الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

أدب الدولةالعباسية بقلم:حسين علي الهنداوي

تاريخ النشر : 2013-12-16
الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية
في العصر العباسي
-1-

المجلد السابع


حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية


حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية

مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط

ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب



الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية
في العصر العباسي





بسم الله الرحمن الرحيم





بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المجلد السابع
الأدب في العصر العباسي
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبع هداهم إلى يوم الدين ... وبعد :
لقد كان لتوسع رقعة الدولة العباسية مساحة ، وازدياد عدد السكان وتنوعهم عرقا ولونا وجنسا ومذاهباأثر كبير في تنوع الثقافات والتنافس في حمل لواء الحضارة العربية الإسلامية ذلك أن القرآن الكريم بمفهومه الإنساني الداعي أولا إلى المساواة بين جميع الناس عربهم وعجمهم دون النظر إلى أعراقهم وألوانهم وأجسامهم والمفسح المجال ثانيا لكل أمة أن تقود مسيرة الحضارة الإسلامية ضمن شروط إسلامية صحيحة نظريا وتطبيقيا ، وقد ترك الباب مفتوحا لقيادة المسيرة الإسلامية من قبل أي فئة من الناس تحقق شروط القيادة دينيا ودنيويا مما جعل الشعوب الإسلامية تتنافس فيما بينها على هذه القيادة ولكن هذا التنافس اتخذ صورا غير دينية ، فاتخذ من الدماء وسيلة للوصول إلى ذلك وتحول التنافس الثقافي والمعرفي والقيادي إلى سفك دماء للوصول للخلافة وقيادة الأمة من خلال استخدام مبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة) شعارا لا محيد عنه فكانت السيوف تتصارع والدماء تسفك دون حرمة دينية أو خلقية أو إنسانية والهدف الوصول للسلطة وحكم الناس فكما أن الأمويين سفكوا الكثير من الدماء في سبيل المحافظة على الخلافة ولم ينجحوا ، كذلك سفك العباسيون الكثير من الدماء في سبيل سلب الخلافة من أبناء عمومتهم الأمويين وهكذا كانت كل فئة تدعي أحقية الخلافة لها ومثلما أن الأمويين اعتبروا أنهم سادة العرب قبل مجيء الإسلام كذلك اعتبر العباسيون أن العباس رضي الله عنه عم الرسول هو أحق من يرث ابن أخيه بالخلافة مع أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( نحن الأنبياء لا نورث) والخلافة ليست حكرا على أحد إنما هي أمانة في عنق من يتسلمها وهي (مهمة تكليف لا مهمة تشريف) وقد وعاها الخلفاء الراشدون المهديون وأكدوا على صعوبتها واعتبروها مسؤولية عظيمة أمام الله تعالى أولا وأمام الناس ثانيا لقد استلم العباسيون مقاليد الخلافة بالسيف ، فتوقفت الفتوحات التي من أجلها وجه الخلفاءالراشدونوالأمويون الجيوش وهي رفع لواء (التوحيد ونشر الدين الجديد) وتخليص الناس من عبادة العباد ، ونقلهم إلى عبادة رب العباد وأخذ العباسيون يتنعمون بغلال الخلافة ويبنون دولتهم على غرار الدولة الفارسية مظهرين العظمة والأبهة والكبرياء ، وأخذت الثقافات تصطرع وتتنافس وبدا كل عرق ولون يتعصب لأبنائه ، وأخذت شوكة العرب تضعف رويدا رويدا حتى لم يبق للعرب من الخلافة سوى اسمها وانتشرت الزندقة والشعوبية وأخذ الأدب يرتقي كما وكيفا وزاد عدد الشعراء الذين وضعوا أنفسهم تحت راية الخلافة وكثر شعر المدح والهجاء واختلق الشعراء أنواع مديدة من الأغراض فرضتها طبيعة الحياة الجديدة شعر التصوف – شعر الزندقة – الغزل – الشعر التعليمي ، واهتم الشعراء بالصنعة والتصنع وتنافسوا على من يكون شاعر الخليفة ، كذلك في فن النثر فقد كثرت المنافسة بين كتاب الديوان وزحف النثر باتجاه التوسع والانتشار ، وأصبح له كتابه المختصون كالجاحظ وابن الزيات وغيرهم ، وتململت الفلسفة وعلم الجدل والمناظرة والرسائل ، وانقسم الأدب إلى قسمين قسم ارتقى بقيمه الايجابية وقسم انحط نحو الحضيض يحرك النعرات العرقية عرب – عجم يتغزل بالذكور على عادة غير العرب ويدعو للفسق والمجون والانحلال وأخذ النقد الأدبي مكانه الصحيح فتشكلت حركة نقدية واعدة استطاعت أن تؤفر للحركة الأدبية أبعادها الصحيحة فكونت نظرية عمود الشعر ودعا بعض أفرادها إلى الثورة على الشكل والمضمون وصار للأجناس الأدبية مكانة مهمة كل بحسب حاجة المجتمع إليه وصار للأديب العباسي مكان مرموقعند الخليفة وعند عامة الناس .



الباب الأول
الحياة العامة في العصر العباسي
الباب الأول
الفصل الأول
الدعوة العباسية
روي في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم العباس باستيلاء ولده على الخلافة بعد بني أمية , وقد كان العباس أسنّ من رسول الله عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين وأولاده ( الفضل – عبد الله – عبد الرحمن – قثم – معبد – أم حبيب ) وأمهم " لبابة بنت الحارث " أخت ميمونة زوجة النبي عليه الصلاة والسلام , وهي أول امرأة أسلمت بعد خديجة بنت خويلد .
وقد حنّك رسول الله عليه الصلاة والسلام عبد الله بن العباس بريقة المقدس ودعا له قائلا ً :( اللهم بارك فيه وانشر منه ) . وأولاد عبد الله بن العباس ( العباس – علي – السجاد – الفضل – عبد الله – لبابة ) ومن ولده " علي السجاد " وهو أبو الخلفاء وقد اتفق العباسيون مع أبي مسلم الخراساني في الثورة على الأمويين ، ونجحوا بذلك وأصبحت الخلافة عباسية وقد تزعمها أبو العباس السفاح الذي بويع له عام 132 هـ ويقال له المرتضى وكان قد ولد في أيام هشام بن عبد الملك وقد توفي 136 هـ وقد قتل في عهده خلق كثير فلقب بالسفاح وفيه يقول الشاعر :
فكانت أمية في ملكها تجور وتظهر طغيانها
فلما رأى الله أن قد طغت ولم تطق الأرض عدوانها
رماها بسفاح آل الرسول فخر بكفيه أذقانها
ومن أولاده " محمد " مات صغيرا ً و " ريطة " تزوجها المهدي ومن أهم وزرائه " خالد بن بربك " جد البرامكة .
ثم جاء بعده الخليفة أبو جعفر المنصور الذي بويع له بالخلافة بعد أخيه أبي العباس , زار بيت المقدس وحج البيت الحرام , غدر بعمه عبد الله بن علي بعد أن أعطاه الأمان لأنه طالب بالخلافة وبنى له دارا ً أساسها ملح فلما سكنها أجرى الماء في الأساس فوقعت الدار عليه فمات وكان قد كتب العهد بين المنصور وبين عمه عبد الله بن علي ابن المعتصم وقال فيه " فمتى غدر أمير المؤمنين والمنصور بعمه عبد الله بن علي سرا ً أو علانية فنساؤه طوالق ودوابه حبيس وعبيده أحرار لوجه الله تعالى والمسلمون في حل من بيعته " . وكان أمر البيعة إثرها وقد قتل ابن المقفع بأمر من المنصور غدرا ً وكان قد قام بالدعوة العباسية أبو مسلم الخراساني وله إحدى وعشرون سنة وفي ذلك يفتخر قائلا ً :
أدركت بالصبر والكتمان ما عجزت عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى إليهم في ديارهم والقوم في غفلة بالشام إذ رقدوا
حتى طرقت لهم بالسيف فانتبهوا عن رقدة لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنما ً في أرض مسيعة ونام عنها تولى رعيها الأسد
وكان أبو مسلم قد قتل خلقا ً كثيرا ً أكثر من ستمائة ألف وتوفيغدرا ً حيث أجلسه الخليفة عنده وخرج عليه القوم بأسيافهم والمنصور ينشد :
اشرب بكأس كنت تسقي بها أمر في فيك من العلقم
كذلك ضرب المنصور أبا حنيفة النعمان على مرأى من الفقهاء بعد أن رفض توليه وجيشه حتى مات .
توفي المنصور سنة 158 هـ عن ثلاث وستون سنة ودفن بالحرم الشريف وقضى خليفة اثنين وعشرين سنة , وترك من الأولاد ( محمد المهدي – جعفر – صالح – سليمان – عيسى – يعقوب – القاسم – عبد العزيز – العباس – خالد ) ووزراؤه : ( أبو أيوب المرياني – والربيع وخالد بن برمك ) .
ثم جاء المهدي المولود/ 127/ هـ وبويع بالخلافة /158 /هـ وهو أول من قتل الزنادقة وألبسالكعبة الخز والديباج وطلاها بالمسك واشترى ما حول الكعبة وجعلها بالوسط كما هي الآن وكانت بجانب المسجد ولما دخل أبو دلامة الشاعر على المهدي قال له كيف أنت؟ فقال أبو دلامة :
إني حلفت لئن رأيتك سالما ً بقرى العراق وأنت ذو وفر
لأصلين على النبي محمد ولتملأن دراهما ً حجري
وأرادت إحدى زوجتيه أن تسم الأخرى فعثر المنصور على الرسول بينهما فأطعمه الحلوى المسمومة .
وقد خرجفي زمنه " حكيم المقنع " يقول بتناسخ الأزواج فحاصره المهدي فشرب المقنع السم مع أولاده وبناته فماتوا , توفي المهدي 169 هـ وأولاده ( هارون الرشيد – موسى الهادي – علي – عبد الله – منصور – يعقوب – اسحق – المأمومة – العالية – العباسية – سليمة ) ومن كتابه ( معاوية ابن عبد الله – يعقوب بن داوود ) وقد حبس الأخير حتى أطلقه الرشيد وقضاته ( محمد بن علامة وعافية بنيزيد ) , ومن حجابه ( سلامة الابرش ) ومن شعره :
أرى ماء وبي عطش شديد ولكن لا سبيل إلى الورود
أراح الله من جسدي فؤادي وعجل بي إلى دار الخلود
وقد قيل في رثائه :
وأفضل قبر بعد قبر محمد نبي الهدى قبر سبذان
عجبت لأيد جثت الترب فوقه غداة فلم ترجع بغير بنان
ثم جاء بعده موسى الهادي وأمه أم الرشيد الخيزران بويع له مات أبوه وهو يحارب أهل طبرستان وبقي خليفة سنة وشهر ثم توفي وصلى عليه هارون وكان قد أخذت له البيعة وكان عمر موسى 24 سنة وكان موسى شجاعا ً بطلا أديبا ً جوادا صعب المرام , قال فيه سالم الخاسر :
لقد قام موسى بالخلافة والهدى ومات أمير المؤمنين محمد
فمات الذي عم البرية جوده وقام الذي يكفيك من يتفقد
وقد كان موسى الهادي يحب الشعر وإنشاده . قال الضحاك الشاعر أنشدته هذين البيتين :
موسى الأمام أبان مشتبه الهوى بعد الدروس فصار نهجا ً معلما
بسط الأنامل بالعطاء أظنه أن ليس يترك في الخزائن درهما
وقتل موسى الهادي جاريتين له بلغه أنهما كانتا تتحابان وتأتيان ما لا يحل لهما وتكلم الناس بذلك فقال :
يلومني من جهل الأمر فكيف لي إن يسمع العذرا
يزعم إني آثم والذي فعلته أرجو به الأجرا
ومن له صبرا ًعلى مثل هذا فلست فيه أملك الصبرا
وأولاده ( عيسى – إسماعيل – جعفر – عبد الله – اسحق – موسى – وهو أعمى وله أم عيسى تزوجها المأمون ) .
وزراؤه "( الربيع بن يونس – ثم عمر بن بزيع) وحجابه (الفضل بن الربيع ) وقاضيه (أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم) . ثم جاء أخوه هارون الرشيد الذي بويع بالخلافة يوم مات أخوه وولد له المأمون كان شجاعا ً سمحا ً كثير الغزو والحج , يحج سنة ويغزو سنة , وقد قال فيه أبو العسلي :
فمن يطلب لقاءك أو يرده فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو على ظمر وفي أرض الثنية فوق طور
وما حاز الثغور سواك خلق من المستخلفين على الأمور
وقد كملت الخلافة بكرمه وعدله وتواضعه وزيارته العلماء في مواضعهم كمالك بن أنس وسفيان بن عينيه وعبد الرزاق بن همام والفضيل بن عياض وقد كان يدافع الروم في الثغور وكان الرشيد مضطلعا ً في العلم والأدب والشعر ويميز بين الشعراء وقد فضل العباس بن الأحنف على جميل : قال جميل :
إلا ليتني أعمى وليت تقودني بثينة لا يخفي علي كلامها
قال العباس :
طاف الهوى في بلاد الله كلهم حتى إذا مر بي من بينهم وقنا
قال الرشيد :
أما يكفيك أنك تملكيني وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي لقلت من الهوى أحسنت زيدي
وخرج على الرشيد الوليد بن الطريف الشاري واستولى على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وهزم جيوش هارون وقال :
أنا الوليد بن الطريف الشاري أخرجني ظلمكم من داري
ولكن بعض الأعراب قتل الوليد وحمل رأسه للرشيد ورثته أخته الفارعة بنت طريف قائلة :
أيا شحر الخابور مالك مورقا ً كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يعد الزاد إلا من التقى ولا المال إلا من قنا وسيوف
وخرج عليه أبو الخصيب فقتله الرشيد وقضى على الخرمية بأذربيجان وسبى صبيانهم ونسائهم وخرج عليه الخزر وقتلوا من المسلمين وأهل الذمة وسبوا مئة ألف وأربعين ألف وقتلوا من الرجال والنساء والولدان وأحرقوا المدن وقد قال إسحق بن هلال الموصللي في الرشيد وفي يحيى البرمكي :
ألم تر أن الشمس كانت مريضة؟ فلما أتى هارون أشرق نورها
تلبست الدنيا جمالا ً بملكه فهارون واليها ويحيى وزيرها
ثم أن الرشيد سخط على البرامكة بعد أن اصطفاهم لإظهارهم الزندقة وإفساد الملك فنكبهم وقتلهم وطلب لعنهم على المنابر ، وقيل:إن جعفر البرمكي كان بارا ً للعباسية أخت هارون فزوجها الرشيد منه على أن لا يمسها ليكون لها محرما ً إذا حضرت المجلس فقضى أنها حملت بتوأمين فغضب هارون وضرب عنقه ونقم على البرامكة وقد كتب كتابا ً بالبيعة للأمين ومن بعده المأمون أولاده ( الأمين – المأمون – المعتصم – صالح – محمد أبو عيسى – القاسم – علي – إسحق – أبو أيوب – أبو أحمد ) وبعض البنات ومن وزرائه " يحيى البرمكي – وأبناؤه جعفر والفضل والفضل بن الربيع ومن قضاته " نوح بن دراج وحفص بن غياث – وعون بن عبد الله المسعودي وحجابه " بشر مولاه – محمد بن خالد بن برمك – الفضل بن الربيع " ثم جاء بعده محمد الأمين . والده هارون وأمه العزيزة وهي هاشمية بويع له سنة/ 193/ هـ وكانت ولايته أربع سنين ونصف كان سمحا ً بالمال قبيح السيرة سفاكا ً للدماء ضعيف الرأي وقد كان الرشيد قد ولى الأمين ثم المأمون العهد ، فنكث الأمين وولى ولده العهد وخرق عهد أخيه وحدث بعده صراع عسكري جاؤوا بعده برأس الأمين لأخيه وقد قتل سنة/ 198 هـ/ ومن أولاده " موسى – عبد الله – إبراهيم – وكان وزيره الفضل بن الربيع ثم إبراهيم بن صبيح , وحاجبه العباس بن فضل بن الربيع وقضاته إسماعيل بن حماد البحتري ومحمد بن سماعة .
ثم جاء من بعده المأمون وقد كان كامل الفضل عظيما ً عفوا ً حسن التدبير وقد أخذ البيعة لأخيه المعتصم وأحيا العلم القديم وأظهر علم النجوم والفلسفة واتخذ الأتراك للخدمة وفي أيامه تحركت الخرمية وقام رئيسهم بابك وقضى عليهم وغفا عن عمه إبراهيم بن المهدي . جالس العلماء وناظرهم وكان يحضر مع الناس الطعام يتفقد عسكره والناس , يحب الناس ولا ينام حتى يقف على قضاياها غزا الروم وفتح قلاعا ً وحصونا ً ونفذ أمره من أفريقية إلى السند وأسلم على يديه ملك التيبت بعد أن قد له صحنا ً من ذهب أرسله المأمون للكعبة وقال المأمون بخلق القرآن واعتبر عليا ً بن أبي طالب أفضل الناس بعد الرسول الكريم ورد " فدكا ً " على ولد فاطمة بنت رسول الله وفي عهده توفي الإمام الشافعي رحمه الله ،وكان يحب رياضة الشطرنج من أولاده " محمد الأصفر – عبد الله – علي – الحسن – إسماعيل – الفضل موسى إبراهيم – يعقوب – الحسين – سليمان – جعفر – إسحق – أحمد - هارون – عيسى – وعدة بنات ) . ووزراؤه : الفضل بن سهل – وأخوه الحسن وقضاته محمد بن عمر الواقدي – يحيى بن أكثم .
ثم جاء من بعده المعتصم ابن هارون أمه ماردة بويع له يوم مات المأمون 218 هـ وتوفي بسامراء 227 هـ وخلا فيه حوالي 9 سنوات كان شجاعا ً فتح عمورية بعد أن نزلت الروم بزبطرة وقاد الحلمة بنفسه وقتل ثلاثين ألفا ً وأسر مثلهم وقصيدة أبي تمام فتح عمورية:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
قيلت في ذلك , وخرج في عهده بابك فحمله الأفشين للمعتصم بسامراء فقطعت يداه ورجلاه وصلب ثم بعثت جثته ورأسه إلى بغداد وقيل بالاثنين :
إنما الاثنين سيف يله قدر الله بكف المعتصم
ثم قتل المعتصم الأفشين لأنه أراد نقل الملك إلى العجم وقد بنى المعتصم سامراء وأبعد الجند عن بغداد امتحن ابن حنبل في خلق القرآن وكان أميا ً وقد ضربه وسجنه. أولاده ( هارون – الواثق – جعفر – المتوكل – محمد أبو المستعين ) ووزراؤه الفضل بن مروان– أحمد بن عمار– الزيات) وحجابه(وصيف مولاه )وقضاته محمد بن سماعة وأحمد بن أبي داوود الأيادي ) .
ثم جاء بعده الواثق بالله أبو جعفر واسمه هارون بن المعتصم بويع له 227 هـ وتوفي 232 هـ وخلافته ست سنين , وكان يعاقب من امتنع عن القول بخلق القرآن فقد حبس ابن حنبل وكذلك كان يحب النساء وكثرة الجماع ولما احتضر بسبب كثرة جماعه ردد هذين البيتين :
الموت فيه جميع الخلق مشترك لا سوقه منهم ولا ملك
ما ضر أهل قليل في تنافرهم وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا
أولاده " محمد المهتدي – عبد الله – أحمد – إبراهيم – عائشة " , وزيره محمد بن عبد الملك الزيات , وحاجبه ايتاخ – ووصيف .وقاضيه أحمد بن أبي داوود .
ثم جاء بعده جعفر المتوكل علي الله بن المعتصم وأمه تركية اسمها شجاع , بويع له 232 هـ وقتل 247 هـ ودفن في القصر الجعفري بسامراء وخلافته 15 سنة رفع الفتنة في الدين وحض على قراءة الحديث وأخرج ابن حنبل من السجن وخلع عليه وأخرج ذا النون المصري من السجن وأكرمه وقد منع المتوكل النصارى واليهود من التزيي بلباس المسلمين والركوب على السرج وجعل أزر النساء علية ليعرفن وأمر بهدم البيع المحدثة وتحويل الواقع منها لمسجد وأمر بجعل صور الشياطين على أبواب النصارى اتخذت نورا ً من خشب فيه مسامير من حديد للتعذيب , قبض على وزيره الزيات وعزل عن القضاء محمد بن أبي داوود وحجز أمواله , قتل المتوكل ولده محمد وكان معه وزيره الفتح بن خاقان ودفنا معا ً ورثاه البحتري بقصيدة غاية في الصدق .
أولاده " محمد – موسى – المعتز – إبراهيم – أحمد – الموفق – إسماعيل " وزراؤه " الزيات – الجرجاني – بن خاقان " وحجابه " وصيف التركي وقاضيه يحيى بن اكثم
ثم جاء من بعده المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن جعفر قاتل المتوكل أمة رومية تسمى جشيلة , بويع له عام 247 هـ مات مسموما ً وولايته ستة أشهر , وكان ذا شهامة وإمساك , خلع أخويه المعتز , والمؤيد وكان يسيء للعمال ويبخل بالمال , قال عن نفسه " عاجلت فعجلت "
من أولاده " أربعة ذكور , وزيره أحمد بن الخصيب وحاجبه وصيف ثم بغاثم ابن المرزبان .
ثم جاء بعده المستعين بالله أبو العباس أحمد بن محمد المعتصم وأمه مخارق , بويع له عام 248 هـ وخلافته حوالي ثلاث سنين ونصف ورد الخلافة للمعتز لأن الأمور اضطربت عليه فقد كان لينا ً ومنقادا ً لأتباعه مهملا ً لأموره شديد الخوف على نفسه لأنه كان رجلا ً صالحا ً وقد نفي إلى واسط وقد قتل وحمل رأسه إلى المعتز 252 هـ , أولاده ستة ذكور ووزراؤه أحمد بن الخطيب ثم أحمد بن صالح بن رداد .
ثم جاء بعده المعتز بالله أبو عبد الله واسمه محمد وقيل الزبير بن جعفر بن المتوكل بويع له سنة 252 هـ بعد خلع المستعين وأخرج أخاه المؤيد من الحبس وخلع عليه ثم عاد وسجنه لتآمره عليه واختلف في طريقة قتله وفي سنة 255 هـ خلع بعد أن لطم على وجهه وكان حكمه ثلاث سنين وسبعة أشهر ومن أولاده عبد الله بن المعتز ومن وزرائه جعفر بن محمد الاسكافي .
ثم جاء بعده المهتدي بالله أبو عبد الله محمد بن هارون الواثق أمه رومية اسمها " قرب ", بويع له 255 هـ وكان المعتز أول من بايعه وقتل في 256 هـ وله تسع وثلاثون سنة وخلافته أحد عشر شهرا ً , كان ورعا ً كثير العبادة بقي صائما ً منذ جلس للخلافة حتى قتل وله خمسة عشر ذكرا ً .
ثم جاء المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن جعفر المتوكل أمه " قينان " , بويع له 256 هـ وتوفي 279 هـ وله خمسون سنة مسموما ً وكانت خلافته 23 سنة , وكان مقبلا ً على اللذات مشغولا ً عن الرعية مضطرب الأحوال كثير الغزل والتوليه مغلوبا على رأيه ومن أولاده ( عبد العزيز وجعفر وإسحق ومحمد ) ووزراؤه " عبيد الله بن يحيى بن خاقان – سليمان بن وهب – الحسن بن سهل – صاعد بن مخلد – إسماعيل بن بلبل ) , وحجابه موسى بن بغا وقضاته " الحسن بن أبي الشوارب.
ثم جاء المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن طلحة الموفق بن جعفر المتوكل وأمه ضرار , بويع له 279 هـ وتوفي 289 هـ قيل سمه وزيره إسماعيل بن بلبل وخلافته تسع سنين وتسعة أشهر ) كان عادلا ً ضابطا ً ذا تجربة وحنكة أسقط المكوس وبذل المال وحج وغزا وجالس المحدثين وأهل الفضل والدين وتسلم الخلافة وبيت المال فيه دينارا ً فأحسن التدبير وقمع الذعار وأباد الأشرار وأنصف بالمعاملة ورفق بالرعية وفي أيامه خرج " زكرويه بن مهرويه " داعية القرامطة فقتل منهم الكثير , تزوج المعتضد قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون وأولاده " المكتفي – المعتد – القاهر – هارون – وإحدى عشر بنتا ً ووزراؤه عبيد الله بن سليمان بن وهب ومن قضاته إسماعيل بن إسحق بن حماد بن يزيد .
ثم جاء بعده المكتفي بالله أبو محمد علي بن المعتضد بالله أمه " خاضع " بويع له 289 هـ وتوفي 295 هـ وخلافته ست سنين وتسعة أشهر أمواله جمة وعساكره متوافرة , بنى جامع القصر في بغداد وأنفق أموالا ً كثيرة في حرب القرامطة , استرد أنطاكية من الروم , أولاده " المستكفي بالله وثمانية ذكور تولى الخلافة من أولاده " المستكفي – المقتدر – القاهر " وزيره العباس بن حسن .
ثم تولى بعده المقتدر بالله جعفر بن المعتضد . أمه " شضب " , بويع له بالخلافة 295 هـ وقتل 320 هـ وسنه ثمان وثلاثون سنة ومدة خلافته 25 سنة , تولى الخلافة وعمره ثلاثة عشر سنة وقد دبر الخلافة وغلب النساء على أمره والخدم وكانت جارية أمه ثمل القهرمانية تجلس للمظالم ويحضرها القضاة والوزراء والفقهاء .
وبطل الحج في عهده لدخول سليمان القرمطي صاحب البحرين وأخذه الحجر الأسود وقتل الحجيج ورمي القتلى في زمزم وخلع باب الكعبة وعراها وبقي الحجر الأسود معه 22 سنة ثم رده الله تعالى على يد أبي محمد بن سنبر بمبلغ 50 ألف دينار يولى وزيرا ً ثم يخلعه بالرشا قتله مؤنس المظفر بالسيف وأخذ برأسه وتركه عاريا ً فستره رجل من الأكراد بحشيش ودفنه , وفي أيامه ظهر المهدي بالمغرب وخلع المقتدر مرتين وفي عهده ظهر الحلاج فقطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرق بالنار , وقد كان المقتدر سمحا ً جوادا ً كان يبذل المال على الحرمين والثغور ويجزي القضاة والفقهاء ومن يتولى الحسبة والمظالم , أولاده " الراضي – المتقي – إسحق " ووزراؤه أبو الحسن بن الفرات – محمد بن عبيد الله بن خاقان . ابن الجراح ثم جاء القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد وبويع له 320 هـ وخلع وسملت عيناه 322 هـ وولايته سنة ونصف , كان موصوفا ً بالظلم مقدما ً على سفك الدماء أهوج محبا ً لجمع المال قبيح السياسة , صادر أمهات أولاد المقتدر وضرب أم المقتدر وعلقها بحبل .
ثم جاء الراضي بالله أبو العباس محمد بن المقتدر وأمه ظلوم , بويع له 322 وتوفي بالاستسقاء 329 ومدة خلافته أقل من سبع سنوات وعاش 32 عاما وكان أولياؤه مستبدين بالأمور وكان أديبا ً شاعرا ً , ومن شعره :
كل صفو إلى كدر كل أمر إلى حذر
ومصير الشباب فيه للموت أو الكبر
أين من كان قبلنا؟ درس الشخص والأثر
وقد كان أصحابه ينفردون به بالأمر دونه ولا يقدر أن يغير الأمر البلاد تتقسم ويظهر الفساد حيث استرجع الروم عامة الثغور وممن أفسد دولته ابن مقلة فقطعت يده وكان ينوح عليها وفي وقت الراضي محمد بن أبي العراف الذي ادعى الربوبية فقتل وصلب . أولاده " أبو جعفرأحمد – أبو الفضل عبد الله " . ثم جاء بعده المتقي بالله أبو إسحق إبراهيم بن المقتدر وأمه خلوب , بويع له 329 هـ وتوفي 357 هـ وعمره ستون سنة حدث في عهده غلاء شديد ونادى الناس الجوع وكان المتقي عابدا ً كثير الصلاة والصوم ولم يشرب النبيذ وكان يقول نديمي المصحف لم يغدر بأحد أشار عليه أصحابه بالخروج إلى الرقة هربا ً من البريدي وأعطي العهود للعودة لبغداد ثم سملت عيناه 333 هـ أولاده أبو منصور ولي عهده .ثم جاء المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بالله وبويع له 333 هـ وكان عمره 41 سنة تلقب بإمام الحق قبض عليه معز الدولة بن بويه 334 هـ وعمره ست وأربعون وخلافته سنة وأربعة أشهر ثم صارت الخلافة لابن عمه .
ثم جاء المطيع لله أبو القاسم الفضل بن المقتدر بويع له 334 هـ وبقي في الخلافة إلى 363 هـ وقضى في الخلافة 29 سنة ولم يكن له من الخلافة سوى الاسم بينما الحاكم الفعلي معز الدولة أحمد بن بويه .
كان المطيع لله كريما ً حليما ً وصل العلويين والعباسيين في يوم واحد ثلاثين ألف دينار وكان ينفق على ثلاثة خلفاء خلعوا . وهم ( القاهر – المستكفي – المتقي ) كذلك الإنفاق على الحجرة النبوية ووضع قنديل ذهب في الكعبة وقد أعيد الحجر الأسود في عهده إلى موضعه في البيت الحرام 339 هـ وفي عهده تحكمت الديلم على الخليفة ومات القائم صاحب المغرب 331 هـ ومات ابنه المنصور 341 هـ ودخل جوهر الصقلي مصر من قبل المغرب 358 هـ وخرجت مصر والشام والحجاز والمغرب وصقلية عن بني العباس ثم عادت بعد ذلك وفي عهده تغلب نقفور على ثغور المسلمين وملك حلب , أولاده " أبو بكر الطائع – عبد العزيز – جعفر " .
ثم جاء الطائع لله أبو بكر عبد الكريم بن الفضل أمه اسمها عتب , بويع له عام 363 هـ وعمره ثمان وأربعون سنة وأقام فيها خليفة حوالي 18 سنة انحدر مع سبكتكين للحرب .
ولما ملك عضد الدولة بغداد وهزم الأتراك عنها أصعد الطائع معه إلى تكريت وفي عهده عاد الشام مع الحرمين إلى الدولة العباسية وخلع الطائع من الخلافة ورمي عن السرير ونهبت دار الخلافة 393 هـ .
ثم جاء بعده القادر بالله أبو العباس أحمد بن إسحق بويع له 381 هـ بلغ من العمر ستين سنة ولما تولى الخلافة جعل علامته " حسبنا الله ونعم الوكيل " كان حسن الدين والتهجد والورع وكان أيضا ً صالحا ً ورعا ً تقيا ً حسن الخليقة جميل الطريقة طلق النفس كثير المعروف وبلغ من العمر حوالي 87 سنة توفي في 422 هـ وقد فتحت السند والهند في عهده . أولاده " أبو جعفر عبد الله ولي العهد " .
ثم جاء بعده القائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بن أحمد القادر وأمه بدر الدجا , بويع له 467 هـ وعمره حوالي 75 سنة وخلافته حوالي 45 سنة كان كريما ً حليما ً حسن السيرة مجتهدا ً في إصلاح الدين وزال في أيامه حكم العجم ممن تحكم بالخلافة ودعي له بأفريقية وفي أيامه غرقت بغداد بالماء حتى خرج هذا الماء على سريره . ومن شعره :
سهرنا على سنة العاشقين وقلنا لما يكره الله نغم
وما خيفتي من ظهور الورى إذا كان رب الورى قد علم
ومن شعره أيضا :
قالوا الرحيل فانشبت أظفارها في خدها وقد اعتلقن فضايا
واحمر تحت بنانها فكأنما غرست بأرض بنفسج عنابا
ثم جاء بعده المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله , توفي والده ( ذخيرة الدين ) وله أربع عشرة سنة فحفظ الله به دولة بني العباس وبويع له 469 هـ وتوفي 487 هـ فكانت خلافته 19 سنة وكانت به صرامة وشهامة ولم يكن له أعوان على ذلك تذب عنه بل كانت له دعوة مجابة قد جربت منه وقد طلب منه جلال الدولة ابن عضد الدولة أن يخرج من بغداد فطلب منه أن يمهله عشرة أيام مات بعدها جلال الدولة في اليوم العاشر 485 هـ حيث سمته شمس النهار – القهرمانة في الطعام , وروي للمقتدي من الشعر :
أردت صفاء العيش مع من أحبه فحاولني عما أريد مريد
وما اخترت بت الشمل بعد اجتماعه ولكنه مهما يريد أريد
ومن شعره أيضا ً :
أما والذي شاء غير ما بنا فأهوى بقوم في الثريا إلى الثرى
وبدلنا من ظلمة الجور بعدما دجا ليلها صبحا ً من العدل مسفرا
ومن وزرائه فخر الدولة – عميد الدولة – أبو شجاع محمد بن الحسين ثم جاء المستظهر بأمر الله أبو العباس أحمد بن أبي عبيد الله المقتدي بالله , بويع له 487 هـ وتوفي 512 هـ وله إحدى وأربعون سنة وخلافته 26 سنة ذكره أبوه على المنابر بولاية العهد وعلى السكة ودبر أمر خلافته عميد الدولة وقهرمانة والدة شمس النهار – وكتم أمر موت المقتدي بأمر الله ثلاثة أيام .كان لين الجانب كريم الأخلاق يحب فعل الخير ويسمح بالمال والإحسان والاقطاعات حسن المعاشرة لين الجانب كثير الميل لخواصه حسن الخلق .
وقد أخذ الإفرنج في أيامه بيت المقدس 492 هـ وقتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألف نفس وهزم الأفضل شاهنشاه بعسقلان أقبح هزيمة .
أولاده " أو منصور الفضل المسترشد بالله – أبو عبد الله محمد المقتفي لأمر الله " , وزراؤه " ربيب الدولة – أبو المعالي هبة الله " .
ثم جاء بعده المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله وبويع له 512 هـ وقتل بخراسان 528 هـ فكانت خلافته 17 سنة وقد كان ذا نفس أبية وعزمة قرشية يسمح بالأموال ويخرج بنفسه للقتال وكان أديبا ً شارعا ً ومن شعره :
أقول لشرخ الشباب اصطبر فولى ورد قضاء الوطر
فقلت قنعت بهذا المشيب وإن زال غيم فهذا مطر
فقال المشيك أيبقى الغبار على حجرة ذاب منها الحجر
وقد قامت جماعة من الباطنية بقتل الخليفة بعد أن أرسلهم السلطان سنجر وقد قتلوا جميعا ً وحرقت جثثهم بالنار وحمل المسترشد مقتولا ً ودفن في المراغة 529 هـ وناح عليه الرجال والنساء في بغداد في الطرقات وكان له من العمر 43 سنة . أولاده أبو جعفر منصور الراشد بالله ووزراؤه عضد الدين أبو شجاع عميد الدولة . ثم جاء بعده الراشد بالله أبو جعفر المنصور , بويع له 529 هـ فجلس للمظالم ورد على الناس الأملاك المصادرة فصلحت أحوالهم وأعاد عليهم خطوطهم ووثائقهم ودبر أمره وتولى البيعة له ناصح الدولة وحسن بن الهاروني للخليفة الخروج على السلطان مسعود فخلع الخليفة لكنه جمع عساكره ونزل أربيل وجرد سيفه في بلاد الباطنية فقتل منهم جماعة عظيمة ولكن الباطنية عادت وقتلته على باب أصبهان بعد أن تظاهروا بخدمته فتزين بلباس الخراسانية وقيل قتل مسموما ً ومن شعره :
زمان قد استنت فصال صروفه وذلك أسار الكرام لدى القرعى
أكولته تشكو صروف زمانه وليس لها مأدى وليس لها مرعى
فيا قلب لا تأسف عليه فربما ترى القدم في أكناف آفاقه صرعى
ثم جاء بعده المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن أحمد المستظهر بالله وبويع له 530 هـ وتوفي 550 هـ وكانت خلافته 25 سنة وصحب الأعيان وعرف الزمان كان محبا ً للمال وجمعه قبض على كثير من أهل بطانته جعل قاضيا ً ابن المرخم يتولى عقوبة عماله ووجوه دولته وأخذ أمواله .
قال فيه أحد الشعراء :
سخمي وابك والطمي قد ولّى ابن المرخم
واه على الحكم والقضاء واه على كل مسلم
وارى إلى المقتفي الأمام عن الحق قد عمي
فنكل المقتفي بالشاعر وعذبه ولما مات السلطان مسعود وقتل أتابك زنكي صفت للخليفة الدنيا , وكان اختياره للوزير ابن هبيرة توقيتا ًجيدا ًلعلمه وحنكتهواستخلاصه العراق وجميع أعماله من يد السلجوقية . ومن أولاده يوسف ولي عهده .
ثم جاء بعده المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله بويع له 550 هـ فرد الأموال التي غصبها ابن الرقم من أموال المسلمين إلى أصحابها وسجن قوما ً ينسبون للظلم وأسقط مكوسا ً كانت تأخذ في الطرق وأطلق ضريبة الغنم ببغداد , وقد كان شاعرا ً ومن شعره :
عيرتني بالشيب وهو عار ليتها عيرتني بما هو عار
إن تكن شابت الذوائب مني فالليالي تزينها الأقمار
توفي 566 وهو على أحسن الأحوال على يد مملوكه قايماز برأي طبيبه ابن صفية النصراني بعد أن شفي من مرضين حيث دبر له قايماز شربة مسمومة وأغلق عليه الحمام وكانت خلافته 11 سنة ثم جاء بعده ابنه الحسن بن يوسف المستنجد بالله , بويع له 566 هـ وكانت ولادته 536 واستطاب الناس بيعته وهاجر إلى بغداد لحسن سيرته وعدله حيث أطلق المسجونين وفرق الكثير من الأموال وأمر بإسقاط المكوس والضرائب وخلع على الفقهاء والعلماء والإشراف والغرباء ورد الشريد وأغنى الفقير وأمن الخائف وأنشد الشاعر الحيص بيص :
أقول وقد تولى الأمر خير ولي لم يزل برا ً رقيا ً
وفاض الجود والإحسان حتى حسبناه حنانا ً أو أقيا
بلغنا فوق ما كنا نرجى هنيئا ً يا بني الدنيا هنيا
سألنا الله يرزقنا إماما ً نسر به فأعطانا نبيا
وفتحت مصر في أيامه وأعمالها على يد الملك المنصور أسد الدين , ثم الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد أقام المستضيء بأمر الله في الخلافة 10 سنين وتوفي سنة 575 هـ وأولاده أبو العباس أحمد الناصر لدين الله ولي العهد وأبو منصور هاشم .ثم تولى بعده الأمام الناصر لدين الله أبو العباس أحمدبن المستضيء بالله , بويع له 575 هـ البيعة العامة وأخذ الأمر حقا ًوقوة وفتح البلاد طاعة وعنوة وطبقت دعوته جميع الآفاق وطلعت شمس كلمته باهرة الإشراق .







الباب الأول
الفصل الثاني
أ-الحياة السياسية في العصر العباسي
1-زمانية العصر العباسي :
يمتد العصر العباسي من عام 132هـ وينتهي عام 656هـ وقد قسمه المؤرخون إلى أربعة عصور، تميز بعضها بالقوة ،وتميز البعض الآخر بالضعيف بحيث لم يستطع الخلفاء في نهاية الأمر أن يحموا أنفسهم ، فكان سقوط بغداد واجتياحها من قبل هولاكو ، وانتهاء هذه الخلافة.
2-مكانية العصر العباسي:
بسط العباسيون نفوذهم على مساحة شاسعة من الكرة الأرضية، تضم أجزاء من قارة أسيا وقارة أفريقيا، وتشتمل بلاد فارس والجزيرة العربية وبلاد الشام ، ووادي النيل، وشمال أفريقيا.
وأقاليم الخلافة العباسية بعضها حار،وبعضها معتدل تضم الساحل والجبل والسهل والصحراء بحيث أضحت متكاملة اقتصادياً.
3-المعطى السياسي للخلافة العباسية:
ينتسب العباسيون إلى العباس عم الرسول محمد عليه السلام ذي المكانة العالية، والذي كان يستسقى به عمر بن الخطاب بعد موت الرسول الكريم إذا شحّ المطر، وقد كان هؤلاء العباسيون يؤازرون علي بن أبي طالب- رضي الله عنه – في طلب الخلافة أولا إلاّ أنّهم ما لبثوا أن تنبهوا إلى قيادة الصراع .
جند الأمويين ، ووثقوا العلاقة مع أبي هاشم بن محمد ابن الحنيفة إمّام الشيعة الكسانية من خلال محمد بن عبد الله بن العباس والذي تولى الإمامة لهذه الفرقة بعد موت أبي هاشم، ثم تبع محمداً بن العباس بعد موته أخوه إبراهيم بن عبد الله بن العباس الذي انتصر العباسيون في زمنه على الأمويين بقيادة أبي مسلم الخراساني في معركة الزاب شمال العراق عام 132هـ- 750هـ
4-حكم العباسيين ومعارضوهم:
بعد انتصار العباسيين على الأمويين ، نقلوا مركز الخلافة من دمشق إلى العراق ،وبرز منهم خلفاء أقوياء : ((أبو العباس السّفاح- أبو جعفر المنصور- المهدي- الرشيد – المأمون- المعتصم)) وقويتْ شوكة العناصر الفارسية والتركية في أيامهم وبرزت معارضة لهم من العلويين في الداخل ومن البيزنطيين في الخارج، وأخد العنصر العربي يضمحل ، وتفقد الثقة به كرجل دولة ،، وكثر الاعتماد على العناصر الأعجمية ، ودبّ الضعف في الخلفاء الذين كان منهم (الواثق – المتوكل) ثم ضعف مركز الدولة في بغداد لتنفصل بعض من الإمارات عن الدولة : (الحمدانية في حلب – العقيلية في الموصل – الإمارات العلوية في طرستان 0 الطولونية – الأخشيدية – الفاطمية في مصر والشام – البويهية في فارس).
وتنتهي الخلافة العباسية بخلع هولاكو الخليفة العباسي وشنقه عام 656هـ - 1258م.
كانت معركة الزاب الأعلى أحد روافد دجلة الذي ينصب قرب الموصل نهاية العصر الأموي وبداية عصر جديد، فقد تحطم ملك مروان بن محمد عام (132هـ) وطورد الأمويون في كل مكان، ولم ينج منهم سوى نفر قليل على رأسهم صقر قريش عبد الرحمن الداخل الذي أسس ملكاً جديداً لبني أمية في الأندلس .
وجاء عهد جديد انتقلت فيه عاصمة الخلافة إلى العراق وجعل أبو العباس الهاشمية (مدينة قرب الكوفة) قاعدة انطلاق له حيث أتم تأسيس الدولة وأخضع الثائرين، وفكر في تأسيس عاصمة جديدة كانت محط أنظار المهندسين هي بغداد، وبناها الخليفة أبو جعفر على شكل مستدير قصره في وسطها وقصور الحاشية والوزراء حوله، وقد تميزت هذه الدولة سياسياً بحقبتين :
أولاً- الحقبة الأولى (العراقية).
ثانياً- الحقبة الثانية (المصرية).
أولاً- الحقبة العراقية في بغداد:
امتدت هذه الحقبة 132هـ - 656هـ أي حتى سقوط بغداد بيد التتار وقد قسمها المؤرخون إلى:
آ- فترة القوة والعمل ومدتها 100عام (132هـ - 232هـ) .
ب- فترة استبداد المماليك الأتراك ومدتها 102عام (232هـ- 334هـ) .
ج- فترة استبداد الملوك البويهيين ومدتها 113عام (334هـ - 447هـ) .
د- فترة استبداد الملوك السلاجقة وتمتد حوالي 85عاماً .
هـ- فترة استعادة الخلفاء العباسيين بعض نفوذهم السياسي مع غلبة القادة العسكريين وتمتد (120عاماً)

