وهي وجوه مستعارة، ولكنها تعبر عن روعة الفن بأجمل مما تعبر عنه الوجوه الحقيقية. وانظر إلى صورة الليل وهذا الوجه الحبشي.
قد أغتدي والليلُ في إهابه ... كالحبشي مالَ عن أصحابِهِ
والصبحُ قد كشَّف عن أنيابِهِ ... كأنه يضحك من ذهابِه
فإنك ما تلبث أن تستغرق في الضحك من هذا الحبشي أو هذا الوجه المستعار؛ بل إنه لوجه حقيقي يعبر عن حقيقة مظلمة وراءه، ولكن سرعان ما يخلفه وجه آخر ضاحك، وهو وجه الصباح الجميل.
وعلى هذا النمط ما نزال نرى في شعر ابن المعتز صورًا متحركة قد أعطاها أوضاعًا تؤكد حقيقتها وتجعلنا كأننا نلمسها ونشاهدها، وهل هناك صورة تثبت في الذهن كهذه الصورة التي أخرج فيها الصبح بعد المشتري:
والصبح يتلو المشتري فكأنه ... عريانُ يمشي في الدجى بسراج
إنها صورة عارية، وقد يؤذينا هذا العري؛ ولكنا لا نرتاب في أنه يثبت الصورة في عقولنا، ومن ينسى هذا الصبح الذي ذكره ابن المعتز؟ من ينسى هذا العريان وسراجه الذي كان يحمله في الدجى فيكشف عن نيته ويفصح عن عزيمته؟ وانظر إليه يعود إلى تصوير الصبح فيقول:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نُطير غرابًا ذا قوادم جونِ
وكذلك صور اختلاط الظلام بالضياء قائلا:
وكابدنا السُّرى حتى رأينا ... غراب الليل مقصوصَ الجناحِ
فأنت تراه يجنح في هذا البيت إلى التفصيل في صورة الغراب بأكثر مما صنع في البيت السابق؛ إذ عبر عن القِصَر الذي يصيب أطراف الليل بهذا القصِّ الغريب لجناح الغراب، وكل ذلك ليضبط الصورة ضبطًا دقيقًا.إن ابن المعتز كان يحسن استخدام صبغ التشبيه إحسانًا شديدًا؛ فإذا هو يستخرج منه تلك الصور والأوضاع الكثيرة ، وانظر إليه يصف الرياض في منظومته "ذم الصّبوح"؛ إذ يقول:
ألا ترى البستان كيف نوَّرا ... ونشر المنثورَ زهرًا أصفرا
وضحك الوردُ إلى الشقائق ... واعتنق القطرَ اعتناقَ وامقٍ
في روضة كحلل العروس ... وخرَّم كهامة الطاوس
وياسمين في ذرى الأغصان ... منتظم كقطع العِقْيَانِ
والسَّرو مثل قضب الزبرجدِ ... قد استمد العيش من ترب ند
على رياض وثرى ثري ... وجدول كالمبردِ المجلي
وأخرج الخشخاش جيبًا وفتقْ ... كأنه مصاحفٌ بيضُ الورق
أو مثل أقداحٍ من البلور ... تخالها تجسَّمت من نور
وبعضها عُريانُ من أثوابه ... قد خجل البائس من أصحابِه
تبصِرُه بعد انتشار الوردِ ... مثل الدبابيس بأيدي الْجُندِ
والسوسنُ الأبيضُ منشور الحلل ... كقطنٍ قد مسه بعض البلل
وقد بدت منه ثمار الكَنْكَرِ ... كأنه جماجمٌ من عنبرِ
وحلق البهارِ بين الآسِ ... جمجمةٌ كهامةِ الشَّمَّاس
وجلَّنارٌ كاحمرارِ الخدِّ ... أو مثل أعرافِ ديوكِ الهندِ














10-كلثوم بن عمرو العتابي – 220 هـ
أ-حياته ونشأته :كلثوم بن عمروالتعابي من أهل قنسرين غير بعيد من حلب ، وهو من ولد عمرو بن كلثوم الشاعر الفارس صاحب المعلقة وسيد تغلب في الجاهلية ، وليس ببعيد أن يكون العتابي قد ورث ملكة الشعر من بني قومه ، ذلك أن حبل الشعر فيهم ظل موصولا لأزمنة متتابعة ، فمن شعراء تغلب في الإسلام كعب وعميرة ابنا جعيل ، والأخطل والقطامي وتميم بن جميل ثم بنو حمدان – وكانوا جميعا شعراء – وعلى رأسهم الشاعر الأمير الحارث بن أبي العلاء المعروف بابي فراس . وقد كان التعابي يعتز بنسبه هذا الذي ينتهي به إلى عمرو بن كلثوم وان كان يذكر ذلك في إطار من الشعور بالحسرة للفارق الشديد بينه وبين جده الأعلى يتجلى ذلك في قوله :
إني امرؤ هدم الإقتار مأثرتي واجتاح ما بنت الأيام من خطري
أيام عمرو بن كلثوم يسوده حيا ربيعة والأفناء من مضر
أرومة عطلتني من مكارمها كالقوس عطلها الرامي من الوتر
ب-شخصيته :إن كلثوم بن عمرو المعروف بالعتابي يمثل قمة من قمم الشعر والكتابة وهو واحد من البلغاء القلائل
والعتابي شخصية فريدة ليس فقط بين شعراء المرحلة العباسية بل ربما كانت هذه الصفة تلازمه وتقتصر عليه بين شعراء العربية أجمعين .
فالتعابي سعى إلى كل ألوان الثقافة وسارع إلى كل فنون المعرفة فاغترف من معينها الصافي ونهل من بحرها الدافق ، ومن ثم فقد عد بلاغيا بارزا بين البلغاء ، كاتبا نابها بين الكتاب ، مؤلفا ثقة بين المؤلفين ، شاعرا مرموق القدر محمود الذكر بين الشعراء بل إن شعره النابغ من ثقافته قد تميز بالفكرة العميقة والصورة البارعة الأمر الذي يجعلنا لا نتردد في أن نعتبره صاحب ((الفكرة الشعرية )) ،
ويبدو أن العتابي قال هذه الأبيات وهو كبير السن ، فإنه يذكر الشيب ويقدم لنا ما يدل على أنه كان قصير القامة وذلك في قوله :
نهى طراف الغواني عن مواصلتي ما يفجأ العين من شيبي ومن قصري
جمع بين فني الشعر والنثر إجادة واتقانا ، إنه شاعر محسن وكاتب في الرسائل مجيد جمع بين الكتابة والشعر ، وأشعاره كلها عيون ليس فيها بيت ساقط مترسل بليغ مطبوع متصرف في فنون الشعر ، فهو شخصية نادرة لم تقدر قدرها اللائق بها
لقد كان شعر العتابي معيارا تقاس عليه جودة الشعر ورداءته حين يقف الشعراء على أبواب المأمون ، وقد ذكر صاحب الأغاني إن الشعراء اجتمعوا على باب المأمون فقال لهم حاجبه علي بن صالح : هل منكم من يحسن إن يقول كما قال أخوكم العتابي :
ماذا عسى مادح يثني عليك وقد ناجاك في الوحي تقديس وتطهير
فت المدائح إلا أن ألسننا مستنطقات بما تحوي الضمائير
فانصرفوا ولم يحاول واحد منهم إن يدخل على الخليفة يمدحه .
وقد قال بعضهم : في شعره تكلف ، وقال البعض الآخر : بل شعره ذو رقة ورشاقة وجودة ، فانبرى شيخ كان حاضرا وقال : ويحكم ، أيقال إن في شعره تكلفا وهو القائل :
رسل الضمير إليك تترى بالشوق ظالعة وحسرى
متزجيات ما ينين على الوجى من بعد مسرى
ما جف للعينين بعدك يا قرير العين مجرى
فاسلم سلمت مبرأ من صبوتي أبدا معرى
إن الصبابة لم تدع مني سوى عظم مبري
ومدامع عبرى على كبد عليك الدهر حرى
ج-ثقافة العتابي وفصاحته :
يعد العتابي الأديب الوحيد الذي جمع أسباب الإجادة والإبداع في فرعي الأدب من شعر ونثر، فقد توفر على لغته دراسة وفهما ، وعلى تراث قومه التهاما وهضما ، وعلى الأدب العربي والثقافة الإسلامية تعلما وحفظا ، تعلم لغة من لغات الحضارة المعاصرة ، وكانت اللغة التي هداه تفكيره إليها هي الفارسية ، وللعتابي فلسفة حكيمة وتعليلات عاقلة تم عن أفق واسع رحيب وفكر منظم رتيب ،
إن العتابي العربي صليبة ، التغلبي نجارا ، كان يؤمن بالثقافة في نطاقها الإنساني مخالفا الكثيرين من أهل زمانه الذين كانوا على الأغلب منقسمين بين عروبيين وشعوبيين ، ومن ثم لم يكن يجد غضاضة في تعلم لغة العجم والاعتراف بعراقة ثقافتهم وفيض عملهم ، هذه الثقافة جعلت لآثاره الأدبية والفكرية مذاقا خاصا وطعما متميزا ، فهو بحر لا ينزف ، وكان النمري يجل العتابي ويعظمه لقناعته وديانته ولعلمه وسعة أدبه .
إن احترام المأمون للعتابي قد بلغ مبلغا ربما لم يعامل به شاعرا غيره فلقد كان في زيادة للمأمون وقد أسن فلما أراد القيام قام المأمون فأخذ بيده , واعتمد العتابي على الخلفية فمازال ينهض رويدا رويدا حتى أقله فنهض .
والعتابي في نطاق فصاحته ومن منطبق احترامه لم يكن متزمتا ولا متعسفا في قول أسلوك بل إن له طرائف وفكهات تريح القلب وتمسح متاعب المهموم
والعتابي أحد البلغاء الذين عرفوا البلاغة بشروطها ومارسوها إنشاء وتحريرا، ويذكر أن التعابي سئل ما البلاغة ؟ فقال : إظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل في صورة الحق . وسئل عن البليغ فأجاب : كل من بلغك حاجتك وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ . قيل له : قد فهمنا الإعادة والحبسة ، فما معنى الاستعانة ؟ قال : إن يقول عند مقاطع كلامه ، اسمع مني ، وافهم عني ، أو يفتل أصابعه ، أو يكثر التفاته من غير موجب ، أو يتساعل من غير سعلة ، أو ينبهر في كلامه
وإذا كانت البلاغة مرتبطة باللسان ارتباطها بالعقل والجنان فان العتابي يحسب لذلك حسابه في قوله : إذا حبس اللسان عن الاستعمال اشتدت عليه مخارج
ولم يكن التعابي يصادف عيا يعوقه أو حبسة توقفه ، بل لعله كان إذا أمسك بالقلم تتزاحم المعاني في ذهنه فتسبب له من الربكة ما يسببه الجذب للغبي ، إن الحصري يروي هذه الحادثة الطريفة فيقول:
والعتابي بعد ذلك كله له مشاركة في التأليف وإثراء المكتبة العربية ، ولعل عناوين كتبه – التي ضاعت بكل أسف – تسهم في التعبير عن شخصيته والإفصاح عن تفكيره وثقافته ، فله من الكتب : كتاب المنطق ، وكتاب الآداب ، وكتاب فنون الحكم ، وكتاب الخليل ، وكتاب الألفاظ.
إن كبار مؤرخي الأدب ورواته قد انتفعوا بكتب العتابي ،
د-شعر التعابي :
تتميز نماذج شعره بطعم خاص وذوق متفرد ومذاق متميز وفكر متعمق ، في إطار الأسلوب الشاعري الموقع ونهج الصوغ البياني المتناغم ، لقد مر بنا قوله :
إني بلوت الناس في حالاتهم وخبرت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعا وإذا المودة اقرب الأنساب
إنه مذاق غريب حبيب لشعر عذب جديد ، ومن هنا جعل النقاد القدامى من التعابي واحدا من رواد البديع ، والبديع هنا هو الجديد ، وجديد العتابي يستقطب الصوغ والمعنى واللفظ والإيقاع على حد سواء .
لقد ولد العتابي شاعرا ، ورث ملكه الشعر من بني قومه التغلبيين ، وهذا وإن المعنى العميق والقول السديد والأسلوب الرفيع والتعبير الأنيق والصوغ المرتب كل ذلك لم يبعد عن شعر العتابي في جميع حالاته مادحا أو هاجيا ، معتذرا أو شاكيا محبا أو متغنيا ، مصطنعا الحكمة أو واصفا .
1-المديح :عمدالعتابي إلى المديح ، شأنه في ذلك شأن كل شعراء زمانه ، مدح البرامكة أولا ثم مدح الرشيد بعد ذلك فنال لديه حظوة وتكريما ، ثم ما لبث إن استغضب الرشيد فهرب ، غير أن البرامكة ما لبثوا إن مهدوا له عند الخليفة العباسي فعفا عنه ورده إلى سالف مكانته وسابق حظوته ، ولعل أشهر مديحه قالها العتابي في الرشيد هي قصيدته الرائية التي تقرب بها إليه بعد فتور كان سببه خروج الوليد بن طريف على الحكم العباسي ، وقد استهلها بقوله :
ماذا شجاك بحوارين من طلل ودمنه كشفت عنها الأعاصير
شجاك حتى ضمير القلب مشترك والعين إنسانها بالماء مغمور
وفي هذه القصيدة الرائية يجمع العتابي بين رقة القول غزلا ، والإشادة بالخليفة مديحا ، وخفض الجناح اعتذارا ، واصطناع الحيلة فخرا ، وابتداع الحكمة تقربا ، مع أسلوب عذب وإيقاع جميل ، وهي من أشهر قصائده ، أبياتها ذاتمعاني حكيمة ، والقصيدة من أرق شعر المديح مجملة أو مفصلة . إنها قصيدة مخططة الفكر منسوجة المنهج أادخل فيها الشاعر عامل المنطق العقلي والحجاج القولي وإذا لم تكن القصيدة كاملة الترتيب والبنية قد وصلت إلينا فتلك بعض أبياتها:
في ناظري انقباض عن جفونهما وفي الجفون عن الاماق تقصير
لو كنت تدرين ما شوقي إذا جعلت تنأي بنا وبك الأوطان والدور
علمت أن سرى ليلي ومطلعي من بيت نجران والغورين تغرير
إذ الركائب مخسوف نواظرها كما تضمنت الدهن القوارير
نادتك أرحامنا اللاتي نمت بها كما تنادي جلاد الجلة الخور
مستنبط عزمات القلب من فكر ما بينهن وبين الله معمور
فت المدائح إلا أن ألسننا مستنطقات بما تحوي الضمائير
ماذا عسى مادح يثني عليك وقد ناداك في الوحي تقديس وتطهير ، غير أن العتابي لم ينس أن يكون محامي قومه في هذا المجال ، ذلك أن خروج الوليد بن طريف الشاري – وكان تغليبا – على الرشيد لا يعني أن كل تغلب خارجه عليه ، ليس الأمر كذلك بل أن منهم من يسيطر على المعركة وهو يخوضها جالبا النصر للرشيد مثل القائد الفارس يزيد بن مزيد الشيباني الذي خاض معارك الظفر ووقائع النصر لحساب الرشيد ومن بين هذه المعارك معركته مع الوليد بن طريف ، وكلاهما – الخارج المدحور والظافر المنصور – ينتمي إلى قبيلة العتابي . إن العتابي يصوغ هذا الدفاع في رشاقة ومنطق وإيجاز قائلا :
إن كان منا ذوو إفك ومارقة وعصبة دينها العدوان والزور
فان منا الذي لا يستحث إذا حث الجياد وحازتها المضامير
وتضم هذه القصيدة البيتين الشهيرين اللذين أشاد بهما حاجب المأمون عندما تجمع الشعراء على بابه فقال لهم هل فيكم من يقول مثل العتابي :
ماذا عسى قائل يثنى عليك وقد ناجاك في الوحي تقديس وتطهير
فت المدائح إلا إن ألسننا مستنطقات بما تخفي الضمائير
وللشاعر قصيدة دالية عمد فيها إلى خاص نهجه ، وسار بها في أثير دربه ، من ابتداع الفكرة وتذليل متن الشعر الرقيق لها حتى تعتليه عذبا ذلولا ، فيحار القارئ بين جلال الفكرة وجمال الصيغة ، يقول العتابي في أبياته الدالية
إمام له كف تضم بناتها عصا الدين ممنوعا من البري عودها
وعين محيط بالبرية طرفها سواء عليها قربها وبعيدها
وأصمع يقظان يبيت مناجيا له في الحشا مستودعات يكيدها
سميع إذا ناداه في قعر كربة مناد كفته دعوة لا يعيدها
ينسب إليه بعض الزلات في حق كبار أهل زمانه وبخاصة الرشيد نفسه , ولم يكن العتابي رجل جلاد ونضال وإنما كان يفضل الحياة الهادئة دون كدر أو صخب أو خصام , ومن تكن هذه طبيعته يكثر الاعتذار على لسانه ,
2-الحكمة : عرف العتابي الحكمة في شعره ومما قالهالعتابي لجعفر البرمكي وقد كان واسطة خير له عند الرشيد كي يعفو عنه .
ما زلت في غمرات الموت مطرحا يضيق عني وسيع الرأي من حيلي
فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
ويرى العتابي إن هذا الذي قاله في تصوير حالة وتقرير صنيع منقذه غير كاف فيعمد إلى استغلال موهبته الشعرية والفكرية لتأكيد شكره وعرفانه بحسن الصنيع فيقول :
فلو كان للشكر شخص يبين إذا ما تأمله الناظر
لمثلته لك حتى تراه لتعلم إني امرؤ شاكر
أما وشاعرنا كثير الاعتذار كثير الشكر ، فان دلالة ذلك تفصح عن مذهبه في الحياة ومسلكه فيها ، انه غير مقبل إليها لا يتجشم في سبيلها إلا القليل ، ومن ثم فهو غير مستعد للمغامرة أو الاقتحام أو الجسارة . لقد لامته زوجته – وكانت من باهلة – لتقاعسه وانصرافه عن جمع المال بينما تلميذه منصور النمري يأخذ الأموال ويقتني الضياع ويشتري الحلي لأهل بيته ، فلم ينشط مستجيبا لرغبتها ، وإنما أانشأ يقول مصورا قناعته
تلوم على ترك الغنى باهلية روى الدهر عنها كل طرف وتالد
رأت حولها النسوان يرفلن في الكسا مقلدة أجيادها بالقلائد
تقول أما تحدوك للمجد همة تنيلك وجها من وجوه الفوائد
أسرك أني نلت ما نال جعفر من الملك أو ما نال يحي بن خالد
وإن أمير المؤمنين أغصني مغصهما بالمرهفات البوارد
ذريني تجئني ميتتي مطمئنة ولم أتجشم هول تلك الموارد
فإن كريمات المعالي مشوبة بمستودعات في بطون الأساد
3-نزعة التشاؤم : عند العتابي نزعة التشاؤمواضحة كل الوضوح ، وتشاؤمه قائم على نظرة إلى الحياة سوداء ، الحادثات لا ترحم ، والحياة فانية ، والأحباب إلى افتراق ، وغضارة العيش إلى ضيق وجفاف ، ومهما طالت الصحبة فإن بدد الشمل نهاية كل شيء ، حتى الفرقدين في السماء مصيرهما إلى شتات . تلك أفكار العتابي ، انتهز فرصة وداع جارية له فصب هواجسه في هذا القالب الشيق من رائق اللفظ وأنيق الأسلوب:
غدرات الأيام منتزعات ما غنمنا من طول هذا العناق
إن قضى الله أن يكون تلاق بعد ما قد ترين كان تلاق
هوني ما عليك واقني حياء لست تبقين لي ولست بباق
أينا قدمت صروف المنايا فالذي أخرت سريع اللحاق
ويد الحادثات رهن بمرات من العيش مصبرات المذاق
غر من ظن إن يفوت المنايا وعراهــا قـلائـد الأعناق
كم صفيين متعا باتفاق ثم صارا لغربة وافتراق
قلت للفرقدين والليل ملق سود أكنافه على الآفاق
أبقيا ما بقيتما سوف يرمى بين شخصكما بسهم الفراق
بينما المرء في غضارة عيش وصلاح من أمره واتفاق
عطفت شدة الزمان فأدته إلى فاقه وضيق خناق
لا يدوم البقاء للخلق لكن دوام البقاء للخلاق
وتبلغ نزعة التشاؤم والشعور بالبؤس والإحساس بالوحدة ذروتها عند العتابي في إطار رحلة كسيفة من الحزن والأسى والعطف والإشفاق على نابغة يوزع همومه ويبكي حظة فيقول :
أطفئ الحزن بالدموع إذا ما حمة الشوق أثرت في فؤادي
خاشع الطرف قد توشحني الضر فلانت له قناة قيادي
ترب بؤس أخا هموم كأن الحزن والبؤس وافيا ميلادي
وكأني استشعرت ما لفظ الناس من الثائرات والأحقاد
أتصدى الردى وأدرع الليل بهوجاء فوقها اقتـــادي
حظ عيني من الكرى خفقات بين سرحي ومنحنى أعوادي
أوحش الناس جانبي فما آنس إلا بوحدتي وانفرادي
قد رددت الذي به اتقى الناس وأبرزت للزمان سوادي
فاستهلت علي تمطري الشوق شآبيب مزنـة مرعاد
ه- صنعته : للعتابي شاعريته الدافقة الثرية المعطاءة المفكرة الرائدة التي يحتل بها مكانة اللائق به وبعلمه وبشعره وبفكره ،
وإذا كان شعر الفكرة لا يلتقي في كثير مع شعر الصنعة ، وكلاهما ضرب من ضروب التجديد ، فإن العتابي الحريص على التجديد في كل من الميدانين – ميدان الفكرة وميدان الصنعة – يقدم لمجيء شعره صورا خلابة من التجديد البديعي إذا ما استهدف وصف ظاهرة من ظواهر الطبيعة ، إنه يبيح لسجيته إن توغل بعض الشيء في اصطياد المحسنات البديعية وتقديمها لامعة بهيجة متألقة ، تشبيهات واستعارات وصور ولوحات ، وجناس وطباق وتصريع وترصيع إلى غير ذلك من فنون البديع وصور البيان المعروفة .
إن العتابي يصر على إن يقدم نماذج وفيرة من صور البيان والبديع في القصيدة الواحدة بحيث يضطر أساتذة النقد إلى الاعتراف بأنه واحد من المع رواد الصنعة البديعية المبكرة ، ولعل خير نموذج نعرفه له في هذا السبيل قصيدة له في وصف السماء والمطر يقول فيها:
راقت للبرق يخفى ثم يأتلق يخفيه طورا ويبديه لنا الأفق
كأنه غرة شهباء ،لائحة في وجه دهماء ما في جلدها بلق
أو ثغر زنجية تفتر ضاحكة تبدو مشافرها طورا وتنطبق
أو سلة البيض في جأواء مظلمة وقد تلقت ظباها البيض والدرق
والغيم كالثوب في الآفاق منتشر من فوقه طبق من تحته طبق
تظنه مصمتا لا فتق فيه فإن سالت عواليه قلت : الثوب منفتق
إن معمع الرعد فيه قلت : ينخرق أو لألأ البرق فيه قلت : يحترق
تستك من رعده أذن السميع كما تعشى ، إذا نظرت ، من برقه الحدق
فالرعد صهصلق ،والريح منخرق والبرق مؤتلق ، والماء منبعق
قد لاح فوق الربا نور له ارج كأنه الوشي والديباج والسرق
من صفرة بينهما حمراء قانية واصفر فاقع أو ابيض يقق
كان العتابي أكثرالشعراء ثقافة ومعرفة وإن كان يركب مركب الصنعة الموغلة في الترصيع مثلا ، شأن كل شاعر يوغل في الصنعة ،
فالرعد صهصلق والريح منخرق والبرق مؤتلق والماء منبعق
ولكنه الغلو ، والغلو ممجوج مرفوض في كل صورة وأشكاله وجوانبه ، ليس في الشعر وحده ، وإنما في كل مظهر من مظاهر الحياة ، وفي كل لون من ألوان الفنون .
وعلى الرغم من هذا الإيغال في الصنعة هذه القصيدة القافية من أجود ما قاله محدث في وصف السحاب والقطر والرعد والبرق.
وفي نطاق شعر الصنعة فإن العتابي واحد من رواد وزن المواليا:
يا ساقيا خصني بما تهواه لا تمزج أقداحي رعاك الله
دعها صرفا فإنني أمزجها إذ أشربها بذكر من أهواه
إن العتابي حتى في مجال صيغة الوزن الجديد في نطاق الغزل والشراب ، لا ينقلب من التزام الفكرة المؤتلقة الوضاءة .




12-عوف بن محلم الخزاعي
00 – 220 هـ
أ-حياته ونشأته :يمثل عوف بن محلم الخزاعيالمولود في رأس العين التفاعل بين القديم و الحديث وما جرى من شعر على لسانهوهو الشاعر النديم قريب دعبل وأبي الشيص محمد بن رزين ،شخصيته : إنعوفا يجمع بين طلاقة أهل الشام ورقتهم وبين انطباعات بيئة خراسان والعراق من جهة أخرى ، وبين نظرة إلى الماضي مشدودة بحبال قوية تارة ثالثة . لقد نادم طاهر بن الحسين ثلاثين سنة في بغداد وخراسان ، فلما مات تمسك به ولده عبدالله بن طاهر وأنزله نفس المنزلة التي كانت له عند أبيه
ب-شخصيته :
ج-شعره:
1-الحنين:يتمثل الحنين في شعر عوف في قوله وهو مرافق عبدالله بن طاهر بن الحسين في إحدى أسفاره إلى خراسان وقد ألح عليه الحنين إلى أهله في رأس العين
أفي كل عام غربة ونزوح أما للنوى من ونية فتريح
لقد طلح البين المشت ركائبي فهل أرين البين وهو طليح
وذكرني بالري نوح حمامة فنحت وذو الشجو الحزين ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ومن دون أفراخي مهامه فيح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى فتضحى عصا التسيار وهي طريح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقه وعدم الغنى للمعسرين طروح
2-شعر المتعة عنده : ويعيش عوف الخزاعي حياة زمانه من شراب ومنادمة وأخذ بأسباب المتعة الحسية ، ويصوغ ذلك شعرا في نطاق التحول الشعري الجديد فيقول
فما زالت الكأس تغتالنا وتذهب بالأول الأول
إلى إن توافت صلاة العشاء ونحن من السكر لم نعقل
فمن كان يعرف حق النعيم وحق الجليس فلا يجهل
وما إن جرت بيننا مزحة تهيج مراء على السلسل
3-شعرالحكمة :وعلى سنة شعراء زمانه أيضا من عودة إلى العقل ورجوع عن الجهل ولجوء إلى الحكمة يقول عوف هذا القول الحكيم:
ما ينزل الله بي أمرا فاكرهه إلا سينزل بي من بعده الفرجا
يا رب أمرين قد فرحت بينهما من بعد ما اشتبكا في الصدر واعتلجا
ولكن الارتباط بالماضي أمر كائن وحقيقة واقعة عند هؤلاء الشعراء ،
4-فخره :إن شاعرنا عوفا حين يفخر يعود أدراجه إلى أسلوب الأموية الناصع المشرق السهل الوضاء :
واني لذو حلم على إن سورتي إذا هزني قوم حميت بها عرضي
وان طلبوا ودي عطفت عليهم ولا خير فيمن لا يئول ولا يغضي
وما كل ذي غش يضرك غشه ولا كل من يؤتى كرامته يرضي
ومعترض في القول غريب قوله وقلت له ليس القضاء كما يقضي
ركبت به الأهوال حتى تركته بمنزل ضنك لا يكد ولا يمضي
واني لأجزي بالكرامة أهلها وبالحقد حقدا في الشدائد والخفض
إن هذا القول ليس مما يتمشى مع طبيعة العصر نحوا وأسلوبا ولكنه عود من الشاعر إلى جادة من الشعر يرتاح إليها واو كان – في نظر البعض – قد انقضى وقتها ومضى زمانها

د-المعاني الحضرية:
وتتمثل المعاني الحضرية والصيغة البغدادية في قوله يمدح طاهر بن الحسين ويصف حراقته تنساح صفحة دجلة في بغداد :
عجبت لحراقة ابن الحسـين كيف تعوم ولا تغرق
وبحران من تحتها واحد وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها وقد مسها كيف لا تورق


13-علي بن جبله العكوك 160 – 213 هـ
أ-حياته ونشأته :يعد علي بن جبلة بغدادي الميلاد والوفاة ، عاش بين سني 160 ، 213 هـ وهي فترة الانتعاش الثقافي والتغير الحضاري والتعميق العقلي والانطلاق الفكري والتألق العلمي والسياسي والانقلاب الخلقي والتحلل الاجتماعي ، فكان الشاعر صورة – مثله في ذلك مثل غيره – لمجتمع شعراء زمانه أخذا بأسباب الثقافة وجنوحا إلى جانب الأخذ بمذهب اللذة الحسية وبعدا عن القيم الدينية حتى إن إحدى الروايات تذهب إلى إن حياته انتهت على يد المأمون لمبالغته في مدح أبي دلف بقوله :
أنت الذي تنزل الأيام منزلها وتمسك الأرض عن خسف وزلزال
وما مددت مدى طرف إلى أحد إلا قضيت بأرزاق وأجال
والحق أن هذه الأبيات لم تكن هي الدافع الأصيل لحملة المأمون على العكوك وإنما السر الكامن وراء ذلك هو إجادة العكوك في مدح كل من أبي دلف القاسم العجلي وأبي غانم حميد الطوسي إلى ذروة من الإبداع وبخاصة مدائحه لأبي دلف .
إن ابن المعتز يميط اللئام عن ذلك بذكره هذه الرواية:
(( لما بلغ المأمون قول علي بن جبلة في أبي دلف :
كل من في الأرض من عرب بين بادية إلى حضرة
مستعيـر منـك مكرمـة يكتسبها يـوم مفتخرة
إنما الدنيا أبو دلف بين مبداه ومحتضرة
فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره
استشاط من ذلك وغضب وقال : ويلي على ابن الفاعلة ، يزعم أنا لا نعرف مكرمة إلا مستعارة من أبي دلف ، وطلبة فهرب إلى الجزيرة ، فكتب في طلبه فحمل إليه ، فلما صار بين يديه قال : يا ابن اللخناء : أنت القائل للقاسم بن عيسى :
كل من في الأرض من عرب بين باديه ومحتضره
مستعير منك مكرمة يكتسيها يوم مفتخره
فقال : يا أمير المؤمنين عنيت أشكال قاسم وأشباهه لا، فأما أنتم فقد أتاكم الله بالفضل عن سائر عباده لأنه اختصكم بالفضل والنبوة والكتاب والحكمة وجمع لكم إلى ذلك الخلافة والملك ، وما زال يستعطفه حتى عفا عنه .
ويستطرد ابن المعتز فيذكر أن بعض الرواة روى انه قتله ، وذلك بان قال له أما أني لا استحل دمك بهذا القول ، ولكن استحله بكفرك وجرأتك على الله إذ تقول في عبد مهين ، تسوي بينه وبين رب العالمين حين تقول :
أنت الذي تنزل الأيام منزلها وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد إلا قضيت بأرزاق وأجال
ثم أمر فاخرج لسانه من قفاه ثم قتله.
ب-شخصيته :إن علي بن جبلة لم يكن أعمى وحسب ، وإنما كان إلى ذلك أسود أبرص وهي عيوب جثمانية تجعل الناس تنفر منه ، وكان أيضا سمينا قصيرا مما جعل الأصمعي يلقبه بالعكوك غيظا منه وحقدا عليه ، ومع ذلك فقد فتحت له جودة شعره ورقته وتجديده فيه أبواب الملوك والرؤساء والقواد ، ولم يكن عنصر الجودة في شعر وحسب ، وإنما كان في إنشاده أيضا حتى إن الجاحظ يشهد له قائلا : كان أحسن خلق الله إنشادا ، وما رأيت مثله بدويا ولا حضريا
لئن فات هذا البغدادي وسامة البغداديين وسماتهم ، فقد خلعت عليه بغداد من رقتها وأدبها ما جعله يدلف في يسر إلى ساحات الرؤساء يمدحهم فيلقي وفير التكريم وفيض العطاء وبالغ التقدير ، لقد أفسح له كل من أبي دلف وحميد الطوسي والحسن ابن سهل صدورهم وقصورهم لما نمق فيهم من جيد المديح الأمر الذي جعل المأمون صاحب كرسي الخلافة يغار ويستدعيه ويغلظ له القول على رواية أو يقتله على رواية أخرى
إن علي بن جبلة الذي أطلق عليه الأصمعي صفة العكوك فلصقت به وغلبت عليه هو واحد من قافلة شعراء المرحلة العباسية المطبوعين ، وهو أيضا من مجموعة الشعراء اللمكفوفين النهابين الذين بدأ عهدنا بهم مع السائب بن فروخ الشاعر المخضرم الذي اشتهر بكنيته وصفته (( أبي العباس الأعمى )) ثم توالت هذه القافلة وقد ضمت بشار بن برد وصالح بن عبد القدوس وأبا يعقوب الخريمي وربيعة الرقي ، وكل واحد من هؤلاء طيب نفس الشعر ، عميق القاع ، بعيد الشاطئ ، صاحب ميزة أو ميزات ترفعه درجة أو درجات في ميدان أو أكثر من ميادين الشعر موضوعا وأسلوبا .
ج- فنون العكوك الشعرية:
1-الهجاء :كتب العكوك في الهجاء كما كتب في غيره من الأغراض الشعرية الأخرى ، ولقد روي أنأبا دلفأراد أن يداعب العكوك ذات يوم فقال له إنك تحسن أن تمدح ولا تحسن أن تهجو ، فما كان من العكوك إلا أن أجاب الأمير بقوله : الهدم أيسر من البناء وأردف منشدا
أبو دلف كالطبل يذهب جوفه وباطنه خلو من الخير أخرب
أبا دلف يا أكذب الناس كلهم سواي فإني في مديحك أكذب
وهكذا لم يكتف الشاعر – إثباتا لمقدرته حيال الأمير – أن يهجو الأمير وحده وإنما ، من قبيل التأكيد ، هجا نفسه معه
وللعكوك صور من الهجاء في غاية من الطرافة على ندرنها ، فمن ذلك ما قاله شاعرنا في هجاء قوم بخلاء يتركون الضيافة ويضيعون الضيفان :
أقاموا الديدبان على يفاع وقالوا لا تنم للديدبان
فإن آنست شخصا من بعيد فصفق بالبنان على البنان
تراهم خشية الأضياف خرسا ويأتون الصلاة بلا أذان
وكان العكوك يتصدق على أصدقائه من الشعراء الكبار بأبيات من الهجاء يتكفل بها دونهم وقصة ذلك لا تخلو بدورها من طرافة . كان الخريمي الشاعر الكبير صديقا للعكوك ، وكان يريد أن يهجو الهيثم بن عدي ، فذهب إلى صديقه العكوك ورجاه أن يهجوه له، فتعجب العكوك وقال له : مالك لا تهجوه وأنت شاعر؟ فقال : قد فعلت فما جاءني شيء كما أريد . فقال العكوك : كيف أهجو رجلالم يتقدم إلي منه إساءة ولا له إلي جرم يحفظني ؟ فقال : تقرضي ، فاني مليء بالقضاء ، إي قادر على قضاء هذا القرض ، فقال أمهلني اليوم ومضى ، وأخذ العكوك يفكر في سبيل للهجاء فهداه تفكيره إلى حادثة مفادها أن الهيثم كان قد تزوج إلى بني الحارث بن كعب ، ورأى القوم أن يطلقوا ابنتهم منه ربما لعدم التكافؤ بينهما وذهبوا إلى الرشيد يطلبون ذلك ، فقال الرشيد – وكان أديبا واسع الثقافة في الشعر – أليس هو الذي يقول فيه الشاعر :
إذا نسبت عديا في بني ثعل فقدم الدال قبل العين في النسب
قالوا : بلى يا أمير المؤمنين ، فأمر الرشيد داوود بن يزيد أن يفرق بينهما .
أن العكوك يستحضر هذه الحادثة ويستغلها استغلالا بارعا في هجاء الهيثم بن عدي احتسابا لصديقه الخريمي ويقول :
للهيثم بن عدي نسبة جمعت آباءه فأراحتنا من العدد
أعد عديا فلو مد البقاء له ما عمر الناس لم ينقص ولم يزد
نفسي فداء بني عبد المدان وقد تلوه للوجه واستعلوه بالعمد
حتى أزالوه كرها عن كريمتهم وعرفوه بذل أين أصل عدي
يا ابن الخبيثة من أهجو فافضحه إذا هجوت ؟ وما تنمى إلى احد
2-الغزل :والعكوك إذا قال في الغزل رق شعره حتى يكاد يتناهى من الرقة ، وعذب حتى لا يبقى ذوق إلا ويستسيغه ، وهو في بعض غزله يلهو باللفظ ويعبث بالمعنى ، لهوا محببا وعبثا مرغوبا فيه ، مثال ذلك هذه الأبيات التي جرت على لسانه :
بأبي من زارني مكتتما خائفا من كل شيء جزعا
زائر نم عليه حسنـه كيف يخفي الليل بدرا طلعا
رصد الغفلة حتى أمكنت ورعى الحارس حتى هجعا
ركب الأهوال في زورته ثم ما سلم حتى ودعا
ومن أبياته الطريفة في لوعة الحب ،ويمكن ملاحظة نهج أسلوب المكفوفين فيها قوله:
لو أن لي صبرها أو عندها جزعي لكنت اعلم ما آتي وما ادع
لا احمل اللوم فيها والغرام بها ما حمل الله نفسا فوق ما تسع
إذا دعا باسمها داع فأسمعني كادت له شعبه من مهجتي تقع
ويقع العكوك في حب جارية اسمها شكله ويلح عليه غرامها فيشكو حاله في أبيات من الغزل الرقيق الذي نلحظ فيه أيضا أسلوب الشعراء المكفوفين وبخاصة في البيتين الثاني والثالث . يقول العكوك مضمنا غزله معاني غريبة على العشاق :
إني ليقنعني تعهد شكله إن حال دون لقاء شكله حائل
ويزيدني كلفا بها هجرانها ويسرني عنها الحديث الباطل
وإذا تكلم عاذل في حبها أغرى الفؤاد بها ورق العاذل
من أين ما امتحنت محاسن وجهها بهر العيون بها هلال ماثل
شجيت خلاخلها بساق خدلة وشجيت عمدا بالذي هو قائل
وإذا كانت قرائن من العفة – أو في اليسير البعد عن المجون – بدت في تلك الأبيات فان العكوك هو صاحب القصيدة الدالية الطويلة التي جمعت بين الغزل وبين وصف المرأة وصفا أتى على كل جزء من أجزاء جسمها بحيث لم يتحرج عن ذكر مواطن العفة منها وقد عرف بعض الأدباء بهذه القصيدة باسم ((اليتيمة)) وعرفها آخرون باسم ((الدعدية))على اعتبار أنها قيلت فيمن اسمها دعد
هل بالطلول لسائـل رد أم هل لها بتكلم عهد
درس الجديد جديد معهدها وكأنما هي ريطة جرد
من طول ما تبكي الغيوم على عرصاتها ويقهقه الرعد
فوقفت أسالها وليس بها إلا المها ونقانق ربد
وينتقل العكوك من حديث الغزل إلى رسم صورة لصاحبته دعد فيصف أجزاء جسمها في دقة متناهية لا يستطيع المرء أن يحجب إعجابه حيالها – رغم خروجه على حدود الذوق في بعضها – نظرا لان الشاعر أعمى لا يبصر ، فلنستعرض بعض هذه الصور وليس كلها
لهفي على دعد وما خلقت إلا لطول بليتي دعد
بيضاء قد لبس الأديم أديم الحسن فهو لجلدها جلد
ويزين فوديها إذا حسرت صافي الغدائر فاحم جعد
فالوجه مثل الصبح مبيض والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنه الضد
وجبينها صلت وحاجبها شحت المحط أزج ممتد
فكأنها وسنان إذ نظرت أو مدنف لما يفق بعد
بفتور عين ما بها رمد وبها تداوي الأعين الرمد
وتريك عرنينا به شمم وتريك خدا لونه الورد
وتحيل مسواك الأراك على رتل كأن رضابه الشهد
والجيد منها جيد جارية تعطوا ذا ما طالها المرد
وكأنما سقيت ترائبها والنحر ماء الورد إذ يبدو
والمعصمان فما يرى لهما من نعمة وبضاضة زند
ولها بنان لو أردت له عقدا بكفك أمكن العقد
3-الوصف :برع العكوك في الوصف براعة ما لها شبيه وخاصة وصف وجده للمرأةالمرأة ومن ذلك غزلهالصارخ المخيف ، :
يا من لو اكتحل القبيح بحسنها لغدا وليس لحسنـه نـد
أن لم يكن وصل لديـك لنـا يشفي الصبابة فليكن وعد
قد كان أورق وصلكم زمنا فذوى الوصال وأروق الصد
لله أشواقي إذا نزحـت دار بكـم ونأي بكم بعد
أن تتهمي فتهامـة وطني أو تنجدي أن الهوى نجد
وزعمت أنك تضمرين لنا ودا ، فهلا ينفع الود
وإذا المحب شكا الصدود ولم يعطف عليه فقتلـه عمد
ومن الطريف أن علي بن جبلة لا يكتفي من قصيدته بهذا الشتات من نماذج الغزل والشكوى ووصف المرأة وأجزاء جسمها ، وإنما ينتهي بقصيدته نهاية غير متناسقة مع عناصرها السابقة ، فيعمد في عدد غير قليل من الأبيات إلى الفخر بنفسه ، ولكنه فخر هزيل لم يصادف مكانه الصحيح .
ولعل من روائع العكوك قصيدته في وصف فرس أبي دلف ، وقد مر بنا الموقف الذي أدى إلى وصفها ، والحق أن العكوك قد تقمص شخصية فارس خبير بالكر والفر وأنواع السير والركض وشخصية مدرب خيل أصيلة يعرف كيف يدربها على الحركة ، ومجمل القول في القصيدة أنها عمل رائع من شاعر مبصر فما بالك إذا كان الشاعر ضريرا . يقول العكوك في قصيدته واصفا الفرس:
مرتهج يرتج من أقطاره كالماء جالت فيه ريح فاضطرب
تحسبه اقعد في استقباله حتى إذا استدبرته قلت اكب
وهو على إرهاقه وطيه تقصر عنه المحزمان واللبب
تقول فيه خبب إذا انثنى وهو كمتن القدح ما فيه خبب
يخطو على عوج تناهبن الثرى لم يتواكل عن شظا ولا عصب
تحسبها ناتئه إذا خطت كأنها واطئة على الركب
شتا وقاظ برهتيه عندنا لم يؤت من بر به ولا حدب
يصان عصري حره وقره ويقصر الخور عليه بالجلب
حتى إذا تمت له اعضاؤه لم تنحبس واحدة على عتب
رمنا به الصيد فرادينا به أوابد الوحش فأجدى واكتسب
مجذم الجري يباري ظله ويعرف الأحقب في شوط الخبب
إذا تظنينا به صدقنا وان تظنى فوقه العير كذب
لا يبلغ الجهد به راكبه ويبلغ الريح به حيث طلب
ه-صنعته :أن العكوك بارع في خلق التشبيهات الدقيقة ،ولم يقف الأمر به حين يعمد إلى خلق التشبيهات ، ولكن تشبياته تنسرب انسرابا في أكثر شعره من غزل ومديح وهجاء ، ولقد مرت بنا تشبياته الكثير الوفيرة في قصيدته الدعدية ، هذا وللعكوك عديد من التشبيهات التي فاق بها كثيرا من الشعراء المبصرين ، مثال ذلك قوله من قصيدة سينية مدح بها حميدا الطوسي :
الناس جسم ، وإمام الهدى رأس ، وأنت العين والراس
أو قوله في وصف رماح أحد ممدوحيه :
كأن أرماحه تعطي إذا علمت تحت العجاجة أسماعا وأبصارا
وقال في نفس المعنى والموضوع ، وهو تشبيه ثري محكم فيه تحد للشعراء المبصرين
كأنهم والرماح شابـكة اسد عليهـا اظلـت الاجم
وقال في مدح حميد الطوسي ووصفه في ساحة الحرب :
إذا ما تردى لأمة الحرب أرعدت حشا الأرض واستدمى الرماح الشوارع
وأسفر تحت النقع حتى كأنه صباح مشى في ظلمه الليل ساطع
إنها صورة بارعة حقا والتشبيه في البيت الثاني
وله تشبيه بارع حكيم في وصف الناس وتشبيهم بالخيل :
والناس كالخيل إن ذموا وإن مدحوا فذو الشيات كذي الأوضاع في الناس
وللعكوك في الشيب صور عديدة طريفة وتشابيه كثيرة بارعة ، فمن هذه التشبيهات قوله :
كـأن حسور الصبـا عن الشيب حين اشتعل
زهـا أمل مونـق اطـل عليه اجـل
لقد ألقى هذا الشاعر الأعمى الأبرص المتكور الجسم في أسماع الناس من شعره صورا من الرقة والتجديد لا تمحي ولا تبيد ، وكانت في رقة إنشائها وثراء معانيها وبساطة صوغها – الذي كان أكثره من البحور القصيرة – ونصوع جمالها اكبر تعويض له عن جمال افتقده في تكوين خلقته فبقي له في بديع صنعته .
وان نفس العكوك التي الفت أن تلتذ بالحياة وتعيشها ملء برديها ، لم تبعد بصاحبها عن قول الحكمة واصطناعها في شعره ، صحيح ا نابيات الحكمة عنده قليلة إذا ما قورنت بمثيلاتها عند معاصريه من أمثال صديقه الخريمي ، أو العتابي ، أو ابن يسير أو محمود الوراق ، ولكنها مع ذلك عميقة الأثر صادقة الصدى . إننا لا نملك أن نحجب إعجابنا عن هذين البيتين اللذين تتضوع الحكمة في ردنيهما :
وارى الليالي ما طوت من شرتي ردته في عظتي وفي إفهامي
وعلمت أن المرء من سنن الردى حيث الرمية من سهام الرامي
ومن شعره في قول حكيم يحض على الصبر فيه ويستبعد اليأس :
عسى فرج يكون عسى نعلـل أنفسا بعسى
فلا تقنط إذا لاقيت هما يقبض النفسا
فاقرب مـا يكون المرء من فرج إذا أيسا
ومن نماذج الشعر التي جمعت بين الفخر بحسن الشمائل وبين اصطناع الحكمة قول العكوك
وكم رمية للدهر في باب مأمن جعلت مجني – دون مكروهها – صبري
أذود منى نفسي جهيدا وعفتي إذا حملت غيري على المركب الوعر
ومهما طال القول في علي بن جبلة ، فانه واحد من المع شعراء مرحلة التفاعل الشعري ونجم من نجوم التجديد في معاني القصيدة ومبناها ، ولعله أكثر شعراء عصره استعمالا للبحور القصار – بنجاح – في مواطن يحسن فيها استعمال البحور الطوال ، وهو شاعر طيب النفس ، صادق الحس ، مجيد في الوصف ، مجدد فيما قدم من صور عاش بعض الشعراء الكبار من بعده عيالا عليها .
ج-العكوك وأبو دلف:
كثيرا ما تكون قصيدة بعينها مثيرة حوله ما يرفع شأنه أمر ما ينشر الحقد حوله أو ما يهيء للأمرين جميعا ولقد كانت القصيدة الرائية سببا ذلك بالنسبة إلى العكوك لقد جعلته هذه القصيدة يصيب الشهرة العريضة في الآفاق بحيث لم يذكره مترجم أمؤرخ أو صاحب طبقات إلا وقرن اسمه بتلك القصيدة فأصبحت أشهر من قصيدة أبي نواس في البحر والقافية والروينفسه إن القصيدة ما إن أنشدت في محفل أبي دلف حتى شك الشعراء الحاضرون في أمكان قدرته على قول هذا الشعر , فما كان من الشاعر إلا أن تحدى الجمع وطلب إليهم أن يمتحنوه , فسألوه أن يصف فرس أبي دلف فطلب أن يتحسس الفرس ومعه من يثقون فيه ولم يلبث أن أملاه قصيدته البائية التي مطلعها
ريعت لمنشور على مفرقه ذم لها عهد الصبا حين انتسب
فكانت هذه القصيدة وليدة تلك :
ورائية العكوك سارت هذه في أبي دلف سير الشمس والريح وهي القصيدة الغراء التي سارت في العرب والعجم. ، وينتشر صيت هذه القصيدة في أركان منتديات الأدب وأدب نافق عند الخلفاء والرؤساء ، وبقصد العكوك ساحة حميد الطوسي وكان بدوره رئيسا أديبا وقائد أريبا وافر الفروسية جزيل العطاء ، وما أن يستأذن ويدخل عليه لينشده حتى يبادره حميد قائلا :
وما عسيت أن تقول فينا ؟
وهل أبقيت لأحد مدحا بعد قولك في أبي دلف؟ :
إنما الدنيا أبو دلف بين مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره
وهنا يقول علي بن جبلة العكوك : أصلح الله الأمير ما قلت فيك أحسن . قال : وما قلت ؟ فأنشده :
إنما الدنيا حميد وأياديه الجسام
فإذا ولى حميد فعلى الدنيا السلام
فتبسم حميد ولم شيئا وتعجب كل من حضر المجلس من جودة بديهته لأنهم استنتجوا أنه قال بيتيه هذين على البديهة .
وإذا كان بيتا العكوك في حميد لهما رقة اللفظ وحسن إيقاع على السمع فأن بيتيه بل أبياته في أبي دلف تنسرب إلى القلب انسرابا وتقران فيه فلا تخرجان
إن عليا العكوك يسمع عن أبي دلف القاسم العجلي القائد المظفر, الفارس المقدم , العالم المؤلف , الفصيح الخطيب الشاعر , الموسيقي الفنان , لقد جمع أبو دلف كل هذه الصفات فروسية وإقداما وعلماء وتأليفا وفصاحة وشعراء وموسيقى , فيسعى العكوك إلى ساحته كما سعى غيره إليها وأنشدوا بين يديه روائع شعرهم ويسمعون منه روائع شعره وبخاصة ما كان منه متصلا بالفروسية , فمن شعر أبي دلف في الغزل الممزوج بالفروسية قوله:
الحرب تضحك من كرى وإقدامي والخيل تعرف آثاري وأيامي
سيفي مدامي وريحاني مثقفتي وهمتي مقة التفصيل للهام
وقد تجرد لي بالحسن منفردا أمضى وأشجع مني يوم إقدامي
سلت لواحظه سيف السقام على جسمي فأصبح جسمي ربع أسقام
أو قوله :
أحبك يا جنان فأنت مني محل الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان روحي لخفت عليك بادرة الزمان
لإقدامي إذا ما الخيل جالت وهاب كماتها حر الطعان
, ولأبي تمام مع أبي دلف هذا أخبار ممتعه.وفقد جود في جود في هذا القول الرقيق :
ذاد ورد الغي عن صدره فارعوى واللهو من وطره
وأبت إلا الوقار له ضحكات الشيب في شعره
ندمي أن الشباب مضى لم أبلغه مدى أشره
وانقضت أيامه سلما لم أهج حربا على غيره
وبعد بضعة أبيات تقليدية في وصف الرحلة التقليدية إلى الممدوح يخلع العكوك على أبي دلف حشدا من معاني المديح العذبة المختارة ، المصوغة في عناية وأناقة ، الحاوية لأكثر من تشبيه خصب فريد ، المتضمنة البيتين الذائعي الصيت اللذين سببا له لذة الشهرة ومتاعب الحاسدين . يقول العكوك ماضيا في قصيدته :
المنايـا في منـاقبـه والعطايا في ذرا حجرة
هضـم الدنيـا بنائلـه وأقال الدين من عثـره
ملك تندى أنامله كابتسام الروض عن زهره
مستهل عن مواهبه كانبلاج النوء عن مطره
إنما الدنيا أبو دلف بين مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره
و لا يلب ثان ينعطف إلى معاني الفروسية التي تمثلت في حروب أبي دلف وبخاصة في واقعته مع قرقور الثائر المعروف:
يا دواء الأرض إن فسدت ومجير اليسر من عسره
رب ضافي الأمن في وزر قد أبت الخوف في وزره
زرتـه والخيل عابسة تحمل البؤس إلى عقره
خارجات تحت رايتها كخروج الطير من وكره
فأبحت الليل عقوته وقريت الطير من جزرة
إن هذه القصيدة ، لمعانيها الجليلة وصوغها البارع وسهولتها الممتنعةجديرة بأن تحتل مكانا مرموقا بين قصائد المديح .



د-العكوك يمدح حميدا الطوسي ويرثيه :
للعكوك العديد من القصائد في حميد الذي كان قادا محكنا من قواد المأمون ، مظفرا جبارا ، وكان شأنه شأن كل رجالات زمانه يطرب للمديح ويجزل عطاء المادحين .
وكان العكوك محتفلا بمدح حميد كل الاحتفال متفننا في إبداع معاني مديحه كل التفنن ، ولكنه على رغم منه لم يبلغ في واحدة منها مبلغه في قصيدته في أبي دلف الرائية رغم العديد من القصائد التي أنشاها فيه ، فمن صنوف التفنن وتوليد المعاني في مدحه حميدا
قوله :
دجلة تسقي ، وأبو غانم يطعم من تسقي من الناس
أعد للمعـروف أمواله وسيفـه في حلـبه الباس
يرتق مـا يفيق أعداؤه وليس يـأسو فتقـه آس
الناس جسم ، وإمام الهدى رأس وأنت ، العين في الرأس
ويوسع العكوك باب المديح من خلال القصائد ذات البحور القصيرة حين يخص حميدا بالعديد من القصائد التي صيغت في هذه البحور ، فمن ذلك بائيته التي يقول فيها :
فأنت الغيث في السلم وأنت الموت في الحرب
وأنت الجامع الفارق بين البعد والقرب
بك الله تلافى الناس بعد العثـر و النكب
ورد البيض و البيـض إلى الأغماد والحجـب
بإقدامك في الحـرب وإطعامك في اللزب
ويموت حيميد سنة 210 هـ ويحس الشاعر بمصيبته فيه ، فقد طالما خلع عليه حتى انه كان يعطيه أحيانا عن القصيدة الواحدة مائتي ألف درهم .
أن علي بن جبلة يرثي حميدا بقصيدة عينية تعتبر من عيون شعر الرثاء بحيث عاش على معانيها الكثير من فحول الشعراء مثل البحتري والمتنبي ، بل أن البحتري سلخ معانيها وضمنها مرثيتين له في أبي سعيد الثغري الذي كان أول عظيم مدحه البحتري .
إن العكوك يبدأ مرثيته بأبيات في الحكمة ، وقول الحكمة مرتبط دائما بمناسبات الحرب والرثاء ويستهلها بهذا البيت النفيس :
أللدهر تبكي أم على الدهر تجزع وما صاحب الأيام إلا مفجع
ويمضي الشاعر مصورا حزنه في ثوب من قول الحكمة :
ولو سهلت عنك الأسى كان في الأسى عزاء معز للبيب ومقنع
تعز بما عزيت غيرك إنها سهام المنايا حائمات ووقع
أصبنا بيوم في حميد لو أنه أصاب المنايا حائمات ووقع
وأدبنا ما أدب الناس قبلنا ولكنه لم يبق للصبر موضع
ويصور الشاعر القائد الفقيد بصورة الجبل المنيع على مسرى القصيدة في قوله :
وكيف التقى مثوى من الأرض ضيق على جبل كانت به الأرض تمنع
وفي قوله :
هوى جبل الدنيا المنيع وغيثها المريع وحاميها الكمي المشيع
ثم يطلق الشاعر لسجيته الحزينة الخصيبة العنان فيبكي حميدا بالمعاني التي وقرت له في نفسه من طول صحبته له وتجربته معه ومعرفته إياه ، ويتحير على إي نحو يبكيه وبأي شجو يرثيه :
على إي شجو تشتكي النفس بعده إلى شجوه أو يذخر الدمع مدمع
ألم تر أن النفس حال ضياؤها علي وأضحى لونها وهو أسفح
وأوحشت الدنيا وأودى بهاؤها وأجدب مرعاها الذي كان يمرع
وقد كانت الدنيا به مطمئنة فقد جعلت أوتادها تتقلع
بكى فقده روح الحياة كما بكى نداه الندى وابن السبيل المدمع
وفارقت البيض الخدور وأبرزت عواطل حسرى بعده لا تقنع
وأيقظ أجفانا وكان لها الكرى ونامت عيون لم تكن قبل تهجع
ولكنه مقدار يوم ثوى به لكل امرئ منه نهال ومشرع





15-محمد بن يسير الرياشي
( 00 - حوالي - 230هـ )
أ-حياته ونشأته :محمد بن يسيرالمجهول الولادة والمتوفى /230/ه واحد من الشعراء الذين تمسكوا بالإقامة في بلدتهم ولدوا فيها فلم يغادروها إلى مكان آخر خارجها، فهو لم يغادر مدينته " البصرة" خلال حياته التي شملت النصف الثاني من القرن الثاني الهجري وطرفا من القرن الثالث . والبصرة أنذال تحفل بكل متضاد متناقض من أسباب الحياة الاجتماعية و الأدبية والثقافية والفكرية والدينية ومظاهرها ، مجتمعها مجتمع زاخر فائر مختلط فيه الحابل بالنابل مشتبك فيه الغث بالسمين ، فلقد كان في البصرة آنذاك من مظاهر المجون والانحلال والانفلات عن القيم شيء كثير ، وكان فيها من نفحات الفكر والجدل في النحو واللغة واصطراع الأفكار والآراء وكان فيها من تيارات الأدب شعرا ونثر ورواية وتسجيلا شيء كثير وكان فيها من نفحات الفكر والجدل في النحو واللغة واصطراع الأفكار والآراء بحور زاخرة متلاطمة وكان فيها من حلقات العلوم الدينية من فقيهة ومذهبية وكلامية ما حفلت به الكتب وامتلأت به المتون وكان فيها من اتجاهات الزهد والحكمة ما تجلى في أعمال وأقوال الزهاد والقصاص وكان فيها من أجناس البشر وأشتات الناس بأخلاقهم المتنافرة وقيمهم المتشاجرة ومسالكهم المتشابكة ما جعل مجتمع البصرة مجتمعا غريب الأشكال متميز الأطوار متقلب الأحوال .
ب-شخصيته :لقد كان الشاعر محمد بن يسير صورة دقيقة لمجتمع البصرة ولعل السبب الرئيسي في ذلك أنة عاش فيها حياته لم يغادرها فانعكست صورتها على شخصيته ووضحت تياراتها على مسلكه وبرزت تناقضاتها في شعره .
ولذلك فقد تجمعت في ابن يسير صفات ما كانت لتتجمع إلا في بصري تعمد أن يعيش حياة البصرة كما هي بكل مظاهرها تلك المتناقضة فكان الرجل مستهترا خليعا سكيرا منحلا بخيلا هجاء وصافا غنيا فقيرا إنسانيا زاهدا حكيما أنها صورة غريبة تلك التي تتكون من صور عدة ثم تتجمع لكي تلبس أنسانا وتكسوه بأثوابها المتباعدة المقاييس والأحجام المتنافره المعايير والألوان أنه جامع الضدين بدأ ماجنا وانتهى
ج- أغراضه الشعرية :
1-+ 2-الهجاء والوصف عنده
ولابن يسير مشاركة في الهجاء ولكنه هجاء راق فكه غير متدن ولا مسف ولا مفحش ولا متهافت وهو لا يهجو لمجرد الهجاء وإنما هو يهجو لسبب لطيف معقول وهو يصب هجاءه في قالب من الفكاهة وإطار من الظرف وخفة الروح وأكثر هجاء ابن يسير انصب على جاره " منيع" البقال وإذا كانت العناية بالجار واجبة ودفع الأذى عنه يدخل في صلب المروءة فان إهمال " منيع" في حق ابن يسير قد دفع بشاعرنا إلى هجاء نعجته التي كانت تقوم بغاراتها على بستانه تارة وعلى دارة أخرى وكان الدمار الذي توقعه بالبستان يوجع قلب الشاعر فليس أكثر إيجاعا لقلب شاعر من أن يرى أزهار تتلف وأشجاره تكسر وأغصانه تقصف وخضرته تصوح أو نضارة بستانه تذوي وأما الدمار الذي كانت توقعه النعجة بالبيت فكان أكثره إيلاما لابن يسير هو أكلها كتبه وإتلافها قراطيس شعره .
والشاعر فيها طويل النفس مسترسل الأوصاف في يسر وبساطة وفي غير ما عسف أو تكلف وكأن الشعر طوع يمينه وملء برديه
لي بستان أنيق زاهر ناصر الخضرة ريان ترف
راسخ الأعراق ريان الثرى غدق تربته ليست تجف
لمجاري الماء فيه سنن كيفما صرفته فيه انصرف
مشرق الأنوار مياد الندى منثن في كل ريح منعطف
تملك الريح عليه أمره فإذا لم يؤنس الريح وقف
يكتسي في الشرق ثوبي يمنة ومع الليل عليها يلتحف
ينطوي الليل عليه فإذا واجه الشرق تجلس وانكشف
صابر ليس يبالي كثرة جز بالمجل أو منه نتف
كلما ألحف منه جانب لم يلبث منه تعجيل الخلف
لا ترى للكف فيه أثرا فيه بل ينمي على مس الأكف
فترى الأطباق لا تمهله صادرات واردات تخلف
فيه للخارف من جيرانه كلما احتاج إليه مخترف
أقحوان وبهار مونق وسوى ذلك من كل الطرف
وهو في الأيدي يحيون به على الاناف طورا يستشف
إن ابن يسير يسهم بهذا الوصف البديع الخلاب إسهاما واضحا في فن الروضيات من شعر الطبيعة فلقد خلع على بستانه من صفات البهاء والنضرة والجمال أوفر وأخصب ما يخلعه شاعر عاشق للطبيعة على بستان غير إن يسير لم يكن يقصد إلى وصف البستان كغرض وهدف وإنما جعل ذلك مقدمه أن ابن يسير لم يكن يقصد إلى وصف البستان كغرض وهدف وإنما جعل ذلك مقدمة لتأليف الخواطر على النعجة المخربة التي أنزلت التلف والدمار بهذا البستان الأنيق ومن الطريف أن ابن يسير جعل من هذه النعجة خصما و غريما وتمثلها كما لو كانت شخصيا يصدر أفعاله عن عقل وسوء نية ومن ثم فهو يصب عليها من ألوان الهجاء ما لو صبه على ذي مروءة من البشر لجدع أنفه ونال من كرامته إن ابن يسير يصف فمها فيقول إنه كالح هم قبيح المنظر وأما أنفها فدائم السيل لا يجف وأما أظلافها فطويلة مخربة غير مهذبة تنسف في مشيتها فتثير سحابا من الغبار و أعاصير من التراب وبعد وصفة مشيتها يصف سعالها ويذكر " أشياء أخرى" تتبع السعال ويمعن الشاعر في هجاء النعجة فيقول:إنها كريهة الرائحة شوهاء الخلقة تعافها التيوس وهيلوعرضت في مكان عام ونودي عليها لجمع صاحبها فلوسا كثيرة:
اعفه يا رب من واحدة ثم لا أحفل أنواع التلف
اكفه شاة " منيع" وحدها يوم لا يصبح في البيت علف
اكفه ذات سعال شهلة متعت في شر عيش بالخوف
اكفه يا رب وقصاء الطلى الحم الكتفين منها بالكتف
وكلوح أبدا مفترة لك عن هتم كليلات رجف
ونئوس الأنف لا يرقا ولا أبدا تبصره إلا يكف
لم تزل أظلافها عافية لم يظلف أهلها منها ظلت
فترى في كل رجل ويد من بقاياهن فوق الأرض خف
ترهج الطرق على مجتازها بيد في المشي والخطو القطف
في يديها طرق مشيتها حلقة القوس وفي الرجل حنف
فإذا ما سعلت واحدة ودبت جاوب البعر عليها فخصف
وأحص الشعر منها جلدها شنة في جوف عار منخسف
ذات قرن وهي جماء إلا إن الوصف كوصف مختلف
وإذا تدنو إلى مستعسب عافها نتنا إذا ما هو كرف
لا ترى تيسا عليها مقدما رميت من كل تيس بالصلف
شوهة الخلقة ما أبصرها من جميع الناس إلا وحلف
ما رأى شاة ولا يعلمها خلقت خلقتها فيما سلف
عجبا منها ومن تأليفها عجبا من خلقها كيف ائتلف!
لو ينادون عليها عجبا كسبوا منها فلوسا ورغف
إن هذا الوصف الساخر لا نكاد نرى له مثيلا , وهو من الدقة بحيث لا يحسه إلا ريفي سمع الثغاء ورأى قطعان النعاج في طريقها إلى الرعي , وفراداها تعبث في الحقول وتعيث فسادا في البيوت ، ولفرط غيظ ابن يسير من شاة منيع يمضي في قصيدته الهجائية الطويلة الطريفة يدعو عليها ويتمنى لها كل أسباب الشر والهلاك بسكين رهيفة الشفرة في يد حكيم الكف خفيفها :
فتناهت بين أضعاف المعى وتبوت بين أثناء الشغف
أو أن يراها :
شاغرا عرقوبها قد أعقبت بطنة من بعد إدمان الهيف
وغدا الصبية من جيرانها ليجروها إلى مأوى الجيف
فتراها بينهم مسحوبة تجرف الترب بجنب منحرف
فإذا صاروا إلى المأوى بها أعملوا الآجر فيها والخزف
ثم قالوا ذا جزاء للتي تأكل البستان منا والصحف
لا تلوموني , فلو أبصرت ذا كله فيها إذن لم أنتصف
وخصومة ابن يسير وشاة منيع متتابعة موصولة , لأن عبث هذه النعجة المتلافة لا يقف مع الشاعر عند حد . وابن يسير في كل ذلك محتشم التصرف مهذب الجوار , إنه لم يزد على أن هجا الشاة لعبثها بالبستان , ولكنها تتشجع , وينتقل ميدان نشاطها المدمر من البستان إلى الدار , فتهجم عليها وهو غائب فتأكل كتبه والأوراق التي دون فيها شعره . لقد أشار ابن يسير إلى شيء من ذلك ـ بلطف ـ في البيت قبل الأخير , ولكنه هذه المرة لفرط غيظه لا يجد بدا من التلميح الخفيف والإشارة إلى أصحاب النعجة بضمير الغائبين , إنهم يجيعونها فتنقض على أمتعة الجيران , وهو يطلب إليهم إن يبيعوها طالما أعوزهم العلف . إنه يقول ذلك في الأبيات طريفة تجمع بين نفثات مغيظة وانعكاسات ضاحكة :
قل لبغاة الآداب ما صنعت منها إليكم فلا تضيعوها
وضمنوها صحف الدفاتر بالــ ــحبر وحسن الخطوط أوعوها
فإن عجزتم ولم يكن علف تسيغه عندكم فبيعوها
هذا ولابن يسير هجاء في البشر اشتمل كثيرا من المعاني الفكهة التي ضمنها هجاءه الغنم , إنه ينحو إلى جانب الطرافة والسخرية الخفيفة غير المريرة مع تماسك في أسلوبه وبنائه الشعري , فمن ذلك أبيات كتبها لأحد الهاشميين كان بينهما مودة أعقبها ملال :
قد كنت منقبضا وأنت بسطتني حتى انبسطت إليك ثم قبضتني
أذكرتني خلق النفاق وكان لي خلقا فقد أحسنت إذ أذكرتني
لو دام ودك وانبسطت إلى امرىء في الود بعدك كنت أنت غررتني
فهلم نجتذب التذاكر بيننا ونعود بعد كأننا لم نفطن
3+4_الموضوعات الاجتماعية والثقافية:
لشاعرنا صروف من القول متميزة عن كثيرين ممن شاركوا في فنون الشعر , ذلك أنه يسجل علاقته بمجتمعه الذي حوله تسجيلا طريفا دقيقا , وهو أمر قلما نلحظه عند لقد أراد أن يستعير حمارا مكن أحد جيرانه يحمله إلى مكان يقضي فيه بعض أموره , ولكن جاره بخل عليه بالحمار ، فما كان من ابن يسير إلا إن ذهب إلى حيث أراد ماشيا ولكن هذه الحادثة تثير في خاطره شجنا فيعزي نفسه بأنه صاحب رجلين قويتين تبلغانه حاجاته البعيدة كأنهما – لما تثير انه من غبار – عاصفة أو إعصار ، ويظل شاعرنا الظريف يصف نفسه مستعملا رجليه وكأنه يصف جوادا أصيلا أو في أسوا الحالات حمارا نشطا ، فينشئ هذه الأبيات التي يوجهها إلى صديقة عمرو القصافي مخبرا وشاكيا :
إن كنت لا عير لي يوما يبلغني حاجي وأقضي عليه حق إخواني
وضن أهل العواري حين أسألهم من أهل ودي وخلصاني وجيراني
فإن رجلي عندي – لا عدمتهما رجلا أخي ثقة مذ كان جولاني
تبلغاني حاجاتي وإن بعدت وتدنياني مما ليس بالداني
كأن خلفي إذا ما جد جدهما إعصار عاصفة مما تثيران
رجلاي لم تألما نكبا كأنهما قطا وقدا وإدماجا مداكان
فالحمد لله يا عمرو الذي بهما عن العواري وعن ذا الناس أغناني
ويبلغ ابن يسير قمة من قمم المواقف الإنسانية حين يتعجب بعض القوم من نعال خلقة وسخة كان يلبسها فيكتب أبياتا بارعة يصف فيها نعاله هذه وصفا دقيقا رقيقا ، ويربط بين قدمها وبين نفسه بمعاني الود التي جمعته إليها ، ويعمد في أبياته كذلك إلى التهكم ، والى الفخر بإخائه ووفائه وعفافه ومنطقة وفعاله إن رأى غيره أن يفخر بالنعال فلنستعرض هذا الضرب الجديد الغريب من الفكر والشعر :
كم أرى من مستعجب من نعالي ورضائي منها بلبس البوالي
كل جرداء قد تحيفها الخصف بأقطارها بسرد النقال
لا تداني وليس تشبه في الخلقة إن أبرزت نعال الموالي
لا ولا عن تقادم العهد منها بليت لا ولا لكر الليالي
ولقد قلت حين أوثر ذا الود عليها بثروتي و بمالي
من يغالي من الرجال بنعل فسوائي إذا بهن يغالي
أو بغاهن للجمال فاني في سواهن زينتي وجمالي
في إخائي وفي وفائي ورأيي وعفافي ومنطقي وفعالي
ما وقاني الحفا وبلغني الحاجة منها ، فإنني لا أبالي
وابن يسير شاعر مثقف يحب الكتب ويهوى القراءة ، وكم فجعته النعجة العتيدة – نعجة البقال منيع في كتبه التي تشكل شيئا هاما في حياته ، إنها بالنسبة إليه ليست مجرد صفحات تحوي أخبارا ، ولكن الكتب في بيته مؤنسون وألاف وجلساء خير ، وعشراء معرفة أنها نفسها نظرة الشاعر المثقف العالم أبي عمرو العتابي ، بل إنها معانيه ، ولكنها صيغت بأسلوب آخر وروح أخرى – ولا باس في ذلك – وكم تمنينا لو أكثر الشعراء من القول في مثل هذا الغرض ولو تقاربت معانيهم . بقول محمد بن يسير في وصف الكتب:
هم مؤنسون وألاف غنيت بهم فليس لي في أنيس غيرهم أرب
لله من جلساء لا جليسهم ولا عشيرهم للسوء مرتقب
لا بادرات الأذى يخشى رفيقهم ولا يلاقيه منهم منطق ذرب
ابقوا لنا حكما تبقى منافعها أخرى الليالي على الأيام وانشعبوا
فأيما آدب منهم مددت يدي إليه فهو قريب من يدي كثب
إن شئت من محكم الآثار يرفعها إلى النبي ثقاب خيرة نجب
أو شئت من عرب علما بأولهم في الجاهلية أنبتني به العرب
أو شئت من سير الأملاك من عجم تنبي وتخبر كيف الرأي و الأدب
حتى كأني قد شاهدت عصرهم وقد مضت دونهم من دهرهم حقب
وتتولى مشاكل ابن يسير الثقافية بشكل أو بأخر ، لقد كان الشاعر يحتفظ معه بألواح من الأبنوس يكتب فيها ما يعن له من شعر أو غيره ، وكان بينه وبين قثم بن جعفر بن سليمان مودة وصداقة ، وكثيرا ما كان قثم يدعوه للشراب ، وقد أسلفنا القول إن ابن يسير لم يبت ليلة إلا وهو سكران ، وليس أهون من سرقة السكران ، فانتهز قثم مناسبة سكر ابن يسير وسرق منه ألواحه الأبنوسية الثمينة ، فلما اكتشف الشاعر ضياعها حزن عليها ورثاها تماما كما لو كان أنسانا عزيزا يشاد بشمائله ويرثي لفضائله . أنها بداية المرحلة الثقافية الشعرية فقد تلا ذلك بسنوات ثم بعقود من السنوات ثم بقرن أو أكثر وصف القلم والمحبرة والبركار والأصطرلاب ورثاء سكينة بري الأقلام وغير ذلك من ذكر أدوات الثقافة . إن ابن يسير واحد من الشعراء الرواد في هذا المجال فلنقرأ رثاءه الطريف لألواحه ((الفقيدة)) :
عين بكي بعبرة تسفاح وأقيمي مآتم الألواح
أوحشت حجزتي وردناي منها في بكوري وعند كل رواح
واذكريها إذا ذكرت بما قد كان فيها من مرفق وصلاح
آبنوس دهماء حالكة اللون لباب من اللطاف الملاح
ذات نفع خفيفة القدر والمحمل حلكوكة الذرا والنواحي
وسريع وجفوفها إن محاها عند ممل مستعجل القوم ماحي
هي كانت على علومي وإلا داب والفقه عدتي وسلاحي
كنت أغدو بها على طلب العلم إذا ما غدوت كل صباح
هي كانت غذاء زوري إذا زار وري النديم يوم اصطباحي
ويبدو أن هذه الألواح كانت عزيزة على قلب ابن يسير بحيث ظل ذاكرا لها حزينا على ضياعها ، لأنه رثاها أكثر من مرة ، ويفهم من شعره فيها أنها كانت مزدانة الصدف والأطر الجلدية . يقول شاعرنا مرة أخرى في ألواحه:
أبقت الألواح إذ أخذت حرقه في القلب تضطرم
زانها فصان من صدف واحمرار السير والقلم
وتولى أخذها قثم لا تولـى نفعها قثـم

5+6_الحكمة والزهد عند ابن يسير :
وينتهي المطاف بابن يسير كما انتهى بغيره من الشعراء من معاصريه باصطناع الحكمة أو باعتناقها مبدأ وسبيلا ، لقد انتهى إليها كل شعراء زمانه تقريبا ، وعاش في رحابها بداية ونهاية بعض منهم كالعتابي والخريمي ومحمود الوراق . أمت شرعرنا فمن الفريق الأول ، ذلك الفريق الذي أسرف على نفسه وعلى مجتمعه في مرحلة الشباب والهرم ولم يتوبوا إلا على أبواب الشيخوخة ، شيخوخة السن أو شيخوخة العافية ، بجانب أنساني عميق مؤثر . إن ابن يسير بدأ يعلن عن حبه للحياة بشكل جديد ، ليس لمعاقرة الكأس أو مصاحبة الغواني ولكن لعيش لابنته التي يحبها ويحنو عليها ويخشى عليها إذا مات ذل اليتيمة وقد جفاها ذوو رحمها ، انه يخشى على فلذة كبده فظاظة عم أو جفاء أخ ، وهو كلما تصورها تندبه سالت عبرته ممزوجة بدمه ، ومن ثم فهو يتمنى لها شيئا آخر في حياته حبالها وشفقة بها ، فماذا قال الشاعر الحكيم وماذا تمنى ؟
أنه يقول:
لولا أميمة لم أجزع من العدم ولم أجب في الليالي حندس الظلم
وزادني رغبة في العيش معرفتي ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم
أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
إذا تذكرت بنتي حين تندبني جرت لعبرة بنتي عبرتي بدم
تهوى بقائي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
ولا يلبث ابن يسير في ضوء تجارب الحياة أن ينطلق من عقال ذاتيته إلى ميدان الحياة الرحيب ، فيلفظ الحكمة لكل الناس ينتفعون بها ويرددونها نماذج تروى على ألسنتهم من بعده ، انه يقول:
تخطي النفوس مع العيان وقد تصيب مع المظنة
كم من مضيق في الفضاء ومخرج بين الأسنه
ولكنه إن بدا قدريا في البيتين السابقين فهو صاحب حكمة تجريبية عميقة ومبدأ أخلاقي صادق في حديثه عن صاحب السوء والتعريف به عندما يقول
وصاحب السوء كالداء العياء إذا ما ارفض في الخد يجري من هنا وهنا
يبدي ويخبر عن عوارء صاحبه وما يرى عنده من صالح دفنا
فان يكن ذا فكن عنه بمعزلة أو مات هذا فلا تشهد له خبنا
هذا ولابن يسير أبيات استقرت في خواطر وحوافظ كثير من الناس دون إن يعرف أكثر حفاظها من قائلها . إنها الأبيات الجيمية القافية التي تطرد اليأس وتحض على الصبر في علاج الأمور ومداومة العمل والسعي دون كلل أو ملل مع الاحتراز من الأيام ، فصفوها لا يدوم وكدرها ممزوج بصفوها . يقول الشاعر المجرب الحكيم :
ماذا يكلفك الروحات والدلجا البر طورا وطورا تركب اللججا
كم من فتى قصرت في الرزق خطوته ألفيته بسهام الرزق قد فلجا
لا تيأس وان طالت مطالبة إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
اخلق بذي الصبر إن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب إن يلجا
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقا عن غرة زلجا
ولا يغرنك صفو أنت شاربه فربما كان بالتكدير ممتزجا
لا ينتج الناس إلا من لقاحهم يبدو لقاح الفتى يوما إذا نتجا
ومن مقام الحكمة ينتقل محمد بن يسير إلى المرحلة التالية ، إنها مرحلة الزهد في الحياة وتذكر الموت واستحضاره ، انه يطرق معاني أبي العتاهية ولكن بصورة أعمق فكرة وأوقر تناولا ، وأجزل شعرا ، وذلك في قوله الرصين العميق :
لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون والقبور تزيد
هم جيرة الأحياء أما محلهم فدان ولكن اللقاء بعيد ثم ينتقل الشاعر إلى مرحلة أبعد في الزهد حين يستحضر الموت ويرى نفسه على سرير المنايا ماضيا في فكرته على درب أبناء زمانه ، ولكنه أكثر منهم إفصاحا عن إيمانه بالآخرة والثواب والعقاب.
عجبا لي ومن رضاي بحال أنا منها على شفا تغرير
عالما لا اشك أني إلى عدن إذا مت آو عذاب السعير
كلما مر بي على أهل ناد كنت حينا بهم كثير المرور
قيل من ذا على سرير المنايا؟ قيل هذا محمد بن يسير
ويطلب محمد بن يسير الرحمة من الله للناس ، ويخشى العذاب ويندم على غفلته ويسخر من طول المقام في الدنيا فالموت نهاية كل حي ، ويكرر الابتهال إلى الله طمعا في رحمته وذلك في قوله الذي نحس فيه صدق المناجاة
ويل لمن لم يرحم الله ومن تكون النار مثواه
واغفلتا في كل يوم مضى يذكرني الموت وأنساه
من طال في الدنيا به عمره وعاش فالموت قصاراه
كأنه قد قيل في مجلس قد كنت آتيه وأغشاه
محمد صار إلى ربه يرحمنا الله وإياه
تلك رحلة عمر محمد بن يسير : مجون وانحلال ، ثقافة ومعرفة ، ثم حكمة وتجربة ثم زهد وتوبة وابتهال . وإما رحلة فنه فهو شاعر موهوب جيد المعاني متمكن الصوغ وصادف دقيق صاحب فكاهة ، رائد في مدرسة الشعر الثقافي ، أوله نواسي ووسطه عتابي وآخره خريمي ، إن فيه من أبي نواس مجونه وخلاعته ورقة شعره ، ومن العتابي ثقافته وحبه للمعرفة وعشقه للكتب وإجلاله لها ، ومن الخريمي حكمته العميقة النابعة من تجاريب الحياة وأسلوبه الشعري المتمكن الجزل البناء الرصين التكوين ، وهو بعد ذلك . سجل أمين دقيق لثقافة أهل زمانه وطبيعة مجتمعهم .






16-ديك الجن
عبد السلام بن رغبان
/ 161- 235/ هـ
أ-حياته ونشأته :ولد وعاش ومات فيها , لم يبرحها إلا إلى المناطق المجاورة لها ولم يحاول أن يذهب إلى بغداد التي كانت قبلة الشعراء والأدباء ومركز العلم والثقافة والوجاهة والسياسة مثلما كان يفعل شعراء زمانه , وإنما أصر على البقاء في موطنه . بشدو بشعره المختل,ف الألوان والأشكال والطعوم حتى سافر شعره دونه إلى بغداد وغير بغداد , الأمر الذي جعل كبار شعراء بغداد يفدون إلى حمص ويطرقون باب بيته يكيلون له الثناء والإعجاب ويجزلون له التحايا والتقريظ على ما سوف نبين بعد قليلوتسمية عبد السلام ابن رغبان بديك الجن , هو أن عبد السلام ابن رغبان كان ذا عينين زرقاوين صافيتين صفاء عين الديك .

ب -شخصيته :
إن عبد السلام بن رغبان الملقب بديك الجن واحد من الشعراء الذين ميزتهم من غيرهم أحداث خاصة وقضايا بعينها , ذلك أن ديك الجن من شعراء الأمصار العباسية , فهو شامي من حمص , , كان ديك الجن ماجنا خليعا متلافا على معاشرة المجان ومخالطة أهل الخلاعة وكان له ابن عم يكنى بأي الطيب لا يتوانى عن وعظه وإسداء النصح إليه , فكان ديك الجن يقابل ذلك بالاستخفاف , وانتهى به الأمر إلى إنشاء قصيدة طويلة يجاهر فيها بالانحراف ويهجو ابن عمه هجاء مقذعا مطلعها :
مولاتنا يا غلام مبتكره فباكر الكأس بلا نظره
غدت على اللهو والجون على أن الفتاه الحيية الخفره
لحبها – لا عدمتها – حرق مطوية في الحشا ومنتشره
والقصيدة طويلة عاج فيها ديك الجن على هجاء ابن عمه هجاء حوى أسبابا من الفحش والقسوة والمرارة , وختمها- والخطاب موجه إلى ابن عمه- بقوله
سبحان من يمسك السماء على الأرض وفيها أخلاقك القذره
كل ذلك التهجم والقسوة سببها إرادة الخير للشاعر وزجره عن خلاعته ومجونه ودعوته إلى الحشمة والاستقامة .
ج-شذوذه:وكان ديك الجن في مضمار مجونه يشبب بفتى من حمص اسمه بكر , وأكثر من قول القصائد والمقطوعات غزلا بهم تشببا فيه.
د-حبه لآل البيت :ولكن الأمر الذي يبدو غريبا أن آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم , وله في مدحهم ورثاء حالهم والبكاء على الحسين قصائد كثيرة لعل أشهرها تلك التي يقول فيها :
يا عين لا للقضاء ولا الكتب بكا الرزايا سوى بكا الطرب
ه-شعوبيته :وديك الجن بالإضافة إلى ذلك شعوبي يحمل على العرب ويتحمس لغيرهم , بل إنه افتخر بعدم انتسابه إلى العرب وذلك في قوله :
إن كان عرفك مذخورا لذي سبب فاضمم يديك على حر أخي نسب
أو كنت وافقته يوما على نسب فاضمم يديك فاني لست بالعربي
إني امروء بازل في ذروتي شرف لقيصر ولكسرى محتدي وأبي
من خلال هذه الصيغة الهجومية كان ديك الجن يحمل على العرب ويهاجمهم ويفخر بالانتساب إلى غيرهم فإذا ما خفف من غلواء شعوبيته قال: مالهم فضل علينا , أسلمنا كما أسلموا , ومن قتل منهم رجلا منا قتل به .
وكان الشعراء الشعبيون يتخذون من الوقوف على الأطلال ذريعة للتهجم على العرب والتعويض بهم , وإن ديك الجن يعمد إلى الصنيعنفسهفي بعض قصائده , فمن ذلك قوله:
قالوا السلام عليك يا أطلال قلت السلام على المحيل محال
عاج الشقي مراد دمن البلى ومراد عيني قبة وحجال
لأغادين الراح وهي زلال ولأطرقن البيت غزال
ولأتركن حليلها وبقلبه حرق وحشد فؤاده بلبال
كما صنع أبونواس في أبياته:
عاج الشقي على دار يسائلها وعجت أسأل عن خمارة البلد
وديك الجن في بيته الثالث الذي يسترخص فيه حرمات البيوت إنما يناقض به الخلق العربي الحريص على العفة والفضيلة والحفاظ على الجارات الذي يتمثل في قول عنترة :
وأغض طرفي إن بدت لي جاري حتى بواري جارتي مأواها
وعلى النهج نفسه في كراهيته للعرب يقول ديك الجن في أبيات أخرى ساخرا من ظاهرة الوقوف على لأطلال:
نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى كهوى جديد أو كوصل مقبل
ما إن أحن إلى خراب مقفر درست معالمه كأن لم يؤهل
مقتي لمنزلي الذي استحدثته أما الذي ولى فليس بمنزلي
إن أبا تمام أخذ ا المعنى من ديك الجن وقلبه رأسا على عقب فقال :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل
لقد كانت الشعوبية وكراهية العرب منتشرة بين كثير من الشعراء في ظل الحكم العباسي الذي كان يدين بنشأته للفرس . ومن ثم كانت بغداد متخمة بجموع الشعراء الشعوبيين . فإذا ما نحينا السلوك الشخصي جانبا وجدنا ديك الجن من أنبغ شعراء الفترة العباسية وكان ندا لكبار شعراء زمانه مثل أبي نواس ودعبل الخزاعي , كما و-أستاذيته في الشعر:كان أستاذا لكبار شعراء العربية من أمثال أبي تمام والمتنبي والوأواء الدمشقي .
فأما أبو نواس فقد اجتاز بحمص وهو في طريقه من العراق إلى مصر لكي يمدح واليها الخصيب بن عبد الحميد . و فيها توجه إلى دار ديك الجن وطرق بابه واستأذن الدخول . ولكن جارية ديك الجن أنكرت وجود سيدها بالبيت حسبما أوصاها بذلك . فعرف أبو نواس بفراسته أن الرجل ينكر وجوده خشية أن يبدو قاصر أمامه وقال لها : قولي له اخرج فقد فتنت أهل العراق بقوتك :
موردة من كف ظبي كأنما تناولها من خده فأدارها
فلما سمع ديك الجن حديث أبي نواس للجارية خرج إليه وأحسن استقباله.
لقد جرى إعجاب أبي نواس بديك الجن حين كان هذا الأخير لم يتعد الثلاثين من عمره بعد وكان منطويا على نفسه في حمص لا يبرحها , ولكن جودة شعره انطلقت في الآفاق تدق أبواب أندية بغداد والبصرة وأنحاء أخرى من عالم ذاك الزمان .
ولدعبل الخزاعي قصة مشابهة مع الشاعر الحمصي فلقد وفد على حمص وقصد إلى دار ديك الجن يبغي لقاءه ولكن ديك الجن لم يرد أن يواجهه خوفا منه تماما مثلما فعل مع أبي نواس وهنا بقول دعبل : ماله يستر عنا وهو أشعر الجن والإنس أليس هو القائل :
بها غير معدول فداو خمارها وصل بعشيات الغبوق ابتكارها
ونل من عظم الوزر كل عظيمة إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها
حينئذ اطمأن ديك الجن وظهر لدعبل واعتذر له وأحسن استقباله .
هذا ولقد تثقف الشاعر العظيم أبو تمام على شعر ديك الجن , وكان يتردد عليه بين الحين والحين وكان ديك الجن يعطف عليه ويعطيه نسخا من قصائده يتثقف عليها وينمي شاعريته بقراءتها , وكان أبو تمام آنذاك حدث السن رطب العود.
ومن الطريف أن التلميذ قد فاق أستاذه شعرا وشهرة , ومن المؤسف كذلك أنه لم يعمر طويلا , فقد مات التلميذ في حياة أستاذه الذي حزن على وفاته ورثاه.
ز-حادثة قتله زوجته وشعره فيها :
لا يذكر ديك الجن إلا وتذكر معه حادثة رهيبة أثرت حادثة قتله لزوجته في حياته وجعلته يمنح التراث الشعري لونا جديد من فن الرثا المخلوط بالغيرة المتلفع بالندم المشوب بالدماء أما الحادثة التي نشير إليها المرتبطة بحياته وسيرته فهي أنه أحب فتاة نصرانية اسمها ورد ثم جعلها تعتنق الإسلام وتزوجها , وتصادف أن غاب ديك الجن عن بيته بعض الوقت فلما عاد سمع من أفواه الناس ما يسيء إلى سمعة زوجته وعفتها , فقتلها ولما أن أفاق من غضبته ندم على فعلته وأخذ يبكيها بكاء مرا تارة وتارة أخرى يخلط البكاء والرثاء بوجوب الثأر منها والانتقام لشرفه وعرضه . وهناك رواية أخرى تقول إن المقتولة هي جاريته دنيا التي اتهمها في غلامه
وصف .
وسواء صحت هذه الرواية أو تلك فقد وقعت الحادثة وكانت مصدر الهام ونفجع مدته أمدته بلون من الشعر يشتمل على الكثير من الأعذار والعواطف , ولكنه مشبع في كل حالاته بالدماء .
يقول ديك الجن مصورا قتله لزوجته غيرة عليها وبخلا بحبها على سواه:
يا طلعة طلع الحمام عليها وجنى لها ثمر الردى بيديها
رويت من الثرى ولطالما روى الهوى شفتي من شفتيها
مكنت سيفي في مجال خناقها ومدامعي تجري على خديها
فوحق نعليها وما وطىء الحصى شيء أعز علي من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن أبكي إذا سقط الغبار عليها
لكن بخلت على سواي بحبها وأنفت من نظر الغلام إليها
وفي أبيات أخرى الجن يذهب الشاعر مذهب الندم ويحاول تبرئة ساحة نفسه حيال فعلته ، ويظهر الحزن والبكاء والأسى ولكن أساه ليس على ما فعل بل على ما فعلت هي ، وفي ذلك يصدر عن هذه الأبيات:
ليتني لم أكن لعطفك نلت و إلى ذلك الوصال وصلت
فالذي مني اشتملت عليه ألعار ما قد عليه اشتملـت
قال ذو الجهل قد حلمت ولا أعلم أني حلمت حتى جهلت
لائم لي بجهلة ولماذا أنا وحدي أحببت ثم قتلت
سوف آسى طول الحياة وأبكيك على ما فعلت لا ما فعلت
ويظل ديك الجن سادرا في خضم غضبه ويثير في خواطره الإحساس بالتمرد على هوى الغواني ويرميهن بالكذب في عواطفهن والنفاق في مشاعرهن ، ثم ينعطف إلى زوجة القتيل مصدرا حكمه عليها بالقتل لخيانتها قائلا :
لك نفس مواتيه والمنايـا معاديـة
أيها القلب لا تعد لهوى البيض ثانية
ليس برق يكون أخلب من برق غانية
خنت سري ولم أخنك فموتي علانية
غير أن ديك الجن لا يلب ثان ينهار أسى وينفطر حزنا على زوجته القتيلة رغم خيانتها له ، فتزدحم في خاطره شحنات كاسحة من العواطف والذكريات فيفرغها جميعا في هذه الأبيات الرقيقة الحزينة الباكية :
أشفقت أن يرد الزمان بغدره أوأبتلى بعد الوصال بهجره
قمر أنا استخرجته من دجنه لبليتي وجلوتـه من خدره
فقتلته وله علي كرامة ملء الحشى وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميتا كأحسن نائم والحزن يسفح عبرتي في نحره
لو كان يدري الميت ماذا بعده بالحي حل بكى له في قبره
غصص تكاد تفيض منها نفسه وتكاد تخرج قلبه من صدره
نقول إن شحنات من العواطف والذكريات ازدحمت في خاطر ديك الجن فبكى زوجته على رغم خيانتها هذا البكاء الذي بدا صادقا ، ذلك أننا لو عدنا بعلاقتهما إلى الوراء قليلا واستعرضنا ما قاله فيها من غزل لوقعت أعيننا على بدرة من أبيات الحب وصورة من صور الجمال عذبة خلابة رسمها الشاعر المحب في عناية وتأنق وافتنان قال ديك الجن في ((ورد)) التي صارت له زوجا ثم ضحية وشاية على بعض الروايات :
انظر إلى شمس القصور وبدرها وإلى خزاماها وبهجة زهرها
لم تبل عينك أبيضا في أسود جمع الجمال كوجهها في شعرها
وردية الوجنات يختبر اسمها من ريقها من لا يحيط بخبرها
وتمايلت فضحكت من أردافها عجبا ولكني بكيت لخصرها
تسقيك كأس مدامة من كفها وردية ومدامة من ثغرها
لقد اقترف الشاعر جريمة قتل من أحب حبا شديدا وبالتالي فقد أحسن بمضاعفات الوزر الذي ارتكبه ، ثم أراد إن يهرب من هذا الوزر وما يستتبعه من هواجس أقضت مضجعه وبلبلت خواطره ، فكان عليه لكي يهرب من واقعه الأليم إن يقنع نفسه بشرعية ما اقترف وصواب ما ارتكب ، ومن ثم فقد اندفع يقول شعرا يحمله هذه المعاني ، ولكن كوامن إحساسه بالحسرة والندم كانت تفرض واقعها عليه فتغلبه على أمره ، فكان نتاج أحاسيسه هذا الشعر الغريب الفريد الذي جمع من الرقة نهايتها ومن العاطفة أعمقها ومن الأحاسيس ألوانا متنافرة متعاركة متداخلة متشاجرة ، ولكن تمكن الشاعر القاتل المحب من فنه وإمساكه بعنانه جعله يسوقه في هذا المضمار المستقيم في لون من التجانس إن رفضه العقل والمنطق قبله الذوق والإحساس .
ح-صنعته : يعد ديك الجن الحمصي شاعرا مجيدا متمكنا ممسكا بأسباب الإتقان غير بعيد عن التطور إن لم يكن رائدا فيه وبالتالي فهو مقلد حينا ، مجدد أحيانا أخرى ،
1-التقليد عنده : فمن شعره الذي قلد فيه سابقه من الشعراء المحبين الماديين قوله متابعا نهج مدرسة عمر بن أبي ربيعة :
و معدولة مهما أمالت إزارها فدعص وأما قدها فقضيب
لها القمر الساري شقيق وإنها لتطلع أحيانا له فيغيب
أقول لها والليل مرخ سدوله وغصن الهوى غض الشباب رطيب
ونحن به فردان في ثني مئزر بك العيش يا زين النساء يطيب
لانت المنى يا زين كل مليحة وأنت الهوى أدعى له فأجيب
ليس من شك في أن هذه الأبيات رقيقة النسج عذبة الإيقاع ، ولكنها شبيهة بالكثير من شعر المحبين السابقين زمانا على ديك الجن ممن كانت حياتهم إلى البداوة أقرب منها إلى الحضارة . ومثلها بل أكثر بداوة منها قوله :
ولي كبد حرى ونفس كأنها بكف عدو ما يريد سراحها
كأن على قلبي قطاة تذكرت على ظمإ وردا فهزت جناحها
2-التجديدعنده :غير أن نصيب ديك الجن من الجديد أكبر وسهمه في التجديد أوفر ، لقد مر بنا في صدر الحديث عن الشاعر قال أبو نواس للجارية حين أنكرت وجود سيدها ديك الجن في البيت ،قوله لهأ فقد فتنت أهل العراق بقولك :
موردة من كـف ظبي كأنـما تناولها مـن خـده فـأدارها
وهو بيت من مقطوعة يقول فيها :
بها غير معدول ، فداو خمارها وصل بعشيات الغبوق ابتكارها
وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغر ولا تسق إلا خمرها وعقارها
فقام ، تكاد الكأس تحرق كفه من الشمس أو من وجنتيه استعارها
موردة من كف ظبي كأنما تناولها من خده فأدارها
ظللنا بأيدينا نتعتع روحها وتأخذ من أقدامنا الراح ثارها
لا شك أنابا نواس كان صادقا الصدق كله حين أبدى إعجابه وترجم عن إعجابه مواطنه العراقيين بهذه الأبيات التي جمعت من أسباب الاتساق والخيال والصورة ، ومن براعة الصوغ ورقة الإيقاع ما يجعلها تحتل مكانة مرموقة بين صور التجديد وأساليبه .
ومن الصيغ الجديدة التي قدم لها ديك الجن نماذج عدلت فيه رشاقة الأسلوب وانتفاحه طرافه المعاني وأعماقها قوله متغزلا :
وغرير بين الدلال وبين الملك فارقته على رغم أنفي
لم أكن أعلم الزمان بحبيه فيجني فيه علي بصرف
صنت عن أكثري هواه فما يعلم ما بي إلا فؤادي وطرفي
إنها صناعة في القول مترفة ، وتأنق في المعاني مرتب ، العفوية بعيده عنها ، ولكن الذوق يقبلها ويعجب بها ولا يرفضها .
ومع ذلك فإن ديك الجن لا يفتأ ممسكا بزمام فحولة القول وجلال المعنى في مختلف أبواب الشعر ، وإذا كان القول في الرثاء محكا صادقا لفحولة الشعراء لما يتطلبه الموقف من جلال المعاني ودقتها ، وصدق الصور وحرارة المشاعر وتوليد الحكم و جزالة الأسلوب فإن ديك الجن لا يقصر في هذا المجال ،بل إنه يجيد ويبرز ويتفوق
إن لديك الجن مراثي كثيرة لعل من أشهرها قصيدته الطويلتين ، الأولى كانت عزاء لجعفر بن علي الهاشمي في فقد ولده ، والثانية في رثاء جعفر نفسه لما مات ومطلع مرثيته لجعفر :
على هذه كانت تدور النوائب وفي كل جمع للذهاب مذاهب
وفيها يقول مصطنعا الحكمة التي تمتزج عادة مع مواقف الرثاء :
تزلنا على حكم الزمان وأمره وهل يقبل النصف الألد المشاغب ؟
وتضحك سن المرء والقلب موجع ويرضى الفتى عن دهره وهو عاتب
ألا أيها الركبان والرد واجب قفوا حدثونا ما تقول النوادب
إلى أي فتيان الندى قصد الردى وأيهم نابت حماه النوائب
هذا ولم ينس الشاعر أن يعمد إلى صنعة خفيفة كانت من حسن العرض وخفة النسج بحيث لم تفرض ثقلها على السمع وبالتالي لم تفسد جلال موقف الرثاء ومعانيه .
فيا لأبي العباس كم رد راغب لفقدك ملهوفا وكم جب غارب
ويا لأبي العباس إن مناكبا تنوء بما قد حملتها النواكب
فيا قبره جد كل قبر بجوده ففيك سماء ثرة وسحائب
فإنك لو تري بما فيك من علا علوت وباتت في ذراك الكواكب
أخا كنت ابكيه دما وهو نائم حذارا وتعمى مقلتي وهو غائب
فمات ولا صبري على الأجر واقف ولا أنا في عمر إلى الله راغب
ويغمس الشاعر نفسه في تيار الحزن غمسا عميقا في مناجاة نفسية نحس فيها الصدق والعمق وذلك في قوله :
أأسعى لأحظى فيك بالأجر ؟ أنه لسعي إذن مني لدى الله خائب
وما الإثم إلا الصبر عنك وإنما عواقب حمد إن تذم العواقب
يقولون : مقدار على المرء واجب فقلت : وإعوال على المرء واجب
هو القلب لما حم يوم ابن أمه وهى جانب منه واسقم جانب
ترشفت أيامي وهن كوالح عليك وغالبت الردى وهو غالب
وعندما انتقل الشاعر إلى ذكر شمائل المرثي ومناقبه فإن ديك الجن يصورها حزين النفس عفوي العطاء ، لا تعسف في اقتناص معنى ولا تعثر في اصطياد خاطرة :
فتى كان مثل السيف من حيث جئته لنائبه نابتك فهو مضارب
فتى همه حمد على الدهر رابح وإن غاب عنه ماله فهو عازب
شمائل إن يشهد فهن مشاهد عظام وان يرحل فهن كتائب
بكاك أخ لم تحوه بقرابة بلى إن إخوان الصفاء أقارب
وأظلمت الدنيا التي كنت جارها كأنك للدنيا أخ ومناسب
يبرد نيران المصائب أنني أرى زمنا لم تبق فيه مصائب
وكثيرا ما كان ديك الجن يعمد إلى الصنعة اللفظية والصورة البيانية في مقام الرثاء حتى يستجلب أعجاب من يهتمون بالأشكال دون الجواهر وهم كثيرون في كل زمان ومكان ولكنه في اهتمامه بالشكل الذي يقدمه لبعض الناس لا يتنازل عن الاهتمام بالجوهر الذي يرجو به الخاصة ويرضى به نفسه ، فمن ذلك قوله :
سقى الغيث أرضا ضمنتك وساحة لقبرك فيه الغيث والليث والبدر
وما هي أهل إذ أصابتك بالبلى لسقيا ولكن من حوى ذلك القبر
إن ديك الجن شاعر فحل ، وإذا كان اعتمد على معاني السابقين فاقتسبها وحسنها ، فإن غيره من كبار الشعراء اللاحقين قد اعتمدوا عليه واقتبسوا معانيه طورا وصيغه تارة أخرى ، وفي أحيان كثيرة اقتبسوا الصيغة والمعنى جميعا ، وكان في مقدمة هؤلاء المقتبسين أبو الطيب المتنبي الذي نحس بالكثير من معاني الحكمة عند ديك الجن صارخة في شعره ، وهذا البيت الأخير الذي اختتم به ديك الجن مرثيته البائية في جعفر الهاشمي ليس إلا الأصل لبيتي المتنبي المشهورين :
رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال
وهناك البيت المشهور الذي يردده علماء الصناعة لاحتوائه خمسة تشبيهات دفعة واحدة الذي قاله الوأواء الدمشقي :
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت وردا وعضت على العناب بالبرد
إن بعض معانيه مأخوذة من بيت ديك الجن :
وحاذرت أعين الواشين فانصرفت تعض من غيظها العناب بالبرد
ومن مظاهر الصنعة والتجديد : مظهران اثنان :
1- مظهر الشكل والصيغة:
حيث يعمد إلى موسقة بعض أبياته بضروب من الجرس وألوان من الإيقاع ، وربما كان الترصيع أقرب هذه الألوان إلى ذوق ديك الجن ، مثال قوله:
حر الإهاب وسيمه ، بر الإياب كريمه ، محض النصاب صميما
أو قوله :
إن العلا شيمي ، والبأس من نقمي والمجد خلط دمي ، والصدق حشو فمي
ويعمد ديك الجن إلى التجنيس الذي هو بدوره ظاهره موسيقية شعرية ، وهو في تجنيسه وطباقه صانع بارع ، يسوق إليك زخرفته في غير تعسف أو إسفاف بل في ثوب من الكلمات الناعمة المترفة الجرس الرطيب والإيقاع المنغم مثل قوله :
نبهته والندامى طال مكثهم فقلت قم واكفنا الهم الذي وكفا
واصرف بصرفك وجه الهم يومك ذا حتى ترى نائما منهم ومنصرفا
و يعمد ديك الجن أحيانا إلى خلق الصيغة الجديدة المصنوعة وربطها إلى معنى جديد طريف فيه صورة وحركة كقوله :
ودعتها لفراق فاشتكت كبدي إذ شبكت يدها من لوعة بيدي
وحاذرت أعين الواشين فانصرفت تعض من غيظها العناب بالبرد
فكان أول عهد العين – يوم نأت بالدمع ، آخر عهد القلب بالجلد
وهذه ليست عفوية أو طبع ، وإنما هو ترتيب لفظ بلفظ وأتباع حركة بحركة ، الأمر الذي بدا أول العهد به مقبولا مرحبا به على أنه شيء جديد ، فلما انساق الشعراء في تياره و ألحوا على الإكثار منه أصبح شيئا تمجه النفس ويستثقله الذوق لضياع معاني الشعر السامية الرفيعة في خضم زحمة الألفاظ ودهاليز الأساليب .
قولـي لطيفك ينثني عن مضجعي عنـد المنـام
عند الرقاد ، عند الهجوع عند الهجود ، عند الوسن
فعسى أنام وتنطفي نـار تأجج في العظام
جسد تقلبـه الأكف على فراش من سقـام
من قتاد ، من دموع من وقود ، ومن حزن
أمـا أنا فكمـا علمت فهل لوصلـك من دوام
من معاد ، من رجوع من وجود ، من ثمـن
إن ديك الجن قد ذهل به التجديد في الشكل مذهبا بعيدا فجعله ينفلت من وزن البيت التقليدي إلى هذا الشكل الذي مر بنا ، والذي نعلله بسابق قولنا من إن معاني الوجد والحسرة والشكوى والحزن والأسى والندم تزاحمت في خواطر الشاعر فلم يكن لها منصرف عنه إلا من خلال هذه الصيغة الجديدة التي شكلت مرحلة من مراحل نشأة الموشحات العربية وهي في طريقها إلى الأرض الأندلسية .
2- الصورة والمحتوى :أسس ديك الجن الحمصي مدرسة شعرية في ابتكار الصور الشعرية،وإن الذي يدرس أبيات ديك الجن في وصف الديك يستطيع إن يرد مدرسة الصورة الشعرية التي اشتهر بها كل من ابن الرومي وابن المعتز إلى أستاذها الأول ديك الجن عبد السلام بن رغبان .
لقد رسم ديك الجن للديك صورة حقيقة ذات ألوان زاهية ، هي نفسها ألوان الديك الفاقعة الموزعة على عرفة وجانبي رأسه وعنقه وريش جناحيه وبقية جسمه .
وجعل للصورة خلفية بارعة من كواكب الليل الغارية التي كانت ترتعي الظلام , ذلك الظلام الذي انقشع بمطلع ضياء الفجر وهي لوحة متحركة تنم بدقة عن حركته حين يهم " بالأذان " بل هي صورة ناطقة تضمنت غناء وحوت طربا لعل من الخير أن نشهد الصور المتحركة الناطقة كما رسمها فنانها . يقول ديك الجن "
أما ترى راهب الأشجار قد هتفا وحث تغريده لما علا الشعفا
أوفي بصيغ أبي قابوس مفرقه كدرة التاج لما أن علا شرفا
مشنف بعقيق فوق مذبحه هل كنت في غير أذن تعرف الشنفا
لما أراحت رعاة الليل عازبة من الكواكب كانت ترتعي السدفا
هز اللواء على ما كان من سنة فارتج , ثم علا , واهتز , ثم هفا
ثم استمر ,كما غنى على طرب مريح شرب على تغريده وضفا
إذا استهل استهلت فوقه خصل كالحي صيح صباحا فيه فاختلفا
إن ديك الجن رائد في رسم الصورة الشعرية الملونة المتحركة التي رسمها للديك في أبياته هذه البالغة حد الإتقان بحيث أصبحت مثالا يحتذى عند الشعراء الذين جاءوا من بعده سواء في ذلك شعراء المشرق أو شعراء الأندلس
ولديك الجن صورة أخرى فكهة رسمها لديك آخر , ولكنه ديك عجوز قدم طعاما في مأدبة أقامها عمير بن جعفر , كان ديك الجن مدعوا إليها , ولعل الحوار الذي أجراه الديك الشاعر الآكل مع الديك المذبوح المطهو المأمول لمن أطرف أنواع الحوار وأمتعه فيما لو وجد حوار مماثل من هذا القبيل . يقول ديك الجن في أبياته تلك الفكهة الساخرة اللطيفة :
دعانا أبو عمرو عمير بن جعفر على لحم ديك دعوة بعد موعد
فقدم ديكا عد دهرا ذملقا مؤنس أبيات مؤذن مسجد
يحدثنا عن قوم هود وصالح وأغرب ما لاقاه عمرو بن مرثد
وقال : لقد سبحت دهرا مهللا وأسهرت بالتأذين أعين هجد
أيذبح بين المسلمين مؤذن مقيم على دين النبي محمد
فقلت له : ياديك ,إنك صادق وإنك , فيما قلت , غير مفند
إن شاعريته كانت من الخصوبة – فنا وانتاجا وتنوعا ومحافظة وتجديدا- بحيث فرضت فته على معاصريه من ساكني عاصمة الشعر بغداد , ثم صارت مثلا يحتذى وأنموذجا يقتفي عند كبار الشعراء العرب الذين جاءوا من بعده