ثانياً - الحقبة المصرية:
وقد امتد منذ سقوط بغداد (656هـ) حتى عام (922هـ) وذلك بسقوط الحكم المملوكي بيد العثمانيين عام /1516م/ في معركة مرج دابق حيث بدأت فترة جديدة، وقد بنيت في الحقبة المصرية مدينة القاهرة وكانت السلطة في هذه الحقبة اسمية للخلفاء وفعلية للمماليك:
ب-المظهر السياسي والإداري في العصر العباسي
بدا المظهر السياسي والإداري عند العباسين من خلال الدواوين والحجابة والسفارات , والديوان أصلا كلمة فارسية معناها السجل , وأول من أنشأه الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى لتسجيل الجند( ديوان الجند ) وتبعه الأمويون الذين أنشؤوا أيضا ديوان الرسائل والإنشاء وديوان الخاتم والبريد ثم جاء العباسيون وأضافوا لها ديوان الطراز الخاص بلباس الخليفة وأقاموا ديوان العزيز ( المجلس الأعلى للخليفة ) وديوان الجهبذة ( النظر في مصالح أهل الذمة ) وديوان الحجابة . ومن حيث السفارات العربية في هذا العصر فقد ازداد نشاطها حيث أوصل العباسيون سفاراتهم إلى بلاد الفرنجة ( سفارة الرشيد لشارلمان ) ويعد من يقوم بذلك بمثابة وزير الخارجية وقد عرفت السفارات العربية قواعد اللباقة ( البروتوكول ) كمراسيم الاستقبال وأوراق الاعتماد وجواز السفر والحصانة الدبلوماسية .
وقد اهتم العباسيون بالجيش والأسلحة الفردية ( الدروع – الخوذ – الدبابة – رأس الكبش – البرج المتحرك – سلالم الحصار ) ورتبوا الجيوش ووضعوا طرق القتال وشكلوا طلائع الاستطلاع وعرفوا كلمة السر ووضعوا أسطولا ً بحريا للقتال .
ج-المظهر القضائي والتشريعي في العصر العباسي:
تطور القضاء في زمن العباسيين وتجددت سلطات القاضي واختصاصاته في الإقليم واستحدث الرشيد منصب قاضي القضاة بمثابة ( وزير العدل ) وللقاضي مناصب عدة ( النظر في المنازعات المدنية – النظر في الأوقاف – تنصيب الأوصياء – المظالم – الشرطة – بيت المال ) وكان لصاحب المظالم سلطة أعلى من سلطة القضاة في ردع الخصوم ومنع التسلط ومن اختصاصه أيضا مراقبة تعدي الولاة على الرعية والنظر في أجور العمال فيما يجبونه من مال وتصفح أعمال كتاب الدواوين وأعمال رجال الدولة .
أما الحسبة فقد كانت مهمتةبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن اختصاص المحتسب المحافظة على الآداب والنظامومراعاة أحكام الشرع ومراقبة الغش والتدليس والأسواق ومراقبة الأسعار ومخالفة الطرق العامة والأبنية وتعديات الجيران والنظر في أهل الصنائع ومنع أصحاب الدواب من استعمالها في ما لا تطيق .
الباب الأول
الفصل الثالث
الحياة الاجتماعية في البيئة العباسية:
نظراً لامتداد العباسيين في فترة القوة واقتدارهم وسيطرتهم على مقاليد الخلافة، توسعت الحياة وتدفقت الأموال وتوافدت إلى العاصمة عناصر أعجمية طبعت الحياة الاجتماعية بمنهاج تفكير جديد حيث اختلطت العادات و الأعراف الأعجمية مع الأعراف العربية، وقويت شوكة الحركة الشعوبية واهتمت الدولة بالزراعة وشق الأقنية للري وعززت الصناعة، ومال الناس إلى اللهو وشاع الفراغ فتفننوا في المأكل والملبس والمشرب وراحت أسواق الغناء والرقص وشاع التسري، وانتشرت تجارة الرقيق ومال الناس إلى ممارسة هويات مختلفة كالصيد والشطرنج وسباق الخيل، وزاد الاهتمام بالعلماء والأدباء والشعراء والمغنين والموسيقيين فأصبحت مجالس هؤلاء تعج بها بلاطات الخلفاء والأمراء.
ونظراً لاتساع الدولة العباسية ، وكثرة الفتوح وتدفق أموال الخراج والفتح، نشأت مجموعة من الطبقات في العصر العباسي تتمثل في طبقة السادة، وطبقة التجار، وطبقة الموالي، وطبقة العامة ، وطبقة الرقيق والجواري.
وتنوعت مذاهب العيش في هذا العصر بسبب اتساع رقعة الدولة ، وانتشار العلم والأخذ عن الشعوب الأخرى علومها وعاداتها ، فكان مذهب الزهد بزعامة أبي العتاهية ، ومذهب الزندقة بزعامة ابن المقفع والمجون بزعامة أبي نواس ، والتصوف بزعامة السهر وردي.
-النزعة القومية والشعوبية: واحتدام الصراع بين العرب والفرس فقومية العرب يمثلها الأصمعي والجاحظ وابن قتيبة والمتنبي وأبو فراس .... وغيرهم أما قومية الشعوبية يمثلها بشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبو نواس .... وغيرهم .
-النزعةالإقليمية والإنسانية: وذلك من خلال تصوير البخلاء من أهل مرو، ومن خلال تأملات أبي العلاء المعري لإنسانية الإنسان وكتابات الجاحظ .
-الصناعة اللفظية والعمل الذهني :وقد تمثل ذلك بالاهتمام بالشكل تأثراً بالثقافة الفارسية واعتماد الصنعة الزخرفية في الكلام ، ومثل ذلك مسلم بن الوليد ، والاهتمام بالمعنى تأثراً بالثقافة اليونانية كما عند أبي تمام ، والمعادلة بين الشكل والمعنى كما هو عند ابن المقفع والمتنبي .
الاتباع والابتداع في الشكل والوزن بين قديم وحديث وظهور أوزان جديدة وأشكال جديدة للشعر.
-الحركات الاجتماعية في العصر العباسي
1 ـ حركة أخوان الصفا.
قامت هذه الحركة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي، وقد كانت عبارة عن جمعية سرية اتخذت من البصرة مقراً لها، وجاءت تسمية هذه الجمعية من العشرة الصاغية، والصداقة النقية منهم الأصدقاء الأوفياء توادوا وتحابوا وأقبلوا على العلم وتعاونوا فيه. وهي جماعة سرية باطنية مزجت الفلسفة اليونانية والعقيدة الباطنية بالعقيدة الإسلامية في خليط متضارب وبالتالي فهي أول ثمار الحركة الباطنية التي استغلت والتصوف الفلسفي ستاراً لنشر رسائلهم وأفكارهم وكان أول ظهورها في البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري. وقد ألفوا ما يقارب الخمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة عملياً وعلمياً ، وأفردوا لها فهرساً وسموهما رسائل إخوان الصفا التي تعتبر برنامج العمل السري الذي يستهدف القضاء على الإسلام ودولته لتأسيس دولتهم التي تضم شتى العقائد الوثنية والمجوسية والإباحية وكان للمذهب الأفلاطوني الجديد تأثيره البالغ في هذه الرسائل
1-بوحدة الوجود على قول أفلاطون
2-وقالوا إن الإمام إلهي الذات وإنه معصوم بينما لا يرى الإسلام معصوماً سوى الرسول عليه السلام بما عصمه الله تعالى فيه،
3-وأيضاً دعوا إلى وحدة الأديان وإلغاء التعصب الديني
4على أنه لا حاجة للشرائع للخاصةمن الناس
5-ودعوا إلى التملص من الفرائض إلا في حق العامة
6-وقالوا إن العلم له باطن وغير ذلك مما يدل على انحرافهم ، وخروجهم على مفهوم الإسلام الأصيل هدماً للمفاهيم الأساسية للإسلام ، وهدماً للنبوة وحرباً للإسلام ، وطعناً في الصحابة.
ومن أهم أحلام هذه الحركة: محمد بن شيرا البستي وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، ومحمد بن أحمد النهر جودي والعوضي،وزبير بن رفاعة .
وصلنا من أخوان الصفا اثنين وخمسين رسالة من أهم مؤلفيها زيد بن رفاعة ومحمد بن نصر المقدسي وقد جمعت هذه الرسائل شتات العلم وتقسم هذه المسائل من الناحية العلمية إلى أربعة أقسام:
1-الرسائل التعليمية الرياضية وتبحث في العدد والهندسة والنجوم والموسيقا
2-الرسائل النفسانية العقلية وتبحث في مبادئ الموجودات العقلية والعقل والمعقول والبعث والقيامة
3– الرسائل الجسمانية الطبيعية وتبحث في الحركة والزمان والمكان والعالم والسماء والكون
4– الرسائل الشرعية والدينية وتبحث في الآراء والديانات والطريق إلى الله عز وجل وقد استوعبت فلسفتهم المذاهب جميعاً ، فللإنسان العاقل حسب رأيهم حرية اختيار المذهب والرأي الذي يراه ولكنهم لا يسيرون في هذا الرأي بلا حدود بل يذكرون رأي الدهرية التي تقول بقدم العالم وبأنه لا صانع له ، وقد دعوا إلى تفهم جديد للدين أي تفسيره بالفلسفة والعلوم الطبيعية، ورسائل أخوان الصفا لا تنتهج في كتابها منهجاعلمياحيث خلطوا العلم بالسحر والفلك بالتنجيم، ولكنهم كانوا أول من وضع كتاباً بالعربية يحوي بين دفتيه آراء فلسفية في الفيزياء وما وراء الطبيعة وبقية فروع الفلسفة،وهم يعدون من الأوائل الذين فتحوا باب عبثية الفكر على مصرعيه في الإسلام
2 ـ الشعوبية:وأثرها في إقصاء العنصر العربي عن قيادة الدولة العباسية.
الشعوبية إحدى حلقات مسلسل المؤامرة والكيد للإسلام وأهله متسترة أحياناً بحب آل البيت والتشيع لهم، وأحياناً بستار الأدب والفنون، وقد انتظمت في طياتها عدة دعوات هدّامة من بينها الباطنية والقرامطة والزندقة والجهنية . وتهدف في مجموعها إلى إذاعة موجة الإلحاد التي ترمي إلى إنكار الأديان كلها ومن بينها الإسلام، وكان منهاج عملها يقوم على أساس الزندقة الفكرية والانحلال الاجتماعي ومهاجمة القيم الأخلاقية والسخرية بأصول الدين والنظم الاجتماعية ، وإثارة الجدل والشك في تحريم الخمر وغيرها من المحرمات ، وتارة بالهجوم على الثقافة العربية واللغة والأدب والتاريخ والانتقاص من شأن العرب بهدف التشكيك في السواعد التي حملت الإسلام ، ومحاولة إسقاطها ، وإسقاط قواعد الفكر الإسلامي معها ، وتارة أخرى بإعلاء الشخصيات غير العربية في التاريخ الإسلامي سواء من الصحابة أو من غيرهم، واتخاذ حركة الترجمة والنشر وسيلة لإحياء المجوسية ، ونشر كتب المانوية ، والمزدكية ، والزنادقة وكذلك إعلاء شأن الفلسفة اليونانية والعقل الإنساني على الروح الرباني مما أوجد في المجتمع الإسلامي طبقة من المترفين والدعاة لإحياء المجوسية ، مما دعا أئمة السلف الصالح مثل الحسن البصيري وتلميذه محمد بن سيرين إلى مواجهة هؤلاء بقوة، وظهر خالدا وبرنامجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب الإصلاح ، وأيضاً سهل بن سلاقة الأنصاري كما قامت فرق من الحنابلة لنفس الأمر ذلك وكان للمعتزلة كذلك دور كبير في التصدي لفتنة الشعوبية فألفوا في ذلك الكتب وأقاموا المناظرات معهم، وكانت هذه الفتنة أحد العوامل الرئيسية لنشأت علم الكلام لاستخدام هذا العلم في مواجهة الزنادقة. ومن أبرز دعاة الشعوبية : لقد حمل لواء هذه الدعوة كثيرون في مختلف الميادين ومن أبرزهم: أبو النواس حيث دعا الناس إلى الخمر وحث الناس عليها مستتراً بالظرف وبشار بن برد حامل لواء نشر الفساد الخلقي وإشاعة الفسوق بالنساء ، وحماد عجرد، وأخوان الصفا، حيث عارضوا الشويعة الإسلامية بنظام جديد نظموه من خليط من الأفكار القديمة ، مما حدا بهم إلى إنكار البعث وفسروا الآخرة وأحوالها تفسيراً باطنياً ، وابن الراوندي ومحمد بن زكريا الرازي حيث أثاروا الشكوك حول مفهوم الإسلام ، وإنكار الوحي ، وعبيد الله بن ميمون القداح حيث استخدم الباطن كوسيلة لضرب الدين وإنكار المفاهيم الأساسية للإسلام ، وذلك من خلال تفسير القرآن الكريم تفسيراً باطنياً فلسفياً
ومنأبرز سمات الأدب الشعوبي :
1- الإباحية ونشر الانحلال في مجال الشعر
2– انحراف الشعراء في أشعارهم إلى التغزل الفاحش والمنادمة والإغراء بالخمر والحسان ، وكلها عوامل دخيلة على الأدب الإسلامي ، بل هي من مخلفات المجوسية الفارسية بمذاهبها ، والمزدكية والمنانوية، وما زال للشعوبية امتداد في الساحة العربية بين مدعي الثقافة من أدباء ومفكرين يعلون من شأنها ومن شأن دعائمها بالإضافة إلى إحياء تراثها.
3-الزهد :
وهو تيار اجتماعي ظهر بفعل التمايز الطبقي بين الناس يسبب وجود فوارق مادية ساعد على ذلك التدين العاطفي في المجتمعات العربية وكان من أبرز الشعراء الذين مثلوا ذلك أبو العتاهية


4-التصوف:
وهو طريقة في الحياة من حيث المأكل والملبس تعتمد على التقشف ولبس ثوب واحد دون تغييرة لمدة طويلة، والتعبيرعنذلك من خلال الموقف الديني وفلسفة الحياة على أنها مدة قصيرة وفانيةوأدباؤه كثر.

الباب الأول
الفصل الرابع
الحياة الاقتصادية
المظهر الاقتصادي والمالي في العصر العباسي
ازدادت أهمية الاقتصاد في هذا العصر عما كانت عليه بسبب اتساع رقعة الدولة،1-الزراعة:ففي مجال الزراعة نجد ازدهارا كبيرا ً حيث كثرت كتب الزراعة والنبات وبرز علماء طوروا الزراعة كابن البيطار وأبي حنيفة الدينوري صاحب كتاب النبات , واستعمل العرب الأسمدة وأدخلوا فن التلقيح فيها وعرفوا تطعيم الأشجار واستخرجوا أصنافا جديدة وأدخلوا إلى أوروبا زراعة الأرز وقصب السكر والزيتون والمشمش واعتنى العباسيون بمشروعات الري وأنشؤوا ( ديوان الماء ) في خراسان وشقوا الأبنية والترع وبنوا السدود واستخدموا الدولاب والناعورة والشادوف وأعادوا لسواد العراق خصبه ونماءه وأهم المحصولات التي زرعوها ( الشعير – القمح – الأرز – التمور – السمسم – القطن – قصب السكر – الأزهار – الرياحين – الزيتون – الأشجار المثمرة ) .
2-الصناعة :وفي مجال الصناعة فقد تقدمت صناعة الأسلحة وازدهرت صناعة الأثاث والرياش والنسيج بأنواعه ( الحرير – القطن – الصوف – الكتان ) والبسط والسجاد والخيام والسفن والخزف والزجاج وضرب النقود والأوسمة والفسيفساء والساعات وأدوات الجراحة الطبية والأدوية واستخراج الكحول والصابون والورق والجلود
3-التجارة : وفي مجال التجارة فقد اتسعت البلاد وتنوعت منتجاتها وتوحد النقد وارتقت الصناعة مما زاد النشاط التجاري بين الأقطار داخلا وخارجا ً وأتقن التجار العرب التجارة علما ً وعملا ً فطافوا الدنيا وكانوا رواد العلم وصار لهم قوافل تجارية بحرية هامة وكبيرة وتعاملوا مع غيرهم بالدراهم الفضية والدنانير والصكوك ( الشيكات ) والسفنجة ( الكمبيالا ) وحاربوا الربا ومن المواد التجارية التي تاجروا فيها ( الذهب- القصدير – الخزف – الأحجار الكريمة – التوابل – الزيوت العطرية – القطن – الكتان – الصوف – الحرير – البسط – خشب الأبنوس – الجلود – الفراء ) . ومن أشهر المراكز التجارية ( دمشق وحلب بغداد – البصرة - مصر – الأندلس – المغرب العربي – فارس – خراسان – القاهرة – الإسكندرية – طرابلس – القيروان – طليطلة – غرناطة – بخارى – سمرقند ) .



الباب الأول
الفصل الخامس
الحياة الفكرية
المظهر الفكري عند العرب في العصر العباسي
عرف العصر العباسي تطورا فكريا ً متميزيا ً تمثل في اختلاط العرب بغيرهم من الأمم الأخرى كالفرس والهنود واليونان وتطورت حركة التعريب والترجمة ونقل ما لدى الشعوب الأخرى من أعمال فكرية وأدبية وفلسفية ودينية ؛ فقد اهتم أبو جعفر المنصور بالحركة الفكرية ، فاستقدم العلماء إلى عاصمته وأرسل في طلب الكتب العلمية ونقل الطبيب ابن البطريق بعض الكتب ورعى هارون الرشيد ( بيت الحكمة ) في بغداد وحلب إليها الكتب الكثيرة وبلغت الحركة الفكرية أوجها في عهد المأمون وحشد لها علماء أجلاء وكان يكافئ المعربين على عملهم بمثل وزن الكتب المعربة ذهبا ً، وأرسل موفديه في طلب الكتب اليونانية واتصل بالإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث لتسهيل مهمة موفديه وشهد العصر العباسي ازدهارا كبيرا في إنشاء المكتبات العامة والخاصة الملحقة بالمدارس والمساجد وقد ضخت هذه المكتبات نفائس الكتب العلمية والأدبية والدينية وفي المجال الأدبي فقد ظهر عباقرة الشعراء والنثر العربي وفي علوم التاريخ والجغرافية والفلسفة ومن أشهر الفلاسفة ( الكندي – الفارابي ) . أما في علوم الطب فقد ازدهر بفضل مركز ( جند بيسابور ) وبعض الأطباء السريان وبفضل حركة التعريب والترجمة وشجع العباسيون دراسة الطب وفتحوا المستشفيات والحقوا بها الصيدليات وتطور الطب في هذا العصر من خلال التخصص والتشخيص والعلاج الوقائي والاهتمام بالطب النفسي والعصبي والأمراض السارية والتشريح والجراحة كما واخترعوا الأدوات الجراحية المتنوعة واستعملوا المخدر في العمليات الجراحية واكتشفوا الدورة الدموية الصغرى والكبرى ومن أشهر الأطباء ( ابن النفيس – ابن سينا ).ومن أشهر الكتب الطبية ( الأرجوزة في الطب ) ( كتاب القانون ) .
وكذلك أدى التبدل السياسي في الحكم، والاعتماد على العناصر غير العربية إلى التطلع إلى حياة أكثر جدة وأعمق فكراً، خاصة وأن الخلفاء شجعوا أصحاب الثقافة على النقل والترجمة عن الهندية، والفارسية ، و السريانية ، كما أنه نقلت العلوم من مكانها ونقلت الآداب والفنون وطرق الجيش.
الباب الأول
الفصل السادس
الحياة الدينية
تجذر الإسلام في حياة الناس وأصبح القرآن الكريم المصدر الثر للأحكام الحياتية والدينية ، وإن حاول الكثير من الأدباء والشعراء والمفكرين من غير العري حرف مسيرته بإدخال الأفكارالمانوية والمزدكية والأفلوطنية في تعاليم الدين الإسلامي وبرزت تيارات متعددة على رأسها الفكر الاعتزالي ، وقد كان الفكر الاعتزالي من أهم التيارات الجارفة في العصر العباسي حتى إن المأمون اعتنق هذا المذهب رسيماً وشايعه على ذلك المعتصم والواثق، وتفرعت المعتزلة إلى فرق أهمها (البشرية) نسبة إلى بشر بن المعتر الهلالي، و(الثمامية) نسبة إلى ثمامة بن أشرس، والهذبية نسبة إلى أبي الهذيل العلاّف و(النطاعية) نسبة إلى أبي اسحق النظّام، و(الجاحظية) نسبة إلى أبي عثمان عمرو الجاحظ.
وكانت البصرة المرتع الخصيب للاتجاه الاعتزالي والتي كانت قد احتضنت الجاحظ فكراً وأدباً وشخصيته إذ أنها مركز حساس يصل إيران بالعراق والجزيرة العربية بالشام أيضاً، وبقي الفكر السني على مسيرته التي خطها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
الفصل السابع
الحياة والأدبية
حاول الخلفاء العباسيون بناء دولتهم على غرار بناء الدولة الفارسية فاهتموا بالأدباء والشعراء لما لهم من أثر كبير في بناء الدولة وتقدم سيرها وفتحوا أمام أرباب العقول والمذاهب ورجال الفكر حرياتٍ واسعة وكثر الباحثون والدارسون وأئمة المذاهب الدينية وتم تدوين الحديث وتسجيل اللغة والشعر، وكثر المترجمون عن اليونانية والسريانية، ونشأت فلسفات حياتية ودينية وزهدية انطلقت من مزج الدين بالفلسفة أحياناً، وتسلح العلماءوالأدباء بالجدل والمنطق، وتميزت الحياة الأدبية بالغنى والتنوع والاتساع وغلبت عليه الحرية واتكامل شعرا ونثرا وأصبح لأدب العباسيين خصائص متميزة
-خصائص أدب البيئة العباسية:
ومن خصائص أدب البيئة العباسية:
أن الأدب العباسي صورة حقيقية عن البيئة العباسية وقد امتاز هذا الأدب بمجموعة من الخصائص تمثلت في:
1-العلمية
2- والسماح بحرية الفكر : وقد مثل ذلك المعتزلة وأخوان الصفا .
3-الواقعية والاجتماعية: وذلك من خلال ما صوره لنا ابن المقفع والجاحظ في كتابيهما (الأدب الكبير والأدب الصغير – النجلاء ) . وكذلك الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي.
4-التجديد والمحافظة: وذلك بانقسام الأدباء إلى قسمين ، قسم مقلد يحافظ على السلوك الأدبي الموروث (كالأصمعي – البحتري – أبي فراس )وقسم يمثلالتجديد : (ابن المقفع – الجاحظ – أبي نواس – أبي تمام ) .
5-الالتزام السياسي والمذهبي والمعاناة الفردية : وقد تمثل ذلك في صراع العباسيين مع العلويين ، وانقسام الشعراء إلى موالٍ للعباسيين كمروان بن أبي حفصة والبحتري، وموالٍ للعلويين كدعبل الخزاعي وابن الرومي والسيد الحميري وكذلك
6-وجود صراعات سياسية قومية عبّر عنها المتنبي وأبو فراس.
7-الحسية والغنائية : وقد تمثلت بتصوير الشعراء للمحسوسات والمرئيات كالغزل الحسي عند بشار ، وتصوير ابن الرومي للخبّاز وصاحب الزلابيا والحمال الأعمى ، وتمثل الاندفاع نحو الغنائية باستلهام الوجدان الفردي ، والعزوبي .




الباب الثاني
التغيرات التي طرأت على الأدب العباسي
الباب الثاني
الفصل الأول
التغيرات الجمالية الفنية في الأدب في العصر العباسي
شهد العصر العباسي تغيرات فنية في الأدب مستفيدة من التجارب الفنية في العصر الجاهلي والإسلامي والأموي من خلال التغيرات السياسية والاجتماعية
والواقع إن التغير السياسي يحدث فجأة ويأخذ شكل الطفرة ، وليس معنى التغير السياسي المفاجئ تغييرا مفاجئا أيضا في الإبداع الفني ، وإنما يحدث التغيير الفني في نطاق التطور الذي يأخذ بعض الوقت مهما كانت سرعته ، لقد حدثت النقلة السياسة من الأموية إلى العباسية فجائية ، وأما النقلة الفنية في ميدان الشعر والحضارة فقد اتخذت عدة مراحل .
إن التغير السياسي – لطابع السرعة فيه – قد يصادف تألقا سريعا ، وليس الأمر كذلك في النتاج الأدبي الذي يحتاج إلى فترة تحول ثم نضوج ثم تألق ، ومن ثم فقد تخبو الجذوة السياسية وتتألق الجذوة الأدبية والفنية ، إن ابن الرومي وابن المعتز وأضرابهما ظهروا في بداية فترة الانهيار السياسي للدولة العباسية ، والمتنبي ظهر مع سقوط بغداد تحت سنابك خيل الديلم وعاش في عهد تمزق الدولة العباسية شر ممزق وأخذ يتنقل من إمارة الحمدانيين في حلب إلى إمارة الإخشيديين في مضر إلى إمارات الديلميين من بني بوية في العراق والعراق العجمي ، وكذلك كان أبو العلاء المعري .
وليس الأمر في هذا الموضوع مقصورا على الشعر وحده ، فالنثر الفني لم يتألق إلا في عهد ما يسمى بالدول المنقطعة التي هي حصاد هشيم الانحلال والتحلل الذي أصاب الدولة العباسية الكبرى ، فالكاتبان الوحيدان اللذان عاشا في عهد بني أمية هما عبد الحميد الكاتب وعبد الله بن المقفع ، ثم قتل عبد الحميد مع مروان بن محمد آخر ملوك بني مروان وبقي ابن المقفع بعض الوقت في عهد العباسيين إلى إن لقي مصرعه ، وتصل الدولة العباسية إلى أوج عظمتها في عهد الرشيد ولا نستطيع أن نقول : إن الكتابة العربية أو النثر كانت آنذاك في مرتبة عليا من الإجادة ، وإنما بلغ النثر أرقي منزلة له بعد تفتت الدولة العباسية ، وبعد احتلال بغداد من قبل بني بويه ، بدأنا نسمع عن ابن العميد والصاحب بن عباد والوزير المهلبي وأبي إسحق الصابي وأبي بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمداني وأبي حيان التوحيدي وأبي الفتح كشاجم وأبي الفرج الببغاء أعلام النثر العربي الذي لم ينتج عصر من عصور الأدب اللاحقة فنا مثل فنهم أو عددا مثل عددهم .
وإذن: فليس معنى سقوط دولة بني أمية وقيام دولة بني العباس إن يتحول شعر الشعراء بين يوم وليلة إلى لون أخر وفن أخر يسمى اللون العباسي أو الفن الهاشمي ، فإن للسياسة أن تغير نفسها في إي وقت تشاء ، وأما الشعر فهو كالكائن الحي الذي لا ينتقل من مرحلة الطفولة إلى دور الشباب مرة واحدة بل يأخذ مراحل متتابعة متدرجة . فالأدب شعره ونثره تتقدم به الأيام ، ويظل بعضه ناظرا إلى الماضي مستمسكا بعاداته وتقاليده ، والبعض الآخر يأخذ من بيئات الماضي بعض سماتها ويأخذ من البيئة الحاضرة قدرا قد يكون مساويا لما أخذه من بيئته الماضية ، وبعض ثالث يكون تأثره بالبيئة الجديدة أكثر من سابقته ، فيطور نفسه معها ، ولكن بحكم سنة الطبيعة تظل أعماقه مرتبطة ببيئته القديمة يحن إليها وتهفو نفسه إلى أثارها ، وأما النقلة الأدبية المفاجئة فهي مستحلية الحدوث لأنها ضد طبيعة الأشياء ، ومن ثم فإننا حين نتحدث عن الشعر العربي الذي عاش في فترتي بني أمية وبني العباس فإننا نجده يحبو نحو التداخل المنظم ، ويسير سيرا بين الوئيد والنشط لكي يلتحق بالمجتمع الجديد ، يتطور شيئا فشيئا حتى يكون هو ومنشؤة المنطلق الذي منه يقفز الشعراء الذين ولدوا في الدولة الجديدة قفزات تدفع بأكثرهم إلى الأمام وأحيانا ترتد ببعض منهم إلى الوراء .
وانطلاقا من هذا القول يكون شعر مخضرمي الدولتين يسير على مراحل ثلاث : 1-مرحلة المحافظين المتمسكين بالأرضية الفنية الأموية ،
2-مرحلة تقف بجسمها على (( الأموية )) وتطل برأسها على ((العباسية
3- ومرحلة تقف بنصفها على ((الأموية )) وتضع نصفها الآخر في العباسية .
1-المرحلة الأولى: المحافظة التي امتازت بنقاء الأسلوب وإشراقه جزالة القول وفحولته الأحمير السعدي الذي عاش أكثر حياته في الصحراء وفي الخلوات قاطع طريق ، إذا ما خلا لنفسه رجعت الصحراء أصداء شعره ، ورددت الفيافي رجع قصيدة ، وتلقي الوحش من وديع ومفترس عربون صداقته له في قوله
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير
ومن جملة أبناء هذه المرحلة السائب بن فروخ الذي اشتهر باسم أبي العباس الأعمى ، وكان ذا ولاء فريد لبني أمية مدحهم في أيام ملكهم وبكاهم بعد اندثار دولتهم ، وهجا أعداءهم من بني الزبير وإن لم يجرؤ على هجاء بني العباس ، كما عرض لبعض كبار شعراء زمانه هاجيا مثل البعيث المجاشعي وعمر بن أبي ربيعة ، وأبو العباس في أسلوبه ومعانيه من الفحولة والصفاء والبعد عن أسلوب الحضر بحيث يعتقد أنه أصر على إن يظل مقيما في العصر الأموي رغم مجيء عصر أخر هو عصر بني العباس ، يتنفس أنسامهم ويعيش في ذكرياتهم ويترحم على أيامهم ، وهو بذلك يصر على ((الأموية)) إصرارا عنيدا لم تنفع معه محاولات الملك العباسي أبي جعفر المنصور .على إن أشهر أبناء هذه المرحلة ذكرا وأنبههم شانا هو الشاعر الراجز ابن ميادة الذي كانت المحافظة طابعا له وميزه ظاهرة فيه ، لقد التزم (( الأموية )) التزاما كاملا ، وأحيا تقاليدها وحافظ على معالم تراثها بخبرة وشره ، فمن ناحية أخيرة التزم العفة في الغزل الذي برع فيه براعة سابقيه من زعماء مدرسته ، والتزم الأصالة في المديح مقتفيا آثار سابقيه من الشعراء الفحول أسلوبا و دربا ، بحيث يمكن أن نلحقه في كل من فني الغزل والمديح بمدرسته جرير ونعتبره امتدادا لها ، وإن إصرارا ما على الهجاء والنقائض يمكن ملاحظته في يسر عند ابن ميادة ، وكأنما قد شق عليه أن تموت ظاهرة فنية شعرية (( أموية )) حتى ولو كانت هذه الظاهرة جديرة بالزوال .
وقد نستطيع إن نضيف إلى هذه القافلة المحافظة من قافلة الشعراء المخضرمين المحافظين محمد بن ذؤيب المعروف باسم العماني الذي مدح الأمويين والعباسيين على حد سواء ابتداء من مروان بن محمد المرواني حتى الرشيد العباسي ، وكان يجمع بين قول الرجز والقصيدة إلا أنه كان بدوي الطبع في كليهما مع صعوبة وإغراب ومن شعراء هذه المرحلة أيضا الحكم الخضري إلا أنه لسوء الحظ لم يصل إلى أسماعنا من أخباره إلا القليل ، غير أنه من خلال معاركة مع ابن ميادة ومن خلال النماذج الشعرية التي قالها في هذا السبيل يمكن أن نضمه بغير ما تردد إلى مدرسة هذه المرحلة المخضرمة المحافظة التي حافظت على الوجه (( الأموي )) للشعر ورفضت في إصرار الانتقال من جو الفحولة والجزالة والإشراق والنقاء والتزام عمود الشعر إلى مرحلة تالية فيها شيء من التطور أو التجدد
2-المرحلة التالية: في شعر مخضومي الدولتين هي تلك التي وقفت على الأرض الأموية بنصف منها وأطلت على الأرض العباسية – فنيا – بنصفها الآخر ، ذلك إن شعراءها حافظوا على أصالة الجو الأموي للقصيدة قدر استطاعتهم ، ولكنهم راضوا أنفسهم على شيء من التطور في غير ما إسراف أو تسرع ، وظلوا يلتفتون إلى الماضي بين الحين والحين حتى لا تغيب عنهم صورته فيفقد شعرهم سماته التي لا يرضون عنها بديلا من إشراق ونضرة ونقاء وجزالة والتزام لعمود الشعر ، والذين يمثلون هذه المرحلة المتوسطة شعراء كثيرو العدد ، قد يختلفون مشربا ويتباينون في الشعر مذهبا ، ولكن كلا منهم خطا إلى الأمام خطوة أو خطوتين ووضع نفسه على دولاب التطور حتى يتحرك به دورة أو بعض دورة . منهم من أغرق نفسه في السياسة إغراقا كاملا مثل سديف وأبي عدي العبلي وأبي نخلية الراجز ، فسديف حمل على بني أمية في أيام ملكهم وكان يؤلب الناس عليهم ، وحين تقوم الدولة العباسية وتبقي على بعض الأمويين يسارع إلى استخدام شعره في القضاء عليهم واستئصال شأفتهم ويقول للسفاح في مواجهتهم :
لا يغرنك ما ترى من رجال إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أمويا
وسديف في نطاق عيشه فنيا في مرحلته يلاحق الأحداث السياسية وينقلب من عباسي الهوى إلى حسني العقيدة ، ويدعو لمحمد بن عبد الله بن الحسن ، وأما في ميدان الغزل فهو يجمع بين رقة غزل البادية وتأنق غزل الحضارة .
وقريب من سديف أبو عدي العبلي الأمير الأموي الذي يكره بني أمية ويشايع بني علي ، فيغضب قومه ويرضى بني الحسن ويؤيدهم ويعمل واليا لهم على جنوب الحجاز ، وهو على أمويته ينجو من محنة الإبادة التي قام بها السفاح ، وهو شاعر متدفق ثر هطال كالغيب ولكن تطوره كان وئيدا ، فهو وإن لم يغير أسلوبه البياني الأموي إلا أنه فتح موضوعا جديدا هو رثاء الدول ، فرثى دولة قومه رثاء جعل محمد بن عبد الله بن الحسن يبكي عليهم رغم ما الحقوا بأهله من عذاب واضطهاد ، والعبلي في تقديرنا خير الشعراء من أبناء بني أمية مقدرة على الشعر.
ومن هذه الفئة السياسية نفسها أبو نخلية الراجز الذي مثل عند العباسيين دور مسكين الدرامي عند الأمويين ، فإذا كان مسكين هو الذي أثار في بلاط معاوية أخذ ولاية العهد ليزيد دون بقية رؤؤس بني أمية ، فان أبا نخلية هو الذي أثار أخذ ولاية العهد في بلاط المنصور لابنه المهدي وكان الأمر ثابتا لعيسى بن موسى ، ولكن في حالة مسكين استطاع معاوية إن يحميه ، أما أبو نخلية فقد دفع حياته ثمنا لأرجوزته التي دعا فيها إلى تحويل ولاية العهد إلى المهدي .
ولكن شكل التحول الفني عند أبي نخلية ينحصر في تطوير الأرجوزة وتمهيد الطريق أمامها بحيث جعلها تسير على نسق قصيدة المديح خطوة خطوة من وقوف على الطلل ونسيب ورحلة إلى الممدوح مع التخفيف من أعباء الألفاظ الوحشية التي تعتبر لازمه من لوازم الرجز . ومن هنا تكون خطورة الخطوة التي خطاها أبو نخلية إلى الأمام في ميدان يستعصي التحول عن إطاره بحيث فرض نفسه أستاذا لكبار الشعراء الذين حاولوا قول الرجز في نطاق تمدنهم مثل الوليد بن يزيد وبشار وأبي نواس
ومن شعراء هذه المرحلة الوسطى الذين يطلعون على العصر العباسي وأقدامهم ثابتة على الأرض الأموية شاعر كبير حالت كثرة أخباره الفكهة دون تسنم مكانته الحقيقية في دنيا الشعر ومحاولاته الابتداعية فيه ، إنه أبو حية النميري ، نفسه في الشعر طيب ، وغنائيته صادقة الحب ، شفافة الحس ، مهتاجة الوجد ، وهو رقيق حواشي الشعر رائع الغزل اكتملت له تماما أسباب رسم الصورة الشعرية وهو أبرع من وصف حديث المرأة ، ومن أبرع من وصفوا الشيب
هذا وهناك شاعر مرقرق عرف في أوساط الدارسين بأنه شاعر عباسي ، بل شاعر المهدي والرشيد ، يصنف في المرحلة الوسطى ، إنه الشاعر الشهير مروان بن أبي حفصة ، فهو نجدي من اليمامة واشتهر بمدح معن بن زائدة الشيباني ورثائه وحاول أن يمدح الملوك العباسيين فلم يوسعوا له صدرهم ولم يفسحوا له في بلاطهم أول الأمر لإفراطه في مدح معن ثم إفراطه في البكاء عليه ، حتى ظنوا أنه لم يعد في كنانته من جديد القول ما يتلاءم مع مكانتهم التي هي بطبيعته الحال أرفع من مكانة عاملهم معن بن زائدة ، فكان على مروان إن يطور نفسه ، ولعله حاول ذلك في نطاق المعاني الجديدة فلم يستطع ، فحاول في نطاق الموضوع فأفلح معهم ، لأنه طرق بابهم من ناحية (( أحقيتهم )) بالخلافة والملك ، وفي الوقت نفسه عمد إلى غمز آل علي والتطاول عليهم ، فكان أن أصبح أقرب شاعر إلى قلوب بني العباس وأكثر الشعراء نوالا من عطائهم ، وأما من ناحية الأسلوب فقد لزم مروان طريقا وسطا بعيدا عن الصحراوية في جزالة ، قريبا إلى الحضرية في غير ما تهافت عليها ، فكان واحدا من أبناء هذه المدرسة التي تمثل المرحلة الوسطى بين فئة المرحلة الأولى الغارقة في الأموية وفئة المرحلة الثالثة المنطلقة إلى شأو بعيد من الحضرية والتحرر من بعض السمات التقليدية التي لم تعد في نظرها – جزئيا – متمشية مع طبيعة الحياة الاجتماعية التي تغير وجهها تماما على أيام دولة بني العباس .
3- المرحلة الثالثة: من مراحل شعر المخضرمين فهي مرحلة التطور والخلق والإبداع ، ولكن في ظل إطار التقليدية ، فشاعر هذه المرحلة الذي وطد دعائم التجديد وهيا سبيله لكل القادمين من بعده ، كان لا يزال ينظر إلى الماضي بعين وينطلق إلى المستقبل بعين أخرى فآدم بن عبد العزيز والحسن بن مطير وإبراهيم بن هرمة وبشار بن برد وهم رؤوس التجديد الحقيقي في الشعر العربي كانوا دائما يتمسكون بشخصيتهم الفنية (( الأموية )) على الرغم من انطلاقاتهم التجديدية أو الإبداعية ، فهم إذا مدحوا – والمديح خلال العصور الأموية والعباسية هو محك مقدرة الشاعر – كانوا يلتزمون السمة الأموية ، وكذلك الحال في الرثاء ، حتى إن فنانا كإسحق الموصلي كان بفضل مروان بن أبي حفصة على بشار ومروان محافظ كل المحافظة وبشار منطلق في بعض شعره كل الانطلاق ، ولكن مهما نظر شعراء هذه المرحلة إلى الخلف فإن كل واحد منهم قد خطا في ميدان التجديد والخلق والإبداع بقدر ما ، وإن اختلف من حيث الشكل أو تباين من حيث الموضوع .
فآدم بن عبد العزيز يقف على إيوان كسرى ويرثي مجد حضارة زائلة ، وهو في هذا يمثل الحلقة الثالثة لترتيب المراحل المتتابعة الثلاث لشعر المخضرمين وشعرائهم ، إن أبا العباس الأعمى من شعراء المرحلة الأولى يبكي ذهاب بني أمية ولا يتنكر لهم حتى في مواجهة الملك العباسي المنصور ، ثم يجيء أبو عدي العبلي ويمثل الحلقة الثانية بقصيدتين أحداهما همزية والأخرى سينية يرثي بهما بني أمية ودولتهم رثاء يؤثر على واحد من أعدائهم هو محمد بن عبدالله بن الحسن فيبكيه ، ويثير واحدا آخر من أعدائهم هو أبو جعفر المنصور فيطرده من مجلسه ، ثم تجيء الحلقة الثالثة التي تشكل فنا جديدا وإن يكن مبتدئا وهو رثاء الأمم ، ويكون صاحب أبيات الرثاء – وهو سيء لا يدعو إلى الغرابة – آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان ، ومن بعد آدم تكتمل لهذا الموضوع الجديد أسباب ثباته حين يجيء البحتري بعد ذلك مما يناهز قرنا من الزمان ليقول سينيته المشهورة في إيوان كسرى . وبعد ذلك يصبح بكاء الدول فنا أصيلا في الشعر العربي عند شعراء الأندلس .
و الشعراء الثلاثة أبا العباس الأعمى وأبا عدي العبلي وآدم بن عبد العزيز لم يعيشوا في أزمان متعاقبة ، لقد عاشوا جميعا في وقت واحد ، ولكن كان كل واحد منهم يمثل مرحلة من مراحل الكيفية الفنية للشعر ، هذا محافظ ، وذاك متطور ولكن جذور المحافظة تشده إليها بعنف والثالث متطور ولكن إغراء التجديد خطوته إلى الأمام تغلب نظراته إلى الماضي .
ولا يقف الأمر بآدم بن عبد العزيز عند حد معين من التجديد والإبداع وإنما يعمد إلى قول شعر صوفي رقيق يدهشنا لما بينه وبين أبيات رابعة العدوية من شبه بل مشاركة في الألفاظ والمعاني والبحر والروي إلى حد المطابقة ، ومع هذا الشعر الصوفي يقدم لنا آدم نماذج من الشعر الفكه الساخر – يشاركه في ذلك معاصرة أبو دلامة صاحب النوادر الطلية الذي يمكن أن يعتبر القالب الذي احتذاه ابن الرومي بعد ذلك بحوالي قرن من الزمان .
ومن شعراء هذه المرحلة الثالثة الحسين بن مطير الفحل الصوغ الخصب الشاعرية الرائع الموسيقي البارع تخليق المعاني ، الذي أعاد العذرية إلى الغزل فبدأنا من خلال نماذجه الشعرية نرى لونا جديدا في الإلحاح على المذهب الأخلاقي والحرص على إظهار معاني العفة في الحب ، كما بعث شعر الحكمة من جديد بعثا قويا وراسخا ، هذا ما كان منه في ميدان التجديد ، وأما في ميدان الخلق والإبداع فهو من أوائل من وصفوا الروض وأحسنوا الهجوم على المعاني المبتكرة والأساليب الرائقة وجاؤوا باستعارات جديدة وتشبيهات محبوكة وفنون بديعية من تشطير وطباق ومقابلة
ويجيء على رأس هؤلاء جميعا في المرحلة الثالثة شاعران مجيدان في نطاق الفحولة والشموخ من حيث ثبات الأقدام على الأرض الأموية زمانا وفنا ، مبدعان كل الإبداع في نطاق الانتقال بالصورة الشعرية إلى مرحلة فيها جدة فنية ورقة موضوعية ، أن هذين الشاعرين هما إبراهيم بن هرمة وبشار بن برد اللذان يمثلان المعبر الحقيقي العريض الذي عبر عليه الشعر من عصر إلى عصر ومن صورة إلى صورة ، وهو معبر يثري من يمر عليه ويرفد من يعبره بما نما على جنباته من ورود وأزاهير وضعت في أناقة وصفت في افتنان ونسقت في ذوق وحسن ابتكار ، تلك الأزاهير هي الصور الجديدة في الشعر التي جاء بها كل من ابن هرمة وبشار موضوعا وأسلوبا .
إن أبا عمرو الجاحظ وهو ليس بعيد العهد عن القافلة الضخمة من شعراء تلك الفترة يقول : (لم يكن في المولدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة) ، وإن حكما كهذا له خطورته الكبرى لأنه ليس صادرا عن أديب عادي ،
والحق إن لكل من الشاعرين الكبيرين صفات وسمات بعضها مشترك بينهما وبعضها الآخر مختلف متباين ، فهما في نطاق المديح كانا يقفان على الأرض الأموية من حيث بناء القصيدة ، ولكنهما من حيث المعاني أتيا بكل عجيب . لقد ابتدعا ضروب القول وتوليد المعاني التي سار على نهجها جمهرة الشعراء العباسيين بعدهم وفي مجال الهجاء كان ابن هرمة يوجع ولا يفحش ، ويؤلم ولا يتدنى إلى الهاوية الكريهة التي كان يتردى فيها بشار ، ولذلك فقد نجد متعة في قراءة هجاء ابن هرمة ، ولكننا نتقزز ونحن نقرا هجاء بشار اللهم إلا بعض القصائد القليلة التي ضغط فيها على نفسه وراضها على تجنب ذكر العورات وفاحشات الألفاظ وجارحات المعاني .
ومن الناحية السياسية كان ابن هرمة فاطمي الهوى وأما بشار فكان أموي المشرب ، وكلاهما مدح العباسيين لنيل العطاء ، على إن مدائح ابن هرمة في العباسيين أجود من مدائح بشار .
ولقد اصطنع كل من الشاعرين الحكمة فجاءت عذبة رخاء ، واستقرت أبياتهما في أسماع الناس وقلوبهم ينشدونها ويتمثلونها حين تدعو الحاجة إلى حسن التمثيل ، وإن كانت ثروة الحكمة من أقوال بشار أكثر عددا ، ربما لأن نصف ديوان بشار بين أيدينا ، وأما ديوان ابن هرمة الذي قيل أن الصولي قد جمعه فمفقود ، وكل شعره الذي بين أيدينا هو ما وقعت عليه عيوننا في بعض كتب الأدب والطبقات .
وأسهم كل من الشاعرين بنصيب وافر في قول الغزل ، غير أن غزل ابن هرمة غنائي وجداني رفيع في مجمله ، وأما بشار فقد جمع في غزله بين العذب الفاتن الرفيع والغث الساقط الرقيع ،وهو نفسه يعترف بذلك حينما اعترض بعض المتأدبين ولا حظوا تأرجحه بين الجيد الممتاز والرديء الساقط ، فقال مدافعا عن نفسه : إنما الشاعر المطبوع كالبحر ، مرة يرمي صدفة ومرة يقذف جيفه . إن شاعرا مخضرما آخر من شعراء المرحلة الأولى من المخضرمين أجاب نفس الإجابة عندما ووجه بنفس الاعتراض ، إنه ابن ميادة حين دافع عن تباين وجه شعره قوة وضعفا ، قال :إنما الشعر كنبل في خفيرك ترمي به الغرض ، فطالع وواقع ، وعاصد وقاصد فالدفاع واحد عند الشاعرين وإن اختلفت لغة كل منهما اختلاف مابين البصرة بلدة بشار والمدينة بلدة ابن ميادة .
الواقع أن كلا من الشاعرين – بشار وابن هرمة – مزج رقة البداوة وصفاءها ببهجة الحضارة وطراوتها ، فجاء شعرهما في هذا الدرب الذي اختطاه لنفسيهما على سمات من الملاحة استهوت القلوب إليه وحببته إلى الإسماع ، فوعته القلوب ورددته الألسنة ، وشعر بشار في هذا الدرب أكثر رواجا من شعر ابن هرمة الذي لم يفرق نفسه في دنيا الحضر إغراق بشار نفسه فيها ، ومن ثم أيضا كان بمنأى عن السقطات التي تردى فيها بشار وبخاصة الأقوال التي جنحت به إلى الزندقة ، ولكن بشارا من ناحية أخرى قد اختطفت منه بريق الشهرة ، ولذلك قال عنه الحصري إنه أرق المحدثين ديباجة كلام ، وسمي أبا المحدثين لأنه فتق لهم أكمام المعاني ونهج لهم سبيل البديع فاتبعوه.
وهكذا نجد كلمة ((البديع)) تكررت عند كل من الجاحظ والحصري ، فإذا كانت كلمة البديع هنا بمعناها اللغوي وهو (( الجديد)) فقد يكون الأمر صحيحا بالنسبة إلى بشار ، وأما إذا كانت بمعناها الفني أي الصفة البديعية فإن ابن هرمة أقرب إلى هذا الفن من بشار ، بل لقد عمد إليه عمدا من لعب بالألفاظ وإكثار من الجناس والطباق وذهب به الولوع بالتلاعب بالكلمات إلى الحد الذي جعله ينشئ قصيدة من أربعين بيتا كل حروف ألفاظها مهملة.
وفي الحق إن الناقد المنصف لا يستطيع إن يصدر حكما مجملا على إي الشاعرين كان أقرب إلى التطور والتجديد طالما كان ديوان ابن هرمة مفقودا ، ولكنه بقلب راض وضمير مستريح يستطيع أن يضعهما سويا على رأس مدرسة هزت الشعر العربي هزة صحية عنيفة دفعت به إلى كثير من المسالك والدروب فكثرت دوحاته وظلاله وتنوعت رياضه وثماره . وحتى لا تتشعب الدروب على السالك ، فإننا سوف نكتفي – في نطاق مرحلة مخضرمي الدولتين – بدراسة شعر مروان بن أبي حفصة ، وهو من شعراء المرحلة الوسيطة من المخضرمين ، ثم شعراء المرحلة الثالثة وشعرهم ، وهم آدم بن عبد العزيز والحسين بن مطير وإبراهيم بن هرمة وبشار بن برد .