17-أبو يعقوب الخريمي
( 000- حوالي- 240 هـ)
أ-حياته ونشأته
هو اسحاق بن حسان بن قوهي وكنيته أبو يعقوب , وهو من مواليد الاقاليم وليس من أهل بغداد , فهو جزري – أي من جزيرة ابن عمر من نواحي المواصل – ولكنه نزل حين نما عوده الى بغداد عاصمة الدولة , ومحط رحال العلماء والشعراء والثقفين , ومقر رجال السياسة والقواد والوزراء الذين كان الشعراء يرتبطون بهم مدحا ومنادمة فيجزلون لهم العطاء وللمدينة دائما بريقها الذي يستهوي عامة الناس ويغريهم بالرحلة اليها والاستقرار فيها فما بالك بالشعراء والادباء .
ب-لقبه :وأما لقب الخريمي فقد جاءه من مدحه عثمان بن عمارة بن خريم الغطفاني وكان قائدا جليلا فنسب الشاعر إلى خريم وبقيت هذه النسبة مصاحبة له في حياته وبعد مماته , وكان الخريمي أعور ولذلك فكثيرا ما يرد اسمه في كتب الأدب والتراجم تحت اسم أبي يعقوب الأعور , وفي أحيان أخرى إسحاق بن حسان الأعور وهكذا ارتبطت به هذه العاهة في كثير من المراجع .
ج-شخصيته :وعلى الرغم من أن الخريمي قد مدح عثمان بن عمارة ومحمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة وغيرهم فان مدائحه – على جمالها ورونقها - لم تكن أحسن شعره وإنما للرجل شعر مفرط الرقة بالغ الرواء في الحكمة والأخلاق ومعنى الصداقة والوداد والفخر بالمعاني البكريمة فضلا عن بكائه بغداد ورثائه أباها إبان الفتنة التي أخذت بخناقها أيام حرب الأخوين المأمون والأمين سنة 196هـ وما بعدها هذا فضلا عن شعره الإنساني الرفيع في البكاء على عينيه حينما أصيب بالعمى.ولم يعرف عن الخريمي انحراف عن الجادة ولا انفلات من القيم الخلقية بل كان متألها متدينا. فإن النماذج الشعرية التي قالها تعلن عن مذهب الشاعر وفلسفته وتبين عن مقدرة نادرة في اقتناص المعاني الكريمة وصوغها .
أنه يمثل إحدى نقاط الارتكاز الشعري التي منها انطلق إلى مدارس فنية ومذاهب أدبية ،
د-شعوبيته :لقد اتهم الخريمي بالشعوبية ، وله أبيات يفخر فيها بفارسيته ، ربما كان الدافع إلى قولها دفاع عما تصوره استعلاء عليه فيها
فإن تفخري يا جمل أو تتجملي فلا فخر إلا فوقه الدين والعقل
أرى الناس شرعا في الحياة ولا يرى لقبر على قبر علاء ولا فضل
ه- ديباجته :يمثل الخريمي ركيزة الديباجة الشعرية المشرقة مع الأسلوب الناعم الأخاذ ومحافظة على عمود الشعر وابتعاد عن الإيغال في الصنعة وتجنب للتعسف في نحت المعاني ورسم الصور ، ومن هنا يمكن إن يكون احد أساتذة البحتري من الناحية المذهبية الفنية ، وليس من الناحية التعليمية ، فأستاذه في تلك الناحية هو أبو تمام على ما سوف يستبين لنا فيما يستقبل من حديث بعد حين .
و-صنعته:ولم يكن الخريمي مجرد شاعر وحسب وإنما كان أديبا بليغا ناقدا ، وله في ذلك أقوال بالغة حد الدقة ، والجاحظ على سمو مرتبته في فنون القول جعل الخريمي واحدا من مصادره روى عنه ونصيب منه واحدا من نجوم كتابه النفيس ((البيان والتبيين)) فهو يرصع صفحات كتابه هذا بين الحين والحين برأي للخريمي أو ببيت أو أكثر من شعره المشرق العذب الرقيق.
لقد كان النقاد ومحبو الشعر يقولون للخريمي متسائلين : ما بال شعرك لا يسمعه احد إلا استحسنه وقبلته طبيعته !! فكان يجيب : لأني أجاذب الكلام إلى إن يساهلني عفوا ، فإذا
سمعه إنسان سهل عليه استحسانه. وبذلك يكون شاعرنا قد أفصح بلسان القول فضلا عن مثال الشعر عن المدرسة التي ينتمي إليها ويؤمن بها مسلكا فنيا ومذهبا أدبيا ، وهي مدرسة العفوية والطبيعة والصفاء والابتعاد عن افتعال المعاني ونحت الأساليب
إن الشريف المرتضى يعجب بعفوية هذه الأبيات ويتمثل بها للمعنى الأصيل الذي صب في ثوب من الألفاظ رقيق وصيغ في نهج من الأسلوب مطبوع :
رايتك يـا زيد زيـد الندى وزيد الفخار وزيد الكرم
تزيد على نائبات الخطوب بذلا وفي سابغات النعم
كذا الخمر والذهب المعدني يجود هذا وذاك القدم
ويتألق الخريمي تألقا وضاء في بعض معاني الرثاء حين يقول :
بقية أقمار من العز لـو خبت لظلت معد في الدجـى تتسكـع
إذا قمر منهـا تغور أو خبا بدا قمر من جانب الأفق يلمع
إن أبا تمام لا بد أن يكون قد قرأ هذين البيتين قبل إنشاء قصيدته – كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر – عند رثائه محمد بن حميد فاستعان بمعناهما في قوله :
كأن بني نبهان يوم وفاته نجوم سماء خر من بيتها البدر
فيعلقأ بن عبيد بن ناصح على بيت أبي تمام متسائلا : أردت أن تصف حسن حالهم بعده أم سوء حالهم ؟ فيجيب : لا والله إلا سوء حالهم لان قمرهم قد ذهب ، فقال ابن ناصح : والله ما تكون الكواكب أحسن ما تكون إلا إذا لم يكن معها قمر !! ألا قلت كما قال أبو يعقوب إسحاق الخريمي : بقية أقمار .... (البيتين )
فأبو تمام أراد أن يمدح محمد بن حميد فهجاه لا أهله كانوا خاملين فلما مات أضاءوا بموته إنها وجهة نظر على كل حال ، على أن الفرق بين الرجلين وبين المعنيين هو الفرق بين مدرسة صفاء الديباجة وعفوية المعاني ، وبين مدرسة صناعة الأسلوب ونحت المعاني . الحق أن الخريمي نشأ مكتملا أدوات الشعر وأسبابه ، فهو مثقف ثقافة واسعة ، غير أن هذه الثقافة لم تفسد عليه غنائية الشعر وإيقاعه وبساطته منذ إن قال الشعر لأول مرة ، ا ناول شعر للخريمي هو قوله :
بقلبي سقام لست أحسن وصفه على أنه ما كان فهو شديد
تمر به الأيام تسحب ذيلها فتبلى به الأيام وهو جديد
بهذه الرقة المتناهية والاكتمال الفني بدأ الخريمي يقول الشعر .
الخريمي واحد من أعذب شعراء المرحلة العباسية قولا , وأرقهم طبعا , وأقربهم الى سماحة الشعر ويسره وعفويته , مع تمكن في الانشاء ووعي للمعاني وصفاء في الاسلوب , فكأن القوافي ملك يمينه يطلبها فتطيعه , والحكمة طوع خاطره يستدعيها فتلبيه .فهوشاعر المطبوع متدفق ، ففضلا عن جودة شعره ورقته وأصالته فإن كبار النقاد القدامي الذين نحترمهم لم يتوانوا عن الاشادة به والثناء عليه ,فقد كان كان شاعرا مفلقا مطبوعا مقتدرا على الشعر، أشعر المولدين , وإن شاعرا هذا شأنه وتلك موهبته جدير بكل اهتمام ودراسة ومتابعة .إنه واحد من ألمع وأقدر رواد مدرسة الديباجة والجزالة والسلاسة والسهول والإشراق التي أصبح البحتري فيما بعد رئيسها وعنوانها.

ز-أغراض شعره :
1-حكمتة
إن الخريمي كان متدينا مؤمن ، والتدين إذا ما صاحبته سماحة وسعة أفق انبثق من صاحبه عادة راجح القول ونفيس الفكر ، وليس القول راجحا والفكر نفيسا إلا الحكمة بعينها ، وهكذا كان حال الخريمي . فقد كانت حكمة أصيلة غير مصنوعة لأنها صورة نفسه وفيض مشاعره وحصاد ثقافته وثمرة تجاربه .. لقد خبر الحياة حلوها ومرها ، وعرف الناس خيارهم وأشرارهم ، وحلل أخلاقهم ودرس طباعهم ، فرسم لهم هذه الصورة الحكيمة :
الناس أخلاقهم شتى وإن جبلوا على تشابـه أرواح وأجساد
للخير والشر أهل وكلوا بهما كل له من دواعي نفسه هاد
منهم خليل صفاء ذو محافظة أرسى الوفاء أواخيه بأوتاد
ومشعر الغدر محني أضالعه على سريره غمر غلها باد
مشاكس خدع جم غوائله يبدي الصفاء ويخفي ضربه الهادي
يأتيك بالبغي في أهل الصفاء ولا ينفـك يسعى بإصلاح لإفساد
وإذا كان الخريمي قد اصطنع الحكمة في أبياته السابقة في سياق دراسة نفسية لأخلاق الناس وتحليل لسلوكهم ، فإنه في مقام آخر يسوقها في مقام الفخر من خلال أسلوبه العذب الذي جعل الناس يسائلونه عن السر الذي يكمن وراء استحسان سامعه له ،
أسر خليلي شاهدا وأبره وأحفظه بالغيب حين يغيب
وشاعرنا لا يقدم دستوره الأخلاقي ورأيه في الصداقة والصديق من خلال إبدائها مرتبطة بشخصه وحده ، ولكنه يعالج هذه القيم من خلال وصف صديقه الذي يجتمع فيه كل صفات الصديق وكل معاني الصداقة . إن الخريمي يسجل كل هذه القيم في قصيدة قالها متشوقا إلى الحسن بن التختاخ الذي كان قد رحل إلى مصر وفيها يقول :
وإني لسهل الوجه للمبتغي الندى وإن فنائي للقرى لرحيب
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
وإني لتصفو للخليل سريرتي وقد جعلت أشياء منه تريب
أعاتبه مزحا وأعرض بالتي لها بين أثناء الضلوع دبيب
أخاف لجاجات العتاب بصاحبي وللجهل من قلب الحكيم نصيب
ليحيى دفين من مودة بيننا فيخلف ظن أو يثوب غريب
فإن فاء لم أعد عليه ذنوبه وهل بعد فيئات الرجال ذنوب ؟
وإن لج في هجري صفحت تكرما لعل الحجا بعد الغروب يثوب
ويدلف الخريمي بنا في مسيرة حكمته إلى الحياة الخاصة بين الزوجين ويعالج موضوع الغيرة علاجا أخلاقيا باسطا رأيه على طرفي الغيرة – الرجل والمرأة – ولعله أخذ جانب المرأة حين طلب من الرجل إلا يلح في الاتهام وأن يحفظ عرضه هو أولا ويصون دينه ، وفي ذلك يقول شاعرنا المجرب الحكيم :
ما أحسن الغيرة في حينها وأقبح الغيرة في كل حين
من لم يزل متهما عرسه مناصبا فيها لريب الظنون
أوشك إن يغريها بالذي يخاف أن يبرزها للعيون
حسبك من تحصينها وضعها منك إلى عرض صحيح ودين
لا تطلع منك على ريبة فيتبع المقرون حبل القرين
و لم معاني الخريمي من الحكمة التي يسوقها ناغمة الأسباب ، رخية الجناب ، حتى في حالة معالجته للشائع الجاري من الأمور، لقد كثر القول في الشيب وفوات الشباب وافتقاد أسباب اللهو ومقوماته ،
باحت ببلواه جفونه وجرت بأدمعه شئونه
لما رأى شيبا علاه ولم يحن في الغد حينه
فعلا على فقد الشباب وفقد من يهوى أنينه
ما كان أنجح سعيه وشبابه فيه معينه
واللهو يحسن بالفتى ما لم يكن شيب يشينه
وللخريمي قصيدة رائية في الفخر تضم البيت المشهور :
ولست بنظار إلى جانب الغنى إذا كانت العلياء في جانب الفقر
ولعل استهلالها يعتبر بدوره من أرق النسيب وأكثره تماسكا ، وليس ببعيد أن يكون أبو فراس قد انشأ رائيته المشهورة على نهج قصيدة الخريمي هذه ، ففيهما الكثير من التشابه وبخاصة وحدة البحر والقافية واتفاق المعاني وإن اختلف الروي ،والقصيدة من الشعر الجيد المعجب روائعه ومطلعها
ثقي بجميل الصبر مني على الدهر ولا تثقي بالصبر مني على الهجر
أصابت فؤادي بعد خمسين حجة عيون الظباء العفر بالبلد القفر
وإذا كان الخريمي قد ذكر ((الظباء العفر في البلد القفر )) في أبياته السابقة مرققا شعره بلمسات بدوية عارضة ، فإنه في مناسبات أخرى وفي نفس مجال القول يأتي بالصورة البدوية الأصيلة التي تطرب وتعجب على الرغم من بداوتها الواضحة كقوله
وخلجة ظن يسبق الطرف حزمها تشيف على غنم وتمكن من ذحل
صدعت بها والقوم فوضى كأنهم بكارة مرباع تبصبص للفحل
فالصورة ممعنة في البداوة ولكن منطق القول ممعن في الإعلان عن قائل مثقف حضري متمرس ، وتنسرب أسباب الحكمة من خاطر الخريمي فتنسحب على كثير من موضوعات شعره ، حتى النوال والعطاء يخضعهما شاعرنا لمعايير حكمته ويصبغهما بصيغتها . وهل هناك من لا يعجب بهذا القول ويطرب له :
ودون الندى في كل قلب ثنية لها مصعد حزن ومنحدر سهل
وود الفتى في كل نيل ينيله إذا ما انقضى لو أن نائله جزل
ومجمل القول في حكمة الخريمي أنها ذات آفاق رحبة وأعماق بعيدة ، وأنها قدمت في قوالب من الشعر المشرق السهل المأخذ العذب المورد ، ولعله يعمد إلى الصناعة اللفظية كما هو الحال في البيتين الأخيرين ، ولكن في نطاق البساطة والبعد عن أي تكلف يشوب شعره .


2-رثاؤه :مثل الرثاء عند الخريمي منحيين اثنين هما
أ-رثاؤه لعينيه :
كان الخريمي مبصرا ثم عمي في المرحلة الأخيرة من عمره ، فكتب في رثاء عينيه رثاء يعتبر ضربا جديدا من موضوعات الشعر , فقد جعل من مأساته قضية تشغله فقال فيها شعرا كثيرا متطورا مترعا بالأحاسيس الذاتية مفعما بالمعاني النفسية مليئا بالمشاعر الإنسانية . لقد كانت معاني البصر والبصيرة مائلة في خاطر الشاعر في أول عهده بالعمى . وقد أنشأ يقول :
فإن تك عيني خبا نورها فكم قبلها نور عين خبا
فلم يعم قلبي ولكنما أرى عيني إليه ســـــــرى
فأسرج فيه إلى نــوره سـراجا من العلم يشفي العمى
ويحس يثقل الكارثة التي حلت به بفقد عينيه وما صاحبها من قيود وتحول في علاقته بالحياة وبالناس , فينزع إلى التحسر وإبداء الحزن في هذه الأبيات
كفى حزنا أن لا أزور أحبتي من القرب إلا بالتكلف والجهد
وأني إذا حييت ناجيت قائدي ليعدلني قبل الإجابة في الرد
إذا ما أفاضوا بالحديث تقاصرت بي النفس حتى ما أحير وما أبدي
كأني غريب بينهم لست منهم وأن لم يحولوا عن وفاء ولا عهد
أقاسي خطوبا لا يقوم بثقلها من الناس الأكل ذي مرة جلد.
ولكن الحالة لا تقف بالرجل المتوجع لفقد بصره عند هذا الحد , إنه ينتقل إلى مرحلة أكثر ألما أو بعد حسرة , وبكاء بعد أن تغير أمامه كل شيء , وأضحى فريسة للخوف وضحية لتوقع الخطأ,
أصغي إلى قائدي ليخبرني إذا التقينا عمن يحييني
أريد أن أعدل السلام وأن أفضل بين الشريف والدون
أسمع ما لا أرى وأكره أن أخطئ والسمع غير مأمون
لله عيني التي فجعت بها لو أن دهر ا بها يواتيني
لو كنت خيرت ما أخذت بها تعمير نوح ملك قارون
حق أخلائي أن يعودوني وأن يعزوا عني ويبكوني
ويستمر الخريمي في رحلة الحياة مسنا مكفوفا يائسا فيتنقل من مرحلتي التحسر والبكاء إلى مرحلة الرثاء , أعني رثاء نفسه . ألم تمت عيناه بفقد بصره ؟. ! والعينان بعض من الإنسان . إنه إذن حقيق بالمعنى الذي جال في خاطره فغير عنه بأقسى ما يمس شغاف القلوب من فن القول وذلك في بيتيه :
إذا ما مات بعضك فابك بعضا فإن البعض من بعض قريب
يمنيني الطبيب شفاء عيني وهل غير الإله لها طبيب ؟
إننا نستطيع أن نقرر أن الخريمي الشاعر المبدع السيء الحظ قد ادخل إلى ميدان الشعر العربي لونا من الشعر الغنائي الحزين المتصل بالعمى الطارئ وفقدان البصر
ب-رثاؤلبغداد :
عرف هذا اللون من الرثاء في المشرق في وقت مبكر كل التبكير ، فإن أول من رثى المدن الداثرة والقصور المخربة والدول الدائلة هو الحميري الشاعر ، وأبو العباس الأعمى وأبو عدي العبلي وآدم بن عبد العزيز .
غير أن الذي حل ببغداد من خراب ودمار وقتل ونهب وتشربد أيام الفتنة بين الأمين والمأمون كان له من الأثر في نفوس الناس ما جعل الشعراء يسهمون بشعرهم رثاء حينا ووصفا حينا آخر وسخرية حينا ، وأشهر شاعر سجل هذه الأحداث الحزينة التي حلت ببغداد أبو يعقوب الخريمي فقدبكى بغداد ووصف المحنة في قصيدة بالغة الطول ،
والشاعر في رثائه بغداد إنسان قد هزته الفجائع التي يراها كل يوم وقد تصور أن هذا الذي حل بالقوم إنما هو غضب من الله عليهم لانحرافهم وعصيانهم وانغماسهم في الشهوات ، وموقفه والحال كذلك كان في جانب المأمون ، فقد كان الأمين سيء السمعة مغرقا في اللذات ، وكان المأمون حسن السيرة طيب الأحدوثة الأمر الذي أسهم إلى حد كبير في سقوط الأمين ومهد لانتصار المأمون .
يقول الخريمي في قصيدته :
قالوا ولم يلعب الزمان ببغداد وتعثر بهـا عواثرها
إذ هي مثل العروس باديها مهول للفتى وحاضرها
جنة دنيا ودار مغبطة قل من النائبات دائرها
درت خلوف الدنيا لساكنها وقل معسورها وعاسرها
وانفرجت بالنعيم وانتجعت فيها بلذاتها حواضرها
فالقوم منها في روضة انف أشرق غب القطار زائرها
من غره العيش في بلهنية لو أن دنيا يدوم عامرها
دار ملوك رست قواعدها فيها وقرت بها منابرها
ويمضي الخريمي وقد غلب عليه الأسى مما أصاب بغداد يتساءل تساؤل الحزين عما كانت تحويه مدينة المنصور من صنوف الجند والحراس والعبيد والخصيان ومواكب الجند ، ثم يعرج على مظاهر الترف يعرضها في تفصيل مثير لكي ينتهي مرة ثانية إلى وصف المحنة التي حلت بها فجعلتها كجوف الحمار فارغة تستعر بجحيم الحريق :
فأين حراسها وحارسها وأين مجبورها وجابرها
وأين خصيانها وحشوتها وأين سكانها وعامرها
أين الجرادية الصقالب والأحبس تعدو هدلا مشافرها
ينصدع الجند من مواكبها تعدو بها سربا ضوامرها
بالسند والهند والصقالب والنوبة شيبت بـها برابرها
طيرا أبابيل أرسلت عبثا يقدم سورانها احامرها
أين الظباء الأبكار في روضة الملك تهادى بها غرائرها
أين غضاراتها ولذتها وأين محبورها وحائرها
أمهلها الله ثم عاقبها لما أحاطت بها كبائرها
بالخسف والقذف والحريق وبالحرب التي أصبحت تساورها
ويستطرد الخريمي في قصيدته الطويلة التي بلغت مائة وسبعة وثلاثين بيتا يصور كل ما حل ببغداد من ألوان الخراب والدمار والحريق والفساد والنهب والهدم والعذاب الذي لم يترك عزيزا ولا فارسا ولا امرأة ولا طفلا ولا شيخا إلا وأصابه من كل ذلك شيء كثير هذا فضلا عن الجثث التي تنهشها الكلاب ، ومواكب الجنائر تجتاز المسالك والدروب ، وأنات الثكالى وأصوات العويل التي تسمع في كل مكان .
وهي تدخل في باب الشعر التعليمي أكثر مما تدخل إليه من بابه الفني ، ولذلك فإن هذه القصيدة يمكن إن تعتبر نواه للشعر التعليمي


18-بشار بن برد:
(96هـ ) وتوفي (168هـ)
أ-حياته وشأنه:
ولد بشار بن برد عام (96هـ ) وتوفي (168هـ)
أبوه مولى وأمه عقيلية عربية، ولداً أعمى من أول لحظة واختلط بحلقات العلم والأدب في البصرة، وتردد على الأعراب ، وتنقل بين الكوفة والبصرة وحرّان ، وقد انقسمت حياته بين المسجد في الصغر، ومجالس الزندقة في الكبر، حيث كانت نهايته بسبب الزندقة.
وقد كان مغالياً في هجائه وفسقه وعجونه على الرغم من أنه كان أحد مؤسسي حلقات المعتزلة مع واصل بن عطاء وعمر بن عباد.
ب-شخصيته:
1- الصفات الجسدية:الضخامة – العمى – قبح المنظر – الإصابة بالجذري .
2- الصفات الاجتماعية:الانتساب إلى الموالي – النشوء في أسرة فقيرة – الأحاطة لمجتمع متخلف.
3- الصفات النفسية:الشعور بالإحباط والمرارة- النقمة على الحياة – السخرية عن حوله – اعتماده الإباحية والمجون كثرة الاعتداء بالنفس.
ملاحظة :
أهم ما يميز بشار توقد الذكاء – الجواب الحاضر – مقدرته على صناعة التشبيه التمثيلي كما في قوله :
كأنّ مثارُ النقع فوق رؤوسنا وأسيا فنا ليلٌ تهاوى كواكبه
شعره ومعانيه وأغراضه:
يعد شعر بشار بن برد انعكاساً لصفاته النفسية، وترجمةً لبيئته التي تراوحت بين القديم والجديد ، وبين التقليد والتجديد .
وقد كتب بشار في أغراض المدح والهجاء والفخر والرثاء والغزل.


ج-صنعته:
1-صفات المدح عند بشار:
أ-اعتماده على المعاني التقليدية .
ب- البناء على البحور الطويلة (المديدة التفعيلات)
ج- الوقوف على الأطلال.
د- تردد المعاني البدوية.
هـ- عدم
و- الاعتماد على المعاني الواقعية.
ز- المبالغة في المدح.
ح- اقتباس المعاني الأموية.
إذا الملك الجبّار صغَّر خده مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
ويقول في المعاني البدوية يمدح عقبة بن مسلم والي البصرة :
أريحي له يدٌ تمطر النيل وأخزى سمٌّ على الأعداء.
2- خصائص هجاء بشار:
آ- النيل من الأغراض والكلام البذيء
ب- الشتم والسب.
ج- استخدام الهجاء وسيلة للثراء والكسب.
د- جعل الهجاء فناً جديداً مستقلاً.
3- خصائص الغزل عند بشار :
آ- المعاني البدوية في بعض القصائد تعتمد الجزالة اللفظية و الاشراق واستخدام البحور الطويلة والمديدة كقوله في وصف عبده:
كقارورة العطار أو زاد نعتها تلين إذا ما بنتها وتطيب
ب- المعاني الحضرية وهي سهلة ميسورة تعتمد البحور القصيرة والأوزان الخفيفة كقوله:
حوراء إن نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا
وكأنّ تحت لسانها حاورت ينفث فيه سحرا

4- خصائص الوصف عند بشار:
آ- لم يخرج بشار عن المعاني البدوية في الوصف سواءً كان هذا الوصف للصحراء أو للنساء.
ب- حاول بشار في مطالع قصائده استبدال وصف الناقة بوصف السفينة والبحر.
ج- لم يجد
د-الحكم على سلوك بشار وشاعريته وتجديده :
1- الحكم على سلوك بشار: سلك بشار مسلك المتهتكين بأعراض الآخرين وقد كان شعوبياً يفاخر بشعوبيته زنديقاً، وثنوياً، أسهم العمى والرق لديه في اذكاء شعوره بالنقص، وقد دفعه ذلك إلى الفسق في القول كقوله:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
وقد أخذ بشار هذا المعنى عن الشاعر سلم الخاسر:
من راقب الناس مات همّا وفاز بالطيبات الجسور
كما أن سلوكه دفعه إلى إظهار الحكمة تعويضاً عن النقص كقوله:
إذا بلغ الرأي المشورة ما ستعن برأي نصيخٍ أو نصيحة حازم
ه- الحكم على شاعرية بشار:
ليست شاعرية بشار إلاّ تعويضاً عن نقصٍ (العمى وسوء المنظر) كما أن أخويه كانا جزارين ، ونحن نعرف أن الموهبة قد تلازم العاهة، وأن معظم بشاعرية بشار هي استجابة لمطلب (نبذ الإشباع الغريزي في الخيال). وقد اسهمت الشعوبية في هذه الشاعرية مرة، والولاء للعرب مرة أخرى، فهو يمدح الفرس ، ويمدح ولاة العرب ، وهذا فيه تناقض .
و- الحكم على تجديد بشار:
لا شك أن بشاراً شاعرٌ موهوب، ولكن بعض النقاد رفع من فكان بشار في ثلاث قضايا نسبت إلى بسار وهي قضايا غير دقيقة وغير صحيحة جعلت هؤلاء النقاد يعتبرونه أو المجذوبين هي:
-المبالغة في نسبة كل جديد لبشار.
-النسب الملوكي إلى بشار لأن بشار رقيق ومن أسرة فقيرة .
-أن بشار كتب ثلاث عشر ألف قصيدة وأنّه يفخر بثلاثة عشر ألف بيتاً من عيون الشعر العربي وهذا غير صحيح.
ز-صنعته في شعره:
نهج بشار للعباسيين طريقتهم الجديدة، وهي طريقة كانت تعتمد اعتمادًا شديدًا على الأصول التقليدية للشعر القديم، حتى لتبدو فيه نزعة محافظة وخاصة في مدائحه، فإن الإطار فيها لا يختلف عن الإطار القديم إلا قليلًا؛ إذ يستوفي فيها قيم التعبير الجزلة وكل ما تقتضيه الجزالة من رصانة وقوة في البناء، ومعنى ذلك أن بشارًا الفارسي الجنس قد أثر فيه مرباه العربي حتى أصبح عربيًّا خالصًا في أسلوبه وتعبيره. ولا يعني ذلك أنه كان غائبًا في مديحه عن عصره؛ فهو يزاوج بين الماضي والحاضر: يصف الأطلال والصحراء ولكن بذوق حضري جديد فيه رقة، وفيه دقة في استنباط المعاني وتوليدها. فنسيجه العام قديم، ولكن خيوطًا كثيرة جديدة تلمع في هذا النسيج، حتى في نماذجه الموغلة في التشبه بالبدو،
وحين يصف ممدوحه بالشجاعة والكرم على طريقة العرب ويقول في تضاعيف ذلك
ما كان مني لك غيرُ الوُدِّ ... في ثناء مثل ريحِ الوردِ
ومن براعته في تدبر بيت امرئ القيس في وصف العقاب:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
حتى قال في المديح:
كأن مُثارَ النقعِ فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وإذا تركنا مديحه إلى فخره وجدنا فيه نفس متانة البناء ونفس الصياغة الباهرة التي تميز بها شعراء العرب السابقين من أمثال زهير والنابغة وجرير، وإنه ليضيف إلى معانيه مبالغة تزيدها جمالًا على شاكلة قوله مفتخرًا بقيس مواليه في ميميته المشهورة:
إذا ما غضبنا غضبة مُضَريَّةً ... هتكنا حجابَ الشمسِ أو تمطر الدَّما
وتطور الهجاء عنده على هدي الأمثال الفارسية القصيرة، فقد كان كان يقوم على القذف في الأعراض والاتهام بالزندقة والإلحاد، ويصور بشار هجاءه فيقول:
تزل القوافي عن لساني كأنها ... حمات الأفاعي ريقُهن قضاءُ
وكان بشار لا يأبَه للقيم الخلقية والدينية، وكان ضريرًا، فاعتمد على حاستي السمع واللَّمس في غزله، ولعل من الطريف أنه يصرح بذلك في مثل قوله :
يا قوم أذْني لبعض الحي عاشقةٌ ... والأُذْنُ تعشقُ قبل العينِ أحيانا
ولا يصبح الغزل عنده في أكثر جوانبه حسيًّا فحسب، بل يصبح ضربًا من نداء الغريزة النوعية بصورة ليس فيها أدني احتشام؛ بل فيها غير قليل من العدوان على المجتمع وآدابه. و قد نقرأ عنده غزلًا يحتفظ فيه بكرامته وكرامة المرأة من مثل قوله :
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكَرَى طيف ألم
نَفِّسي عني قليلًا واعلمي ... أنني يا عَبدَ من لحم ودم
إن في بُرديَّ جِسْمًا ناحلًا ... لو توكأتِ عليه لانهدم
ومن صوره البارعة:
خليليَّ ما بال الدُّجى ليس يبرحُ ... وما بال ضوءِ الصبحِ لا يتوضحُ
أضلَّ الصباحُ المستنيرُ طريقَهُ ... أم الدهر ليلٌ كلُّه ليس يبرحُ

لقد كانت صنعة بشار في شعره تقوم على الموازنة الدقيقة بين العناصر التقليدية في الشعر العربي والعناصر التقليدية المستمدة من الحضارة والثقافة المعاصرة. وثَبَّتَ بشار هذه الطريقة؛ بحيث أصبحت منهجًا عامًّا للشعراء من بعده، وبحيث عدَّ بحق زعيم المجددين؛ فهو الذي نهج لهم هذا النهج من التطور بالشعر العربي تطورًا لا تنقطع الصلة فيه بين حاضره وماضيه.







19-أبو العتاهية 130ـ 211
أ-نشأته وحياته :
هو أبو اسماعيل بن القاسم بن سويد ، كان أبوه حجاما ، وهو نبطي من موالي بني عنزة وأمه من من موالي بني زهرة ، وأبو العتاهية كنية غلبت عليه.
ولد الشاعر في عين تمر بالقرب من الأنبار عام (130هـ) وتوفي عام (211هـ) اختلط في بداية حياتة بالمخنثين من الرجال الذين يتقلدون بالنساء لبسا وقد عمل خزافا صانعا للجرار ، ثم عاد وانتظم في حلقات الخلفاء في المساجد وشيوخ الأدب واتفق مع ابراهيم الموصلي أكبر مغني العصر العباسي , وانتقلا إلى بغداد فنجح الموصلي وفشل أبو العتاهيه , ولكنه عاد إلى بغداد وتقرب من المهدي بعد أن مهد له الطريق صاحبه ابراهيم . تعلق بجريه اسمها "عتبه " ولكنها كانت تضجر منه وتحول أخيرا إلى حياة الزهد .
ب-شخصيته :
أثر في شخصية أبي العتاهية عوامل ساعدت في توجه هذا الشاعر إلى الزهد وهي:
استعداده الفطري .
تهتك المعاصرين له وإسرافهم في المجون بحيث انقلب إلى عكس ما يصنعون.
إخفاقه في حب عتبه .
المعاناة التي عاشها في الأيام الأولى متمثلة في الفقر .
وقد عاش أبو العتاهية حياته متأثرا بالأفكار المانوية وقد أشار إلى ذلك (منصور بن عمار ) أحد الوعاض في عصره واستدل على زندقته بكثرة ذكره الموت دون أن يذكر الجنة والنار .
كما وأن فقر أبي العتاهيه كان سببا في نجله الشديد.
جوانب شعره :
كتب أبو العتاهيه في أبواب الشعر وفنونه، وجدد في معانيه وأغراضه وموسيقاه ، وهجر الحديث عن الأطلال وأكثر ما برع فيه الزهد .
يقول أبو العتاهية في مدح المهدي :
أتته الخلافة منقادة إليه تجرر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها.
ويقول في حبه لعتبة واصفا إياها بالدرة الثمينة:
كأنها من حسنها درة أخرجها اليم إلى الساحل
ويقول واصفا فلسفته للموت والحياة:
لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى تباب
ألا يا موت لم أر منك بدا أتيت وما تحيف وما تحابي.
ويقول في الحكمة والموت:
أجلل قوم حين صرت إلى الغنى وكل غني في العيون جميل
إذا مالت الدنيا إلى المرء رغبت إليه ومال الناس حيث تميل
ويقول باكيا على أيام شبابه :
ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب
الحكم على شعر أبي العتاهية :
اقترب أبو العتاهية في شعره من العامة ، وهجر جزالة الألفاظ ، وترك الوقوف على الأطلال ، فكان شاعرا مطبوعا غزير الشعر يتناول المعاني القريبة من العامة بألفاظ سهلة واضحة متجنبا الغرابة والتعقيد والتكلف وقد اعتبره صاحب الأغاني متقدما في الشعر.
ج-صَنْعَةُ أبي العَتاهِيَةِ
تمثل أشعارأبي العتاهية حياته وما حدث بها من انقلاب ، إذ يتراءى لنا في شعره مرحلتان واضحتان تمام الوضوح:
1-مرحلة تصوير اللهو والمجون ومجالس الأنس والطَّرب والمدحبأسلوب سهل عذب فمن مدحه:
أتته الخلافةُ منقادةً ... إليه تجرر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ... ولم يكن يصلح إلا لها
ولو رامها أحدٌ غيرُهُ ... لزلزلت الأرضُ زلزالها
ولو لم تطعه بناتُ القلوبِ ... لما قبل اللهُ أعمالَها
وإن الخليفةَ من بغض لا ... إليه ليُبْغِضُ من قالها
فأسلوبه خفيف قريب إلى النفوس، وتبلغ السهولة الغاية في غزله؛ حتى ليقول ابن المعتز: "إن غزله لين جدًّا مُشَاكل لكلام النساء" وكأن ملازمته للمخنثين في مطلع حياته وتعرفه على لغتهم هما اللذان أتاحا له هذه السهولة المفرطة التي تلقانا في مثل قوله :
كأنها من حسنها درةٌ ... أخرجها اليمُّ إلى الساحلِ
كأن في فيها وفي طرفها ... سواحرَ أقبلن من بابلِ
لم يبقِ مني حبُّها ما خلا ... حشاشة في بدنِ ناحلِ
يا من رأى قبلي قتيلًا بكى ... من شدة الوجد على القاتل
والرقة واضحة أيضا في هذه الأبيات، وهي تقع من القلوب موقع الزُّلال البارد من الظمآن، وكأنها الماء السلسبيل
2-مرحلة الزهد والدعوة إلى الانصراف عن الدنيا ومتاعها، والتفكير في الموت وظلمة القبر ووحشته، ويسود زهدياته في أثناء ذلك تشاؤم أسود حزين؛ فالحياة ليس فيها إلا الألم وإلا الموت وغصصه، وأولى بالإنسان فيها أن لا يفرح بمتعها، بل أولى به أن يبكي على نفسه، يقول :
لدواعي الخيرِ والشـ ... ـرِ دنوٌ ونزوحُ
سيصيرُ المرءُ يومًا ... جسدًا ما فيه روحُ
بين عيني كلِّ حي ... عَلَمُ الموتِ يلوحُ
كلُّنا في غفلةٍ والْـ ... موتُ يغدو ويروحُ
نُحْ على نفسِكَ يا مسكين ... إن كنت تنوحُ
لتموتنَّ وإن عُمِّـ ... رَت ما عُمِّرَ نوحُ
ويقال: إن الملاحين غنَّوا الرشيد هذه المقطوعة في إحدى نزهاته بدجلة؛ فلما سمعها جعل يبكي وينتحب . وهذا يدل على قرب شعره من روح الشعب؛
فقد قالوا: "إنه نظم في بعض مراثيه قول بعض الفلاسفة لما حضروا موت الإسكندر: الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه أمس"؛ فقال في رثاء على بن ثابت:
وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيَّا
وقد جعله تصويره لآلام الحياة والموت يجيد في هذا الموضوع، وكان كثيرًا ما ينقل حكم الأوائل من فرس وغير فرس إلى شعره، ولعل ذلك ما أتاح له أن ينظم مزدوجته "ذات الأمثال" التي امتدت إلى أربعة آلاف بيت، وقد كانت صنعته تقوم على
أ-السهولة المفرطة في اختيار الألفاظ والعبارات؛ حتى لتقترب من لغة الناس اليومية، بل حتى ليصيبها أحيانًا ضرب من الابتذال، ومن أجل ذلك كان الأصمعي يقول: "شعر أبي العتاهية كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى" ،
ب-يقال : إنه كثير الساقط المرذول مع أنه لم يدخل في شعره ألفاظًا أعجمية؛ إنما هو القرب فقط من كلام العامة، وكان يتخذ ذلك مذهبًا في صنعة شعره، حتى يكون أكثر تداولًا ومع ذلك لم يخرج عن الفصحى، وظلت عنايته بالمعاني تحول بين شعره وبين السقوط.
ج- بسَّط لغة الشعرفي مجال اللهو والغزل و الزهد والمديح، فحتى المديح لم يقف عائقًا في سبيل هذا الأسلوب المبسط السهل، إذا انفك عن كثير من تقاليده القديمة من حيث مقدماته في وصف الصحراء والرحلة على النوق،
د-لغته الضخمة الجزلة وما كان يشوبها من الغريب
ه- اختيار الأوزان الخفيفة والمجزوءة يصوغ منها شعره؛ بل لقد اندفع يجدد في الأوزان على نحو ما مر بنا في الفصل السابق مُظْهِرًا براعة فائقة.



20-أبو نواس 140 ـ 199هـ
أ-نشأته وحياته :
ولد الشاعر الحسن بن هانئ في إحدى قرى خوزستان من بلاد فارس . توفي الأب حين بلغ الابن السادسة فانتقلت الأم بابنها إلى البصرة ودفعت ابنها لحفظ القرآن فحفظه ، ثم عمل الشاعر خادما عند عطار وتعرف على الشاعر الخليع وابلة بن الحباب الدمشقي الأصل والمنشأ توفي فأثر على أبي نواس تأثرا كبيرا ، حيث انتقل مع والبة إلى الكوفة يعاقر الخمرة ويجالس المجان ، ولكنه عاد إلى البصرة ليجالس شيوخ الأدب والفكر في ذلك العصر ، ثم انتقل إلى بغداد وأصبح شاعرا الرشيد والأمين عاش 59 عاما امتدت بين عامي : (140هـ) و(199هـ) وتروي كتب الأدب أن أمه كانت من ذوات البيوت صاحبات الرايات استرابة وشكا بحيث أثر ذلك على أبي نواس .
ب-شخصيته :
1-الصفات النفسية : حاد المزاج بحيث تتغير مواقفه بحسب الظروف، محبا للهو ، ومجالس الخمر والنساء .
2-الصفات الثقافية : استقى الشاعر ثقافته من البيئة العباسية المحيطة به ، ومما تعلمه من الثقافة الفارسية بالإضافة إلى القرآن والحديث .
3-الصفات الاجتماعية : تأثر أبو نواس بالواقع الاجتماعي المحيط به والمنحرف عن جادة الصواب ، وساهم في انحرافه مادية المجتمع العباسي وانحراف أمه ، وقد جعله ذلك يدعو بشعره إلى الانحلال من الأخلاق والابتعاد عن القيم الإيجابية .
ج-جوانب شعره :
عايش أبو نواس حالة التغير والتبدل الاجتماعي والفكري والأدبي ،وحاول كغيره أن يجدد من مضامين القصيدة العربية ، وسخر من وقوف العرب على الأطلال ، ولكنه بقي تقليدا في قصائد المدح التي كانت يمتدح بها الخلفاء .يقول أبو نواس واصفا الخمرة :
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
ويقول قي الوقوف على الأطلال :
عاج الشقي على رسم يسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد
ويقول في رثائه للخليفة الأمين :
طوى الموت ما بيني وبين محمد وليس لما تطوي المنية ناشر
وكنت عليه أحذر الموت وحده فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
ويقول معاتبا جارية الرشيد ( خالصة ) :
ضاع شعري على بابكم كما ضاع عقد على خالصة.
ويقول مادحا الرشيد:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق.
د-الحكم على شعره :
لقد كان شعر أبي نواس صورة واقعية لحياة اللهو والمجون ومعاقرة الخمرة ، وغزل النساء والغلمان ، إذ إن الحياة العباسية أثرت في حياته فأخرجته من فتى يحفظ القرآن إلى شاب خليع لا يراعي الواقع الخلقي والاجتماعي..
ه-صَنْعَةُ أبي نُوَاسٍ


عني أبو نواس بصناعته اللفظية في المديح والرثاء والغزل والمجون ،فهو يفرط في السهولة حين يتغزل، وكان ينظم كثيرًافي أوزان المجتث والمقتضب والمتدارك وما يشاكلها من البحور المجزوءة، معبرًا عن أحاسيس الحب، وملائمًا بينها وبين الغناء الذي عاصره، وله شعر في الزهديات ربما نظمه مجاراة لأبي العتاهية وأمثاله ممن كان تروج أشعارهم في العامة

يا ناظرًا في الدين ما الأمر؟ ... لا قدرٌ صحَّ ولا جَبْرُ
ما صح عندي من جميع الذي ... تذكرُ إلا الموت والقبر
وقوله:
يا أحمد المترجى في كل نائبة ... قم سيِّدي نعصِ جبار السماوات

يا رب وجهٌ في الترابِ عتيقُ ... ويا رب حسن في الترابِ رفيقُ
فقل لقريبِ الدارِ إنك راحلٌ ... إلى منزلٍ نائي المحلِّ سحيقِ
وما الناس إلا هالكٌ وابن هالكِ ... وذو نسبٍ في الهالكينَ عريق
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشَّفَتْ ... له عن عدوٍ في ثيابِ صديقِ
وكانت صنعة الشعر عند أبي نواس كانت تعتمد اعتمادًا شديدًا على الإطار القديم في المديح والرثاء وما يشبهما؛ بينما كانت تنفك من هذا الإطار أحيانًا في الغزل والخمريات، وقد تظل له قوة البناء فيهما، وتظل له روعة التصوير ودقة العاطفة، وقد يهبط وخاصة حين يتعابث ويهزل إلى لغة العامة وإلى أسلوب ليس فيه شيء من قوة، كان يعمد فيه إلى اللحن أحيانًا. ولعل ذلك ما جعل بعض القدماء يقول عنه، وهو قول صحيح: "إنه كان لا يقوم على شعره ويقوله على السكر كثيرًا، فشعره متفاوت؛ لذلك يوجد فيه ما هو في الثريَّا جودة وحسنًا وقوة وما هو في الحضيض ضعفًا وركاكة" .





21-ابن الرومي/221/- ـ 238/
أ-حياته ونشأته :
ولد ابن الرومي علي بن العباس عام (221هـ) وتوفي (283هـ) لأبوين رومي وفارسية، وكان له أخ اسمه محمد وأخت توفيت قبل أمها، وقد اطلع على علوم العربية والفلسفة وعلم الكلام التي استمرت طيلة حياته لخوفه من الأسفار، ولم يسافر من بغداد إلا مرة واحدة والمسافة قصيرة جداً إذ لم يتجاوز مدينة سامراء، وقد بقي متعلقاً بوطنه وارضه وبيته:
ولي وطنً آليتُ ألا أبيه وألاّ أرى غيري له الدهر مالكا
ب-شخصيته:وعناصر تكوينها:
1-العناصر الشكلية لشخصية الشاعر:تميز ابن الرومي بدمامة الوجه وقبح المنظر، وخولة في الجسم، وصلع كبير بحيث امتنع عليه خلع الكوفية.
العناصر الداخلية (الطبع والجبلّة): وقد امتلك ابن الرومي رهافة في الإحساس والمشاعر ودقة في الأعصاب بحيث جعل ذلك خياله آلة تصوير ناطقة تلتقط الصور الواقعية بدقة، وتعكسها بدقة، وقد أورث له هذا الإحساس الرقيق عقدة التطير.
2-العناصر الاجتماعية: وقد تعرض ابن الرومي لنكبات متعددة إذ توفي والده صغيراً، وتوفيت أمه بعد ذلك ثم توفيت زوجه وأخوه الذي كان يعينه على الحياة، وتوفي معظم أولاده مما جعله يشعر بالخيبة والمرارة واليأس ، كما أنه عانى من سوء المخالطة للناس، فاصبح مغروراً يعبر عن ذلك بالهجاء والمقذع والسخرية اللاذعة.
ج- شعر ابن الرومي:
يعد ابن الرومي من الشعراء المطبوعين الذين يجري شعرهم على السليقة والفطرة، فهو بعيد عن التكلف يركز على المعاني أكثر من الألفاظ وتميز بتوليدها وقد كتب في معظم فنون الشعر وتفوق في الرثاء والوصف والهجاء.
1- رثاء ابن الرومي:
تميز بالصدق والعاطفة المتأججة والعبقرية الفنية:
توخّى حمامُ الموت أوسط حبيبتي فللّه كيف اختار واسطة العقد
وأولادنا مثل الجوارح أيَّها فقدناه كان الفاجع البنين العقد
2- هجاء ابن الرومي:
وقد تميز بدقة الوصف والتحليل للشخصيات التي هجاها بحيث يبدو رساماً كاركتوري في شعره يقول في هجاء بخيل يقتر على نفسه:
يقتّر عيسى على نفسه وليس بباقٍ ولا خالدِ
فلّو يستطيع لتقتيره تنفَّس من منخرٍ واحدٍ
ويقول في وصف معلم صبيان يدعى أبا سليمان:
أبو سليمان لا تُجدي طريقته لا في الغناء ولا تعليم صبيانٍ
ولعل من أهم الجوانب التي تلفت النظر في شعر ابن الرومي جانب الهجاء؛ فقد أعده مزاجه الحاد وقدرته البارعه في لمح الدقائق والعيوب الجسمية لضرب من الهجاء يمكن أن نسميه "الهجاء الساخر"؛ إذ كان يعبث بمهجويه عبثًا.
لاذعًا يشبه عبث أصحاب الصور "الكاريكاتورية"؛ فهو يقف عند نواحي الضعف ويكبرها ويظهرها في أوسع صورة لها، حتى ليثير الضحك والإشفاق على من يتناوله منهم؛ إذ يصنع بهم صنيع أصحاب الصور "الكاريكاتورية" فهم يضعون رأسًا كبيرًا على جسم صغير، أو يخالفون في أعضاء الجسم فيركبونها عليه تارة بالطول وتارة بالعرض، وهو تركيب مضحك في كل صوره وهيئاته، وكذلك كان ابن الرومي يتناول من يهجوه فيشوهه تشويهًا غريبًا، مستخدمًا ما يمتاز به من بعض النقائص الجسدية، وانظر إليه يقول في الأحدب الذي كان يتطير به:
قصُرت أخادعُه وغاب قذالُهُ ... فكأنَّه متربِّص أن يُصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرَّة ... وأحسَّ ثانيةً لها فتجمَّعا
ويقول في بعض مهجويه:
وجهكَ يا عمرو فيه طولُ ... وفي وجوهِ الكلابِ طولُ
والكلبُ وافٍ وفيك غدرٌ ... ففيك عن قدره سُفُولُ
وقد يحامي عن المواشي ... وما تحامي ولا تصولُ
وأنت من أهلِ بيتِ سوءٍ ... قصتُهم قصةٌ تطولُ
وجوههم للوري عظاتٌ ... لكن أقفاءهم طبولُ
مستفعلن فاعلن فعولُ ... مستفعلن فاعلن فعولُ
بيتٌ كمعناك ليس فيه ... معنى سوى أنه فضولُ
وعلي نحو ما كان يلتقط العيوب الجسدية كان يلتقط العيوب الصوتية والمعنوية، يقول في مغنٍّ قبيح الصوت:
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا ... عند التنغُّم فكَّي بغلِ طحَّانِ
ويقول في بخيل يسمى عيسى :
يقتر عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره تنفس من منخر واحد
ويقول في بعض مهجويه , ويصوره يجتر كالحيوانات المجترة :
بعض اضراسه يكادم بعضا ً فهي مسنونة ٌ بغير سنون
لا دءوب ٌ الا دءوب رحاها او دءوب الرحى التي للمنون
ما ظننت الانسان يجتر حتى كنت ذاك الانسان عين اليقين
وكان مشغوفا ً بهجاء اللحى وتصويرها تصويرا ً هزليا ً كأن يقول في بعضهم :
علق الله في عذاريك مخلا ة ولكنها بغير شعير
وانظر إليه يقول في لحية , لم يعجب بها ولا بصاحبها :
لو قابل الريح بها مرة لم ينبعث من خطوه إصبعا
أو غاص في البحر بها غوصة صاد بها حيتانه اجمعا
فإنك تراه يركب من يهجوهم ركوبا ً غريبا ً , إذ يسخر منهم سخرية لاذعة وهي سخرية ناشئة عن دقته في لمح العيوب الجسمانية وغير الجسمانية عند خصومه , وناشئة أيضا ً عن حيه ومزاجه وتشاؤمه وإناتهم له في تطيره , فانصب عليهم شواظا ً من نار يلذعهم , بل يكويهم ويكوي وجوههم , وأنوفهم , واقفاءهم وأفواههم . وكان يعرف كيف يكبر مواضع العيب منهم فإذا هو يعبث بهم وباقفائهم . كما يعبثون بتطيره وتشاؤمه , وما الناس من حوله إلا كهذا الأحدب المخيف !
3- الوصف عند ابن الرومي:
أجاد ابن الرومي في وصف الطبيعة وكان ميالاً إلى التشخيص كما أجاد في وصف الحمَّال الأعمى ووصف المغنية وحيد.
يقول في وصف بستان عنب للمنصور الخليفة:
ورازقي مخطف الخضور كأنّه مخازن البلّور
قد ضمِّنت مسكاً إلى الشطور وفي الأعالي ماء وردٍ جوري
لو أنّه يبقى على الدهور قرّط آذان الحسان الحور
ويقول في وصف وحيد المغنية:
غادة زانها من الغصن قدٌّ ومن الظبي مقلتان وجيدُ
تتغنّى كأنّها لا تُغني من سكون الأوصال وهي تجيد
خلقت فتنةً ، غناءً وحسناً مالها فيهما جميعاً نديدُ
د-صنعة ابن الرومي
لم يكن ابن الرومي يذهب في أن الشعر لا يحتاج إلى فلسفة ومنطق؛ بل كان يرى أنهما أصلان مهمان في حرفته؛ فهو يعتمد عليهما في تفكيره، وهو يستخدمها في صياغته، حتى لتتخذ أبياته في كثير من نماذجه شكل أقيسة دقيقة؛ فهو يقدم لها بمقدمات ويخرج منها بنتائج، وكأنه رجل من رجال المنطق، وهو لذلك يأبى إلا أن يخرج نماذجه إخراجًا حديثًا، فيه فكر، وفيه فلسفة، وفيه منطق، وفيه تلك الصفات العقلية الجديدة التي يمتاز بها شعراء العصر العباسي من أسلافهم القدماء، واقرأ له هذه الأبيات.
لما تؤذنُ الدنيا به من صُرُوفها ... يكون بكاءُ الطفلِ ساعةَ يولدُ
وإلا فما يُبْكيه منها وإنها ... لأفسحُ مما كان فيه وأرغدُ
إذا أبصرَ الدنيا استهلَّ كأنَّه ... بما سوف يلقى من أذاها مهدَّدُ
وللنفس أحوالٌ تظل كأنها ... تشاهدُ فيها كل غيب سيشهدُ
ويمكننا أن نخلص ذلك في جانبين:
1- الوضوح:الذي جعله يستقصي أطراف الفكرة حتى تتضح من جميع جوانبها؛ فهو رجل منطق، يعشق البيان الواضح، ولعله من أجل ذلك كان شعره يمتاز بالطول فهو يستقصي ويتعمق في عرض أفكاره، حتى تبرز بروزًا دقيقًا.
2-التنسيق :الشديد والربط الوثيق بين أفكاره فهو طويل النفس شديد الاستقصاء للمعنى مسترسل فيه، ولا ريب أن هذا الاستقصاء كان سببًا من أسباب الإطالة؛ وكان ابن الرومي يستخدم الصياغة المنطقية، في قصائده، فشغف بهذا الطول الذي هو من أخص صفات من يريدون التعبير المنطقي الواضح. ومهما يكن فإن ثقافة ابن الرومي قد أحدثت في شعره هذا النوع الغريب من الطول في نماذجه؛
3-الشعرعنده تعبيرعن العاطفة :
4-الشعر عنده تعبير عن العقل:
ه-التَّصويرُ في شعرِ ابنِ الرُّومي:
كان ابن الرومي يعتمدفي شعره على فن التصوير، إذا كان لديه قدرة غريبة على ملاحظة دقائق الأشياء وتصويرها تصويرًا بارعًا، واستعان في ذلك بأداتين هما: التشخيص والتجسيم.
1- التشخيص: فقد استخدمه استخدامًا واسعًا في شعر الطبيعة؛ إذ كان يحس بأن الطبيعة ذاتٌ ناطقة وأشخاص متحركة فهو يعيش مع كل نسمة فيها وكل حركة وكل خفقة وكل همسة، وكأنها تستغويه وتستهويه:
ورياض تخايل الأرض فيها ... خيلاء الفتاة في الأبراد
منظرٌ معجبٌ، تحيَّة أنف ... ريحها ريحُ طيب الأولادِ
فهي تدلُّ على إدلال الفتاة الحسنة، وهو يحنُّ إليها حنانًا غريبًا، يحس فيه برائحة ذكية، رائحة الأولاد النجباء وما يشعر به الآباء نحوهم من عطف وحنو ومحبة؛ بل إنها لتتصبَّاه إذ تتبرَّج له:
تبرَّجت بعد حياءٍ وخفرٍ ... تبرجَ الأنثى تصدَّت للذَّكَر
2-التشخيص :
كما كان يكثر من استخدام أداة التشخيص اندفع إلى ذلك تحت تأثير حساسيته الخاصة فمثله ممن يتطير ويتشاءم ويكبر التوافه لا بد أن يلتزم ذلك في تصويره ومعانيه؛ فهو كثير الخيال والأحلام، يتصور الخيال والحلم حقيقة فينفعل ويعظم انفعاله.
ويكبر تصوره ويتضخم، فإذا المعاني والأشياء تتجسم أمامه وتشخص، وإذا لها كل ما للأحياء من خواص وصفات، فهي تعقل عقلها، وهي تحس إحساسها وهي تشعر شعورها، واستخدام ألوان التصنيع في استخدامه لألون الثقافة القاتمة فإنها لم تتحول عنده إلى ألوان فنية زاهية.
وكان ابن الرومي من أصحاب مذهب الصنعة، ولعل من أهم هذه الجوانب ما يلاحظ عليه من استخدام لوني الطباق والجناس،
قلت لما بدت لعينيَّ شُنعًا ... ربَّ شوهاءَ في حشا حسناءِ
قلن لولا انكشافُنا ما تجلَّت ... عنك ظلماءُ شبهةٍ قتماء
قلت أعجب بكن من كاسفاتٍ ... كاشفاتٍ غواشيَ الظلماءِ
فهو يطابق بين كلمتي شوهاء وحسناء، وهو يجانس بين كلمتي كاسفات وكاشفات؛ إلا أنه يلاحظ أن ابن الرومي لم يكن يكثر من هذين اللونين؛ فهو ليس من أصحاب التصنيع إنما هي أشياء تسقط في بعض شعره، وقد لا تسقط؛ إذ هي لا تأتي عنده كمذهب، على أن ابن الرومي كان يهتم بجانب آخر في صناعته، وهو جانب القافية؛ فقد كان يطلب شواذها ولا يترك حرفًا شاردًا من حروفها؛ إلا ويؤلف عليه قصيدة أو قصائد مختلفة، وليس ذلك كل ما يلفتنا في صناعة قوافيه؛ فقد كان يلتزم حركة ما قبل الروي في المطلق والمقيد في أكثر شعره اقتدارًا" ، فمن ذلك في الروي المطلق:
لم يسترحْ من له عينٌ مؤرقةٌ ... وكيف يعرف طعمَ الرَّاحةِ الأرِقُ
فقد مضى في هذه المقطوعة يلتزم كسرة قبل الروي وهو هنا مطلق ، ويماثله في المقيَّد قصيدته:
أبَينَ ضلوعي جمرةٌ تتوقَّد ... على ما مضى أم حسرةٌ تتجددُ
فقد التزم الفتحة قبل الرَّوي. وكان لا يعاقب بين الواو والياء في أكثر شعره قدرة على الشعر واتساعًا فيه" ؛ فمن ذلك مطولته:
شابَ رأسي ولاتَ حين مشيبِ ... وعجيبُ الزمانِ غيرِ عجيبِ
فقد التزم فيها الياء قبل الرَّوِيِّ كما التزم الواو في مقطوعته السابقة:
وجهُك يا عمرو فيه طولُ ... وفي وجوهِ الكلابِ طولُ
إنه قد يلتزم الحرف وحركته قبل الروى،

وفي مطولة التي يبدؤها على هذا النمط:
صبرًا على أشياءَ كلِّفتُها ... أعقبتها الدَّنَّ وسُلِّفتُهَا
يلتزم فيها الفاء قبل الروى، وكأنه كان يرى أن الروي في هذه المطولة هو الفاء لا الهاء ولا التاء. ومهما يكن فإن ابن الرومي لم يستطع أن ينتقل بصناعته من دائرة الصانعين إلى دائرة المصنِّعين؛ لأنه كان يفهم الشعر بصورة أقرب من الصورة التي علقت بأذهان أصحاب التصنيع؛


22-أبو الطيب المتنبي
( 303- 354)
أ-حياته ونشأته:
ولد أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين الجعفي سنة (303هـ) وتوفي سنة (354هـ) في حي من أحياء الكوفة "بني كندة" وقد إدّعى النبوة في بادية السماوة وسجن في حمص وتنقّل بينس القبائل والبادية فاطلع على اللغة والأدب وفنون القول، كان والده سقّاء سفي مساجد الكوفة التقى في انطاكية بأبي العشائر وعرّفه على سيف الدولة الذي أعجب به وقرّبه إليه. مما جعل الحساد من الشعراء يوقعون بينه وبين سيف الدولة مما جعله يهاجر إلى مصر ويلتقي بكافور الاخشدي الذي ماطله في تعينيه والياً في مصر ، فهرب ليلة عيد الأضحى هاجياً كافور ثم توجخ إلى الكوفة ثم تردد إلى بغداد والتقى بابن العميد في منطقة أرّجان، وبعضد الدولة في منطقة شيراز.
ب-شخصيته:
الصفات الجسمية: لم يرد ذكرٌ لصفات قبيحة في شخصية المتنبي، ويرجع البعض نسبه إلى بني هاشم .
الصفات النفسية: يعد المتنبي من الشعراء الطموحين المغرورين والمعتدين بنفسهم، والمتطلعين إلى المجد والسيادة وكان يؤمن بالقوة والجلد، أمضى حياته باحثاً عن طموحه ولكنه فشل في مبتغاه.
الصفات الخلقية: يتنيز المتنبي بالصدق مع نفسه والوفاء مع غيره، وهو رجل ودود لم ينس فضائل سيف الدولة عليه.
ج-شعر المتنبي:
يعد المتنبي عند الدارسين العرب، وغير العرب، الشاعر الأول من حيث القدرة والعطاء، فقد كان شاعراً بارعاً في تناوله لموضوعاته، كتب في معظم أغراض الشعر كالفخر – المديح – الهجاء – الوصف – الحكمة .


1ً- الفخر:
القارئ لشعر المتنبي يجد أن هذا الشاعر قد بثَّ فخره الفردي في معظم قصائده بحيث قاده هذا الفخر إلى الغرور من ذلك:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صممُ
وقوله
أيّ محلٍ أرتقي وأيّ عظيمٍ أتقي
وكل ما خلق الله وما لم يخلق
متقرٌ في همتي كشعرة في مفرقي
2ً- المديح:
وهو الغرض الأهم المشتمل على معظم قصائده ، فقد أكثر المتنبي من المديح، وبرع به وتوجه به إلى صديقه أبي العشائر وسيف الدولة الحمداني وكافور الإخشيدي ومن قصائده المميزة قوله في أبي العشائر:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إنْ لم تسعد الحالُ
ويقول في ميحيته والتي مدح فيها سيف الدولة:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
ويقول مادحاً سيف الدولة بأبيات بارعة:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاحٌ وثغرك باسمُ
3ً- الهجاء :
وهو الفن الذي يقضي على المتنبي ، وقضى عليه بالنهاية على يد فاتك الأسدي بسبب قصيدته التي مطلعها :
ما أنصف القوم ظبة وأمه الطرطبة .
وفي قوله لكافور :
لا تشتري العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ

4ً- الرثاء :
وقد تميز الرثاء بالسمو في المعاني ، أكثر ما ظهر ذلك في رثائه لجدته التي احتضنته بعد وفاة أمّه، وقد كان أثناء رثائه صغيرا فغلب على قصيدته الفخر :
يقولون لي : ما أنت في كلِّ بلدةٍ وما تبتغي؟ ما ابتغي جلَّ أن يُسمى
وإني لمن قومٍ كأنّ نفوسهم بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما
والثانية لرثائه لخولة أخت سيف الدولة والظاهر أنه كان يودها ، ولكنه لم يجرؤ أن يخطبها :
فليت طالعة الشمس غائبة وليت غائبة الشمسين لم تغبِ
5ً- الحكمة :
استقى المتنبي حكمته من تجاربه الشخصية وثقافته الدينية واطلعاته على فلسفة ارسطو وحكم اليونان . إذ كان هذا الرجل ثاقب النظرة ، قوي التأمل ، جمّل معظم قصائده بحكمٍ لا تزال سائرة على ألسنة الناس إلى يومنا هذا . ومن ذلك قوله :
ما كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقوله :
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سناناً
وقوله:
إذا غامرت في شرف روم فلا تقنع بما دون النجوم
وقوله :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
6ً-الوصف:
وقد كان المتنبي بارعاً في تصويره لكثير من القضايا والمشاهد التي رآها في عصره، والمتصفح لديوان المتنبي يجد عجباًُ لمقدرة هذا الشاعر على رصد الصور الجميلة من ذلك قوله في وصف منطقة "شعب بوان".
ملاعبُ جنّة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان
طبت فرسننا والخيل حتى خشيت وإن كرمن في الحران
كذلك وصفه للجيش في الحدث الحمراء:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
وفي أذان الجوزاء منه زمام
وكذلك وصفه للحمّى التي أصابته :
وزائرتي كأنّ بها حياء فليس تزور إلاّ في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فخافتها وباتت في عظامي
7ً- الغزل:
كان الطموح الذي تحمله نفسية المتنبي والذي تمثّل ببحثه عن المجد والزعامة والسيادة ألا يجعل المتنبي شاعراً يبحث عن المرأة ، ولكنه مع ذلك يصف لواعج الشوق وتبارع الحنين وصفاً بارعاً من ذلك قوله:
القلب أعلم يا عذول بدائه وأحقُ منك بجفنه وبحائه
ومن أحبّه لأعصينك في الهوى قسماً به وبحسنه وبهائه
ويقول أيضاً في وصف أثر الحب في نفسه متخيلاً امرأة :
أمن ازديارك في الدجى الرقباء إذ حيث كنت من الظلام ضياءُ
قلق المليحة وهي مسك هتكها ومسيرها بالليل وهي خفاءُ
أسفي على أسفي الذي دلهني عن علمه فبه عليَّ خفاء
ومن ذلك قوله:
أثرها لكثرة العشاق تحسب الدمع خلقت في المآقي
د-صنعة المتنبي
يتطابقشعر المتنبي مع حياته، و يمثل ثقافته، وهي ثقافة واسعة يمتزج فيها التشيع والتصوف والفلسفةفقد تصنُّعُ المتنبي للثقافاتِ المختلفةِ:
و أثرت القرمطية في أسلوب المتنبي وصياغته، وإليها يرد كثيرًا من الظواهر الفنية
وتصنُّعُ المتنبي للعبارةِ الصوفيةِ وشاراتِهَا:وهذه الصوفية يمكن أن يُلحظ تأثيرها في شعر المتنبي من جهة أخرى غير جهة الرمزية والأفكار والمعاني؛ إذ نرى في شعره تأثرًا آخر لا يأتي من أنه يستعير أفكار المتصوفة ومعانيهم؛ إنما يأتي من استعارته لطريقتهم في التعبير وما يتصل بها من ظروفها وأحوالها الخاصة، فإن المتنبي حين عدل بشعره إلى العبارة الصوفية كان قد أسلم هذا الشعر إلى صعوبات في التركيب، وهي صعوبات كانت تميز أساليب المتصوفة في هذه العصور؛ لأن اللغة لم تكن قد اتسعت بعد لأداء أفكارهم ومعانيهم ، وقد لاحظها القدماء في بعض الأبيات: لاحظها صاحب اليتيمة في قوله يصف فرسًا:
وتسعدني في غمرةٍ بعد غمرةٍ ... سبوحٌ لها منها عليها شواهدُ
وقوله:
ولولا أنني في غير نومٍ ... لبِتُّ أظنني منِّي خيالا
وقوله:
ولكنك الدُّنيا إليَّ حبيبةً ... فما عنك لي إلا إليك ذهابُ والمتنبي هو خير شاعر يصور لنا أساليب المتصوفة في القرن الرابع، وأنه يبلغ من ذلك ما لا يبلغه الحلّاج والشِّبلي والْجُنَيد وغيرهم من متصوفة هذا القرنوالمتنبي لم يكن متصوفًا؛ إنما كان ممثلًا للتصوف يقترح عباراته في الشعر، وما يزال يطلب جميع شاراتها وحركاتها، وما يمكن أن تخرج فيه من ظروف مختلفة تكثر فيها الضمائر أو تكثر فيها أدوات النداء أو تكثر أسماء الإشارة، وربما التقط في أثناء ذلك تعبيرًا فيه تصغير ، على أن هذا الالتجاء لأساليب المتصوفة وما سبقه من التجائه لأساليب المتشيعة بعث فيها حالًا من الغلو والمبالغة في مدح أصحابه؛ حتى ليخيل إلى الإنسان -في كثير من الأحيان- أنه يقرأ مدحًا لإمام من أئمة المتشيعة أو المتصوفة؛ إذ كان يذهب مذهبهم في المبالغة، فيخرج إلى ضروب غريبة من الغلو والإفراط، واقرأ هذه الأبيات التي يقولها في بعض ممدوحيه:
لَو كانَ ذو القَرنَينِ أَعمَلَ رَأيَهُ ... لَمّا أَتى الظُّلُماتِ صِرنَ شُموسا
أَو كانَ صادَفَ رَأسَ عازَرَ سَيفُهُ ... في يَومِ مَعرَكَةٍ لَأَعيا عيسى
أَو كانَ لُجُّ البَحرِ مِثلَ يَمينِهِ ... ما انشَقَّ حَتّى جازَ فيهِ موسى
أَو كانَ لِلنيرانِ ضَوءُ جَبينِهِ ... عُبِدَت فَصارَ العالَمونَ مَجُوسا
من أهم الوسائل التي كان يستخدمها المتنبي وغيره من الشعراء في هذه العصور وسيلة الفلسفة والثقافة اليونانية؛ فقد كان يحاول أن يستوعب الأفكار والصيغ الفلسفية في قصائده ونماذجه حتى يتخلص قليلًا من صيغ الفن الثابتة وقوالبه العتيقة، وإن الإنسان ليحس دائمًا عند المتنبي أنه كان يبحث عن صيغ جديدة للتعبير، ولكنه لم يكتفِ بأن يخضع هذا البحث لتجاربه الخاصة في التعبير عن وجدانه وأفكاره؛ إذ ذهب يقترض طائفة من الصيغ المذهبية أو الفلسفية، وبذلك انصب كثير من تجديده على تغييره في القيود ووجوه التكلف. ولعل أول ما يقابلنا من ذلك حكمه الكثيرة التي شاعت في شعره، وعرف بها عند القدماء والمحدثين؛ فهم يذكرون أن الصاحب بن عبّاد ألف رسالة لفخر الدولة ابن بُويه، جمع فيها من شعر أبي الطيب زهاء ثلاثمائة وسبعين بيتًا تجري مجرى الأمثال .
وقد كتب الحاتمي رسالة يبين فيها كيف استغل صاحبنا حكم أرسطو وكيف صاغها شعرًا، فمن ذلك قوله:
يُرادُ مِنَ القَلبِ نِسيانُكُم ... وَتَأبى الطِباعُ عَلى الناقِلِ
وأصله عند أرسطو طاليس: "روم نقل الطباع من رديء الأطماع شديد الامتناع"
ومن ذلك قوله:
لَعَلَّ عُتْبَكَ مَحمودٌ عَواقِبُهُ ... فَرُبَّما صَحَّتِ الأَجسامُ بِالعِلَلِ
وأصله عند أرسططاليس: "قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكي والفَصْد اللَّذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها، ومن ذلك قوله:
وَمَن يُنفِقِ السَّاعاتِ في جَمْعِ مالِهِ ... مخافةَ فَقْرٍ فَالَّذي فَعل الفقرُ
وأصله عند أرسططاليس: "من أفنى مدته في جمع المال خوف العدم فقد أسلم نفسه للعدم" . وعلى هذه الشاكلة أخذ الحاتمي يحقق ترجمة هذه الحكم اليونانية إلى الشعر العربي عند المتنبي حتى بلغ بها نحو مائة وعشرين حكمة.
ومن يقرأ في ديوان المتنبي يحس إحساسًا واضحًا بأن الشعر كان يعتمد عنده على العقل المتفلسف والصياغة الفلسفية، وقد ذهب يستخدم هذه الحكم، مضيفًا إليها ضروبًا من القافية المنطقية الدقيقة حتى ينال ما يريده من الدوي العالي:
وتركك في الدنيا دويًّا كأنما ... تداولُ سَمْع المرء أنْمُلُهُ العشرُ
والمركَّبُ الفَنِّي الفلسفي في شعر المتنبي موجود بسبب توافر الأضداد" وقد أحاله لونًا فنيًّا جميلًا، وهنا تبينّا جانبًا من قابلية العقلية العربية للتفكير اليوناني،
الجيشُ جيشُك غير أنك جيشه ... في قلبِهِ ويمينه وشمالِهِ
وليس في البيت غرابة ولا تعقيد، ولذلك يبدو يسيرًا سهل الفهم، ولكن إذا أمعنا النظر وجدنا فيه شيئًا يشبه أن يكون تعقيدًا؛ إذ يجعل المتنبي ممدوحه جيشًا، ويجعل الجيش جيشه، وفي الوقت نفسه يجعله جيش الجيش؛ فهو جيش دائر على نفسه، أو هي فكرة فيها دور وليس من شك في أن المتنبي عمد إليها عمدًا وتصنع لها تصنعًا، وما الفرق بينه وبين غيره من شعراء عصره ممن لم يتثقفوا ثقافة فلسفية إن لم يأت بمثل هذه العبارات المتداخلة؟ وانظر إلى قوله:
فتىً يشتهي طول البلادِ ووقته ... تضيق به أوقاتُهُ والمقاصدُ
فإنك تراه لا يزال يتعمَّل للأسلوب الفلسفي في تفكيره وصياغته؛ وعلى هذا النحو نراه يقول بيته:
أَسَفي عَلى أَسَفي الَّذي دَلَّهتِني ... عَن عِلمِهِ فَبِهِ عَلَيَّ خَفاءُ
فإنه يأسف على أسفه أسفًا غير مفهوم، فالأسف يركب أسفًا مثله، كهذا الزمان الذي يقي منه زمان مثله، وهذا الحمام الذي يفدي منه حمام مثله، وما يزال هذا القانون من التوليد يلعب في فكر المتنبي وشعره حتى نراه يقول:
نِقَمٌ عَلى نِقَمِ الزَمانِ يَصُبُّها ... نِعَمٌ عَلى النِّعَمِ الَّتي لا تُجْحَدُ
فالنقم على نوعين والنعم على نوعين، وكل شيء يمكن أن يستخرج منه شيء آخر يماثله، ويتحد معه، فيقوم دونه، أو يصبُّ عليه، أو يركِّبه ركوبًا غريبًا. وعلى هذا النمط ما تزال أساليبه تتشابك وتتداخل تداخلًا غير مألوف، تداخلًا يوقعه في مثل هذه الأساليب المنحرفة، أو في مثل قوله:
إِلى كَم ذا التَخَلُّفُ وَالتَّواني ... وَكَم هَذا التَّمادي في التَّمادي
وما كان مثله لينام وهو يحلم بتعبير فلسفي، يحقق له ما لا يبلغ الزمن من نفسه على حدِّ تعبيره:
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ... ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
وقد شكا في شعره كثيرًا من سهاده وسهره؛ إذ يقول:
كَأَنَّ الجُفونَ عَلى مُقلَتي ... ثِيابٌ شُقِقنَ عَلى ثاكِلِ
فهو يطلب النوم والنوم يتأبى عليه، ولعله هو الذي كان يتأبى على النوم لانشغاله عنه بلفظه أو فكرة،
وفي شعره تعقيدُ للموسيقى الإيقاعيةِ في الشِّعْرِوانظر إلى قوله :
وَفاؤُكُما كَالرِّبعِ أَشجاهُ طاسِمُه ... بِأَن تُسعِدا وَالدَمعُ أَشفاهُ ساجِمُه
فقد قدم في البيت وأخَّر حتى أحدث الخلل المقصود، وإنه لخلل غريب يكشف جانبًا من المهنة عند شعراء القرن الرابع؛ إذ كانوا يلجئون إلى مثل هذا الارتباك في ترتيب ألفاظ البيت فيحدثون هذا الخلل الذي يمكن أن نسمي موسيقاه باسم "الموسيقى ذات النشاز" وانظر إلى هذا البيت المذكور آنفًا:
قَلَقُ المَليحَةِ وَهيَ مِسكٌ هَتكُها ... وَمَسيرُها في اللَّيلِ وَهيَ ذُكاءُ
فقد أحدث المتنبي ارتباكًا موسيقيًّا في الشطرين، ويظهر ذلك من الرجوع إلى النحو، فإن الشطر الأول يتكون هكذا: مبتدأ- حال- خبر، أما الشطر الثاني فيتكون هكذا: مبتدأ- ظرف- حال، وحذف الخبر للعلم به، أي أن مسيرها في الليل هتك لها. أرأيت كيف استطاع المتنبي بثقافته النحوية أن يحدث هذه الموسيقى الجديدة الغريبة؟
إن المتنبي استطاع مع كل ما رأيناه عنده من ضروب تصنع مختلفة أن يحلق في أسمى أفق للشعر العربي، إذا كان لشعره -ولا يزال- حيوية وطلاوة وروعة تأخذ بالألباب على الرغم من هذا التصنع للإيماءات المذهبية والشواذ الموسيقية والشوارد النحوية؛ فقد كان لديه من المهارة الفنية ما يستطيع أن يخفي به سمات هذا التصنع وما ينطوي فيه من تكلف شديد؛
ومع ذلك فإن مذهب المتنبي في التصنع بدا فيه منذ الأدوار الأولى من حياته الفنية، وأشاع المتنبي في شعره حيوية وجمالا ما لهما من نظيرلأسباب عدة :
1- غزله في شعره بالأعرابيات؛ وقدعبَّر عن ذلك أجمل تعبير؛ إذ يقول:
مَنِ الجَآذِرُ في زِيِّ الأَعاريبِ ... حُمر الحُلى وَالمَطايا وَالْجَلابيبِ
إن كنتَ تسأل شكًّا في معارفها ... فمنْ بلاكَ بتسهيدٍ وتعذيبِ
كَم زَورَةٍ لَكَ في الأَعرابِ خافِيَةٍ ... أَدهى وَقَد رَقَدوا مِن زَورَةِ الذيبِ
أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي ... وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي
حُسنُ الحَضارَةِ مَجلوبٌ بِتَطرِيَةٍ ... وَفي البَداوَةِ حُسنٌ غَيرُ مَجْلوبِ
أَفدي ظِباءَ فَلاةٍ ماعَرَفنَ بِها ... مَضغَ الكَلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ
2-في شعره ضرب من التشاؤم جعله برمًا بالدهر ساخطًا على الناس حتى لكأنَّه ثائر على الدُّنيا ثورة نابعة من نفسه كأن يقول:
رماني الدَّهرُ بالأَرْزَاءِ حتَّى ... كأني في غشاءٍ من نبالِ
فصرتُ إذا ما أصابتني سهامٌ ... تكسَّرَتِ النِّصالُ على النِّصالِ
أو يقول:
فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبًّا ... جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ
وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ ... لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ
وَلَذيذُ الْحَياةِ أَنفَسُ في النَفـ ... سِ وَأَشهى مِن أَن يُمَلَّ وَأَحلى
وَإِذا الشَيخُ قالَ أُفٍّ فَما مَـ ... لَّ حَياةً وَإِنَّما الضَعف مَلّا
3-تغنِّيه بالبطولة؛
يُحاذِرُني حَتفي كَأَنِّيَ حَتفُهُ ... وَتَنكُزُني الأَفعى فَيَقتُلُها سُمّي
كَأَنّي دَحَوتُ الأَرضَ مِن خِبرَتي بِها ... كَأَنّي بَنى الإِسكَندَرُ السَدَّ مِن عَزمي
أو يقول:
وَفي الناسِ مَن يَرضى بِمَيسورِ عَيشِهِ ... وَمَركوبُهُ رِجلاهُ وَالثَوبُ جِلدُهُ
وَلَكِنَّ قَلبًا بَينَ جَنبَيَّ مالَهُ ... مَدىً يَنتَهي بي في مُرادٍ أَحُدُّهُ
أو يقول:
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ ... فَلا تَقنَعْ بِما دونَ النُّجُومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ حقيرٍ ... كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ






24-أبو فراس الحمداني
( 320 - 357 ) هـ
1- حياته ونشأته:
ولد الحارث بن سعيد بن حمدان عام (320هـ) في الموصل وتوفي بحمص (357هـ) وكان أبوه قد توفي وهو طفل مكفله ابن عمه سيف الدولة. حيث تلقى الشاعر علومه وخالط العلماء والأدباء وصاحب سيف الدولة في غزواته و تقلد ولاية منبج وحرّان وهو في السادسة عشرة من عمره أسر مرتين في حصن خرشنة والقسطنطينية وكتب وهو في الأسر الروميات ، وقد ثار أبو فراس على أبي المعالي، ابن سيف الدولة.
ب-شخصية أبي فراس الحمداني:
1-الصفات الجسمية: يعد أبو فراس من الشعراء ذوي الطلعة البهية، والقوام المعتدل، ولم تذكر كتب الأدب صفات منفردة إذ أن زوجة امبراطور الروم أصرت على رؤية الشاعر وأعجبت به ايما إعجاب.
2-الصفات النفسية: امتلك أبو فراس رقة في الإحساس وصدقاً في العاطفة، وطموحاً نحو المجد، وزهوراً في النفس، وقد كان فارساً مقداماً، عانى من الأسر ما عانى، فانعكس ذلك على نفسه التي أصبحت متألمة لما يحس به.
نحن إذن بإزاء بطل من أبطال الحمدانيين، وقد استيقظت فيه شاعريته منذ مطالع شبابه، واتجه بها إلى الغزل والفخر بأسرته والاعتداد بشجاعته وغنائه في الحروب هو وآله، وقراعهم لكتائب الروم وغير الروم على شاكلة قصيدته المشهورة:
سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم ... وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ
وفخره يمتلئ بالحيوية؛ لأنه يصوِّر فيه واقعًا لا وهمًا من أوهام الخيال. وجرَّته شيعيته -والحمدانيون جميعًا شيعة- إلى نظم قصائد في آل البيت يتعرض فيها أحيانًا لخصومهم العباسيين. وخير أشعاره جميعًا رومِيَّاته التي نظمها في أسْرِهِ والتي كان يرسل بها إلى سيف الدولة معاتبًا لتقاعسه عن فدائه، وهي تكتظ بالحنين إلى الأهل والشكوى من الدهر والرفاق، ومن روائعها قصيدته التي يخاطب فيها أمه والأخرى التى يرئيها بها رثاء حارا . وهو بارع في تصوير أحاسيسه ومشاعره، سواء تحدث إلى ابن عمه وهو في أسره أو خاطب حمامة تنوح ، أو صور ليلة من ليالى حبه . غير أن شعره في جملته لا يصعد إلى الأفق الذى يحلق فيه المتنبى، لسبب بسيط وهو أنه أمير مترف، يتناول شعره كما يتناول حياته في يسر وسهولة.
ج- شعره:
كتب أبو فراس في أعراض الشعر العربي معظمها من غزلٍ ورثاء ووصف ومدحٍ، ولكنه برع في الغزل والفخر .
1ً- الفخر عند أبي فراس:
اتخذ الفخر عند هذا الشاعر منحيين ، منحىً يتجه فيه إلى النفس وفيه يقول:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ
ومنحىً يتجه فيه إلى قبليته وبذلك يقول:
لنا الحبل المطلُ على نزارٍ حللْنا النجد فيه والهضابا
تفضّلها الأنامُ ولا غاشى ونوصف بالجميل ولا غاتى
2ً- الغزل عند أبي فراس:
نظراً لاعتداد الشاعر بنفسه وما يمتكله من أنفة وكبرياء وعزة نفس ، فقد توجه بغزله إلى الصفات المعنوية عند المرأة ولا يتطرق إلى المفاتن الجسدية ، لذلك بدا غزله مشوباً بالحنين والشوق. من ذلك قوله:
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
معللتي بالوصل والموت دونه إذا مت ظمآناً فلا نزل القطرُ
3ً- العتاب عند أبي فراس:
وهو مجموعة من القصائد التي قالها معاتباً سيف الدولة على تقصيره بافتدائه من الأسر ، وخاصة وأنه أسر مرتين، لاقى خلالهما العنت والعذاب والحزن على فراقه أمه ومحبوبته .
وحبحبته:
أمن بعدل بعد بذل النفس فيما تريده أثاب بمر العتب حين أثاب
مليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
د- والحكم على شعر أبي فراس:
تميز شعر أبي فراس بميزتين أساسيتين . الأولى : دقة التعبير العفوي لدى الشاعر ، والثانية : الثقافة العصرية المتنوعة التي عكست شخصية الشاعر.
ويعد أبو فراس من شعراء الطبقة الأولى في العصر الحمداني فالعاطفة لديه متوقدة صادقة متوقدة صادقة حارة لا يشوبها أي تزوير أو كذب والمعاني عربية خالصة ، والجملة الشعرية أقرب إلى التعبير إلى التصوير .




25-أبو العلاء المعري
( 363 - 449)
آ- حياته ونشأته:
ولد أبو العلاء المعري أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي في معرة النعمان سنة (363هـ) وتوفي سنة (449هـ) وقد كفَّ بصره في الثالثة من عمره بعد أن أصيب بمرض الجذري ولا يتذكر من الألوان إلا اللون الأحمر .
وقد نشأ في بيت علم ووجاهة ، حيث توارثت أسرته القضاء ، نهل المعري من الثقافة الإسلامية والفلسفية والاغريقية، واطلع على المذاهب والفرق الدينية عند الهنود ، وتبحر في معرفة الديانة النصرانية واليهودية وحاول التكسب بشعره في أول الأمر ، وسافر إلى بغداد ثم رجع بعد وفاة أبيه وعاود الكرة في السفر إلى بغداد ليجد أمه توفيت ، فاعتزل الناس وألزم نفسه الإقامة في بيته حتى توفي .
وقد التقى بكثير من الأدباء والشعراء وتتلمذ على يديه نفر كبير من أهل الأدب ، أعجب كثيراً بشعر المتنبي وكان ذلك سبباً في خلافه مع الشريف الرضي .
ب- شخصيته:
1-الصفات الجسدية : يتسم المعري باستثناء عاهة العمى بصورة مقبولة ومعهودة بين الناس، ولم تذكر كتب الأدب أي صفات تبين قبحاً ما فيه باستثناء العمى.
2-الصفات النفسية والفكرية : امتلك المعري ذكاءً شديداً وحافظة قوية مكنته من الاطلاع على ثقافة عصره ولكن قراءته المنوعة ، ونظرة الناس إليه كصاحب عاهة بالإضافة إلى ما عاناه من معاملة متميزة جعله ميالاً إلى التشاؤم .
الصفات الثقافية : نظراً لاتساع ثقافة الشاعر واطلاعه على مذاهب الفكر والفلسفة والدين، فقد وقف من الحياة موقفاً نافراً وصريحاً يعتمد على أن وجود الإنسان "خطيئة" يجب عليه ألا يكررها على غيره وأن الفساد والشر مطبوعٌ في نفس الإنسان ، وأنه لا يمكن أن يعاش في هذه الحياة بالأخلاق الحميدة ضمن النظرة الواقعية ولذلك نراه يقول:
"هذا ما جناه أبي عليَّ ، وما جنيت على أحد" ومن هنا حرم على نفسه اللحوم والزواج، واحتبس نفسه مدة تزيد على أربعين سنة لزم فيها بيته، ولم يخرج إلا إلى قبره، ومع ذلك فقد امتلك نفساً إنسانية تحبّ الخير للناس جميعاً.وهو بذلك يناقض موقف أبي فراس من خلال قوله :
ولو أني حبيت بالخلد فرداً لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليست تنتظم البلادا
بينما أبو فراس يقول:
معللتي بالوصل والموت دونهإذا متُّ ظمآن فلا نزل القطر
ج- شعره:
لم يظهر في الشعر العربي شاعر فيلسوف استطاع أن يمتلك زمام الحكمة ، وأن يقف من الحياة والكون وحوادث الإنسان مثل المعري ، فقد كان هذا الشاعر من الشعراء الذين أسسوا لخدمة الفلسفة للشعر ، إذ تميز شعره باعتماده على الفكر والفلسفة أكثر من العاطفة والوجدان وقد ترك لنا المعري حوالي مئتين من المؤلفات في الشعر والنثر ضاع أكثرها وبقي منها :
(سقط الزند- اللزوميات- الدرعيات- رسالة الغفران- رسالة الملائكة- الفصول والغابات- شرح دواوين المتنبي والبحتري وأبي تمام).
يمثل ديوان سقط الزند بداية حياة الشاعر ،حتى رجوعه إلى بغداد ، ويكشف عن خصائص شعره في تلك المرحلة .
الدرعيات:ديوان شعر في وصف الدروع.
اللزوميات:وهي الممثل الحقيقي لشخصيته الفكرية والفلسفية وتأملاته في الحياة ، والموت, وقد ألزم نفسه في هذه القصائد بحرفين قبل القافية، وسلسل القوافي وفق حروف المعجم.
رسالة الغفران :وهي أعظم مؤلف نثري كتبه المعري على شكل رحلة مصورة خيالية إلى الجحيم والجنة والتقى فيهما بالشعراء كلٌّ بحسب موقعه ، ساق ذلك بجو نقدي ساخر، وقد تأثر بهذا المؤلف الشاعر الإيطالي ((دانتى)) في الملهاة أو الكوميديا الإلهية.