الباب الثاني
الفصل الثاني
التلاقح في الشعرفي العصر العباسي
ازداد التلاقح الشعريفي العصر العباسي عمقا وتنوعا وغنى واتساعا
من خلال أشجع السلمي ، الذي يمدح الرشيد والبرامكة ويسحر الخليفة بميميته المشهورة وبخاصة البيتين التاليين :
وعلى عدوك يا ابن عم محمد رصدان : ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعته وإذا غفا سلت عليه سيوفك الأحلام
ويعيشأشجع عصره ، ويحيا حياة شعراء زمانه من خلاعة وشراب وغزل ومجون ، فيتقميص شخصيتين شاعرتين ، فالشاعر في مواقف الوقار أو التوقر ، إذا لم يكن وقورا بطبعه ، يرى نفسه مدفوعا إلى نسج الديباجة الصافية ، والتزام عمود الشعر ، واصطناع البحور الطويلة ، مع إجادة الوصف والحرص على الإيقاع الموسيقي الجميل ، فكان أن ظهرت مدرسة الديباجة والوصف عند البحتري .
و الشاعرنفسه الذي التزم هذه السمات الشعرية يصطنع الفكرة العميقة في شعره لكي ينال التقدير والاحترام من خاصة النقاد والقارئين ، وفي الوقت نفسهيعمد إلى الصيغة البيانية والصنعة البديعية
و كان هذا التلاقح وذاك الصراع أكثر ظهورا عند علي بن جبلة المشهور بالعكوك ، في اختياره جانب الأوزان القصيرة ينظم فيها قصائد المديح التي جرت العادة إن تصاغ على الأوزان الطويلة الفخمة الجزلة ، ومن العجيب أن قصائده في نطاق هذه المغامرة ذاعت وشاعت وسارت في الآفاق – حسب تعبير ابن المعتز – مسير الشمس والريح ، وحفظها الناس ، ووعاها الخاصة ، ورددها الخلفاء بل غاروا منها ، وكثيرا ما طرده العظماء وحالوا بينه وبين أبوابهم مثلما فعل المأمون وعبدالله بن طاهر بن الحسين حينما أبلغاه متسائلين : ما عسى إن يقول فيهما بعدما قال في أبي دلف العجلي :
إنما الدنيا أبو دلف بين بادية إلى حضره
فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره
إن المديح في مثل هذا الوزن لم يكن مألوفا كثيرا – إذا استثنينا قصيدة أبي نواس : أيها المنتاب – ومع ذلك فقد ذاعت القصيدة على هذا النحو الذي ذكرنا ، كما انتشرت مثيلات لها آخر نظمت على أوزان أقصر من هذا الوزن .
وفي مجال المديح أيضا فترة الصراع والتفاعل يأمل الشاعر أنيأتي بصورة جديدة بعد أن ملت الأسماع كل المعاني التي طرقت في هذا السبيل ، فيعمد العكوك إلى الإسراف في خلع صفات التمجيد على ممدوحه إلى الحد الذي يجعله لا يتحرج من إلباسه بعض صفات الخالق ، فذاع هذا الأسلوب من الإسراف في المديح عند الشعراء المتأخرين وهذا النوع من المدح لا مكاتة له في نفوس الشعراء العرب .
والعكوك أعمى يريد إن يلحق بالمبصرين ويتحداهم ، وربما كان خير مجال لهذا التحدي هو مجال الوصف ، فيتوفر عليه ويصف فرس أبي دلف وصفا ربما لم تنعم بمثله فرس من قبل ، بل إنه يصف المرأة وأجزاء جسمها ، قطعة قطعة ، وقسمه قسمة ، من أعلى الرأس متدرجا إلى أسفل حتى يصل إلى مكان الخلاخيل من قدمها ، غير متحرج ولا خجل ، وهو في ذلك يكثر من التشبيهات التي يتحدى بها المبصرين ، ولا يقف به الأمر في الوصف عند الفرس التي تحسس أعضاءها قبل الوصف ، ولا عند المرأة التي له بها خبرة من منطلق مجانته وبشريته وجرأته على القول غير العفيف ، ولكن الأمر يصل به إلى وصف المعارك الحربية التي خاض غمارها ممدوحوه من القواد وهذا من تخليط الشعراء الذي أشار القرآن الكريم إلي حسن وصف الشعراء بقوله ( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ).
وكأنموذح ثالث لمرحلة التلاقح الشعري نلمس صنوفا من القول ، وأشتاتا من المعاني ، وحصادا من الأساليب عن عوف بن محلم الخزاعي الذي عاش متنقلا بين رأس العين وبغداد وخراسان ، وهو مرافق لطاهر بن الحسين وولده عبدالله من بعده .
وعوف بن ملحم في نطاق التلاقح الشعري يقول شعرا بدوي السمات بسيط الصوغ إذا ما ألح عليه الحنين إلى أهله وهو مغرب بعيد عنهم ، فإذا جنح إلى الوصف كان عليه إن يواكب الزمن ، فيعمد إلى الاستعارات العذبة والصناعة البديعة التي يتحرى فيها المحسنات اللفظية ورقة الجرس وزنه الإيقاع ، وإذا قال في الخمر مجن أشد المجون معنى وتعبيرا ، واستعمل أساليب الحضر البغداديين في وصفها والحديث عنها ، وإذا ما ذهبت السكرة وجاءت الفكرةقال أبياتا اصطنع فيها الحكمة وأخرى ساق من خلالها فخرا يصدق أقله ويكذب أكثره ،
وإذن فقد كانت فترة التلاقح، مسيطرة على خواطرالشعراء ، متحكمة في توجيه ملكاتهم ، فكان الشاعر الواحد يأتي بالعديد من النماذج والصور والأفكار والأساليب ، الأمر الذي انتهى بالشعر العباسي في أزمنة معاصرة لهؤلاء أو تالية لهم إلى التخصص في ألوان بعينها مثل الفكرة الشعرية أو الديباجة الشعرية أو الصورة الشعرية حسبما
وهناك بعض الشعراء الذين عاشوا في العصر العباسي ولكن ظلوا على بداوتهم مقيمين بعيدا عن المدينة مثل ناهض بن ثومة الذي كان يعيش في البادية ويأتي إلى البصرة بين الحين والحين فيأخذ بعض الناس عنه اللغة ، وله نوادر مضحكة مثل تلك التي تحدث للبسطاء الريفيين في كل زمان . وشعر ناهض بدوي خالص بحيث لا يفترق في شيء عن شعر الجاهليين والإسلاميين وأصحاب النقائض ، ولم تكن مرحلة التكامل الشعري مقصورة على الرجال وحدهم , بل اجتذبت المرأة وصهرتها فقالت الشعر في كثير من أغراضه , وإن كانت الغالبة عليه هي الغزل , ولقد كان بين الشاعرات حرائر وقيان , فمن الحرائر عليه بنت المهدي أخت كل هارون الرشيد والمغني إبراهيم بن المهدي , وكان الأول يطرب لغنائها وعزفها , وكان الثاني يأخذ عنها الألحان , ومن الحرائر أيضا – ولكن في غير ما تحرر وانفلات – الفارغة بنت طريف الشيبانية وولادة المهزمية .وأما الجواري الشاعرات فمنهن عريب, وفضل الشاعرة الذكية التي ارتبط اسمها بسعيد بن حميد , وعنان الناطفية صاحبة النوادر والأخبار مع أبي نواس ودعبل والعباس والأحنف وغيرهم
لقد كانت مرحلة التكامل الشعري هذه ذات شأن كبير وأثر خطير في الحركة الشعرية العباسية بحيث أهدت للأدب شعرا متنوع المذاهب مختلف الأغراض متباين الأساليب , وظلت جذوره تمتد وتعمق , وأغصانه تمرع وتورق حتى خلفت واحات مزدهرة متقاربة للشعر العربي , ليس في بغداد وحدها , وإنما امتد أثرها فشمل الأمصار الإسلامية جميعا .
الباب الثاني
الفصل الثالث
شعراءعلى الخارطة الإسلامية
لم تجتذب بغداد على ترفها كل الشعراء المجيدين ، ولكن وفد إليها شعراء كثر من الامبراطورية الإسلامية ، فمن الجزيرة وفد عليها مروان بن أبي حفصة والحسين بن مطير وإبراهيم بن هرمة ،
ومن العراق وفد عليها مسلم بن الوليد وأبو نواس ودغبل الخزاعي وأبو الشيص وسلم بن عمرو المعروف بالخاسر ووالبة بن الحباب والحسين بن الضحاك وأشجع السلمي وغيرهم ، و بشار بن برد وأبو دلامة والحمادون الثلاثة : حماد عجرد وحماد بن الزبرقان وحماد الراوية ، وصالح بن عبد القدوس وأبو الشمقمق وغيرهم .
ومن الشام والجزيرة وفد أبو تمام والبحتري والعتابي وتلميذه منصور النمري وأبي يعقوب الخريمي وعوف بن ملحم الخزاعي ، وكان ربيعة الرقي يستدعي من موطنه الرقة ليمدح أو لتسمع جواري القصر إنشاده ويعود إلى موطنه.
ولا نكاد نقع بين الشعراء الكبار من البغداديين إلا على عدد قليل جدا مثل علي بن جبلة (( العكوك )) ، وعلي بن الجهم ، وعلي بن العباس (( ابن الرومي )) وعبد الله بن المعتز .
ولمتستهو بغداد كل شعراء الزمان ، فقلد ظل بالبصرة والكوفة عدد من الشعراء الكبار ، ولقد ظل ببلاد الشام عدد آخر من الشعراء آثروا الإقامة في بلدهم لم يبرحوها وفضلوها على بغداد .
وقد حجب الشهرة عن كثير من هؤلاء عدم قدومهم لبغداد ، وإن عبقرية بعض هؤلاء الشعراء قد فرضت نفسها على بغداد ، فسعت بغداد بأبنائها إليهم كما هو الحال بمحمد بن يسير في البصرة ، وديك الجن في حمص الذي سعي إليه وشهد له كل من دعبل وأبي نواس دون إن يهم بترك حمص. بل إن بغداد كانت تفرض نفسها على ربيعة الرقي الأعمى الذي كان يستدعي إلى بغداد فلا يطيق البقاء فيها طويلا.
وهجر بعض الشعراء الكبار العظام ببغداد كمسلم بن الوليد ، وهذا أبو تمام يتركها ويعمل على بريد الموصل فيموت فيها ، وهذا علي بن الجهم البغدادي الولد يضيق ببغداد و ((بمتوكلها)) فيهجرها إلى خراسان ، فيغادرها إلى حلب ، ومن حلب يخرج للغزاة فيخرج عليه وعلى جماعته لصوص من بني كلب ، فيقتتل الفريقان ويجرح علي جراحا مميتة قضت عليه فلما نزعت ثيابه وجدت فيها رقعة وقد كتب فيها هذين البيتين الجليلين :
وارحمتا للغريب في البلد النازح مـاذا بـنفسـه قد صنعـا
فارق أحبابه فما انتفعوا بالعيش من بعده ولا انتفعا
وهذا أبو عبادة البحتري يقول لابنه : هيا بنا يا ولدي .....، ويصطحب ولده ويتجهان إلى مسقط رأسه منبج غير بعيد عن حلب ،فلا يقر به المقام فيها طويلا حتى يلقي منيته .
لم تكن مدينة كل الشعر ولا مقر كل الشعراء . لقد وجد من الشعراء من فضلوا الإقامة في بلادهم على الإقامة في بغداد ففي الكوفة ، على سبيل المثال عاش محمد بن عبد الله بن كناسة الأسدي الشاعر المتدين المحدث ذي الشمائل . روى عنه عدد كبير من المحدثين في جملتهم سفيان الثوريومن عذب شعره قوله:
فيّ انقباض وحشمة فإذا صادفت أهل الوفـاء والـكرم
أرسلت نفسي عـلى سجيتها وقلت ما شئت غير محتشم
ومن شعره حيث رقت حالة بعد يسر قوله :
ضعفت عن الإخوان حتى جفوتهم على غير زهد في الإخاء ولا الود
ولكن أيامي تخرمن منتي فما أبلغ الحاجات إلا على جهد
ولقد كان ابن كناسة محبا للكوفة مغرما بالإقامة فيها ، وله فيها شعر رقيق
في محل الخيام في النجف المعرض فوق الجنان والأنهار
فالرحى فالسدير فالحيرة البيضاء ذات الحصون والأحبار
فالمخلبات الفراتيـات تهدي لها الشمال الصحاري
فالفرات المغير يحني على الكوفة ذات الربـا وذات القـرار
والحق إن لابن كناسة شعرا كثيرا جميلا أكثره في الثناء على الكوفة والنجف وفي الموضوعات التي تتصل بالجوانب الإنسانية الرفيعة في حياة الناس .
واتسم شعرأبي فرعون الساسي بالفكاهة وخفة الروح كوصف منزلة وعلامات الفقر الكامنة فيه :
ليس إغلاقي لبـابي إن لي فيـه مـا أخشى عـليه السرقـا
إنما أغلقه كي لا يـرى سوء حالي من يجوب الطرقا
منزل أوطنه الفقر فلو دخل السارق فيـه سرقا
لا تراني كاذبا في وصفه لو تراه قلت لي : قد صدقا
و أكثر الشعراء الذين وفدوا على البصرة من الأرباض أو البوادي القريبة منها وفضلوا الإقامة فيها كانوا من الأعراب ، وشعرهم يعود بنا إلى أيام نقائض الفحول ، ويمثل هذا الفريق من الشعراء ناهض بن ثومة.
وهناك شعراء في شعرهم سماحة الصحراء حين ترق ، ويسر البداوة حين تصفو ، فمن هؤلاء أبو البيداء الرياحي فقد كان بدويا وأقام بالبصرة أكثر عمره .
ولأبي البيداء شعر ساذج كثير ، فلما مات رثاه أبو نواس بمرثية قافية هازلة .
ومن شعراء البصرة الذين فضلوها على بغداد لبداوتهم أبو فرعون الساسي التيمي وكان يسأل الناس وشعره لطيف ، ومنهم أيضا معبد بن طوق العنبري وكان شاعرا مجيدا . على أن معبدا رغم بداوته تلك كان متدينا زاهدا في الحياة ، وقد اتسم شعره بهذه الظاهرة فمن ذلك قوله:
تلقي الفتى المنية هاربا منها وقد حدقت به لا يشعر
نصبت حبائلها له من حولـه فإذا أتاه يومه لا يـنظر
إن امرءا أمسى أبوه وأمه تحت التراب لحقـه يتفكر
حسناتها محسوبة قد أحصيت والسيئات ، فأي ذلك أكثر
ومن الشعراء الذين رفضوا الإقامة في بغدادوأقاموا في الشام ، ديك الجن و البطين بن أمية البجلي و محمد بن يزيد الحصني المسلمي الذي يمثل أخلاق البداوة مع عزة أبناء الملوك في شعره وسلوكه ،
وفي حلبعاش شاعر عباسي المنتمى والنسب هو محمد بن علي بن صالح الذي عرف بالحماحمي ولقد وصفة أبو هفان الراوية بأنه ليس في بني العباس بعد إبراهيم المهدي والعباس بن الحسن العلوي أشعر منه في الغزل ، ومن رقيق غزله قوله:
كم موقف لي بباب الجسر أذكره بل لست أنسى ، أينسى نفسه أحد
نزهت عيني في حسن الوجوه به حتى أصاب بعيني عيني الحسد
غير إن الحماحمي كان أيضا هجاء مفحشا وشاعرا بذيئا .
وللبطين بن أمية البجلي وكان من حمص أشعار لطيفة ،
ومن طريف شعره ما رواه من أنه قدم على علي بن يحيى الأرميني يريد مدحه ، فشاء إن يعمد إلى خلق صورة جديدة من المدح فقال :
رأيت في النوم أني راكب فرسا ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قوم لهم حذق ومعرفة رأيت خيرا ، وللأحلام تعبير
رؤياك فسر غدا عند الأمير تجد تعبير ذاك وفي الفأل التباشير
فجئت مستبشرا مستشعرا فرحا وعند مثلك لي بالفعل تيسيـر
ولكن الممدوح كان من ((الظرف بحيث وقع في أسفل كتابي : ( أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ) ، ثم أمر لي بكل شيء ذكرته في كتابي ورايته في منامي ))وأكثر شعر البطين من هذا القبيل الفكه الخفيف ، لقد كان البطين موضع اهتمام كثير من رجال الأدب والنقد وأصحاب التراجم وأقام ربيعة الرقي الضريرفي الشام في الرقة ، وهو صاحب الوصف الطريف لبلدته :
حبذا الرقة دارا أو بلـد بلـد ساكنه ممن ......
ما رأينا بلـدة تـعدلهـا لا ولا أخبرنا عنها أحد
إنها بريـة بحريـة سورها بحر وسور في الجدد
يسمع الـصلصل في أشجارها هدهد البـر ومكـاء غـرد
لم تضمـن بلـدة ما ضمنت من جمال في قريش أو أسد
ولقد كان شعر ربيعة وهو في بلدته يصل إلى أسماع الخلفاء في بغداد بل أسماع جواريهم ، فقد اشتهت جواري المهدي إن يسمعنه ، فوجه إليه المهدي من أخذه من مسجده بالرقة ، وحمل على البريد إلى بغداد ، وأدخل إلى المهدي ، فسمع حسا من وراء الستر ، فقال إني اسمع حسا يا أمير المؤمنين فقال له : اسكت يا ابن اللخناء ، واستنشده ما أراد فضحك وضحكن ، ثم شكا إلى المهدي حمله إلى بغداد على هذه الصورة وطلب إن يعاد إلى بلدته الرقة البيضاء قائلا :
يا أمير المؤمنين الله سماك الأمينا
سرقوني من بلادي يا أمير المؤمنينا
سرقوني فاقض فيهم بجزاء السارقينا
فقال المهدي قد قضيت فيهم يردوك إلى حيث أخذوك ، ثم أمر به فحمل على البريد من ساعته إلى الورقة.
قال دعبل لمروان بن أبي حفصة : من أشعركم قال ربيعة الرقي الذي يقول :
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر بن حاتم
يقصد يزيد بن أسيد السلمي ويزيد بن حاتم المهلبي .وقصة هذا البيت الذي بنى عليه مروان حكمة على ربيعة من الطرافة بمكان فقد مدح الشاعر كلا من يزيد بن أسيد السلمي – وهو قريبه – ويزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة فبخل عليه الأول وقصر ، وأجزل الثاني له العطاء فقال :
حلفت يمينا غيـر ذي مثنوية يمين امرئ إلى بها غير آثم
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر ابـن حاتم
يزيد سليم سالم المال ، والفتى أخو الأزد للأموال غيـر مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم
فيأيها الساعي الـذي ليس مدركا لمسعاته سعي البحـور الخضارم
سعيت ولم تدرك نوال ابن حاتم لفك أسير واحتمال العظائم
كفاك بناء المكرمات ابن حاتم ونمت ، وما الأزدي عنها بنائم
فيا ابن أسيد لا تسام ابن حاتم فتقرع ، إن ساميته سن نـادم
هو البحر ، إن كلفت نفسك خوضه تهالكت في آذيه المتلاطم
وقد كان يجمع بين الظرف والمرارة كقوله متوجها بالمدح إلى يزيد بن حاتم ومعرضا فيه بيزيد بن أسيد:
يزيد الأزد إن يزيد قومي سميك لا يجود كما تجود
تقود كتيبة ويقود أخرى فترزق من تقود ومن يقود
وربيعة الرقي على الرغم من أنه مكفوف البصر وأنه يسكن قرية بعيدة في أطراف الشام شرقا هي الرقة ، فقد كان من أقدر شعراء زمانه على القول في المديح والهجاء على حد سواء ، وكان إذا مدح فلم يجزل له العطاء أسرف في هجاء ممدوحه ، فمن ذلك أنه مدح العباس بن محمد ابن عم الرشيد بقصيدة من عيون شعر المديح قال فيها:
لو قيل للعباس : يا ابن محمد قل : لا ، وأنت مخلد ، ما قالها
ما إن أعد من المكارم خصلة إلا وجدتك عمها أو خالها
وإذا الملوك تسايروا في بـلدة كانوا كواكبها وكنت هلالها
إن المكارم لم تـزل معقولة حتى حللت براحتيك عقالها
وأما ابن يسير فهو صورة للبصرة بكل تناقضاتها ، ففي البصرة مجون وخلاعة و شعر وأدب وثقافة وعلم ، وحياة اجتماعية نشطة ذات أشكال وألوانوفي البصرة زهد وحمكة فيذهب ابن يسير إلى إجادة تصويرها ، إنه يصف السكارى ، ويصف نفسه سكرانا ، ويصف نفسه ماشيا إلى غاية بعيدة لأن جاره رفض أن يعيره حمارا ، ويصف نعليه مثقوبين وحذاءه باليا ، ويبكي كتبه التي أكلتها نعجة جاره ويهجوها ويهجو صاحبها ، ويبكي ألواحه التي يكتب عليها حين سرقت منه ، ويلتذ بمصاحبة الكتب فيصفها ، وينقلب ابن يسير في آخر حياته زاهدا أو مصطنعا الزهد ويقول وفي ذلك شعرا جميلا ، ويقول في الحكمة شعرا رائقا عذبا سهل المأخذ حسن الترديد
وأم ديك الجن كان شعوبيا خليعا ماجنا ، بارع الشعر سعي إليه أبو نواس وأبدي إعجابه بشعره ، وكذلك فعل دعبل ، وتتلمذ عليه وأخذ عنه أبو تمام .
فقد جمع شعر ديك الجن بين الفحولة والمحافظة من ناحية ، وبين التطور والتجديد من ناحية أخرى ، تجديده واضح صارخ لفت أنظار سكان العاصمة ،
إن حادث قتله زوجته والبكاء عليها أثرت في شعره وأمدته بطاقات من العواطف وشحنات من الأحاسيس . لقد جمع الشاعر الحمصي بين الأضداد ، فهو خليع موغل في خلاعته حين يقول شعرا منحرفا ، وهو حكيم العقل رصين القول حين ينشئ شعرا في الرثاء ،وهو من كبار شعراء الرثاء في العربية تجلى التجديد عنده في الصنعة البديعية واستحداث حركات داخل الأوزان العروضية التقليدية مع تلاعب بالقوافي في نطاق القصيدة الواحدة ، وهو رائد الصورة الشعرية ومبتكرها حين وصف الديك ، وقد سبق بذلك كلا من ابن الرومي وابن المعتز .
و منصور النمريشاعر من الشام جزري غزا بغداد بعد إن تتلمذ على شاعر المثقفين العتابي وصاحبه وروى شعره ، وهو ، إذ يصل إلى مقر الخلافة ويصل إلى منتدى الخليفة – وكان الرشيد – سرعان ما يأسره بمبادراته الشعرية الفنية الرائقة ، ويزاحم مشاهير الشعراء المقيمين في بغداد من أمثال مسلم بن الوليد ومروان بن أبي حفصة .
وله لون خاص ومذهب في الشعر أنيق جعله يفرض نفسه على مجتمع شعراء بغداد فرضا.



الباب الثاني
الفصل الرابع
الشعراء المتميزون كمثال
تميز في المرحلة العباسية العديد من الشعراء ، ولقد كان العتابي أكثر قربا من الثقافة بأعماقها البعيدة وآفاقها الرحيبة ، وكان أدنى موردا إلى مناهل المعرفة بلججها الغامرة وأمواجها المتواكبة . تعلم الفارسية من تلقاء نفسه حتى يقرا الحضارة الفارسية في لغتها الأصلية وكان يتكلمها في طلاقة ، وزار مكتبة بلخ مرات عديدة ، وكان هو نفسه صاحب مكتبة خاصة تحوي من المراجع النفسية ما يعينه على إشباع رغبته من المعرفة ، وكان كاتبا بليغا بالإضافة إلى كونه شاعرا فريدا ، وهو بذلك من القليلين جدا في تاريخ الشعر العربي الذين جمعوا إلى خصوبة الشعر ورقته رونق القلم وبراعته فكان الشاعر المبدع والكاتب الساحر . والعتابي بالإضافة إلى ذلك علم من أعلام البلاغة العربية ، له تصوره الخاص لها ، وتعريفه الذاتي بها ، النابغ من عقلية أحسن تكوينها ، والعتابي أستاذ صاحب كتب وتأليف حوت من المعرفة ألوانا ومن العلوم فنونا ، الأمر الذي جعل الخلفاء يحتفلون به في مجالسهم ، ويستدنونه إلى بلاطهم ،
وكان لشعره لون متميز ووجه متفوق في حال مقارنته بالآخرين . إنه شعر المفكرين أو شعر الفكرة ، إي الفكرة العميقة النفسية تصاغ في قالب شعري أنيق رقيق ، وافر الموسيقى عذب الإيقاع ، وتلك الصفات الأخيرة تعني شيئا جديدا في الأسلوب إنه جدير بأن يكون أستاذا لأبي تمام ومن سار على دربه .
وللرجل مدرسة في الأخلاق ، ومذهب في الحكمة يكمل الواحد منهما الآخر وعالج من خلالهما موضوع الصداقة والصديق ، وكذلك كان أبو يعقوب إسحاق بن حسان الخريمي . الذي كات يكره تعصب العرب على غيرهم وتعاليهم على سواهم ، وهو في ذلك منسجم مع الإسلام الذي سوى بين الناس جميعا بحيث لا فضل لإنسان على آخر إلا بما يقدم من خير.والخريمي بلاغي كبير ومعلم بلاغة ثقة ، وكان الجاحظ يطرز صفحات البيان والتبيين – أعظم كتبه – بآراء الخريمي وأقواله محيطا إياه بهالة من التقدير هو بها جدير جاعلا آراءه مصدرا من مصادره ومرجعا من مراجعه . هذا فضلا عن كونه ناقدا ذواقة ، وصيرفيا في الشعر لا تخطئ معاييره ولا تتهافت إحكامه ولا تنبو نظراته . والخريمي يطبق معاييره البلاغية على شعره ، سبك إنشاء وانتقاء لفظ وتحري معنى وسهولة مأخذ ، وقد سئل : ما بال شعرك لا يسمعه أحد إلا استحسنه وقبلته طبيعته ؟ فيجيب لأني أجاذب الكلام إلى إن يساهلني عفوا فإذا سمعه إنسان سهل عليه استحسانه .والخريمي صاحب مذهب في الأخلاق والحكمة ضمنه شعره بالأسلوب نفسهيقول شعرا كثيرا جزلا جميلا نابعا من علم وتحصيل ، صادرا عن خبرة ومعرفة وتجربة ،منبعثا من خلق ودين عرف الرجل بهما وذكرتهما له بالحمد كتب التاريخ والأدب والسير التي ترجمت تأثر به أبو حيان التوحيدي ومسكويه ونظرائهما من علماء الأخلاق قد تأثروا بأفكاره وأفكار العتابي حول الفضيلة والشجاعة والحكمة والصداقة والصديق و كان الخريمي صاحب أطول قصيدة قيلت في رثاء بغداد حين تعرضت للمحن الكثيرة الشديدة أيام حرب المأمون والأمين ابني هارون الرشيد في صراعهما على عرش بني العباس ، فكان بذلك رائدا في الشعر التاريخي ريادته في الشعر الأخلاقي والحكمي . والخريمي يتحرى المدرسة المحافظة على عمود الشعر ، ويحرص على جزالة الصياغة متخذا من ذلك أسلوبا ومذهبا ، وهو ركيزة من ركائز عمود الشعر ومدرسة الديباجة .يعد أستاذا أصيلا للبحتري في مذهبه الأسلوبي وهو في جزالة لفظه وفخامة صوغه وحكمة قوله وأخلاقيات معانية أستاذ أصيل صريح لأبي الطيب المتنبي ، وهو في قصيدته الطويلة في رثاء بغداد أستاذ مباشر لابن المعتز في أرجوزته الطويلة في التاريخ لبني العباس وأحمد بن عبد ربه في تاريخه لعبد الرحمن الناصر .







الباب الرابع
الشعر العباسي
الباب الرابع
الفصل الأول
الأغراض التقليدية في الشعر العباسي
1ً- المدح:
وقد ازدهر هذا العرض بسبب تشجيع الخلفاء للشعراء ومحاولتهم إبراز عظمة الملك لديهم، بينما أمعن الشعراء بالمدح استدراجاً للأعطيات ، وقد زاد الشعراء ثروة المدح معانياً جديدة أضفت على المعاني القديمة أشكالاً أخرى فمدحوا الخلفاء إضافة إلى الكرم والشجاعة والقوة بالتقوى وحسن الإدارة و القيادة السياسية والذبّ عن الدين داخلياً وخارجياً وقد أشار أبو تمام إلى مهمة الشعر :
ولولا خلال سنّها الشعر ما درى
بغاة الندى من أين تؤتى المكارمُ
وغدت المدائح وثائق تاريخية تقوم برسم مسيرة الخلفاء كما تصنع الصحافة ، فهذا البحتري يصوّر دور يوسف بن محمد الثغري الطائي الذي هزم بابل الخرمي و صلبه في سامراء:
ما زلت تقرع باب – بابك – بالقنا وتزوره في غارة شعواء
حتى أخذت بنصل سيفك عنوة منه الذي أعيا على الخلفاء
ويقول البحتري أيضاً مادحاً المتوكل بأنه قيم الدنيا وقيم الدين :
خلق الله جعفراً قيّم الدنيا سداداً وقيمّ الدين رشدا
أظهر العدل فاستنارت به الأرض رغمّ البلاد غوراً أو نجدا
ويقول أبو تمام في فتح غمورية مادحاً المعتصم
تدبير معتصم لله منتقم في الله مرتغبٍ لله مرتقب
ويقول علي بن الجهم في مدح المتوكل
له المنة العظمى على كلِّ مسلمٍوطاعته فرض من الله منزلُ

ولما تمزقت الدولة إلى الإمارات ، أصبحت كلّ إمارة تسابق الأخرى في استجلاب الشعراء وتبني أحد هؤلاء كشاعرٍ للأمير كما صنع الحمدانيون مع أبي الطيب المتنبي الذي يقول في مدح سيف الدولة :
ليس إلاك يا علي همام سيفه دون عرضه مسلول
أنت طول الحياة للروم غار فمتى الوعد أن يكون القفول

2- الهجاء :
وقد بقي هذا الفن نشيطاً في هذا العصر، ولكنه لم يعد قائماً على العادات القبلية كما كان في شعر النقائض وقد تنافس الشعراء في رسم صورة الهجاء من خلال القيم الجديدة فهذا نشوان الحميري يرد على الهجاء الذي ورد من قبل عبد الله بن القاسم الزبيدي فيقول بعد أن يسمه عبد الله بن القاسم بفساد الأصل :
أمّا الصحيح فإن أصلك فاسدٌ وجزاك منا ذابلٌ ومهندُ

فيجيبه نشوان:
من أين يأتيني الفساد وليس لي نسبٌ خبيث في الأعاجم يوجد
لا في علوج الروم جدٌّ أزرق أبداً ولا في السود خالٌ أسود
وقد استخدم الشعراء في هجائهم مختلفَ العيوب النفسية والخلقية ولم يتورعوا عن هجاء الخلفاء والوزراء إذا رأوهم منحرفين من الصواب:
يقول بشار في هجائه لرجل شديد البخل:
إذا جئته للعرف أغلق بابه فلم تلقه إلاّ وأنت كمين
وهذا حمّاد عجرد يستخف ببشار بن برد ويحفره قائلاً
وأعمى يشبه القردا إذا ما عمي القردُ
دنيء لم يرح يوما إلى مجدٍ ولم يغدوُ
وقد يتهم المهجو بالزندقة التي تنتهي بالحكم بالموت كما حصل مع بشار لقوله:
تفاخر يا بن راعية وراع بني الأحرار حسبك من خسار
وكنت إذا ظمئت إلى قراح شركت الكلب في ولغ الإطار
ومن تصوير ابن الرومي وصفه لصاحب الأنف الطويل:
حملت أنفاً يـراه النـاس كلـهم من ألف ميل عيانـاً لا بمقياسس
لو شئت كسباً به صادفت مكتسباً أو انتصاراً مضى كالسيف والفاس
وكذلك وصفه للحمّال الأعمى:
رأيت حمّالا بين العمى يعثر في الأكم كما يعثر في الوهدِ
بين مجالاتٍ وأشباهها من بشـرٍ نامـوا عـن المجـد
والبائس المسكين مستلمٌ وكلُّ يصدمه عامداً أو بغير عمدِ
ووصفه اللحية الطويلة قائلاً :
إن تطلْ لحية عليك، وتعرضُ فالمخالي معروفةٌ للحمير
علّق الله في عذاريك مخلاة ولكنها بغير شعير
لو غدا حكمها إليّ لطارت في مهب الرياح كلَّ مطير
لحية أهملت فسالت وفاضت فإليها يشير كلُّ مشير
لو رأى مثلها النبي لأجرى في لحى الناس سنة التقصير
وكذلك قوله في وصف وجه عمرو:
وجهك يا عمرو فيه طول وفي وجه الكلاب طول
وقد يكون الهجاء سياسياً كما حصل عند موت المعتصم حيث هجاه دعبل الخزاعي قائلا:
خليفة مات لم يخرب له أحدٌ وآخر قام لم يفرح به أحد
واستمر الهجاء في عصر الدول والإمارات يتخذه الشعراء غرضاً إذا تأخرت الأعطيات كما صنع أبو العلاء الأسدي في هجاء الصاحب بن عباد وزير البويهيين:
إذا رأيت مسجَّى في مرقعةٍ يأوي المساجد حراً ضرَّه باد
فاعلم بأن الفتى المسكين قد قذفت به الخطوب إلى لؤم ابن عبادٍ

3ً- الرثاء :
بقي الرثاء نشيطاً في العصر العباسي، وإن اتجه بمعاينة إلى صفاتٍ جديدة يصفها الشاعر على صفات من يقوم برثائه من القادة والأمراء والخلفاء إضافة إلى التأمل بحقائق الكون والوجود والموت والحياة وانتشر رثاء المدن والحيوانات المستأنسة والأصدقاء والزوجات.
يقول أبو العلاء المعري في رثاء أحد أصدقائه معرضاً لحقائق الموت :
ربّ لحدٍ قد صار لحداً مرارا صاحك من تزاحم الأضداد
ضجعة الموت رقدةً يستريح الجسم فيها، والعيش مثل السهادِ
ويقول أبو تمام الطائي في رثاء بن حميد الطوسي :
فتىً مات بين الضرب والطعن ميتةً تقوم مقام النصر إذ فاته النصرُ
تردّى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلاّ وهي من سندس حضرُ
ويقول محمد بن عبد الملك الزيات في رثاء زوجه:
ألا من رأى الطفل المفارق أمه بعيد الكرى عيناه تبذران
رأى كلَّ أمٍّ وابنها غير أنه يبيتان تحت الليل ينتجيان
وهذا الشاعر الخريمي يرثي بغداد في أيام الخلاف بين الأمين والمأمون:
حلت ببغداد وهي آمنةٌ داهيةٌ لم تكن تحاذرها
يحرّقها ذا وذاك يهدمها ويشتفي بالنهاب شاطرها
ويقول ابن العلاف النهرواني يرثي قطاً (هراً) :
يا هرُّ فارقتنا ولم تعد وكنت منا بمنزل الولد
صادوك غيظاً عليك وانتقموا منك وزادوا ومن يصْد يصد
4ً- الفخر :
يتمحور الفخر عند الشعراء العباسيين في ثلاثة مجالاتٍ
أولها ما يخص نفس الشاعر ، يقول المتنبي مفتخراً بنفسه:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بحدودي
والثاني ما يخص نسبه و قبيلته،
والثالث ما يخص عقيدته وهواه السياسي .
ويقول بشار مفتخراً بأصوله الفارسية:
هل من رسول مخبر عني جميع العرب
بأنني ذو نسب عالٍ على ذي الحسب
جدي الذي أسمو به كسرى وساسان أبي
5ً- الغزل:
نظراً لاختلاط العرب بالأعاجم، وانتشار الفتوح والغزو وتدفق الأموال، وكثرة الجواري والقيان، توسعت أبواب الشعر الغزلي ، فبعد أن كانت في العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام والعصر الأموي لا تعدو من أن تكون معانياً سامية وصفات لمفاتن جسدية عند المرأة فتح الشعراء العباسيون بابين جديدين
-الأول هو باب الغزل الإباحي : الذي تجرأ فيه العباسيون على وصف خلواتهم بجرأة وفحش ،
- والثاني غزل الغلمان الذي لا عهد للعرب به .
يقول بشار بن برد : في الغزل الجريء .
يا ليلتي تزداد نكرا من حب من أحببت بكرا
حوراء أن نظرت إليك سقتك بالعينين فخرا
ومع ذلك فقد تعفف قسم من الشعراء بغزلهم كما عند العباس بن الأحنف الذي وصف ما يجول بخاطره باتجاه محبوبته فوز
أتأذنون لصبٍ في زيارتكم فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضجر السوء إن طال الجلوس به عفا الضمير ولكن فاسق النظر
وقد انصرف قسم من الشعراء إلى غزل الأعرابيات معرضاً عن غزل النساء المتحضرات بسبب كثرة اللهو والمجون .
قال المتنبي :
هام الفؤاد بأعرابية سكنت بيتا من القلب لم تمدد له طنبا
وقد أشار هذا الشاعر بجمال الأعرابيات قائلاً:
حسن الحضارة مجلوبٌ بتخلية وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الجواجيب
وبرز من الشعراء العفيفين الشريف الرضي في (حجازياته) التي فرج بها حنينه للحجاز والنساء اللواتي قصدن أداء فريضة الحج :
من معيد لي أيامي بجزع السحراتِ
وليالي بجمعٍ ومنى والجمرات
وظباءً حاليات كظباء عاطلات
راميات بالعيون النجل قبل الحصيات
ومن الشعراء الذين تغنوا بالحب الصافي مهيار الديلمي
قل لجيران الغضا آهٍ على طيب عيش بالغضا لو كان داما
وقد استفاد المتصوفة من الغزل البدوي فمرجوه بالغزل الصوفي كما في قول عيسى بن سنجر الحاجري:
أأحبابنا بنتم عن الخيف فاشتكت لبعدكم آصالها وضحاها
كأنكم يومَ الرحيلِ رحلتمُ بنومي فعيني لا تصيب تراها
رعى الله ليلاتٍ بطيب حديثكم تقضّت وحيّاها الحيا وسقاها
6ً- الوصف:
إنّ امتداد الحياة العباسية وتوسعً هذه الحياة، ورخاءَ العيش جعل الوصف غرضاً مهماً، اتّسع مداه بين الأشياء المادية ، والمعنوية فوصف الشعراء في هذا العصر آثار الحضارات القديمة ، وقصور الخلفاء وحدائقهم وملاهي الناس والصيد، كما وصفوا في الجانب الآخر البؤس الاجتماعي والأمراض ، الطباع ، والغرائز والأزهار والرياض ، والأطعمة، فوصف البحتري إيوان كسرى ، ووصف ابن الرومي الخبار والحمّال الأعمى والنرد والشطرنج ، ووصف نطاح الكباش وصياح الديكة.
يقول ناصح الدين الأرجاني في وصف حصان كسرى:
وقد بان حتى عرقه تحت جلده وإن لم تبنْ في صفحتيه ندوب
ويقول المعري في وصف ديكٍ أحبَّ له الحياة، فكان هذا الديك طعاماً لأحد الصائمين :
أياديك: عدت من أياديك صيحة بعثت بها ميتَ الكرى وهو نائم
ولو كنت لي ما أرهفت لك مدية ولا رام افطاراً بأكلك صائم
ويقول البحتري في وصف القصر الكامل للمتوكل:
لبست من الذهب الصقيل سقوفه نوراً يضيء على الظلام الحافل
وكأنّ حيطان الزجاج بجوّه بحجٌ يمجن على جنوب سواحل
ويقول علي بن الجهم يصف لعبة الشطرنج وما يدور على رقعتها من معارك :
أرض مربعة حمراء من أدم ما بين إلفين موصوفين بالكرم
هذا يغير هذا وذاك على هذا يغير، وعين الحرب لم تنم
فانظر إلى الخيل قد حاشت بمعركةٍ في عسكرين بلا خيلٍ ولا علم
ويقول أبو نواس واصفاً كلب صيد له اسمه (سرياح):
ما البرق في ذي عارض لمّاح ولا انفضاض الكوكب المتضاحِ
ولا انبتاتُ الدّلو بالمتّاح ولا انسياب الحوت بالمنداح
حين دنا من راحة السبّاح أجدَّ في السرعة من سرياح
يطير في الجو بلا جناح يفترُّ عن مثل شبا الرماح
ويقول الشاعر أبو فرعون الساسي في وصف منزله المتواضع الخالي من الحضارة والحياة:
منزل أوطنه: الفقر فلو دخل السارقُ فيه سرقا
ويصور الشاعر أبو الشمقمق واصفاً حاجة عياله للخبز والإدام
وقد دنا الفطر وصبياننا ليسوا بذي تمرٍ ولا أرز
فلو رأوا على شاهق لأسرعوا للخبر بالجمز



الباب الرابع
الفصل الثاني
الأغراض الجديدة في أدب العصر العباسي
وقد تمثلت في :
1 ـ الشعر التعليمي :
وهو الشعر الذي نظم فيه العلماء مختلف العلوم المعاصرة لهم، وقد غلب على هذا النوع من الشعر العقل والمنطق وخلال من العاطفة واعتمد على إظهار الحقائق ، وقد نظم فيه العلماء علوم الفرائض . علم الواريث – العبادات – السلوك – الأخلاق واليسير والتاريخ والنحو .كما صنع أبان ابن عبد الحميد اللاحقي في نظمه (ككليلة ودمنة ) وابن مالك في (ألفيته) وابن المعتز في أرجوزته (مسيرة الخليفة العباسي المعتضد).
- يقول أبان اللاحقي :
هذا كتاب أدبٍ ومحنةٍ وهو الذي يدعى ككليلة ودمنة
فيه دلالات وفيه رشد وهو كتابُ وضعته الهندُ
- ويقول ابن المعتز واصفاً تسلط الأتراك على أموال الخلافة
كذلك حتى أفقروا الخلافةْ وعوّدوها الرعب والمخافةْ
2 ـ الشعر الفلسفي:
وقد بدأ الشعراء العباسيون التأثر بأفكار الفلسفية من خلال الترجمات البيزنطية للفكر،ومن خلال صراع الأفكار والمذاهب الدينية التي تبنَّت بعض الأفكار الفلسفية ،كما هوعند المعتزلة ،ومن خلال اطلاع أبي تمام على فلسفاتالبيزنطيين،ومزاوجتة بين الشعر، والفلسفة ، وإدخاله قضية الديالكتيك "الجدلية" في شعره ، كذلك ما بثّه المتنبي من حكم يونانية في شعره ، وما صنعَه المعري في تأملاته في الكون والقدر ، والنجوم، والحديث عن العقل والروح ،والبعث والنشور ، وما صنعه ابن سينا في حديثه عن النفس واتصالها بالبعث .
قال أبو النواس في وصف الخمرة مستعملاً كلمات فلسفية :
رقّت عن الماء حتى ما يلائمها لطافة وجفا عن شكلها الماء
ويقول أبو تمام :
شرست بل لنت بل قانيت ذاك بذا فأنت لا شك فيك السهل والجيل

ويقول المتنبي :
لأتركن وجوه الخيل ساحمةً والحرب أقوم من ساق على قدم
بكل منصلت مازال منتظري حتى أدلت له من دولة الخـدم
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ويستهل دم الحجاج في الحرم

ويقول المعري :
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادِ
ويقول ابن سينا في وصف النفس :
هبطت إليك من المحلِّ الأرفع ورقاءَ ذاتُ تعزز وتمنّع
وصلت على كرهٍ إليك وربّما كرهت فراقك وهي ذات توجّع

3ً- شعر اللهو والمجون:
نظراً لكثرة تدفق الأموال وانتشار اللهو والمجون فقد أكب قسمٌ من الشعراء على وصف أماكن الخمرة ومجالسها كمنطقة الكرخ في بغداد، ومنطقة قطر بّل ، ومن الشعراء الذين وصفوا الخمرة وأكثروا من الخمر والمجون في شعرهم : أبو نواس ومطيع بن إياس بن عجرد، والشاعر بشار بن برد ، ومسلم بن الوليد وغيرهم ....
ويقول بشار بعد أن أصدر الخليفة أمراً بمنعه من وصف الخمر والغزل المخجل :
نهاني الخليفة عن ذكرها وكنت بما سرَّه أكدحُ
فأعرضتُ عن حاجتي عندها وللموتُ من تركها أروحُ
ويقول أبو نواس بعد أن سجنه الأمين لشربه الخمر :
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمرُ ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهرُ
ويقول أبو نواس
تفتير عينيكَ دليلٌ على أنك تشكو سهر البارحة
عليكَ وجهٌ سيئ حاله من ليلةٍ بتَّ بها صالحه

4ً- شعر الزهد:
وقد جاء هذا العرض رداً على اللهو والمجون ووصف الخمرة وفي الوقت الذي كانت فيه حانات بغداد مملوءة بأصحاب الخمرة ، كانت مساجد بغداد مملوءة بالعباد والنساك والعابدين، وقد عرف العباسيون لونين من الزهد .
أً- زهد إسلامي في مستقى من القرآن الكريم والسنة الشريفة معتمدة على قوله تعالى ((وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ، ولاتنسى نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك)).
وكذلك من قوله عليه السلام : ((من بات آمناً في سريه، معافاً في بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما ملك الدنيا كذا فيرها)).
ب - زهدٌ مانوي نسبة إلى زعيم فارسي اسمه ((ماني)).
وهذا الزهد مرتبط بالديانة الزردتشية والبوذية والنصرانية وقد كان من زعماء هذا اللون : صالح بن عبد القدوس، أما الديانة الزردتشية فتؤمن بعقيدتي النور والظلمة ، وإباحة زواج الأباء من بناتهم وأخواتهم، أما البوذية فتؤمن بقضية تناسخ الأرواح ، وتحريم ذبح الحيوان والطيور وأما النصرانية فتؤمن بالنسك والزهد، وليست الرهبانية إلا جزءا من ذلك . ومن أمثلة الزهد الإسلامي قول أبو العتاهية:
لدو للموت وابنوا للخراب فلكم يصيرُ إلى ذهابٍ
ويقول أبو نواس :
.........في أملي وقد قصّرت في عملي
فأيامي تقربني وتدنيني إلى أجلي
ويقول المعري:
أغنى الأنام تقيُّ في ذرا جبلٍ يرضى القليل ويأبى لوشي والتاجا
وأفقر الناس في دنياهم ملكٌ يضحى إلى اللجب الجرار محتاجا
وقد علمت المنايا غير تاركة ليثاً بخفان أو طبياً بفرتاجا
ويقول عبد الله بن المبارك الذي جمع بين الزهد والجهاد في رسالةٍ إلى الفضيل بن عياض الناسك الذي كان مجاوراً مكة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنّك في العبادة تلعب
من كان يخضبُ جيده بدموعهِ فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
ويقول ابن المبارك يخاطب أحد أصحابه وهو اسماعيل بن عليَّه وكان قدولي الصدقات بالبصرة:
يا جاعل الدين له بازياً يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذّاتها بحيلةٍ تذهبُ بالدين
ويقول ابن الرومي في أجمل صورة للزهد والورع:
بات يدعو الواحد الصمدا في ظلام الليل منفرداً
كلما مر الوعيد به سح دمع العين فاطّردا
قائلاً يا منتهى أملي نجني مما أخاف غدا