د- أغراض الشعر عند المعري :
كتب المعري في الفخر والوصف والرثاء والحكمة والمديح يقول المعري في الفخر مبيناً سجاياه النفسية والخلقية وهمته العالية في سعيه إلى المجد ومكانته المرموقة:
1-فخره :
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل عفافٌ وإقدامٌ وسيبٌ ونائلٌ
وإني- وإن كنت الأخير زمانهُ لأتِ بما لم تستطعه الأوائلُ
وهو بذلك يحاكي المتنبي الذي كان معجباً به إعجاباُ كبيراً في قوله:
إذا غامرت بشرف المروم فلا تقنع بما دون النجوم.
2- وصفه :
ويقول المعري في الوصف:
ليلتي هذه عروس من الزن ج عليها قلائد من جمان
هرب النوم عن جفوني فيها هرب الأمن عن فؤادي الجبان.
وكأن الهلال يهوى الثريا فهما للوداع معتنقان.
وسهيل كوجنة الحبِّ في اللون وقلب المحب في الخفقان.
3- رثاؤه :
يقول أيضاً في الرثاء الفلسفي :
صاح هذه قبورنا تملأ الرح ب فأين القبور من عهد عاد.
4-حكمته:
ويقول في الحكمة :
قالوا: فلانٌ جيدٌ لصديقه لا تكذبوا ما في البرية جيدُ
ومما ينسب له قوله :
زعموا أني سأبعث حياً بعد طول المقام في الأرماس
وأجوز الجنان ارتع فيها بين حور ولدة أكياس
أي شيءٍ أصاب عقلك يا مسكين حتى رميت بالوسواس.
وقال أيضاً في وصف منتقدي العميان :
قالوا: العمى منظرٌ قبيحٌ قلت: بفقدانكم يهون
والله ما في الوجود شيءٌ تأسى على فقده العيون
ويقول أيضاً واصفاً المعاصي:
زعم الجهول ومن يقول بقوله إنّ المعاصي من قضاء الخالق
إن كان حقاً ما يقال فلم قضى حد الزناد أو قطع يد السارق
ويقول أيضاً وهو مما ينسب إليه:
في القدس قامت ضجة ما بين أحمد والمسيح
هذا بنا قوسٍ يدق وذا بأذنٍ يصيح
وكل مسند دينه يا ليت شعري ما الصحيح
5-نقده الاجتماعي:
يعد المعري شاعراً بارعاً في انتقاد العادات والتقاليد والأديان والظلم الاجتماعي والإنساني.
يغدو الفقير وكلُّ شيءٍ جندّه والأرض تغلق دونه أبوابها
فتراه مجفواً وليس بمذنبٍ ويرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأيت ذابرةٍ هشت إليه وحرّكت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً بائساً نبحت عليه وكشرت أنيابها
ويقول في انتقاده الديانات الوضعية والسماوية:
عجبت لكسرى وأشياعه وغسل الوجوه ببول البقر
وقول اليهود إلهٌ يحب وسيس الدماء وريح القتر
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله وتزويج بنته لابنيه في الدنا
علمنا بأن الخلق من أصل ريبة وأن جميع الناس من عنصر الزنا
ه-تعقيد التصنع عند أبي العلاء
يعتد المعري بالغريب والشاذ في التراكيب، كما يعتد بالتصنع لألفاظ الثقافات المختلفة والتغني بالفيافي والحكم والأمثال والفخر بنفسه وذم الدهر والشكوى منه مع عنايته واسعة بالجناس. ومن يقرأ اللُّزوميات وينظر فيها نظرة فنية من حيث الصياغة والتنسيق يلاحظ أن جوانب كثيرة منها واهية؛ إذ استغرقها أبو العلاء بالتَّكرار حتى كاد أسلوبه أن يسقط في غير موضع من مواضعها، نعم إنه وفق في بعض أبياتها ولكن الكثرة الغالبة يعمها الإسفاف والضعف، وكأني به نسى أسلوب الشعر الذي كان يعرفه في سقط الزَّند، وهل يستطيع الإنسان أن يؤمن بأن اللُّزوميات أنشأها أبو العلاء بعد ديوان "سقط الزند" بنفس صورة صياغته؟! على أنه ينبغي أن نعرف أن سقط الزند لا يعتبر مثلًا أعلى في الصياغة الفنية للشعر العربي، وقد أظهر فيها تفوقًا نادرًا من حيث الصياغة وخاصة مرثيته:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نوحُ باكٍ ولا ترنُّم شادِ
وإن هذه القصيدة لتتفوق على كل ما كتبه في لزومياته، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه يسود فيها الخلل والضعف في البناء. إن السقط جيد بخلاف اللُّزوميات،
أن أبا العلاء لم يكن يعني بتجويد شعره وتحبيره في اللزوميات فهو لا يعطيه المهلة الكافية للصقل والانتخاب والتنقيح، ثم التأليف والتنسيق، فخرج شعره مهلهلًا ضعيف النسج ليس فيه شيء من حبكه التعبير ولا جمال التصوير إلا في القليل الأقل. والحق أن أبا العلاء لم يستطع أن ينهض بالصياغة الفنية في لزومياته إذا كان يعتمد على تكرار الأفكار، وإن الإنسان ليخيل إليه أن هناك مجموعة من الأفكار ما يزال ينظمها أبو العلاء على قوافٍ وحروف مختلفة، وهو يغاير في القافية أوفي الحرفين الأخيرين؛ ولكنه قلما حاول أن يغاير في المعاني والأفكار، وليس في اللزوميات غالبًا جمال في الصياغة ولا تنويع في الأفكار؛ إنما فيها بدء وإعادة وتكرار غريب للمعاني، وهي معانٍ عامة وكثيرًا ما ينقصها العمق والابتكار، وما يزال المعري ينظمها على حرف من الحروف كالباء ثم يعود إلى حرف آخر كالتاء، وهو ينظمها مرة على حرف الباء أو غيرها مضمومة، ثم يعود مرة أخرى أو مرارًا فينظمها على حرف الباء أو غيرها من الحروف مكسورة أو منصوبة أو ساكنيجتر أفكارًا محفوظة يكررها على قواف وأوزان مختلفة. ولعل ما يصور ذلك تصويرًا واضحًا رسالته المسماه باسم "ملقى السبيل" حيث نجده يصوغ المعنى نثرًا، ثم يصوغه شعرًا على هذا النمط؛ إذ يقول: "كم يجني الرجل ويخطئ، ويعلم أن حتفه لا يبطئ:
إن الأنام ليخطئو ... ن ويغفر الله الخطيئةْ
كم يبطئون عن الجميـ ... ل وما مناياهم بطيئةْ
إن أبا العلاء كان واعظًا في لزومياته، ولذلك لم يحسن صوغ أفكاره في الأساليب الخاصة بالشعر؛ لأن الوعظ من طبيعته التكرار، وهو يلائم النثر، ولا يلائم الشعر،
وكذلك لم يوفر أبو العلاء مجهودًا واسعًا في إحكام صياغته؛ إذ كان مشغولا عنها بعقد ولوازم غريبة في لزومياته، لقد تكلف في هذا التأليف ثلاث كُلَف: الأولى أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها، والثانية أنه يجيء رويُّة بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك، والثالثة أنه لزم مع كل روي فيه شيء لا يلزم من باء أو تاء أو غير ذلك من حروف". ونحن نلتفت من هذه الكلف إلى أن اللزوميات ليست ديوانًا بالمعنى المألوف عند العرب .. إذ يقول:
أراني في الثلاثة من سُجُوني ... فلا تسأل عن الخبر النَّبيثِ
لفقدي ناظري ولزوم بيتي ... وكونِ النفسِ في الجسمِ الخبيثِ
وذهب يحبس أفكاره في هذه السجون العروضية السابقة ولم يكتف بها؛ يتصنع الإغراب في ألفاظه، وعمَّم ذلك في جميع أشعاره وكتاباته، حتى ليشعر الإنسان في أحوال كثيرة بأنه يقرأ في متن من متون اللغة العويصة، ولعل من الطريف أن أبا العلاء استطاع أن يستخدم هذا الجناس استخدامًا مزدوجًا فهو يأتي به غالبًا ليعبر عن جناس من جهة وليعبر عن لفظ غريب من جهة أخرى. كان أبو العلاء يستخدم الجناس استخدامًا لغويًّا يريد به أن يدلَّ على مهارته في اللغة قبل أن يدل على مهارته في استخدام لون قديم من ألوان التصنيع. ولم يكتفِ أبو العلاء بما أحدثه بين الجناس والألفاظ الغريبة من مزاوجة؛ بل راح يصعب على نفسه؛ إذ نراه يطلبه بين حَشْوِ البيت والقافية، حتى يحدث هذه القيم المعقدة في قوافيه؛ فهو يلتزم فيها حرفين أو أكثر، وهو يلتزم فيها اللفظ الغريب، وهو يلتزم الجناس بينها وبين ألفاظ البيت، عَذيري مِنَ الدُّنيا عَرَتني بِظُلمِها ... فَتَمنَحَني قُوَّتي لِتَأخُذَ قُوَّتي
وَجَدتُ بِها ديني دَنِيًّا فَضَرَّني ... وَأَضلَلتُ مِنها في مُروتٍ مُروَّتي
أخوتُ كما خاتتْ عقابٌ لو انني ... قدرتُ على أمرٍ فَعُدَّ أخوَّتي
وأصبحتُ في تِيهِ الحياةِ مناديًا ... بأرفعِ صوتي أين أطلبُ صوَّتي
وكان اللزوميات إنما جاءت لتحدث هذه الصعوبات والتعقيدات في الشعر وما يطوَى فيها من شعب ومنعطفات؛


26-أبو تمام الطائي الجاسمي
188 ـ 232
أ-حياته ونشأته:
ولد جيب بن أوس الطائي في قرية جاسم بحوران على خلافٍ في مكان بين جاسم القرية التابعة لمدينة منبج وجاسم الواقعة بين طبرية ودمشق (188هـ) وتوفي عام (232هـ).
ويروى أن اسم والده (قدوس) فحرفه إلى أوس، كان والده يبيع الخمر، انتقل أبو تمام إلى دمشق في ريعان الصبا وعمل عند (حائل) (قزاز) ثم انتقل إلى مصر وبدأ يبيع الماء في المساجد، ولكنه مالبث أن رجع إلى دمشق ثم يسافر إلى العراق واستقر في بغداد ولمع نجمه في أيام المعتصم، وخاصة في وقعة عمورية ، وثورة بابك الخرمي_ ومقتل الأفشين.
ب-شخصيته :تميز أبو تمام بالذكاء والبديهة السريعة والإطلاع الواسع وانفرد بمذهب البديع والجدل، ومن أشهر مؤلفاته: (الجماسة – نقائض جرير والأخطل – ديوانه).
ج-أغراض أبي تمام الشعرية:
كتب أبو تمام في المدح والرثاء والوصف والهجاء والغزل.
1-2-المدح والرثاء: نظراً لكثرة مدائح ومراثي الشاعر أطلق عليه البعض (مدّاحه – نوّاحه) وقد بلغ عدد ممدوحيه نحو ستين شخصاً، وبقي في مدحه منهج منهج القدماء يوطيء لمدحه بالحكم أحياناً، وبالوصف أحياناً أخرى، وبالمدح دون توطئة مباشرة أحياناً، فهو مولع بالوقوف على الأطلال والبكاء على الديار وتميز مدحه بما يلي :
آ- الجزالة
ب- طول النفس
ج- شدة الجرس
د- الفخامة في الألفاظ
هـ- المعاني العربية
و- جعل الممدوح متميزاً بالنبل
ز- إدخال البديع إلى شعره
ح- العظمة
يقول أبو تمام مادحاً المأمون :
الله أكبر جاء أكبر من جرت فتعثرت في كهنه الأوهام
من شرّد الإعدام عن أركانه بالبذل حتى أستطرف الإعدام
ويقول في مدح المعتصم:
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجا بها فليتق الله سائله
ويقول في مدح المعتصم:
لقد تركت أمير المؤمنين بها للنار يوماً ذليل الصخر والخشبِ
أما رثاؤه وإن كان أقل من مدحه فقد أجاد به أبو تمام إجادة كبيرة ويقسم إلى قسمين:
الأول :رثاء المشهورين من القادة ، كرثاء محمد بن حميد الطوسي الذي وجهه المأمون لقتال بابك الخرمي فقتله عام (214هـ)
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ
فتى مات بين الطعن والضرب ميتةٌ تقوم مقام النصر إذ فاته النصرُ
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتّلت عليه القنا السمر
الثاني :رثاء ذوي قرباه ويتميز بالأسف والأسى واللوعة والمبالغة في الإطراء ، يقول في رثاء أخيه :
لم يبق من بدني جزءٌ علمت به إلا وقد حلّه جزءٌ من الحزن
3- الوصف:
امتلك أبو تمام خيالاً ثاقباً ساعده في إبراز مقدرته في وصف ما كان يقع تحت ناظريه، وقد كان وصفه مستقلاً أحياناً وموزعاً بين فنون الشعر أحياناً أخرى والوصف عنده نوعان:
أ-وصف الطبيعة:وقد شمل ذلك القسم الأكبر من وصفه بسبب نشأته في منطقة خضراء وبسبب كثرة اسفاره وتميز وصفه بما يلي :
1-دقة الملاحظة
2- استقراء أخفى دقائق الموضوعات
3- التأمل الفكري
4 - استخراج خفايا معاني غامضة
5-الاتكاء على الصور والمعاني القديمة
6-التوغل في المجاز
7-شدة الانفعال النفسي
8-الإكثار من المحسنات
9-قوة الخيال المبدع
10-بث الحياة والحركة والدفء في الموصوف
يقول في وصف الربيع:
يا صاحبي تقصيا نظريكما تريا وجوه الأرض كيف تصّورُ
تريا نهاراً مشمساً قد شابه زهر الرّبى فكأنما هو مقمرُ
ويقول في وصف سحابة ممطرة:
ديمةٌ سمحةٌ القياد، سكوب مستغيث بها الثرى المكروبُ
وصف المعارك: وقد أبرز فيه أبو تمام شعراء عصره لإجادته فيه أيما إجادة ويتميز ب-وصف المعارك عنده:ويتصف ب:
1-النفس الملحمي
2-التصوير الواسع والمخيف للأحداث الخطيرة
3-الخيال الرحب
4-الاعتماد على الوقائع التاريخية
5-لانفعال النفساني
6-الأسلوب الجزل
7- الألفاظ الفخمة
يقول أبو تمام في وصف عمورية:
تسعون ألفاً كأساد الشرى نضحت جلودهم قبل نضج التين والعنب
بصرتَ بالراحة الكبرى فلم ترها تنال إلاّ على جسر من التعب
4- الغزل عند أبي تمام:
لا يعد وأن يكون غزل الشاعر غزلاً تقليدياً، يمثل ظاهرة الوقوف على الأطلال وباستثناء بعض المقطعات الشعرية التي بدا فيها الغزل وجدانياً بقي أبو تمام يعتمد الوقوف على الأطلال يقول في غزله الطلبي:
سعدت غربة النوى بسعاد فهي طوع الاتهام والانجاد
ويقول في غزله الوجداني:
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزلِ


د-الخصائص الفنية لشعر أبي تمام
يمتاز شعر أبي تمام الخصائص التالية:
1-الغوص على المعاني البعيدة والصعبة:التي لا تدرك إلاّ بكد الذهن :
ضوءٌ من النار والظلماء عاكفة وظلمة من دخان في ضحى شحب
2-الاعتماد على الفلسفة والبراهين المنطقية في عرض الأفكار:
السيف أصدق أنباءً من الكتب في حدّه الحدَّ بين الجدّ واللعبِ
3-إلباس المعاني صوراً من التشبيهات والاستعارات المنسوجة في خياله:
لقد تركت أمير المؤمنين بها للنار يوماً دليل الصخر والخشبِ
4-إتكاؤه على بعض صور الآخرين:
يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفلاً معسولة الحلب
5-الإسراف في المحسنات البديعية كقوله مرصعاً:
تبدير معتصم بالله منتقم لله تقب في الله مرتغب
6-التعقيد والإغراب بحثاً عن الجديد من خلال استعمال الألفاظ الأبدة :
فاسلم سلمت من الآفات ما سلمت سلام سلمى ومهما أورق السلم
ه-صنعة أبي تمام:
تنوعت ثقافة أبي تمام حتى إنك تجد في شعره ألفاظ كثيرة تدل على ثقافاته المتنوعة، فمن ذلك قوله:
كم في النَّدى لك والمعروف من بدعٍ ... إذا تُصُفِّحت اختيرت على السُّن
ونحس كأن الشعر أصبح تنميقًا وزخرفًا خالصًا؛ فكل بيت في القصيدة إنما هو وحدة من وحدات هذا التنميق والزخرف، وهو ليس زخرفًا لفظيًّا فحسب، بل هو زخرف لفظي ومعنوي يروعنا فيه ظاهره وباطنه وما يودعه من خفيَّات المعاني وبراعات اللفظ. ومعنى ذلك أن التنميق والزخرف عند أبي تمام لا يحجبان عنا مشاعره وأحاسيسه بل هما جزء لا يتجزأ من هذه المشاعر والأحاسيس. ونحن لا نقرأ فيه حتى نحس أثر عنائه وأنه كان يجهد نفسه في صنع شعره إجهادًا شديدًا، و إن له ستمائة قصيدة وثمانمائة مقطوعة، وأكثر ما له جيد، والرديء الذي له إنما هو شيء يستغلق لفظه فقط فأما أن يكون في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا، وقد أنصف بالبحتري لما سئل عنه وعن نفسه فقال: "جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه، وذلك لأن البحتري لا يكاد يغلظ لفظه؛ إنما ألفاظه كالعسل حلاوة، والحق أن من يقرأ في شعر أبي تمام يحس إحساسًا واضحًا بأنه كان يشقى في بنائه واستنباط معانيه كما يشقى صيادو اللؤلؤ فهو يتنفس فيه الدم، وكان يشعر بذلك في دقة؛ فأكثر من وصف أشعاره بالإغراب والغرابة على شاكلة قوله:
خذها مغرِّبةً في الأرض آنسةً ... بكل فهمٍ غريبٍ حين تغتربُ
فهو يطلب الإغراب في فنه، حتى يسبغ على شعره كل ما يمكن من آيات الفتنة والروعة، وقد عاش لصناعته ينمِّيها ويخلع عليها كل ما يمكن من وسائل الزخرف والتصنيع، وما زال بها حتى جعلها تنميقًا وزينة خالصة؛ فهي حَلْيٌ أنيق ووشي مرصع كثير، وصوَّر ذلك في بعض شعره، فقال:
خذها مثقفةَ القوافي، ربها ... لسوابغ النَّعماء غير كنودِ
كالدر والمرجان ألِّف نظمُهُ ... بالشَّذر في عنق الكعاب الرُّود
كان أبو تمام يستخدم المحسنات التي تسمى بالطباق والجناس والمشاكلة والتصوير، والتي يقوم في نفوس كثير من الناس أنها كل ما كان يعتمد عليه الشاعر العباسي من وشي في تطريز شعره وتنميقه، يضيف إليها وشيًا آخر من الثقافة والفلسفة، لعله أروع من هذا الوشي المعروف؛ وربما أسرف أبو تمام في الْمُطابق والْمُجانس ووجوه البديع من الاستعارة حتى استثقل نظمه واستُوخم رصفه" .
وفي هذا ما يجعلنا نلتفت إلى جانب مهم في استخدام ألوان التصنيع، ذلك أنها تستخدم على طريقتين:
الطريقة الأولى :أن تأتي متعاقبة لا يتعلق بعضها ببعض
الطريقة الثانية:فتمتزج فيها هذه الألوان، ويمر بعضها في بعض فتتغير شياتها وهيئاتها، كما نجد عند أبي تمام في أكثر أحواله.
ولعل أهم لون استعان به أبو تمام على هذا المزج والاتحاد هو لون التصوير؛ فقد كان يمزجه بالجناس، وكان يمزجه أيضًا بالطباق والمشاكلة، واقرأ هذا البيت:
كل يومٍ له وكل أوانٍ ... خلقٌ ضاحكٌ ومالٌ كئيبُ
فإنك ترى فيه طباقًا بين الضحك والكآبة؛ ولكنه ليس طباقًا خالصًا؛ ففيه شِيات لون آخر هو لون التصوير، وكأنما الكلمتان تتكافآن في النسبة إلى ألبست فوق بياض جدك نعمةً ... بيضاءَ تُسرع في سوادِ الحاسدِ
وعلى هذا النمط يستمر أبو تمام يغمر اللون من الجناس أو الطباق أو المشاكلة في أصباغ لون التصوير؛ بل إن هذه الألوان جميعًا ليمر بعضها في أوعية بعض فإذا هي تتجلى في هيئات وشيات جديدة. والتصويرُ في شعرِ أبي تمامٍ يمتزج بالجناس والطباق والمشاكلة؛ فقد كان أبو تمام يشغف به شغفًا شديدًا، واستطاع أن يحلِّلَهُ إلى أصباغه المختلفة، وأن يستخدمها استخدامًا واسعًا في شعره؛ وقد كان يعتمد على صبغ التدبيج؛ حتى يعطي لصوره ألوانًا حسية ملموسة، كما نرى في مثل قوله:
كأن سوادَ الليلِ ثم أخضرارَهُ ... طيالسةٌ سودٌ لها كُففٌ خضرُ
والحق أن أبا تمام كان يحسن هذا الصِّبْغ في تصويره إحسانًا شديدًا، ، كما كان يستعير منه صبغين آخرين، هما: التجسيم والتشخيص. أما التجسيم فقد ملأ به أبو تمام شعره؛ إذ نراه يجسِّم المعاني في صور مادية حسية حتى تثبت في نفوسنا كأن يقول:
راحتْ غواني الحيّ عنك غوانيا ... يلبسن نأيًا تارةً وصدودا
أحلى الرجال من النساء مواقعًا ... من كان أشبههم بهن خدودا
فقد جسَّم النأي والصدود في هذه الثياب الغريبة
فهو يتصور الندى بكرياته اللؤلؤية طيبًا سقط من غدائر السحاب وشعره المسترسل على لمم الثرى ولحاه من العشب والأشجار. ونمضي معه فيقول:
من كل زاهرة ترقرقُ بالندى ... فكأنها عينٌ إليك تحدرُ
تبدو ويحجبها الجميمُ كأنها ... عذراءُ تبدو تارةً وتخفَّرُ
حتى غدت وهداتها ونجادها ... فئتين في حُلَلِ الربيعِ تبخترُ
وليس من شك في أن هذا تشخيص رائع. وقد ذهب أبو تمام يعمم هذا التشخيص في جميع صوره وأفكاره،
وإنه لينبغي أن نعرف أن أبا تمام لم يحدث هذا الصبغ في اللغة العربية إحداثًا؛ فمن قبله نجد له أمثلة منتشرة في النصوص القديمة، وذكر ابن المعتز في كتابة البديع طرفًا منها، من ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} وقوله عز وجل: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} ، وجاء في الشعر الجاهلي، يقول امرؤ القيس في وصف الليل:
فقلتُ له لما تمطَّى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناءَ بكَلكَلِ
ولكن أبا تمام أكثر منه واتخذه مذهبًا له يغمر فيه أبياته، فما تزال تتألق في صبغ عجيب
وأبو تمام لا يقف بفنه عند هذه الألوان القديمة من التصنيع التي يبتهج بها الحس؛ بل نراه ينفذ إلى ألوان جديدة يبتهج بها العقل، وهي ألوان قاتمة، كانت تتسرب إليه من الفلسفة والثقافة العميقة. وفي هذه الألوان القاتمة الجديدة تستقر مهارته إذا قسناه بغيره من الشعراء الذين سبقوه أو عاصروه؛ فالطباق والجناس والتصوير والمشاكلة، كل ذلك يزدوج بالفلسفة وألوان الثقافة القاتمة، فيجلِّله الغموض الفني
ومهما يكن فإن شعر أبي تمام يستحوذ على صعوبات كثيرة؛ إذ نراه يمتلئ بكثير من الأسرار الغامضة التي تجعل الإنسان يخرج عن نطاق نفسه ويسير مع الشاعر كما يريد له في هذا العالم الحالم. أما ما فيه من صعوبة والتواء فذلك طبيعي عند شاعر كان يعتمد في شعره على الفلسفة والفكر الدقيق، وهل يمكن لشاعر يلعب العمق والخفاء في شعره وتلعب الفلسفة والثقافة في فنه أن يعبر تعبيرًا مألوفًا؟ وقد يخطئ أحيانًا إنه يبتكر أفكارًا وصورًا جديدة؛ ولكنه يحس دائمًا أن اللغة لا تستطيع أن تؤدي ما يريد
وكان أبو تمام يعتمد في شعره على الغموض وإن تغشاه سحب زاهية من الفلسفة والثقافة، ولم يعد هناك ما يعوق التزاوج والاتصال الشديد بين التفكير الفني والتفكير الفلسفي والثقافي. وإن الإنسان ليحار إزاء هذه الموهبة النادرة في المزج بين التفكير الثقافي والتفكير الفني؛ فكل منهما يغمس في ليقة الآخر ويصبغ بأصباغه؛ فيتغير عن شِياته المعروفة وهيئاته المألوفة. أما الرمز فولَّده تفكيره العميق؛ إذ كان يلتفُّ لون التصوير على هذا الجانب العقلي في شعره، أو بعبارة أدق الجانب الفلسفي، فتحدث تلك الرمزية الواسعة التي يلاحظها كل من يقرأ في أشعاره. وكان يستعين على أحكامها بصبغين مهمين من أصباغ التصوير، وهما: التجسيم والتدبيج؛ إذ نراه يجسم معانيه العميقة في صور حسية لا يلبث أن يدبجها بألوان مادية. وانظر إلى قوله في بعض ممدوحيه:
أبديت لي عن جلدة الماء الذي ... قد كنت أعهده كثيرَ الطُّحْلُبِ
ووردتَّ بي بحبوحة الوادي ولو ... خلَّيتني لوقفت عند الْمِذنَبِ
يقول له: إنك صفَّيت لي العطاء وكنت أراه من غيرك كدرًا وعسرًا؛ ولكن انظر كيف رمز لهذه الفكرة، فإنك تراه يبدأ فيجعل للماء جلدة، كما قالوا: جلدة السماء وأديم الأرض، ثم يستمر فيعبر عن الكدر والعسر بركوب الطحلب للماء، ويصور نفسه مع ممدوحه في بحبوحة الوادي وقطع الرياض؛ بينما غيره يقف به عند المذنب فلا يُنيله إلا الوَشل القليل.
وعم هذا التجسيم في شعر أبي تمام كأن يقول لابن أبي دؤاد:
يا أبا عبد الله أوْرَيتَ زندًا ... في يدي كان دائمَ الإصلادِ
أنت جبت الظلام عن سبل الآمال ... إذ ضلَّ كلُّ هاد وحادِ
فقد عبر عن نُجْح مطلبه عنده وإخفاقه عند غيره بهذا الزناد الذي أوراه في يده، واستمر فقال: إنه كشف الظلام عن طريق الآمال؛ بينما ضل الحداة والروَّاد هذه الطرق. وكما كان أبو تمام يستخدم التجسيم للرمز عن أفكاره البعيدة كان يستخدم التدبيج، ونراه يقول في رثاء ابن حميد الطوسي وقد قتل في الحرب:
تردَّى ثيابَ الموتِ حمرًا فما دجى ... لها الليلُ إلا وهي من سندسٍ خضرِ
فقد جنح في التدبيج يستمد منه ما يريد من الرمز عن أفكاره،
لم يكن أبو تمام يستخدم الطباق استخدامًا ساذجًا بسيطًا؛ بل كان يستخدمه استخدامًا معقدًا؛ إذ يلوِّنه بأصباغ فلسفية قاتمة ما تزال تغير في إطاره بل في داخله تغيرات تنفذ به إلى لون جديد مخالف للطباق؛ فإذا هو من طراز آخر غير معروف، طراز فلسفي إن صح هذا التعبير، ففيه تناقض وفيه تضاد وفيه هذه الصور الغريبة. وكان أبو تمام يستخدمه قاصدًا إليه عامدًا، يقول في مديح ابن أبي دؤاد:
قد غرستم غرس المودة والشَّحْـ ... ـناءِ في قلب كل قارٍ وبادي
أبغضوا عزَّكم وودوا نداكم ... فقروكم من بغْضَة ووِداد
لا عدمتم غريب مجدٍ رَبقتم ... في عراه نوافر الأضداد"
فالناس يحسدونهم لشرفهم ويحبونهم لجودهم" ؛ فهم يأتون بوصفين متضادين ويجمعون بين متناقضين.
ومن يدرس أبا تمام يرى هذه الأضداد متصلة بأخلاقه فهو تارة كريم جدًّا وتارة بخيل جدًّا، وهو تارة متدين مسرف في تدينه وتارة ملحد مسرف في إلحاده.
وأحقُّ الأنام أن يقضي الدَّيـ ... ـن امرؤٌ كان للإله غريما
واقرأ هذا البيت يقول في بعض ممدوحيه:
صيغت له شيمةٌ غرَّاء من ذهب ... لكنها أهلكُ الأشياءِ للذَّهبِ
ومن ذلك قوله:
بيضاء تَسري في الظلام فيَكتسي ... نورًا وتسرُبُ في الضياءِ فيُظْلِمِ
أرأيت إلى هذا التضاد وهذا الضياء المظلم؟ إن حقائق الأشياء تتغير في شعر أبي تمام على هذه الصورة التي نرى فيها الضياء المظلم وإنه لضياء عجيب لا يستطيع شيء أن يعبر عن فتنته؛ وعلى هذا النمط تمتزج أصباغ الطباق عند أبي تمام بهذه الأصباغ الفلسفية الغريبة من نوافر الأضداد؛ فإذا بها تخرجنا من أوقاتنا التي تقيدنا، وتطلقنا من عقال أمكنتنا، وتجعلنا نتحرر في داخلنا من كل ما يتعلق بنا. ولعل هذا هو معنى ما يقولونه من إن الشاعر الممتاز له جو غريب ينقلنا من عالمنا الذي نعيش فيه إلى عالم آخر طليق من الوهم، عالم ينشر فيه أبو تمام من عبق هذه الأضداد ما يؤثر به على أعصابنا وحواسنا تأثيرا يخلد في أذهاننا ، ولعل مما يتصل بذلك ما نراه عنده من استخدام الأقيسة المنطقية؛ فقد كان يستغلها استغلالًا فنيًّا إذ ما يزال بها حتى يغير شياتها المنطقية ويحدث لها شيات جديدة من الشعر والفن . وانظر إلى هذا القياس الطريف يقوله في الرثاء:
إن ريبَ الزمانِ يحسن أن يهـ ... دي الرَّزايا إلى ذوي الأحسابِ
فلهذا يجفُّ بعد اخضرارٍ ... قبل روض الوهاد روض الرَّوابي
ويقول في تحبب الرحلة ومفارقة الأوطان:
وطول مقام المرء في الحي مخلقٌ ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد



27-البحتري
( 206 ـ 284 هـ)
أ-نشأته وحياته:
ولد البحتري عبيد الله بن بحتر الطائي القحطاني في منبج سنة /206/وتوفي سنة /284/ وتلقى تعليمه الأول في منبج ثم انتقل إلى حمص، والتقى هناك بأبي تمام وعرض عليه شعره، فأعجب به وأوصاه بالسير ضمن منهج شعري مختلف عن منهجه، ويتمثل هذا المنهج بالمجانسة بين اللفظ والمعنى، وإظهار المعنى، واتباع نظرية عمود الشعر المتمثل بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والمقاربة في التشبيه، وقد اتبّع البحتري وصية أستاذه أبي تمام حيث قال:
"إنني لم آكل الخبز إلاّ بأبي تمام" وقد رحل البحتري إلى بغداد واتصل برؤساء الدولة وعلى رأسهم المتوكل وبقي شاعر الخلافة مدة تزيد على أربعين عاماً، نال خلالهما العطايا والأموال الكثيرة.
ب-شخصيته:
امتلك البحتري شخصية تعتمد على موهبة شعرية مبكرة حيث كان لهذا الشاعر مخزون كبير من أشعار العرب، وقد اتصف بصفتين ذميمتين أثرتا في شخصيته كإنسان ولم يؤثرا في شعره كشاعر وهما:
البخل وسوء الملبس، فقد وصفه الأصفهاني بأنه رث الثياب سيء المنظر وسجع الإنشاد، على الرغم من جمال الشعر لديه.
كما وأن البحتري كان يتعلق تعلقاً شديداً بالغلمان وكان يكثر من الأشعار منهم، ومع ذلك فقد بقيت الشخصية الشعرية لديه تحمل طابع الابتكار لأنها تواكب الحوادث التي جرت في عصره.
ج- ثقافته:
تشمل الوعاء الأدبي والفكري الذي اعتمد عليه البحتري ما يلي :
1-حفظ القرآن الكريم.
2- تعليم أحكام الدين الإسلامي
3-تعلم علوم اللغة العربية.
4- الاطلاع على اختبار الفتوح.
5-حفظ عدد كبير من دواوين الشعراء.
6-حفظ المعازي وأيام العرب وأنسابهم.
7-لم يؤثر عنه الثقافة الفلسفية.
د- صفات ديباجته:
1-عدم الغوص إلى المعاني الدقيقة.
2-عدم الاتكاد على الأدلة المنطقية والبراهين العقلية.
3-الابتعاد عن المعاني الفلسفية.
4-الابتعاد عن الغموض والتعقيد.
5-اعتماد الطبع وقلة التكلف.
6-وضوح الديباجة وحسن الانسجام.
ه- عناصر الجمال في شعره:
برزت عناصر الجمال في شعره من خلال :
1- اختبار الألفاظ الشعرية:وجعلها محور الفصاحة والبلاغة إذ أنه كان "يلتقط ألفاظه، ينتقيها ليؤلف منها جملة عذبة رقيقة".
2- المشاكلة بين اللفظ والمعنى:بحيث تبدو الألفاظ أردية للمعاني تلبسها لبوساً تاماً، تجعلنا نشعر بالغياء المتماسك لهذه الألفاظ، من خلال الحروف المناسبة للموضوع المطروح:
تغيّر حسن الجعفري وأنسه وقوض بادي الجعفري وحاضره
تحمّل عنه ساكنوه فجاءةً فصادت سواءً دورُه ومقابره
3- الموسيقا الشعرية العربية :والتي اعتمدت صدى الصوت أساساً لها في ايصال المعاني وفي استعمال القوافي الداخلية "الترصيع".
صنت نفسي عما يدنّس نفسي وترفعت عن جد الحل جبس
وتماسكت حين زعزي الدّهر التماساً منه لتمسي ونكسي
وقد بدا هذا التجانس اللفظي في القافيتين (تعسى ونكسي) من حيث عدد الحروف والحركات والسكنات .
وهكذا بدا البحتري شاعراً بارعاً من شعراء الطبقة الأولى في العصر العباسي .
و-الأغراض الشعرية:
كتب البحتري في معظم الأغراض الشعرية من وصف ومدح ورثاء وفخر واعتذار:والمديح والعتاب، ولكنه أجاد في غرضي المديح والرثاء ، على أنه بارعاً في وصفه وقد اعتبر الدكتور "طه حسين" أن أجود شعر البحتري ما قيل في المتوكل إذ بقي الشاعر يعتمد في مدائحه على المطالع الغزلية كذكر البعد عن الحبيب والألم والشوق الذي يعاني منه.كما أنه كتب في الرثاء مدة أربعين عاماً وكان أجمل رثائه في المتوكل.
1-الوصف:
وصف البحتري في معظم قصائده كل ما وقع تحت ناظريه، وأكثر ما أجاد في وصف الآثار والحضارات والعمران والأبنية ولقصور والحدائق، وكان وصفه دقيقاً واقعياً يصوّر فيه المشهد الموصوف تصويراً يمازج الرسم أحياناً وكأنه بدقته قد أسهم في صنع ذلك الموصوف، وأهم مشهدين وصفهما البحتري هما. ايوان كسرى – بركة قصر المتوكل .
يقول البحتري في وصف معركة أنطاكية اللوحة الباقية في إيوان كسرى على مر العصور:
وإذا ما رأيت صورة أنطا كيّة ارتعت بين رومٍ وفرس
والمنايا مواثل وأوشر وإن يزجي الصفوف تحت الأرض
في اخضرار من اللباس على أحد فريختال في صبيغة ورسِ
2-المدح:
سخّر البحتري معظم شعره في مدح الخليفة المتوكل والخلفاء في عصره والقادة وكان المدح لديه يتميز بالجزالة والقوة وسمو المعاني وقد مدح البحتري شخصيات كثيرة كان فيها المعتز بالله وفيه يقول:
رأينا الأمجاد في كلِّ معشر فكانوا لعد الله في الجود أعبدا
عليه من المعتز بالله بهجةً أضاءت فلو يسري بها المراكب لاهتدا
طلوبٌ لأقصى غاية بعد إذا قلت يوماً قد تناهى تزيدا
3-الرثاء:
كتب البحتري في الرثاء أيضاً فأجاد في ذلك وكان رثاؤه للمتوكل الذي قتله جند الأتراك بعد عزله لابنه المنتصر من ولدية العهد رثاءً بارعاً:
صريعٌ تقاضاه السيوف حشاشة يجود بها والموت حمرٌ أظافره
حرامٌ علىَّ الراح بعدك أو أرى دماً بدم يجري على الأرض حائره
أكان وليُّ العهد أضمر غدرةً؟ فمن عجبٍ أن وليِّ العهد غادره
4-الفخر:
بقي البحتري يفخر بقومه وبطولاتهم وأمجادهم، على اعتبار أنه ينتسب إلى العرب الأقحاح، فكان يضفي على افتخاره بقومه صفات السؤدد والعز والمجد والحلم:
إنَّ قومي قوم الشريف قديماً وحديثاً، مأبوةً وجدوداً
نحن أبناء يعرب- أعرب النا س لساناً وأنضر الناس عودا
ملكو الأرض قبل أن تملك الأر ض وقادوا في حافتيها الجنودا
وكان يفتخر بنفسه وبمكانته التي تؤهله لمجالسة الخلفاء والقادة:
إن أبق أو أهلك فقد نلت التي ملأت صدور أقاربي وعدأتي
وشفعت في الأمر الجليل إليهم بعد الجليل، فأنجموا طلباتي
5-الاعتذار :
دفع البحتري إلى كتابة الاعتذاري في شعره ما حصل بينه وبين الفتح بين خاقان وزير المتوكل بسبب وشاة وقعت بينهما فكيف البحتري معاتباً ومعتذراً:
أقرُّ عالم أجنه، متذخِّلاً إليك، على أني إخالك ألوما
لي الذنب معروفاً وإن كنت جاهلاً به، ولك العتبى عليَّ، وأنعما
ولم يجد البحتري في اعتذاره كما أجاد المتنبي من قبله ، وذلك أن علاقة هذا الشاعر بالملوك والقادة لم تكن علاقة مودة وصداقة بقدر ما كانت علاقة تكسب واقتناص للحال .


ز-مقارنة بين مذهب أبي تمام ومذهب البحتري

أبو تمام البحتري
1- يمزح بين الفكر والشعر . - لا يمزح بين الفكر والشعر
2- يعتمد على الغموض في شعره - يعتمد الوضوح
3- وجود تعقيد في شعره - لا يوجد تعقيد
4- يزاوج بين العقل والحس - يعتمد على العاطفة والمعاني المألوفة
5- يستند إلى ثقافة واسعة - يستند إلى ثقافة واسعة في الشعر وقليلة في الفلسفة والبديع
6- يظهر التكلف في شعره - يظهر الطبع في شعره
7- يعتمد على مذهب البديع - يعتمد على عمود الشعر العربي

ح-صنعةالبحتري
أجاد البحتري إجادة بديعة في مدائحه واعتذاراته، وغزله، فقد كان يقف في صف الصانعين يفهم الشعر على أنه طبع وموهبة، فهو أعرابي الشعر مطبوع، وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروفحافظ على الأساليب الموروثة، عمود الشعر العربي؛ فصناعته أقرب ما تكون إلى صناعة البادية، ليس فيها تجديد ولا خروج على التقاليد، ومن أين يجيئه ذلك وهو ليس من أهل المدن ولا من ثقافتهم وعقليتهم ، على أن هناك جماعة من النقاد سلكته في طائفة المصنعين إنه بدوي تحضر، وتحضرت معه صناعته، وخلع عليها ألوانًا من الجمال الحضري الذي تلقفه من أبي تمام وغير أبي تمام، وإن لم يستطع أن يجاريه وأن يأتي بنماذج على غرار نماذجه، فالبحتري كان يحتفل بهذا البديع أو بهذه الألوان من الجمال الحضري،
كان البحتري يستخدم أحيانًا بعض أدوات التصنيع ولكن في يسر وسهولة ودون أن يعقد فيها كما نرى عند جماعة المصنعين، فهو من أصحاب الصنعة وهو لذلك لا يستطيع أن ينهض بشعره إلى الغاية التي حققها أصحاب التصنيع،
لم يعد التصنيع ويستخدم البحتري- التصوير والجناس والطباق؛ ولكنه استخدام ساذج يخالف ما سنجده عند أبي تمام. واقرأ هذه الأبيات التي تذيع سر المهنة عند البحتري.
مني وصلٌ ومنك هجرٌ ... وفي ذلُّ وفيك كِبر
وما سواءٌ إذا التقينا ... سهل على خلَّة ووعر
قد كنت حرًّا وأنت عبدٌ ... فصرت عبدًا وأنت حرُّ
برَّح بي حبك المعنَّى ... وغرني منك ما يغرُّ
أنت نعيمي وأنت بؤسي ... وقد يسوء الذي يسرُّ
فإنك تجد فيها هذا الطباق الذي عرف به البحتري؛ ولكنه طباق ساذج لا تعقيد فيه ولا تعب ولا عناء ولا مشقة، طباق ضحل بسيط، هو أشبه ما يكون بتداعي المعاني، فلا خيال ولا عمق ولا فكرة؛ إنما وصل وهجر، وذلٌّ وكبر، وسهل ووعر، وعبد وحر، ونعيم وبؤس، وإساءة وسرور، ولكن هل تحس في هذه المعاني المتقابلة شيئًامن اللذة سوى ما فيها من تقطيع صوتي يدفعها عن السقوط؟
لم يكن البحتري يعتمد في شعره على فلسفة وثقافة يعقدان في أدواته، وكان يعرف ذلك من نفسه، كما كان يعرفه معاصروه، وتلوَّموه من أجله فرد عليهم بقوله:
كلفتمونا حدودَ منطقِكُم ... والشعرُ يغني عن صدقِهِ كذبُهْ
ولم يكن ذو القروحِ يلهجُ بالـ ... منطق ما نوعه وما سببُهْ
والشعرُ لَمْحٌ تكفي إشارتُه ... وليس بالهذرِ طوِّلت خطبُهْ
ولكن أحقًّا ما يقول البحتري من أن الشعر لا يحتاج فلسفة ولا منطقًا؟ إن وقائع الفن المادية في العصر العباسي لا تتفق وهذا القول؛ فقد دخلت الفلسفة والمنطق في صناعة الشعر وعقَّدا في وسائله وأدواته هذا التعقيد الذي رأينا وجها من وجوهه عند أبي تمام، ودائمًا نجد شيئًا من المنطق ينقص البحتري في فنه؛ وانظر في صياغته ونقصد الصياغة الذهنية؛ فإنك تراه لا يعنى بتنسيق أفكاره وترتيب معانيه ترتيبًا منطقيًّا دقيقًا. وبونٌ بعيد جدًّا بينه وبين شاعر كأبي تمام في هذا الجانب؛ فإنك تحس عند الأخير بوحدة القصيدة واضحة كما تحس بتسلسل الأفكار، أما عند البحتري فإنك ترى دائمًا خنادق وممرات بين أبياته. و البحتري لا يحسن الخروج من موضوع إلى موضوع في الشعر، وإنه يجنح دائمًا طفرًا وانقطاعًا .واقرأ له هذين البيتين اللذين كانا يروعان السابقين بتقسيمه فيهما؛ إذ يقول:
ذاك وادي الأراك فاحبس قليلًا ... مقصِرًا من صبابةٍ أو مُطيلا
قِفْ مشوقًا، أو مُسْعدًا، أو حزينًا ... أو معينًا، أو عاذرًا، أو عذولا
فإنك إذا نَحَّيتَ جمال الأصوات الذي عرضت فيه الأفكار وجدت البحتري لا يحسن التقسيم؛ لأن التقسيم عمل عقلي يحتاج إلى منطق وهو لم يكن من رجال العقل ولا من رجال المنطق؛ فنحن نراه يقسم من يناديه قسمه متداخلة غير معقولة، إذ يجعله إما مشوقًا أو مسعدًا أو حزينًا أو معينًا أو عاذرًا أو عذولًا، وهي صفات متداخلة، ولكن البحتري يعتذر بأنه ليس من أهل المنطق، فالشعر شيء والمنطق شيء آخر
ومهما يكن فإن عقل البحتري لم يكن من عقل أبي تمام، لا في الدرجة ولا في النوع، بل هو من جنس مخالف. حقًّا إن البحتري أحسن على نحو ما مر بنا في الفصل الثاني جانبَ الموسيقى الداخلية في الشعر وما تستتبعه من المشاكلة بين الألفاظ والمعاني والتوافق الصوتي بين الحروف والحركات والكلمات، وكأني به كان يوفر وقته جميعه للصوت، وهذا جل ما يعتمد عليه في شعره من جو، فهو يطلق الموسيقى ويدعها تؤثر في أعصابنا كما يريد ويشتهي .




28-أبو حية النميري
أ-حياته ونشأته :الهيثم بن الربيعأبو حية النميري, شاعر مجيد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية , وهو أحد شعراء بني نمير بن عامر بن صعصعة , القبيلة القيسية ذات الشأن والخطر في الجاهلية والإسلام , وفي حياة الدولة الأموية والعباسية , فبنو نمير من القبائل العزيزة من قيس عيلان , وإحدى جمرات العرب الثلاث : بنو نمير بن عا مر بن صعصعة , وبنو ضبة بن أد , وبنو الحارث بن كعب , وقد اطئت جمرة بني ضبة لمحالفتها الرباب , كما أطفئت جمرة بني الحارث لمحالفتها قبيلة مذحج , وبقيت بنو نمير لم تحالف فقد كانت عزيزة بنفسها , كثيرة بعددها , ولذلك يفخر أبو حية بهذه الجمرة فيقول :
لنا جمرات ليس في الأرض مثلهم كرام وقد جربن كل التجارب
نمير وعبس تتقي صقراتها وضبة قوم بأسهم غير كاذب
كانت منازل بني نمير الغور من تهامة في الجاهلية , ونزلوا اليمامة في الإسلام مجاورين بني حنيفة , وعرفت اليمامة بالخصب والغدران الجارية والعيون الثرة , وكان بها الزرع والنخيل فعرفت حياتهم الدعة والاستقرار . ونجدهم في العصر الأموي يستقرون في " الشريف " في نجد وهو موقع مخصب فيه الزرع , ويقول القلقشندي : إنهم هاجروا إلى الجزيرة الفراتية والشام بعدوتي الفرات .
ولنمير بن عامر بن صعصعة من الولد أربعة هم : ضنة , وكعب وعامر والحارث , ومن الحارث بن نمير الراعي النميري , أما أبو حية فمن عامر بن نمير , فهما ابنا عم .
أكثر المصادر على أن اسم أبي حية هو الهيثم بن الربيع , أما نسبه فتتفق على انه الهيثم بن الربيع بن زرارة بن كثير بن جناب بن كعب بن مالك بن عامر بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور بن عكرمة بن خفصة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار , فهو من بني عامر بن نمير بن صعصعة ولكن الآمدي ينسبه إلى عامر بن نمير فيقول : (( ويقال هو أجد بني عبد الله بن الحارث بن نمير )) وهذا يعني أنه من فرع الراعي النميري , وليس الأمر كذلك .
ليس لدينا الكثير عن حياة أبي حية , فأخباره قليلة وما ذكر عنه روايات مكررة , فلا تعرف عن أبنائه وأسرته غير حبه لزوجته وكانت ابنة عمه فتوفيت عنه , ويقول ابن المعتز : (( وكاد يخرج عليها من الدنيا وأشعاره الجياد كلها وفي وصفها في حياتها , ومرائيها بعد مماتها )) .
ب-شخصيته :يجمل أبو الفرج ترجمة أبي حية في قوله : (( وأبو حية شاعر مجيد مقدم من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية , وقد مدح الخلفاء فيهما أجمع , وكان فصيحا ً مقصدا ً راجزا ً من ساكني البصرة , وكان أهوج جبانا ً بخيلا ً كذابا ً , معروفا ً بذلك أجمع , وكان أبو عمرو بن العلاء يقدمه , وقيل إنه كان يصرع ))
لا تدري متى ولد أبو حية وبمن اتصل من خلفاء بني أمية وبني العباس , ومع أن أبا الفرج ينص على أنه (( مدح الخلفاء فيهما أجمع )) فليس لدينا من مديحه غير أبيات في مديح مروان الحمار من الأمويين , وأبيات في مديح المنصور من العباسيين , ولذلك لا نستطيع أن نعرف بأي الخلفاء اتصل ومن مدح غير هذين الخليفتين , ويقال انه أدرك أيام هشام بن عبد الملك , فإذا علمنا أن هشاما ً حكم من سنة 105 هـ وتوفي سنة 125 هـ يكون أبو حية قد نشأ إبان هذه الفترة , وبقي حتى أدرك زمن المهدي لأنه مدح المنصور ولدينا أبيات من هذا المديح ورثاه , وإن كنا لا نملك هذا الرثاء . وهذا يعني انه كان حيا ً زمن المهدي ولم يصلنا شعره في المهدي ما دام قد مدح كل الخلفاء الذين عاصرهم كما يقول أبو الفرج , وتنص بعض المصادر على سنة وفاته فيقول البكري : انه مات آخر خلافة المنصور وقد توفي المنصور سنة 158 هـ ويذكر البغدادي تاريخا ً آخر لوفاته فيقول : توفي سنة بضع وثمانين ومائة , وفي طبقات الشعراء لابن المعتز , إشارة إلى انه توفي في حدود العشر والمائتين 210 هـ .
لقد كان لأبي حية صلة بالشاعر ابن مناذر وبينهما حديث ومنافسة , وكان ابن مناذر قد توفي سنة 198 هـ , فمن مقارنة هذه الأرقام نستطيع أن نرجح رواية البغدادي التي تقول انه توفي سنة بضع وثمانين ومائة , أي انه أدرك زمن هارون الرشيد ( حكم الرشيد من سنة 170هـ - 193 هـ ) وإن لم تكن لدينا إشارة إلى صلنه بالرشيد , ولعل فيما ضاع من شعره سدا ً لهذه الثغرات التاريخية .
لقد تحدثت المصادر عن لوثات أبي حية , والرجل الألوث هو الأهوج , وقد سئل الأصمعي عن المجنون المسمى قيس بن معاذ , فقال : لم يكن مجنونا ً ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حية , وقد جهلع الجاحظ من مجانين الشعراء وفرقه عن مجنون بني عامر فقال : ( ولست أعني مثل مجنون بني عامر ومجنون بني جعدة , وإنما اعني مثل أبي حية في أهل البادية , ومثل حعيفران في أهل الأمصار ) . وزاد فجعله أكثر جنونا ً من جعيفران : ( وأما أبو حية فإنه كان أجن ....... وكان أشعر الناس ) . وصيره مرة ثالثة مع المجانين والموسوسين والنوكى ’ وانه مجنون يصرع , ويروون للوثته هذه قصة طريفة : (( كان لأبي حية سيف يسميه لعاب المنية ليس بينه وبين الخشبة فرق , وكان من اجن الناس . قال : فحدثني جار له قال : دخل ليلة إلى بيته كلب , فظنه لصا ً , فأشرفت عليه وقد انتضى سيفه لعاب المنية , وهو واقف في وسط الدار وهو يقول : أيها المغتر بنا والمجترئ علينا , بئس والله ما اخترت لنفسك , خير قليل , وسيف صقيل , لعاب المنية الذي سمعت به , مشهورة ضربته , لا تخاف نبوته , اخرج بالعفو عنك قبل أن ادخل بالعقوبة عليك . إني والله أن ادع قيسا ً إليك لا تقم لها , وما قيس ؟ تملأ والله الفضاء خيلا ً ورجلا ً , سبحان الله , ما أكثرها وأطيبها . فبينما هو كذلك خرج إذ خرج الكلب , فقال الحمد لله الذ مسخك كلبا ً وكفاني حربا ً )) . ولعل الذين وصفوه بالجبن ينظرون إلى هذه الحادثة وليس في أخباره ما يدل على جبنه . ويروون عن لوثته قصصا ً ولكن في هذه القصص ما يدل على الذكاء والفطنة والظرف أكثر مما فيها عن اللوثة , من ذلك ما قاله أبو خالد النميري وذكروا فرعون ذا الأوتاد عند أبي حية فقال أبو حية : الكلب خير منه واحزم , فقيل له : كيف خصصت الكلب بذلك , فقال : لأن الشاعر يقول :
ومالي لا أغزو وللدهر كرة وقد نبحت نحو السماء كلابها
وقال الفرزدق :
فاإنك إن تهجو حنيفة سادرا ً وقبلك قد فاتوا يد المتناول
كفرعون إذ يرمي للسماء بسهمه فرد عليه السهم أفوق ناصل
فهذا يرمي السماء بجهله , وهذا ينبح السماء من جودة فطنته .
ويقولن إنه كذاب , بل من أكذب الناس , ويروون في ذلك نوادر , هي في باب الطرائف والملح ادخل منها في باب الأكاذيب , من ذلك قولهم : إن أبو حية حدث أنه كان يخرج إلى الصحراء فيدعو الغربان فتقع حوله , فيأخذ منها ما يشاء , فقيل له : أرأيت إن أخرجناك إلى الصحراء فدعوتها فلم تأتك , فما نصنع بك ؟ قال : أبعدها الله إذن .
ومن أكاذيبه الطريفة ونوادره الشائعة قوله : " عن لي ظبي يوما ً فرميته فراع عن سهمي , فعارضه السهم , ثم راغ , فعارضه السهم , فما زال والله يروغ ويعارضه حتى صرعه ببعض الجبانات " .
ومثل هذه الأكذوبة قوله : (( رميت والله ظبية , فلما نفذ سهمي عن القوس , ذكرت بالظبية حبيبة لي فغدوت خلف السهم , حتى قبضت على قذذه قبل أن يدركها )) , وقد شهرت هذه النوادر عن أبي حية وذاع أمرها وتحدث بها الناس في الأجيال اللاحقة وصار سهم أبي حية هذا مثلا ً يشبهون به ويشيرون إليه , فقد أشار إلى هذا السهم ابن نباتة المصري في غزله حيث يقول :
وبديع الزمان لم ير طرفي مثل أعطافه ولا طرف غيري
كلما حدت عن هواه أتاني سهم ألحاظه كسهم النميري
ويضيفون إلى هذه الصفات صفات أخرى لأبي حية منها البخل والسفه والمجون , من ذلك أنه وفد على الخليفة المنصور وامتدحه وهجا بني حسن بقصيدته التي أولها
عوجا نحيي ديار الحي بالسند وهل بتلك الديار اليوم من احد
فوصله أبو جعفر بشيء دون ما كان يؤمل , فاحتجن لعياله أكثره , وصار إلى الحيرة فشرب عند خمارة بها , فأعجبه الشرب , فكره إنفاد ما معه , وأحب أن يدوم له ما كان فيه , فسأل الخمارة أن تبيعه بنسيئة , واعلمها انه مدح الخليفة وجماعة من القواد , ففعلت وشرهت إلى فضل النسيئة , وكانت كلما سقته خطت في الحائط فانشأ أبو حية يقول مصورا ً ما حدث وكان قد كشف لها عن عورته فتدلهت :
إذا أسقيتني كوزا ً بخط فخطي ما بدا لك في الجدار
فإن أعطيتني بدين فهاتي العين وانتظري ضماري
خرقت مقدما ً من جنب ثوبي حيال مكان ذاك من الإزار
فقالت ويلها رجل ويمشي بما يمشي به عجر الحمار
وقالت ما تريد فقلت خيرا ً نسيئة ما علي إلى يساري
فصدت بعد ما نظرت إليه وقد ألمحتها عنق الحوار
وقد كان أبو حية مع هذه الصفات الغريبة مغترا ً بنفسه معجبا ً بشعره سليط اللسان قاسي الجواب , وقد عرف أبو عمرو بن العلاء ذلك عنه وكان يردعه على الرغم من تفضيل أبي عمرو لشعره , يقول الأصمعي : (( أنشد أبو حية يوما ًأبا عمرو :
يا لمعد ويا للناس كلهم ويا لغائبهم يوما ً ومن شهدوا
كأنه معجب بهذا البيت , فجعل أبو عمرو يقول له : إنك لتعجب بنفسك كأنك الأخطل )) وإذا كان أبو حية قد كف لسانه عن أبي عمرو بن العلاء لمكانته وجلالة قدره , فانه يطلق لسانه في غيره في جواب مفحم ولسان سليط , فقد لقي ابن مناذر أبا حية , فقال له : أنشدني بعض شعرك , فأنشده :
ألا حي من أجل الحبيب المغانيا
فقال ابن مناذر : وهذا شعر ؟ فقال أبو حية : ما في شعري عيب هو شر من انك تسمعه , ثم انشده ابن مناذر شيئا ً من شعره فقال أبو حية : قد عرفتك ما قصتك ؟ وجواب أبي حية هذا لا يدل على لوثة بقدر ما يدل على جودة البديهة وحدة الخاطر وقوة الردع , ويبدو أن بين أبي حية وابن مناذر حسدا ً ومنافسة , فالقصيدة التي انشدها أبو حية من جياد قصائده التي أعجب بها الناس شعراء ونقادا ً , ومع ذلك فإن ابن المناذر لا يرى فيها شيئا ً , وتروى هذه الرواية بشكل آخر , حيث يكون أبو حية هو البادئ بالإساءة ويكون تعليقه على ما يسمع من شعر ابن مناذر في غاية السخرية حيث يتجاهل ما سمع كأنه لم يسمع شيئا ً يدخل في باب الشعر , قال أبو معد : (( مر بنا أبو حية النميري ونحن عند ابن مناذر , فقال علام اجتمعتم ؟ قلنا هذا شاعر المصر , قال أنشدني فانشده , فلما فرغ قال : الم اقل لك أنشدني ؟ قالوا فأنشدنا يا ابا حية فأنشدنا :
ألا حي من اجل الحبيب المغانيا لبسن البلى مما لبسن اللياليا
فلما فرغ منها قال : ما أرى في شعرك شيئا ً , قال ما في شعري إلا استماعك له ))

ج-شعره :
اعتمد أبو حية النميريأسلوب التجاهل فيما يسمع فيه إهانة شديدة , ويبدو أنه رأى في هذه الطريقة خير ما يغيظ بها منافسيه من الشعراء فاستعملها مع يحيى بن نوفل الحميري وهو شاعر فصيح , فقد استنشده أبو حية من شعره , فانشده مليا ً وهو ساكت , فلما فرغ يحيى من إنشاده قال له : ألم أقل أنشدني ؟ ترى أيدل هذا السلوك على لوثة أبي حية , أم يدل على خبث ورغبة في إيذاء الآخرين ؟ ويضاف إلى هذه الصفات جميعا ً أن ابا حية كان اميا ً لا يجيد معرفة الحروف , وإن كان ذا ذكاء وفطنة , فقد قيل له يوما ً : ابن لنا قصيدة على القاف , فقال :
كفى بالنأي من أسماء كاف وليس لحبها إذ طال شاف
ولم يعرف القاف , وفي جواب أبي حية ما يدل على حس مرهف بمعرفة جرس الألفاظ وإيقاع القافية على الرغم من جهله بالحروف .
ومع امية أبي حية فقد كان له بصر بجيد الشعر وصناعته , فقد انشده سلمة ابن عياش قصيدته :
طربت وما هذا بحين تطرب ورأسك مبيض العذارين أشيب
فلاحظ أبو حية عدم ترابط أبياتها فعبر عن ذلك بقوله : لم أرك أعدت قافية بعد قافية .
وأبو حية شاعر مجيد مقدم محسن فصيح له شعر جيد , جيد الطبع مألوف الكلام رقيق حواشي الشعر , وبالغ بعض النقاد فعده من أحسن الناس شعرا ً وارقهم فيه طبعا ً , على لوثة كانت فيه , وكان عمرو بن العلاء يستحسن شعره ويرويه ويفضله على شعر الراعي النميري فيقول : (( أبو حية النميري اشعر في عظم الشعر من الراعي )) . ويقول الأصمعي : " سئل أبو عمرو بن العلاء عن الراعي النميري وأبي حية النميري فقال : الراعي أكبرهما قدرا ً وأقدمهما " . فأبو عمرو يقر بمكانة الراعي في قومه وقدمه في السن ولكنه لا يفضله على أبي حية في الشعر .
كان أبو حية ينزل بادية البصرة , ويلم بالبصرة , ولا بد انه كان كثير التردد على المربد , ولقاء الفرزدق وغيره من الشعراء , وسماع الشعر الجيدج وحفظه وقد تعلق بخاصة بشعر الفرزدق , فكان يروي عن الفرزدق , بل كثير الرواية عنه , ومن هنا حسن شعره وجاد وتمثل به الناس وسار على الألسن لما فيه من فصاحة وجودة ورقة وعذوبة , يقول ابن المعتز في سيرورة شعره : ((وما رأيت ذكيا ً ولا عاقلا ً ولا كاتبا ً ظريفا ً إلا وهو يتمثل من شعر أبي حية بشيء )) .
ولقد تناول الأدباء والنقاد شعر أبي حية وتأملوا فيه فاستجادوا منه ما استجادوا , وتمثلوا بأبيات منه ووازنوا بينه وبين شعر غيره , وقد بلغ الإعجاب بشعر أبي حية لدى هارون بن علي حدا بحيث لم ير شبيها ً ولا بديلا ً لبيتي أبي حية :
نظرت كأني من وراء زجاجة إلى الدار من فرط الصبابة انظر
بعينين طورا ً تغرقان من البكا فأعشى وطورا ً تحسران فأبصر
وفضلهما على كل ما يشبههما من شعر ولم يعدل عنهما إلى غيرهما .
وقد ذكر له الحصري قصيدة يتغزل فيها ويذكر ثغر حبيبته وطيب نكهته , والقصيدة أولها :
إلا أيها الربع القواء إلا انطق سقتك الغوادي من اهاضيب فوق
وعلق عليها قائلا ً : (( هذا شعر ظريف الصنعة حسن الوشي والسبك وقد ملح ما شاء في وصف الثغر وطيب النكهة وهو معنى حسن جميل )) . وكان الحصري قد وصف أبي حية بقوله : " من أحسن الناس شعرا ً وارقهم فيه طبعا ً " .
ويفضل المبرد شعر أبي حية لتخلصه من التكلف وسلامته من التزيد وبعده عن الاستعانة , وذلك في قوله :
رمتني وستر الله بيني وبينها عشية آرام الكناس رميم
وقد وازن بعض النقاد بين أبيات أبي حية وأبيات الشعراء السابقين واللاحقين , وهم مستحسن أو معيب أو منتقد , فأبو القاسم الأصفهاني يستحسن لأبي حية وصف الدمع والعين فيقول : " فمن أحسن ما ذكروا قول أبي حية النميري وهو أول من افترعه :
نظرت كأني من وراء زجاجة إلى الدار من فرط الصبابة انظر
وقال بعض العرب :
ومما شجاني أنها يوم أعرضت تولت وماء العين في الجفن حائر
وتبعه بشار فقال : أقول وقد غصت جفوني بمائها " .
ويذكر أبياتا ً لابن حبيبات والبحتري والمتنبي ويقول : ( فهؤلاء كلهم وصفوا حيرة الدمع وكلهم قاصرون عن أبي حية ) .
أما أبو هلال فيرى أن بيت البحتري :
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامتها ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
أحسن لفظا ً من قول أبي حية :
إذا هن ساقطن الحديث كأنه سقاط حصى المرجان من سلك ناظم
ويقول : وبيت البحتري أيضا أتم معنى لأنه تضمن ما لم يتضمنه بيت أبي حية من تشبيه الثغر بالدر . وحكم أبي هلال حكم رجل منطقي لا يرى في البيت إلا معادلة عن كمية المعنى , ويغفل عن الإحساس بوقع البيت وجرس ألفاظه وأثره في النفس , ففي بيت أبي حية من الجمال والموسيقى التي تشيعها سينات ساقطن وسقاط وصاد حصى , ما يفتقر إليه بيت البحتري .
وقد لاحظ بعضهم أن أبا حية في قوله :
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان من الفم
وهو من شواهد سيبويه – قد ألم ببيت الفرزدق :
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه والحرب قد لاح نارها
وقد عابوا على أبي حية التقديم والتأخير في قوله :
كما خط الكتاب بكف يوما يهودي يقارب أو يزيل
أراد : كما خط الكتاب يوما ً بكف يهودي يقارب أو يزيل , وكان امرؤ القيس قبله قد قدم وآخر في قوله :
هما أخوا في الحرب من لا أخاله إذا خاف يوما نبوة ودعاهما
أراد : هما أخوا من لا أخا له في الحرب . وكذلك فعل الفرزدق حين راكب كلامه وعاظله :
وما مثله في الناس إلا ملمكا أبو أمه حي أبوه يقاربه .
وفي اكبر الظن أن ما ضاع من شعر أبي حية جزء كبير , وخير دليل على ضياع شعره , هذه الأبيات المفردة أو القطع المفرقة في المجموع , وهي في الأصل قصائد ضاع أكثرها ووصلت منها هذه المفرقات والأبيات المفردة .
ومما ضاع أيضا ً رجزه , إذ أن المصادر التي ذكرت أبا حية نصت على انه : (( كان فصيحا ً راجزا ً مقصدا ً )) . وليس لدينا من رجزه غير ثلاثة أشطار , ولا شك أن الذي فقد من رجزه كثير جيد بحيث يستحق أن يوصف صاحبه بالراجز المقصد , ولكن حسبنا هذا الذي بين أيدينا من شعر أبي حية , ففيه صورة صادقة لجوده شعره , وسمات واضحة عن أصالة طبعه وعلو كعبه بين الشعراء .لقد طرق أبو حية الموضوعات الفنية التي يجود فيها الشاعر , فأكثر شعره وصف للديار وبيئة البادية , وغزل بالمرأة وذكر لأيام الصبا , وأسفاره الشاقة على ناقة أمون جسرة , ووصف لحيوان الصحراء كحمار الوحش والثور وصراعهمها مع الصائد وكلاب الصيد , وبقية الحيوان كالفرس والنعامة والأسد .
وأبو حية من شعراء المديح ولكنه لا يطيل في اماديحه , بل تأتي القصيدة الطويلة وفيها ما فيها من أغراض فنية ثم يفرد بيتين أو ثلاثة لذكر الممدوح وبيان خصاله , وقد وصلنا من مديحه الخلفاء قصيدة فيها ذكر لمروان بن محمد وقطعة يمدح فيها المنصور ويعرض ببني حسن , ولديه بعض القصائد والمقطعات في مدح بعض أعيان عصره الذين قلما نجد لهم ذكرا ً في كتب التراجم , من مثل : يزيد بن عتاب بن الأصم , والوليد ابن يزيد بن القعقاع , وشخص اسمه جعفر , وعمرو بن كعب .
وقد افتخر أبو حية بنفسه وقومه وذكر أيام بني عامر ومنها يوم أود ويوم النشاش ويوم شعب جبلة , ولكن السمة الغالبة على كل هذا الشعر هو الغزل الذي برع فيه وأحسن وأجاد .
إن شعر أبي حية النميري من نماذج الشعر الرفيع في تراثنا العربي , فلغته فصيحة صافية رائعة صائبة , وأسلوبه مشرق أخاذ وفيه بعد ذلك ما في الشعر القديم من قوة وجزالة وأصالة وإبداع , وقد وجدت في تحقيقه ونشره خدمة للغتنا المجيدة وإحياء لتراثنا الأصيل .




وقال أبو حية :
أَلا يَا غُرابَ البَينِ مِمَّ تَصيحُ؟ فصَوْتُكَ مَشْنُوٌّ إِليَّ قَبيحُ
وكل غداة ٍ تنتحي لك تنتحيإلي فتلقاني وأنت مشيح
تخبرني أن لست لاقي نعمة بعدت ولا أمسى لديك نصيح
وإن لم تهجني ذات يوم ٍ فإنهستغنيك ورقاء السراة صدوح
تذكرت والذكرى شعوف ٌ لذي الهوى وهن بصحراء الخبيت جنوح
حبيبا ً عداك النأي فأسبلت على النحر عين ٌ بالدموع سفوح
إذا هي أفنت ماءها اليوم أصبحت غدا ً وهي ريا المأقين نضوح
ظللت وقد ولوا بليل وقلصت بهم جلة ٌ فتل المرافق روح
فلاقيتهم يوما ً على قطرية ٍوللعيس مما في الخدور دليج
وقائلة ٍ لولا الهوى ما تجشمت به نحوكم عبر السفار طليح
بدا يوم رحنا عامدين لأرضها سنيح فقال القوم مر سنيح
فهاب رجال ٌ منهم وتقاعسوا فقلت لهم جاري إلي ربيح ُ
عقاب ٌ بإعقاب ٍ من الدار بعدما جرت نية ٌ تسلي المحب طروح ُ
وقالوا حمامات فحم لقاؤها وطلح ٌ فزيرت والمطي طليح
وقال صحابي هدهد ٌ فوق بانة ٍ هدى وبيان ٌ بالنجاح يلوح
وقالوا دم ٌ دامت مواثيق بيننا ودام لنا حلو الصفاء صريح
لعيناك يوم البين أسرع واكفا ً ودام لنا حلو الصفاء صريح
ونسوة شحشاح غيور يخفنه أخي ثقة ٍ يلهون وهو مشيح
يقلن وما يدرين عني سمعته وهن بأبواب الخيام جنوح
أهذا الذي غنى بسمراء موهنا ً أتاح له حسن الغناء متيح
إذا ما تغنى أن من بعد زفرة كما أن من حر السلاح جريح
وقائلة ٍ يا دهم ويحك إنه على غنة ٍ في صوته لمليح
وقائلة ٍ أولينه البخل إنه بما شاء من زور الكلام فصيح
فلو أن قولا ً يكلم الجلد قد بدا بجلدي من قول الوشاة جروح

وقال أبو حية :
إذا أنت رافقت الحتات بن جابر فقل في رفيق غائب ٍ وهو شاهد
أصم إذا ناديت جهلا وإن ناديت تسر فأعمى وإن تفعل جميلا ً فجاحد
أراني وإياه الطريق عشية يهاب سراها الأحمسي المعاود
فأقسم برا ً أن لولا خياله لما كنت إلا مثل من هو واحد







29-ربيعة بن ثابت الرقي
أ-حياته ونشأته وشخصيته : هو ربيعة بن ثابت بن لجأ بن العيزار بن لجأ الأسدي نسبا ً , الرقي موطنا ً , من شعراء صدر الدولة العباسية , ولد ونشأ في الرقة من مدن الجزيرة الفراتية على نهر الفرات , كان ضريرا ً إلا أن الله سبحانه وتعالى عوضه عن فقدان البصر بصيرة وفطنة فاخذ الشعر يجري على لسانه في ريعان صباه , وسرعان ما غادر مسقط رأسه قاصدا ً بغداد , وهي يومئذ مقصد النابهين من الشعراء , وملتقى المفكرين والعلماء , وهناك لقي معنا ً بن زائدة الشيباني في قدمة قدمها إلى العراق من بلاد اليمن التي كان يتولاها لعهد أبي جعفر المنصور , وقيل : إنه مدح معنا ً بقصيدة إلا أن الممدوح لم يجزل له المكافأة ولم يهش لشعره , فاخذ الشاعر في هجائه , ولعل مرد هجائه معنا ً أسباب أخرى لا تتعلق بالعطاء القليل , هذا إذا سلمنا أن ربيعة قد مدحه حقا ً , رغم عدم ذكر الرواية شيئا ً من ذلك المدح , مما يدعونا إلى الاعتقاد بان هذا الهجاء لا يعود إلى سبب مادي هو أننا لا نجد فيما وصل ألينا من هجائه له ما يشير إلى قلة المكافأة , كما أن المشهور عن معن انه لم يكن مقترا ً على الشعراء أو شحيحا ً .
سافر ربيعة وهو بعد شاب يافع إلى أرمينية . وهناك التقى بيزيد بن أسيد السلمي والي المنصور عليها . ويروى أن شاعرنا مكث في أرمينية حولا ً كاملا ً ينظم الشعر في مدح السلمي . غير أن هذه العلاقة الحسنة بين الوالي وشاعره ما لبثت أن ساءت , فترك أرمينية ويمم وجهه شطر مصر وكان واليها حينئذ يزيد بن حاتم المهلبي , الذي كان كثير الشبه بجده المهلب بن أبي صفرة في حروبه ودهائه وكرمه وسخائه , ولذلك كان قبلة الشعراء .
ومن الجدير بنا ألا نذهب مع الرواية التي تعزو هجر ربيعة ليزيد السلمي وتحوله إلى المهلبي إلى قبض يد الأول عنه وقد بسطها له الثاني في العطاء . ولعل السبب الحقيقي لهذا التحول هو أن شاعرنا كان يبحث عن الممدوح الذي يمثل صورة الطموح , والذي يرتفع إلى مستوى قيم القصائد ومعانيها , ويروى أن المهلبي تشاغل عن ربيعة أول مرة فكتب له في رقعة يقول :
أراني , ولا كفران لله , راجعا ً بخفي حنين من نوال ابن حاتم
فلما بلغت المهلبي الرقعة أشخصه إليه وبالغ في إكرامه .
وفي عام 152 هـ عزل المنصور يزيد بن حاتم عن أكرة مصر لفشله في القضاء على دعوة العلويين بها , أو لتشيعه الذي جعله يتهاون في أمرها فشيعه ربيعة بقصيدة يقول في أولها :
بكى أهل مصر بالدموع السواجم غداة غدا عنها الأغر ابن حاتم
وهذا دليل على أن الحال لم يكن حافزا ً له في مدح المهلبي , وان صحبته له ترجع إلى شعوره بعظم المهام التي ينهض بها يزيد بن حاتم وجسامتها .
ولم يطل المقام بربيعة في مصر بعده فغادرها راجعا ً إلى مدينته الرقة .ولم تمض سنوات قليلة حتى كانت قصائده في الغزل تسير في البلاد , فتطرق أسماع جواري الخليفة المهدي فيشغفن بها ويرغبن في " أن يسمعن ربيعة الرقي , فوجه إليه المهدي من أخذه من مسجده بالرقة , وحمل على البريد حتى قدم به على المهدي . . . واستنشده ما أراد فضحك وضحكن منه . ثم أجازه جائزة سنية فقال له :
يا أمير المؤمنينا الله سماك الأمينا
سرقوني من بلادي يا أمير المؤمنيانا
سرقوني فاقض فيهم بجزاء السارقينا
قال : قد قضيت فيهم أن يردوك إلى حيث أخذوك , ثم أمر به فحمل على البريد من ساعته إلى الرقة
ولم يلبث في الرقة طويلا ً , فقد عاد إلى بغداد . قال الأصفهاني في أغانيه : (( فأشخصه المهدي إليه فمدحه بعدة قصائد وأثابه عليها ثوابا ً كثيرا ً )) ولم يبق لنا الزمن من مدائحه فيه سوى بيتين اثنين . ولعل ربيعة عاد بعد لقائه الأول الفاشل مع المهدي فحاول الوفود إليه ثانية , وأصاب نجاحا ً في محاولته بما وقع للمهدي من شعره في المهلبي الذي يقول فيه :
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر بن حاتم
ولم تطل إقامته الثانية في بغداد , حيث لم يكن له قبل بمنافسة بشار ابن برد , ومروان بتن أبي حفصة , وأبي العتاهية , والسيد الحميري في بلاط المهدي , فقفل راجعا ً إلى الرقة , حيث أقام بعيدا ً من أضواء العاصمة , وما تهبه للشعراء من شهرة ومجد , فكان أن خمل ذكره وضاع معظم شعره .
وتؤول الخلافة إلى الرشيد فيتصل به الشاعر , ويروج عنده الشعر وتكثر ملحه ونوادره معه , بيد أن شعره فيه ضاع ولم يصل إلينا منه شيء .
وفي عام 185 هـ ولي العباس بن محمد عم الخليفة الرشيد إمارة الجزيرة الفراتية , واتخذ من الرقة مقرا ً له , ففرش له في قصر الإمارة , واتخذت له الآلات , وشحن بالرقيق فحباه الرشيد حباء ً كثيرا ً وعظمه اشد تعظيم . وكان على الشاعر أن ينتهز الفرصة ويستثمرها استثمارا ًحسنا ً فلم يتوان عن التوجه إليه بقصيدة تعد من أجود شعره .
غير أن العباس الذي كان مبخلا ً لم يكافئ الشاعر بأكثر من دينارين اثنين . فجن جنونه , وراح يسخر من ممدوحه بما يؤذيه ويؤلمه , فركب العباس إلى الرشيد وأبلغه ما هجاه به ربيعة , فغضب الرشيد لعمه , وأمر بإحضاره فاحضر , والرشيد يتميز غيظا ً , وعزم على قتله , ولكنه لما سمع منه قصته مع العباس , ووقف على حقيقة الأمر اطرق هنيهة ثم نظر إلى العباس منكرا ً , وأمر لربيعة بثلاثين ألف درهم . وجعله من ندمائه وخلع عليه على إلا يعود إلى هجاء عمه .
وعاش ربيعة بقية حياته في يسر وسعة , ونرجح أن صحبته للرشيد لم تطل , فقد عاد إلى الرقة . حاملا ً معه من الهدايا والمال ما يكفي لتحسين أحواله وظروف معيشته في شيخوخته .
ويمضي الشطر الأخير من عمره وادعا ً قد كف عن السعي إلى ما يتطلع إليه طموحه في شبابه من الحياة العريضة , وأصبح أكثر ميلا ً إلى الزهد والرغبة والطمع في عفو الله وثوابه ورضاه . ينبئ عن ذلك بيتاه .
لا تسأل الناس ما يملكون ولكن سل الله واستكفه
وكل مقل ٍ وذي ثروة فإن المنية من خلفه
وهكذا حتى نوفي قبل نهاية عام ثمانية وتسعين ومائة .


ب-شعره وأغراضه
يذكر ابن النديم في فهرسته أن لربيعة ديوان شعر يقع في مائة ورقة , تشتمل الواحدة منه على عشرين سطرا ً , وبهذا الاعتبار يكون مجموع أبيات الديوان أربعة آلاف بيت .
ويقول أبو الفرج الأصفهاني : إن ربيعة من المكثرين المجيدين غير أن هذه الكثرة قد ضاعت , ولم يبق منها إلا وشل متناثر في كتب الأدب والتاريخ .
ولا شك أن ربيعة تناول في شعره أغراضا ً متعددة , إلا أن ما وقع ألينا من شعره كان في المدح والغزل والهجاء والوصف والزهد والحكمة ولم يصل ألينا شيء من شعره في الرثاء أو في الفخر .
ولا يعني هذا انه لم يتناول هذه الأغراض , فلعل شعره فيها قد ضاع مع ما ضاع منه .
1-الغزل :يعد شعر الغزل عنده أكثر مما نظم في سواه من الأغراض فقد نظم فيه مبكرا ً , فظهر تأثره فيه بمن سبقه من شعراء الغزل , تأثر بعمر بن أبي ربيعة , الشاعر الذي شغف الغانيات حبه فشكون صده وإعراضه ورجون لقائه . فمن ذلك يقول ربيعة :
والغواني مغويات ٌ مولعات باقتناصي
قد تواصين بحبي حبذا ذاك التواصي
وربيعة في كثير من غزله مخلص في حبه , متسام ٍ , فتراه يرضى من حبيبته بالوعد والمنى , أو حتى باليأس . ويشكو السقم في حبه الذي تغلغل في أحشائه وحل في عظامه , ويذكر تولهه وخضوعه لحبيبته .
وهو حينا ً يتأمى بالعذريين العاشقين .
وهكذا تتغير صورة ربيعة الرقي بحيث يسهل علينا القول : إنه في هذه النماذج من غزله لا يصدر عن تجربة شعورية ولا يعبر عن حب حقيقي .
ولا ريب في أن ما أصيب به من العمى كان له تأثير واضح على معانيه وصوره الشعرية , فقد طبعها بطابع حسي , ويبقى كغيره من الشعراء العميان يلتذ بالحديث ويسحر به :
أحب حديثها وتحب قربي وما إن نلتقي إلا لماما ً
وهكذا فإن المتأمل في غزل ربيعة يجد نفسه وكأنه أمام شاعرين لا شاعر واحد , بيد انه في كل أحواله يظل مبتعدا ً عن شعراء الغزل المكشوف أمثال أبي نواس والحسين بن الضحاك ومسلم بن الوليد , فغزله يخلو من التهتك والرفث والفحش , وما كانت هذه الظاهرة إلا لأنه لم يعش حياة مثل أولئك المجان ولم يحضر مجالسهم .
أما تقدمة في هذا الفن فقد كان متميزا ً بين شعراء عصره ومقدما ً على كثير منهم وقد شهد بذلك ابن المعتز في قوله : ( فأما شعره في الغزل فإنه يفضل على أشعار هؤلاء من أهل زمانه جميعا ً ) . وأجرى ابن المعتز مقارنة بين غزل ربيعة وغزل أبي تواس فقال : كان ربيعة اشعر من أبي نواس , لان في غزل أبي نواس بردا ً كثيرا ً , وغزل هذا سليم عذب .
وبالرغم من الصعوبة التي نجدها عندما نريد مناقشة رأي ابن المعتز بسبب ضياع معظم شعر ربيعة الرقي , فإنا نميل إلى أن ابن المعتز قد أنصفه , وقال فيه كلمة حق , فنحن من جهة نجد في غزل أبي نواس ضعفا ً , ومن جهة أخرى نجد ربيعة في بعض قصائده يصدر عن إحساس قوي وعاطفة صادقة ومعاناة حقيقية .
ولرقة شعره الغزلي يجري على كل لسان , ويذيع في كل مكان , حتى ليقال بان بعضه كان ينقش على البسط , وعاش بعضه الآخر تحفظه لنا بطون كتب الأدب أمثال الأغاني وغيره .
أما أسماء النساء اللائي ذكرهن في نسيبه مثل ليلى وسعاد وعثمة وغنمة ورخاص وداحا , فأظن أنها لا تعدو رموزا ً اصطنعها , خلافا ً لما ذهب إليه الدكتور شوقي ضيف من أن بعض هذه الأسماء حقيقي .
2-المدح :كان المدح من أهم الأغراض التي تناولها ربيعة في شعره ومعظمه – على ما وصل إلينا منه – في يزيد بن حاتم المهلبي , حيث نقر له أجزاء من خمس قصائد من بديع شعره جزالة لفظ وإحكام عبارة وحسن بناء . ولا نرتاب في أن ربيعة كان يصدر في هذا المدح عن عاطفة صادقة وشعور حقيقي بأهمية الممدوح ومكانته , فهو – كما يصوره لنا – مقدام يسعى في بناء المكرمات , ويلجأ إليه الناس في الشدائد , لأنه حمال كل عظيمة , وخير مدافع عن الإسلام .
أما مدائحه لمعن ويزيد السلمي فقد ضاعت كلها , ويغلب على الظن أنها لم تكن ذات بال من الناحية الفنية , فقد نظمها الشاعر في مطلع شبابه , فهي لا تمثل نضجه الفني , وقيل إن معنا لم يستحسن بعضها .
ولعل أجود ما أثمرته قريحة ربيعة قصيدته في العباس بن محمد عم الخليفة الرشيد وواليه على الجزيرة الفراتية , تلك القصيدة التي أعجب بها الخليفة (( فاستحسنها واستجادها , وأعجب بها وقال : ما قال احد من الشعراء في احد من الخلفاء مثلها , وأصبح بعض أبياتها كثير الدوران في كتب الأدب , لما فيها من صور فنية جميلة .
ومن المؤسف حقا ً أن تضيع هذه القلادة , فإنها تمثل ذروة نجاح الشاعر الفني , فمن المؤكد انه قد حشد كل مقدرته الفنية , واستجمع كل أدواته الشعرية في سبيل الإجادة والتفوق في مدح العباس , الذي كان معظما ً وجليلا ً عند الخليفة , وكان على ربيعة أن يحلق في سماء الفن ولا احسبه إلا محلقا ً في قوله :
إن المكارم لم تزل معقولة حتى حللت براحتيك عقالها
العود يرطب إن مست لحاءه والأرض تعشب إن وطئت رمالها
غير أن هذا الجهد الفني , وهذه المبالغة لم يستدرا من كف العباس غير دينارين اثنين , فانقلب على ممدوحه يهجوه ولقد كان لهذه القصيدة اثر سياسي مهم , فقد فتر الرشيد بعدها عن عمه , وتغير عليه وقيل : إنه اقلع عن عزمه على أن يزوج العباس ابنته , وظهر منه له يعد ذلك جفاء كثير وإطراح , وبالرغم من أن هذه القصيدة ليست مما يمكن عده سببا ً كافيا ً لتحول الخليفة عن عمه , وانه لا بد من أن تكون وراء هذا التحول أسباب أخرى لم نقف عليها , فإن القصيدة كانت الكاشف المباشر عما أضمره الرشيد لعمه من استياء وحنق . ولقد كانت متنفسا ً للخليفة للتعبير عن سخطه على العباس الذي كان يبدو وكأنه أعظم ولاته واكبر رجال دولته وأقواهم صلة به .
وهكذا تكون لقصيدة ربيعة في العباس بن محمد قيمة فنية عالية وأهمية سياسية كبيرة .
أما طريقته في مدائحه فإنه كان يباشر فيها المدح دونما مقدمات طليلة أو غزلية في بعض الأحيان , وفي أحيان أخرى كان يستهلها بأبيات في الغزل .
3-الهجاء : أما شعره في الهجاء فما وصل إلينا منه قدر قليل كان في معن بن زائدة , ويزيد بن أسيد السلمي , والعباس بن محمد , وقد عبر فيه الشاعر عن سخطه وغضبه على هؤلاء الذين لم يقدروا شعره , ولم يفهموا معاناته من اجلهم , فكانت له معهم تجربة فيها مرارة وقسوة , فرأى أنهم مستحقون للانتقاد , , محتاجون للتقويم والإصلاح . وهو حين تصدى لهم إنما تصور المثل والنموذج , فكأنه أراد منهم أن يرتفعوا ويسموا ويستقيموا , فلما خيبوا أمله , وساء ظنه بهم , وظهروا على خلاف ما تصورهم في خياله , مال إلى ثلمهم والقدح فيهم .
ويبدو أن ربيعة يأتسي في هجائه بالاتجاه السائد القائم على السخرية والتهكم والتعريض بالمهجو , والإلماح دون التصريح , إلا انه في هجائه معنا ً مال إلى التصريح ليوجعه وليشفي غليله منه .
ملامح تأثره ببعض الشعراء
قلنا : إن ربيعة قد تأثر بعدد من شعراء العصر الأموي , وهذه طائفة من أشعاره يبدو فيها ذلك التأثر .
فهو في قوله :
وأمنح طرف العين غيرك رقبة حذار العدى والطرف نحوك أميل
فيه من معنى قول الأحوص :
إني لأمنحك الصدود وإني قسما ً , إليك مع الصدود لأميل
ويبدو ربيعة في قوله :
فلو كنت ذا عقل لأجمعت صرمكم برأيي ولكني امرؤ ليس أعقل
مقلدا ً جميل بن معمر في قوله :
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ولكن طلابيها لما فات من عقلي
وفي قول ربيعة :
خليلي هذا ربع ليلي فقيدا ً بعيريكما ثم ابكيا وتجلدا
اتكاء كبير بل إغارة على بيت كثير بن عزة :
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا فلو صيكما ثم ابكيا حيث حلت
ويبدو شاعرنا في قوله :
ستصرم إنسانا إذا ما صرمتني بحبك فانظر بعده من تبدل
مشدودا ً إلى معين بن أوس في قوله :
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني يمينك فانظر أي كف تبدل
وإذ تقرأ المقطعة التالية لربيعة تجد كأنك أمام شعر عمر بن أبي ربيعة حين يحكي عن نفسه على لسان من يشبب بها :
قالت : ومن أنت قلن التابعات لها هذا ربيعة هذا فتنة الأمم
هذا المعنى الذي كانت مناسبه تأتيك فاستتري بالبرد والقتم
شيطان أمته لاقاك محرمة ٌ فبالإله من الشيطان فاعتصمي
قالت : أعوذ بالله ربي منك واستترت بغادة ٍ رخصة الأطراف كالعنم
أما أبياته :
خليلي هذا ربع ليلي فقيدا بعيريكما ثم ابكيا وتجلدا
قفا لمسعداني بارك الله فيكما وإن أنتما لم تفعلا ذاك فاقعدات
وإلا فسيرا واتركاني وعولتي اقل لجنابي دمنة الدار اسعدا
فقالا وقد طال الثوي عليهما لعلك أن تنسى وان تتجلدا
فذات دلالة قوية على انجذابه إلى شعر مجنون ليلى وتأثره به , ولولا أن يأخذ سحر عمر بن أبي ربيعة في آخر هذه القصيدة أي في قوله :
فأقبلن من شتى ثلاثا ً وأربعا ً وثنتين يمشين الهوينا تأودا
يطأن مروط الخز يلحقنها الحما ويسحبن بالأعطاف ريطا ً معتمدا
فلما التقينا قلن أهلا ً ومرحبا ً تبوأ لنا بالأبطح السهل مقعدا
وأغلب الظن أن القصيدة من شعر المجنون . ولرغبة شاعرنا في محاكاة شعر مجنون ليلى اختلط شعره بشعر ذلك .
ويجب إلا تحملنا هذه النماذج التي ظهر فيها تأثر ربيعة بالشعراء الأمويين على الاعتقاد بأنه كان دائما ً يسير على نهجهم , فهو في كثير من شعره يفترق عنهم افتراقا ً كبيرا ً بحيث لا نجد له أثرا ً لسواه فيه , وهو عندما يرسل نفسه على سجيتها وطبعها ويتحرر من اسر التقليد يحملك على أن تطرب له وتهتز ثم تثني عليه . ومن هذا نفهم ونفسر أقوال ابن المعتز : (( فهذا كما ترى أسلس من الماء وأحلى من الشهد )) , و (( وهذا أطبع ما يكون من الشعر وأسهل ما يكون من الكلام )) , (( فهذا كما ترى لا يسمع مثله لشاعر رقة وغزلا ً )) . وما لا شك فيه آت تأجج العاطفة وقوة الانفعال وقرب المأخذ وتدفق الطبع , كل ذلك دفع ابن المعتز إلى إطلاق هذه الإحكام .
ج-الخصائص الفنية في شعره
أبرز سمة في شعر ربيعة الرقي
1- سهولة اللفظ وبساطة التعبير وسلامته المفرطة ,
2- ثم قرب مآخذ المعاني ووضوحها وجمالها . هذه الخصائص والسمات مجتمعة جعلت شعره محببا ً لدى الجواري وعامة الناس , وأدت إلى ذيوعه , حتى كتب على البسط . وقوله مثلا ً :
ليتني كنت حماما لك مقصوص الجناح
أيها الناس ذروني لست من أهل الفلاح
أنا إنسان معنى بهوى المرض الصحاح
وقوله : فيا غنام يا بصري وسمعي رسيس هواك أورثني السقاما
لقد أقصدت حين رميت قلبي بسهم الحب إن له سهاما
زجرت القلب عنك فلم يطعني ويأبى في الهوى إلا اعتزاما
إذا ما قلت اقصر واسل عنها أبى من صرمكم إلا انهزاما
وجل شعر ربيعة على هذا النحو السلس العذب المصقول الذي يعد صورة ونموذجا ً للشعر المطبوع لا تثقله الصناعة اللفظية , أو يذهب برونقه وبهائه تعقيد .
إن معظم شعر ربيعة يجمع إلى إحكام الصياغة ومتانتها وسلاستها وعذوبتها . وحسبك أن تقف عند لاميته وقصيدته في مدح العباس بن محمد لتلمس تمكن الشاعر من فنه وامتلاكه لأدواته الشعرية .
ولكن هذا لا يعني أن شعره كله يخلو من العيوب والسقطات الشعرية , فثمة ضعف في التعبير وتكرار لفظي ثقيل وحشو معيب .
فمن التكرار اللفظي قوله :
أفي هجران بينك تصرميني وما رمنا لصرمكم صراما
كرام الناس قبلي قد احبو كرائمهم وأحببن الكراما
أقام الحب حبك في فؤادي وحبي في فؤادك قد أقاما
وهي حوراء كالمهاة هجان لهجان ٍ وأنت غير هجان
وقوله أيضا :
والشوق قد غلب الفؤاد فقاده والشوق يغلب ذا الهوى فيقوده
ومن الحشو قوله :
من لعين ٍ رأت خيالا ً مطيفا واقفا هكذا علينا وقوفا
عتكي مهلبي كريم ٌ حاتمي قد نال فرعا ً منيفا ً
فهو في البيت الأول يجر أنفاسه للوصول إلى القافية , وقد حشر لفظة ( هكذا ) من اجل ذلك . أما في البيت الثاني فإن لفظة ( حاتمي ) من حشو الكلام , فلفظة ( كريم )أدت إلى المعنى المراد . وفي قوله :
نلت الجمال ودلا ً رائعا ً حسنا ً فما تسمين إلا ظبية البلد
جاءت لفظة ( حسنا ً ) زائدة لا معنى لها , فلفظة ( رائعا ً ) أغنت عنها وكفت . وفي البيت :
ولولا فتنتي بك فاعلميها إذا صلى ربيعة ثم صاما
وردت الجملة الاعتراضية ( فاعلميها ) من غير ضرورة . فقد اضطر إليها الشاعر اضطرارا ً لإتمام الوزن .
ولا بد من القول : إن هذه الهنات والسقطات الشعرية لا يخلو منها أو من مثلها شعر شاعر , ولكن العبرة في قلتها وضآلتها , وكفى ربيعة الرقي أن الجيد البديع مما وقفنا عليه من شعره كثير والرديء المطرح منه قليل .
وتبقى بعد ذلك ظاهرة بارزة في شعره تلك هي شيوع الأوزان الصافية والقصيرة , فالرمل مثلا ً يحتل وحده ما يقارب ربع ما هو بين أيدينا اليوم من شعر الشاعر , والرمل كما هو معروف بحر ويوافق المرقص والمطرب من الشعر وهو ذو موسيقى انسيابية , ويمكن عزو تلك الظاهرة إلى سببين : أولهما انتشار الغناء وحاجة المغنيين والمغنيات إلى أوزان قصيرة يسهل عليهم تقطيعها وترجيعها , فكان النظم على الأوزان القصيرة في شعر الرقي أن بعض المواقف الشعرية كالحدث الطارئ والموقف الآني لا تمكن الشاعر من التريث والصبر على فنه فيجنح إلى الأوزان القصيرة إيثارا ً للسهولة في النظم .
وبعد , فلا شك أن ربيعة الرقي شاعر كبير موهوب , فقد نظم في الحور الطويلة والقصيرة والسهلة والصعبة فأجاد فيها جميعا ً وتفوق , فنال إعجاب معاصريه من الشعراء , وممدوحيه من الخلفاء والأمراء , وحظي بثناء من جاء بعده من النقاد , واحتج بشعره بعض أئمة اللغة , منهم الأصمعي . فقد قال المبرد في كامله : (( وربيعة احتج به الأصمعي وذلك عندما أورد بعض شعره )) . وهذا وحده كاف للاهتمام بشعره ودراسته .
قافية الباء
وقال ربيعة الرقي :
لمن ضوء نار قابلت أعين الركب
تشب بلدن العود والمندل الرطب
فقلت لقد آنست نارا كأنها
صفا كوكب لاحت فحن لها قلبي
قافية التاء
وقال يهجو أبو العباس بن محمد :
مدحتك مدحة السيف المحلى
لتجري في الكرام كما جريت
فهبها مدحة ذهبت صياعا ً
كذبت عليك فيها وافتريت
فأنت المرء ليس له وفاء
كأني إذ مدحتك قد رثيت
قافية الحاء
ومما يستحسن لربيعة قوله :
صاح إني غير صاح أبدا من حب داح
صار قدحا ً حب داح في فؤادي المستباح
جنح القلب إليها إن قلبي ذو جناح
وعصى في حب داح كل لوام ولاحي
ليت لي رسلا ً من الجـ . . . . . ـن إليها والرياح
تبلغ الحاجات عني ثم تأتي بالنجاح
أنا والله قتيل لك من غير جراح
لابسيف قتلتني لا ولا سمر الرماح
أنت للناس قتول ٌ بالهوى لا بالسلاح
وبشكل ٍ وبدل وبغنج ٍ ومزاح
وبعينين صيودين وثغر كالأقاحي
ليتني كنت حماما ً لك مقصوص الجناح
أيها الناس ذروني لست من أهل الفلاح
أنا إنسان معنى بهوى المرض الصحاح
قافية الدال
وقال يمدح يزيد بن حاتم المهلبي ويعرض بيزيد السلمي
يزيد الأزد إن يزيد قومي
سميك لا يجود كما تجود
يقود جماعة وتقود أخرى
فترزق من تقود ومن يقود
شبيهك في الولادة والتسمي
ولكن لا يجود كما تجود
فما تسعون يحفزها ثلاث ٌ
يقيم حسابها رجل ٌ شديد
وكف شثنة جمعت لوجه
بأبكد من عطائك يا يزيد
قافية الصاد
وقال :
أنا للرحمن عاصي لجنوني برخاص
ثم للناس جميعا من أدان وأقاصي
ورخاص الكرخ ظبي لم أنل منه افتراضي
ما أبالي من لحاني فيك أو رام انتقامي
ولقد عذبت روحي فمتى منك خلاصي
فاتقي الرحمن فينا واحذري يوم القصاص
والغواني مغويات ٌ مولعات ٌ باقتناصي
قد تواصين بحبي حبذا ذاك التواصي
كتب ربيعة ليزيد بن حاتم :
أراني ولا كفران لله راجعا ً
بخفي حنين من يزيد بن حاتم
فلما قرأها أمر بنزع خفي الشاعر فحشاهما دنانير فقال ربيعة لما عزل وولي محله يزيد بن أسيد :
بكى أهل مصر بالدموع السواجم
غداة غدا عنها الأغر ابن حاتم
وفيها يقول :
حلفت يمينا ً غير ذي مثنوية ٍ
يمين امرئ آلى بها غير آثم
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد سليم والأغر ابن حاتم
يزيد سليم سالم المال والفتى
اخو الأزد للأموال غير مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله
وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام إني هجوته
ولكني فضلت أهل المكارم
فيا أيها الساعي الذي ليس مدركا ً
بمسعاته سعي البحور الخضارم
كفى لبناء المكرمات ابن حاتم
ونمت وما الأزدي عنها بنائم
فيا ابن أسيد لا تسام ابن حاتم
فتقرع إن ساميته سن نادم
هو البحر إن كلفت نفسك خوضه
تهالكت في آذيه المتلاطم
تمنيت مجدا ً في سليم سفاهة
أماني حال ٍ أو أماني حالم


30-الشريف الرضي
( 970 – 1016 م ) ( 359 – 406 هـ )
أ-حياته ونشأته :هو محمد بن الحسين المعروف بالحسين الرضي , يرتقي نسبه إلى الأمام علي بن أبي طالب . ولد في بغداد 970 م 359 هـ ونشأ فيها , وتلقى العلوم والآداب على علمائها وأساتذتها , فاخذ الفقه عن الشيخ المفيد بن عبد الله محمد بن النعمان , ودرس اللغة على السيخ أبي الفتح عثمان بن جني , حتى برع في الفقه والفرائض والآداب وسائر العلوم .
نابت هذا الشاعر الشاب بعض البلايا ولازمته طويلا ً حتى آخر حياته وذلك جزء من جراء الفواجع التي انتابت بغداد , والقلاقل التي عبثت فيها . فحبس والده في إحدى قلاع فارس سبع سنوات 369 – 376 هـ وصودرت أملاكه ورغم كل هذه المصائب التي أقضت مضجع الشاب الصغير , فقد كان رقيق الحس مرهف القلب يحب أباه حبا جما ً , فنظم فيه متلهفا ارق الشعر .
عاصر الشريف الرضي ثلاثة من الخلفاء العباسيين هم المطيع والطائع والقادر , وكان في أيام الأول طفلا ً بعد بينما كان عهد الخليفة الطائع مسرحا ً للعراك بين الفرس والترك , وقد سيطر الديلم والترك مدة على العراق , مما اضطر الشاعر على موالاتهم , مع انه اخلص الود للطائع وانس به كل الإنس ومدحه بكل صدق وإخلاص , إذ رأى فيه بقايا الأصالة العربية من بني العباس . وقد أغدق عليه الخليفة الهدايا والعطايا , وقد رثاه الشاعر بعد وفاته بقصائد عدة كما مدح عبد القادر من بعده , ولكن ما عتم هذا الأخير أن مال عنه , عندما شعر بميله إلى العلويين والفاطميين ومدحه للوزراء والملوك .
توفي الشريف الرضي في 26 حزيران 1016 م الموافق لـ 6 محرم 406 هـ ودفن في بيته بالكرخ في ضواحي بغداد , فدفنت معه آماله الواسعة , فقد كان نقيبا ً للإشراف يوم لم يكن للإشراف عرش ولا تاج , بل لهم العلم والأدب والبيان . وكان أبي النفس شريفها تيمنا ً باسمه , عالي الهمة لم تعنه الأيام على بلوغ أقصى أمانيه في المعاني . وله عدة مؤلفات ضاع أكثرها ومن أهمها :
-كتاب المجازات في الآثار النبوية ,
-كتاب حقائق التأويل في متشابه التنزيل طبع بالنجف
-تلخيص البيان عن مجازات القرآن .
-الخصائص ,
- وكتاب أخبار قضاة بغداد .
-وجمع كتب نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب .
-وله ديوان كبير في الشعر جمعه عدة أدباء منهم أبو الحكم الخيري وطبع في بيروت سنة 1307 هـ