ومن عجب إن الذين أقبلوا على الزهد وسعوا إليه وقالوا فيه شعرهم هم أنفسهم الذين أسرفوا على أنفسهم وعلى مجتمعهم إثما ومعصية وانحرافا ، أو على وجه أدق هم بعض أولئك الذين انغمسوا في طلب اللذة المحرمة حتى جرفهم تيارها وغمرهم عبابها ، إن منهم أبا نواس ، ومسلم بن الوليد ، وصالح بن عبد القدوس ، وأبا العتاهية ، كما كان هناك أيضا محمود بن الحسن الوراق الذي لم يكن من فريق العصاة ، ولذلك فإن شعره في الزهد والحكمة أنقي منهم روحا وأصفى محتوى وأقرب إلى النفس تقبلا وأسرع إلى الخاطر تلقيا
أما أبو نواس فلم يقل ما قال من شعر الزهد إلا بعد إن قعدت به الصحة عن أن يستمر فيما ظل يخوض فيه من وحل وما يرتكبه من إثم ورجس طوال حياته ، ومن ثم فإن مرارة الندم قد ألحت عليه فعدل إلى جانب النسك
و يؤوب أخيرا من رحلة العصيان الطويلة إلى رحاب الله فيؤدي فريضة الحج ويكبر مع المكبرين ويلي مع الملبين وهو يطوف بالبيت العتيق : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك البيك ، أن الحمد والنعمة لك والملك ، لاشريك لك . وتنساب إلى قلب الشاعر ومضات الإيمان لتصب في وجدانه فيتذوق روحانيتها فيقول :
إلهنا مـا أعدلك مليك كـل من ملـك
لبيك قد لبيت لك
لبيـك إن الحمد لـك والملك ، لا شريـك لـك
مـا خاب عبد سالـك أنت لـه حيث سلـك
لولاك يارب هلـك
لبيك إن الحمد لـك والملك لا شريك لـك
كل نـبي وملـك وكل من أهل لك
وكل عبد سألك سبح أو لبى فلك
لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك
والليل لما إن حلك والسابحات في الفلك
على مجاري المنسك
لبيك إن الحمد لك والملك،لا شريك لك
اعمل وبادر أجلك واختم بخير علمك
لبيك إن الحمد لك والملك..لا شريك لك
ويفتكر أبو نواس في مصير كل حي ولكن بعد إن انقضت شرتهفيرعوي ويستجيب إلى نداء عقله
أيها الغافل المقيم على السهو ولا عذر في المقام لساه
لا بأعمالنا نطيق خلاصا يوم تبدو السماء فوق الجباه
غير أني على الإساءة والتف ـريط راج لحسن عفو الله

ويلجأ أو نواس إلى المحسن الرحيم بكل رجائه وبتوسل المعترف بخطئه وضراعة النادم غير اليائس من رحمة الله معبرا عن صدق إسلامه قائلا آخر شعر صدر عنه
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بان عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير الجرم
ادعوك رب كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم
ومن شعراء الزهد صالح بن عبد القدوس الذي يقول في الدعوة إلى الإيمان والاستقامة:
فوحق من سمك السماء بقدرة والأرض صير للعباد مهادا
إن المصر على الذنوب لهالك صدقت قولي أو أردت عنادا
و أشهر شعراء الزهد في تلك الفترة العباسية أبو العتاهية فهو يدعو إلى ترك الدنيا وتحقيرها حينا ويدعو إلى التقى وصالح الأعمال حينا آخر ويذكر الموت وملاحقته للخلق ويلح في ذلك إلى الحد الذي يصد الناس فيه عن ترك أية متعة ولو كانت حلالا ويقف على القبور ويناجيها حينا ويسائل ساكنيها آونة أخرى ويقرن بين الدنيا والآخرة أو بالأخرى بين الحياة والموت ثم النشور والحساب والثواب والعقاب ويرجو الثواب ويخشى العقاب
تصبر عن الدنيا ودع كل تائه مطيع هوى يهوي به في المهامه
دع الناس والدنيا فبين مكالب عليها بأنياب وبين مشافه
ومن لم يحاسب نفسه في أموره يقع في عظيم مشكل متشابه
وما فاز أهل الفضل إلا بصبرهم عن الشهوات واحتمال المكاره
ويقول أبو العتاهية في قصيدته التي نالت شهرة عريضة وتكررت ترديدا على ألسنة معاصريه وفي مقدمتهم الخليفة المأمون
فمالي لست مشغولا بنفسي وما لي لا أخاف الموت ما لي
لقد أيقنت أني غير باق ولكني أراني لا أبالي
أما لي عبرة في ذكر قوم تفانوا ربما خطروا ببالي
كأن ممرضي قد قام يمشي بنعشي بين أربعة عجال
وخلفي نسوة يبكين شجوا كأن قلوبهن على مقال
سأقنع ما بقيت بقوت يوم ولا ابغي مكائرة بمال
هب الدنيا تساق إليك عفوا أليس مصير ذاك إلى زوال
خبرت الناس قرنا بعد قرن فلم أر غير ختال وفال
وذقت مرارة الأشياء طرا فما طعم أمر من السؤال
ولم أر في الأمور اشد وقعا وأصعب من معاداة الرجل
ولم ارفي عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على الكمال
يقول أبو العتاهية في آخر أبيات قالها قبل موته :
الهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كلن مني
وما لي حيله إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومن
إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني
يظن الناس بي خيرا واني لشر الناس إن لم تعف عني


5ً- شعر التصوف:
شهد العباسيون نوعاً من الزهد أفضل من التصوف القائم على إرضاء الخالق وذم التعلق بالدنيا: (( الأموال – الأبناء – النساء)) ولكن هذا التصوف خرج في معظمه عن تعاليم الإسلام بفعل الترجمات اليونانية والهندية واعتمد هذا التصوف على مجموعة من ركائز
أولها: فكرة المحبة الإلهية ،
وثانيها فكرة انكار الذات
وثالثها الاعتماد على القلب والكشف ونظرية التوحد ((وحدة الوجود ، ووحدة الخالق والمخلوق)).
يقول الحلاح :
مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسَّك شيءٌ مسني فإذا أنت أنا في كل حالِ
وهذا كلام خطير يخرج عن حدود الشرع الإسلامي
ويقول عبد الكريم القشيري متمثلاً :
يا من تقاصر شكري عن أياديه وكلَّ كلُّ لسانٍ عن معاليه
لا دهر يخلقُه لا قهر يلحقُه لا كشفَ يظهره لا ستر يخفيه
ويقول السهروردي من عشقه الالهي :
أبداً يحن إليكم الأرواح ووصالكم ريحانها والسرّاح
وا رحمت للعاشقين تكلّفوا ستر المحبة والهوى فضّاحُ
6ً- شعر تحليل الصفات الخلقية :
رسم الشعراء العباسيون الصفات العظيمة عند ممدوحيهم كما رسموا الصفات الذميمة عند مهجويهم ، ولم يقتصروا في معانيهم الشعرية على الكرم والحلم والحياء والعفة وإنما تجاوزوا ذلك إلى واجبات الأخوة والصداقة واختيار الأصدقاء والصبر على أخطائهم ، وقد صوّر ذلك ابن المعتز قائلاً :
يا من يناجي ضغنه في نفسه ويدبُّ تحتي بالأفاعي اللدغ
وبيت تنهض زفرةً في صدره حسداً وإن دميت جراحي يولغِ
ويصف ابن الرومي الصبر والجزع محللاً عمق هاتين الصفتين :
وقد يظن الناس أن أساهم وصبرهم فيهم طباعٌ مركَّب
وليسا كما ظنوهما بل كلاهما لكل لبيب مستطاع مسبّب
7ً- شعر الشكوى من الزمان ونوازله:
وقد كثر ذلك في العصر العباسي بسبب المفارقات السياسية والاجتماعية والثقافية وبرز نوعان من الشكوى .
أ- نوع فردي بثّ فيه الشعراء همومهم الشخصية .
ب- نوعٌ عام جاء بسبب فساد الأحوال السياسية وتولي المناصب من قبل غير الأكفاء .
يقول ابن المعتز في الشكوى العامة:
لم يبق في العيش غيرُ البؤس والنكد فاهرب إلى الموت من همِّ ومن نكد
ملأت يا دهرُ عيني من مكارهها يا دهرُ حسبك قد أسرفت فافتصد
ويقول المتنبي في الشكوى الفردية :
عيد يأية حالٌ عدت يا عيد بما مضى أم لأمرٍ فيه تجديد
أصخرة أنا مالي لا تحركني هذى المدام ولا هذي الأغاريد
ويقول الطغراني في لا ميته العجمية شاكياً من الدهر والزمن :
والدهر يعكس آمالي ويقنعني من الغنيمة بعد الكدِّ بالقفل
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً والخظ عني بالجهال في شغلٍ



8ً- شعر النوادر والفكاهات:
وهو غرض استجد في العصر العباسي كرد فعلٍ على صعوبة العيش وانقسام الناس إلى مذاهب يحاول بعضها هدم البعض الآخر ، وقد برز من شعراء هذا الغرض أبو دلامة وقد تندر الشعراء على البخلاء والأكلة والجشعين ، وأصحاب اللحى الطويلة ، ولا بن الرومي باع طويل في وصف العيوب الخلقية والخلقية كوصف الأعمى والأحدب والأصلع ، وطويل الأنف وغيرهم...
يقول بشار بن برد واصفاً قصة جبٍّ عذري أجراها على لسان حمارٍ له مات عشقاً وقد رآه بشار في اليوم فقص عليه قصته:
سيدي ملْ بعناني نحو باب الأصبهاني
إن بالباب أتانا فضلت كلَّ أتان
تيمتني يوم رحنا بثناياها الحسان
ولها خدٌّ أسيلٌ مثل خدِّ الشيفران
9ً- شعر التهكم والعبث :
وقد اعتمد فيه أصحابه على فحش القول وهجر الكلام وقد ساهم في إبرازه شعراء من أمثال: ((ابن سكرة – ابن حجاج – صريع الدلاء الذي عارض مقصورة ابن دريد)).
يقول صريع الدلاء يعارض مقصورة ابن دريد:
من لم يرد أن تنتقب نعاله يحملهُ في لفِّه إذا مشى
ومن أراد أن يصون رجلهُ فلبسه خيرُ له من الحفا
ومن طبخ الديك ولا يذبحه طار من القدر إلى حيث يشاء

10ً- شعر التهاني والهدايا:
وقد برز هذا العرض في المناسبات والأعياد والتهنئة بقدوم المواليد الجدد، كما صنع البحتري في وصف موكب المتوكل في عيد الفطر.
يقول ابن الرومي في وصف قدحٍ أهداه إلى علي بن يحيى المنجم:
وبديع من البدائع يسبي كل عقلٍ ويطبي كلَّ طرفِ






الباب الرابع
الفصل الثالث
التحولات التي طرأت على الشعر العباسي
1ً- في بناء القصيدة :
لم يلتزم العباسيون التزاماً كاملاً تهج القصيدة العربية التي رسم أسسها الجاهليون ، وكان بعضهم قد حاول ترسم خطا الجاهليين في الوقوف على الأطلال ووصف قصور بغدادٍ، ووصف الخلفاء بالصفات التي تتلائم مع البداوة وقد أعرض بعض الشعراء عن ذلك، ونددوا بطريقة الوقوف على الأطلال كما قال أبو النواس:
عاج الشقي على رسمٍ ليسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد
ولكن شاعراً كأبي تمام والبحتري وابن المعتز حاولوا تغيير مطالع قصائدهم ، فهذا أبو تمام صنع لقصيدته في مدح المعتصم مقدمة في وصف الطبيعة فقال:
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر وغد الثرى في حلية يتكسَّر
يا صاحبيَّ تقصّيا نظريكما تريا وجوه الأرض كيف تصوَّر
تريا نهاراً مشمسا قد شابه وجه الضحى فكأنما هو فقصر
كما وبدأ قصيدته في فتح عمورية بالحكمة:
السيف أصدقُ أبناءً من الكتب في حدّه الحدُّ بين الجدّ واللّعب
وهذا ابن المعتز يخاطب الخليفة المعتضد الذي نفاه وأبعده عن مجالسه قائلاً:
أتسمع ما قال الحمام السواجع وصائح بين في ذرا الأيك واقع
منعنا سلاما وهو محلل سوى لمحات أو تشير الأصابع
أما المتنبي فقد سلك في بناء قصائده مسلكا مغايرا بحيث جعل لكل قصيدة مطلعا يتناسب مع مضمون القصيدة كقوله :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وقوله :
إذا كان مدحا فالنسيب المقدم أكل فصيحا قال شعرا مقيم


2-الزخارف اللفظية والمحسنات البديعية :
نظرا لتغير مظاهر الحياة العباسية عن سابقتها وازدياد الاهتمام بالشكل عند الإنسان أكثر من المضمون ، فقد انعكس ذلك الشعر فأخذ الشعراء يهتمون بشكل الشعر لديهم أكثر من المضمون ، ونشأ فن البديع القائم على المحسنات والزخارف اللفظية والمعنوية كالجناس والطباق والمقابلة والإرصاد وتحول الشعر من مطبوع إلى مصنوع .كما عند أبي تمام في قوله :
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب
وقد تحول الاهتمام بالزخارف اللفظية والمحسنات البديعية من كونها وسيلة إلى كونها غاية وأصبحت في العصور التالية عبئا ثقيلا على الشعر العربي .
3-الأوزان والقوافي :
لم يتجاوز شعراء العصر الجاهلي والإسلام والأموي الأوزان الخليلية ، لكن شعراء العصر العباسي بسبب انتشار الموسيقى والغناء حاولوا أولا أن يوجدوا أوزان البحور الست عشرة وزنا ،وأضافوا أوزان جديدة ( المواليا )
وكان أبو العتاهية يقول : أنا أكبر من الوزن الخليلي ونوع الشعراء بالقوافي فظهرت أوزان
كالمزدوج – المسحطات – المربعة – المخمسة
واهتم الشعراء بالأوزان المجزوءة التي تتناسب مع الغناء والموسيقا . يقول بشار :
ربابة ربة البيت تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت
وقوله :
سلاف دن كشمس دجن
كدمع جفن كخمر عدن
4-التصوير الفني :
لم يرتض العباسيون الطريقة العربية الجاهلية والإسلامية القائمة على الإيضاح والاقتراب من الحقيقية ، وملاحظة التناسب في وجه الشبه بين المشبه و المشبه به والحرص على الدقة في الوصف في التصوير الفني في شعرهم ، بل حالوا أن ينهجوا نهجاً جديداً في هذا التصوير كما صنع بشار حينما حاول أن يجعل العلاقة مضطربة بين المشبه والمشبه به، وأن يمازح بين الحواس و يعتمد الإبهام كأن يشبّه (المسموع بالمنظور) و(المنظور بالمذاق) يقول بشار في وصف جارية:
حوراء إن نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا
وكأن رجع حديثها قطع الرياض كيسين زهرا
فكأنّ الحديث المختص بحاسة السمع مشبّه بقطع الرياض الخاصة بحاسة النظر، وقد بلغ التصوير الفني منتهى الابداع الذي غدا ركناً أساسياً عند أبي تمام في تجديده حيث اختفت الصور المستوحاة من البادية واعتمدت الصور المستوحاة من حياة الترف. يقول ابن المعتز واصفاً الهلال:
انظر إلى حسن هلالٍ بدا يهتك من أنواره الحندسا
كمنجلٍ قد صيغ من فضة يحصد من زهر الربا نرجسا
5-في المعاني الشعرية:
كما أن العباسيين لم يقبلوا بشكل القصيدة الجاهلية ، كذلك رفضوا معانيهم، وحاولوا تجديدها وقد أسرهم في تغير المعاني في ثلاثةِ أشياء:
أ ـ قضية الفكر الإسلاميالذي تمثل بالقرآن الكريم والسنة النبوية وما فتحه هذان الكتابان من آفاق جديدة للعقل في ذلك كمناقشة وسائل الكون والحياة والعقل والخالق والمخلوق والروح والجسد، وما نتج ع ذلك من علمٍ سمّي في ما بعد الكلام الذي تبناه أصحاب المذاهب بالإضافة إلى المعتزلة.
ب- الثقافة الفلسفية:التي ترجمت من كتب الأمم التي مازجها العرب المسلمون والتي تمحورت حول ديانات تلك الشعوب كالمانوية والمزدكية والزيد ثنية وأثر ذلك على بعض الشعراء كما حصل مع المعري حينما حرّم على نفسه أكل اللحوم.
جـ- تغيرات الحياة الجديدة :التي فرضت نفسها من خلال امتزاج الحضارات الأخرى وحياة الشعوب الأخرى وما ابتدعه المفكرون من طرائق جديدة للفكر ، فقد نقل العرب حكمه الفرس ووصاياهم وآدابهم وأساليبهم في الحياة السياسية والصداقة والمشورة . قال بشار:
إذا بلغ الرأيُ المشورة فاستعن برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليل غضاضة فريشُ الخوافي قوةٌ للقوادمَ
ونقل العرب أيضاً حكمة الهند وعلومها في الحساب والفلك والطبيعة ، فقد زعم علماء الهند أن الشيء إذا أفرط في البروده عاد حاراً، وقد أخذ هذا المعنى أبو نواس :
قل لزهير إذا حدا وشدا أقلك أو أكثر فأنت مهذارُ
سخنت من شدة البرودة حتى صرت عندي كأنك النارُ
ويقول المعري:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالماً ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح
ونقل العرب الثقافة اليونانية وفلسفتها المعتمدة على المنطق والأقيسة والأدلة واستخدام الشعراء مصطلحات فلسفية، كفكرة الجوهر، والكل والتعليل والتضاد يقول أبو العتاهية في سكون الحركة:
يا عليُّ بن ثابت بان مني صاحبٌ حلَّ فقده يوم بنتا
قد لعمري لي غصص المو ت وحرَّكتني لها وسكنتا
ويقول أبو نواس في فكرة الجزء الذي لا ينفكك :
يا عاقد القلب مني هلا تذكرت حلا
تركت مني قليلاً من القليل أقلاّ
يكاد لا يتجزّأ أقلّ في اللفظ من لا
ويقول أبو تمام في التضاد فصوّر جمال إحدى صواحبه :
بيضاء تسري في الظلام ميكتسي نوراً وتسرب في الضياء فيظلم







الباب الخامس
الصعاليك في العصر العباسي
لم تكن الحياة الاجتماعية في العصر العباسي صحيحة مستقيمة بل كانت مضطربة مختلة لا تحقق الخير ولا توفر الحياة الحرة الكريمة ، فقد تمتع الخلفاء والوزراء ومن في حكمهم بهذه الحياة وعاش الباقون حياة بائسة بسبب سوء توزيع الثروة وهذا ما استدعى اختلالا ً اقتصاديا ً من مظاهره :
1- العنف في جباية الخراج .
2- زيادة الخراج .
3- خيانة العمال ( جباة الضرائب ) .
4- عزل الخلفاء للوزراء واسترداد ما جمعوه بغير حجة .
5- إنفاق الأموال على سبل لا تفيد الناس .
6- كثرة المتمردين الذين استدعوا أموالا ً طائلة للقضاء عليهم .
7- إغداق الأموال على القادة العسكريين لضمان ولائهم .
8- إجراء الأعطيات على بعض الأمصار كالحجاز , وهذا ما دعى الناس إلى محاولة رد المظالم عنهم تارة برفع الشكاوي للخليفة أو الولاة وتارة بالامتناع عن دفع الخراج وأخرى بالثورة على العمال ومحاربتهم .
وقد انقطعت الصلة بين بيوت المال والرعية ولم تعد بيوت المال تدفع للمعوزين ما فرضه القرآن الكريم لهم مما أدى لانتشار الفقر والعجز عن التماس العيش بالطرق المشروعة وهذا ما كانت عليه نتيجة التمرد على الأوضاع السيئة والسعي لكسب الأقوات بطرق غير مشروعة والإغارة على المدن وسرقة الأسواق والتجار ولقد ساعد في انتشار الصعاليك كثرة الفتن والاضطرابات بسبب استبداد العباسيين بالحكم واستئثارهم بالحكم والخلافة والفتك والتنكيل بمعارضيهم وهذه الفتن التي وقعت كان بعضها بسبب الصراع على الحكم والتنازع على السلطان وكان بعضها الآخر بسبب نزعة الانفصال والاستقلال عن الدولة العباسية بينما كانت تارة بسبب البغي والطغيان في الحكم وقد عبر أبو العتاهية عن الحالة المتردية والحاجة المزرية شاكيا ً غلاء الأسعار وظلم العمال وانتشار البطالة إلى الخليفة :
من مبلغ عني الأمام نصائحا ً متواليه
إني أرى الأسعار أسعار الرعية عالية
وأرى المكاسب نزرة وأرى الضرورة قاسية
وأرى غموم الدهر رائحة تمر وغادية
وأرى اليتامى والأرامل في البيوت الخالية
يشكون مجهدة بأصوات ضعاف عالية
من يرتجي للناس غيرك للعيون الباكية
من للبطون الجائعات والجسوم العارية
وقد سجل لنا القدماء أخبار بعض الفقراء اللصوص في هذه الاضطرابات والفتن وأكثر ما كان ذلك في صراع الأمين مع المأمون حيث انتهز العيارون هذه الفرصة ونهبوا أموال التجارة وكثر اللصوص وقطاع الطرق في مصر وفي خراسان كذلك مما يدل على أن الاختلال الاقتصادي والاجتماعي كان له السبب الأكبر في ظهور الصعلكة .
وحركة الصعلكة العباسية تختلف أبعادها وأدواتها عما كانت عليه في العهد الاموي والجاهلي لأن الإسلام وفي عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والعهد الراشدي جفف منابع ذلك .
إن حركة الصعلكة العباسية كان مكانها الحواصر والمدن لا الصحراء كما كان سابقا ً بحيث استقر الصعاليك العباسيون مع أزواجهم وأولادهم في هذه الحواضر وهذا ما جعلهم يحرصون على العناية بأولادهم ويعطفون عليهم بعكس الصعاليك الجاهليين الذين كانوا مغامرين لا يبالون بالموت ولا يخافون المكاره .
ومن الطرق التي اتبعها الصعاليك في العصر العباسي الهجاء الساخر الذي يلقونه إلى العامة والصبيان ليرددوه وبالتالي ليجبر التاجر البخيل على دفع إتاوة للشاعر كما صنع أبو فرعون الساسي وأبو الشمقمق وأبو الينبعي والحمدوني فهم هجاؤون كثيروالفحش خبيثو الألسنة سريعون إلى أعراض الناس قبحا ً ورذالة , ومن ذلك ما قاله أبو الشمقمق في داوود بن بكر والى فارس والأهواز عندما مدحه ولم يعطه :
وله لحية تيس وله منقار نسر
وله نكهة ليث خالطت نكهة صقر
وكذلك هجا أبو الينبعي الفضل بن مروان فأغرى به الواثق بحبسه حتى مات .
وعلى العموم فإن اللصوص لم يستخدموا السلاح والإغارة على فرائسهم بل كانوا يحتالون لسرقة حاجاتهم يحتملون الضرب ويصبرون على العذاب حتى لا يفشوا أسرارهم وبينما كان الطفيليون يشبعون حاجاتهم بالدخول إلى الأعراس وحضور الولائم دون دعوة .
وليس معنى ذلك أن الصعاليك العباسيين لم يكن فيهم من يغير أو يسلب وينهب كجعفر بن علبة الحارثي , دنيئا ً يشرب ويلهو مع كونه فارسا ً شجاعا ً شرب مرة فحبسه السلطان فقال
لقد زعموا إني سكرت وربما يكون الفتى سكران وهو حليم
لعمرك ما بالسكر عار على الفتى ولكن عارا ً أن يقال لئيم
وإن أمرأ دامت مواثيق عهده على دون مالا قيمته لكريم
وقد قتل على يد والي مكة بعد أن حوصر مع رفيقيه " علي بن جندب الحارثي والنضر بن مضارب المعاوي , وفي ذلك يقول :
خلعت يمينا ً برة لم أرد بها مقالة تسميع ولا قول باطل
ليختطمن الهندواني منهم معاني قد يخشاها الطبيب المزاول
وهذا يدل على معاني عباسية لها جذور جاهلية , أما أبو الندى فقد قاد جيشا ً من اللصوص وأغار على قرى الشام يتربص بالقوافل وفي ذلك يقول بعد معركة بينه وبين ابن الوزير الجزري :
أقول إذا الرفاق بدت لوجهي إلا حلوا رحالكم وطيروا
وإن لم تتركوها فاستعدوا لحرب مثل خاصية تغور
أقول لصحبتي كروا عليهم فليس يهزهم إلا الكرور
ويعد بكر بن النطاح الشاعر من الصعاليك التوابين إذ كان بطلا ً شجاعا ً فارسا مقداما ً حيث كان في صدر حياته صعلوكا ً يصيب الطرق ثم ما لبث أن تاب والتحق بجيش يزيد بن مزيد الشيباني القائد المشهور في عهد المهدي والهادي والرشيد فأجرى له راتبا ً ثم غضب الرشيد منه لأنه مدح يزيد فانتقص من شأن قريش في مدحه وانتقد الخلافة العباسية وما تقوم عليه ما من استبداد حين قال :
فإن يك جد القوم فهر بن مالك فحسبي فخرا ً فخر بكرين وائل
ولكنهم فازوا بإرث أبيهم وكنا على أمر من الأمر باطل
كذلك اتصل بكر بن الفطاح بابي دلف العجلي القائد المظفر لعصر الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم فجعله من جنده وأجرى عليه رزقا ً وانعقدت بينهما مودة وصداقة وقاد له جيوشا ً لردع من كانوا يعيثون بعمله فسادا ً أو كان يريد التمرد والخروج على السلطان وبقي معه ومع مالك بن علي الخزاعي حتى قتله الشراة بحلوان , وكان قد هزمهم قبل ذلك , فرثى بكر بن النطاح مالك بن علي الخزاعي قائلا ً :
عز الغواة به وذلت أمة محبوة بحقائق الإيمان
وبكاه مصحفه وصدر حسامه والمسلمون ودولة السلطان
أفتحمد الدنيا وقد ذهبت بمن كان المجير لنا من الحدثان
أما الصعاليك الفقراء فقد أكثروا من وصف فقرهم وإملاقهم وبؤسهم وتعاستهم وضيق حياتهم وحرمانهم ويأسهم لانقطاع أسباب رزقهم بينما عاش الأغنياء في سعة من العيش ونعم كثيرة على حساب فقر الناس وإن هؤلاء الأغنياء سبب محنة الفقراء وبلائهم وقد لخص الحمدوني وضع الشعراء الصعاليك الفقراء الهجاؤين قائلا ً :
من كان في الدنيا أخا ثروة فنحن من نظارة الدنيا
نرمقها من كتب حسرة كأننا لفظ بلا معنى
وقد وصف هؤلاء الصعاليك عري أبنائهم وجوعهم واصفرار وجوههم وهزال أبدانهم ومن ذلك قول الساسي :
وصبية : مثل صغار الذر سود الوجوه كسواد القدر
جاء الشتاء وهم بشر بغير قمص وبغير أزر
تراهم بعد صلاة العصر وبعضهم ملتصق بصدري
وبعضهم ملتصق بظهري وبعضهم منحجر بحجري
إذا بكوا علتهم بالفجر حتى إذا لاح عمود الفجر

كأنهم خنافس في حجر هذا جميع قصتي وأمري
كذلك كان أبو الشمقمق همه خبز عياله شأنه شأن الشعراء الصعاليك , ولقد استخدم الشعراء الفقراء من الصعاليك وسائل عدة لنيل أرزاقهم كاستخدام الرقاع ورفع الشكوى لكبار رجال الدولة من القضاة والوزراء والإشراف طالبين مساعدتهم كما صنع أبو فرعون الساسي حين كتب إلى قاضي البصرة :
يا قاضي البصرة ذا الوجه الأغر إليك أشكو ما مضى وما عبر
عفا زمان وشتاء قد حضر إن أبا عمرة في بيتي الخجره
يضرب بالدف وإن شاء زمر فاطرده عني بدقيق ينتظره
فأجابه القاضي إلى ما سأل .
وهذا أبو الشمقمق يستعدي بعض الهاشميين على الفقر قائلا ً :
يا أيها الملك الذي جمع الجلالة والوقاره
إني رأيتك في المنام وعدتني منك الزيارة
فغدوت نحوك قاصدا ً وعليك تصديق العبارة
إن العيال تركتهم بالمصر خبزهم العصارة
وشرابهم بول الحمار مزاجه بول الحماره
ضجوا فقلت تصبروا فالنجح يقرن بالصبارة
حتى أزور الهاشمي أخا الغضارة والنضارة
وكان هؤلاء الشعراء الصعاليك يمدحون " العمال والكتاب " وبعض أبناء البيت الهاشمي مما لم يكن لهم شأن كبير وأكثر مديح الصعاليك متضمن الشكوى والاستعطاف مما دفع ممدوحيهم للصدود عنهم , ومديح أبي فرعون الساسي للحسن بن سهل وزير المأمون أوضح مثال لذلك :
إليك أشكو صبية وأمهم لا يشبعون وأبوهم مثلهم
قد أكلوا اللحم ولم يشبعهم وشربوا الماء فطال شربهم
وامتذقوا المذاق فما أغناهم والمضغ إن نالوه فهو عرسهم
لا يعرفون بالخبز إلا باسمه والتمر هيهات فليس عندهم
وما رأوا فاكهة في سوقها ولا رأوها وهي تنحو نحوهم
وكذلك اتخذ الشعراء الفقراء طريقة الهجاء سلاحا ً لكسب قوتهم وكان هؤلاء الشعراء يستخدمون فاحش القول وخبث اللسان ومن هذا النوع قول أبي الشمقمق يهجو رجلا ً يسمى معبدا :
يا من يؤمل معبدا من بين أهل زمانه
لو أن في اسمك درهما لاستله بلسانه
وكذلك قوله يهجو القائد سعيد بن سلم الباهلي هجاء ً مزج فيه بين التحقير والسخرية مع بيان بخله :
هيهات تضرب في حديد بارد إن كنت تمطح في نوال سعيد
والله لو ملك البحار بأسرها وأتاه سلم في زمان مدود
يبغيه منها شربة لطهوره لأبى وقال تيممن بصعيد
ويقول الحمدوني هاجيا ً الجاحظ :
لو يمسخ الخنزير مسخا ً ثانيا ً لرأيته من دون قبيح الجاحظ
ويقول في هجاء أحمد بن حرب المهلبي بعد أن وهبه طيلسانا ً قديما ً لم يعجبه :
رأينا طيلسانك يا ابن حرب يزيد المرء ذا الضعة اتساعا
إذا الوفاء أصلح منه بعضا ً تداعى بعضه الباقي انطواعا
ولقد شكل اللصوص في العصر العباسي حركة قوية ومنظمة أفرادها على درجة عالية من الوعي الاجتماعي والثقافة الواسعة والمعرفة الصحيحة بمفاسد الحكام وطغيانهم واختلال الاوضاع الاقتصادية وطمع التجار وعدم أداء حقوق الفقراء الواجبة على الأغنياء وقد كان لهؤلاء اللصوص لباسهم الخاص بهم مع كونهم أذكياء يدربون بعضهم على اللصوصية وقد حملوا مبادئ رفيعة حافظوا عليها حيث كان أفرادها يتخذون شكل العصابات التي تنتشر في المدن حيث يقوم كل فرد من العصابة بعمل بعينه ودور خاص به , وقد كان اللصوص العباسيون يمارسون أعمالهم بالحذر والحيطة والمراقبة من الأعوان والمساعدين حين يريدون السطو على الأسواق أو سرقة التجار .
وبما أن اللصوص العباسيين قد نشؤوا في بيئة حضرية ومجتمع مستقر ومدن كبيرة فقد غيروا وسائلهم وبدلوها بحسب الواقع والحال فاعتمدوا الخداع والحيل اللطيفة والخدع الخفيفة حتى يضمنوا النجاح لأعمالهم في كل مكان فقد ابتدعوا للمسجد حيلة وللسوق حيلة وللمسافر حيلة وللسائر في الطرق حيلة وللتجار حيلة وللدور حيلة .
ففي المساجد التي يأوي إليها التجار ينتظرون التاجر حتى يدخل ويصلي ويضع ماله تحت رأسه وينام يربطون رجله بحبل متين مشدود إلى وتد قوي ثم يستلون صرته أو كيسه , فإن لم يشعر بهم فروا آمنين وإن أفاق وأحس أنه سرق وانطلق يعدو خلفهم لم يمكنه الاستمرار بالعدو ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء اللصوص كانوا ذوي مبادئ وأهداف فلا يسرقون إلا التجار الذين يمتنعون عن الزكاة أو التجار الكاذبين المخادعين الذين يأكلون أموال الناس ظلما ً وعدوانا ً أو التجار الخونة , أما الأثرياء الكرماء فكانوا يحترمونهم ويقدرونهم ولا يصيبونهم بسوء وكذلك كانوا يسطون على البخلاء وفي ذلك يقول أحدهم :
وعيابة للجود لم تدر أنني بإنهاب مال الباخلين موكل
غدوت على ما احتازه فحويته وغادرته ذا حيرة يتململ
وقد يلص أحدهم كعثمان الخياط على حواشي الخلفاء المتمتعين بزينة الحياة الدنيا والشحاذين وقطاع الطرق والفاسقين العابثين والأغنياء المترفين :
سأبقي الفتى أما جليس خليفة يقوم سواء أو مخيف سبيل
وأسرق مال الله من كل فاجر وذي بطنة للطيبات أكول
ومع ذلك فكان هؤلاء اللصوص مراعين لحق الجوار لا يجازون سيئة بسيئة صادقين أوفياء بالعهد والأمانة في المعاملة وقد اصطلحوا على تسمية أعمالهم بالفتوة .
ولا ينبغي أن ننسى فئة العيارين أولئك الأحباش والأفارقة الذين جلبوا للخدمة في مختلف الميادين كالقصور والمزارع فشعروا بالضيق ووعورة العيش وظلموا فاضطروا للثورة والتمرد والاكتساب الرزق بالتلصص والسرقة مما جعلهم يدخلون السجون .
وفي ذلك يقول أحدهم :
وما قتل الأبطال مثل مجرب رسول المنايا ليله يتلصص
وقد أثبت هؤلاء العيارون مقدرتهم الحربية في أصعب المواقف :
خرجت هذه الحروب رجالا ً لا لقحطانها ولا لنزار
معشرا ً في جواشن الصوف يعدون إلى الحرب كالأسود الضواري
وكذلك يجب ألا نغفل اللصوص الشطار الفتيان الذين تركوا أهلهم مراغما ً وتمردوا على مجتمعاتهم بالتلصص والسرقة يتفننون أوقات الفوضى في المدن ويغيرون على التجار والأغنياء والقرى ويتسولون على ما يستطيعون نهبه وحمله يحملون مبادئ وأهداف محمودة ويعرفون بالفتيان وقد حمل العوز إسحق الحنفي على الانضمام لركب الشطار لكي يوفر لابنة أخته التي يتبناها ورباها بلغ العيش ويجنبها السؤال :
لولا أميمة لم أجزع من العدم ولم أجب في الليالي حندس الظلم
وزادني رغبة في العيش مفرقتي ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم
أحاذر الفقر يوما ً أن يلم بها فيهتك الستر عن لحم على وضم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ً والموت أكرم نزالا ً من أذى الكلم
أخشى فضالة عم أو جفاء أخ فكنت أبقي عليها من أذى الكلم
وقد عدل الشاعر عن اللصوصية إلى المدح والهجاء للتأثير على كبار رجال الدولة علهم يواسونه ببعض المال . وكذلك ظهرت فئة التطفيل الذين كانوا يأتون الولائم من غير أن يدعوا إليها بسبب عدم حيائهم وشح الأثرياء وقعودهم عن مساعدة الضعفاء ومواساة الجائعين ،وقد عبر عن ذلك أحدهم حين قال :
ولما رأيت الناس ضنوا بما لهم فلم يك فيهم من العيش إلى الفضل
ولم أر فيهم داعيا ً لابن فاقة يمن إلى شرب ويصبو إلى أكل
ركبت طفيليا ً وطوفت فيهم ولم أكترث للحم والعلم والأصل
ومن أعلام التطفيل " طفيل بن زلال " و " عثمان بن درج " الذي يقول :
لذة التطفيل دومي وأقيمي لا ترممي
أنت تشفين عليلي وتسليني همومي
فالطفيليون والشطار والعيارون فقراء جائعين لا يميلون إلى التلصص على الناس ونهبهم بل إلى الحيلة لتحصيل رزقهم .


الباب السادس
أبرز أعلام الشعر في العصر العباسي
كثر الشعر الذي كتبه الرجال في العصر العباسي وكذلكالنساء ،ولم يكن الشعر النسائي في المجتمع العباسي مقصورا على الحرائر وحدهن دون القيان ،فقد غض ذلك المجتمع بالكثير من الجواري اللائي سكن القصور واستولين في كثير من الحالات على قلوب أصحاب القصور أنفسهم ، وإذا كانت أساليب القيان في الاستيلاء على إعجاب مواليهن قد قامت في وقت ما على ما تملكه الجارية من لباقة وجمال وإظهار أسباب الدلال ثم أضيف إلى ذلك عزف بارع وصوت حسن وغناء متقن أخاذ ، فان الأمر ما لبث أن تطور فأصبح القيانون يحرصون قدر استطاعتهم على إن يعدوا جواريهم إعدادا أدبيا ويخرجوهن على اللغة ويدربوهن على قول الشعر ، فنبغ من بينهن القينات الشاعرات الموهوبات ، وبعض أولئك جمعن إلى إجادة الشعر جمال الصوت وإتقان العزف وبراعة الضرب وحسن الأداء مع جمال وافر وبديهة حاضرة ونكته سريعة في غير تحرج من فحش اللفظ سماعا أو قولا .
لقد وجد عدد غير قليل من هؤلاء الشاعرات القيان اللاتي فرضن أنفسهن على بغداد فشغلن الناس فيها ابتداء من الخليفة في قصره مروا عبر طبقات المجتمع وصولا إلى الفقير في كوخه ، وأكثر هؤلاء كن منحرفات منحلات وراء ستار من التظاهر بالظرف واصطناع الفكاهة ، ولعل أشهر من شغل مجتمع (( العباسية ) من هؤلاء القيان عنان جارية الناطفي – أو النطاف – وفضل التي عرفت بأنها جارية المتوكل وعريب التي عرفت باسم عريب المأمونية لشدة تعلق المأمون بها .
غير أن هذا السلوك المنحرف عن جادة الفضيلة لم يكن ظاهرة عامة بحيث شمل جميع الجواري والقيان الشاعرات ، لقد وجد من بينهن الصالحات الفاضلات من أمثال سكن جارية محمود بن الوراق وخنساء جارية هشام المكفوفوسنذكر أهم الشعراء والشاعراتإننا نضع الشعرالعباسي من حيث موضوعاته وأساليبه في إطارين متباينين لفريقين مختلفين .الإطار الأول هو إطار البيت السهل التركيب في القصيدة أو المقطوعة الناعمة الإنشاء ، وأكثر هذا الشعر لا يكاد يصدر عن عاطفة ولكنه يصدر عن اصطناع للعاطفة أو ابتداع للظرف ، وأكثره شعر اجتماعي أو شعر مناسبات ، ولا نستطيع إن نسجل لهذا الفريق من الشاعرات شيئا أكثر من انهن عايشين مجتمعهن ، وكان شعرهن في نطاق أنوثتهن سهلا بسيطا محدود ملكة الإبداع إلا في حالات قليلة ، إن الفريق الذي يتمثل داخل هذا الإطار هو فريق الشاعرات القيان ومن كن في سلوكهن وعيشهن قريبات من سلوك القيان ، ومن ثم فإن الشاعرة عليه بنت المهدي تعتبر واحدة من هذا الفريق .
وأما الإطار الثاني فهو إطار القصيدة النسائية العربية المتماسكة المصقولة ذات الموضوع والرونق والديباجة والأحكام ، ولا شك في إن هذه السمات الموضوعية والأسلوبية مرتبطة أيضا بطبيعة هذا الفريق الثاني من الشاعرات وبالموضوعات التي كن يعالجنها من خلال قصائدهن ، إنهن فريق الحرائر اللائي كابدن قضايا كبيرة وعشن حياة جليلة خطيرة دفعت بهن إلى القول الجاد الذي ارتفع إلى مستوى الأحداث والقضايا التي عايشنها وعالجنها ونحن نعني بهذا الفريق الفارعة بنت طريف الشيبانية وولادة المهزمية ونلحق بهما من الجواري من سلكن سبيل الحرائر وبالتالي يندرج في نفس الإطار ((سكن)) جارية محمود الوراق (( وخنساء)) جارية هشام المكفوف.




(1)
علية بنت المهدي
عرفت المرأة العربية بقول الشعر سلسا فصيحا بليغا في الجاهلية والإسلام وعصر بني أمية وكان امرأ طبيعيا إن تنبغ شاعرات من بين النساء في عصر بني العباس ، غير إن طبيعة البيئة العباسية التي فصلنا الكثير من جوانبها في فصول سلفت لم تقدم لنا الشاعرة الحرة القول العفيفة المشاعر النقية الحب على ما ألف الشعر العربي وإلفنا نحن بالنسبة للعصور السابقة . صحيح أنه وجد بين الشاعرات الجاهليات والإسلاميات من غرقن في الحب واكتوين بلوعة ولكن واحدة منهن لم تخرج عن الجادة ولم تترخص أو تتهافت كما فعلت أكثر شاعرات ((العباسية )) ولا زالت بعض أنغام العفة تترنح في دلال على عتبات إسماعنا في قول ليلى الأخيلية لصاحبها توبة الحميري وقد ظنت أنه أراد بها ريبة :
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي إن نخونه وأنت لأخرى صاحب وخليل
أما في العصر العباسي فإن هذه القيم قد انمحت أو كادت ، بل إن الشاعرات قد تناقص عددهن بالنسبة إلى عددهن في العصور السابقات .
على أن أشهر الشاعرات العباسيات على الإطلاق كانت أميرة عباسية أبوها كان خليفة هو المهدي بن المنصور ، وثلاثة أخوة لها كانوا خلفاء ، احدهم أشهر خلفاء بني العباس على الإطلاق وهو هارون الرشيد ، والأخوان الآخران هما موسى الهادي وإبراهيم بن المهدي ، وهذا الأخير ولي الخلافة في بغداد لبعض الوقت حين خلع المأمون ، وكذلك شهدت ابنين من أبناء أخيها جلسا على عرش بني العباس هما الأمين والمأمون ، تلك هي الأميرة العباسية الشاعرة علية بنت المهدي أخت الرشيد والهادي وإبراهيم من الأب ، أما أمها فكانت جارية مغنية اسمها مكنونة ، اشتراها المهدي في حياة أبيه بمائة ألف درهم فولدت له عليه التي تعرف أحيانا باسم العباسة
لم تكن عليه شاعرة وحسب وإنما كانت تجيد العزف وتحسن الغناء ، وكان الرشيد يذهب إليها لكي يطرب بالاستماع إليها تغني شعرا في مديحه من إنشائها وغنائها وكذلك كان يستمع إليها ابنا أخيها الأمين ثم المأمون . أما أخوها إبراهيم فكان مثلها شاعرا عازفا مغنيا وكان يأخذ عنها الألحان ويرددها حتى إن الاصبهاني يردد خبرا مفاده أنه ما اجتمع في الإسلام قط أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدي وأخته عليه
وعلى الرغم مما ذاع عن عليه من مغامرات في الحب مع غلاميها (( رشا)) و ((طل )) وما ذاع من قصائد التشبيب بهما ، فإن الاصبهاني ينسب إلى أحد المقربين من بني العباس قوله إنها كانت حسنة الدين لا تغني ولا تشرب النبيذ إلا إذا كانت معتزلة الصلاة ، فإذا طهرت أقبلت على الصلاة والقرآن وقراءة الكتب ولا تلذ بشيء غير قول الشعر ، وينسب إليها كلاما جميل المعاني مثل قولها : ما حرم الله شيئا إلا وقد جعل فيما حلل منه عوضا ، فبأي شيء يحتج عاصية والمنتهك لحرماته ؟ أو قولها عن نفسها : لا غفر الله لي فاحشة ارتكبتها قط ، ولا أقول الشعر إلا عبثا.
على كل حال كانت تشرب وتغني وتعبث وتتغزل ، ولقد سبق لعمر بن أبي ربيعة أن قال كلاما شبيها بهذا فترجو أن يكون كلاهما صادقا ، والله اعلم بالسرائر .
على أن الأمر الذي لا شك فيه إن عليّه كانت شاعرة رقيقة وكانت ذكية واسعة الثقافة الشيء الذي يبدو جليا في شعرها ما كان منه في الغزل أو في أغراض أخرى على قلتها وأكثرت ما قالت عليه من شعر قالته في الغزل والحب وأتت فيه بأفكار شتى وطلعت على الناس منه بصور عديدة فيها حلية ورقة ولطف وفكاهة ، ويبدو أنها نفسها كانت فكهة مرحة شأن أكثر أصحاب الفنون ، ولكنها كانت موجعة في هجائها مسرفة فيه مريرة في سبابها ، فقد هجت جارية اسمها ((طغيان )) لوشاية قامت بها تجاه من تحب فقالت فيها أبياتا ثلاثة من أشنع ما تهجى به امرأة نذكر منها اثنين فقط ونمسك عن الثالث :
لطغيان خف مذ ثلاثين حجة جديد فلا يبلى ولا يتحرق
وكيف بلى خف هو الدهر كله على قدميها في الهـواء معلق
فإذا ما انتقلنا إلى غزلها فإننا نلمس أنه مر في أطوار عدة ،
1-الطور الأول هو مرحلة التكبر والاستعلاء على الناس أجمعين ، وأنها تخلو وحدها إلى الراح تنادمها لأنها لم تجد الصاحب الكفء الذي يصلح لمنادمتها ومشاركتها فتقول :
خلوت بالراح أناجيها آ منها وأعاطيها
نادمتها إذ لم أجد صاحبا أرضاه إن يشركني فيها
ثم لا تلبث الأميرة أن تعشق ، وتفصح عن عواطف حبها ، ولكنها تلوذ بالكتمان وتتسربل بالحياء ، وتود السفر إلى بلد ناء بعيد حتى تنطق باسم الحبيب :
كتمت اسم الحبيب عن العباد ورددت الصبابة في فؤادي
فواشوقي إلى بلـد خلي لعلي باسم من أهوى أنادي
ويبدو أن الحب قد ملك عليها بعد زمان أمرها ، فأصبحت لا البعد يسليها ، ولا القرب يشفيها ، فراحت تفلسف الحب وتجعل منه قضية منطقية ذات مقدمة ونتيجة ولكنها قضية تنم عن يأس ولوعة:
إذا كنت لا يسليك عمن تحبه تناء ولا يشفيك طـول تـلاقي
فما أنت إلا مستعيـر حشاشة لمهجة نفس أذنت بفراق
وتمضي الشاعرة الأميرة المحبة المثقفة فتدلف بالحب إلى منعطفات فلسفية ذاتية وتحاول أن تصبغ حالاته معها بصيغة الحكمة ، وربما تصورت أن أبياتها سوف تذيع يوما ما وتجري مجرى الأمثال ، فتقول هذا الشعر اللطيف الذي ربما عمدت فيه إلى التظرف أكثر مما عمدت فيه إلى نهج من الجدية :
بني الحب على الجور فلو أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستحسن في وصف الهوى عاشق يحسن تأليف الحجج
لا تعيبن من محـب ذلـة ذلة العاشق مفتاح الفرج
وقليل الحب صرفا خالصا لك خير من كثير قد مزج
وعليّه ذكية فطنة ذات ثقافية دينية فقهية فيما يبدو ، أنها تستعمل المصطلحات الفقيهة في شعر الغزل برشاقة تحسد عليها وأسلوب ينم عن نفس صافية عذبة وشاعرية خصبة تنثال عليها المعاني ميسرة الأسباب متى استدعتها ، أنها تشكو الحب وخطبة – فالحب عندها من المصائب – بهذا الأسلوب الرائق الصوغ
ليس خطب الهوى بخطب يسير ليس ينبيك عنه مثل خبير
ليس أمر الهوى يدبر بالرأي ولا بالقياس والتفكير
ويلح سلطان الحب على شاعرة بني العباس فتشكو الأم الحب ولوعة الجوى شكوى صريحة بعيدة عن الاستتار واصطناع الأقنعة الكلامية ، وتحاول أن تجامل محبوبها بخلع صفات الجمال عليه ولا تنسى نصيبها هي الأخرى من إطراء نفسها ترغيبا له وإثارة وإشفاقا فتقول بأسلوب يكاد يقترب من أسلوب الصوفية :
لم ينسنيك سرور لا ولا حزن وكيف لا كيف ينسى وجهك الحسن
ولا خلا منك لا قلبي ولا جسدي كلي بكلك مشغول ومرتهن
وحيدة الحسن ما لي عنك مذ كلفت نفسي بحبك إلا الهم والحزن
نور تولد من شمس ومن قمر حتى تكامل فيه الروح والبدن
ويحدث تطور في شعر الغزل عند عليّة حين تعلن حبها لإنسان بعينه ، وتفصح عن أنها تقول فيه شعرها ، ولكنها تعلن في نفس الوقت أنها تعمد إلى التعمية فتكني عنه باسم زينب ولم تكن زينب هذه سوى غلامها رشأ الذي قالت فيه شعرا كثير.
وجـد الفـؤاد بزينبـا وجدا شديدا متعبا
أصبحت من كلمي بها أدي سقيما منصبا
ولقد كنيت عـن اسمها عمـدا لكـي لا تغضبا
وجعلت زينب سترة وكتمت أمرا معجبا
قالت لقـد عـز الوصال ولـم أجد لـي مذهبا
والله لا نلت المـودة أو تنـال الكوكبـا
ولم يكن ((رشأ)) الفتى الوحيد الذي استولى على قلب عليّة ، بل كان هناك فتى آخر يصارع قلبها حبه ربما أكثر مما كان يحتله رشأ منه ، إن هذا الفتى الثاني هو ((طل)) ويبدو إن عليه كانت تحب ((طلا)) حبا حقيقيا فبعض شعرها فيه شبيه إلى حد ما بشعر العذريين ، وكانت تعمد إلى التورية حين تتغزل فيه ذاكرة اسمه ، ولكنها تورية عذبة لطيفة إنها تقول في أبياتها تلك الغزلية التي جمعت بين التورية والعذرية :

أيا سروة البستـان طـال تشوقي فهل لي إلى ((طل)) لديـك سبيل
متى يلتقي من ليس يقضي خروجه وليس لمـا يقضي إليه دخول
عسى الله أن نرتاح من كربة لنا فيلقي اغتباطا خلـة وخليل
ويستبد حب علية لطل ويحتجب عنها فترة زمنية تطول بعض الوقت ربما خشية على حياته من بطش الرشيد فيدفع الشوق بالأميرة إلى أن تخاطر بالسعي إليه على ميزاب وتحس علية بالمخاطرة التي أقدمت عليها وهي مخاطرة لا يقدم عليها العاشقون من الرجال فما بالك إذا كان الذي قام بها ليس مجرد أنثى ولكنها أميرة خطيرة إنها على كل حال لا تخفي مشاعرها نحو هذة الحادثة و تذكرها في هذين البيتين
قد كان ما كلفتة زمنا يا طل من وجد بكم يكفي
حتى أتيتك زائرا عجلا أمشي على حتف إلى حتفي
ويعلم الرشيد بقصة غرام أخته وفتاها (طل )فينهرها ويأخذ عليها عهدا ألا تكلم (طلا) ولا تسمية باسمه وتستجيب الأميرة لرغبة أخيها الخليفة ثم تلعب المصادفات الطريفة دورا فكها حين يمر الرشيد على مقربة من أخته وهي تدرس آيات من سورة البقرة حتى بلغت إلى قوله تعالى (فإن لم يصبها وابل فطل ) وتفطن الأميرة إلى لفظ (طل)التي وردت في الآية وتتذكر أنها أقسمت ألا تنطق هذه الكلمة أخذت علي فتقرأ الآية هكذا : فإن لم يصبها وابل فالذي نهانا عنه أمير المؤمنين، وهنا يدخل الرشيد و يمديده إليها ويقبل رأسها ويقول لها قد وهبت لك (طلا ) ولا أمنعك بعد ذلك من شئ تريدينه.
وكأنما أخذت علية من أخيها بهذا التصريح ميثاق تحرر وانطلاق وانفلات فطفقت تقول في الحب والغزل قول من لا يخشى ولا يتحرج ، وكأنما جعلت من نفسها سادنة لفن الغزل وأساليب القول فيه ، فأخذ أسلوبها يرق ومعانيها تعذب إلى إن وصلت إلى هذه المرتبة في الحديث إلى العاشقين وحضهم على العشق قائلة :
تحبب فإن الحب داعية الحب وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
تبصر فإن حدثت أن أخا هوى نجا سالما فارج النجاة من الحب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا فأين حلاوات الرسائل والكتب
إن عليّة شاعرة كبيرة ما في ذلك شك، ولكنها شاعرة في نطاق أنوثتها بحيث إذا ما قورن شعرها بشعر الشعراء من الرجال فربما خبا ضوؤه وخفت صوته ، إنها أستاذة الشاعرة الأميرة ولادة بنت الخليفة المستكفي بالله الأندلسي ، التي ظهرت هناك بعد ذلك مما يناهز ثلاثة قرون من الزمان ، ولكن علية على كل ما نسب إليها حقا كان أو باطلا ، لم تنس أنها من بيت الخلافة فلم ترد في غزلها كلمة نابية أو معنى خارج على حدود المألوف اللهم إلا في حالات قليلة ، ربما لم تقصد بشعرها الذي قيل في تلك الظروف الخاصة إلى إذاعته وروايته وترديده . ثم إنها حين مدحت لم تمدح غير أبناء أسرتها مثل الرشيد وولديه اللامين والمأمون ، ولكننا ينبغي أيضا أن نحكم ربطها بالبيئة الاجتماعية للدولة العباسية فهي تغني ويسمعها أخوها الخليفة وابنا أخيها الخليفتان ، وهي تعشق وتتغزل وتهذي بمن تحب تحت سمع الخليفة وبصره فلا يفعل أول الأمر أكثر من إن يزجرها بلطف ، ثم لا يلب ثان يهبها الغلام الذي ملأت الدنيا صراخا بحبه وهجره ، إنها ظاهرة اجتماعية عباسية فارسية غير عربية على كل حال .. ولذلك فإن كلا من علية هذه وأخيها إبراهيم بن المهدي كانا من السوءات التي استغلها الشعراء من أعداء بني العباس وبخاصة شعراء الشيعة ، واستطاعوا إن ينالوا من خلق الخلافة العباسية ومن سمعة البيت العباسي بسببهما نيلا كثيرا ، خصوصا حينما كانوا يجرون المقارنات بين حشمة وطهارة نساء آل البيت ورجاله وبين مجون وانفلات نساء بيت بني العباس ورجاله .




(2)
الفارعة بنت طريف :
إذا كانت علية قد نشأت في بيت الملك وتحت سقوف القصور المذهبة فان الفارغة بنت طريف الشيبانية كانت على العكس من ذلك ، إن الفارعة التي اختلفت المصادر في اسمها الحقيقي فسمتها ليلى تارة وفاطمة تارة أخرى شاعرة فارسة خاضت غمار الحب ممتطية صهوة جوادها لابسة درعها ممسكة بجوشنها شاهرة سيفها غير هيابة ولا رعديدة ، إنها أخت الفارس الخارجي الوليد بن طريف الشيباني الذي لقب بالشاري ، وهو اللقب الذي اصطلح الخوارج على تسمية الواحد منهم به ، وكان الوليد رأسا للخوارج على أيام الرشيد مقيما بنصيبين والخابور وما حولهما من نواح ، وكان شجاعا صاحب بأس وصولة ، جريئا مقداما جسورا قوي الشوكة بحيث كان سكان ضواحي بغداد لا يأمنون نزوله إليهم وغارته عليهم ، فبعث إليه الرشيدة قائده الفارس المشهور يزيد وقتل الوليد ، كان ذلك سنة 179هـ وتعلم الفارعة بمقتل أخيها البطل المغوار فتلبس لباس الحرب وتهاجم جيش يزيد الذي يكشف أمرها فيواجهها ويطاردها ويضرب بسيفه مؤخرة فرسها قائلا: اغربي ، لقد فضحت العشيرة ، يريد عشيرة بني شيبان التي ينتسب إليها كل من يزيد والوليد وأخته الفارعة .
ويبلغ التأثر بالفارعة مبلغا عظيما لفقد أخيها البطل الشجاع ، وكانت شاعرة بليغة مالكة ناصية القصيد ، فتقول في رثائه من جزل الشعر ما يجعلها شبيهة بالخنساء في رثاء أخيها صخر ، غير أن الفارعة ربما كانت أطول نفسا وأجزل عبارة ، فأنشأت قصيدتها الفائية الرائعة في رثاء الوليد واقفة على القبر في المكان الذي صرع فيه قائله :
ألا قاتل الله الجثا كيف أضمرت فتى كان للمعروف غير عيوف
فإلا تجبني دمنة هـي دونه فقد طال تسليمي وطـال وقوفي
وقد علمت أن لا ضعيفا تضمنت إذا عظم المرزي ولا ابن ضعيف
ولهول الفجيعة في أخيها البطل تطلب الفارعة من الدنيا كلها أن تحزن لقتله ، إنه جدير بأن تحزن الدنيا عليه ، فهو ثائر على الظلم خارج على الجور متعشق للحرية ، تقدم إلى ساحة المعركة التي قتل فيها بعد أن أبلى أحسن البلاء وهو يقول :

أنا الوليد بن طريف الشاري قسورة لا يصطلى بناري
جوركم أخرجني من داري
إن من كانت هذه شجاعته يستحق أن يحزن عليه عديد من الناس بل الأرض التي خر فيها صريعا في منطقة الخابور الخضراء ذات الأشجار المورقة ، الأمر الذي يجعل الفارعة تؤنب الشجر على اخضراره وإيراقه وتطلب إليه الجفاف والتعري ، ثم تمضي خالعة أنبل الصفات على أخيها البطل الفارس الصريع قائلة :
فيا شجر الخابور مالـك مورقا كأنك لم تحزن على ابن طريف
فتى لا يلوم السيف حين يهزه إذا ما اختلى من عاتق وصليف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ولا المال إلا من قنا وسيوف
ولا الخيل إلا كل جرداء صلدم واجرد ضخم المنكبين عطوف
فقدناه فقدان الربيع وليتنا فديناه من ساداتنا بألوف
وما زال حتى أزهق الموت نفسه شجا لعدو أو لجـا لضعيف
حليف الندى إن عاش يرضى به الندى وإن مات لا يرضى الندى بحليف
فإن يك أرداه يزيـد بـن مزيد فيا رب خيل فضها وصفوف
وتمضي الفارعة في قصيدتها الحزينة الجزلة الباهرة مصورة صنوفا من الحزن ، مولدة ألوانا من الجزع على الوليد وما أصاب قومه فيه من رزء ،فقد كان يشتمل بصفات من البطولة والحمد لا تكاد تتجمع في أحد من بني قومه ، وتمضي الأبيات هكذا:
ألا يا لقومي للنوائب والردى ودهر ملح بالكرام عنيف
وللبدر من بين الكواكب إذ هوى وللشمس همت بعده بكسوف
ولليث فوق النعش إذيحملونه إلى حفرة ملحودة وسعوف
بكت تغلب الغلباء يوم وفاته وأبرزمنها كل ذات نصيف
يقلن وقد أبرزن بعدك للورى معايد حلي من برى وشنوف
كأنك لم تشهد مصاعا ولم تقم مقاما على الاعداء غير خفيف
ولم تشتمل يوم الوغى بكتيبة ولم تبد في خضراء ذات رفيف
دلاص ترى فيها كدوحا من القنا ومن ذلق يعجمنها بحروف
وطعنة خلس قد طعنت مرشة على يزني كالشهاب رعوف
ومائدة محمودة قد علوتها بأوصال بختي أحذ عليف
وتطرق الفارعة معاني كثيرة عديدة في رثاء أخيها وذكره والبكاء عليه وتوبخ قومه لعدم الثبات معه في الحرب فضيعوه وضيعوا أنفسهم ،بل إنها توبخ السيوف التي أصابت جسمه ،ولو قد علمت من تصيبه لنبت عنه وارتدت هيبة وخوفا ،وهو معنى جميل وتعليل بارع جرى على لسان الشاعرة الفارسة :
ذكرت الوليد وأيامه إذ الأرض من شخصه بلقع
فأقبلت أطلبه في السماء كما يبتغي أنفه الأجدع
أضاعك قومك فليطلبوا إفادة مثل الذي ضيعوا
لو أن السيوف التي حدها يصيبك تعلم ما تصنع
نبت عنك إذ جعلت هيبة وخوفا لصولك لا تقطع





(3)
ولادة المهزمية البصرية :
واحدة من الشاعرات الحرائر ، وهي قريبة لأبي هفان عبد الله بن أحمد بن حرب المهزمي الراوية المعروف . لقد روى أبو هفان لولادة شعر جزلا فخما فيه فحولة الأوائل ورصانة المجيدين وقوة المتمكنين .بل إن الأنموذج الذي وصل إلينا من شعرها ربما لم يرق إلى مستواه الفني بعض شعر كثير من الشعراء الكبار .
إن ولادة المهزمية البصرية المشرقية ـــ وهي غير ولادة بنت المستكفي بطبيعة الحال ـــ تفخر بشمائلها ومكانتها وبقومها بهذه الأبيات الجليلة البناء البارعة الإنشاء فتقول :
لولا اتقاء الله قمت بمخفر لا يبلغ الثقلان فيه مقامي
بابوة في الجاهلية سادة بزوا العلا ، امراء في الاسلام
جادوا فسادوا ما نعين أذاهم لنداهم بذل على الاقوام
قد أنجبوا في السؤددين وأنجبوا بنجابة الأخوال والأعمام
قوم إذا سكتوا تكلم مجدهم عنهم فأخرس دون كل كلام
إن هذا الضرب من الشعر فن جزل ، حافظ على رونق الشعر العربي وفخامته ،بحيث يشكل نمطا وسطا بين رقة المدينة وخشونة البداوة ، و لعل حياء المرأة غير الحضرية أو عدم احتفالها بنشر شعرها كان يحول بينها وبين أن تنشر ذلك الشعر ،وهناك سبب آخر وجود هذا النوع من الشاعرات بعيدات عن عاصمة الدولة ،ومن ثم يكون القليل منه الذي وصل إلينا هو بعض الذي جرى على ألسنة الرواة فردده بعض المتأدبين

.





(3)
عنان الناطفية : 000 – 226 هـ
كانت عنان من أشهر جواري زمانها لفصاحتها وبلاغتها وسرعة بديهتها وحدة خاطرها ، ولانحراف مولاها الناطفي الذي كان يجمع لها الشعراء في بيته على موائد الخمر فتتناشد معهم الشعر الجيد والرديء والعف والبذيء ، أو بالأحرى الذي كان أقله جدا وأكثره بذاءة ولا غرابة في ذلك فقد كانت هذه طبيعة هذا القطاع وسليقته من مجتمع ((العباسية )) .المهم إن ((عنانا)) هذه قد شغلت مجتمع الأدباء والشعراء في بغداد على عصر الرشيد مثل أبي نواس ، ودعبل الخزاعي ، ومروان بن أبي حفصة والعباس بن الأحنف ، واليزيدي الحميري مؤدب المأمون ، وأبي النضير شاعر البرامكة ، وأبي زهير رزين العروضي الشاعر نزيل بغداد فضلا عن بعض الأعراب الذين كانت المصادفات تلقي بهم في ناديها أو بالأحرى نادي مولاها لطارحتها الشعر. بل لقد كان على رأس هؤلاء جميعا الخليفة نفسه الذي هم بشرائها من صاحبها ذات يوم ثم رأى أن يرجع عن قولة ,ثم ما لبث أن اشتراها بعد عدة أعوام بعد وفاة مولاها الناطفي ,ودفع فيها مسرور الخادم في المزايدة على شرائها مائتين وخمسين ألف درهم لحساب سيده.
لقد كانت عنان جديرة بان تشغل مثل ذلك المجتمع الذي كان الشعر والموسيقي والشراب والمجون يشكل بعض سماته ، وكانت هذه باستعدادها الفطري من ذكاء وموهبة وطبيعتها الأنثوية من جمال وشباب ، وانحرافها السلوكي من مجون وخلاعة ، كل ذلك كان قمينا إن يلفت إليها الأنظار ، وبخاصة إذا كان مولاها من هؤلاء الذين يتاجرون بالرذيلة ويغضون الطرف عما لا ينبغي لكرم الناس أن يغضوا الطرف عنه.
كانت عنان تكتب علي عصابتها بالذهب ((ليس في العشق مشورة)) بحيث جعلت من هذا المعنى شعارا لها ، وذلك في حد ذاته لون من تحريض الناس ومراودتهم عن ما لا يحسن الظن به ، ولقد شجعت هذه الحلة عددا من الشعراء المجان على أن يكاتبوها بشعر كل معانية وانحلال مثلما فعل أبو النضيركما شجعت عدا آخر مثل دعبلوأبي نواسعلى إن يطرحوا عليها أبياتا من الشعر ويطلبون إليها إن تقطعها في تفعيلات عروضية بحيث ينتج عن تقطيعها ألفاظ نابية فاحشة معيبة فتضحك هي ويضحك الآخرون ، وهي بعد ذلك تستطيع أن تجيز أي بيت من الشعر مهما كانت جودته ، ومهما كان قائله ، بشعر أن لم يفقه طرافة معنى أو براعة صياغة فان لا يقصر دونه ، ثم هي بعد ذلك لها من أصالة القول ما يجعلها تقول شعرا فخما جزلا تستطيع أن تواجه به الفحول من الشعراء من غير ما تردد أو وجل، فلقد فعلت ذلك عندما هجت أبا نواس بأبيات موجعة سلكت فيها مذهب بشار نذكر البيت الأول منها ونعف عن بقيتها :
مت متى شئت قد ذكرتك في الشعر وجرر أثواب ذيلـك فخرا
ولقد فعلت ذلك عندما أفحمت العباس بن الأحنف وقد طارحها يوما ببعض شعره ، ، ولقد فعلت ذلك عندما مدحت يحيى بن خالد البرمكي بقصيدة يضاهي نهجها وأسلوبها نهج الفحول وأساليبهم .
كانت ((عنان)) بارعة في إجازة أبيات الشعر ، والحق إن بعضا من الشعراء قد نازلوها في هذا الميدان فإذا هي تستولي على مجامع إعجابهم ، وأحيانا تصرعهم ، يدخل مروان بن أبي حفصة بيت الناطفي وقد ضرب جاريته موضوع حديثنا هذا ، ويشهد دموعا تنحدر على صفحة وجهها فلا يلبث أن يقول :
بكت عنان فجرى دمعها كالدر قد توبع في خيطه
وإذ بها ترد عليه في الحال والعبرة في حلقها على حد تعبيره:
فليت من يضربها ظالما تجف يمناه على سوطه
فيفزع مروان لهذه العارضة القوية ويقول :هي والله أشعر الجن والإنس.
ويقع بصر أحد المتأدبين على هذا البيت من الشعر :
وما زال يبكي الحب حتى سمعته تنفس من أحشائه أو تكلما
فيقع البيت من نفسه موقع الإعجاب وهو لا يعرف قائله ، ويطلب من يجيزه فلا يجد أحدا فيذهب إلى عنان وينشدها إياه ،ما تلبث أن تقول :
ويبكي فأبكي رحمة لبكائه إذا ما بكى دمعا بكيت له دما
ويذكر أبو زهير رزين العروضي أنه دخل على عنان وعندها أعرابي فقالت له يا عم جاء الله بك على حاجة ، فيقول لها وما هي ؟ فتقول هذا الأعرابي يسألني أن أقول بيتا ليجيزه ، وقد عسر على الابتداء ، فابتدئ أنت علي بالقول فقال أبو زهير :
لقد قل العزاء فعيل صبري غداة حمولهم للبين زمت
فقال الأعرابي :
نظرت إلى أواخرها ضحيا وقد رفعوا لها عصبا فرنت
فقالت عنان :
كتمت هواهم في الصدر مني على أن الدموع علي نمت
ويعلق أبو زهير على ذلك فيقول : فكانت عنان أشعرنا
ولعل أطرف ما يروى عن براعة عنان في إجازة الشعر أن تغني في مجلس سمر الرشيد أبيات جرير :
إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلا بعينك ما يزال معينا
ويطرب الرشيد طربا شديدا ويعجب بالأبيات وبالغناء ، ثم يلتفت إلى جلسائه قائلا : هل منكم أحد يجيز هذه الابيات بمثلهن وله هذه البدرة ؟ وكان بين يديه بدرة من دنانير ، فحاولوا فلم يوفقوا إلى شىء من الشعر ذي قيمة ، فقال خادم على رأسه : أنا بها لك ياأمير المؤمنين . قال : شأنك . فاحتمل البدرة ثم أتى الناطفي ، فقال له : استأذن لي على عنان . فأذنت له . فدخل وأخبرها بالخبر . فقالت : ويحك ! وما الأبيات ؟ فأنشدها إياها . فقالت له اكتب :
هيجت بالقول الذي قد قلته داء بقلبي ما يزال كمينها
قد أينعت ثمراته في حينها وسقين من ماء الهوى فروينا
كذب الذين تقولوا يا سيدي إن القلوب إذا هوين هوينا
فقالت له : دونك الأبيات ، فدفع إليها البدرة ورجع إلى هارون . فقال له : ويحك ! من قالها قال : عنان ، جارية الناطفي . وعنان بعد ذلك شاعرة قديرة متمكنة إذا ما عالجت صناعة الشعر أو مارست عمل القصيد . إن العباس بن الأحنف كان قد تعلق بها فؤاده ، وما كان أكثر ما يتعلق فؤاده بالغواني والقيان ، فطارحها ذات يوم شعرا أظهر فيه عشقا ودلا، فأجابته عنان قائلة :
من تراه كان أغنى منك عن هذا الصدود
بعد وصل للشعر لك مني فيه إرغام الحسود
فاتخــــــذ للهجــــــــــر إن شئـــت فؤاد من حديــــد
ما رأيناك على ما كنت تجني بجليد
وأما الشعر الذي عمدت فيه عنان إلى انتهاج الأسلوب الجزل مقلدة في ذلك فحول الشعراء فقصيدتها في مدح يحيى بن خالد البرمكي حيث تقول:
نفى النوم من عيني حوك القصائد وآمال نفس همها غير نافد
إذا ما نفى عني الكرى طول ليلة تعوذت منها باسم يحيى بن خالد
وزير أمير المؤمنين ومن له فعالان من حمد طريف وتالد
من البرمكيين الذين وجوههم مصابيح يطفي نورها كل واقد
على وجه يحيى غرة يهتدى بها كما يهتدي ساري الدجى بالفراقد
تعود إحسانا فأصلح فاسدا وما زال يحيى مصلحا كان فاسدا
وكانت رقاب من رجال تعطلت فقلدها يحيى كرام القلائد
على كل حي من أياديه نعمة وآثاره محمودة في المشاهد
حياضك في المعروف للناس جمة فمن صادر عنها وآخر وارد
وفعلك محمود وكفك رحمة ووجهك نور ضوؤه غير خامد





( 4)
فضل : 000ــ 260 هـ
اقتضت ظاهرة كثرة القيان والاجتهاد في الإعداد إعدادا جيدا للمشاركة في الأدب والرواية والشعر والغناء أن يلمع بينهن شاعرات محسنات وعازفات مجيدات ومغنيات بارعات ، وبسرعة غريبة تسلقن مراقي سلم المجتمع وأصبحن صاحبات منتديات في دورهن يؤمها الوزراء والرؤساء والقواد والشعراء ، وأصبحت الواحدة منهن أملا كبيرا لهذا الوزير أو ذاك الرئيس أو ذياك الشاعر ، يرضى بها من نظرة عابرة ويقنع منها بتحية خاطفة.كانت ((فضل )) واحدة من هؤلاء القيان اللائي عرفن بالفصاحة واللباقة وجودة الشعر . وكانت ذات جاه على الكبراء ، وصاحبة نفوذ في الحكم ، تقضي حوائج الناس وتشفع لهم ، وكانت ذات علاقة بالوزير الأديب الشاعر سعيد بن حميد ولكل منهما في الآخر شعر رقيق ومن الطريف أنها كانت متشيعة إلى درجة الغلو ، وكان هو ناصبيا ومع ذلك فما أفسد اختلاف مذهبيهما شيئا من حبهما أو كان سببا في تعكير العلاقات بينهما .
واشتهرت ((فضل)) بحضور البديهة وسرعة الخاطر ، وبخاصة في إجازة بيت ببيت أو معنى بمعنى ، بل إن ((فضلا )) كانت ترتجل الشعر على البديهة في اللحظة نفسهاالتي يطلب إليها ذلك ، فقد سألها الملك العباسي المتوكل أشاعرة أنت ؟ فقالت : كذا يزعم من باعني واشتراني ، فقال لها : أنشدينا ، فأنشدت على البديهة :
استقبل الملك إمام الهدي عام ثلاث وثلاثينا
خلافة أفضت إلى جعفر وهو ابن سبع بعد عشرينا
إنا لنرجو يا إمام الهدي أن تملك الناس ثمانينا
لا قدس الله امرءا لم يقل عند دعائي لك آمينا
وقد ارتبط اسم فضل بعد ذلك بالمتوكل أكثر من ارتباطه بسعيد بن حميد فكانت تذكر باسم ((فضل جارية المتوكل )) وكانت تبعث إليه بالكثير من المدائح التي لم تكن تجد لديه صدى وقبولا نظرا لما كان ينشد بين يديه من روائع شعر البحتري وغيره من صفوة شعراء ذلك الزمان .
إن أكثر شعر فضل كان في الغزل والشكوى والغيرة واللوعة والصد والهجر إلى غير ذلك من المعاني المتعلقة بالغزل ، وقليل منه كان في المديح أو الهجاء .
ومن شعر ((فضل)) اللطيف أبيات ترتبط بقصة طريفة . كان سعيد قد افتصد فبعثت إليه فضل بهدايا قيمة ، بالغ الأصفهاني في وصفها كثيرا ، فكتب سعيد إليها يرجوها الحضور ليتم سروره وسرور أضيافه ، فلبت دعوته ، وتصادف أن دخل إلى الندوة بنان بن عمرو المغني وكان شابا وسيما حسن الغناء ، فأظهرت فضل نحوه الكثير من التودد والإعجاب الأمر الذي جعل سعيدا يتميز غيرة ويستشيط غضبا ، فما كان من فضل إلا إن أمسكت بقلمها وكتبت هذه الأبيات الطريفة .
يا من أطلت تفرسي في وجهه وتنفسي
أفديك من متدلل يزهى بقتل الأنفس
هبني أسأت وما أسأت بلى أقر أنا المسي
أحلفتني ألا أسارق نظرة في مجلسي
فنظرت نظرة مخطيء اتبعتها بتفرس
ونسيت أني قد حلفت فما له عقوبة من نسي
ولكل من سعيد وفضل شعر كثير مليح في صاحبه وكان كلما اشتاق أحدهما إلى الآخر أسرع فكتب إليه من رائق الشعر ما يبث من خلاله وجده ولو عته من ذلك ما كتبته فضل إلى سعيد في رقعة بعثت بها إليه وهو جالس في دار الحسن بن مخلد:
الصبر ينقص والسقام يزيد والدار دانية وأنت بعيد
أشكوك أم أشكو إليك فإنه لا يستطيع سواهما المجهود
إني أعوذ بحرمتي بك في الهوى من أن يطاع لديك في حسود
وهذه الأبيات من أرق الشعر وأعذبه وأكثره تصويرا لبعض حالات العاشقين وبخاصة البيت الأخير فيها.
وعلى عادة القيان العاشقات تحاول فضل أن تشكو لوعة الحب وصبابة العشق ومرارة الكتمان هذه الأبيات :
لأكتمن الذي بالقلب من حرق حتى أموت ولم يعلم به الناس
ولا يقال شكا من كان يعشقه إن الشكاة لمن تهوى هي اليأس
ولا أبوح بشيء كنت أكتمه عند الجلوس إذا ما دارت الكأس
وتعمد فضل في أبيات أخريات لها في مطارحة سعيد بن حميد الهوى إلى ما تعمد إليه القيان العاشقات من اشعار المحب المعجب إنه الأثير الوحيد لديها فتكتب إليه هذه الأبيات الخفيفة السهلة:
وعيشك لو صرحت باسمك في الهوى لأقصرت عن أشياء في الهزل والجد
ولكنني أبدي لهذا مودتي وذاك وأخلو فيك بالبث والوجد
مخافة أن يغرى بنا قول كاشح عدو فيسعى بالوصال إلى البعد
والأمر الذي لاشك فيه فضلا كانت تغار على صديقها الوزير الوسيم الشاب سعيد حتى إن هجرته وتعلقت بالمغني بنان بن عمرو الذي مر ذكره ، بلغها أنه عاشق لإحدى القيان فكتبت إليه أبياتا توبخه فيها وتحذره من القيان وتظهره على حقيقة أخلاقهن وخبايا سلوكهن ، لأنها من أهل الخبرة في هذا الشأن إذا هي واحدة منهن وغن فضلتهن حظا وجمال ورجحتهن ثقافة وبيانا قالت فضل في أبياتها لسعيد
يا حسن الوجه سيء الأدب شبت وأنت الغلام في الأدب
ويحك إن القيان كالشرك المنصوب بين الغرور والكذب
لا تتصدين للفقير ولا يتبعن إلا مواضع الذهب
بينا تشكى إليك إذا خرجت من لحظات الشكوى إلى الطلب
تلحظ هذا وذاك وذا لحظ محب بعين مكتسب
واستطاعت فضل أن تمزج البكاء بحكمة القول حين رثت المعتز فقد رئيت صبيحة قتله تبكي وتقول :
إن الزمان بذل كان يطلبنا ما كان أغفلنا عنه وأسهانا
مالي وللدهر قد أصبحت همته مالي وللدهر لا كانا
و((لفضل)) شعر آخر كثير في أغراض شتى أكثره شعر إخواني مما يقال في المنتديات في شكل مطارحات أو مساجلات، ولم تكن فضل تتحشم في بعض شعرها وبخاصة حين تتناول أحوال النساء وصفاتهن من عذارى وثيبات، ونعني بذلك المساجلة الشعرية التي جرت بينها وبين أبي دلف في قوله :
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم أشهى المطي إلى ما يركب

(5)
عريب : 181 ـــ 277 هـ
يذكر الأصفهاني أن ((عربيا) ابنةجعفر البرمكي من إحدى العاملات في قصور البرامكة ، ولدت سنة 181 هـ وماتت أمها وهي طفلة فعهد بها جعفر إلى سيدة تتولى شئونها ، ولكن ما لبثت النكبة أن حلت بالبرامكة فنهبت قصورهم وبيوتهم وخدمهم وقيانهم وأموالهم ، وسرقت عريب الطفلة آنذاك وتداولتها أيدي النخاسين حتى اشتراها عبد الله بن إسماعيل صاحب مراكب الرشيد.
خرج بعريب مولاها واتجه بها إلى البصرة ، وكانت البصرة لا تزال مركز احتكاك الثقافات ومقصد الشعراء والمغنين والمتأدبين ، فأدبها وخرجها وعلمها الخط والنحو والشعر والغناء ، فبرعت في ذلك كله ، برعت في الغناء إلى الحد الذي أحص لها فيه ما يربو على ألف صوت ، ونبغت في الكتابة وحكيت بلاغتها لبعض الكتاب فقال معلقا على ذلك : فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر البرمكي ، وكانت هي بدورها حين تذكر الفضل بن يحيى البرمكي تقول ((عمي الفضل )) .
ولعل قينة من القيان الشاعرات لم تشغل أهل زمانها من خلفاء ووزراء وقواد وعمال وخدم كما شغلتهم هذه القينة المغنية الشاعرة ، لأنها جمعت كل أخلاق القيان وصفاتهم ، كانت جميلة فصيحة شاعرة عذبة الصوت بارعة الضرب سارحة الإيقاع ، واستطاعت أن تستأثر بقلوب عدد من خلفاء بني العباس ابتداء من الأمين ثم المأمون ثم المعتصم ثم الواثق ثم المتوكل ثم المعتز ، ولها مع كل واحد من هؤلاء الخلفاء أخبار أكثرها بطبيعة الحال مما لا يلتقي مع الفضيلة في شىء ، هذا فضلا عن أبناء الخلفاء من أمثال أبي عيسى ابن الرشيدوجعفر بن المأمون ، وإن كانت قد فضلت أبا عيسى ابن الرشيد على جميع إخوته وأبنائهم وكانوا جميعا من الخلفاء .
وقد يتساءل المرء : كيف يتسنى لمثل هذه القينة أن تفتن هذا العدد الكبير من ملوك بني العباس الذين احتل حكمهم حقبة زمنية طويلة ؟ والواقع أن الأمر صحيح ، ذلك أن عريبا عاشت ستة وتسعين سنة مليئة بالخلاعة والمجون والإباحية المطلقة ، تلقي بشباكها على هذا وعلى ذاك من خاصة القوم وعامتهم ، وقد تفتن بواحد من العامة فتواصله وفي الوقتنفسه تنفر من خليفة أو رئيس ،
والحق أن الأخبار التي ترتبط بعريب كلها مما يشين إذا ما وزنت بمعايير الفضيلة ، ويبدو أنها كانت تعيش في شيء من النعمة ، وكان الرؤساء يتهافتون عليها ، بل كان المأمون على سبيل المثال يصطحبها معه وهو ذاهب إلى حرب الروم . وقد ذكرت هي نفسها كيف كان يتهافت الخاصة عليها ويجتهدون في التقريب إليها لقد طلبت من اليزيدي – أحد رجال المأمون – إن ينشدها بعض الشعر في إحدى أسفارها مع المأمون فأنشدها :
ماذا بقلبي من دوام الخفق إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردن أو دمشق لأن من أهوى بذاك الأفق
فما أن سمعت هذا الشعر حتى تنفست تنفسا كادت ضلوعها تقصف منه ، فقال لها هذا والله تنفس عاشق ، فقالت له : اسكت يا عاجز ، أنا اعشق ؟ والله لقد نظرت نظرة مربية في مجلس فادعاها عشرون رئيسا ظريفا.على أن عربيا رغم كل أخبارها مع الخلفاء والرؤساء فإن بيتا واحدا من شعرها الذي وصل إلينا لم تقله في خليفة أو أمير ، بل إن أكثر شعرها قالته في شخصين أحدهما صالح المنذري الخادم وكانت أحبته وتزوجته بعض الوقت ، والثاني هو محمد بن حامد الخاقاني أحد قواد خراسان
أما المنذري الخادم فكان المتوكل قد أرسله إلى مكان بعيد في حاجة له ، فقالت عريب في ذلك شعرا وصاغت لحنه قائله :
أما الحبيب فقد مضى بالرغم مني لا الرضا
اخطات في تركي لمن لم ألق عنه عوضا
وأما محمد بن حامد الخاقاني الذي كان – فيما يبدو – أشقر أصهب الشعر أزرق العينين ، فغن عريبا تتغزل فيه وفي شقرته كما لو كان امرأة جميلة فتقول :
باب كل أزرق أصهب اللون أشقر
جن قلبي به وليـ س جنوني بمنكر
ومرة أخرى تكتب إليه تشكو صبابتها ولوعتها وبكائها فتقول :
تبينت عذري وما تعذر وأبليت جسمي وما تشعر
ألفت السرور وخليتني ودمعي من العين ما يفتر
ويبدو أنعريبا كانت صادقة العاطفة نحو محمد بن حامد هذا فشعرها فيه وسمات الشكوى والصبابة ، هذا والشاعرة المحبة الغانية تجتهد في أن تدفع عن نفسها تهمة الخيانة حياله ، ولو لم تكن تحمل له مودة فيها صدق واهتمام لما حفلت بأن تدفع تهمة عن نفسها مهما كان مبلغ كذبها . إنها تقول هذه الأبيات الدفيئة وترسل بها إلى ابن حامد.
ويلي عليك ومنكا أوقعت في الحق شكا
زعمت أني خؤون جورا علي وأفكا
إن كان ما قلت حقا أو كنت أزمعت تركا
فأبدل الله ما بي من ذلة الحب نسكا
وكان لعريب شعر لطيف تقوله على البديهة في بعض مجالس الشراب ، فقد ذهب علي بن يحيى المنجم إلى عريب يزورها فسألته عن أخبار أمسه ، فذكر لها سهرة له مع الخليفة استمع فيها وإياه إلى المغني بنان يغني :
تجافي ثم تنطبق جفون حشوها الأرق
وذي كلف بكى جزعا وسفر القوم منطلق
فوجهت في الحال رسولا إلى بنان يستدعيه – وهو الذي أحبته وهجرت بسببه سعيد بن حميد – فحضر من وقته وقد بلل المطر ثيابه ، فأمرت له بخلع فاخرة فخلعت عليه ، وقدمت له الطعام والشراب وطلبت إليه إن يغني الصوت الذي غناه للخليفة بالأمس فغناها إياه ، فأخذت على الفور قلما ودواة ورقعة وكتبت هذه الأبيات في وصف المجلس والغناء والشراب :
أجاب الوابل الغدق وصاح النرجس الغرق
وقد غنى بنان لنا (( جفون حشوها الأرق ))
فهات الكاس مترعة كان حبابها حدق
ويبدو أن طول عمر عريب قد أثر في أفكارها وأقوالها فقالت بعض الشعر الذي يصور صروف الزمان وتغير الأيام ،
وكل شيء وإن طالت إقامته إذا انتهى فله لا بد أقصار

(6)سكن :
تعد سكن من القيان الشاعرات ممن كان نصيبهن من الجمال وفيرا ، وحظهن من الأدب وقرض الشعر كبيرا ، وقدرهن في الغناء جليلا ، ما انحرفت عن الجادة ولا زجت بنفسها في مواطن الريب ، إنها سكن جارية الشاعر محمود بن الحسن المشهور بالوراق من أحسن خلق الله وجها ، وأكثرهم أدبا وأطيبهم غناء تأتي بالمعاني الجياد والألفاظ الحسان.
لقد حاول بعض الطاهريين أن يشتري(( سكن )) وأعطى فيها محمودا الوراق مائي ألف درهم فامتنع عن بيعها ، ولكن في أحيان كثيرة كان الوفاء يدفع بالجارية – حين ترى مولاها في ضيق مالي شديد – إلى أن تعرض عليه إن يبيعها ، أو تسعى هي نفسها إلى ذلك ، وقد حاولت ((سكن )) أن تفعل الشيء نفسهحين دست رسولا إلى المعتصم إن يشتريها ، ولكن المعتصم خرق رقعتها التي كانت بعثت بها إليه ، فانتهزت ((سكن )) الفرصة وبعث إليه بقصيدة من جيد الشعر تعاتبه في لطف ، وتعطيه درسا في الأخلاق الفاضلة ولكن في لباقة ولياقة ، وتنتقد بعض أساليب الحكم ولكن في فطنه وحرص ، وهي في نطاق هذا الإطار من الشعر تسدي إليه قدرا من المديح المنسوج بجمع من الألفاظ العذبة الإيقاع التي تشكل قافلة من المعاني السامية ، فبدت القصيدة غير متهافتة ولا متخاذلة
ما للرسول أتاني منك بالياس أحدثت بعد رجاء جفوة القاسي
فهبك الحقت بي ذنبا بظلمك لي فما دعامك إلى العينين والراس
إني احبك حبا لا لفاحشة والحب ليس به في الله من باس
قل للمشارك في اللذات صاحبها ومدمن الكأس يحسوها مع الحاسي
إن الامام إذا أوفى إلى بلد أوفى إليه بعمران وإيناس
أما ترى الغرس قد جاءت أوائله والعود نضر الذرا مستورق كاسي
يا غارس الآس والورد الجنى بها غرس الإمام خلاف الورد والاس
غراسه كل عات لا خلاق له عبل الذراع شديد الباس قنعاس
وتمضي الأيام ويبدو أن حال محمود يظل على ما هو عليه رقة حال وشدة فقر ، فيعرض على سكن أن يبيعها حتى يجنبها مرارة الفقر وشظف الحياة قائلا لها :
(( قد ترين يا سكن ما أنا فيه من فساد الحال ، وصعوبة الزمان ، وليس بي وجلال الله ما ألقاه في نفسي ، ولكن ما أراه فيك ، فإني أحب إن أراك بأنعم حال وأخفض عيش ، فإن أثرت أن أعرضك على البيع فعلت ، لعل الله عز وجل إن يخرجك من هذا الضيق إلى السعة ، ومن هذا الفقر إلى الغنى . قالت الجارية : ذلك إليك . فعرضها ، فتنافس الناس ورغبوا في اقتنائها ، وكان أحد من بذل فيها أحد الطاهريين مائة ألف درهم ، وأحضر المال ، فلما رأى محمود تلك البدر سلس وانقاد ومال إلى البيع ، وقال : يا سكن البسي ثيابك واخرجي . فلبست ثيابها وخرجت على القوم كأنها البدر الطالع وكان محمود – وهي كذلك – معها ، فقالت سكن وأذرت دمعها : يا محمود ، هذا كان آخر أمري وأمرك إن اخترت علي مائة ألف درهم ؟ قال محمود : فتجلسين على الفقر والخسف ؟ قالت : نعم ، اصبر أنا وتضجر أنت ، فقال محمود : أشهد كم أنها حرة لوجه الله ، وأني قد أصدقتها داري وهي ما أملك ، وقد قامت علي بخمسين ألف درهم . خذوا مالكم بارك الله لكم فيه . قال الطاهري : أما إذ فعلت ما فعلت فالمال لكما ووالله لا رددته إلى ملكي . فأخذ محمود المال وعاش مع سكن بأغبظ عيش ) ) .
وهكذا تجمع ((سكن )) بين الشعر والغناء والاستقامة والوفاء . وهناك مثال ثان لهذا الفريق من القيان والجواري ، والمثال جارية أخرى لمحمود الوراق اسمها نشوى كان المعتصم يبغي شراءها وبذل في ثمنها سبعة آلاف دينار فامتنع محمود عن بيعها لأنه كان يهواها هي الأخرى ، فلما مات محمود اشتريت هذه الجارية من تركته للمعتصم بسبعمائة دينار ، وما إن دخلت نشوى على المعتصم – مولاها الجديد – حتى بادرها بقوله : كيف رأيت ؟ تركتك حتى اشتريتك من سبعة آلاف بسبعمائة !! ولكن الجارية التي علمت فأحسن تعليمها ترمق المعتصم بنظرة فيها الكثير من المعاني ، ثم تردف قائله : أجل ، إذا كان الخليفة ينتظر لشهواته المواريث فان سبعين دينارا لكثير في فضلا عن سبعمائة ، فخجل المعتصم من كلامها.