ب-شخصيته :لم يطمع الشريف الرضي يوما ً من شعره بالتكسب , بل كان يصف الاشتباكات السياسية الناشبة بين فارس والعراق , وخدمة الأغراض السياسية , وكان يصف تقلبات الأحوال , ولم يبتغ أية فائدة مادية من اتصاله بالوزراء والملوك , بل كان حرصه على المكانة المعنوية وإن يكون ذا شأن وجاه في تصريف المعضلات وتسلم عرش الخلافة , وقد استطاع بدافع هذا القصد الشريف أن يكون صلة بين كل من الحجاز وفارس والشام من جهة وبين العراق من جهة أخرى .
ج-موضوعات شعره:
وكان شعر الشريف الرضي بالإجمال صورة تترجم ما تنطوي عليه نفسيته الطموح من الآمال العراض والأحلام الذهبية نحو المجد والسؤدد , فلم يكن الشعر عنده يوما ً واسطة للتكسب ولا مركبا ً للمداجاة والمواربة , بل كان معظمه تغنيا بالمحبة والآلام , ونشيدا ً من أناشيد العزة والفخار فقد أوحت إليه مواسم الحج وطرقه بموضوعات ( الحجازيات ) وأوحى إليه العلويون والطالبيون المحرومون من السلطان بموضوعات ( الشيعيات ) وكان تروعه من الأمراض والأخطار ينظم في وصف ( الشيب ) كما دفعته دموعه التي قذفها قلبه الجريح ونفسه المكلومة الحزينة على فراق الأحبة والأصدقاء والأقرباء من تصويرها ( بالرثائيات ) وأعطى مجالا ً لاستعادة الأمجاد القديمة والماضي التليد المندرس بموضوعات ( فخرياته ) وكل هذه القصائد في جميع الأبواب التي طرقها إنما هي انطباع من نفسه الكبيرة وقلبه الرقيق وحسه المرهف ومعنوياته العالية . بل كان مرآة معكوسة لما يتأجج في أعماقه من حرارة المحبة وتنفس الوجدان , وهيامه بالمعنويات والقيم السامية والآمال والمراكز المرموقة التي كانت تصبو إليها نفسه الشماء .
1-فحجازياته نحو أربعين قصيدة ضمنها الشاعر لوعة صبابته . وغزله شديد اللصوق بنفسه ينبجس من أعمق أعماقه . بل هو العشق النزاع بين العقل والقلب والصراع بين العزة والذل من قوله :
عفافي من دون التقية زاجر وصونك من دون الرقيب رقيب
عشقت ومالي يعلم الله حاجة سوى نظري والعاشقون ضروب
وقوله : تلفتت عيني فمذ خفيت عنها الطلول تلفت القلب
وانحصر رثاؤه في الأهل والأصدقاء وفي الملوك والعظماء , وفي صريع كربلاء الحسين بن علي , وكان يشيد بمآثر وبطولات جميعهم حيث يتضاءل المجد والعز أمام ذكرياتهم .
2-وفخره :فقد كان الشريف شاعر الفخر بلا منازع , يفتخر بقومه ومجد أسرته وبالتالد والطريف من شرفه , ولا سيما في أهل البيت يقول :
كالصخر إن حملوا والنار أن غضبوا والأسد أن ركبوا والوبل أن بذلوا
وكما كان يفاخر ويتباهى بأهله والشرفاء من قومه في باب الفخر , كذلك كان يحيي ذكريات من قتل من آل البيت , ولا سيما الحسين فيقف على قبورهم في لهفة وحرقة , وهو ذا يناشد الخليفة نفسه :
مهلا ً أمير المؤمنين فإننا في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت أبدا كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فأنني أنا عاطل منها وأنت مطوق
3-وهو شاعر المدح :له فيهما قصائد كثيرة من عيون الشعر يحاول أن يضارعه المتنبي في بعضها , وكان صبا ً بابيه علوقا ً بحبه إلى أقصى الحدود , مدحه في قصائد كثيرة متوجعا ً عليه في سجنه , ومهنئا ً إياه بخلاصه ورد أملاكه ومباركا له بالأعياد والمناسبات التي يخلع فيها عليه رداء الملوك والخلفاء .
وكان الشريف الرضي يقتنص المناسبات الجميلة والفرص السانحة في نظم قصائده والاحتفال بها , فينتقي أجمل العبارات وأبلغ المعاني وأعذب القوافي وأصدق المشاعر وأسحر البيان , فاسمعه في ما يفاخر :
منتصبات كالقنا لا نرى عيا ً من القول ولا أفنا
لا يفضل المعنى على لفظه شيئا ً ولا اللفظ على المعنى .
4-وكان أيضا وجداني النزعة في شعره: يتقارب مع الأقدمين من بين شعراء عصره آخذا ً نصيبه من الصبغة العباسية , مستعملا ً كل الأساليب والوسائل , بل الحروف والحركات الضرورية للتعبير عن مقاصده ومراميه . ففي رثاء أحبابه مثلا ً ينادي الدهر قائلا ً :
يا دهر رشقا بكل نائبة قد انتهى العتب وانقضى العجب
رد يدي ما استطعت عن إربي لم يبق لي بعد موتهم أرب
كما يتفنن في المناجاة بوجدانه فينادي النظرة ووقفة الأحباب , كما ينادي نفسه ويشجعها على تحمل الآلام وينادي الشباب بقوله :
فمن يك ناسيا عهدا فإني لعهدك يا شباب غير ناس
فإن العيش بعدك غير عيش وإن الناس بعدك غير ناس
ففي مثل هذين البيتين تبرز ألفاظ الشريف الرضي مشخصة لتدفق العاطفة عنده . وقوافيه كالموسيقى الساحرة في تموجاتها , حيث تبقى أثرا عميقا ً بموسيقاه البحتري شيخ النغم الشعري .
4-مكانته :وإذا لا نستطيع أن نضع الشريف الرضي في صف المتنبي تفكيرا ً وانطلاقا ً , ولا مع ابن الرومي تحليلا للمعنى والتقصي فيه , ولا مع أبي تمام في فلتاته النادرة في انتقاء الأبيات الفذة الجذابة , إلا انه يحوز النصيب الذي لا يستهان به من كل ميزاتهم المذكورة , ولكنه بزهم في الشعر الوجداني , مع الحذر الشديد في ما اعتور ابن الرومي بسبب إفراطه في التقصي والتحليل , وما زل به أبو تمام في المبالغة بالصنعة والتكلف , وما شاب شعر المتنبي من المبالغة غير المعقولة والمعاظلة الشديدة .
5-صنعة الشريف الرضي :
يكثرالشريف الرضي من مديح الخلفاء العباسين لعصره وأمراء بنى بويه ووزرائهم؛ إلا أنه يتوقر في مديحه ولا يسف إلى مغالاة أو غلو، بل يحتفظ بكرامته، وهى كرامة ترد إلى طيب محتده ومكانته في بيته وعصره، وكل من يقرأ ديوانه يحس الصلة واضحة بينه وبين المتنبي؛ فقد كان يحتذي شعره احتذاء، ولعل ذلك ما جعله يكثر من الفخر والاعتداد بنفسه، كما أكثر من نقد الأخلاق وأحوال المجتمع والناس من مثل قوله:
وخلائق الدنيا خلائق مومس ... للمنع آونة وللإعطاء
طورًا تبادلك الصفاء وتارة ... تلقاك تنكرها من البغضاء
واستمر يشكو من الدهر كأن يقول:
فأينَ من الدَّهرِ استماعُ ظلامتي ... إذا نظرتْ أيامُهُ في المظالمِ
ولم أدرِ أنَّ الدَّهرَ يخفضُ أهلِهُ ... إذا سكنت فيهم نفوسُ الضَّرَاغِمِ
وهي شكوى ترددت كثيرًا في هذا العصر عند الشريف وغيره من الشعراء؛ فقد كان هناك من الكآبة في الحياة الإسلامية العامة؛ بسبب ما أصابها من اضطراب سياسي واجتماعي، ما جعل الشعراء يرددون هذا اللحن، وكان الشريف من أكثر الشعراء ترديدًا له متأسيًا -كما قلنا- في صنيعه بالمتنبي، وأكثرَ مثلَهُ من الحِكَم في شعره كقوله:
إذا أنت فتَّشْتَ القلوبَ وجدتَهَا ... قلوبُ الأعادي في جسومِ الأصادقِ
وأيضًا فقد قلَّده في غزله بالأعرابيات وما ينطوي معها من ذكر العِيس والبِيد كقوله:
وعْجنا العيسَ توسعنا حَنِينًا ... تُغَنِّينا ونوسعها بكاء
وقوله:
حَيِّيا دون الكثيبِ ... مرتَعَ الظَّبي الرَّبيب
ولهذه الغزليات حيز واسع في ديوانه، وهو يطبعها بطوابع من العفة والطهر، ودائمًا يردد ذكر مواضع نجد والحجاز فمعشوقاته دائمًا حجازيات. وله في ذلك قطع رائعة مثل مقطوعته المشهورة.
يا ظبية َالبانِ ترعَى في خمائله ... ليهْنِك اليوم أن القلب مَرعَاك
وتوسع في هذا الموضوع كما توسع في الحكم؛ غير أنه ينبغي إذا ذكرنا المتنبي معه أن نضعه في مرتبة متخلفة عنه؛ إذ يتفوق المتنبي عليه في جمال التعبير وقوته. وعلى كل حال كان الشريف يحاكي المتنبي ويلفِّق كثيرًا من معانيه وحكمه في نماذجه؛ وقد عم التلفيق من حوله في هذه العصور؛ إذ نرى الشعراء يلفقون نماذجهم من الخواطر الموروثة والأفكار المطروقة.
6-نماذج من شعره:
كربلا كرب وبلا
قال وهو بالحاير الحسيني يرثي جده سيد الشهداء عليه السلام :
كربلا , لا زلت كربلا ً وبلا ما لقي عندك ال المصطفى
كم على تربك لما صرعوا من دم سال ومن دمع جرى
كم حصان الذيل يروي دمعها خدها عند قتيل ٍ بالظمأ
تمسح الترب على إعجالها عن طلى نحر ٍ رميل ٍ بالدما
وضيوف ٍ لفلاة ٍ قفرة ٍ نزلوا فيها على غير قرى
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا بحدى السيف على ورد الردى
تكسف الشمس شموسا ً منهم لا تدانيها ضياء ً وعلى
وتنوش الوحش من أجسادهم أرجل السبق وإيمان الندى
ووجوها ً كالمصابيح , فمن قمر غاب , ونجم قد هوى
غيرتهن الليالي , وغدا جاير الحكم عليهن البلى
يا رسول الله لو عاينتهم , وهم ما بين قتلى وسبا
من رميض يمنع الظل , ومن عاطش ٍ يسقى أنابيب القنا
ومسوق ٍ عاثر ٍ يسعى به حلف محمول على غير وطا
متعب يشكو أذى السير على نقب المنسم , مجزول المطا
لرأت عيناك منهم منظرا ً للحشى شجوا ً , وللعين قذى
ليس هذا لرسول الله , يا امة الطغيان والبغي , جزا
غارس لم يأل في الغرس لهم فأذاقوا أهله مر الجنى
جزروا جزر الأضاحي نسله ثم ساقوا أهله سوق الإما
معجلات ٍ لا يوارين ضحى سنن الأوجه أو بيض الطلى
هاتفات ٍ برسول الله في بهر السعي , وعشرات الخطى
يوم لا كسر حجاب ٍ مانع ٌ بذلة العين ولا ظل خبا
أدرك الكفر بهم ثاراته وأزيل الغي منهم فاشتفى
يا قتيلا ً قوض الدهر به عمد الدين وأعلام الهدى
قتلوه بعد علم منهم انه خامس أصحاب الكسا
وصريعا ً عالج الموت بلا شد لحيين ولا مد ردا
غلوه بدم الطعن , وما كفنوه غير بوعاء الثرى
مرهقا ً يدعو ولا غوث له بأب ٍ بر ٍ وجد ٍ مصطفى
وبأم ٍ رفع الله لها علما ً ما بين نسوان الورى
أي جد وأب يدعوهما جد يا جد أغثني يا أبا
يا رسول الله يافاطمة , يا أمير المؤمنين المرتضى
كيف لم يستعجل الله لهم بانقلاب الأرض أو رجم السما
لو بسبطي قيصر , أو هرقل فعلوا فعل يزيد , ما عدا
كم رقاب من بني فاطمة عرقت ما بينهم , عرق المدى
واختلاها السيف حتى خلتها سلم الابرق , أو طلح العرى
حملو رأسا يصلون على جده الاكرم طوعا ً وأبا
يتهادى بينهم لم ينقضوا عمم الهام , ولا حلوا الحبى
ميت تبكي له فاطمة وأبوها وعلي ذو العلى
لو رسول الله يحيا بعده قعد اليوم عليه للعزا
معشر منهم رسول الله والـ ـكاشف الكرب إذا الكرب عرا
صهره الباذل عنه نفسه وحسام الله في يوم الوغى
أول الناس إلى الداعي الذي لم يقدم غيره لما دعا
ثم سبطاه الشهيدان . فذا بحسا السم . وهذا بالظبى
وعلي وابنه الباقر والصادق القول وموسى والرضا
وعلي وأبوه وابنه والذي ينتظر القوم غدا
يا جبال المجد عزا ً وعلى وبدور الأرض نورا وسنا
جعل الله الذي نابكم سبب الوجد طويلا ً والبكا
لا أرى حزنكم ينسى ولا رزءكم يسلى . وإن طال المدى
قد مضى الدهر , وعفى بعدكم لا الحوى باخ , ولا الدمع رقا
انتم الشافون من داء العمى وغدا ً ساقون من حوض الروا
نزل الدين عليكم بيتكم وتخطى الناس طرا ً . وطى
أين عنكم للذي يبغي بكم ظل عدن ٍ دونها حر لظى
لا تيأسن فربما عظم البلاء وفرجا
قد ينسخ الخوف الاما ن , ويغلب اليأس الرجا
الدنيا كثيرة الأزواج
إني إذا حلب الخيل لبانها أمسيت احلبها دم الأوداج
خطبتني الدنيا فقلت لها ارجعي إني أراك كثيرة الأزواج
سيال اليدين
قال يمدح الطائع ويذم بعض أعدائه وذلك سنة أربع وسبعين وثلاثمائة :
أغار على ثراك من الرياح واسأل عن غديرك والمراح
واجهر بالسلام ودون صوتي منيع لا يجاوز بالصياح
وأهوى أن يخالطك الخزامى ويلمع في اباطحك الاقاحي
وكم لي نحو أرضك من ميسر دفعت به الغدو إلى الرواح
وهذا الدهر خفض من عرامي ورنق من غبوقي واصطباحي
وقد كان الملام يطيف مني بمنجذب العنان إلى الجماح
تؤول النائبات إلى مرادي , ويعطيني الزمان على اقتراحي
وعالية السوالف والهوادي تدافع في الأسنة والصفاح
إذا استقصين غامضة الدياجي فقأت بهن عاشية الصباح
ومدرع ٍ سموت له مغذا ً وقد غرض المقارع بالرماح
بنافذة تمطق عن نجيع ٍ تمطق شارب المقر الصراح
وأخرى في الضلوع لها هدير ٌ هدير الفحل قرب للقاح
فما لي تطلب الأعداء حربي ويصبح جانبي غرض اللواح
أبا هرم , وأنت تزيد ضيمي , باي يد تطامن من طماحي
لحقت أبي نزاعا ً في المعالي وعرقا ً في الشجاعة والسماح
وأنت فما لحقت أباك إلا كما لحق الذنابى بالجناح
نميت من العقول إلى المخازي كما ينمى الهرير إلى النباح
فنحن نرى مكانك من نزار مكان الداء في الأدم الصحاح
بني مطر دعوا العلياء يطلع إليها كل مندلق وقاح
وولوا عن مقارعة المنايا ولقيان الململمة الرداح
أيخفى لوم أصلكم وهذي قرونكم تنم على الجراح
تعيرنا القبائل أن قطعنا قرائن عامر وبني رياح
وعلقنا مطامعنا بحبل تعلقه القلوب بغير راح
وكلهم يجرون العوالي محافظة على عشب البطاح
فبلغ سادة الأحياء أنا سلونا بالغنا ضرب القداح
وعفنا القاع نسكنه وملنا عن السمرات والنعم المراح
وطبقت العراق لنا قباب ٌ نظللها بأطراف الرماح
نعلل بالزلال من الغوادي ونتخف بالنسيم من الرياح
وجاورنا الخليفة حيث تسمو عرانين الرجال إلى الطماح
نوجه بالثاء له مصونا ونرتع منه في مال ٍ مباح
وسيال اليدين من العطايا مهيب الجد مأمون المزاح
إذا ابتدر الملام ندى يديه مضى طلقا ً على سنن المراح
أمير المؤمنين أذال سيري ذرى هذي المعبدة الزراح
فكم خاض المطي إليك بحرا ً يموج على الاماعز والضواحي
سراب ٌ كالغدير تعوم فيه ربى كغوارب الإبل القماح
وكم لك من غرام بالمعالي وهم في الأماني وارتياح
وأيام تشن بها المنايا عوابس يطلعن من النواحي
إذا ريع الشجاع بهن قلنا لأمر غص بالماء القراح
فلا نقل المهيمن عنك ظللا ً من النعماء ليس بمستباح
وواجهك الثناء بكل ارض معاونة لشكري وامتداحي




الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية
في العصر العباسي
-2-

المجلد الثامن
فنون النثر

حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية


حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية

مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط

ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب









الباب السابع
الفصل الأول
فنون النثر
الباب السابع
النثر في العصر العباسي
عندما قامت الدولة العباسية كانت الكتابة الفنية قد أصبحت ذات قواعد وأصول على يد عبد الحميد الكاتبوالعصر العباسي هو العصر الذهبي للكتابة الفنية؛ فقد نبغ فيه كبار الكتاب الذين جددوا في أساليب النثر ومعانيه، وفتحوا آفاقاً جديدة للكتابة.
وقد ارتفع شأن الكتَّاب في العصر العباسي، فأصبح لكل خليفة أو وزير كاتب أو أكثر، وأنشئت لذلك الدواوين المتعددة، بل إن بعض الكتاب قد وصل إلى الوزارة بسبب قدرته على الكتابة الفنية، كما أن الكتابة قد حلت محل الخطابة في آخر العصر، وأزالت دولة الشعر من الصدارة الأدبية.
وقد تعددت أنواع الكتابة في هذا العصر؛ فهناك الكتابة الديوانية مثل كتب البيعات وعهود الولاء وكل ما يصدر عن ديوان الرسائل معبراً عن رأى الخليفة أو الوزير في شؤون الدولة العامة، وسميت بالديوانية نسبة إلى صدورها من "ديوان الرسائل".
وهناك الكتابات والرسائل الإِخوانية المتبادلة بين الكتاب في أمورهم الخاصة من مدح أو اعتذار أو تهنئة أو تعزية.
وهناك الرسائل الأدبية التي يكتبها الأدباء والبلغاء لإِبراز قدرتهم وإبداعهم كرسائل الجاحظ وابن العميد.
ويقسم مؤرخو الأدب الكُتَّاب في العصر العباسي إلى أربع طبقات، لكل طبقة رجالها وميزاتها الفنية:
- الطبقة الأولى: وإمامها ابن المقفع، ومن أشهر رجالها: الحسن بن سهل، وعمرو بن مسعدة، وسهل بن هارون، والحسن بن وهب.
وتمتاز هذه الطبقة بتنويع العبارة، وتقطيع الجملة، وتَوَخِّي السهولة، والعناية بالمعنى، الزهد في السجع.
- الطبقة الثانية: وإمامها الجاحظ، ومن أشهر رجالها: الصولي، وابن قتيبة، وأبو حيان التوحيدي.
وقد تابعت الطبقة الأولى في كثير من أساليبها، لكنها تمتاز بالاستطراد، ومزج الجد بالهزل، والإكثار من الجمل الاعتراضية، وشيء من الإطناب لتحليل المعنى واستقصائه.
- الطبقة الثالثة: وإمامها ابن العميد، ومن أشهر رجالها: الصاحب بن عباد، وبديع الزمان الهمداني، والخوارزمي، والثعالبي.
ومن خصائصها السجع بجمل قصيرة، والتوسع في الخيال والتشبيهات، والإكثار من الاستشهاد وتضمين المعلومات التاريخية والطرائف الملح، والعناية بالمحسنات البديعية.
- والطبقة الرابعة: وإمامها القاضي الفضل، ومن أشهر رجالها: ابن الأثير، والعماد الأصبهاني الكاتب.
وهذه الطبقة سارت على نهج الطبقة الثالثة في السجع والإكثار من المحسنات البديعية، إلا أنها غلبت في ذلك وأغرقت في التورية والجناس حتى أصبحت الكتابة عبارة عن ألفاظ منمقة مسجوعة، لكن ذلك كان على حساب المعنى.
نعم لقد طرأت تطورات جديدة على النثر في الجاهلية وعصر صدر الإسلام والعصر الأموي بفعل امتزاج الثقافات الفارسية واليونانية والهندية ، عن طريق النقل والترجمة والاقتباس ونظراً إلى أن العباسيين أقاموا دولتهم معتمدين على العنصر الفارسي فقد حاولوا أن يبينوا هذه الدولة بالطريقة الفارسية من حيث إنشاء الدواوين والوزارات التي أخذ الكتاب يتنافسون في تقلد مناحبها ، إذ إنه كان يشترط فيمن يستوزر أن يكون
العوامل التي أثرت في تطور النثر فيالعصر العباسي الأول.
1-ازدهار حركت الترجمه والتأثر بالآثار الأدبيه الأجنبيهوالنظرات والأفكار البلاغيه لدى الفرس واليونان والهند.
2-انتشار الوعاظوالقصاص والنساك في المسجد والساحات وألتفاف العامه حولهم.
3-ظهور المذاهبالفلسفية وأقوال الحكماء في الثقافات الأجنبيه في الأدب العربي.

4-احتدامالجدل الديني وقيام المناظرات بين الفرق الإسلاميه.
هذه بعض العوالمالتي ساعدت في ازدهار النثر في العصر العباسي الأول وهي كانت عوامل مساعده فقطوليست أساسيه فالعرب منذ العصر الجاهلي وهم يعرفون هذا الفن ، وسبب عدم حفظ النثر فيالأدب العربي هو أن العرب في الجاهليه وفي صدر الإسلام لم يكن فيهم كتاب الإ قليل،وكان جميع العرب أهل حفظ ، فإذا قال أحدهم مقوله حفظها الجميع، والسبب الآخر أيضاًهو أنه كان لهم في كل نادي من نواديهم أو تجمع خطيب فلم يكن يملكون أوراق يقرأونمنها بل كانوا يحفظون.
وهذا العصر أخرج لنا فنٌا جديد وهو فن الرسائل وكانت علىنوعان:
1-الرسائل الدويوانية: وهي عباره عن رسائل يبعثها الخلفاء إلى الولاة والعمال في شتى بقاء الخلافه.
2-الرسائل الأدبية: وهي رسائل بين الأدباء،ويندرج تحتها: الرسائل الإخوانيه: وهي الرسائل التي يبعثها الأدباء بينهم فيشؤونهم الإجتماعيه.
ومن الرسائل الأدبيه :مايتناول الصفات والأخلاق ومسائلالسياسه وشؤون الحكم ونصيحة السلطان، وكان من أبرز من كتب في هذا الفن هو عبداللهبن المقفع واحتل ابن المقفع مكانه عاليه بين كتاب هذا العصر وتاريخ الكتابه العربيهعلى مر العصور، كان ذو ثقافه واسعه ، عمل في الدواوين ، أتقن اللغه الفارسيه حتىتمكن من ترجمة كتاب ((كليله ودمنه)) من الفارسيه إلى العربيه، وكتب عددة رسائلومنها الأدب الصغير والأدب الكبير،
وكان يعالج في الأدب الصغير قضايا الناسووعضهم، أما في الأدب الكبير يعالج أمور الخلافه والسياسهوالحكم.
نظراً لتغير الحياة السياسية، والاجماعية والفكرية في هذا العصر، فقد ظهرت فنون جديدة تعبر عن حاجات المجتمع العباسي. الوعظ- القصص الديني – المناظرات .
إضافة إلى الفنون التي قلّدها العباسيون: الخطب والرسائل. وأهم هذه الفنون:
1ً- الخطـابة:
أ-توطئة :
ازدهر في بداية العصر العباسي فن الخطابه واضمحل شأنها في نهايتهوالسبب في ذلك أن الخطابه ازدهرت دفاعاً عن حق العباسيين في الخلافه وتمكيناًلدولتهم، واضمحلت بعد ذلك بسبب احتجاب الخلفاء عن العامه وزوال الداعيلها.
وكان للخطابة شأن كبير في أوائل العصر العباسي؛ فقد كانت الدولة الجديدة في حاجة إلى ترسيخ الملك وإثبات حق العباسيين في الخلافة، وكان الخلفاء العباسيون الأوائل كالسفاح والمنصور والمهدي خطباء مصاقع، فازدهرت الخطابة في ذلك العصر.
وكانت الخطبة تلقى على مسامع الناس لأغراض مختلفة، فهناك الخطب السياسية التي يلقيها الخلفاء والقادة في استقبال الوفود أو تحميس الجنود، وهناك الخطب الدينية التي تلقي في الأعياد والجمع، والخطب الاجتماعية في المدح أو الذم أو الاستعطاف أو العتاب.
وقد امتازت الخطابة في أول العصر العباسي بجزالة الألفاظ، وعدم الالتزام بالسجع، وكثرة الاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث الشريف، وغلبة الإِيجاز إلا ما تدعو الضرورة فيه إلى الإِطناب.
وأشهر خطباء هذه الفترة السفاح، والمنصور، وداود بن على، وعيسى بن علي، وخالد بن صفوان، وشبيب بن شيبة.
ولما استقرت الدولة العباسية، وفشت العجمة، وسيطر الأعاجم من بويهيين وسلاجقة على الخلافة، ضعفت الخطابة، وقويت الكتابة، فلم يعد الخلفاء قادرين عليها كأسلافهم، فأصبحت الخطابة مقصورة على بعض المناسبات الدينية كالعيدين والجمعة، وقد أناب الخلفاء والحكام غيرهم فيها.
ثم ازداد الأمر سوءاً في آخر العصر العباسي، وضعفت الخطابة الدينية أيضاً، وأصبح خطباء المساجد يرددون خطب السابقين ويقرؤونها من كتبهم على المنابر، وأغلبها خطب مسجوعة متكلفة.
اهتم العباسيون كأسلافهم الأمويين بالخطابة كحظ دفاع أول يسهم في دعوتهم أولاً، وتثبيت ملكهم ثانياً.
وقد اتضح ذلك في خطبة أبي العباس السفاح حين بويع بالخلافة في مدينة الكوفة، ولفت الانتباه إلى صلته بالرسول الكريم عليه السلام. يقول أبو العباس السفاح:
"وزعم السبئية الضلاَّل أنّ غيرنا أحقُّ بالرياسة و الخلافة منا، فشاهت وجوههم، بم ولم أيها الناس، وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم ... وبصّرهم بعد جهالتهم... وأنقذهم بعد هلكتهم...".
وخطبة عمه داوود بن علي في أهل الكوفة حين كان والياً عليها لأبي العباس السفاح.يقول داوود بن علي :
"شكراً شكراً، أما والله ما خرجنا لنحتفى فيكم زهىً ولا لنبتني قصرا، أظنَّ عدوُّ الله أن لن نظفر به إذ أرخي له في زمامه حتى عثر في فضل خطابه، فالآن عاد الأمر في نصابه، وطلعت الشمس من مطلعها، والآن أخذ القوس باريها، وعادت النبل إلى النزعة ، ورجع الحق إلى مستقره في أهل بين بينكم : أهل بيت الرأفة والرحمة".
وإذا كانت الخطابة في هذا العصر قد برزت سياسياً مع استلام العباسيين لمقاليد السلطة فإنها ضعفت بعد القضاء على الثورات التي قامت جمد العباسيين، وخاصة أن العباسيين كموا الأفواه. وأخذوا الناس بالشدة، فضعفت الأحزاب، وصودرت الحريات السياسية كذلك سرى الضعف إلى الخطابة الحفلية إذ وضع الأغنياء حاجزاً بينهم وبين الوفود التي كانت تأتي إلى بني أمية واقتصرت على مناسبات زواج أو موت أحد أقاربه أو موت الخليفة نفسه.
يقول الخطيب ابن عتبة المهدي يهنئه بالخلافة ويعزيه بأبيه المنصور:
"أجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله، وبارك لأمير المؤمنين فيما خلفه له أمير المؤمنين بعده، فلا مصيبة أعظم من فقد أمير المؤمنين ، ولا عقبى أفعل من وراثة مقام أمير المؤمنين".
أما الخطابة الدينية في المساجد فقد بقيت مزدهرة يشارك فيها الخلفاء والولاة، ولم تضعف إلاّ عندما طلب الرشيد من الأصمعي أن يعد خطبة لابنه الأمين، وعندما طلب الرشيد نفسه إلى إسماعيل الرشيدي أن يُعد خطبة للمأمون ليخطبا بهما.
ب-الخطابة الدينية في العصر العباسي الأول :
ظل للخطابة الدينية وما اتصل بها من وعظ ازدهارها في هذا العصر على نحو ما كان عليه الخلفاء والولاة يشاركون فيها خلال عصر بني أمية حيث كان للولاة والخلفاء دور بارز في الخطابة الدينية إذ نجد للمهدي خطبة بارعة مأثورة ، كما نجد للرشيد خطبة أخرى رائعة ، على أننا نجد الرشيد يستن سنة كانت سببا في إن تضعف الخطابة عللا السنة الخلفاء وتنزل بمستواها ، إذ طلب إلى الأصمعي إن يعد لابنه الأمين خطبة يخطب بها يوم الجمعة ، كما طلب إلى إسماعيل اليزيدي وابن أخيه أحمد إن يعد خطبة مماثلة يخطب بها المأمون ، وبذلك سن للخلفاء إن يخطبوا بكلام غيرهم ، وكان المأمون معروفا بالفصاحة والجهارة وحلاوة اللفظ وجودة اللهجة والطلاوة . وكان الولاة يجمعون بين الولاية والصلاة ، ويظهر أنهم اخذوا مع مر الزمن يخطبون بكلام غيرهم وقد يندبون من يقوم مقامهم في الصلاة والخطابة .
وذكر الجاحظ عن محمد بن سليمان العباسي والي البصرة والكوفة بعهد المنصور والمهدي انه كانت له خطبة يوم الجمعة لا يغيرها ، وهي خطبة قصيرة . ولكن إذا كانت الخطابة الدينية أخذت تضعف على لسان الولاة والخلفاء ، فإنها أينعت في بيئة الوعاظ النساك ممن كانت تزخر بهم مساجد بغداد والبصرة والكوفة ، وكان بعضهم يلم بمجالس الخلفاء لوعظهم ، وأحيانا كانوا يستقدمونهم ، فيعظونهم حتى يبكرهم ، بما يوقعون في أنفسهم من خشية عقاب الله ، وبما يصورن لهم من زفر جهنم وهم في تضاعيف ذلك يزجرونهم عن ظلم الرعية واقتراف المعاصي والسيئات . ومن كبارهم الذين عرفوا بمقاماتهم المحمودة بين أيدي الخلفاء ثلاثة ، وهم : عمرو بن عبيد المعتزلي الزاهد المشهور وتعظ المنصور ، وصالح بن عبد الجليل واعظ المهدي ، وابن السماك واعظ الرشيد ويروى إن عمرو بن عبيد دخل على أبي جعفر المنصور فقال له : عظني ، فقال :( إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاستر نفسك ببعضها ، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده ))فوجم أبو جعفر المنصور من قوله ، فقال له الربيع حاجب المنصور : يا عمرو غممت أمير المؤمنين ، فقال عمرو :
((إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير لك عليه إن ينصحك يوما واحدا ، وما عمل وراء بابك بشيء من كتاب الله ولا سنة نبيه .))دخل ابن السماك على الرشيد فقال له : عظني ، فقال :((يا أمير المؤمنين ، اتق الله وحده لا شريك له ، واعلم انك واقف غدا بين يدي الله ربك ثم مصروف إلى إحدى منزلين لا ثالث لهما : جنة ، أو نار ، فبكى هارون الرشيد حتى أخضلت لحيته .
1-من خطب الخليفة المهدي العباسي :
الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه ورضي به من خلقه ، احمده على آلائه ، وأمجده لبلائه واستعينه و أومن به وأتوكل عليه توكل راض بقضائه ، وصابر لبلائه ، واشهد أن لا اله لا الله وحده لا شريك له ، و إن محمدا عبده المصطفى ، ونبيه المجتبي ، ورسوله إلى خلقه ، وأمينة على وحيه ، أرسله بعد انقطاع الرجاء وطموس العلم واقترب من الساعة إلى امة جاهلة مختلفة أمية ، أهل عداوة وتضاغن ، وفرقة وتباين ، قد استهوتهم شياطينهم ، وغلب عليهم قرناؤهم ، فاستشعروا الردى ، وسلكوا العمى ، يبشر من أطاعه بالجنة وكريم ثوابها وينذر من عصاه بالنار وأليم عقابها ، ليهلك من هلك عن بينه ، ويحي من حيي عن بيتنة وان الله لسميع عليم أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإن الاقتصار عليها سلامة ، والترك لها ندامة ، وأحثكم على إجلال عظمته ، وتوفير كبريائه وقدرته ، والانتهاء إلى ما يقرب من رحمته وينجي من سخطه ، وينال به ما لديه من كريم الثواب وجزيل المآب ، فاجتنبوا ما خوفكم الله من شديد العقاب واليم العذاب ووعيد الحساب يوم توقفون بين يد الجبار ، وتعرضون فيه على النار .
فإن الدنيا دار غرور وبلاء وشرور ، واضمحلال وزوال وتقلب وانتقال ، قد أفنت من كان قبلكم ، وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم ، من ركن إليها صرعته ، ومن وثق بها خانته ، ومن أملها كذبة ، ومن رجاها خذلته عزها ذل وغناها فقر ، والسعيد من تركها ، والشقي فيها من آثرها ، والمغبون فيها من باع حضه من دار آخرته بها ، فالله الله عباد الله والتوبة مقبولة ، والرحمة مبسوطة ، وبادروا بالأعمال الزكية في هذه الأيام الخالية قبل إن يؤخذ بالكظم وتندموا ، فلا تنالون الندم في يوم حسرة وتأسف وكآبة وتلهف ، يوم ليس كالأيام ، وموقف ضنك المقام ، وان أحسن الحديث وابلغ الموعظة كتاب الله يقول الله تبارك وتعالى أوصيكم عباد الله بما أوصاكم الله به ، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه ، وأرضى لكم طاعة الله واستغفر الله لي ولكم
تحليل الخطبة :
تتضمن هذه الخطبة عدة أفكار :
أولا :حمد لله والثناء عليه بما هو أهله ، والشهادة لله بالوحدانية ولنبيه r بالرسالة ، كما هو معلوم شرعا في مقدمة الخطبة .
ثانيا :حاجة العرب إلى رسالة محمد r لما كانوا عليه من جهالة جهلاء وضلالة عمياء ، تحكمت فيها العصبية القبلية وهانت الأنفس والدماء ، والقوي يأكل الضعيف وعداوة مستحكمة فأصلح أحوالهم ونقلهم من الظلمات إلى النور .
ثالثا : الوصية بتقوى الله وإنذار من عصى بعذاب الله الشديد ، وبشارة من إطاعة بجنة عرضها السموات والأرض أعدها الله لعباده الصالحين يوم يقوم الناس لرب العالمين .
رابعا :الإكثار من الشواهد القرآنية والتركيز على الوعد والعيد والتحذير من الركون إلى الدنيا فهي دار غرور وبلاء وشرور .
خامسا : عدم الركون إلى الدنيا لتقلب أحوالها ، وعدم الثقة بعطائها ونعيمها فهي إلى زوال وهي دار شرور وبلاء وغرور لا ترعى عهدا ولا تحفظ مودة كم من عزيز من أهلها ذل ، وكم من غني افتقر .
سادسا :الحض على التوبة ، وتحقيق شروط قبولها والمبادرة بالأعمال الصالحة ، لنيل رحمة الله تعالى . لان السعيد من ترك التعلق بالدنيا واثر ما عند الله على ما سواه ، والشقي من باع آخرته للحصول على نعيم زائل وجاه زائف .
سابعا :التذكير بيوم القيامة يوم الحسرة والأسف والندامة .
ثامنا :الوصية في آخر الخطبة بالالتزام بكتاب الله ، فهو أحسن الحديث وفيه ابلغ موعظة ، والتذكير بطاعة الله تعالى .
تاسعا :الإكثار من الشواهد القرآنية .
2-خطبة هارون الرشيد الخليفة العباسي :
خطب قائلا : ( الحمد لله نحمده على نعمته ونستعينه على طاعته ، ونستنصره على أعدائه ونؤمن به حقا ، ونتوكل عليه مفوضين إليه ، واشهد إن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله ، بعثه على فترة من الرسل ودروس من العلم وأدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة بشيرا بالنعيم ونذيرا بين يدي عذاب اليم فبلغ الرسالة ونصح الأمة ، وجاهد في الله فادى عن الله وعده ووعيده حتى أتاه اليقين فعلى النبي من الله صلاة ورحمة وسلام ، وأوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإن في التقوى تكفير السيئات وتضعيف الحسنات وفوزا بالجنة ونجاة من النار ، وأحذركم يوما تشخص فيه الأبصار ، وتبلى فيه الأسرار ، يوم البعث ويوم التغابن ويوم التلاقي في ويوم التنادي ، يوم لا يستعيب من سيئة ولا يزداد من حسنة ،(وانذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خآنية الأعين وما تخفي الصدور) [غافر :18-19](واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون )[البقرة:281] عبا الله إنكم لم تخلفوا عبثا ولن تتركوا سدى ، حصنوا إيمانكم بالأمانة ، ودينكم بالورع وصلاتكم بالزكاة ، فقد جاء في الخبر إن النبي r قال :(( لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ، ولا صلاة لمت لا زكاة له )) ، إنكم سفراء مجتازون ، وانتم عن قريب تنتقلون من دار فناء إلى دار بقاء ، فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة والى الرحمة بالتقوى والى الهدى بالأمانة ، فإن الله تعالى ذكره اوجب رحمته للمتقين ومغفرته للتائبين وهداه للمنيبين ، قال الله عز وجل وقوله الحق :( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكوة) [الأعراف :156] وقال :( لمن تاب وامن وعمل صالحا ثم اهتدى)[طه:82] وأيكم والأماني فقد غرت وأوردت و اوبقت كثيرا حتى أكذبتهم مناياهم فتناوشوا التوبة من مكان بعيد ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، فأخبركم ربكم عن المثلات فيهم ، وصرف الآيات ، وضرب الأمثال ، فرغب بالوعد وقدم إليكم الوعيد ، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلا فجيلا ، وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والشعائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم ومن بين أظهركم لا تدفعون عنهم ، ولا تحولون دونهم ، فزالت عنهم الدنيا وانقطعت بهم الأسباب فأسلمتهم إلى إعمالهم عند المواقف والحساب والعقاب ليجزي الذين اساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، إن أحسن الحديث وابغ الموعظة كتاب الله عز وجل
( وإذا قرى القرءان فاستمعوا له ، وأنصتوا لعلكم ترحمون ) [الأعراف :204] أمركم بما أمر الله ، وأنهاكم عما نهى الله عنه ، واستغفر الله لي ولكم )
تحليل الخطبة :
يلاحظ إن الخطبة لا تخلو من طول ، وتتضمن باقة من الأفكار :
أولا : بدأ الخطبة بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله مع الشهيد .
ثانيا : تشبه إلى حد كبير خطبة أبيه الخليفة المهدي وتنطوي على نفس الأفكار تقريبا .
حيث تضمنت حاجة البشرية عامة والعرب خاصة إلى رسالة النبي r التي جاءت على فترة من الرسل .
ثالثا :الوصية بالتقوى لأنها أساس الإيمان ومفتاح النجاة عند الله ، وبها تنال رحمة الله .
رابعا :التحذير من كربات يوم القيامة ، والحث على طاعة الله تعالى التي بها ينال العبد الفوز بالجنة ، والحذر من المعاصي التي تهلك صاحبها وترديه في النار .
خامسا :الإشارة إلى إن الله سبحانه وتعالى ضرب لعباده الأمثال ورغب عباده بالوعد ، وحذرهم بالوعيد .
سادسا :الحذر من أماني الشيطان التي تقوم على الغرور والتعلق بالدنيا وذلك رأس كل خطيئة .
سابعا :الحث على التوبة الصادقة والوفاء بالعهود والوعود وأهمها الوفاء بعهد الله وعهود الناس لأنها أساس الدين وأداء الأمانات لأهلها وعلى رأسها أمانة التكليف التي اخذ الله ميثاقها على عباده عندما كانوا في الأصلاب .
ثامنا : كثرة الاستشهاد من القران الكريم والدعوة إلى الالتزام به ، والاعتصام بهديه .
3-خطبة المأمون الخليفة العباسي يوم الجمعة :
خطب فقال :( الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه ، ومستوجبه على خلقه ،احمده واستعينه وأومن به وأتوكل عليه ، واشهد أن لا اله إلا لله وحده لا شريك له ، واشهد إن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أوصيكم عباد الله بتقوى الله وحده والعمل لما عنده ، والتنجز لوعده والخوف لوعيده ، فإنه لا يسلم إلا من اتقاه ورجاه وعمل له وأرضاه، فاتقوا الله عباد الله ، وبادروا آجالكم بإعمالكم ، وابتاعوا ما يبقي بما يزول عنكم ، وترحلوا فقد جد بكم ، واستعدوا للموت فقد أظلكم ، وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا وعلموا إن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا ، فإن الله لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى ، وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت إن ينزل به ، وان غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة الواحدة لجديرة بقصر المدة ، وان غائبا يحدوه الجديدان الليل والنهار لحري بسرعة الأوبة ، وان قادما يحل بالفوز أو بالشقوة لمستحق لأفضل العدة ، فاتقى عبد ربه ونصح نفسه ، وقدم توبته ، وغلب شهوته ، فإن اجله مستور عنه وأمله خادع له والشيطان موكل به يزين له المعصية ليركبها ويمنيه التوبة ليسوفها حتى تهجم عليه منيته اغفل ما يكون عنها ، فيالها حسرة على ذي غفلة إن يكون عمره عليه حجة أو تؤديه أيامه إلى شقوة .
نسأل الله إن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة ، ولا تقصر به عن طاعته غفلة ، ولا تحل به بعد الموت فزعة ، انه سميع الدعاء بيده الخير ، إنه فعال لما يريد
تحليل الخطبة :
يلاحظ إن التشابه كبير في خطب الخلفاء العباسيين :
أولا : حمد اله والثناء عليه والتشهد وهذا من أركان الخطبة .
ثانيا : الوصية بالتقوى والعمل لما عند الله ابتغاء مرضاته للفوز بجنته والنجاة من ناره .
ثالثا :العظة بحدث الموت لأنه قضاء مبرم على الخلائق والاستعداد لما بعده .
رابعا :التحذير من الركون إلى الدنيا وزينتها لان فتنتها كبيرة ومهلكة وإنها ليست دار إقامة ، والله سبحانه لم يخلق الخلق عبثا ولم يتركم سدى .
خامسا :الترغيب بالجنة والعمل لها ليكون من أهلها ، والترهيب من الغفلة عن العمل للآخرة .
سدسا : التحذير من خداع الشيطان وحيله فهو عدو لبني ادم يزين لهم المعاصي ليركبوها ويمنيهم بالتوبة ليؤجلها لكن الموت يباغتهم وحينئذ لا ينفع الندم وتكون أيام العمر حجة على الغافلين فيا لها من حسرة تغم صاحبها وتدفعه إلى دار الشفاء .
سابعا :ختم الخطبة بالدعاء له وللمسلمين وسال الله تعالى إلا تبطره النعم ولا تقصر به عن طاعة الله تعالى .
ج-الخطابة الدينية في العصر العباسي الثاني
إذا كانت الخطابة الدينية ضعفت على السنة الخلفاء ، فإنها نشطت في المساجد ، حيث كانت تعقد حلقات للوعاظ والقصاص ، وكان الناس يتحلقون من حولهم ، وكان منهم الرسميون الذين تعينهم الدولة للخطابة في أيام الجمع ، ومنهم غير الرسميين وهم الجمهور الأكبر ، وكانوا يستمدون وعظهم وخطبهم من القران الكريم والحديث النبوي الشريف وقصص الأنبياء والمرسلين ، ومنهم من كان يقرا القران الكريم ويفسره وكثير منهم يذهب من الجيوش المجاهدة للوعظ في الحرب وبث روح الحماسة الدينية في نفوس المجاهدين ، من مثل أبي العباس الطبري الذي كان يذهب إلى الجهاد ، ويتولى أمر الوعظ والإرشاد للجند
وكثيرا ما كانت الخطب والمواعظ تنشط في رمضان ، فلا يخلو يوم من أيام رمضان ولا وقت من أوقات الصلاة فيه إلا وكان واعظ يقوم بعد الصلاة فيقف في الناس واعظا وخطيبا ، وكان الخطيب هو الذي يقوم بالخطابة والموعظة وإقامة الصلاة في الجمع والأعياد ، وكان كثير منهم فصحاء بلغاء يستحوذون على إعجاب الجماهير فيحتشدون حولهم مكبرين لهم إكبارا عظيما ، وكانت المساجد دائما مفتوحة ليلا نهرا تغص بالمصلين وحلقات التدريس تستقطب روادها من طلبة العلم.
ومن الجدير بالذكر إن الخطابة في هذا العصر كانت تمر بأطوار متفاوته ما بين خمود وازدهار .
فقد كانت مزدهرة في الطور الأول من العصر العباسي الثاني ، لكنها غدت في الطور الثاني الذي استبد فيه الأتراك بالخلفاء وهان شأنهم وفقد كل سلطان لديهم وقطعت الصلة بينهم وبين الناس . فلم يعد لهم أي أثر في الحياة ، وحجبوا عن شعبهم وماتت أسباب الفصاحة والقول والخطابة في المناسبات المختلفة ، وبلغ تحكم الأتراك بالخلفاء إلى درجة منعهم من الخروج إلى الصلوات الجامعة ، وأوكلوا مهمة الخطابة إلى غيرهم من العلماء وكان آخر خليفة خطب على منبر هو ((الراضي بالله)) المتوفى 329هـ ، وازداد الأمر سوءا ومعه الخطابة الدينية تراجعا في عهد البويهيين 324هـ ، وعهد السلجوقيين 447هـ حيث آخر الألسن وفقدت الخطابة أهم مقوماتها وهو حرية القول التي بها تحيا ، وبما إن البويهيين والسلاجقة أعاجم لم يتذوقوا جمال اللغة العربية ولم يفهموا حقيقة الدين من خلال كتاب الله الذي انزل بلسان عربي مبين ، لذلك لم يولوا اهتماما باللغة العربية ، فتوارت الفصاحة وتوارى البيان رويدا رويدا وعجزت الألسنة عن المشافهة والارتجال في الخطابة الدينية ، فضعف شانها وهانت مكانتها لفقدان تأثيرها في النفوس ، وهان لامعها شان الخطيب وازدادت هوانا إذ صار الخطيب يلجا إلى الكلام أعده غيره ومن إعداده أحيانا ويلقي خطبته من أوراق مكتوبة ، واعتمد الخطيب في خطب الجمعة والعيدين على السجع المتكلف والإغراق في المبالغة ، فصارت فارغة من الروعة والتأثير ،لكن الأمر لم يستمر على هذا الحال ، فقد تبدلت الظروف السياسية والأحوال العامة حيث تعرض العالم الإسلامي إلى عدوان الحروب الصليبية فشنوا حملاتهم المتوالية على بلاد الشام ومصر وشطرا من العراق .
د-خصائص الخطابة في هذه المرحلة :
تميزت الخطابة في هذا العهد :
1-الاقتباس من القرآن الكريم:لتأكيد ما يذهب إليه الخطباء من حمل النفوس على الجهاد والصبر على ملاقاة الأعداء وما أعده الله لهم من الجنة وعظيم المنزلة ، 2-الاستشهاد بالشعر:كما فعل ((ابن نجا)) فقد كان ينشد على المنبر ما يصلح للاستشهاد به من شعره كقوله :
وكيف بقاء عمرك وهو كنز وقد أنفقت منه بلا حساب
وكما في خطب ((سبط ابن الجوزي )) المتوفى سنة 654 هـ ، وقد طلب إليه في يوم عاشوراء أن يتحدث عن مقتل الحسين بن علي t ، فصعد المنبر وطال صمته ثم بكى بكاء شديدا، ثم أنشأ يقول في غمرة البكاء :
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه والصور في نشر الخلائق ينفخ
لابد أن ترد القيامة فاطمه وقميصها بدم الحسين ملطخ
3- الإصرار على السجع والتهافت على المحسنات البديعية:
4-تحبير الألفاظ :
5-واختيار الأساليب
ه-أشهر الخطباء في هذا العصر :
1-الخليفة المهدي
2-هارون الرشيد
3-المأمون






2ً- الموعظة التقوية:
رداً على ظهور تيار المجون والفسق في العصر العباسي، ازدهر في المساجد فن الوعظ وتبنّاه مجموعة من الوعاظ و السناك والزهاد والفقهاء والمتحدثين والمتكلمين ، وكان هؤلاء الوعاظ يجلسون في مجالس الخلفاء يذكرونهم بمخافة الله وعدم ظلم الرعية، وعدم افتراق المعاصي. كما كانوا يحدثون عامة الناس بدروس الإرشاد ، ومن زعماء الوعاظ:
(عمرو بن عبيد المعتزلي – صالح بن عبد الجليل واعظ المهدي- ابن السمّاك واعظ الرشيد .
وقد كان ابن عبد الجليل يطيل في وعظ المهدي حتى يبكيه ومن ذلك قوله:
((... كان أصحاب رسول الله يقولون: من حجب الله عنه العلم عذّبه على الجهل، وأشدُّ منه عذاباً من أقبل إليه العلم فأدبر عنه. فاقبل ما أهدى إليك الله من ألسنتنا)).
ويقول ابن السحّاك واعظاً الرشيد :
("يا أمير المؤمنين ، اتق الله وحده.....واعلم أنك واقف غدا مبين يدي الله ، مصروف إلى إحدى المنزلتين)".





3ً- القصص :
اعتمد الوعاظ في محاولاتهم الوعظية على ركائز أسهمت في ايصال الوعظ إلى المتلقين ، وذلك باستخدام أشياء متعددة تحمل في طياتها العبرة للمتعظين كالقصص الديني ، والقصص الواقعي المستمد ممن تجارب المعاصرين للوعاظ أو تجارب العصور السابقة لهم ، وقد كثر هؤلاء القصاص ، وعقد لهم الجاحظ فصلا في كتابه :"البيان والتبين".
ومن هؤلاء القصاص : موسى بن سيار الإسواري ، وكان يقص باللغتين العربية والفارسية ، وصالح المريّ الذي يقول في إحدى مواعظه معزيا عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة في موت ابنه:
".....إن كانت مصيبتك في ابنك أحدثت لك عظة في نفسك فنعم المصيبة مصيبتك ،وإن لم تكن أحدثت لك عظة في نفسك ، فمصيبتك في نفسك أعظم من مصيبتك في ابنك".
وقد ارتقى هؤلاء الوعاظ بصناعة النثر وطوروها من حيث المعاني وأضافوا لها معاني جديدة معتمدين لتحسين أساليبهم على :
-الدقة في اختيار اللفظ.
-الاحساس المرهف بجمال السبك و الصياغة.






4ً- المناظرات :
وهي المحاججات التي وقعت بين أصحاب الكلام والعلم والفلسفة والدين ، ولقد أسهمت هذه المناظرات التي كانت تعقد بين العلماء والمحدثين والفقهاء والفلاسفة في إغناء وتطور الثقافة الإسلامية تطوراً كبيراً من حيث الطريقة والأسلوب ومن حيث المعنى والفهم.
وتعد فرقة المعتزلة من الفرق التي أسهمت في تنشيط هذه الحركة الثقافية وعلى رأس هؤلاء المعتزلة "واصل بن عطاء – عمرو بن عبيد".
ونهض النثر العباسي من خلالهما نهضة رائعة حتى إنّ المتكلم كما يقول الجاحظ لا يعد جامعاً لأقطاب الكلام إن لم يحسن كلام الدين والفلسفة والعلوم الأخرى.وقد عقدت هذه المناظرات في العصر العباسي رداً على الملحدين والزنادقة من جهة ، وتفنيداً لدور العقل في الدين وإرساء لمبدأ أحقية الخلافة ، وكانت هناك نظريات كلامية في الروح والنفس والحواس والجسم والخير والشر والاستطاعة ، والقدر ثم انتقلت هذه المناظرات بل الجانب الديني إلى الجانب النحوي كما حدث بين الكسائي الكوفي وبين البصري .
وقد شجع الخلفاء أصحاب العلم في المناظرات فكانوا يعقدون لهم المجالس ، كما صنع البرامكة وعلى رأسهم يحيى بن خالد البرامكي ، وكما صنع المأمون ، وكما حصل في عصر المعتصم من جدال حول مسألة خلق القرآن .
وقد تحدث المسعودي عن هذه المناظرات وذكر من أصحابها:أبا هذيل العلاف – أبا اسحق ابراهيم بن سيّار النظام.
وكانت الخلافة تجري عليهم الرواتب الشهرية ، وكانت معظم المناظرات تدور بين المعتزلة ومن يعتنقون التشيع الغالي وأرباب الملك السماوية ، والنحل غير السماوية من الدهرية والمنانوية.
يقول أبو هذيل العلاف في مناظرته لأحد اليهود:
"أسألك أم تسألني ؟ فقال له اليهودي : بل أسألك فقال اليهودي : أتعترف بأن موسى نبيٌ صادق أم تنكر ذلك ، فقال له أبو هذيل : إن كان موسى الذي تسألني عنه هو الذي بشر بنبيي عليه السلام ، وشهد بنبوته وصدقه فهو بني صادق ، وإن كان غير من وصفت فذلك شيطان لاأعترف بنبوته".
وقد عقد أهل المناظرات مناظرة بين الكلب والديك فذكروا مساوئ الديك ومحاسنه ، ومحاسن (منافع) الكلب ومساوئه.





5- الرسائل :
أحد فنون النثر التي انتشرت في العصر العباسي
وهي نوعان :
أ-الرسائل الديوانية :
وتعد هذه الرسائل من أهم ما كتب في العصر العباسي لأنها مرتبطة بسياسة الخليفة وما يحتاجه من مراسلات مع الولاة والقادة ، ويشترط فيمن يكون قيما أن تكون لديه خبرة واسعة في الكلمة وفي فهم التاريخ والدين والواقع ، إذ إن من كان يستوزر برئيس للديوان كان يحظى بمنزلة رفيعة ، ومن هنا كان معظم الوزراء من المقتدرين علمياً وثقافياً وأدبياً ولغوياً ،
موضوعاتها:
وقد تناولت
الرسائل الديوانية النقاط التالية:
1- أعمال الدولة .
2- البيعة للخلفاء .
3-الفتوح والجهاد.
4- تولية الولاة .
5- تعين ولاة العهود .
6- مواسم الحج والأعياد.
7- أمور الرعية المنقولة إلى الخلفاء.
وأبرز من كتبوا في هذا الفن :
عمارة بن حمزة – اسماعيل بن صبيح – محمد بن الليث.
وقد بلغت الرسالة الديوانية في عصر المأمون الذروة مركزة على :
-العناية بالجمال الفني .
-التدقيق في المعاني بشكل كبير .
يقول اسماعيل بن صبيح في رسالة باسم الخليفة الرشيد إلى الولاة بما الأمين والمأمون من العهد بعده وتعليق هذا العهد في بيت الله الحرام :
"وقد كان من نعمة الله عز وجل عند أمير المؤمنين وعندك وعند عوامِّ المسلمين ما تولى الله من محمد وعبد الله ابنيّ أمير المؤمنين من تبليغه بهما أحسن ما أملت الأمة ومدت إليه أعناقها،
وقذف الله لهما في قلوب العامة من المحبة لقوام أمورهم ، وصلاح دهمائهم حتى ألقوا إليهما أزمتهم وأعطوهما بيعتهم بالعهود و وكيد الأيمان المغلظة عليهم أراد الله فلم يكن له مردٌّ ، وأقضاه فلم يقدر أحد من العباد على نقضه ولا إزالته ".
ب-الرسائل الإخوانية :
وهي الرسائل التي تصور عواطف الأفراد ، وما يفعل في نفوسهم من رغبة ورهبة ومديح وهجاء وعتاب واعتذار كما في رسائل ابن المقفع " الأدب الكبير والأدب الصغير" . وما جاء بهما من تصوير للأخوة والصداقة ، كما في مناسبات الزواج والظفر على الأعداء وغير ذلك من الأمور ، وقد تميزت هذه الرسائل بدقة التصوير للمعاني والتعبير عنها بأساليب جديدة.
يقول ابراهيم بن الهدي في رسالة يهنئ فيها المعتصم في انتصار في عمورية:
"الحمد لله الذي تم لأمير المؤمنين غزوته ، فأذل بها رقاب المشركين وشفى بها صدور قوم مؤمنين ، ثم سهل الله له الأوبة سالماً غانماً ".
ويضاف إلى هذه الأنواع :
ج- الرسائل الأدبية:
وهي فرع نما دوحة الرسائل الإخوانية ، يتناول النفس الإنسانية ، ويصور أهوائها وأخلاقها، ويوضح طريقها كي لا تسقط هذه النفس في مهاوي الشر .
وقد برز من كتّاب هذا النوع : يحيى بن زياد – غسان بن عبد الحميد.
يقول يحيى بن زياد راداً على رسالةٍ لابن المقفع في انعقاده الأخوة:
"فنسبنا الإخاء فوجدناه في نسبته لا يستحق اسم الإخاء إلا بالوفاء ، فلما انتقلنا عنا إلى الوفاء فنسبناه انتسب لنا إلى البر ، فوجدناه محتوياً على الكرم والنجدة والصدق والحياء والنجابة ".