الشعراء الرجال
1 ـ إبراهيم بن هرمة 70 – 150 هـ
واسمه إبراهيم بن علي بن سلمة بن هرمة وكنيته أبو إسحاق . وهو من أبرع الشعراء المخضرمين بين ((الأموية )) و ((العباسية )) ولعله أوفر حظا من حيث معرفة اسمه دون أدبه من زملائه الشعراء المخضرمين ، وهو من أبناء المدينة ، بل من القرشيين أرومة أو انتسابا ،
وأخبار ابن هرمة – بفتح الهاء وسكون الراء –صورة صادقة للفترة الزمنية التي عاشها من الناحيتين الاجتماعية والسياسية . مدح ملوك بني مروان وبقي إلى آخر أيام المنصور ، وينسب الاصبهاني إلى الأصمعي قوله : ختم الشعر بابن هرمة والحكم الخضري وابن ميادة وطفيل الكناني ومكين العذري ولقد مدح الوليد بن يزيد كما مدح أبا جعفر المنصور ، يمثل في شعره وسلوكه الصورة الواضحة المعالم لبيئته زمنيا واجتماعيا ، الأمر الذي يستدعي تطور التناول الشعري معنى وأسلوبا .
لقد عاصر ابن هرمة المراحل الأخيرة من حياة جرير والفرزدق ، وتأثر بهجائهما كما تأثر بفحولتها في الصوغ والقول والالتزام بالأصول الشعرية لا يحيد عنها ، ومن ثم فانه آخر الشعراء الذين يحتج بشعرهم على قول البغدادي فضلا عن أنه معاصر لابن ميادة والحكم وأبي العباس الأعمى وبشار ، ومن الناحية الأخرى فقد كان يحمل شهادة من جرير لاشك أنها أثرت في حياته الأدبية جعلته لا يتخلف ولا يسف ، ذلك أن جريرا كان قدم المدينة فـأتاه ابن هرمة وابن أذينة فانشداه شعرا لهما ، فقال جرير : القرشي أشعرهما – يعني ابن هرمة – والعربي أفصحهما يعني ابن أذينة.
وهو هجاء بارع الهجاء ليس امتدادا لمدرسة جرير والفرزدق والأخطل في ذلك وحسب ، بل إن له نسبا فنيا في هذا المضمار يلحقه بالحطيئة أظرف الهجائين وأمرهم . هجاابن هرمة نفسه وأمه وأباه وقومه
وكان ابن هرمة لا يهتم أن يقترن اسمه بقريش التي ود كل عربي فضلا عن الأعاجم إن ينتسبوا إليها ،
وهجاء ابن هرمة من نوع جديد ، فهو يهجو أحيانا في شكل مدح أو هو يهجو أشخاصا ويتظاهر بمدح أخ لهم ، فقد كان عبد الله وحسن وإبراهيم أبناء الحسن بن الحسن وعدوه شيئا ثم أخلفوه ، فاصطحب ابن ربيح راويته واتجها إلى قصور الحسن ابن زيد فسأله عن حاجته فقال : أبيات قلتها ، قال هات ، قال:
أما بنو هاشم حولي فقد قرعوا نبل الضباب التي جمعت في قرن
فما بيثرب منهم من أعتابه إلا عوائد أرجوهن من حسن
الله أعطاك فضلا من عطيته على هن وهن فيما مضى وهن
وانصرف ابن هرمة من لدن الحسن بن زيد بعد أن أعطاه بغيته ، وبينما هو في طريق عودته لقيه محمد بن عبد الله بن حسن وقد بلغه الشعر ، فغضب لأبيه وأعمامه ، وقال لابن هرمة أي كذا (لفضة سباب ) أنت القائل :
على هن وهن فيما مضى وهن
فقال : لا والله ، ولكنني الذي أقول لك :
لا والذي أنت منه نعمة سلفت نرجو عواقبها في آخر الزمن
لقد أتيت بأمر ما عمدت له ولا تعمده قولي ولا سنني
فكيف أمشي مع الأقوام معتدلا وقد رميت برىء العود بالأبن
ما غيرت وجهه أم مهجنة إذا القتام تغشى أوجه الهجن
فكان ابن هرمة في أشد هجاء وأنقذ إيلاما لأن أم الحسن أم ولد . وإذن فلقد كان ابن هرمة صورة للهجاء المتطور في عصر ما بين الدولتين ، تغيرت الألفاظ ولكن هدف الإيلام والإيجاع والنيل من مروءة المهجو واحد .
وابن هرمة فارس أيضا في ميدان الخمر ، نفذ عليه حد الشراب وابن هرمة محب للخمر ، بل هو محب للسكر إلى الدرجة التي تجعله يترنخ في الطرقات حتى يطارده الصغار مرددين : سكران سكران ، إنه يرجو ذلك من الله وكأنها أمنية عزيزة:
أسأل الله سكرة قبل موتي وصياح الصبيان : يا سكران
وابن هرمة إذا أغوزه ثمن الخمر رهن ثيابه ليشتريها ، بل إنه يرهنها ليشتريها لصديق يشاركه المنادمة ،
إن ابن هرمة ، وهذا حبة للشراب ، يجد نفسه بين أمرين أحلاهما مر ، إما أن يقلع عنه وهذا شيء صعب تحقيقه ، وإما إن يجلد تمشيا مع الحد الشرعي ، ولكنه يفكر في حيلة تعفيه من الحد بحيث يظل عاكفا على شرابه ، ولم يكن إمامه في ذلك من سلاح إلا شعره يقدمه مدحا للملك العباسي ، فيشد الرحال إلى أبي جعفر ويصب في مسامعه هذا الشعر الجزل الفحل :
له لحظات عن حفافي سريره إذا كرها فيها عقاب ونائل
لهم طينة بيضاء من آل هاشم إذا اسود من لؤم التراب القبائل
إذا ما أتى شيئا قضى كالذي أتى وان قال إني فاعل فهو فاعل
وما يكاد المنصور يسمع هذا الشعر الرائق حتى يقول لابن هرمة : سل حاجتك ، ويجد الشاعر المغرم بالخمر الفرصة سانحة فيطلب من أبي جعفر إن يكتب إلى عامل المدينة إلا يحده إذا جيء به سكرانا ، فيقول له أبو جعفر : ويحك ، هذا حد من حدود الله تعالى لا يجوز أن أعطله ، فيقول ابن هرمة : احتل يا أمير المؤمنين ، فيكتب المنصور إلى عامل المدينة : ((من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة واجلد ابن هرمة ثمانين )) فكان رجال الشرطة يمرون بابن هرمة مطروحا من السكر في سكك المدينة فيقولون من يشتري مائة بثمانين ؟
ويتولى إمرة المدينة الحسن بن زيد في فترة حكم محمد النفس الزكية فيدخل عليه إبراهيم بن هرمة فيقول له الحسن : يا إبراهيم ، لست كمن باع لك دينه رجاء مدحتك أو خوف ذمك فقد رزقني الله تعالى بولاة نبيه r الممادح وجنبني المقابح ، وإن من حقه علي إلا أغضي عن تقصير في حق وجب ، وأنا اقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدا للخمر وحدا للسكر ، ولأزيدن موضع حرمتك مني ، فليكن تركك لها لله وجل تعن عليه ، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم ، فينهض ابن هرمة وهو يقول :
نهاني ابن الرسول عن المدام وأدبني بآداب الكرام
وقال لي اصطبر ودعها لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبري عنها وحبي لها حب تمكن من عظامي
أرى طيف الخيال علي خبثا وطيب العيش في خبث الحرام
و ابن هرمة واحدا من المؤمنين بحب آل البيت يكره بني أمية ويحمل عليهم ويؤلب الناس ضدهم ، ثم هو بعد ذلك لا يتردد في مدح العباسيين ربما تقية أو هربا من إذاهم ، يقول في محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي المعروف بالنفس الزكية :
ومهما ألام على حبــــه فإني أحب بني فاطمة
بني بنت من جاء بالمحكمات والدين والسنة القائمة
وحين خرج محمد النفس الزكية على المنصور لم يستطع ابن هرمة إن يجاريه خوفا من أذى المنصور ، وكراهيته لبني أمية لم تمنعه من إن يتصل بالوليد بن يزيد ، ويقول فيه مديحا حتى حين علم بقتله ، وما يكاد يسمع بقتل الوليد حتى يردد أبياتا لعلها كانت قيلت في حياة الوليد وقبل مصرعه
وكانت أمور الناس منبتة القوى فشد الوليد حين قام نظامها
خليفة حق لا خليفة باطل رمى عن قناة الدين حتى أقامها
وله شعرة رقيق عذب في مدح عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك ، يقول فيه
إذا قيل من خير من يجتدى لمعتمر فهر ومحتاجها
ومن يعجل الخيل يومك الوغى بإلجامها قبل إسراجها
أشارت نساء بني مالك إليك بها قبل أزواجها
أو قوله فيه:
فاسلم سلمت من المكاره والردى وعثارها ووقيت نفس الحسد
يدل على أنه فاطمي الهوى والحب كاره للأموية والمروانية ، ولكنه في الوقتنفسه مساير للعباسيين خوفا منهم وطمعا في عطائهم واستهدافا لتكريمهم إياه
ولذلك فليس غريبا إن يمدح ابن هرمة أبا جعفر المنصور مدحا ذا نغمة جديدة
كريم له وجهان : وجه لدى الرضى طليق ووجه في الكريهة باسل
وليس بمعطى الحق من غير قدرة ويعفو إذا ما أمكنته المقاتل
له لحظات من حفافي سريره إذا كرها فيها عقاب ونائل
أتيناك نزجي حاجة ووسيلة إليك وقد تحظى لديك الوسائل
ونذكر ودا شدة الله بيننا على الدهر لم تذبب إليه الغوائل
فاقسم ما أكبى زنادك قادح ولا أكذبت فيك الرجاء القوابل
ولا لام فيك الباذل الوجه نفسه ولا احتكمت في الجود منك المباخل

وهو في حقيقته مداح أكثر منه هجاء فهو في مدائحه يختار المعاني الجياد التي يمكن إن تشكل صورة للمدح كريمة كما أنه يختار المواقف التي يمكن إن تمد شاعريته بما يجعلها تخرج شعرا مصقولا من حيث الشكل والمعنى .
يقول ابن هرمة مفتخرا بنفسه مدافعا عن بعض تبذله سالكها نهج الحكمة :
عجبت أثيلة إن رأتني مخلقا ثكلتك أمك إي ذاك يروع
قد يدرك الشرف الفتى ورداوة خلق وجيب قميصه مرقوع
إما تريني شاحبا متبذلا كالسيف يخلق جفنه فيضيع
فلرب ليلة لذة قد بتها وحرامها بحلالها مدفوع
إن ابن هرمة هنا يلبس شعره ثوب الوقار وينحو الفحولة وينهج نهج الصنعة الفخمة في اختيار واحد من البحور الطويلة ويظل يرسم على نفس المنوال طالما كان غناؤه لنفسه كما في قوله :
إني وتركي نـدى الأكرمين وقدحي بكفي زندا شحاحا
كتاركة بيضا بالعراء وملحفة بيض أخرى جناحا
وتبدو قسمات التشبيه واضحة رائعة حسنة النسج بينه حدود المعالم في قول ابن هرمة:
أشم من الذين بهم قريش تداوي بينها غبن القبيل
كأن تلألؤ المعروف فيه شعاع الشمس في السيف الصقيل
إن التشبيه هنا فضلا عن روعته الظاهرة يحمل بين ثناياه آية جديدة وانطلاقه بديعة هي تشبيه الشيء المعنوي بالشيء المادي وهي سابقة بيانه لها خطرها وهكذا نجد
وتتحرك الصور أكثر رشاقة على لوحة ابن هرمة حين يفخر بكرمه ويصور كلابه وإذا أتانا طارق متنور نبحت فدلته علي كلابي
وفرحن إذ أبصرنه فلقينه يضربنه بشراشر الأذناب
ومرة أخرى يرسم صورة لكلبه فرحا بضيفه يكاد يكلمه ويرحب به رغم أعجميته :
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا يكلمه من حبه وهو أعجم
إن المستقرئ لأشعار ابن هرمة في مختلف مصادرها يعرف إن الرجل عمد إلى التجديد والصنعة ، كان المسور بن عبد الملك المخزومي يعيب شعر ابن هرمة ، وكان للمسور مكانة في عالم الشعر والنسب ، وربما كان عيبه لهذا الشعر ما لاحظه من صور غريبة جديدة لم يألفها الشعر نفسه من قبل ، فينبري له ابن هرمة هاجيا مسخفا مشيرا إلى إن هذا الضرب الجديد من الشعر مصوغ مخطط له معتنى به ، ولكن صياغة لسان وليس صوغ كفين :
إني امرؤ لا أصوغ الحلي تعلمه كفاي لكن لساني صائغ الكلم
إن الأديم الذي أمسيت تقرظه جهلا لذو نغل باد وذو حلم
ولا يئط بأيدي الخالقين ولا أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وابن هرمة منتبه لفنه ، ساهر عليه ، مخلص له ، عامد إليه ، وهو يعبر عن ذلك في قوله
وعميمة قد سقت فيها عائرا غفلا ومنها عائر موسوم
طبقت مفصلها بغير حديدة فرأى العدو غناي حيث أقوم
و لم يكن من المولدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة . وان كنا نرى فرقا كبيرا بين كل من ابن هرمة وبشار من حيث وصف الجاحظ لكل منهما بالمولد .
إن إبراهيم بن هرمة وهذه سمات شعره متأرجحة بين القديم والجديد من حيث الموضوعات والصياغة ، ومن حيث الإبداع الفني ، ومن حيث تمثيل شخصية الشاعر نفسه لبيئة عصره فنيا واجتماعيا وسياسيا ، كل ذلك يجعل منه معبرا هاما عريضا سهلا لانتقال الشعر من المرحلة الأموية بسماتها الأكثر محافظة إلى المرحلة العباسية بسماتها الأكثر تطورا وتغيرا بل لكي يكون الأمر في نصابه ، إن ابن هرمة يمثل التجديد في ثوب من وقار الجزالة وإشراق الديباجة ورقة الأسلوب ، وهو قمة في الصنعة في مجتمع المحافظين وذروة التطور في بيئة عمود الشعر ،

2-آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز0 – 160 هـ
آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيزواحد من بقايا الأمراء الأمويين الذين نجوا من مذبحة السفاحبسبب صلته بالخليفة عمر بن عبد العزيز،فأبوه عبد العزيز بن عمر ابن عبد العزيز بن مروان وأمه هي عاصم بنت سفيان بن عبد العزيز بن مروان ،.
وآدم شاعر رقيق عاش عيشة أمراء الشعر الذين لا يتكسبون بشعرهم . ، كان محلا لعطف المهدي وإكرامه ، على إن هذا الإكرام لم يحدث إلا بعد تجربة أليمة مر بها آدم تحت سياط المهدي نفسه ، فقد كان آدم ماجنا في صدر شبابه ، يشرب الخمر وينشد الشعر ،
لقد قال آدم شعرا رقيقا في الخمر جاوز في تعبيره من خلاله بعض الحدود التي تدخل في روع سامعه إن بقائله شبهة من زندقة ، فبعث إليه المهدي وأمر بضربه بالسيط حتى يقر بالزندقة ، ولكنه أبى وقال: والله ما كفرت بالله قط ولا شككت فيه فخلى سبيله
وأما الأبيات التي كانت موضع الامتحان فهي قول ادم :
اسقني واسق خيلي في مدى الليل الطويل
قهوة صهباء صرفا سبيت من نهر بيل
والقرينة تؤكد أن هذه الأبيات أموية العصر ، لأن المهدي وهو يتلمس موطنا للخطيئة عند الشاعر الأموي فوجئ بإجابة تفيد أن ذلك كان شيئا في الماضي
و كانت هذه الحادثة بداية رابطة مودة وصداقة بين المهدي وآدم .
وكان لأدم مشاركة في الظرف والدعابة ولعل ذلك كان سببا من أسباب تقريبه إلى المهدي ومجالسته إياه ، فقد كان للمهدي صديق من أهل الموصل يقال له سليمان بن المختار ، وكان لسليمان هذا لحية عظيمة مفرطة الطول ، فأراد يوما أن يركب فوقعت لحيته تحت أقدامه في الركاب فذهبت وتقطعت فقال آدم مازحا :
قد استوجب في الحكم سليمان بن مختار
بما طول من لحيته جزا بمنشار
أو السيف أو الحلق أو التحريق بالنار
فقد صار بها أشهر من راية بيطار
وذاعت الأبيات بين الناس واشتهر أمرها حتى رويت في حضرة المهدي ، فضحك لطرافتها ، ولكن احد الحاضرين من ذوي المكانة ، هو أسيد بن أسيد وكان وافر اللحية ابدي امتعاضا وضجرا وقال : ينبغي لأمير المؤمنين إن يكف هذا الماجن عن الناس ، فبلغ ادم فقال مداعبا أسيد :
لحية تمت وطالت لأسيد بن أسيد
كشراع من عباء قطعت حبل الوريد
يعجب الناظر منها من قريب أو بعيد
هي إن زادت قليلا قطعت حبل الوريد
وليس من شك أن هذه الأبيات تمثيل أساسا لشعراء الهجاء المجسم الذي تزعم مدرسته ابن الرومي بعد ذلك بأكثر من قرن من الزمان على أن الشيء الأهم من ذلك هو تجديد آدم فيما طرق من موضوعات شعرية لم يطرقها أحد قبله وهو الوقوف على الآثار الدراسة وليس على الأطلال والدمن كما كان يفعل الشعراء قبله وكما فعل بعضهم بعده .
إن آدم يقف على بقايا إيوان كسرى وينشد أبياتا تدل على معاني خطيرة متزاحمة في نفسه وعلى حسرات مكتومة في قلبه على ملك قومه الضائع ومجدهم السالف ، ويألم آدم حينما يجد الإيوان العظيم وقد أصبحت بقاياه مربطا للبغال بعد إن كانت مرتعا للحسان ،
أقول وراعني إيوان كسرى برأس معان أو أدروسفان
وأبصرت البغال مربطات به من بعد أزمنة حسان
يعز على أبي ساسان كسرى بموقفكن في هذا المكان
شربت على تذكر عيش كسرى شرابا لونه كالزعفران
ورحت كأني كسرى إذا ما علاه التاج يوم المهرجان
ومن ثم فهو يستجلب لنفسه عزاء في مقام كريم من التماسك والإباء حين يقول :
وإن قالت رجال قد تولى زمانكم وذا زمن جديد
فما ذهب الزمان لنا بمجد ولا حسب إذا ذكر الجدود
وما كنا لنخلد إذ ملكنا وأي الناس دام له الخلود
ومن الثابت أن آدم قد تصوف في آخر حياته ، وأنه كان طيب النفس متصوفا ومات على توبة ومذهب جميل وأنه قد نسك بعدما عمر ومات على طريقة محمودة
أحبك حبين لي واحد وآخر أنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الطباع فشيء خصصت به عن سواك
وأما الذي هو حب الجمال فلست أرى ذاك حتى أراك
ولست آمن هذا عليك لك المن في ذا وهذا وذاك
ف الأبيات غزل صوفي وليست غزلا ماديا وهي من أرق ما قبل في الشعر الصوفي في مضمون العشق الإلهي حتى أن الأبيات المشهورة المنسوبة إلى رابعة العدوية لا تكاد تختلف مع أبيات آدم إلا في ألفاظ قليلة ، فهي تقول :
أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
وربما تكون رابعة قد اقتسبت أبيات آدم معنى وثوبا
إن ادم بن عبد العزيز على قلة حجم شعره الذي وصل إلينا يعتبر واحدا من المعابر الهامة التي انتقل الشعر إليها من الأموية إلى العباسية وفي شعره يبدو التدرج واضحا والتجديد بينا سواء أكان ذلك في طبيعة الموضوع أو في نطاق الأسلوب .



3-مروان بن أبي حفصة
105 – 182 هـ
مروان بن أبي حفصة شاعر من أسرة لها في الشعر نصيب وإسهام ، فجده الكبير أبو حفصة كان شاعرا ، وجده الأول يحيى بن أبي حفصة كان هو الآخر شاعرا وله مقطوعات من جيد الشعر قيلت في المدح والفخر والذود عن الحمى ، ويدل شعره حتى في نطاق المديح على نفس عالية غير متهالكة ولا متخاذلة شأن كثير من شعر المدائح
أصاب مروان شهرة واسعة ومالا كثيرا عن طريق شعره الذي وقفه على المديح دون غيره من أغراض الشعر إلا في حالات قليلة جدا من رثاء أو وصف ، فأكثر الأبيات التي رويت له منفردة في غزل أو وصف شيب أو طيف خيال كلها أنشئت في الأصل في ركاب مديحة من مدائحه في هذا أو ذاك من الكبار الذين كان يمدحهم مروان .
ومروان مداح أصيل مدح كوكبه كبيرة من كبار الملوك والعظماء الذين صادفهم في حياته الطويلة من خلال دولتي بني أمية وبني العباس أو بني هاشم كما يحلو لهم إن يسموا أنفسهم لقد مدح الوليد بن يزيد من بني أمية ومدح المنصور والمهدي والهادي والرشيد من بني العباس ، ومدح البرامكة وزراء بني العباس ، كما مدح معن بن زائدة الشيباني ، ممدوحة الأصيل الذي توفر على قول الشعر فيه فاشتهر كلاهما بالآخر اشتهار زهير بهرم بن سنان واشتهار المتنبي بسيف الدولة .
، فمن ذلك قوله في الوليد بن عبد الملك لما بويع بالخلافة بعد موت أبيه :
إن المنايا لا تغادر واحدا يمشي ببزته ولا ذا جنه
لو كان خلق للمنايا مفلتا كان الخليفة مفلتا منهنه
بكت المنابر يوم مات وإنما بكت المنابر فقد فارسنه
لو غيره قرع المنابر بعده لنكرنه فطرحنه عنهنه
ولقد كان مروان بخيلا بخلا شديدا يضعه في مكان الصدارة مع المشهورين من البخلاء . فربح من شعره ما لم يربحه شاعر على الإطلاق من شعراء العربية ، فقد كان يتقاضى من بني العباس ألف درهم على كل بيت من الشعر يقوله فيهم ، وهو أول شاعر يتقاضى عن قصيدة واحدة فضلا عن قصائد عديدة رقم المائة ألف ، هذا فضلا عن الأموال الكثيرة الضخمة التي حصل عليها من معن بن زائدة في حياته ومن ولده شراحيل بعد مماته ، وأخبار الأموال والمنح التي حصل عليها مروان من ممدوحيه من ملوك بني هاشم ومعن بن زائدة وابنه شراحيل والبرامكة كثيرة تحفل بها كتب تاريخ الأدب الأمر الذي لا يستدعي البخل الموغل في الشدة بحيث نال من مروءة الشاعر وسمته وهيئته وسمعته . لقد كان يصل إلى باب المهدي وعليه فرو كبش وقميص خشن وعمامة كرابي صنعت من الكرباس ، وهو القماش الخشن الرديء ، وخف رخيص وكساء غليظ تصدر منه رائحة تؤذي الأنوف في الوقت الذي يصل فيه الشعراء إلى مجلس الملك الهاشمي وهم أشد ما يكونون عناية بلباسهم وأناقة في هندامهم تفوح منهم رائحة الطيب وتأخذهم العين لنظافتهم ورونقهم وهم أقل منه مالا ومنحا . وكان بخل مروان يمتد إلى مأكله ومسلكه في الحياة ، قال ذات مرة : ما فرحت بشيء قط فرحي بمائة ألف وهبها لي أمير المؤمنين المهدي فوزنتها فزادت درهما فاشتريت به لحما .
وروي إن جماعة نزلوا على مروان في موطنه باليمامة فأطعمهم تمرا وأرسل غلامه بفلس ووعاء ليشتري له زيتا ، فلما عاد الغلام بالزيت قال له مروان : خنتني ، فقال الغلام : من فلس كيف أخونك ؟ قال : أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت
وكان مروان إذا اشتاق إلى اللحم بعث بغلامه فاشترى له رأسا فأكله ، فسئل لماذا لا يأكل إلا الرؤوس في الصيف والشتاء فقال : الرأس أعرف سعره ولا يستطيع الغلام إن يغبني فيه ، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر إن يأكل منه ،
غدا اللؤم يبغي مطرحا لرحالة فنقب في بر البلاد وفي البحر
فلما أتى مـروان خيم عنده وقال رضينا بالمقام وبالحشر
وليس لمروان على العرس غيرة ولكن مروانا يغار على القدر
، وقد يكون بخله وحرصه على المال هما السبب الرئيسي في أنه لم يكن يذيع القصيدة بمجرد الانتهاء من إنشائها وإنما كان على حد قوله يقولها في أربعة أشهر وينتخلها في أربعة أشهر ويعرضها في أربعة أشهر ، ثم هو بعد ذلك يجعل دائما الجود والعطاء عنصرا واضحا صريحا من عناصر قصيدته مثال قوله :
له راحتان الجود والحتف فيهما أبى الله إلا أن تضرا وتنفعا
أو قوله :
هم القول إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا و أجزلوا
أو قوله :
لا تعدموا راحتي معن فإنهما بالجود أفتنتا يحيى بن منصور
لما رأى راحتي معن تدفقا بنائل من عطاء غير منزور
ألقى المسوح التي قد كان يلبسها وظل للشعر ذا رصف وتحبير
أو قوله :
أبر فما يرجو جواد لحاقه أبو الفضل سباق اللهاميم جعفر
أو قوله :
كان البرمكي بكل مال تجود به يداه يفيد مالا
أو قوله :
إن معنا يحمي الثغور ويعطي ماله في العلا وأنت كذاكا
لك من فضل باأسه يعرف البأ س كما من نداه فضل نداكا
إن مروان كان يتمثل المال دائما وهو يمدح ، يذكره تصريحا وليس تلميحا ، ويلح عليه إلحاحا شديدا في قالب من تزلف خلق الممدوح وتوريطه ، وهو إذا بكى أو رثى فلا يرثي ولا يبكي إلا معاني النوال أولا ، ثم تأتي بقية الصفات الأخرى التي كان يتحلى بها الفقيد في الدرجة الثانية :
أقمنا باليمامة بعد معن مقاما لا نريد به زوالا
وقلنا أين نرحل بعد معن وقد ذهب النوال فلا نوالا
والجدير بالذكر إن هذه الأبيات قد حالت بينه وبين الملك العباسي المهدي في أول رحلة له إليه بعد موت معن ، فحين دخل مروان عليه قال له المهدي الست القائل ، وذر البيتين ، وأردف : لقد ذهب النوال فيما زعمت ، فلم جئت تطلب نوالنا ، لا شيء لك عندنا ، ثم أمر به فجر برجله حتى اخرج . ولكن مروان المحب للمال الطامع في العطاء يفكر في الصيغة الشعرية التي يرضي بها الملك العباسي فيما لو عاد إليه حتى يجبره على الاستماع إليه وبالتالي إجزال عطائه وصلته ، فيهديه ذكاؤه إلى ناحية الحق السياسي في الحكم يجعلها مدخلا إلى المهدي ، وكان المهدي ذا علم ولماحية وذكاء حافظا للقرآن ، ومروان يبني فكرته على الآية الكريمة من سورة الأنفال (( والذين آمنوا من بعد ، وهاجروا وجاهدوا معكم ، فأولئك منكم ، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، إن الله بكل شيء عليم )) وقد تفسر الآية على أن العباس عم الرسول وجد المهدي قد هاجر مع الرسول وجاهد في الدعوة فأصبح أولى بإرث الرسول حسب التخريج الذي شاءه مروان ، ومن ثم فإن آل العباس أولى بالخلافة من بني أمية ، ويلبس مروان فكرته ثوبا جميلا أخذا من اللفظ الرائق والإيقاع الجميل ، ويطرق باب المهدي في العام التالي في مجموعة الشعراء الذين كان الملوك العباسيون يفتحون لهم أبوابهم مرة في كل عام فيستهل قصيدته استهلال يلفت نظر المهدي قائلا :
طرقتك زائرة فحي خيالها بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
فينصب الخليفة وينصت الناس وينطلق مروان في إنشاده حتى يصل إلى بيت قصيده ولب فكرته وأوج خطته قائلا :
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هلالها
أو تجحدون مقالة عن ربكم جبريل بلغها النبي فقالها
شهدت من الأنفال آخر أية بتراثهم فأردتم إبطالها
وهنا يزحف المهدي من صدر مصلاه حيث كان جالسا حتى صار على البساط إعجابا بما سمع ، ثم يقول لمروان : كم هي ؟ فيقول : مائة بيت ، فيأمر له بمائة ألف درهم ، فكانت أول مائة ألف أعطيها شاعر في أيام العباسيين
لقد كان مروان على جانب كبير من الذكاء في اقتناص المنح والعطايا ساعدته على ذلك قدرته الشعرية وصناعته المستغنية فعوض ما قد حرمه في العام الفائت .
ولكن هذه الحيلة الطريفة التي لجأ إليها مروان في قصيدته اللامية هذه تصلح لمرة واحدة ، ومروان يريد إن يوطد صلته بملوك بني العباس وبمن حولهم فهدفه واضح وهو المال ولذلك فقد فكر في موضوع يربطه ببني العباس ربطا طويلا دائما ، فهداه ذكاؤه إلى الشعر السياسي وطرق موضوع أحقيتهم بالخلافة من بني أمية وتقربه إليهم بهجاء منافسيهم ، وكان العباسون شديدي الحساسية من هذه الناحية لان الدعوة الشيعية كانت على أشدها ، ولأن العباسيين أنفسهم كانوا قد استغلوا صلتهم بالرسول وبآل علي رضي الله عنه في القضاء على بني أمية . فصادفت هذه الخطة التي رسمها مروان لنفسه رضى وقبولا وحماسة عند المهدي ومن جاء بعده من الملوك العباسيين
ولم يكنأن مروان بن أبي حفصة مخلصا في ولائه لبني العباس ، ، وإنما كان أموي الهوى والولاء ، فجده أبو حفصة كان مولى لعثمان ثم وهبه لمروان بن الحكم ، وجده الأقرب يحي كان عاملا من عمال بني أمية ، كما انه كان شاعرا من شعراء الوليد بن يزيد ، وإن مروان لا ينكر هذا الولاء وإنما يسجله شعرا في قوله :
بنو مروان قوم أعتقوني وكل الناس بعدهم عبيد
ولكنه اصطنع الولاء للعباسيين طلبا للمال وانتجاعا للنوال ، فالولاء هنا ولاء للمال الذي أحبه مروان وكنزه وأصبح حارسا عليه وحرم نفسه من طيبات الحياة التي ييسرها وجود المال ، ولذلك فإن شعره السياسي لا تبدو فيه سمات الصدق أو آيات الانفعال .
لم يقلمروان شعرا إلا في المديح والرثاء والتهنئة ولم يتعد هذه الفنون إلا في القليل النادر ، وهو يجيد في هذه ولا يجيد في تلك وحياة مروان الشعرية تنقسم إلى ثلاث مراحل
المرحلة الأولىمع بني أمية فقد اتصل بالوليد بن وأنه دخل على الوليد بن يزيد مادحا وعنده حماد الرواية يدله على مواطن الضعف والقوة في المدائح التي تلقى بين يديه والمصادر التي استقى الشعراء منها
:
المرحلة الثانيةمن شعر مروان فهي علاقته بمعن بن زائدة الشيباني الفارس الجواد الكريم ذي المكانة في عهدي بني مروان وبني العباس على السواء ، والذي حارب بين يدي المنصور يوم الهاشمية حتى كتب له النصر ، فأصبح جديرا بتقدير العباسيين له كما كان محلا لتقدير الأمويين من قبل .
على إن بداية اتصال مروان بمعن بن زائدة كانت بداية غير كريمة تدل على خسة في مروان والسعي إلى جمع المال والحصول على النوال من إي سبيل وعن إي طريق طاب أو خبث ، فقد كانت أول قصيدة مدح مروان بها ((معنا)) ليست من شعره وإنما هي لرجل من بلدته اليمامة سمعه ينشدها بين جماعة من الناس وكان قد تعدها ليمدح بها مروان بن محمد آخر ملوك الأمويين غير أنه قتل قبل أن ينشده إياها وفيها يقول :
مروان يا ابن محمد أنت الذي زيدت به شرفا بنو مروان
فأعجبت القصيدة ابن أبي حفصة فأمهل صاحبها حتى قام من مجلسه ثم أتاه في منزله وعرض عليه شراءها منه بثلثمائة درهم فوافق الرجل ، فحلفه مروان بالطلاق ثلاثا وبالإيمان المحرجة ألا ينشدها ولا يعود ينسبها لنفسه ، ثم غير منها أبياتا وزاد فيها بعض الشيء وجعلها في معن وجعل استهلالها هكذا :
معن بن زائدة الذي زيدت به شرفا إلى شرف بنو شيبان
وبهذه القصيدة نال مروان رفد معن وأصاب غنى وشهرة واسعتين .
على إن مروان ما لبث إن أخلص القول لمعن فأنشد فيه عددا من عيون قصائد المديح في الشعر العربي كله بحيث أدخلت قصائده فيه الغيرة في قلوب الملوك ، فلقد دخل معن على المنصور العباسي ذات مرة ، فقال له بلسان لا يخلو من عتب وتقريع مقنع : يا معن أعطيت ابن أبي حفصة مائة ألف درهم عن قوله فيك :
معن بن زائدة الذي زيدت به شرفا إلى شرف بنو شيبان
فقال له : كلا يا أمير المؤمنين ، ولكن لقوله :
ما زلت يوم الهاشمية معلما بالسيف دون خليفة الرحمن
فاستحيا المنصور من بادرته وتبسم وقال : أحسنت يا معن في فعلك .
على أن لمروان في معن روائع لا تنسى سارت بذكرها الركبان لقوتها وجزالتها وحسن سبكها رغم ما فيها من إلحاح على طلب العطاء ، فمن ذلك لاميته المشهورة :
تجنب لا في القول حتى كأنه حرام عليه قول لا حين يسأل
تشابه يوماه علينا فأشكلا فلا نحن ندري أي يومية أفضل
أيوم نداه الفخر أم يوم بؤسه وما منهما إلا أعز مفضل
ويمدح مروان قوم معن في نفس القصيدة فيقول :
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم أسود لها في بطن خفان أشبل
هم يمنعون الجار حتى كأنما لجارهم بين السماكين منزل
لهاميم في الإسلام سادوا ولم يكن كأولهم في الجاهلية أول
هم القول إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فعالهم وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
تلاث بأمثال الجبال جباهم وأحلامهم منها لدى الوزن أثقل
ولمروان في معن قصيدة عينية جزلة الصوغ فخمة الأسلوب تطرب لسماعها الأذن أكثر من ترحيب العقل والوجدان بها ، ذلك لان معانيها محدودة بوصف معن بالشجاعة ووسمه بصفات الكرم ، وهو يجري فيها على السنن التقليدي من استهلال بالنسيب ووصف الرحلة إلى الممدوح ثم إسباغ صفات الفضل عليه كيلا بلا حساب ، وتبدأ القصيدة بقوله :
أرى القلب أمسى بالأوانس مولعا وإن كان من عهد الصبا قد تمتعا
وفيها يصف رحلته إلى الممدوح قائلا :
ولما سرى الهم الغريب قريته قرى من أزال الشك عنه وأزمعا
عزمت فعجلت الرحيل ولم أكن كذي لوثة لا يطلع الهم مطلعا
فأمت ركابي أرض معن ولم تزل إلى أرض معن حيثما كان نزعا
نجائب لولا أنها سخرت لنا أبت عزة من جهلها أن توزعا
تدارك معن قبة الدين بعدما خشينا على أوتادها أن تنزعا
وما أحجم الأعداء عنك بقية عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا
رأوا مخدرا قد جربوه وعاينوا لدى غيله منهم مجرا ومصرعا
وليس بثانيه إذا شد إن يرى لدى نحره زرق الأسنة شرعا
له راحتان الحتف والغيث فيهما أبى الله إلا إن تضرا وتنفعا
وحين يموت معن بن زائدة تتوالى مرثيات ابن أبي حفصة عليه ، وهي جميعا مع جودة إنشائها وروح ألفاظ مروان الجزلة التي ينسج خيوطها في براعة ، فإننا نكاد نحس ببكاء مروان على عطايا معن وليس على معن نفسه ، فهو في مرثيته الدالية يقول :
يا من بمطلع شمس ثم مغربها إن العطاء عليكم غير مردود
قل للعفاة أريحوا العيس من طلب ما بعد معن حليف الجود من جود
قل للمني لا تبقي على أحد إذ مات معن فما ميت بمفقود
وكذلك يقول :
مضى لسبيلـه معن وأبقى مكارم لن تبيد ولن تنالا
كأن الشمس يوم أصيب معن من الإظلام ملبسة جلالا
هو الجبل الذي كانت نزار تهد من العدو به جبالا
تعطلت الثغور لفقد معن وقد يروي بها الأسل النهالا
وأظلمت العراق وأورثتها مصيبته المجللة اختلالا
وظل الشام يزحف جانباه لركن العز حين وهي ومالا
وكادت من تهامة كل أرض ومن نجد تزول غداة زالا
أصاب الموت يوم أصاب معنا من الأحياء أكرمهم فعالا
وكان الناس كلهم لمعن إلى أن زار حفرته عيالا
ويظل مروان يعدد مناقب الكرم والجود والهبة والعطاء في معن و كان معنا لم يكن له عمل في الحياة إلا إن يعطي الناس وإلا إن يقف الشعراء ببابه سائلين مستمنحين ويقول :
فلهف أبي عليك إذ العطايا جعلن منى كواذب واعتلالا
ولهف أبي عليك إذ اليتامى غدوا شعثا كان بهم سلالا
ولهف أبي عليك لكل هيجا غدت تلقي حواضنها السخالا
ولهف أبي إليك إذ القوافي لممتدح بها ذهبت ضلالا
أقمنا باليمامة إذ يئسنا مقاما لا نريد له زيالا
وقلنا أين نرحل بعد معن وقد ذهب النوال فلا نوالا
هي إذن معان مكررة تسير على نسق واحد وضرب من القول غير متنوع ولا متباين هذه القصيدة بذاتها تسبب لمروان موقفين متباينين موقفا مع المهدي حين دخل عليه مادحا ممتاحا ، فما كاد الملك العباسي يراه ويسمع استهلال مديحته حتى يأمر بطرده على ما مر بنا في صدر هذا الحديث ، وأما الموقف الثاني فهو على النقيض تماما ويدعو إلى الطرافة ، فقد دخل مروان على جعفر البرمكي يمدحه ، وكان مروان يتخير ممدوحيه من بين الذين يسفحون المال على مادحيهم ، وكان له في هؤلاء فراسة عمقها في نفسه حب المال ، وما كاد مروان ينشد جعفرا بيتين من قصيدة رائية حتى سارع جعفر قائلا : ويحك ، أنشد مرثيتك في معن
وكان الناس كلهم لمعن إلى أن زار حفرته عيالا
فانشدها إياه حتى أتى على آخرها وجعفر يرسل دموعه ، فلما سكن قال : هل أثابك أحد من ولده وأهله على هذه شيئا ؟ قال :لا ، قال جعفر : فلو كان معن حيا وسمعها منك ، كم كان يثيبك عليها ؟ قال : أربعمائة دينار ، قال جعفر : لكني أظن أنه كان لا يرضى لك بذاك ، وقد أمرنا لك عن معن بضعف ما قلت وزدنا نحن مثل ذلك ، فاقبض من الخازن ألفا وستمائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك
المرحلة الثالثة:يستخدم معن في هذه المرحلة نغمة السياسة وأحقية العباسيين بالخلافة دون غيرهم من المطالبين حيث يصب مديحته لخليفة بغداد في قالب من الألفاظ حضري وفي ثوب من الأقوال مترف رقيق ، ومن حيث الجانب الشعري الفني فيتمثل في استهلال رقيق بالغزل ورحلة إلى الممدوح ثم في توجيه صفات المديح إلى المهدي . يقول مروان مستهلا قصيدته :
طرقتك زائرة فحي خيالها بيضاء تخلط بالحياء دلالها
إن المطلع الذي رسمه مروان لقصيدته لا شك مطلع رائق في نطاق المعايير الإيقاعية للشعر ، فهو يطرق موضوعا كلف به شعراء زمانه وهو وصف الخيال ، أو بالأحرى زيارة خيال الحبيب ، بل إن المصراع الأول من المطلع ذاته يدعو إلى الالتفاف لأنه يشكل قضية بذاته :
(طرقتك زائرة فحي خيالها)ومن الطريف إن هذا المطلع الذي لم يعجب اليزيدي قد أعجب شيخا من شيوخ الأدب هو خلف الأحمر الذي حكم لمروان بسببه أنه أشعر من الأعشى في قوله : (رحلت سمية غدوة أجمالها) والحق أن كثيرا من مطالع القصائد كانت تثير بعض أسباب الحرج للشعراء ،
المهم إن مروان بن أبي حفصة ينشد مطلعة الجميل ثم يثني ببيت قد أحكم نسج وشائج رقته في تلاعب محبب باختيار اللفظ المونق والمعنى الندي في ظلال قافية رضية تريح السمع والخاطر :
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
وفي رواية:
مالت بقلبك فاستقاد ومثلها قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
وكأنما طرقت بنفحة روضة سحت بها د يم الربيع ظلالها
باتت تسائل في المنام معرسا بالبيد أشعث لا يمل سؤالها
في فتية هجعوا غرارا بعدما سئموا مراعشة السرى ومطالها
فكأن حشو ثيابهم هندية نحلت وأغفلت العيون صقالها
ثم ينطلق مروان بعد ذلك إلى مدح رقيق لم يلحف فيه كعادته في طلب النوال فهو يريد إن ياسر قلب محمد المهدي بطريق ما أول الأمر ،وإنما يذكر بعض الخلال الطيبة التي يطرب لها الممدوح ،ومتى طرب أجزل الصلة وجاد بالعطاء ،يقول مروان :
أحيا أمير المؤمنين محمد سنن النبي حرامها وحلالها
ملك تفرع نبعة من هاشم مد الإله على الأنام ظلالها
كلتا يديك جعلت فضل نوالها للمسلمين ، وفي العدو وبالها
وقعت مواقعها بعفوك أنفس أذهبت بعد مخافة أوجالها
أمنت غير معاقب طرادها وفككت من أسرائها أغلالها
ونصبت نفسك خير نفس دونها وجعلت مالك واقيا أموالها
ويمضي مروان في مدح المهدي في قصائد أخرى عديدة ولكن على الدربالسياسي نفسهمحاولا إن يجعل من نفسه محاميا للخلافة العباسية مدافعا عن شرعيتها ، فيقول كلاما هو إلى النظم أقرب منه إلى الشعر :
يا ابن الذي ورث النبي محمدا دون الأقارب من ذوي الأرحام
الوحي بين بني البنات وبينكم قطع الخصام فلات حين خصام
ما للنساء مع الرجال فريضة نزلت بذلك سورة الأنعام
أنى يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام
ومن الطريف أن الشعراء يدخلون في جدل حول من هم أحق بميراث النبي ، وهم جميعا منافقون كاذبون لان الأنبياء لا يورثون ، وليست النبوة ملكا فتورث ، وحتى لو تصورنا المستحيل وكان هنا حكم يحتاج إلى من يليه فالولاية الطبيعية هي عن طريق الشورى واختيار جمهور المسلمين .
إن مروان لا يكاد يخرج في شعره عن نطاق المدح أو الرثاء وقد مرن على هذين الموضوعين من فنون الشعر ، فإذا خرج عن نطاقهما لا نكاد نلمس له إبداعا أو إطرابا ، أنه قد امتلك حديقة وهبها له المهدي فقال يصفها :
نواضر غلبا قد تدانت رءوسها من النبث حتى ما يطير غرابها
ترى الباسقات العم فيها كأنها ظعائن مضروب عليها قبابها
ترى بابها سهلا لكل مدافع إذا أينعت نخل فأغلق بابها
يكون لنا ما نجتني من ثمارها ربيعا إذا الآفاق قل سحابها
حظائر لم يخلط بأثمانها الربا ولم يك من اخذ الديات اكتسابها
ولكن عطاء الله من كل مدحة جزيل من المستخلفين ثوابها
إنه شاعر أصيل ولكن في فن السؤال والاستجداء ، يجيد وسائلهما ويتفوق في انتهاج الطريق الموصول إليهما ، وبالرغم من الفترة القصيرة التي عاشها مروان في عهد بني أمية والفترة الطويلة التي عاشها في عهد بني العباس ، والتي امتدت إلى عهد المأمون ، فان مروان بن أبي حفصة يعتبر أنموذجا لشعراء المرحلة المتوسطة من المخضرمين بين الدولتين

4-الحسين بن مطير 000 – 169 هـ

حياته ونشأته :والحسين بن مطير بن مكمل الاسدي عاش في زمن الدولتين الأموية والعباسية إلا إن أخباره مع الأمويين قليلة ،وهو من أهل الجزيرة العربية من قرية يقال لها زبالة في طريق الحجاج بين الكوفة ومكة ، والأخبار تذكر لنا إن هذا الشاعر مدح هذا وذاك من بني أمية وهذا وذاك من بني العباس ، ونجد الشعر الذي قيل في بني العباس بين أيدينا وفيرا وإما ذلك الذي قيل في بني أمية فهو نادر أو قليل أو غير مسجل ،
فمن المؤكد إن الحسين بن مطير قد دخل على الوليد بن يزيد ومدحه ، فقد لقي الحسين بن مطير يوما المهدي العباسي فانشده مادحا :
أضحت يمينك من جود مصورة لا بل يمينك منها صور الجود
فقال المهدي : كذبت يا فاسق ، وهل تركت من شعرك موضعا لأحد بعد قولك في معن بن زائدة :
ألما بمعن ثم قولا لقبره سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا
وأنشد القصيدة كلها بيتا بيتا في مواجهة الشاعر حتى أتمها .
إن الملك العباسي قد صدمته الغيرة من قصيدة قالها الشاعر في رثاء أحد عماله ، وقد مر موقف مماثل له من مروان بن أبي حفصة مع نفس الممدوح وهو معن بن زائدة فمن باب أولى سوف تكون القصيدة أكثر إثارة للغيرة إذا كانت مديحا ، وهي بالتالي سوف تكون مثيرة للغضب والحفيظة والكراهية لو أنها قيلت في عدو أو خصم ، وإذن فليس ببعيد علينا إن نتصور إن هؤلاء المخضرمين كانوا يعلمون على أخفاء شعرهم ذي اللون السياسي الأموي ، وفي اضعف الإيمان كانوا يعملون على الحيلولة بينه وبين إن يذاع .
شخصيته الشعرية :والحسين بن مطير شاعر كبير متقدم في الرجز والقصيد ، وهي ملكة قلما توفرت إلا للقليل من الشعراء ،

إن البداوة والصحراء تشدانه إليهما في كثير من طرق تعبيره وشحطات خياله ، ولكن الشاعر كان ذكيا طموحا ثقف نفسه وراد شعره على معان ابتكرها ، وموضوعات استحدثها وأساليب جديدة ابتدعها ، وخيالات بارعة صاغ من خلالها شعرا رائعا كما سوف يستبين لنا من نماذج شعره التي سوف نقدمها بعد قليل .
موضوعات شعره :لقد تماوج شعره بين المديح والرثاء ، وبين الغزل والوصف ، ثم أسهم بعد ذلك في الحكمة بنصيب ، وهو في كل ذلك يجمع بين النهج التقليدي القديم في إنشاء القصيدة والأسلوب المستحدث الجديد ، أو بعبارة أدق الأسلوب الذي استحدثه في نطاق النزعة إلى التجديد ومن خلال النبوغ الذي دفع به إلى تبني صور جديدة ومعان حديثة وقعت موقع الرضى عند كثير من النقاد والمتأدبين على أيامه . وإنه ليقع من شعره الشيء بعد الشيء فيكثر التعجب من كثرة بدائعه، وشعره كأنه الديباج ، بل نظم الدر في حسن وصف وإحكام رصين، ويعد من الفحول وهو من الشعراء القليلين الذين أجادوا القول في الرجز والقصيد
ألما على معن وقولا لقبره سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا
فيا قبر معن أنت أول حفرة من الأرض خطت للسماحة مضجعا
وياقبر معن كيف واريت جودة وقد كان منه البر والبحر مترعا
بلى قد وسعت الجود والجود ميت ولو كان حيا ضقت حتى تصدعا
فتى عيش في معروفه بعد موته كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
ولما مضى معن مضى الجود فانقضى وأصبح عرنين المكارم اجدعا
ولعل الشاعر قد استطاع أن ياسر عاطفة السامع ويشدها إليه من زاويتين أساسيتين الزاوية الأولىأنه جعل رثاءه من خلال خطابه القبر الذي توسده معن ، وأنى له إن يسع خلقه وفضله وجوده ،
والزاوية الثانيةهي العاطفة الوافر التي ضمنها الشاعر معانية و ألبسها كلماته في أطار من القول الأسر والقافية الموسيقية الحزينة فأصبحنا ونحن نقرا القصيدة كأننا نستمع إلى قطعة رائعة من الموسيقى الحزينة .
إن ابن مطير قد ذهب ينتجع النوال والشهرة عند معن بن زائدة ولكنه يمر بتجربة طريفة لأنه لم يلق قبولا عند أول لقاء ، فاستعد للقاء ثان سريع يصل من خلاله إلى مبتغاه على ما سوف نفصل بعد قليل .
مدائحه :لكن لعل أولى مدائحه كانت في معن ، وكان معن فارسا كريما من أعيان بني شيبان ومن أجود العرب وإذا أخضعت هذه الأبيات لمعايير النقد التقليدية نجد الشاعر استهل قصيدته بالرحلة إلى الممدوح ثم وصفه بالمجد والأدب وجمال الطلعة ورحابة الأخلاق والشجاعة والأقدام والهيبة والعفة ، وأما إذا أخضعت لمعايير الذوق الفني وجدنا شعرا سلسا رقيقا تنساب فيه الموسيقى بوفرة ولا نحس فيه تصنعا يصدم السمع ولا تعسفا يقلق الخاطر ، كما إن المعاني التي طرقها وان لم تكن جديدة الخلق فهي جديدة الصوغ بارعة التجميع مستريحة الترتيب ، فليس كل الشعراء يأتون بالجديد من المعاني ، وليس كل من يأتي بمعنى جديد يحسن صوغه وتقديمه ولعل معنى مألوفا صيغ صياغة رقيقة سمحة خير ألف مرة من معنى جديد صيغ صياغة مريضة سمجة . لذلك فإن المهدي وقد طرب إلى مدحه طربه إلى عذوبة الشعر الذي سمعه فإنه أمر للشاعر بسبعين ألف درهم وحصان جواد .
وللحسين بن مطير في المهدي قصيدة من عيون الشعر توفرت لها كل سمات الفحولة ، اعتمد فيها المبالغة في مخاطبة العواطف مع احتشاد للمعاني وإتقان في النسج مع التطرف في المقابلة بين المعاني بحيث جعل من أبياته بناء شامخا استحقت به أن تنال شهرة ربما لم تقل عن شهرة أبياته في معن مع إن هذه مديحة والأخرى مرثية ، يقول الحسين في مدح المهدي :
له يوم بؤس فيه للناس أبوس ويوم نعيم فيه للناس أنعم
فيمطر يوم الجود من كفه الندى ويقطر يوم البأس من كفه الدم
ولو أن يوم البأس خلى عقابه على الناس لم يصبح على الأرض مجرم
ولو أن يوم الجود خلى يمينه على الناس لم يصبح على الأرض معدم
إنه فحل الصياغة خصب الشاعرية متمكن من القصيد رائع الموسيقى بارع تجميع المعاني
غزله :وأما غزلياته فقد عرض لنا منها ألوانا من القصائد ومجموعات من المقاطع التي نلمس من جملتها عفة تتمشى في أردنه ، وروحا أخلاقية تحول بينه وبين إن يتهتك أو يتهافت ، ومن ثم فإنه يبدو مطبوعا بطابع غزل أهل البداوة الذين لا يستسيغون ما يتقبله أهل الحضر من عبارات تخرج أحيانا عن مألوف الأسماع وتند عن متعارف الأذواق وقد ظل ذلك البدوي المستمسك بعادات قومه وزي أهله وأسلوبهم في الحياة والكلام .
وإن لابن مطير أحيانا شحطات غزلية عمد فيها إلى التقعر في الألفاظ والتوعر في القوافي ، وهو من ناحية أخرى له صور فيها جدة وطرافة تخرج به عن النطاق التقليدي من الشعر الجيد إلى مدرسة التجديد في نطاق الشعر الجيد أيضا . وشاعرنا بعد ذلك كله فياض العاطفة حين يعبر عن نفسه ، عميق التأثير في غزلياته .
يقول ابن مطير من غزليه طريفة عمد فيها إلى بساطة التعبير ويسر الترجمة عن كوامن حبه وخوافي مشاعره نحو صاحبته ((سهمة )) من بني عمرو :
خليلي من عمرو قفا فتعرفا لسهمة دارا بين لينة والحبل
وفيهن مقلاق الوشاحين طفلة مبتلة الأطراف ذات شوى خدل
حصان لها لونان جون وواضح وخلقان شيء من لطيف ومن عسل
وسنتها بيضاء واضحة السنـا وذروتها مسودة الفـرع والأصل
فيا عجبا مني ومن حب قاتلي كأني أجازيه المودة عن قتلي
ومن غنيات الحب أن كان أهلها أحب إلى قلبي وعيني من أهلي
ولابن مطير طاقة فريدة على تصوير وجدانه المهتاج وصبابته الحارة ، وهو يربط بين تصرير عشقه وبين وصف المحبوبة التي يجيد رسم صورتها ويخلع عليها نفحات من الجمال بحيث يبدو الانسجام بين وصفه الحبيبة ووجده بها ، ومن ارق ما أنشأ في هذا السبيل قوله :
لقد كنت جلدا قبل أن توقد النوى على كبدي نارا بطيئا خمودها
ولو تركت نار الهوى لتضرمت ولكن شوقا كل يوم يزيدها
وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي إذا قدمت أيامها وعودها
فقد جعلت في حبه القلب والحشا عهاد الهوى تولي بشوق يعيدها
وصفر تراقيها وحمر أكفها وسود نواصيها وبيض خدودها
محضرة الأوساط زانت عقودها بأحسن مما زينتها عقودها
يمنيننا حتى ترف قلوبنا رفيف الخزامى بات طل يجودها
وفيهن مقلاق الوشاح كأنها مهاة بتربان طويل عمودها
وكنت أذود العين إن ترد البكا فقد وردت ما كنت عنه أذودها
خليلي ما بالعيش عيب لو أننا وجدنا لأيام الصبا من يعيدها
ولي نظرة بعد الصدود من الجوى كنظرة ثكلى قد أصيب وليدها
هل الله عاف عن ذنوب تسلفت أم الله إن لم يعف عنها معيدها
وهذه الأبيات هي من مدرسة جرير وأبي حية النميري في الغزل نت حيث روح الجزالة الموشاة بالرقة والصدق التي اتسم بها شعر الشاعرين العظيمين السابقين
على أن الأمر لم يقف بالحسين في غزله عند حد الإجادة وانتزاع الإعجاب .
و يخطو الحسين على درب التجديد :
وصفر تراقيها وحمر أكفها وسود نواصيها وبيض خدودها
والحسين بن مطير يحرص دائما في غزله على أن يجعل لمعاني العفة مكان الصدارة وربما كان أحرص الشعراء العاشقين جميعا على أظهار هذه المعاني ، وهو يفعل ذلك دون أن ينال من رقة القول أو حرارة الشوق أو حرقة اللوعة أو الاهتمام بالعازلين ، يقول الحسين من قصيدة حب طويلة:
أحبك يا سلمى على غير ريبة ولا باس في حب تعف سرائره
ويا عاذلي لولا نفاسة حبها عليك لما باليت أنك خابره
بنفسي من لا بد أني هاجره ومن أنا في الميسور والعسر ذاكره
ومن قد لحاه الناس حتى اتقاهم ببعضي إلا ما تكن ضمائره
أحبك حبا لن أعنف بعده محبا ولكني إذا ليم عاذره
لقد مات قبلي أول الحب فانقضي ولومتّ أضحى الحب قد مات آخره
ولا يلبث ابن مطبر أن يشطح في بعض قصيده فتبدو منه بدوات تجعل البون شاسعا بين ما قصد إليه من حب وما سعى إليه من وسائل التعبير ، إن الحب معنى رقيق وإحساس رفيق وهذا المعنى وذاك الإحساس يحتاجان لا شك إلى أن يصاغا صياغة سهلة سمحة عذبة ولكنه هنا كان بدوي الألفاظ
هل يدنينك من سلمى وجيرتها قلائص ارحبيات حراجيج
هدل المشافر ، أيديها موثقة زج ، وأرجلها زل هزاليج
ولعل الشاعر كان قد عمد إلى ذلك عمدا حتى يثبت إن له قدرة على الأغراب إذا أراد ،
وإذا كان لنا إن نشير إلى بعض المعاني المستحدثة التي تضع ابن مطير في طبقة المؤسسين الأوائل لاتجاهات التجديد فعلينا بهذه الأبيات الغزلية الرقيقة :
أين أهل القباب بالدهناء أين جيراننا على الإحساء
جاورونا والأرض ملبسة نور الأقاحي تجاد بالأنواء
كل يوم بأقحوان جديد تضحك الأرض من بكاء السماء
وهذه الأبيات محدثة من وجوه شتى ، فهي ضرب جديد رقيق من وصف الطبيعة لم يعمد إليه الشعراء قبله ، ثم هي تعتمد على الكثير من الاستعارات الرائقة من الناحية البيانية ، وهي إلى ذلك قد تمخضت عن صنعه بديعية باكرة في المطابقة اللطيفة ((تضحك الأرض من بكاء السماء )) .
لقد كان ابن مطير اسبق من المحدثين جميعا في هذا الضرب من القول ولكنه كان مغمورا عند كثير من النقاد اللذين عجبوا من قوله دعبل :
لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
والمعنى مأخوذ كما هو واضح من أبيات الحسين بن مطير سالفة الذكر ، وهي بدون شك أوفر صنعة وأرق صياغة ، ولم يكن دعبل الشاعر الوحيد الذي أخذ معنى الحسين بن مطير ، بل أن مسلم بن الوليد الذي يلقبه بعض النقاد بإمام المحدثين من الشعراء قد أخذ هذا المعنى من قوله :
مستعبر يبكي على دمنة ورأسه يضحك فيه المشيب
وأخذ ابن المعتز المعنى نفسه في قوله :
ألحت عليه كل طخياء ديمة إذا ما بكت أجفانها ضحك الزهر
وللحسين أكثر من صورة طريفة مستحدثة تبدو الصناعة البديعة الباكرة واضحة فيها كل الوضوح ، مثل ذلك قوله :
بيضاء تسحب من قيام فرعها وتغيب فيه وهو جعد أسحم
فكأنها منه نهار مشرق وكأنه ليل عليها مظلم
فالمقابلة بين النهار المشرق والليل المظلم في نطاق المعاني الرقيقة التي تضمنها البيتان ظاهرة جديدة في صناعة الشعر حتى عصر الحسين بن مطير على أقل تقدير .
وإذا فلئن أغرب ابن مطير في باب الغزل بقصيدته الجيمية الحوشية التي مر نصها فلقد عوضنا عن توعره ذاك ما قد أرضى أذواقنا في قصائده الغزلية العفة الأخلاقية ، وفي صور الصناعة الجديدة المبكرة التي مرت في الأبيات السابقة والتي سوف نعرض لصور أخرى منها بعد قليل .
الحكمة :وكان للحسين بن مطير مشاركة طيبة في قول الحكمة تجري على قلمه مطواعة لينة لولا أنه يأتي بها ترجمة لتعامله مع الحياة وخبرته بها وتجريبه إياها وحلبه اشطرها ، يقول الحسين :
ولي كبد مقروحة من يبيعني بها كبدا ليست بذات قروح
أباها علي الناس لا يشترونها ومن لا يشتري ذا علـة بصحيح
وابن مطير يقدم حكمته الأصيلة في ثوب أنيق من الإيقاع وإطار رائق من الألفاظ بحيث لا تدخل من أذن وتخرج من الأخرى وإنما تدخل لكي تستقر في العقل وتنغمس في الوجدان وتبقى معهما طويلا كحصيلة دراسة عميقة واقعية لصروف الزمان ومعاملات الأخوان ، يقول الحسين بن مطير الحكيم:
تقلبت في الإخوان حتى عرفتهم ولا يعرف الإخوان إلا خبيرها
فلا أحرم الخلان حتى يصارموا وحتى يسيروا سيرة لا أسيرها
فإنك بعد الشر ما أنت واجد خليلا مديما شيمة لا يديرها
واإنك في غير الأخلاء عالم بان الذي يخفي عليك ضميرها
فلا تك مغرورا بمسحة صاحب من الود لا تدري علام مصيرها
وما الجود عن فقر الرجال ولا الغنى ولكنه خيم الرجال وخيرها
وقد تغدر الدنيا فيضحى غنيها فقيرا ويغني بعد بؤس فقيرها
وكائن ترى من حال دنيا تغيرت وحال صفا بعد إكدار غديرها
ومن طامع في حاجة لن ينالها ومن يائس منها أتاه بشيرها
ومن يتبع ما يعجب النفس لا يزل مطيعا لها في فعل شيء يضيرها
فنفسك أكرم عن أمور كثيرة فما لك نفس بعدها تستعيرها
وأبيات الحكمة التي يقولها الحسين تدخل إلى الأذن وتستقر في العقل والوجدان فينشغل العاقل بها كثيرا ، ولقد كانت بعض هذه الأبيات سببا في تسهيد ملك كبير تجمعت له كل أسباب السعادة المادية والمعنوية والاستقرار السياسي والهناء النفسي المهدي العباسي الذي قال للمفضل الضبي ذات يوم : أسهرتني البارحة أبيات الحسين بن مطير الاسدي ، قال : وما هي يا أمير المؤمنين ؟
قال : قوله :
وقد تغدر الدنيا فيضحى غنيها فقيرا ويغنى بعد بؤس فقيرها
فلا تقرب الأمر الحرام فإنه حلاوته تفنى ويبقى مريرها
وكم قد رأينا من تغير عيشة وأخرى صفا بعد إكدار غديرها
فأجابه المفضل الضبي إجابة عاقلة غير منافقة ، إجابة العلماء : مثل هذا فليسهرك يا أمير المؤمنين
الوصف:وإذا عرض ابن مطير للوصف ، وجدناه ثابت القدم راسخ البناء ، مبدعا مجددا مستحدثا من المعاني والصور والصيغ ما لم يسبق إليه .لقد مرت أبياته الهمزية التي أضحك الأرض فيها من بكاء السماء ، ومر أيضا بيتاه في وصف الفتاة الحسناء التي بدا وجهها بين شعرها كالنهار المشرق ، وشعرها بالقياس إلى وجهها كالليل الأسحم ، وللحسين تصوير جديد للمطر لم يسبق إليه ضمنه قصيدة طويلة بعض الشيء جمع فيها ألوانا من صور البيان والبديع من تشبيهات واستعارات وطباق ومقابلة وتشطير ولم يفسد معانيه ولم يجعل الألفاظ سيده لها ، يقول ابن مطير في المطر :
وكان بارقة حريق يلتقي ريح عليه وعرفج وألاء
وكان ريّقه ولما يحتفل ودق السماء عجاجة كدراء
مستضحك بلوامع ، مستعبر بمدامع لم تمرها الأقذاء
فله بلا حزن ولا بمسرة ضحك يؤلف بينه وبكاء
حيران متبع صباه تقوده وجنوبه كنف له ووعاء
ودنت له نكباؤه حتى إذا من طول ما لعبت به النكباء
ذاب السحاب فهو بحر كله وعلى البحور من السحاب سماء
ثقلت كلاه فنهرت أصلابه وتبعجت من مائة الأحشاء
غدق ينتج بالأباطح فرقا تلد السيول وما لها أسلاء
غر محجلة دوالج ضمنت حمل اللقاح وكلها عذراء
سحم فهن إذا كظمن فواحم سود وهن إذا ضحكن وضاء
لو كان من لجج السواحل ماؤه لم يبق من لجج السواحل ماء
لقد نزع الشاعر إلى الصورة الجديدة والصنعة المبتكرة والغرض المتجدد في رحاب الطبع الأصيل ، ولقد رسمللشعر في مستهل العهد العباسي خطاه ، وأسهم فيه إسهاما فعالا وإن بدا في ثوب من التواضع وإطار من البعد عن الصخب والتضجيج






5-منصور بن الزبرقان بن سلمة النمري
حياته ونشأته:منصور النمري شاعر وافد على بغداد منحدر من بلده ((رأس العين )) في الجزيرة ، وكان سكان الجزيرة يحسبون لفترة طويلة من الزمان على أهل الشام عربي صليبة من النمر بن قاسط واسمه – كاملا – منصور بن الزبرقان بن سلمة – وقيل ابن سلمة بن الزبرقان – بن شريك بن مطعم الكبش الرخم بن ربيعة بن نزار
شخصيته الشعرية :ومنصور النمري تلميذ الشاعر العبقري المثقف الحكيم كلثوم بن عمرو العتابي وروايته ، عنه أخذ ومن بحره استقى ، وبمذهبه الفني تشبه. ولكنه لم يلبث أن انقلب على أستاذه ، وأخذ يكيد له عند الرشيد حتى كاد إن يفتك به ، الأمر الذي اضطر الرجل الوقور – العتابي – إلى إن يقابل سوء الصنيع بمثله فما كان منه إلا أن سمم فكر الرشيد تجاه منصور ، وروي له بعض شعره الذي كان يتشيع فيه لآل البيت تشيعا شديدا يؤلب فيه الناس على ملك العباسيين .
على إن خصومة منصور للعتابي قد نبعت من نخوته العربية وعصبيته في الغيرة الشديدة على أهل بيته حين سخر العتابي بمنصور وزوجه وقد تعثرت في الولادة
ولكن مهما كان الأمر في نهاية العلاقة بين منصور وأستاذه على هذه الصورة المحزنة فإنه أفاد من صلته بالعتابي ورواية شعره والتلميذة عليه فائدة جليلة جعلته يواجه كبار الشعراء فيما بعد وينتزع منهم مكان الصدارة عند الرشيد .
وهذا ومنصور النمري على الرغم من مدحه الرشيد ونزوعه إلى الصيغة السياسية في ذلك ومحاولة ترجيح حق العباسيين في الخلافة على حق الهاشميين كان متشيعا لآل البيت متحمسا لهم ، باكيا لما أصابهم من تعذيب واضطهاد على يد العباسيين والأمويين بحيث يقول ابن المعتز : إن أشعار النمري في آل الرسول عليهم السلام كثيرة جدا ، وهي من أجود ما مدحوا به كما يصفه بأنه من فحول المحدثين .
وإن منصورا النمري لم يمدح أحدا من الخلفاء غير الرشيد ، وإن كان قد مدح وزراءهم من البرامكة وبعض قوادهم مثل يزيد بن مزيد الشيباني .
إن النمري قد نفذ شعره إلى قلب الرشيد بما لم ينفذ إليه شاعر آخر ، فقد أنشد منصور الرشيد قصيدته الرائية التي مطلعها :
أمير المؤمنين إليك خضنا غمار الهول من بلد شطير
وهي من أرق شعره
وإنك حيث تبلغهم أذاة وإن ظلموا لمحترق الضمير
انتفض الرشيد في مجلسه انتفاضة الرضى والإعجاب وقال له : ويحك ، ما هذا ؟ شيء كان في نفسي منذ عشرين سنة لم اقدر على إظهاره فأظهرته بهذا البيت . ثم قال الرشيد للفضل بن الربيع خذ بيد النمري فأدخله بيت المال ودعه يأخذ ما يشاء . يقول الشاعر : فأدخلني الفضل إلى بيت المال وليس فيه إلا سبع وعشرون بدورة فاحتملتها جميعا .
إن الرشيد كان قد أقام بالرقة في فصل الصيف وأطال المكث فيها ، فقد كانت أثيرة لديه لطيب هوائها ورقة اتسامها ، فاشتاقت زبيدة إلى بغداد ، وفكرت في حيلة تستعجل بها الرشيد في العودة إلى عاصمة الخلافة ، فجمعت الشعراء وقالت لهم : من يصف مدينة السلام وطيبها في أبيات يشوق أمير المؤمنين إليها أغنيته ، فتسابق الشعراء إلى القول في فضل بغداد ، ومن بينهم النمري قال أبياتا في هذا المقام أولها :
ماذا ببغداد من طيب أفانين ومن عجائب للدنيا وللدين
إذ الصبا نفحت والليل معتكر فحرشت بين أغصان الرياحين
فوقعت أبيات النمري في قلب الرشيد بحيث أسرع في الانحدار إلى بغداد ، أما الجائزة التي حصل عليها النمري من زبيدة فكانت جوهرة ثمينة وهبتها له ثم دست إليه من اشتراها منه بثلاثماتة ألف درهم .
فإذا ما انتقلنا إلى تسجيل السخط والغضب اللذين أثارهما النمري في قلب الرشيد بأسلوب وطراز من الفكرة الشعرية لما تسنحا لشاعر آخر ،
فأما الأولى التي تشير إلى نبل في سلوك الرشيد قبل أبناء عمومته من العلوية فتتمثل في أن منصورا وقف ينشد الرشيد قصيدة مدحة بها وهجا آل علي وثلبهم ، فضجر الرشيد وغضب غضبا شديدا وأردف قائلا موجها حديثه للشاعر ، يا ابن اللخناء : أتظن أنك تتقرب إلي بهجاء قوم أبوهم أبي ونسبهم نسبي ، وأصلهم وفرعهم أصلي وفرعي ؟ فقال الشاعر ممعنا في نفاقه أو استرضاء للخليفة الغاضب : ما شهدنا إلا بما علمنا . وهنا استبد الغضب بالرشيد وأمر مسرورا السياف فوجا في عنقه ثم أمربه فاخرج
وأما الثانية فإنه في غمار الخلاف الشديد بينه وبين العتابي اثر الخبر الذي أوردناه في صدر هذا الحديث حول سخرية العتابي من راويته حين تعسرت زوجته في الولادة فأشار عليه ساخرا بكتابه بيته على مكان ما من جسمها :
إن اخلف الغيث لم تخلف مخايله أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع
نذر النمري لئن سلمت زوجته ليشكون العتابي إلى الرشيد ، وقد سارع الشاعر بشكوى العتابي إلى الخليفة مما جعله يستشيط غضبا من العتابي ، الأمر الذي جعل هذا الأخير يتوارى لفترة طويلة عند الفضل بن الربيع ، فلما إن هدأت ثورة الخليفة وإذن له بالمثول بين يديه سأله عن السبب الذي دفع به أن يهزأ بالنمري وبزوجه وبالخليفة جميعا ، فأجاب العتابي قائلا : والله يا أمير المؤمنين ما حمله على التكذب علي إلا وقوفي على ميله إلى العلوية ، فإن شاء أمير المؤمنين إن أنشده شعره في مديحهم فعلت ، فقال أنشدني . فانشده قصيدة النمري :
شاء من الناس راتع هامل يعللون النفوس بالباطل
حتى بلغ إلى قوله :
ألا مساعير يغضبون لها بسلة البيض أو القنا الذابل
ثار الرشيد وغضب غضبا شديدا ، وأمر الفضل بن الربيع إن يحضره الساعة ، فبعث الفضل في طلبه في الرقة فوجده قد توفي ، والناس منصرفون من تشييع جنازته ، فأمر بنبش قبره ليحرقه ، ولكن مازال الفضل يلطف له حتى كف من طلبه
للنمري مجموعة من القصائد والمقطوعات مدح بها الرشيد في مناسبات مختلفة ولكنه لم يحفل فيها بالجانب السياسي ، وهو الأمر الذي حرص على التزامه في الكثير من شعره كوسيلة ((للتقية ))حتى لا ينكشف أمر تشيعه للرشيد .
إن منصورا يحسن استهلال قصائده ويفتتحها بالغزل الرقيق الذي يستولي على عواطف الأدباء والفنانين بحيث كان الكثير من شعره مما يتعنى به . فمن هذا اللون من القصيد ميميته التي يتغنى بهل ، والتي يقول في مستهلها متغزلا :
يا زائرينا من الخيام حياكما الله بالسلام
لم تطرقاني وبي حراك إلى حلال ولا حرام
هيهات للهو والتصابي وللغواني وللمدام
أقصر جهلي وتاب حلمي ونهنه الشيب من عرامي
وبعد هذا الاستهلال الرقيق من الغزل والشكوى الذي يطيل فيه بعض الشيء ينتقل إلى مدح الرشيد قائلا :
بورك هارون من إمام بطاعة الله ذو اعتصام
يسعى على أمة تمنى أن لو تقيه من الحمام
لو استطاعت لقاسمته أعمارها قسمة السهام
يا خير ماض وخير باق من النبيين في الأنام
لقد جاء النمري بأسلوب خفيف رقيق مطرب ، الأمر الذي جعل المغنين يتغنون بأبياته هذه لاتساقها نغما ، وخفتها إيقاعا ، بحيث تمكن المغنى من الترديد والتنغيم والتلوين وحسن الأداء .
موضوعات شعره:
المديح :لمنصور النمري أبيات أخرى في مدح الرشيد ينحت فيها المديح نحتا فيمزح المعنى الجيد بالصورة المهتزة كما في قوله :
إن لهارون إمام الهدى كنزين من أجر ومن بر
يريش ما تبري الليالي ولا تريش أيديهن ما يبري
كأنما البدر على رحله ترميك منه مقلتا صقر
إن النمري كان يعني في مدائحه للرشيد أمير المؤمنين عليا وليس الرشيد نفسه ، وهو في ذلك يستلهم الحديث الشريف : (علي مني بمنزله هارون من موسى) ومما يؤيد من ذهب إلى هذا الرأي قول النمري:
آل الرسول خيار الناس كلهم وخير آل رسول الله هارون
رضيت حكمك لا أبغي به بدلا لأن حكمك بالتوفيق مقرون
وأما في نطاق المدائح السياسية فلمنصور النمري أكثر من قصيدة بارعة الصنع ذائعة الصيت تجري على السنة المتأدبين بالإطراء والإعجاب ، وأشهر هذه القصائد على الإطلاق عينيته التي مطلعها :
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع أذل ذكرت سبابا ليس يرتجع
وقد ذهب الشريف المرتضى إلى أن هذه القصيدة هي أول شعر يمدح له النمري الرشيد ، صنعها وأنشدها الرشيد في جمع من قومه ربيعة حين أوقع الرشيد بهم . ويذكر المرتضى إن الشاعر ما كاد ينشد المصراع الأول من مطلع قصيدته حتى قال له الرشيد – بملل - : قل حاجتك وعد عن هذا. وما زال النمري ينشد والخليفة يستمتع طربا معجبا حتى إذا انتهى منصور من الإنشاد أمر الرشيد برفع السيف عن ربيعة .
والقصيدة ذات فكرة ومنهج وصناعة ، فلا شك أن النمري كان على علم بدراية الرشيد بالشعر وتمييزه الجيد من الرديء ، ومن ثم فقد استهل قصيدته بالشكوى من ذهاب الشباب وإبداء الجزع على فراقه بهذه الأبيات الفريدة في التعبير عن إحساس كل من بأن عنه الشباب مردفا ذلك بشيء من التشبيب وذلك في قوله :
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع إذا ذكرت سبابا ليس يرتجع
أودى الشباب وفاتتني بشرته صروف دهر وأيام لها خدع
ما كنت أوفي شبابي كنه غرته حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
ما كنت أول مسلوب شبيبته مكسو شيب فلا يذهب بك الجزع
إن كنت لم تطعمي ثكل الشباب ولم تشجي بغصته فالعذر لا يقع
إن ناقدا كبيرا مثل ابن المعتز – من منطلق ذوقه الخاص – يقول عن منصور انه أقام القيامة في تشبيبه وذكر الشباب في هذه القصيدة .
المديح السياسي :
وحين يقصد النمري إلى مدح الرشيد من باب السياسة فإنه يطرق الباب من خلال تقرير أحقية بني العباس بالخلافة دون بني علي ، وقد كان أكثر شعراء الرشيد يفعلون ذلك . إن منصورا النمري بضرب على الوترنفسه ، ولكنه يفوق غيره في بعض المعاني ويسبقه في خلقها وطرقها فيقول :
يا ابن الأئمة من بعد النبي ويا ابن الأوصياء أقر الناس أم دفعوا
لولا عدي وتيم لم تكن وصلت إلى أمية تمريها وترتضع
إن الخلافة كانت إرث والدكم من دون تيم وعفو الله متسع
وما لآل علي في إمارتكم حق وما لهم في إرثكم طمع
يا أيها الناس لا تعزب عقولكم ولا تضفكم إلى أكنافها البدع
العم أولى من ابن العم فاستمعوا قول النصيح فإن الحق يستمع
إن منصورا يطرق المعنى نفسه الذي طرقه مروان بن أبي حفصة في بيته المشهور
أنى يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام
فجاء النمري وصاغه صياغة أبرع وأذكى ، لأنه واجه قارئه بقضية مقررة ،وليس بصيغة استغراب واستنكار .
أما وقد اطمأن منصور إلى أنه استحوذ على إعجاب الرشيد ورضاه في تلك المرحلة الثانية من قصيدته ، فانه ينتقل إلى المرحلة الثالثة التي يطلب إليه فيها العفو عن بني قومه مركزا على الخليفة بمدح مكثف غمره به كالسيل ، في شعر يجمع بين فحولة القول وترف الصوغ وجلال المعنى وذلك في قوله :
ركب من ((النمر)) عاذوا بابن عمهم من هاشم إذ ألح الأزلم الجذع
متوا إليك بقرى منك تعرفها لهم بها في سنام المجد مطلع
أي امرئ باب من هارون في سخط فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أودية أحلك الله منها حيث تتسع
إذا رفعت امرءا فالله يرفعه ومن وضعت من الأقوام متضع
نفسي فداؤك والأبطال معلمة يوم الوغى والمنايا بينها قرع
ومن مشهورات المدائح التي قالها منصور النمري في الرشيد قصيدته الرائية التي مطلعها .
أمير المؤمنين إليك خضنا غمار الهول من بلد شطير
وكانت هذه القصيدة أول شعر ينشده منصور في مدح الرشيد بحضور شاعره المفضل مروان بن أبي حفصة ، وتذكر الروايات إن مروان قد جزع حين عرف بأمر إنشاد منصور وقال في نفسه : هذا شامي وأنا حجازي ، أفتراه يكون أشعر مني ودخله من ذلك غم وحسد .
والحق إن هذه القصيدة الرائية من أرق شعر المديح السياسي ، ومن ألينه إيقاعيا ، وابلغه معنى ، وأقربه إلى الهدف ، وكان الشاعر فيه من المكر والحصافة بحيث عرض بيني علي بما لا يجرحهم حتى يخلص من خلال ذلك إلى الحيلولة بين الرشيد وبين إن يوقع بهم – وكان الشاعر على ما مر بنا متشيعا متحمسا .
وقف منصور وأنشد الرشيد في جمع من الحضور يتقدمهم مروان بن أبي حفصة ، فقال :
أمير المؤمنين إليك خضنا غمار الهول من بلد شطير
بخوص كالأهلة خافقات تلين على السرى وعلى الهجير
حملن إليك أحمالا ثقالا ومثل الصخر والدر النثير
فقد وقف المديح بمنتهاه وغايته وصار إلى المصير
إلى من لا يشير إلى سواه إذا ذكر الندى كف المشير
وما إن يصل منصور إلى هذا البيت الذي يعتبر من عيون معاني المديح حتى يقول مروان : وددت والله أنه أخذ جائزتي وسكت .
ويطرق منصور موضوع الشيعة طرقا رفقيا بارعا يبدي الحملة عليهم ويهدف إلى الرحمة بهم ويذكر في القصيدة يحيى بن عبد الله بن حسن فيقول :
بني حسن وقل لبني حسين عليكم بالسداد من الأمور
أمطيوا عنكم كذب الأماني وأحلاما يعدن عدات زور
ويخاطب الشاعر الرشيد ممجدا صنيعة الرحيم بيحيى بن عبد الله وقومه قائلا :
مننت على ابن عبد الله يحيى وكان من الحتوف على شفير
ولو جاريت ما اقترفت يداه دلفت له بقاصمة الظهور
يد لك في رقاب بني علي ومن ليس بالمن الصغير
وإنك حين تبلعهم أذاة وإن ظلموا لمحترق الضمير
وما إن ينتهي الشاعر من ذكر هذا البيت حتى يقول الرشيد قولته النبيلة التي مر ذكرها : ويحك ! ما هذا ؟ شيء كان في نفسي منذ عشرين عاما لم أقد على إظهاره فأظهرته بهذا البيت !!
وإذ يطمئن النمري على آل البيت من خلال أظهار الرشيد العطف عليهم ، يمضي الشاعر في التعريض بهم مستعينا ببعض المعاني القرآنية مقلدا فعل غيره من الشعراء في هذا السبيل فيقول :
ألا لله در بني علي وزور من مقالتهم كبير
يسمون النبي أبا ويأبى من الأحزاب سطر في سطور
يريد قوله عز وجل :(( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين))
وهون يعلم حق العلم أنه يلوي عنق الآية ليلبسها هذا المعنى ، تماما كما فعل مروان بن أبي حفصة مع المهدي حين أنشده قصيدته الهائية التي قال فيها :
أو تجحدون مقالة من ربكم جبريل بلغها النبي فقالها
شهدت من ((الأنفال )) آخر آية بتراثهم فأردتم إبطالها
وواضح أن مروان قصد بقولة الآية الكريمة من سورة الأنفال ((والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، إن الله بكل شيء عليم ))
ويمضي النمري في قصيدته ملحا على هذا المعنى السياسي مركزا على أحقية بني العباس دون بني فاطمة ، غير قانع بأية سورة الأحزاب ، وإنما يسعى إلى توثيق دعواه بالزبور كتاب اليهود ، ولعله ذكر ((الزبور)) تمشيا مع القافية التي تستجيب لها لفظه ((الزبور )) كل الاستجابة فقال :
فإن شكروا فقد أنعمت فيهم وإلا فالندامة للكفور
وإن قالوا بنو بنت فحق وردوا ما يناسب للذكور
وما لبني بنات من تراث مع الأعمام في ورق الزبور
لقد كان الإطار العام الذي نسج منصور النمري من خلاله مدائحه في الرشيد هو إطار السياسة ، ومحاولة إسباغ الشرعية على الحكم العباسي ،
وللنمري مدائح في رجال الرشيد ، وبخاصة الفضل وجعفر ابني يحيى البرمكي ، وهي مدائح سياسية على الأغلب ، ومتصلة بمناسبات سياسية أو عسكرية . إن الفضل بن يحيى يستطيع أن ينتزع من الفرس في منطقة ((مرو)) الموافقة على جعل ولاية عهد الرشيد لولده محمد الذي عرف بالأمين ، ويرى منصور النمري إن امرأ كهذا يدخل السرور دون شك إلى قلب الرشيد ، فيمدح الفضل بهذه الأبيات التقليدية :
أمست بمرو على التوفيق قد صفقت على يد الفضل أيدي العجم والعرب
ببيعة لولـي العهـد أحكمها بالنصح منـه وبالإشفاق والحدب
قد وكد الفضل عهدا لا انتقاص له لمصطفى من بني العباس منتخب
وفي مديحه لجعفر يحلق في سماء الشعر عندما تثبت فتنة في الشام سنة مائة وثمانية فعقد الرشيد لجعفر عليها وقال له : إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا ، واهتم الرشيد لذلك هما شديدا ، فقال له جعفر : بل أقيك بنفسي يا أمير المؤمنين ، وخرج ثم دخل الكوفة وجلس إلى هشام بن الحكم الرافضي واستمع إليه واقتنع بكلامه فانتقل إلى الرفض ، إي إلى مذهب الشيعة ، وتوفر على مدح آل البيت ، يزور قبورهم ، وينشد الأشعار فيهم ، حتى قال عنه ابن المعتز : إن أشعاره في آل الرسول عليهم السلام من أجود ما مدحوا به .
يقول النمري باكيا آل البيت معرضا بخصومهم العباسيين ، حاضا على الثورة والثأر
آل النبي ومن يحبهم يتطامنون مخافة القتل
أمن النصارى واليهود وهم من أمة التوحيد في أزل
أنها دعوة صريحة إلى ثورة دامية على العباسيين ، ثورة مسلحة ، جندها الرجال الشجعان الكماة ، وعدتها السيوف الصوارم والرماح الحادة . إن هذه الأبيات هي التي أثارت حفيظة الرشيد عليه فأمر بقتله ، وأرسل رسوله إلى رأس العبن لينفذ حكم الخليفة فيه فوجده قد مات
حب آل البيت عنده :ومن قصائد الشهيرة في آل لبيت لاميته التي يحمل فيها على الناس ، كل الناس ، ويعرض بالحكم العباسي الذي يعمل القتل في ذرية النبي في وقت يتظاهر أولو الأمر فيه بالتقوى ، ويسوق النمري أفكاره الشيعية ، ويصوغ غضبه ، ويترجم عن سخريته ، ويعلن ما في نفس من مرارة على مقتل الحسين واستكانة الناس وخذلانهم له على هذا النحو.
شاء من الناس راتع هامل يعللون النفوس بالباطل
تقتل ذرية النبي و ير جون جنان الخلود للقاتل
ويلك يا قاتل الحسين لقد بؤت بحمل ينوء بالحامل
أي حباء حبوت أحمد في حفرته من حرارة الثاكل
بأي وجه تلقى النبي وقد دخلت في قتله مع الداخل
هلم فاطلب غدا شفاعته أو لا فرد حوضه مع الناهل
ما الشك عندي في حال قاتله لكنني قد أشك في الخاذل
نفسي فداء الحسين يوم غدا إلى المنايا غدو لا قافل
ذلك يوم أخنى بشفرته على سنام الإسلام والكاهل
ويمضي منصور في أظهار تشبثه بحب آل البيت رغم عذل العاذلين ، ذاكرا مذهبه السابق الذي كان يدعوه إلى جفوة آل البيت ، وهو هنا لا يقصد العباسية أو الأموية بطبيعة الحال ، ولكنه يسير دون تصريح واضح إلى سابق اعتناقه مذهب الشراة الذين ناصبوا عليا واله العداء ، فيقول هذا القول الماضي على نهج من المرارة غير قليل :
وعاذلي أنني أحب بني احمد ، فالترب في فم العاذل
قد دنت ما دينكم عليه فما وصلت من دينكم إلى طائل
دينكم جفوة النبي وما الجافي لآل النبي كالواصل
مظلومة والنبي والدها تدير أرجاء مقلة حافل
إلا مصاليت يغضبون لها بسلة البيض والقنا الذابل
لقد سبقت الإشارة إلى إن العتابي في مجال الدفاع عن نفسه أمام الرشيد من شكوى كان النمري قد وجهها إلى الخليفة انشد هذه القصيدة ، فما كاد يصل إلى البيت الأخير حتى أمر الخليفة ، من يذهب إلى الرقة لقتله على النحو الذي سبق ذكره فيما سلف من صفحات ، ذلك إن القصيدة تحوي حشدا من العواطف وان كانت دون مستوى شعر الشاعر من حيث الصوغ والديباجة .
ولقد شوهد النمري واقف على قبر الحسين بكربلاء ينشد بكائية موجعة من بكائياته فيه وفي آل البيت ، يصف فيها آل البيت بالشجاعة والصمود في القتال ، لا يفرون ولا يولون الأدبار ، وأية ذلك إن جراحاتهم وإصاباتهم كلها في الوجوه ، ودماءهم كلها تجري في الحجور ، وليس للسيوف من أثار على أكتافهم أو اقفائهم . وفي هذه القصيدة يبكي الشاعر الإمام الحسين بكاء موجعا ، ويذكر ما حل به على يد عبيد الله بن زياد ، وما حل بجدثه الطاهر على أرض كربلاء . ويمضي النمري مناجيا الأرض والجدث ، مسترحما الرسول متبرئا ممن أوقع الأذى باله الأطهار ، ويقول منصور النمري في قصيدته هذه
فما وجدت على الأكتاف منهم ولا الأاقفاء آثار النصول
ولكن الوجود بها كلوم وفوق حجورهم مجرى السيول
أريق دم الحسين ولم يراعوا وفي الإحياء أموات العقول
فدت نفسي جبينك من حبين جرى دمه على خد أسيل
أيخلو قلب ذي ورع ودين من الأحزان والألم الطويل
وقد شرقت رماح بني زياد بري من دماء بني الرسول
بتربة كربلاء لهم ديار نيام الأهل دارسة الطلول
فأوصال الحسين ببطن قاع ملاعب للدبور وللقبول
تحيات ومغفرة وروح على تلك المحلة والحلول
برئنا يا رسول الله ممن أصابك بالأذية والذحول
هذه القصيدة من أطيب الشعر ، وأصدقه ، إحساسا ، وأوفره عاطفة ، وأعمقه انفعالا
موضوعات أخرى:
1-المراسلات الشعرية :كان والعتابي صديقين حميمين ، بل انه رواية العتابي وتلميذه ، وكانت هناك مناسبات من الفرح أو الضيق أو الشوق تدفع بالشاعر إلى مراسلة صديقه بأبيات تدخل في باب المطارحات ، لان الصديق ما يلب ثان يقراها ثم يسارع إلى الإجابة عليها من البحر والقافية والروينفسه . لقد حلت بالعتابي ذات يوم ساعة ضيق فرأى أن يكتب لتلميذه وروايته هذه الأبيات :
تقضت لبانات ولاح مشيب وأشفى على شمس النهار غروب
خلا بين ندماني موضع مجلسي ولم يبق عندي للوصال نصيب
وودعت أخوان الصبا وتصرمت غواية قلب كان وهو طروب
ومما يهيج الشوق لي فيرده خفيف على أيدي القيان صخوب
وأي امرئ لا يستهش إذا جرت عليه بنان كفهن خضيب
ولا يكاد منصور يتسلم هذه الأبيات المفرطة الرقة حتى سارع إلى الرد على أستاذه بهذه الأبيات ، فأجابه النمري وقال :
أوحشة ندمانيك تبكي ؟ فربما تلاقيهما والحلم هنك عزوب
ترى خلفا من كل نيل وثروة سماع قيان عودهن قريب
يغنيك يا بنتي فتستصحب النهى وتحتازك الآفات حين أغيب
وإن امرءا أودى السماع بلبه لعريان من ثوب الفلاح سليب
وللنمري نصيب من قول الحكمة ، في هذه الأبيات
لو كنت أخشى معادي حق خشيته لم تسم عيني إلى الدنيا ولم تنم
لكنني عن طلاب الدين محتبل والعلم مثل الغنى والجهل كالعدم
يحاولون دخولي في سوادهم لقد أطافوا بصدع غير ملتئم
ما يغلبون النصارى واليهود على حب القلوب ولا العباد للصنم
2-الوصف :
الوصف محك لأصالة الشعر وبراعة الشاعر وميزان لقدرته الشعرية ومن ذلك وصفه لفرس الرشيد وسيفه ، فقد كان الرشيد قد اصطحب النمري إلى معركة في بلاد الروم بين من كان اصطحبهم وعلى الرغم من النصر الذي حازه الرشيد فقد تعرض في وقت ما لشدة كادت تعطبه ، فقال الرشيد للنمري : كيف رأيت فرسي فأجاب على الفور :
...... على فأس اللجام كأنه إذا ما اشتكت أيدي اللجام يطير
فظل على الصفصاف يوم تباشرت ضياع وذؤبان به ونسور
فاقسم لا ينسى لك الله أجرها إذا قسمت بين العباد أجور
والوصف هنا على قصره وإيجازه ينم عن تملكه في صيغة الشعر ، وامتلاك لناصية المعاني يصرفها الشاعر كيف شاء .
غير إن لمنصور النمري وصفا بارعا فريدا في السيف ربما لم يتكرر عند شاعر قبله وهو قوله:
ذكر برونقه الدماء كأنما يعلو الرجال بأرجوان ناقع
وترى مساقط شفرتيه كأنها ملح تبد من وراء الدارع
وتراه معتما إذا جردته بدم الرجال على الأديم الفاقع
وكان وقعته بجمجمة الفتى خدر المدامة أو نعاس الهاجع
مذهبه في الشعرومكانته :
يحتل منصور مكانه رفيعة بين شعراء زمانه ، وبخاصة بين شعراء الرشيد ، وهو الشامي الجزري الوافد على أصحاب الدار غير المقيم ، ولم يكن هناك سبب لهذا التقديم والتفضيل إلا
1- نكهة غريبة في شعرهومذاقا خاصا به ،
2- واحتفالا واضحا بصنعته، فهو يهتم بصناعة قصيدته وتجويدها قبل عرضها على الناس ، يتصف بصفات الفنان الأصيل الذي يحتفل بفنه ، ويهتم بعمله قبل إن يخرجه للناس ،
3- احتفال الشاعر بالفكرة الشعريةقوله : وإنما الشعر عقل المرء يظهره وهذا يعني احتفال الشاعر بالفكرة الشعرية انه بذلك تلميذ أمين لأستاذه العتابي صاحب مدرسة الفكرة الشعرية في الأدب العربي .
4- احتفاله بالصورة البيانية، انه بذلك تلميذ أمين لأستاذه العتابي وهو صاحب امدح بيت قاله محدث ، والذي قال بهذا الرأي هو الناقد الكبير أبو هلال العسكري وأما البيت فهو قوله في الرشيد في العينية المشهورة :
إن المكارم والمعروف أودية أحلك الله منها حيث تجتمع
وهو صاحب أجود بيت قيل في الفراق.
وذلك قوله :
إن المنية والفراق لواحد أو توأمان تراضعا بلبان
وهو صاحب أشهر مطلع لقصيدة ، وذلك قوله مسنتهلا قصيدة في مدح المأمون وهو ولي عهد :
لعل لها عذرا وأنت تلوم وكم لائم قد لام وهو مليم
وأخذ المتنبي عن النمري النمري ،
رضيت بأيام المشيب وإن مضى شبابي حميدا ، والكريم ألوف
أخذه المتنبي فقال بيته الذي استفاض شهرة ورواية :
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وقال النمري :
وإذا عفوت عن الكريم ملكته وإذا عفوت عن اللئيم تجرما
أخذه المتنبي فقال :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وان أنت أكرمت اللئيم تمردا و
ولقد مر بنا قبل قليل الوصف الرائع الذي صنعه النمري للسيف فأخذه المتنبي وقال
يبس النجيع عليه فهو مجرد من غمده وكأنما هو مغمد
إنه يجمع بين البراعة في تقديم الفكرة الشعرية والديباجة الشعرية ، وقد مر بنا قوله : الشعر عقل المرء يظهره ، فالشعر وإن كان من المسلم به أنه عطاء العاطفة وفيضها ، فانه عند منصور فيض من العقل المتأني ، وعطاء من الوجدان المنفعل
إن منصورا استولى على إعجاب الرشيد في المواقف الكثيرة التي مر ذكرها بالفكرة الشعرية مصبوبة في قالب أنيق من بارع القول وناصع البيان ، ونستطيع في هذا السبيل إن نردد مرة أخرى قول منصور في الرشيد .
أي امرىء بات من هارون في سخط فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أودية أحلك الله منها حيث تجتمع
وإن النمري في وصفه السيف قد أضاف إلى الفكرة الشعرية والى وضاءة الديباجة الصورة الشعرية
ومن الأبيات التي جرت على لسان النمري فجمع فيها بين الفكرة والصورة والديباجة والصنعة قوله في الرشيد :
ترى الخيل يوم الحرب يظمأن تحته ويروى القنا في كفه و المناضل
حلال لأطراف الأسنة نحـره حرام عليه منه متن وكاهل
يعمد إلى الصنعة البيانية والبديعية في خفة وبراعة دون ما إثقال على المعنى بتغليب الصورة اللفظية عليه ، وهو سيد من سادة صناع التشبيه المتقن المعجب ،
ذكر برونقه الدماء كأنما يعلو الرجال بأرجوان ناقع
وترى مساقط شفرتيه كأنها ملح تبدد من وراء الدارع
وكان وقعته بججمة الفتى خدر المدامة أو نعاس الهاجع
ويمكن أن نقف أيضا معجبين بوصفه الفرس وما صاغ فيه من تشبيه في قوله :
مضز على فأس اللجام كأنه إذا ما اشتكت أيدي اللجام يطير
أو هذا التشبيه الذي يمكن إن يكون منن ابرع التشبيهات لو انه قيل في غير الخليفة
كأنما البدر على رحله ترميك منه مقلتا صقر
وفي نطاق البديع يعمدا لنمري عمدا إلى ألوان من المقابلة والطباق والجناس ، ولكنه لا يكثر منها ولا يسف في رصفها ، بل يدعها وكأنها تأتيه عفو الخاطر ، فلنقرأ له هذا الطراز من الشعر الذي جمع أكثر من سبب من أسباب التجديد من حيث تضمين فحولة القول بحرا من البحور القصيرة:
ومنازل لـك بالحمى وبها الخليط نـزول
أيامهن قصيرة وسرورهن طويــل
وسعودهن طوالع ونحوسهن أفول
و المقابلة واضحة في البيت الأخير ، وقد سبقها طباق في البيت السابق لها . ونستطيع إن نلمس طرفا آخر من المحسنات البديعية في قصيدة النمري التي مدح بهاج عفرا البرمكي وهو في طريقه إلى الشام ، وتقع أعيننا على مقابلة يتلوها طباق في هذين البيتين :
لقد نشأت بالشام منك غمامة يؤمل جدواها ويخشى دمارها
فطوبى لأهل الشام يا ويل أمها أتاها حياها أم أتاها بوارها
وقد يجري الجناس بين دفتي البيت من شعر منصور النمري ، ولكنه يكون من النعومة بحيث لا نكاد نلتفت إليه ، لأنه لم يكن هدفا في حد ذاته ، بل هدف الشاعر ينصب دائما على الفكرة الساطعة والنغمة الصادعة والعبارة الجزلة . لنا منك أرحام ونعتمد طاعةوباسا إذا اصطك القنا والقنابل
فعلى الرغم من الجناس الواضح بين لفظي ((القنا )) و ((القنابل )) فان رنين البيت من خلال بكارة الفكرة وفحولة التقديم وجلال الصوغ قد جعلت الصنعة البديعية تجيء في مرتبة غير سباقة :
ويمكن إن تسري هذه الأحكام على أبيات أخرى مكملة لمعنى البيت السابق وردت في قصيدة النمري في استرحام الرشيد ، مثل قوله :
وما يحفظ الأنساب مثلك حافظ ولا يصل الأرحام مثلك واصل
وأنت إذا عاذت بوجهك عوذ تطامن خوف واستقرت بلابل

أشجع السليمي
000 – 195 هـ
أ-حياته وشعره : هو أشجع بن عمر السليمي واحد من الشعراء الفحول