نماذج من الرسائل في العص العباسي :
1-كتب أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429 هـ :
خبر عز على مستمعه , وأثر في قلبي موقعه . خبر تستاء له المسامع وترتج منه الاضالع , خبر يهد الرواسي ويفلق الحجر . كادت القلوب تطير والعقول تطيش والنفوس تطيح . خبر يشيب الوليد . ويذيب الحديد , قد كاد من الحزن أن تنقبض الألسن عن هذا النعي الفادح , وتخرس , وتقصر الأيدي عن التعزية بهذا الرزء الفادح وتيبس .
2-كتب ابن الرومي المتوفي سنة 284 هـ إلى بعضهم : أذن الله في شفائك وتلقة داءك بدوائك , ومسح بيد العافية عليك , ووجه وفد السلامة إليك وجعل علتك ماحية لذنوبك مضاعفة لثوابك .
3-وكتب أبو بكر الخوارزمي المتوفي سنة 383 هـ :
وصل كتابك يا سيدي فسرني نظري إليه ثم غمني اطلاعي عليه , لما تضمنه من ذكر علتك , جعل الله أولها كفارة وآخرها عافية , ولا أعدمك على الأولى أجرا ً وعلى الأخرى شكرا ً .
وبودي لو قرب على متناول عيادتك , فاحتملت عنك بالتعهد والمساعدة بعض أعباء علتك فلقد خصني من هذه العلة قسم كقسمك , ومرض قلبي فيك لمرض جسمك , وأظن إني لو لقيتك عليلا ً لانصرفت عنك , وأنا اعل منك فاني بحمد الله جلد على أوجاع أعضائي غير جلد على أوجاع أصدقائي – شفاك الله وعافاك .
4-كتب في التهنئة بميلاد الأولاد أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429 هـ :
أهلا ً وسهلا ً بعقيلة النساء وأم الأبناء وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار
ولو كان النساء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ٌ ولا التذكير فخر ٌ للهلال
والله يعرفك البركة في مطلعها والسعادة بموقعها فالدنيا مؤنثة والناس يخدمونها والذكور يعبدونها , والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية وفيها كثرت الذرية والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحليت بالنجوم الثواقب . والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام ولا تحرك الأنام , والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون وفيها تنعم المرسلون فهنيئا ً ما أوليت وأوزعك الله شكر ما أعطيت , وأطال بقاءك ما عرف النسل وبقي الأبد .
5-وكتب بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398 هـ إلى الداوردي يهنئه بمولود :
حقا ً لقد أنجز الإقبال وعده ووافق الطالع سعده وإن الشأن لفيما بعده وحبذا الأصل وفرعه وبورك الغيث وصوبه وأينع الروض ونوره وحبذا سماء اطلعت فرقدا ً , وغابة أبرزت أسدا ً وظهر وافق سندا ً وذكر يبقى أبدا ً ومجد يسمى ولدا , وشرف ٌ لحمة وسدى .
أنجب كل من والديه به إذا نجلاه فنعم ما نجلا
فألفياه شهاب ذكاء وبدر علاء .
ووجداه ابن جلا ابيض يدعى الجفلى
لمثله أولى فلا إذا الندى احتفلا
6-وكتب في التهنئة بالقدوم أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429 هـ : أهنئ سيدي ونفسي تطيب بما يسر الله من قدومه سالما واشكر الله على ذلك شكرا دائما ً جعل الله قدومك مقرونا بالخيرة التامة العامة . والكفاية الشاملة الكاملة .
غيبة المكارم مقرونة بغيبتك وأوبة النعم موصولة بأوبتك فوصل الله قدومك من الكرامة , بإضعاف ما قرن به مسيرك من السلامة وهناك بإيابك وبلغك غاية محابك , ما زلت بالنية معك مسافرا ً وباتصال الذكر والفكر ملاقيا ً إلى أن جمع شمل سروري بأوبتك وسكن نافر قلبي بعودتك .
7-وكتب أيضا في التهنئة برمضان :
ساق الله إليك سعادة إهلاله وعرفك بركة كماله لقاك فيه ما ترجوه ورقاك إلى ما تحب في تتلوه , جعل الله ما يطول من هذا الصوم مقرونا ً بأفضل القبول مؤذنا ً بدرك الغيبة ونجح المأمول , ولا أخلاك من بر مرفوع ودعاء مسموع , قابل الله بالقبول صيامك وبعظيم المثوبة تهجدك وقيامك أعاد الله إلى مولاي أمثاله وتقبل فيه أعماله , واصح في الدين والدنيا أحواله , وبلغه منها آماله . اسعد الله مولاي بهذا الشهر ووفاه فيه أجزل المثوبة والأجر .
8-وكتب أبو الفرج الببغاء المتوفي سنة 398 هـ تهنئة :
سيدي – أيده الله – ارفع قدرا وأنبه ذكرا وأعظم تبلا ً وأشهر فضلا من أن نهنئه بولاية وإن جل خطرها وعظم قدرها لأن الواجب تهنئة الأعمال بفائض عدله والرعية بمحمود فعله والأقاليم بآثار رياسته والولايات بسمات سياسته فعرفه الله يمن ما تولاه ورعاه في سائر ما استرعاه , ولا أخلاه من التوفيق فيما يعانيه والتسديد فيما يبرمه ويمضيه .
9-كتبالأمير أبو الفضل الميكالي المتوفي سنة 436 هـ :
إنما أشكو إليك زمانا سلب ضعف ما وهب وفجع بأكثر مما متع وأوحش فوق ما انس وعنف في نزع ما البس , فانه لم يذقنا حلاوة الاجتماع حتى جرعنا مرارة الفراق , ولم يمتعنا بأنس الالتقاء حتى غادرنا رهن التلف والاشتياق .
( والحمد لله تعالى على كل حال ) يسوء ويسر ويحلو ويمر , ولا أيأس من روح الله في إباحة صنع يجعل ربعه مناخى ويقصر مدة البعاد والتراخي , فألاحظ الزمان بعين راض ويقبل إلى حظي بعد إعراض واستأنف بعزته عيشا عذب الموارد والمناهل , مأمون الآفات والغوائل .
10-كتب بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 397 هـ :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني إني خطرت ببالك
الأمير أطال الله بقاءه في حالي بره وجفائه متفضل , وفي يومي إدنائه وإبعاده متطول وهنيئا ً له من حمانا ما يحله ومن عرانا ما يحله ومن أعراضنا ما يستحله .
بلغني انه – أدام الله عزه – استزاد صنيعه فكنت أظنني مجنيا ً عليه مساء إليه , فإذا أنا في قرارة الذنب ومثارة العتب وليت شعري أي محظور في العشرة حضرته أو مفروض من الخدمة رفضاه أو واجب في الزيارة أهملته وهل كنت إلا ضيفا ً أهداه منزع ٌ شاسع وأداه أمل واسع وحداه فضل وإن قل , وهداه رأي وإن ضل , ثم لم يلق إلا في آل مكال رحله ولم يصل إلا بهم حبله , ولم ينظم إلا فيهم شعره , ولم يقف إلا عليهم شكره .
ثم ما بعدت صحبة إلا دنت مهانة ولا زادت حرمة إلا نقصت صيانة ولا تضاعفت منة ٌ إلا تراجعت منزلة ولم تزل الصفة بنا حتى صار وابل الإعظام قطره وعاد قميص القيام صدره ودخلت مجلسه وحوله من الأعداء كتيبة فصار ذلك التقريب ازورارا ً وذلك السلام اختصارا والاهتزاز إيماء والعبارة إشارة وحين عاتبته أمل أعتابه وكاتبته انتظر جوابه وسألته ارجوا يجابه , أجاب بالسكوت فما ازددت له إلا ولاء وعليه ثناء ولا جرم إني اليوم ابيض وجه العهد واضح حجة الود طويل لسان القول , رفيع حكم العذر , وقد حملت فلانا من الرسالة ما تجافى القلم عنه .
والأمير الرئيس – أطال الله بقاءه – ينعم بالإصغاء لما يورده موفقا ً إن شاء الله تعالى .
11-وكتب أيضا إلى القاسم الكرجي المتوفي سنة 400 هـ :
أنا – وإن لم الق تطاول الإخوان إلا بالتطول , وتحامل الأحرار إلا بالتحمل – أحاسب مولاي – أيده الله – على أخلاقه ضنا ً بما عقدت يدي عليه من الظن به , والتقدير في مذهبه , ولولا ذلك لقلت في الأرض مجال ٌ إن ضاقت ظلالك وفي الناس واصل إن رثت حبالك وأخذه بأفعاله .
فإن أعارني أذنا واعية ونفسا ً مراعية وقلبا متعظا ً ورجوعا ً عن ذهابه ونزوعا ً عن هذا الباب الذي يقرعه ونزولا عن الصعود الذي يفرعه فرشت لمودته خوان صدري وعقدت عليه جوامع خصري ومجامع عمري وإن ركب من التعالي غير مركبه وذهب من التغالي في غير مذهبه أقطعته خطة أخلاقه ووليته جانب إعراضه .
لا أذود الطير عن شجر قد بلوت المر من ثمره
فاني وأن كنت في مقتبل السن والعمر , قد حلبت شطري الدهر وركبت ظهري البر والبحر ولقيت وفدي الخير والشر وصافحت يدي النفع والضر وضربت إبطي العسر واليسر , وبلوت طعمي الحلو والمر ورضعت ضرعي العرف والنكر فما تكاد الأيام تريني من أفعالها غريبا ً وتسمعني من أحوالها عجيبا ً ولقيت الأفراد وطرحت الآحاد فما رأيت أحدا ً إلا ملأت حافتي سمعه وبصره , وشغلت حيزي فكره ونظره وأثقلت كتفه في الحزن وكفته في الوزن ووددت لو بادر القرن صحيفتي , أو لقي صفحتي فمالي هذا الصغر في عينه ومال الذي أزرى بي عنده حتى احتجب وقد قصدته ولزم أرضه وقد حضرته .
وأنا احاشيه أن يجهل قدر الفضل , أو يجحد فضل العلم أو يمتطي ظهر التيه على أهليه واسأله أن يخصني من بينهم بفضل إعظام إن زلت بي مرة قدم في قصده وكأني وقد غضب لهذه المخاطبة المجحفة والرتبة المتحيفة وهو في جنب جفائه يسير فإن اقلع عن عادته وترع عن شيمته في الجفاء فأطال الله بقاء الأستاذ الفاضل وأدام عزه وتأييده .
12-وكتب أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفي بالبصرة عام 255 هـ :
والله يا قليب : لولا أن كبدي في هواك مقروحة وروحي مجروحة لساجلتك هذه القطيعة ومادتك حبل المصارمة وأرجو أن الله تعالى يديل لصبري من جفائك , فيردك إلى مودتي وانف القلي راغم .
فقد طال العهد بالاجتماع حتى كدنا نتناكر عند اللقاء والسلام .
13-وكتب أبو بكر الخوارزمي المتوفي سنة 383 إلى تلميذه : كتابي وقد خرجت من البلاء خروج السيف من الجلاء وبروز البدر من الظلماء وقد فارقتني المحنة , وهي مفارق لا يشتاق إليه , وودعتني وهي كودع لا يبكي عليه , والحمد لله تعالى على محنة يجليها , ونعمة ينيلها ويوليها كنت أتوقع أمس كتاب مولاي بالتسلية واليوم بالتهنية , فلم يكاتبني في أيام البرحاء بأنها عمته ولا في أيام الرخاء بأنها سرته ! وقد اعتذرت عنه إلى نفسي وجادلت عنه قلبي . فقلت : أما إخلاله بالأولى , فلأنه شغله الاهتمام بها عن الكلام فيها . وأما تغافله عن الأخرى فلأنه أحب أن يوفر على مرتبة السابق إلى الابتداء , بنفسه على محل الاقتداء لتكون نعم الله سبحانه على موفورة من كل جهة ومحفوفة بي من كل رتبة , فإن كنت أحسنت الاعتذار عن سيدي فليعرف لي حق الإحسان وليكتب إلي بالاستحان , وإن كنت أسأت فليخبرني بعذره اعرف مني بسره وليرض مني بأن حاربت عنه قلبي , واعتذرت عن ذنبه , حتى كأنه ذنبي وقلت يا نفس اعذري أخاك وكفاك منه ما أعطاك , فمع اليوم غذ – والعود احمد .
14-كتب بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398 هـ :
اسمع نصيحة ناصح جمع النصيحة والمقه
إياك واحذر أن تكون من الثقات على ثقة
صدق الشاعر وأجاد وللثقات خيانة في بعض الأوقات : هذه العين تريك السراب شرابا ً وهذه الأذن تسمعك الخطأ صوابا ً بمعذور إن وثقت بمحذور , وهذه حالة الواثق بعينه السامع بإذنه .
وارى فلانا يكثر غشيانك وهو الدنيء دخلته الرديء جملته السيئ وصلته الخبيث كلمته , وقد قاسمته في رزك وجعلته موضع سرك فأرى موضع غلطك فيه , حتى اريك موضع تلافيه : أفظاهره غرك ؟ امباطنه سرك ؟ ؟ .
يا مولاي يوردك ثم لا يصدرك ويوقعك ثم لا يعذرك فاجتنبه ولا تقربه وإن حضر بابك فاكنس جنابك وإن مس ثوبك فاغسل ثيابك وإن لصق بجلدك فاسلخ أهابك , ثم افتتح الصلاة لعنه وإذا استعذت بالله من الشيطان فاعنه .
15-وكتب أبو إسحاق الصابئ إلى بعض الرؤساء :
قد جرت العادة – أطال الله بقاء الأمير – بالتمهيد للحاجة قبل موردها وإسلاف الظنون الداعية إلى نجاحها . وسالك هذه السبيل يسيء الظن بالمسئول فهو لا يلتمس فضله إلا جزاء , ولا يستدعي طوله إلا قضاء , والأمير بكرمه الغريب ومذهبه البديع يؤثر أن يكون السلف له والابتداء منه , ويوجب على المهاجم برغبته إليه حق الثقة به . فالحمد لله الذي افرد بالطرائق الشريفة , ووحده بالخلال المنيفة وجعله عين زمانه البصيرة ولمعته الباقية المنيرة .
16-وكتب محمد بن عياد إلى جعفر بن محمد وزير المعتز وكان يتقرب إليه :
مازلت – أيدك الله تعالى – أذم الدهر بذمك إياه , وانتظر لنفسي ولك عقباه , وأتمنى زوال من لا ذنب له , إلى عاقبة محمودة تكون بزوال حاله , واترك الأعذار في الطلب على الاختلال الشديد ضنا ً بالمعروف عندي إلا عن أهله وحبا ً لرجائي إلا عن مستحقه .
17-ومن أرق الاستماحة ما كتبه عبيد الله بن طاهر إلى سليمان بن وهب :
أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا واشغفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له : نعماك فيها أتمها ودع أمرنا إن المهم المقدم
فأعجب سليمان بلطف طلبه في تهنئته وقضى حوائجه .
وقال أعرابي لرجل : ما اتهمت حسن ظني بك , منذ توجه رجائي نحوك ولا قعدت بجد قائل باعتمادي عليك , ولا استدعتني رغبة عنك إلى من سواك ولا أراني الاختيار غيرك عوضا ً عنك منك .
18-وكتب بديع الزمان الهمذاني في بابه إلى بعض أصحابه :
لك – أعزك الله – عادة فضل في كل فضل ولنا شبه مقت في كل وقت ولعمري أن ذا الحاجة مقيد , الطلعة ثقيل الوطاة ولكن ليسوا سواء .
19-كتب أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429 هـ :
الشكر ترجمان النية ولسان الطوية وشاهد الإخلاص وعنوان الاختصاص عندي من أنعامه وخاص بره وعامه , ما يستغرق منه الشكر , ويستنفد قوة النشر ,شكر الأسير لمن أطلقه والمملوك لمن اعتقه شكر كأنفاس الأحبار أو أنفاس الرياض غب الأمطار .
20-وكتب الحسن بن وهب المتوفي سنة 482 هـ :
من شكرك على درجة رفعك إليها أو ثروة أقدرته عليها فإن شكري لك على مهجة أحييتها , وحشاشة أبقيتها ورمق أمسكت به وقمت بين التلف وبينه فلكل نعمة من نعم الدنيا حد ينتهي إليه , ومدى تقف عنده , وغاية من الشكر لا يسمو إليها الطرف , خلا هذه النعمة التي فاقت الوصف وأطالب الشكر وتجاوزت قدره وأنت من وراء كل غاية رددت عنا كيد العدو وأرغمت انف الحسود , فنحن نلجأ منك إلى ظل ظليل وكنف كريم فكيف يشكر الشاكر ؟ وأين يبلغ المجتهد ؟ .
21-وكتب الأمير أبو الفضل الميكالي المتوفي سنة 436 هـ :
فأما الشكر الذي أعارني رداءه وقلدني طوقه وسناءه فهيهات أن ينتسب إلا إلى عادات فضله وأفضاله . أو يسير إلا تحت رايات عرفه ونواله , وهو ثوب لا يحلى إلا بذكر طرازه واسم حقيقته , ولسواه مجازه , ولو انه ( حين ملك رقي بأياديه واعجز وسعي عن حقوق مكارمه ومساعيه ) خلى لي مذهب الشكر وميدانه ولو يجاذبني زمامه وعنانه – لتعلقت في بلوغ بعض الواجب بعروة طمع , ونهضت فيه ولم على وهن وظلع ولكنه يأبى إلا أن يستولي على أمد الفضائل , ويتسم ذرى الغوارب منها والكواهل , فلا يدع في المجد غاية إلا سبق إليها فارضا ً وتخلف سواه عنها حسيرا ً ساقطا ً لتكون المعالي بأسرها مجموعة في ملكه منظومة في سلكه خالصة له من دعوى القسم وشركه .
ولما ولى الخليفة المهدي سليمان بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوي حرمته فقال : - اعز الله الوزير – أنا خادمك المؤمل لدولتك السعيد بأيامك المنطوي القلب على ودك المنشور اللسان بمدحك المرتهن بشكر نعمتك , وقد قال الشاعر :
وفيت كل صديق ودني ثمنا ً إلا مؤمل دولاتي وأيامي
فأنني ضامن أن لا أكافئه إلا بتسويغه فضلي وأنعامي
وإني لكما قال القيسي : ما زلت امتطي النهار إليك واستدل بفضلك عليك حتى إذا اجتن الليل فغض البصر ’ ومحا الأثر قام الرجاء يدني سائر أملي والنفس راغبة والاجتهاد عاذر وإذ قد بلغتك فقدني , فقال سليمان : لا عليك فاني عارف بوسيلتك محتاج إلى اصطناعك وكفايتك , ولست أؤخر عن يومي هذا توليتك ما يحسن عليك أثره , ويطيب لك خبره .
22-تلطف رجل من أهل الشام في استمناح المنصور
قدم رجل من أهل الشام على أبي جعفر المنصور فتكلم معه كلاما حسنا ً فقال له أبو جعفر : حاجتك ؟ فقال : يمليك الله يا أمير المؤمنين . قال : حاجتك فانه ليس كل ساعة يمكنك هذا ولا تؤمر به . فقال : والله ما استقصر عمرك ولا أخاف بخلك ولا اغتنم مالك وإن سؤالك لشرف وإن عطاءك لزين وما بامرئ بذل وجهه إليك نقص ولا شين . فأمر له المنصور بمنحة سنية .
وقد الم الرجل في أكثر معانيه بقول أمية بن أبي الصلت يستمنح عبد الله ابن جدعان القرشي :
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ببذل وما كل العطاء يزين
وليس بشين لامرئ بذل وجهه إليك كما بعض السؤال يشين
استمناح العتابي لأحد أصدقائه
23-كتب كلثوم بن عمرو العتابي إلى صديق له :
أما بعد – أطال الله بقاءك وجعله يمتد بك إلى رضوانه والجنة – فانك كنت عندنا روضة من رياض الكرم , تبتهج النفوس بها , وتستريح القلوب إليها , وكنا نعفيها من النعجة استنماما ً لزهرتها , وشفقة على خضرتها وادخارا ً لثمرتها , حتى أصابتنا سنة كانت عندي قطعة من سني يوسف , واشتد علينا كلبها , وغابت قطتها وكذبتنا غيومها واخلفتنا بروقها , وفقدنا صالح الإخوان فيها فانتجعتك وأنا بانتجاعي إياك شديد الشفقة عليك , مع علمي بأنك موضع الرائد , وانك تغطي عين الحاسد والله يعلم إني ما أعدك إلا في حومة الأهل , واعلم أن الكريم إذا استحيا من إعطاء القليل ولم يمكنه الكثير لم يعرف جوده ولم تظهر همته . وأنا أقول في ذلك :
إذا تكرمت عن بذل القليل ولم تقدر على سعة لم يظهر الجود
بث النوال ولا تمنعك قلته فكل ما سد فقرا ً فهو محمود
قيل : فشاطره جميع ماله .
24-كتب عبد الله بن سليمان أبو العيناء المتوفي سنة 282 هـ :
أنا – أعزك الله – وعيالي زرع من زرعك إن أسقيته راع وزكا وإن جفونه ذبل وذوى , وقد مسني منك جفاء بعد بر , وإغفال بعد تعاهد , حتى تكلم عدو , وشمت حاسد , ولعبت بي ظنون رجال كنت بهم لاعبا ً ولهم مخرسا ً .
لا تهني بعد أن أكرمتني وشديد عادة منتزعة
وكتب المرحوم عبد الخالق باشا ثروت :
إليك ( يا من قد استأثر النفوس واسترق الأحرار بجميل صنعه وأولى النعم والخيرات وأسدى المعروف والمبرات ) ارفع كتابا تبعثه إلى ناديك العالي عوامل الحاجة , وتزجيه إلى ساحتك من دواعي الشدة , أمل أن يكون تذكرة بأمري ( والذكرى تنفع المؤمنين ) وتذكرة بحالي ( والله لا يضيع اجر المحسنين ) فقد كان سيدي رفع الله قدره , وأعلى مرتبته , وعدني ( ومثله من يتمسك من الوفاء بالعروة الوثقى , ويقطع حبل الإخلاف بسيف الوفاء , ويطرز خلعه الوعد بوشي العطاء , أن يرسل إلي من خيراته ويوليني من آلائه وحسناته ويضاعف لي من مننه ويزيدني من عطائه ما اشد به أزري على الزمان وأطاول به نوائب الحدثان فقد بارزني الدهر بسيوفه , ورماني بسهامه وأناخ علي بكلاكله , وقد طال الأمد على حاجتي عند سيدي – أطال الله بقاءه – حتى شاب غراب شبابها وصاح بجانب ليلها فخفت أن تكون هبت عليها ريح النسيان وعصفت بها عاصفة الحدثان فكتبت إلى سيدي ومولاي تلك الرقعة استعجل بها بره , واستدر بها ضرع عطائه علما ً بأن التعجيل يكبر العطية , وإن كانت صغير ويكثرها وإن كانت يسيرة فعسى أن يكون قد لاح نجم النجاح وهب نسيم الفلاح فيرسل إلي سيدي سحاب كرمه ويمطرني من غياث فضله فترف غصون آمالي بعد ذبولها وتضحك وجوه مطالبي بعد عبوسها , وأملي في ذلك فسيح , فإن سيدي من أكرم الناس نسبا ً وأشرفهم حسبا ً ومثله جدير بحفظ العهد وانجاز الوعد , فإن رأى سيدي أن يخفف ثقل الحاجة عني , ويرد ما سلبه الدهر مني بقطرة من بحر عطائه ومنة من بعض آلائه ويجبر ما كسره الفقر من جناحي ويرد عني النوائب التي لا تفتأ تتولاني عقدت لساني على مدحه ووقفت نفسي على شكره , فيحرز من الله أجرا جزيلا ً , ومني شكرا ً جميلا ً إن شاء الله بمنه وكرمه .
ابن الرومي يستعطف القاسم بن عبيد الله
25-كتب ابن الرومي يستعطف القاسم بن عبيد الله :
ترفع عن ظلمي إن كنت بريئا ً وتفضل بالعفو أن كنت مسيئا فو الله إني ترفع عن ظلمي عفو ذنب لم اجنه والمس الإقالة مما لا اعرفه , لتزداد تطولا ً وازداد تذللا ً وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واش يكيدها واحرسها بوفائك من باغ يحاول إفسادها واسأل الله أن يجعل حظي منك بقدر ودي بوفائك ومحلي من رجائك بحيث استحق منك والسلام .
26-وكتب إليه القاسم بن عبد الله:
لو كان في الصمت موضع يسع حالي لخففت عن سمع الوزير ونظره ولم اشغل وجها ً من فكره وما زالت الشكوى تعرب عن لسان البلوى . ومن اختلت حالته كان في الصمت هلكته وقد كان الصبر ينصرني على ستر أمري حتى خذلني .
27-استعطاف أم جعفر بن يحيى الرشيد لأجل يحيى زوجها:
كانت أم جعفر بن يحيى أرضعت الرشيد مع جعفر وربته في حجرها وغذته برسلها وكان الرشيد يشاورها مظهرا لإكرامها , والتبرك برأيها وكان آلى وهو في كفالتها إلا يحجبها ولا استشفعته لأحد إلا شفعها وآلت أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونا ً لها ولا شفعت لأحد مقترف ذنبا ً فكم اسيرفكت ومبهم عنده فتحت ومستغلق منه فرجت فلما قتل ابنها جعفرا ً وحبس يحيى زوجها وسائر أهل بيته طلبت الأذن عليه , ومتت بوسائلها إليه فلم يأذن لها ولا أمر بشيء فيها , فلما طال بها خرجت كاشفة وجهها واضعة لثامها محتفية في مشيتها حتى صارت بباب قصر الرشيد فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب , فقال : ظئر أمير المؤمنين بالباب في حالة شماتة الحاسد , إلى شفقة أم الواحد . فقال الرشيد : ويحك يا عبد الملك أو ساعية ؟ قال نعم يا أمير المؤمنين , حافية . قال ادخلها يا عبد الملك فرب كبد غذتها وكربة فرجتها وعورة سترتها فدخلت , فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية قام محتفيا حتى تلقاها بين عمد المجلس واكب على تقبيل رأسها ومواضع ثدييها ثم أجلسها معه فقالت : يا أمير المؤمنين أيعدو علينا الزمان ؟ ويجفونا خوفا لك الأعوان ؟ ويحردك علينا البهتان وقد ربتك في حجري وأخذت برضاعتك الأمان من عدوي ودهري , فقال : وما ذلك يا م الرشيد ؟ فقالت ظئرك يحيى وأبوك بعد أبيك ولا أصفه بأكثر مما عرفه به أمير المؤمنين من نصيحة وإشفاقه عليه وتعرضه للحتف في شأن موسى أخيه فقال لها يا أم الرشيد أمر ٌ سبق وقضاء حم , وغضب من الله نفذ , قالت : يا أمير المؤمنين (( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب )) , قال : صدقت , فهذا مما لم يمحه الله , قالت : الغيب محجوب عن النبيين فكيف عنك يا أمير المؤمنين ؟ فاطرق الرشيد مليا ً ثم قال :
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
فقالت بغير روية : ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين وقد قال الأول:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخرا ً يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول الله عز وجل (( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )) فاطرق مليا ً ثم قال : يا أم الرشيد أقول :
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر تقبل
فقالت : يا أمير المؤمنين وأقول :
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني يمينك فانظر أي كف تبدل
قال هارون : رضيت . قالت : فهبه لي يا أمير المؤمنين فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ترك شيئا لله لم يوجده الله لفقده ) . فاكب هارون مليا ثم رفع رأسه يقول : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) قالت : يا أمير المؤمنين : (( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم )) واذكر يا أمير المؤمنين إليتك : ما استشفعتك إلا شفعتني . قال : واذكري يا أم الرشيد إليتك أن لا شفعت لمقترف ذنبا ً . فلما رأته صرح بمنعها ولاذ عن مطلبها أخرجت حقا ً من زمردة خضراء فوضعته بين يديه فقال الرشيد : ما هذا ؟ ففتحت عنه قفلا ً من ذهب فأخرجت منه خفضه وذوائبه وثناياه قد غمست جميع ذلك بالمسك . فقالت : يا أمير المؤمنين استشفع إليك واستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جسدك وطيب جوارحك ليحيى عبدك , فاخذ هارون ذلك فلثمه ثم استعبر وبكى بكاء شديدا وبكى أهل المجلس . فلما آفاق رمى جميع ذلك في الحق وقال لها : لحسن ما حفظت الوديعة فقالت : وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين . فسكت واقفل الحق ودفعه إليها وقال : (( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )) قالت : والله يقول : (( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )) . ويقول : (( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم )) قال : وما ذلك يا أم الرشيد ؟ قالت : أو ما أقسمت لي أن لا تحجبني ولا تمتهنني ؟ قال : أحب يا أم الرشيد أن تشتريه محكمة فيه . قالت أنصفت يا أمير المؤمنين وقد فعلت غير مستقبلة لك ولا راجعة عنك . قال : بكم ؟ قالت : برضاك عمن لم يسخطك , قال : يا أم الرشيد أمالي عليك من الحق مثل الذي لهم ؟ قالت بلى يا أمير المؤمنين أنت اعز علي , وهم أحب إلي . قال : فتحكمي في تمنية بغيرهم , قالت : كلا . قد وهبتكه وجعلتك في حل منه وقامت عنه وبقي مبهوتا ً ما يحير لفظة .
قال سهل بن هارون : وخرجت فلم تعد , ولا والله ما رأيت لها عبرة ولا سمعت لها أنة .
28-استعطاف إبراهيم ابن المهدي للمأمون .
أمر المأمون بإبراهيم ابن المهدي فادخل عليه فلما وقف بين يديه : قال : هيه يا إبراهيم ! فقال : يا أمير المؤمنين ولي الثار محكم في القصاص ( والعفو اقرب للتقوى ) ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشفاء أمكن عادية الدهر من نفسه وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب دونك فإن أخذت فبحقك , وإن عفوت فبفضلك . ثم قال :
ذنبي إليك عظيم وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أو لا فاصفح بفضلك عنه
إن لم أكن في فعالي من الكرام قكنه
فقال المأمون : شاورت أبا إسحاق والعباس في قتلك فأشارا به , فقال : فما قلت لهما يا أمير المؤمنين ؟ قال المأمون : قلت لهما نبدؤه بإحسان ونستأمره فيه فإن غير فالله يغير ما به . قال : أما أن يكونا قد نصحا في عظيم بما جرت عليه الساسة , فقد فعلا وبلغا ما يلزمهما وهو الرأي السديد , ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله , ثم استعبر باكيا ً . فقال له المأمون : ما يبكيك ؟ قال : جذلا ً إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الأنعام , ثم قال : انه وأن كان قد بلغ جرمي استحلال دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغاني عفوه ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب , وحق الأبوة بعد الأب . فقال المأمون : يا إبراهيم لقد حبب إلي العفو حتى خفت أن لا اؤجر عليه . أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذة لتقربوا إلينا بالجنيات لا تثريب عليك يغفر الله لك , ولو لم يكن حق نسبك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلغت ما أملت حسن تنصلك , ولطف توصلك ثم أمر برد ضياعه وأمواله . فقال إبراهيم :
رددت مالي ولم تبخل علي به وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
وقام عليك بي فاحتج عندك لي مقام شاهد عدل غير متهم
فلو بذلت دمي ابغي رضاك به والمال حتى اسل النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عارية سلفت لو لم تهبها لكنت اليوم لم تلم
29-استعطاف إسحاق بن العباس للمأمون
قال المأمون لإسحاق بن العباس : تحسبني أغفلت أمر ابن المهدي وتأييدك له , وإيقادك لناره ؟ فقال والله يا أمير المؤمنين لأجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من جرمي إليك ولرحمي بك امتن من أرحامهم , وقد قال لهم كما قال يوسف – على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام – لإخوته : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين )) وأنت يا أمير المؤمنين أحق وارث لهذه الأمة في الطول وممتثل لخلال العفو والفضل .
قال : هيهات تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام وجرمك جرم في أسلافك وفي دار خلافتك .
قال يا أمير المؤمنين فو الله للمسلم أحق بإقالة العثرة وغفران الذنب من الكافر وهذا كتاب الله بيني وبينكم إذ يقول : سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين . والناس يا أمير المؤمنين نسبة دخل فيها المسلم والكافر والشريف والمشروف .
قال : صدقت ورت بك زنادي ولا برحت أرى من اهلك أمثالك .
30-استعطاف الفضل بن الربيع للمأمون
قال المأمون للفضل بن الربيع لما ظفر به : يا فضل أكان من حقي عليك وحق آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك أن تثلبني وتسبني وتحرض على دمي ؟ أتحب أن افعل بك ما فعلته بي ؟
فقال : يا أمير المؤمنين إن عذري يحقدك إذا كان واضحا ً جميلا ً فكيف إذا أخفته العيوب ! وقبحته الذنوب ! فلا يضيق عني من عفوك ما وسع غيري منك فأنت كما قال الشاعر فيك :
صفوح عن الإجرام حتى كأنه من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
31-استعطاف تميم بن جميل للمعتصم
كان تميم بن جميل السدوسي قد خرج بشاطئ الفرات , واجتمع إليه كثير من الإعراب فعظم أمره , وبعد ذكره ثم ظفر به وحمل موثقا ً إلى باب المعتصم فقال احمد بن أبي داوود : ما رأيت رجلا ً عاين الموت فما هاله ولا شغله عما كان يجب عليه أن يفعله إلا تميم بن جميل فانه لما مثل بين يدي المعتصم فاحضر السيف والنطع وأوقف بينهما تأمله المعتصم وكان جميلا وسيما ً – فأحب أن يعلم أين لسانه وجنابه من منظره , فقال : تكلم يا تميم . فقال : أما إذا أذنت يا أمير المؤمنين فانا أقول : الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدا خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين , جبر بك صدع الدين ولم بك شعث المسلمين وأوضح بك سبل الحق واحمد بك شهاب الباطل , إن الذنوب تخرس الألسنة الفصيحة , وتعيي الأفئدة الصحيحة , ولقد عظمت الجريرة وانقطعت الحجة وساء الظن ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إلى أشبههما بك وأولاهما بكرمك , ثم قال – على البديهة - :
أرى الموت على السيف والنطع كامنا يلاحظني من حيثما أتلفت
واكبر ظني انك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت ؟
وأي امرئ يأتي بعذر وحجة وسيف المنايا بين عينيه مصلت
وما جزعي من أن أموت واني لأعلم أن الموت شيء موقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين انعي إليهم وقد خشموا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موتوا
وكم قائل لا يبعد الله روحه وآخر جذلان يسر ويشمت
فتبسم المعتصم وقال : كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل , قد وهبتك للصبية وغفرت لك الصبوة ثم أمر بفك قيوده وخلع عليه .
وكتب الجاحظ إلى ابن الزيات يستعطفه وكان قد تنكر له وتلون عليه : أعاذك الله من سوء الغضب وعصمك من سرف الهوى وصرف ما أعادك من القوة إلى حب الإنصاف ورجح في قلبك إيثار الأناة فقد خفت – أيدك الله – أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق السفهاء ومجانبة سبل الحكماء وبعد فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت :
وإن امرءا أمسى وأصبح سالما من الناس إلا ما جنى لسعيد
وقال الآخر :
ومن دعا الناس إلى ذمة ذموه بالحق وبالباطل
فإن كنت اجترأت – أصلحك الله – فلم اجترأ إلا لأن دوام تغافلك عني شبيه بالإهمال الذي يورث الإغفال , والعفو المتتابع يؤمن من المكافأة ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان رحمه الله : عمر كان خيرا ً لي منك ارهبني فاتقاني وأعطاني فأغناني , فإن كنت لا تهب عقابي – أيدك الله – لخدمة فهبه لأياديك عندي فان النعمة تشفع في النقمة وإلا تفعل ذلك فعد إلى حسن العادة وإلا فافعل ذلك لحسن الأحدوثة وإلا فآت ما أنت أهله من العفو دون ما أنا أهله من استحقاق العقوبة , فسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد وتتجافى عن عقاب المصر , حتى إذا صرت إلى من هفوت ذكر , وذنبه نسيان ومن لا يعرف الشكر إلا لك والإنعام إلا منك هجمت عليه بالعقوبة واعم – أيدك الله – أن شين غضبك علي كزين صفحك عني , وأن موت ذكري مع انقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك , واعلم أن لك فطنة عليم وغفلة كريم والسلام .
32-استعطاف رجل من أهل الشام للمنصور
يا أمير المؤمنين من انتقم فقد شفي وانتصف ومن عفا تفضل ومن اخذ حقه لم يجب شكره ولم يذكر فضله , وكظم الغيظ حلم والتشفي طرف من الجزع , ولم يمدح أهل التقوى والنهى من كان حليما بشدة العقاب ولكن بحسن الصفح والاغتفار وشدة التغافل . وبعد : فالمعاقب مستودع لعداوة أولياء المذنب والعافي مسترع لشكرهم آمن من مكافأتهم , ولأن يثنى عليك باتساع الصدر خير من أن توصف بضيقه على أن إقالتك عثرات عباد الله موجبة لإقالة عثرتك من ربهم موصولة بعفوه , وعقابك إياهم موصول بعقابه . قال الله عز وجل ( خذ العفو وأمر بالمعروف واعرض عن الجاهلين )) .
33-وكتب أبو عثمان بن عمرو بن بحر بن الجاحظ المتوفي بالبصرة سنة 255 هـ : أما بعد : فنعم البديل من الزلة الاعتذار وبئس العوض من التوبة الإصرار , فانه لا عوض من إخائك ولا خلف من حسن رأيك , وقد انتقمت مني في زلتي بجفائك , فأطلق أسير تشوقي إلى لقائك فأنني بمعرفتي بمبلغ حلمك وغاية عفوك , ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك , وقد مسني من الألم ما لم يشفه غير مواصلتك .
34-وكتبت زبيدة زوجة الرشيد المتوفاة سنة 216 هـ إلى المأمون :
كل ذنب – يا أمير المؤمنين – وإن عظم صغير في جنب عفوك , وكل إساءة وإن جلت يسيرة لدى حلمك , وذلك الذي عودكه الله أطال مدتك , وتمم نعمتك وأدام بك الخير , ودفع عنك الشر والضير .
وبعد : فهذه رقعة الولهى – التي ترجوك في الحياة لنوائب الدهر , وفي الممات لجميل الذكر – فإن رأيت أن ترحم ضعفي واستكانتي وقلة حيلتي وأن تصل رحمي وتحتسب فيما جعلك الله له طالبا ً وفيه راعيا ً – فافعل وتذكر من لو كان حيا لكان شفيعي إليك .
35-وكتب إليها المأمون جواب المواساة الآتي :
وصلت رقعتك يا أماه – أحاطك الله وتولك بالرعاية – ووفقت عليها وساءني – شهد الله – جميع ما أوضحت فيها لكن الأقدار نافذة والأحكام جارية , والأمور متصرفة , والمخلوقون في قبضتها لا يقدرون دفاعها والدنيا كلها إلى شتات وكل حي إلى ممات والغدر والبغي حتف الإنسان والمكر راجع إلى صاحبه .
وقد أمرت برد جميع ما اخذ لك ولم تفقدي ممن مضى إلى رحمة الله إلا وجهه , وأنا بعد ذلك على أكثر مما تختارين والسلام .
36-وكتب بعضهم :
إني وإن جنيت على نفسي وخرجت عن حد الأدب فيما يجب على العبد لسيده – فإني عبد نعمتك وصنيع إحسانك , وذنبي وإن عظم , وضاق باب التوبة عن قبول المعذرة , فالعفو عنه بعض حسناتك , التي فطرت عليها والإغضاء عني سر ٌ من أسرارك التي تميل إليها , فاجعل العفو عني قربة إلى مولى الموالي واترك العبد عتيق مكارم الأخلاق , وإلا فضع سيف نقمتك في بحر عبد نعمتك , وأنت حل من دم أراقه أهله , أو آل أمره إلى وارث لا يسعه إلا النزول عن المطالبة به , إلا وهو مقام جلالتكم السامي .
وحاشاك أن تعدم الصادق في خدمتك بهفوة لم يقصدها وذنب اقلع عنه وعلى كل فالعبد بين يديك , وأمره منك واليك , فقد ألقى إليك مقاليد الأجل فافعل ما تشاء واتق الله عز وجل .
37-كتب البديع إلى بعض إخوانه يعزيه وينصح له :
وصلت رقعتك ( يا سيدي ) والمصاب لعمر الله كبير , وأنت بالجزع جدير ولكنك بالصبر أجدر , والعزاء عن الأحبة رشد كأنه الغي , قد مات الميت فليحيى الحي , فاشدد على مالك بالخمس , فأنت اليوم غيرك بالأمس , قد كان ذلك الشيخ رحمه الله وكيلك تضحك ويبكي لك , وقد مولك مما ألف بين سراه وسيره وخلفك فقيرا ً إلى الله غنيا ً عن غيره , وسيعجم الشيطان عودك , فإن استلانك رماك بقوم يقولون : خير المال ما تتلفه بين الشراب والشباب وتنفقه بين الحباب والأحباب , والعيش بين القداح والأقداح ولولا الاستعمال لما أريد المال , فإن أطعتهم فاليوم في الشراب وغدا في الخراب , واليوم واطربا للكأس وغدا واحربا من الإفلاس . يا مولاي : ذلك الخارج من العود يسميه الجاهل نقرا ً فقرا ً وذلك المسموع من النأي هو في الآذان زمر , وفي الأبواب سمر , وإن لم يجد الشيطان مغمزا ً في عودك من هذا الوجه , رماك بآخرين يمثلون الفقر حذاء عينيك , فتجاهد قلبك وتحاسب بطنك وتناقش عرسك , وتمنع نفسك وتبوء في دنياك بوزرك وتراه في الآخرة في ميزان غيرك لا , ولكن قصدا ً بين الطريقين وميلا ً عن الفريقين لا منع ولا أسرفا , والبخل فقر حاضر عاجل , وإنما يبخل المرء خيفة ما هو فيه .
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر
فليكن لله في مالك قسم , وللمروءة قسم فصل الرحم ما استطعت وقدر إذا انقطعت , فلأن تكون في جانب التقدير , خير من أن تكون في جانب التبذير .
38-وكتب أبو الفضل بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398 هـ إلى ابن أخته :
أنت ولدي ما دمت : والعلم شأنك والمدرسة مكانك والمحبرة حليفك والدفتر أليفك , فإن قصرت ولا أخالك فغيري خالك , والسلام .
39-ومن وصية ابن سعيد المغربي المتوفي سنة 967 هـ وقد أراد السفر :
أودعك الرحمن في غربتك مرتقبا ً رحماك في أوبتك
فلا تطل حبل النوى إنني والله اشتاق إلى طلعتك
واختصر التوديع آخذا ً فما لي ناظر ٌ يقوى على فرقتك
واجعل وصاتي نصب عين ولا تبرح مدى الأيام من فكرتك
خلاصة العمر التي حنكت في ساعة زفت إلى فطنتك
فللتجارب أمور إذا طالعتها تشحذ من غفلتك
فلا تنم عن وعيها ساعة فإنها عون إلى يقظتك
وكل ما كابدته في النوى إياك أن يكسر من همتك
فليس يدري أصل ذي غربة وإنما تعرف من شيمك
وامش الهوينا مظهرا ً عفة وابغ رضا الأعين عن هيئتك
وانطق بحيث العي مستقبح واصمت بحيث الخير في سكتتك
ولج على رزقك من بابه واقصد له ما عشت في بكرتك
ووف كلا ً حقه ولتكن تكسر عند الفخر من حدثك
وحيثما خيمت فاقصد إلى صحبة من ترجوه في نصرتك
وللزرايا وثبة ٌ ما لها إلا الذي تذخر من عدتك
ولا تقل اسلم لي وحدتي فقد تقاسى الذل في وحدتك
ولتجعل العقل محكا ً وخذ كلا بما يظهر في نقدتك
واعتبر الناس بألفاظهم واصحب أخا يرغب في صحبتك
كم من صديق مظهر نصحه وفكره وقف على عثرتك
إياك أن تقربه انه عون مع الدهر على كرتك
وانم نمو النبت قد زاره غب الندى واسم إلى قدرتك
ولا تضيع زمنا ً ممكنا ً تذكاره يذكي لظى حسرتك
والشر مهما أسطعت لا تأته فانه جور على مهجتك
يا بني الذي لا ناصح له مثلي , ولا منصوح لي مثله – قد قدمت لك في هذا النظم ما أن أخطرته بخاطرك في كل أوان وأن رجوت لك حسن العاقبة – إن شاء الله تعالى – وإن اخف منه للحفظ ,و اعلق للفكر وأحق بالتقدم قول الأول :
يزين الغريب إذا ما اغترب ثلاث فمنهن حسن الأدب
وثانية حسن أخلاقه وثالثة اجتناب الريب
وأصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر , وسلم الكرم والصبر :
ولو أن أوطان الديار نبت بكم لكنتم الأخلاق والادابا
إذ حسن الخلق أكرم نزيل , والأدب أرحب منزل ولتكن كما قال بعضهم في أديب متغرب وكان كلما طرأ على ملك فكأنه معه ولد , واليه قصد , غير مستريب بدهره , ولا منكر شيئا ً من أمره .
وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من اخذ بمجامع هواه , فاجعل التكلف له سلما ً وهب في روض أخلاقه هبوب النسيم , وحل بطرفه حلول الوسن ,و انزل بقلبه نزول المسرة , حتى يتمكن لك وداده , ويخلص فيك اعتقاده وطهر من الوقوع فيه لسانك , وأغلق سمعك , ولا ترخص في جانبه لحسود لك منه , يريد إبعادك عنه لمنفعة , أو حسود له يغار لتجمله بصحبتك , ومع هذا فلا تغتر بطول صحبته ولا تتعهد بدوام رقدته , فقد ينبهه الزمان , ويتغير منه القلب واللسان وإنما العاقل من جعل عقله معيارا ً , وكان كالمرآة يلقي كل وجه بمثاله , وفي الأمثال العامة ( من سبقك بيوم سبقك بعقل )) . فاحتذ بأمثلة من جرب واستمع إلى ما خلد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال , فإنها خلاصة عمرهم وزبدة تجاربهم , ولا تتكل على عقلك , فإن النظر فيما تعب فيه الناس طول أعمارهم وابتاعوه غاليا ً بتجاربهم يربحك ويقع عليك رخيصا ً وإن رأيت من له عقل ومروءة وتجربة فاستفد منه , ولا تضيع قوله ولا فعله , فان فيما تلقاه تلقيحا ً لعقلك وحثا ً لك واهتداء .
وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه حتى تتدبره , فإن كان موافقا ً لعملك , مصلحا ً لحالك , فراع ذلك عندك , وإلا فانبذه نبذ النواة فليس كل أحد يتبسم ولا كل شخص يكلم , ولا الجود مما يعم به ولا حسن الظن وطيب النفس مما يعامل به كل أحد ولله در القائل :
وما لي لا أوفي البرية قسطها على قدر ما يعطي وعقلي ميزان
وإياك أن تعطي من نفسك إلا بقدر , فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء , ولا الكفء بمعاملة الأعلى , ولا تضيع عمرك فيمن يعاملك بالمطامع , ويثيبك على مصلحة حاضرة عاجلة , بغائبة آجلة ولا تجف الناس بالجملة , ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل , ولا ضجر , ولا جفاء فمتى فارقت أحدا فعلى حسني في القول والفعل , فانك لا تدري هل أنت راجع إليه ؟ فلذلك قال الأول :
ولما مضى سلم ٌ بكيت على سلم
وإياك والبيت السائر :
وكنت إذا حللت بدار قوم رحلت بخزية وتركت عارا
واحرص على ما جمع قول القائل : ( ثلاثة تبقى لك الود في صدر أخيك , أن تبدأه السلام وتوسع له المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه ) , واحذر كل ما بينه لك القائل : ( كل ما تغرسه تجنيه إلا ابن ادم , فإذا غرسته يقلعك ) وقول الآخر : ( إن ابن ادم ذئب مع الضعف أسد مع القوة ) . وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره , ويحكى أن ابن المقفع خطب من الخليل صحبته , فجاوبه : ( إن الصحبة رق ولا أضع رقي في يدك حتى اعرف كيف ملكتك ) , واستمل من عين على من تعاشره وتفقد في فلتات الألسن فإن الكلام سلاح السلم , وبالأنين يعرف الم الجرح , واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية وتجعلها نهاية لك :
وخذ الدهر ما أتاك به من قر عينا ً بعيشة نفعه
إذ الأفكار تجلب الهموم وتضاعف الغموم وملازمة القطوب عنوان المصائب والخطوب يستريب به الصاحب ويشمت العدو والمجانب , ولا تضر بالوساوس إلا نفسك , لأنك تنصر بها الدهر عليك – والله در القائل :
إذا ما كنت للاحران عونا ً عليك مع الزمان فمن تلوم ؟
مع انه لا يرد عليك الغائب الحزن ولا يرعوي بطول عتبك الزمن .
ولقد شاهدت بغرناطة شخصا ً قد الفته الهموم وعشقته الغموم ومن صغره إلى كبره لا تراه أبدا خليا من فكره , حتى لقب ( بصدر الهم ) .
ومن أعجب ما رايته منه انه يتنكد في الشدة , ولا تعلل بأن يكون يعدها فرج , ويتنكد في الرخاء خوفا ً من أن لا يدوم , وينشد :
توقع زوالا إذا قيل تم
وعند التناهي يقصر المتطاول
وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب , ومثل هذا عمره محسور يمر ضياعا ً ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمون من العلم ما تحسنه حسدا ً لك وقصدا لتصغير قدرك عندك , وتزهيدا لك فيه , فلا يجعلك ذلك على أن تزهد في علمك وتركن إلى العلم الذي مدحوه , فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلمه فصعب عليه ’ ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه فبقي محبل المشي كما قيل :
إن الغراب وكان يمشي مشية فيما مضى من سالف الأجيال
حسد القطا وأراد يمشي مشيها فأصابه ضرب من العقال
فأضل مشيته واخطأ مشيها فلذاك كنوه ( أبا مرقال )
ولا يفسد خاطرك من جعل يذم الزمان وأهله ويقول : ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل , ولا مكان يرتاح فيه , فإن الذين تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون ممن صحبهم الحرمان ,و استحقت طلعتهم للهوان وابرموا على الناس بالسؤال فمقتوهم , وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها , فاستراحوا إلى الوقوع في الناس , وأقاموا الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم , ولا تزل هذين البيتين من فكرك :
لن إذا ما نلت عزا فاخو العز يلين
فإذا نابك دهر فكما كنت تكون
والأمثال تضرب لذي اللب الحكيم , وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم , والفطن يقنع بالقليل , ويستدل باليسير , والله سبحانه خليفتي عليك لا رب سواه .
40-وصية هارون الرشيد لمعلم ولده الأمين :
يا احمر – إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه , وثمرة قلبه , فصير يدك عليه مبسوطة , وطاعته لك واجبة فكن له بحيث