ب-شخصيته :لم ينل أشجع بن عمر السليمي حظا وافرا من عناية الدارسين على الرغم مما يحمله شعرة من سمات أدبية أصيلة تمثل الفترة الزمنية التي عاشها أدق تمثيل بل إن شعرة كان إرهاصا بما سوف يؤول إليه فن الشعر في المرحلة العباسية من التزام اتجاهات بعينها ومدارس بذاتها إنه من هؤلاء الذين يمثلون مدرسة وسطى بين المحافظة والتجديد والانطلاق يتشح شعره برونق الديباحة المشرقة والأسلوب المونق حينا المتلفع بالفكر الرحيبة والخاطرة المتوهجة حينا آخر المصور لطبيعة البيئة اجتماعيا وسياسيا وثقافيا حينا ثالثا
ولم تكن الطريق معبدة أمام أشجع حتى برتقي في يسر سلم الشهرة الذي لا يتم الصعود إليه إلا عن طريق الخلفاء والوزراء في ظرف كانت فيه بعض مؤهلاته غير مشجعة على ذلك فقد كان رديء المنظر قبيح الوجه في عينة عور ومن ثم فقد كان فاقدا الوسامة التي تيسر الطريق وتمهدها إلى ساحات الكبار ويبدو أيضا انه كان ثقيل الروح غير مقبول المصاحبة ولكنة استطاع أن يفرض احترامه وتقديره من منطلق براعة شعرة وقوة عارضته حتى إن الرشيد قال له ذات يوم بعد أن أسمعة قصيدته براعة شعرة وقوة عارضة حتى أن الرشيد قال له ذات يوم إن أسمعة قصيدته الميمية
قصر علية تحية وسلام نشرت علية جمالها الأيام
لقد دخلت علي وأنت أثقل الناس على قلبي وانك لتخرج من عندي وأنت أحب الناس إلي
لقد صار أشجع بفضل شاعريته الخصبة احد الشعراء المفضلين لدى الرشيد كما كان مختصا بالبرامكة أيضا وبجعفر بن يحيى بصفة خاصة وكان حسبما ذكرنا في مستهل هذا الحديث سفير الشعر لدى مدرسة اللفظ والديباجة حينا ومدرسة الفكرة والخاطرة حينا آخر
ج-أشجع ومدرسة الديباجة وعمود الشعر:
كانت الديباجة الشعرية وضوحا وإشراقا وسلاسة وانسيابا أمر يحرض أشجع على بحقيقة في أكثر شعرة وبخاصة ذلك الشعر الذي يمدح به الرشيد فإن الملوك والخلفاء يطربون لهذا اللون المحافظ من الشعر ويفضلونه ولا بأس من الفكرة اللامعة تسري في حواشيه إن وجدت السبيل وبخاصة إذا كان الممدوح أديبا يتذوق الشعر وينقده ويحفظ الكثير منه مثل هرون الرشيد فمن هذا اللون من الشعر المونق الديباجة مع تصرف حسن في المعاني ووفرة موسيقي ورقة إيقاع قول أشجع في الرشيد:
قصر علية تحية وسلام ونثرت علية جمالها الأيام
فيه اجتلى الدنيا الخلفية والتقت للملك فيه سلامة وسلام
قصر سقوف المزن دون سقوفه فيه لأعلام الهدى أعلام
نشرت علية الأرض كسوتها التي نسج الربيع وزخرف الأوهام
أدنتك من ظل النبي وصية وقرابة وشجعت بها الأرحام
برقت سماؤك في العدو وأمطرت هاما لها ظل السيوف غمام
وإذا سيوفك صافحت هام العدا طارت لهن عن الرءوس الهام
أثنى على أيامك الأيام والشاهدان الحل والإحرام
وعلى عدوك يا ابن عم محمد رصدان ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعته وإذا غفا سلت علية سيوفك الأحلام
لقد اجمع النقاد المعاصرون لأشجع على إن البيتين الأخيرين هما ارق أبيات القصيدة معنى وبناء:
ويذهب الرشيد إلى الغز في هرقلة ببلاد الروم ثم يعود ليقضي آخر شهر رمضان وعيد الفطر في الرقة وكان يتخذ منها مصيفا مفضلا ويجلس للشعراء يستمع إلى مدائحهم وإذ بأشجع يتقدمهم منشدا:
لازلت تنشر أعيادا وتطويها تمضي بها لك أيام وتثنيها
مستقبلا زينة الدنيا وبهجتها أيام عزل لا تفنى وتفنيها(*)
ولا تقضت بك الدنيا ولا برحت يطوي لك الدهر أياما وتطويها
وليهنك الفتح والأيام مقبلة إليك بالنصر معقودا نواصيها
أمست هرقلة تهوي من جوانبها وناصر الله والإسلام يرميها
ملكتها وقتلت الناكثين بها بنصر من يملك الدنيا وما فيها
ما روعي الدين والدنيا على قدم بمثل هرون راعيه وراعيها
لقد كان لهذه القصيدة ديباجة وإيقاعا في سمع الرشيد وخاطرة ما جعله يجزل صلته ويطرح ويطرب بحيث اصدر أمر بالا ينشده يومذاك احد بعد أشجع والطريف في الأمر إن أشجع لا يكاد يسمع ذلك حتى يقول معلقا والله لأمره بالا ينشد احد بعدي أحب إلي من صلته.
إن هذه القصيدة ببحرها وقافيتها ورقتها هي في نظرنا الموحية إلى البحري قصيدته المماثلة في بركة المتوكل
ولأشجع عديد من القصائد التي يتسامق فيها عمود الشعر وتتألق فيه ديباجة وضاءة وحبكة من نسج القول النفس ولعل في مقدمتها قصيدته التي قالها بين يدي جعفر البرمكي بعد إن ولاه عملا ثم صرفه عنه لشكوى الناس منه مطلعها:
أمسفدة سعاد علي ديني على طول الحنين
وما تدري سعاد إذا تخلت من الأشجان كيف اخو الشجون
وفي مقام الرثاء لم يتخلف أشجع عن مدرسة الجزالة والاحتفال بالديباجة الصافية والتزام عمود الشعر وان مرئية في ابن سعيد تمثل هذا النهج تمثيلا واضحا وفيها يقول:
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق ولا مغرب إلا له فيه مادح
وما كنت ادري ما فواضل كفه على الناس حتى غيبيه الصفائح
فأصبح في لحد من الأرض ميتا وكانت له حيا تضيق الصحاصح
كـأن لم يمت ميت سواك ولم تقم على احد إلا عليك النوائح
لئن حسنت فيك المراثي وذكرها لقد حسنت من قبل فيك المدائح
سأبكيك ما فاضت دموعي فان تفض فسبك مني تكن الجوانح لعله ليس في القصيدة من جديد من ناحية المعاني فكلها عيال على قصيدة الحسين بن مطير العينية في رثاء معن بن زائد غير إن للقصيدة مستواها من حيث الاستواء والصوغ والإتقان وارتباطها بالمدرسة المحافظة التي تعني بالديباجة الوضاءة ووقار الشعر
د-مدرسة الفكرة الشعريةعنده:
ليس معنى تجويد أشجع لقصائده من الديباجة والإيقاع انصرافه عن الإتيان بالأفكار الرفيعة والمعاني الرهيفة في شعره فلم يكن الأمر كذلك على الإطلاق وإنما كان لشاعرنا نهجه الآخر الذي يحتفل فيه بالمعاني الجسام ويحتشد من خلاله بالأفكار العظام يصوغها شعر الهم به سيد مدرسة الفكر أبا تمام .
لقد ذكرنا أن أشجع كان مختصا بالبرامكة وأكثر اختصاصه كان بجعفر بن يحي وجعفر هو من نعرف سعة ثقافة وعمق معرفة ودهاء سياسة وبراعة أدب, فماذا يقول له أشجع حين يمدحه انه يقول:
ذهب مكارم جعفر وفعاله في الناس مذهب الشمس
ملك تسوس له المعالي نفسه والعقل خير سياسة النفس
فإذا تراءئه الملوك تراجعوا جهر الكلام بمنطق همس
ساد البرامك جعفر وهم الألى بعد الخلائف سادة الإنس
ما ضر من قصد ابن يحي راغبا بالسعد حل ب هام النحس
ليس من شك في أن أشجع كان يحسن اختيار نهج اعر فكرا وصوغا بحيث يعجب ممدوحه لقد كان من الفظة بحيث يعلم إن ذاك الطراز من فن القول ديباجة يعجب ممدوحه لقد كان من الفطنة بحيث يعلم إن ذاك الطراز من فن القول ديباجة وخطابة يعجب الخلفية المتشح بجلالة الملك ويطربه فيعزف على وتره وان هذا النهج من الشعر رقة إيقاع وعمق يعجب الوزير المتحلي بالرأي الثاقب والفكر الصائب فيعمد إلى النسج الذي ينتزع إعجابه ومن هنا كان أشجع وبعض أترابه من الشعراء يمثلون مفترق الطريق بين شعر الديباجة والإشراق وشعر الفكر والأعماق
وذا كنا لا نعلم شيئا كثير عن النشأة الثقافية لأشجع فإننا نستحضر في خواطرنا انه ولد باليمامة في نجد حيث اللسان القوم والمنطق السليم ثم نشا في البصرة حيث موجات الفكر ترغي وتزيد ومدارس الثقافة تتقابل وتتصادم فكان لشاعرنا من ذلك حصيلة شعرية ثقافية تعهدها ونماها حتى حطت به درب الفحولة فكان الشاعر الذي يرضى مادحيه لأنه كان من الفطنة بحيث يتحسس المدخل الذي يعجب الممدوح فليج إليه في براعة ورشاقة .
والأمر الذي يدعو إلى التام لان أشجع في الوقت الذي يملك فيه زمام الفكرة الشعرية كان لا يستطيع أن يتخلى عن المطالع التقليدية وهما أمر أن ربما ظهرا متناقضين والحذر ومع ذلك فان أشجع يستهل مديحه في إبراهيم بن عثمان بن نهيك بأبيات تقليدية في قوله
لمن المنازل مثل ظهر الأرقم قدمت وعهد أنيسها لم يقدم
فتكت بها سنتان تعتورانها بالمعصفات وكل أسحم مرزم
وفيها يذكر الأطلال المتقادمة ثم لا يلبث أن يضرب في أكناف درب مونق من المعاني المنبثقة عن ثقافة العصر المتشحة بحلل من الأفكار الراقية في دنيا المديح التي سوف يقول أشجع وقد انتقى ألفاظه ومعانية بحذف وبراعة :
في سيف إبراهيم خوف واقع لذوي النفاق وفية امن المسلم
ويبت يكلا والعيون هواجع مال المضيع ومهجة المستلم
ليل يواصله بضوء نهاره يقظان ليس يذوق نوم النوم
شد الخطام بأنف كل مخالف حتى استقام له الذي لم يخطم
لا يصلح السلطان إلا شدة تغشى البريء بفضل ذنب المجرم
منعت مهابتك النفوس حديثها بالشيء تكرهه وان لم تعلم
ونهجت في سبل السياسة مسلكا ففهمت مذهبها الذي لم يفهم
الحق أننا أمام مديح استغل الشاعر فيه جذوة فكره ولماحية فطنته فعمد إلى هذا الضرب الجديد من معاني المديح المستحدثة التي تتمشى مع طبيعة المجتمع والبيئة من حيث الزمان والمكان .
ومن الشعر المبني على الفكرة الرحيبة المتزاحمة المعاني قول أشجع في قول أشجع في الفضل البرمكي مادحا وكان المديح هو محك شاعرية الشاعر:
بديهته وفكرته سواء إذا ما نابه الفكر الكبير
واحزم ما يكون الدهر رأيا إذا عيي المشاور والمشير
وصدر فيه للهم اتساع إذا ضاقت مما تحوي الصدور
وعلى نفس هذا الدرب الممهد من شعر الفكرة يقول أشجع في مناسبة قدوم جعفر ابن يحيى البرمكي إلى الشام.
حبذا أنت قادما ترد الشام فتحتال بين ارحل عيرك
إن أرضا تسري إليها لو اسطاعت لسارت إليك من قبل سيرك
إن هذين البيتين هما اللذان أوحيا لأبي تمام فيما بعد افتتاحية قصيدته البائية الشهيرة
ديمة سمحة القياد سكوب مستغيث بها الثرى المكروب
لو بقعة لإعظام نعمى لسعى نحوها المكان الجديب
وكما كان أشجع واسع الحيلة رحب الفكرة في مدائحه فانه كان على نفس الشاكلة في كثير من أغراض الشعر الأخرى ولعل أبياته في رثاء أخيه احمد لمما يستعذب إنشاده تأسيا ، ويستحب ترديده معانيا ، ففيها عمق وتأمل ، وحكمة وتعز ، وحزن وتحسر . يقول أشجع :
خليلي لا تستبعدا ما انتظرتما فغير بعيد كل ما كان آتيا
ألا تريان الليل يطوي نهاره وضوء النهار كيف يطوي اللياليا
هما الفتيان المرديان إذا انقضت شبيبة يوم عاد آخر ناشيا
ويمنعني من لذة العيش أنني أراه إذا قارفت لهوا يرانيا
كان يميني يوم فارقت احمدا أخي وشقيقي فارقتها شماليا
لقد سبق مسلم إلى هذا المعنى في قوله :
واني وإسماعيل يوم وداعه لكالغمد يوم الروع فارقه النصل
وهو معنى بليغ ولكن المعنى الذي قصد إليه أشجع أعمق وأكثر ملاءمة لطبيعة الصلة بين الراثي والمرثي .
ه-موضوعات شعره :
كانت بيئته أشجع التي عاش في أكنافها بيئة حضرية خالصة ، خالط فيها جموع الشعراء التي كانت تقف على باب الرشيد وأبنائه ووزرائه ، ولقد أخذت حاشية الشعر ترق وصناعته تعذب وألوان البديع تتمشى فيه ، وكانت الصناعة البديعية أكثر ما تكون شيوعا في
الوصف عنده :الوصف عامة وجانب الطبيعة منه بخاصة . ولم يقصر أشجع في المشاركة في هذا السبيل ، فما إن طلب منه جعفر البرمكي إن يصف له قصر الصالحية وبساتينها حتى هب قائلا :
قصور الصالحية كالعذارى لبسن ثيابهن ليوم عرس
مطلات على بطن كسته أيادي الماء وشيا نسج غرس
إذا ما الطل اثر في ثراه تنفس نوره من غير نفس
فتغبقه السماء بصبغ ورس وتصبحه بأكؤس عين شمس
فالأبيات مترعة بالصناعة البيانية والبديعية من استعارات وجناس وطباق وتصريع .
ولأشجع أبيات في الخمر لا تغضي حياء أمام خمريات أبي نواس ، بل إن إسحاق الموصلي اعتبر قصيدة خمرية لأشجع – عندما حكمة الرشيد وجعفر البرمكي – من ارق ما قيل في الخمر ، وقد عنى بذلك قول أشجع :
ولقد طعنت الليل في أحجازه بالكأس بين غطارف كالأنجم
يتمايلون على النعيم كأنهم قضب من الهندي لم تتثلم
وسعى بها الظبي الغرير يزيدها طيبا ويغشمها إذا لم تغشم
وإذا أدارتها الأكف رايتها تثني الفصيح إلى لسان الأعجم
وعلى بنان مديرها عقيانها من لونها وعلى فضول المعتصم
ولقد فضضناها بخاتم ربها بكرا وليس البكر مثل الأيم
ولها سكون في الإناء وخلفها شغب يطوح بالكمي المعلم
ومهما كان الأمر في أشجع السلمي فهو واحد من كبار شعراء المرحلة العباسية الذين أسهموا في تكريس أكثر من اتجاه في دنيا الشعر ، أسهم في الاتجاه المحافظ إنشاء وديباجة ، وشارك في الاتجاه المجدد فكرا وأسلوبا ، ولم يتخلف عن صوغ الشعر الذي صور الحياة الاجتماعية في محيطها العام .



دعبل الخزاعي 148 – 246 هـ
أ-حياته ونشأته : اسمه محمد ، وكنيته أبو جعفر ولقبه دعبل إي البعير المسن أو الشيء القديم ، ونسبة في خزاعة التي أنجبت ابن عمه أبا الشيص شاعر الرشيد ثم شاعر عقبة بن الأشعث الخزاعي في الرقة ، كما أنجبت عددا آخر من الشعراء المغمورين ، فضلا عن أن طاهر ابن الحسين وأولاده – وكلهم ساسة أدباء شعراء – من مواليها .
وكان دعبل بن علي تلميذ لمسلم بن الوليد ملازما له معجبا به متلقيا عنه ، وكان كثيرا ما يشارك في مجالس المجون والقصف التي يشترك فيها كل من مسلم وأبي الشيص وغيرهم من الشعراء المجان ، يتناشدون فيها أشعارهم على الشراب يمثل دعبل الخزاعي مرحلة من مراحل مسيرة الشعر العباسي بصورة جعلته يطفو على السطح ويحتل الاهتمام من جمهرة العامة فضلا عن صفوة الخاصة في زمانه ، ولعل مرد ذلك راجع إلى عدة أسباب يتخلص أهمها في طول عمره ، وجرأته في الهجاء وشغفه به ، وتشيعه وكراهيته لبني العباس وخلفائهم ورجالاتهم ، واندماجه في حياة اللهو مع أعلام الشعر المعاصرين له ، ثم إسهامه في الشعر بصور جديدة ومعان جديدة وصيغ جديدة .
، فكان دعبل يقول لهم أنا ابن قولي :
لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
أي اشتهرت بقولي هذا البيت ، ومعروف أن هذا البيت قد نال شهرة واسعة عند جمهرة النقاد لما فيه من بهرجة الصنعة البديعية واللمسة البيانية ، وان كان في حقيقة أمره مأخوذ من قول أستاذه مسلم حين وصف الربيع :
كل يوم بأقحوان جديد تضحك الأرض من بكاء السماء
ولكن حظ بيت دعبل من الشهرة كان أوفر من حظ بيت أستاذه .
ب-شخصيته وأثرها شعره : : كان دعبل شاعرا فحلا بحيث أن نخبة من أعلام الأدب والفكر كانوا يقدمونه ويضعونه على رأس الشعراء غير مستثنين أستاذه مسلما فالبحتري يقول عنه : دعبل ابن علي أاشعر عندي من مسلم بن الوليد ، ويعلل البحتري حكمه بقوله : إن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم وحكم البحتري صادر عن ذوقه في الشعر وتفضيله شعر الديباجة الملتزم عمود الشعر الذي كان دعبل أكثر تمسكا به من أستاذه . وهذا ابن مهرويه يقول : ختم الشعر بدعبل والمأمون الخليفة المثقف الأديب كان يتلذذ بسماع شعر دعبل على الرغم من سلاطة لسانه على بني العباس ورجالاتهم ، وكان كثيرا ما يطلب من جلسائه والمقربين إليه أن ينشدوه شعرا لدعبل ، وكان كثير الترديد لأبيات جميلة أنشأها دعبل في سفره طويلة قال فيها :
وقائله لما استمرت بها النوى ومحجرها فيه دم ودموع
الم يأن للسفر الذين تحملوا إلى وطن قبل الممات رجوع
فقلت ولم املك سوابق عبرة نطقن بما ضمت عليه ضلوع
تبين فكم دار تفرق شملها وشمل شتيت عاد وهو جميع
كذاك الليالي صرفهن كما ترى لكل أناس جدبة وربيع
لقد كان المأمون حريا بان يغرم بترديد هذه الأبيات ، فهي من أجود الشعر وارقه وأجزله ، وأكثره أخذا بمجامع الوجدان والإفهام . كان المأمون يقول : ما سافرت قط إلا وكانت هذه الأبيات نصب عيني في سفري وهجيري ، ومسليتي حتى أعود
ج-ملامح في حياة دعبل :
في حياة دعبل بعض ملامح بارزة فيها عنوان شخصيته ومفتاح شاعريته .
الملمح الأول :لقد نشأ دعبل نشأة غريبة فيها شر كثير وخير قليل ، ذلك أنه كان يصطحب الشطار ويشاركهم جرائمهم ، واشترك في التربص لصراف في الكوفة وقتله في الطريق بقصد الاستيلاء على المال الذي يحمله ، ولشد ما كانت خيبة أمله حين اكتشف أن الصراف القتيل لم يكن يحمل معه كيسه ، وإنما كان يحمل ثلاث رمانات . إن هذه الشخصية الشريرة قد دفعت بصاحبها إلى التصعلك والأسفار الطويلة التي صورها تصويرا ملك على المأمون إعجابه حسبما مر بنا قبل قليل ، وفي هذه الأسفار كان دعبل يقابل الشراة والصعاليك فلا يؤذونه ، بل كانوا يؤاكلونه ويشاربونه ويبرونه ، وكان إذا لقيهم وضع طعامه وشرابه ودعاهم إليه ودعا بغلاميه ثقيف وشغيف ، وكانا مغنيين ، فأقعدهما يغنيان وسقاهم وشرب معهم وأنشدهم ، فكان الصعاليك يواصلونه ويصلونه بدلا من إن ينهبوا أمواله ويصادروا متاعه ، وإن دعبلا يذكر أسفاره الغربية الجريئة التي كان يعاشر فيها الشطار والصعاليك بعيدا في المفاوز أو يلتقي فيها مع الأعلام في الأمصار البعيدة ، لقد جاب دعبل أقطارا وأمصارا ، فبينما هو في الأهواز وخراسان إذ به في مكة والحجاز ، ثم إذ هو في أقصى جنوب مصر في أسوان ، وهو يصور رحلاته بقوله :
وإن امرءا أمست مساقط رحله بأسوان لم يترك له الحرص معلما
حللت محلا يقصر البرق دونه ويعجز عنه الطيف أن يتجشما
أغلب الظن أن هذه الحياة الشرسة التي عاشها دعبل كانت عاملا فعالا في تطاوله على الناس ، وهجائهم هجاء مقذعا ، يستوي في ذلك الكبير والصغير، والخليفة والحقير ، وذلك يشكل الملمح الأول في حياة شاعرنا .
والملمح الثانيالهام في حياة دعبل أنه كان متشيعا لآل البيت محبا لهم متعلقا بهم تعلقا شديدا ، وأية ذلك شعره فيهم وهو شعر رائع مفعم بالعاطفة ، في زمن كان التعلق فيه بال بيت الرسول يعتبر جريمة كبيرة من وجهة نظر الحاكمين ، ولكن دعبلا ينشىء قصيدته الجليلة ((مدارس آيات خلت من تلاوة )) ويكتبها على ثوب ثم يحرم مرتديا هذا الثوب المزين بهذه القصيدة الخالدة .
ولم يكن حظ آل البيت من شعر دعبل قصيدة أو قصيدتين ، وإنما أنشأ فيهم عددا من القصائد ، وكلها عذب رقيق ، غير أن أشهرها جميعا التالية الكبرى :
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات
ولقد أعجب الشيعة بهذه القصيدة إعجابا شديدا واهتموا بها حفظا وتريدا في محافلهم والمناسبات والمواسم التي يحيون فيها ذكر آل البيت ، بل إن بعض أدبائهم قد أضافوا إليها أبياتا عديدة تناهز التسعين لم يقلها دعبل ولم تخطر معانيها له على بال ، بل إن دعبلا يزور الإمام عليا الرضا ويستوهبه ثوبا قد لبسه ليتبرك به ويجعله في أكفانه ، فيخلع الإمام جبة كانت عليه ويعطيها له ، ويصل خبر الجبة إلى أهل ((قم)) وكانوا متطرفين في تشيعهم لآل البيت ، فسألوه إن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم ، ولكنه رفض ذلك ، فخرجوا في الطريق وأخذوها منه غصبا ، ولكنه هددهم بأن يشكوهم إلى الأمام ، فأعطوه الثلاثين ألف درهم وكما واحدا من بطانتها . وهكذا يجمع دعبل في سلوكه بين النقيضين ، الشطارة والصعلكة والعدوان على أرواح الناس وسب أعراضهم وهجائهم وبين التشيع لآل البيت وحبهم الأمر الذي كان ينبغي أن يؤدي به إلى جادة الصلاح وسبيل الرشاد .
الملمح الثالثفي حياة دعبل خبر يدعو إلى الطرافة والضحك ، ذلك أن دعبلا تقلد ولاية أسوان بمصر العليا بعض الوقت ، إي أن هذا الإنسان الذي قطع الطريق يوما ما وتصعلك لفترات متطاولة في حياته قد أصبح بين عشية وضحاها من الحكام ، حكام مصر ، ولكنه لم يتول حكم أسوان لعبقرية سياسية أو إدارية جعلته جديرا بهذا المنصب ولكن لأنه وفد على المطلب بن عبد الله بن مالك والي مصر مادحا إياه بقوله :
أبعد مصر وبعد مطلب نرجو الغنى إن ذا من العجب
إن كاثرونا جئنا بأسرته أو واحدونا جئنا بمطلب
والبيت الثاني من عيون الشعر ، وفيه يفتخر دعبل بالمطلب لأنه خزاعي مثله ولسبب ما ينقلب دعبل على المطلب ويهجوه أمر الهجاء وأقذعه بقصيدة طويلة يقول في بعضها :
تلعق مصر بك المخزيات وتبصق في وجهك الموصل
وعاديت قوما فما ضرهم وشرفت قوما فلم ينبلوا
شعارك عند الحروب النجا وصاحبك الأخور الأفشل
فأنت إذا ما التقوا آخر وأنت إذا انهزموا أول
وهو هجاء مرير موجع ، ويبلغ المطلب خبر هذه القصيدة وقصائد أخرى قالها دعبل في هجائه فلا يجد بدا من إن يعزله ، ولكن لكي يشفي ألما في صدره فانه يجعل العزل مصحوبا بحركة مسرحية ، فقد أرسل إليه كتاب العزل مع مولى له وقال له : انتظره حتى يصعد المنبر يوم الجمعة ، فإذا علاه فأوصل الكتاب إليه وامنعه من الخطبة ، وأنزله عن المنبر واصعد مكانه . فلما إن علا دعبل المنبر وتنحنح ليخطب ناوله الرسول الكتاب ، فقال له دعبل : دعني أخطب فإذا نزلت قرأته ، فقال الرسول : لا ، فقد أمرني أن أمنعك الخطبة حتى تقراه ، فقراه وأنزله عن المنبر معزولا.
والملمح الرابعإن دعبلا كان ناقدا راوية ، روى الحديث والشعر ، ولكن روايته للحديث مجرحة ، وأما روايته للشعر وأخبار الشعراء المعاصرين له فان كتب التراجم والطبقات تحفل بها وترد كثيرا من مصادر روايتها إليه ، وان من ينظر في كتاب ((الورقة)) لابن الجراح يجد أن أكثر مصادر الأخبار والأشعار مروية عن طريق دعبل حتى ليكاد المرء يظن أنه ليس من رواة للشعر الا دعبل وأبي هفان .
والطريف في الأمر أن دعبلا لا يروي للشعراء المشهورين وحسب ، بل انه يهتم اهتماما ظاهرا بشعراء مغمورين ، لشعرهم قيمة فنية رفيعة ، وفي فنهم سمات طرافة وعلامات تطور بالرغم من إن قلة من الدارسين هم الذين يعرفون أسماءهم من أمثال أبي العذافر الكندي ، وأبي الفيض القصافي البصري ، وأبي خالد الغنوي ، وزرزر ، ومحمد بن أمية البصري ، وأبي فرعون الساسي التيمي وغيرهم من هؤلاء الذين تركوا شعرا رقيقا رفيعا متطورا لم يحظ بشهرة أو ذيوع وهو في حقيقته يمثل جانبا هاما من مسيرة الشعر العربي في تلك الفترة الزمنية ، ولعلنا نوفق في المستقبل إلى كتابة دراسة عن هذا النفر المغمور من الشعراء .
أما وقد حفظ دعبل شعر هؤلاء جميعا وله عليه تعليقات وملاحظات تدخل في باب النقد ، فانه من الطبيعي أن يؤثر هذا الشعر بأشكاله وأفكاره في تطور شعر دعبل بحيث جعله يقول شعرا جيدا فيه جدة وفيه تطور ، الأمر الذي جعل بعض الدارسين القدامى يجعلون دعبلا رائدا كبيرا من رواد الشعر العباسي ، هذا إن لم يكن الرائد الأول الذي ترجع كفته كفه أستاذه مسلم حسب رأي البحري .
والملمح الخامسفي حياة دعبل – وهو ابرز ملامحه – هو غرامه بالهجاء حتى لكانت قد خلق لكي يهجو الناس ، كل الناس ، لقد مر بنا طرف من هجائه المطلب وسوف نعرض لصور أخرى من هجائه الفريد ، ولكن الذي نقصد إليه هنا انه قد هجا مالك ابن طوق احد كبار رجال الدولة العباسية وقوادها المظفرين ، ولج في هجائه وأقذع في النيل من عرضه وعرض أهله ، مثال قوله :
سالت عنكم يا بني مالك في نازح الأرضيين والدانيه
طرا فلم تعرف لكم نسبة حتى إذا قلت بني الزانية
قالوا فدع دارا على يمنه وتلك ها دارهم ثانية
لقد بلغت مالكا هذه الأبيات وأبيات أخرى أكثر منها فحشا ترفعنا عن التمثيل بها ، فأرسل إلى دعبل من ظل يتتبع آثاره حتى عثر عليه في الأهواز في قرية يقال لها سوس ، فاغتاله بان ضرب ظهر قدمه بعكاز مسموم فمات بتلك القرية ، وموطن الإثارة هنا ليس مجرد قتل دعبل ، وإنما قتله وهو في الثامنة والتسعين ، وإذن فلم تستطع سن دعبل المتقدمة التي وقفت به على أعتاب المائة إن تكف من غربة أو أن تحد من شهوة التعريض بالأعراض الأمر الذي جعله يموت غيلة في هذه السن المتقدمة .

د-شاعرية دعبل
إن لدعبل مكانة رفيعة القدر في دنيا الشعر ، الأمر الذي جعل المأمون يفتن بشعره برغم هجائه إياه ، والأمر الذي جعل البحتري يفضله على مسلم على الرغم من هجائه لأبي تمام أستاذ البحتري وصاحب الفضل الكبير عليه بأبيات طعن فيها في نسبته إلى طيء. ولولا تطرف دعبل في الهجاء ونيله من أعراض الكرام لكان له شأن آخر ، مع ذلك فان له من الشعر الرصين المتين أبياتا لا زالت تجري على ألسنة صفوة المتأدبين مجرى الإعجاب والتمثيل ، إن دعبلا هو صاحب البيت :
يموت رديء الشعر من قبل أهله وجيدة يحيا وإن مات قائله
وهو قول سديد ينطبق على الشعر في كل زمان ومكان ، ودعبل هو القائل أيضا هذين البيتين الرقيقين
الحكيمين :
وإن أولى الموالي إن تواسيه عند السرور لمن واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن
ه-شعره في آل البيت :
دعبل صاحب التائبة الخالدة في تمجيد آل البيت والأسى لأحوالهم :
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات
وهي من أجمل وأمتع الشعر العربي الذي قيل في آل بيت الرسول رقة عاطفة وإشراق ديباجة وصدق إحساس . ليس ثمة شك في أن دعبلا كان يذوب حبا في آل الرسول r ، وقد آثرهم بالقوافي التائية ، إذ أن له قصيدة أخرى فيهم رقيقة غير مشهورة يقول فيها:
طرقتك طارقة المنى ببيات لا تظهري جزعا فأنت بدات
في حب آل المصطفى ووصية شغل عن اللذات والقينات
إن النشيد بحب آل محمد أزكى وأنفع لي من القينات
فاحش القصيد بهم وفرغ فيهم قلبا حشوت هواه باللذات
إننا نحس صدقا في قول دعبل حين يجعل حب آل المصطفى شغلا عن لذاته وقنياته ، ذلك أنه صور قبل ذلك مذهب اللذة في مقصورة يقول في بعضها:
إنما العيش خلال خمسة حبذا تلـك خلالا حبذا
خدمة الضيف وكاس لذة ونديم وفتاة وغنا
وإذا فاتك منها واحد نقص العيش بنقصان الهوى
إن دعبلا شاعر بكل معنى الشعر ومفهومه ، شاعر حين يجد وشاعر حين يهزل ، وشاعر حين يمدح وشاعر حين يهجو ، غير أن الذي نريد الوقوف عليه من شعر دعبل هو تلك الظواهر التي أعلنت عن نفسها فيه ، والتي أثرت بشكل مباشر في المدرسة الوسيطة للشعر العباسي التي تمثلت في مدارس شعرية تالية له قادمة من بعده والتي يمكن التعرف عليها موضوعيا في الهجاء ، وفنيا في الصنعة والصورة الشعرية .
و-دعبل الهجاء :
دعبل شاعر هجاء فيه قسوة وعنف وشطط ومرارة ، وهو يمثل المرحلة الوسطى بين بشار وابن الرومي بمعنى انه أقسى من بشار ودون ابن الرومي ، انه يدين بمذهب بشار ومبدئه في الهجاء ويقول إن أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الموهبة ولا يبالي بالشاعر وان كان مجيدا إذا لم يخف شره ، ويستطرد قائلا : إن الهجاء المقذع – وفي رواية المفزع – أخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع. ودعبل فلم يكن يكترث بشيء ، كان عارضا دمه وحياته لمن يريد إن يقتص منه إذا أراد ، مرددا قولته الشهيرة : ((أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لا أجد من يصلبني عليها )) لقد صدق دعبل بعض الصدق إذ انه لم يجد من يقتص منه على و لوغه في أعراض الناس إلا حينما بلغ الثامنة والتسعين من العمر ، وكان لا يزال أفحش ما يكون هجاء واحد ما يكون لسانا ، وليس من قبيل المصادفات إن يشترك كل من دعبل وبشار في بعض الصفات ، فكلاهما ضخم الجثة طويل ذو آفة خلقية ، بشار كان أعمى ودعبل كان أطرش وله سلعة في قفاه ، وليس يخالجنا أدنى شك في إن آفة العمى عند الأول وآفة الطرش عند الثاني قد ملأتهما حنقا على الحياة وعلى الناس فتجسم ذلك الحنق في ظاهرة الهجاء .
إن الصورة الغالية التي وقرت في أذهان الناس عن الحطيئة تتضاءل كثيرا أمام غلو دعبل لقد هجا الحطيئة كثيرين من بينهم أمه وأبوه ثم انتهى بهجاء نفسه ، وإما دعبل فقد تخصص أول ما تخصص في هجاء ملوك بني العباس ، هجا الرشيد والمأمون
والمعتصم وإبراهيم بن المهدي الذي ولي الملك لفترة قصيرة في بغداد خلع فيها المأمون كما هجا أيضا الواثق والمتوكل وهجا من كبار رجال دولتهم أحمد بن أبي دؤاد ، ومحمد بن عبد الملك الزيات، والحسن بن سهل ، والحسن بن رجاء ، وأبا نصير الطوسي ، وبني طاهر بن الحسين ، ومالك بن طوق الذي بعث إليه من اغتاله حسبما مر بنا قبل قليل ،لقد هجا رجالا كثيرين من رجالات الدولة غير هؤلاء الذين ذكرنا ، حتى الجواري لم يسلمن من هجاء دعبل .
لقد تهاجى دعبل مع أبي سعد المخزومي الشاعر المجيد واشتدت المعركة بينهما حتى أخذت شكل النقائض أو كادت ، وكان دعبل قد أخذ يشدد الحملة على بني مخزوم ، القبيلة التي منها أبو سعد ، فما كان من بني مخزوم – حفاظا على أعراضهم من لسان دعبل – إلا إن تبرأوا من أبي سعد وادعوا أانه مجهول النسب وأصدروا في ذلك إعلاما للناس ، مع أنابا سعد هذا لم يفعل مع دعبل أكثر من أن رد عليه حين تعرض دعبل لقومه بالهجاء بقوله :
عصابة من بني مخزوم بت بهم بحيث لا تطمع المسحاة في الطين
ومن الطريف أن سعدا ، وقد شعر بالمرارة إزاء قرار قومه ، رأى إن يتبرأ هو الآخر منهم فجاء بنقاش نقش على خاتمه هذه العبارة : ((أبو سعد العبد بن العبد برئ من بني مخروم))
وقصة مهاجاة دعبل وأبي سعد المخزومي قصة طويلة مريرة فكهة ، نالت اهتمام الناس جميعا ، بل لقد استطاع دعبل بشعوذته إن يدخل الصبيان الصغار طرفا فيها وذلك بان كان يؤلف أبياتا سوقية المعاني شعبية الصياغة ويجمع الصبيان حوله ويعطيهم جوزا ثم يطلب إليهم أن يرددوا الأبيات الهجائية التي صنعها في النيل من أبي سعد .
وليس أبو سعد المخزومي هو الشاعر الوحيد الذي هجاه دعبل ، إذ لو كان أمر مهاجاة الشعراء وقف عند أبي سعد لهان الأمر ، ولكنه هجا أكبر شاعرين في عصره ، هجا مسلم بن الوليد وأبا تمام الطائي ، ومن الغريب أن يهجو دعبل مسلما وهو أستاذه ، وعليه تدرب على قول الشعر ، حتى إذا استوى عوده فيه صرح له بان يطلع بشعره على الناس . غير إن مسلما كما مر بنا كان قد ولي إمارة طبرستان ، فذهب دعبل للقائه هناك ، وكان مسلم قد بعد عن أسباب اللهو التي كان دعبل يتعشقها ويعيشها فلم ينشط كثيرا لمصافاته ، فما كان من دعبل إلا إن هجاه بقصيدة مريرة على بلاغتها ، موجعة على براعة فن القول فيها استهلها بالبيت :
أبا مخلد كنا حليفي مودة هوانا وقلبانا جميعا معا معا
وفيها يقول :
غششت الهوى حتى تداعت أصوله بنا وابتذلت الوصل حتى تقطعا
وأنزلت من بين الجوانح والحشا ذخيرة ود طالما قد تمنعا
فلا تلحيني لم أجد فيك حيلة تخرقت حتى لم أجد فيك مرقعا
فهبك يميني استأكلت فاحتسبتها وجشمت قلبي قطعها فتشجعا
وأما هجاؤه أبا تمتم فكان أكثر إيلاما من هجائه مسلما لأنه طعن في نسبة وشكك في طائيته حين قال في استخفاف:
انظر إليه و إلى ظرفه كيف ((تطايا )) و هو منشور
ويلك !! من دلاك في نسبة قلبك منها الدهر مذعور
لو ذكرت ((طي)) على فرسخ أظلم في ناظرك النور
وفي آخر المطاف حين فرغ دعبل من هجاء من وجدهم أهلا للهجاء عرج على قبيلته خزاعة فهجاها .
لقد كان دعبل يعيش الهجاء كما يعيش المرء الحياة ، لقد كان يكتب شعرا في الهجاء ويحتفظ به للوقت المناسب وللشخص الذي يظهر فيما بعد انه مستحق له ، فإذا ما ظهر ذلك المسكين لا يفعل دعبل أكثر من إن يضيف اسمه إلى الأبيات بحيث تنسجم مع بحر الشعر ووزنه .
إن مجرد ذكر اسم دعبل في ندوة ما كان يدخل الفزع إلى قلوب الناس ، إن دعبلا بحكي بنفسه بعض هذه النوادر ، فقد حكى هو نفسه للمبرد شيئا من ذلك قائلا : كنت جالسا مع بعض أصحابنا ذات يوم ، فلما قمت ، سأل رجل لم يعرفني أصحابنا عني ، فقالوا : هذا دعبل ، فقال : قولوا في جليسكم خير !! . يقول دعبل أيضا إن رجلا قد أصابه الجنون فصحت في إذنه ((دعبل )) ثلاث مرات ، فأفاق
ولم يكن دعبل يكتفي بهجاء الإحياء بل كثيرا ما كان يهجو الأموات من كرام الناس ، فقد هجا الكميت الأسدي شاعر آل البيت وناقضه في القصيدة النونية –
ألا حييت عنا يامدينا –
وعرض به بقصيدة مطلعها :
أفيقي من ملامك يا ظعينا كفاك اللوم مر الأربعينا
وقد أضرت هذه القصيدة بدعبل ونالت من شعبيته عند خاصة الأدباء وجمهره الشيعة ، وحطت من قدره عند اللذين كانوا يحملون له التقدير .
ولم يعرف الرشيد أانه أساء إلى دعبل بل لقد أرسل في طلبه بعد سماع شعره وأجلسه في حضرته ووصلة بصلات سنية ، ومع ذلك فان الرشيد لم يسلم من هجائه بعد موته فقد هجاه في قصيدته التائية – مدارس آيات – وذلك في قوله :
قبران في طوس : خير الناس كلهم وقبر شرهم ، هذا من العبر
ما ينفع الرجس من قرب ((الزكي)) ولا على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرىء رهن بما كسبت له يداه فخذ ما شئت أو فذر
وكل دعبل كثير الهجاء للمعتصم شديد الحملة عليه في حياته مع إن المعتصم كان سيف دولة بني العباس وفارسها وفاتح بلاد الروم وموقع الهزائم بالمعتدين على ديار الإسلام ، وقد مدح بما لم يمدح به خليفة عباسي لهمته في الحرب وفروسيته في الفتح حسبما سوف يمر علينا فيما يستقبل من فصول ولكن ما كاد يموت المعتصم ويلي الواثق أمر المملكة حتى ينشط دعبل قائلا لمن على البديهة
الحمد الله لاصبر ولا جلد ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد وآخر قام لم يفرح به أحد
إن دعبلا هجاء ومحترف بمعنى أنه يقول الهجاء هواية ويصنعه احترافا إن جاز هذا التغير فلتدلف إلى صور من هجائياته الموجعة ضاربين صفحا عن نماذج من هجائيات ذكر فيه الأعراض والعورات وألفاظا لا يجمل بنا إن نضمنها كتابنا هذا طالما كان في نماذجه الأخرى ما يفي بالغرض .

ز-شعره في الهجاء:
نقول ليس ثمة نزاع في شاعرية دعبل وخصوبتها في مختلف الأغراض ولكنه إذا قال في الهجاء أحس قارئه وكأنها فيض قريحته وعفو خاطره يحسن الصوغ ويتقن توليد المعاني ويمنع ويطرف مع الإيجاع إلى الحد الذي يجعل المهجو يطرب حين يسمع شعرالنفس الشاعر يهجو به فريسة أخرى وأية ذلك إن دعبلا كان قد هجا المأمون فما زال المأمون في طلبه حتى تحايل دعبل ودس إليه قوله في عمه إبراهيم ابن المهدي الذي كان خرج عليه وبايعه الناس خلفية على بغداد بين سنتي 201—203هـ حيث يقول :
إن كان إبراهيم مضطلعا بها فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من ذاك لزلزل ولتصلحن من بعده للمارق
أنى يكون ولا يكون ولم يكن لينال ذلك فاسق عن فاسق
فلما قرأ المأمون الأبيات ضحك وقال قد صفحت عن كل ما هجانا بهاذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة لقد كان دعبل من الخبث بمكان في أ بياته هذه فقلد كان إبراهيم بن المهدي مغنيا عازما مجيدا وكان مخرق مغنيا وكان زلزل صالحة لمخارق المغني دام إبراهيم ـ وهذه صفته ـ قد تسم الخلافة فإنها ولا شك صالحة لمخارق المغنى وزلزل الطبال .
وكان إبراهيم بن المهدي قد بويع بالخلافة في بغداد على النحو الذي مر بنا وكان مال خلافته قد قل فحبس العطاء عن الناس وجعل يسوفهم ثم لم يلب ثان بعث إليهم من أعلن إمامهم الآمال عنده فقال بعض غوغاء بغداد اخرجوا ألينا خليفتنا ليغني لأصحاب العطاء ثلاثة أصوات فتكون عطاء لهم ويقتنص دعبل هذا القول وينطلق من مضمونة يهجو إبراهيم بهذه الأبيات الساخرة الموجعة
يا معشر الأجناد لا تقنطرا وارضوا بما كان ولاتسخوا
فسوف تعطون حنينية يلتدها الأمرد والأشمط
والمعبديات لقوادكم لا تدخل الكيس ولا تربط
وهكذا يرزق قوادة خليفة مصحفه البربط
أما هجاؤه المأمون فكان هجاء خنا به من مقام الملك الخطير وعرض به وبأخيه الأمين الذي قتله جيش طاهر بن الحسين الخزاعي ولاء وبالتالي فان سيوف الخزاعيين هي التي أقعدت المأمون على كرسي الخلافة يهجو دعبل المأمون من هذا المنفذ فيقول :
أيسومني المأمون خطة جاهل أو ما رأى بالأمس رأس محمد
إني من القوم الذين سيوفهم قتلت أخاك وشرفوك بمقعد
رفعوا محلك بعد طول خموله واستنقذوك من الحضيض الأوهد
لقد كان المأمون يطلب دعبلا ليوقع به ولكن لا يلبث أن تصفو نفسه ويردد شعرة ويستحسنه وقد مر بنا انه كان يردد أبياته الجميلة العينية القافية كما كان يضحك لسماع هجاء دعبل في إبراهيم بن المهدي واني عباد الكاتب
ويظل دعبل مستلما ملوك بني العباس يهجوهم الواحد تلو الآخر بدا بالرشيد وثنى بإبراهيم بن المهدي وثلث بالمأمون ثم يأتي دور المعتصم وترتيبه الثامن في سلك ملوك بني العباس فينكر علية دعبل حقه في الملك ويقول هذه الأبيات الهجائية الموجعة:
ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة كرام إذا عدوا وثامنهم كلب
واني لأعلي كلبهم عنك رفعة لأنك ذو ذنب وليس ذنب
لقد ضاع ملك الناس إذ ساس ملكهم وصيف واشناس وقد عظم الكرب
وكالعادة يطلب الخلفية المهجو دعبلا ليقتله ولكنة يفر ويستر لأيام بل لسنوات ويدعي في هذا المقام إن هذه القصيدة ليست له وإنما قالها أحد أعدائه ونسبها إليه حتى يرقع به ولكن تصديق ذلك أمر بعيد الاحتمال
ويموت المعتصم فلا يسلم وهو ميت لسان دعبل أن يعتبر المعتصم رغم موته صورة للطاغية المستبد الشرير ويطلب له العذاب في نار جنهم التي يستحقها الشياطين والطغاة والظالمون فيقول :
قد قلت إذ غيبوه وانصرفوا في شر قبر لشر مدفون
اذهب إلى والنار والعذاب فما خلتك إلا من الشياطين
ما زلت حتى عقدت بيعة من اضر بالمسلمين والدين
فإذا جاء دور المتوكل فان دعبلا يهجوه ببيت واحد ولكنه بيت قاس موجع لأنه ينال من مروءة الخليفة الأنيق المترف ويعرض برجولته وذلك بقول :
ولست بقائل قذعا ولكن لأمر ما تعبدك العبيد
فعل دعبل يمدح الرجل فإذا يعطيه جائزة يرضاها انقلب علية وهجاء وقد فعل ذلك مع عدة رجال منهم أبو نصير بن حميد الطوسي الذي قال فيه قولا موجعا مرا:
أبا نصير تحلحل عن مجالسنا فان فيك لمن جاراك منتقصا
أنت الحمار حرونا إن رفقت به وان قصدت إلى معروفة قمصا
إني هززتك لا ألوك مجتهدا لو كنت ولكني هززت عصا
إن أبا نصير وقد أوجعته هذه الأبيات لم يجد أمامه غير أبي تمام الشاعر فشكا دعبلا إليه واستعان به عليه فهجاه بقصيدة يقول في بعضها :
أدعبل إن تطاولت الليالي عليك فان شعري سم ساعه
وما وقد المشيب عليك إلا بأخلاق الدناءة والرضاعه
ووجهك إن رضيت به نديما فأنت نسيج وحدك في الرقاعه
وهي أبيات ركيكة متخاذلة إذا ما قيست بهجاء دعبل .
وتتجلى براعة دعبل في الهجاء حين يهجو مجموعه من الأعلام دفعة واحدة مجتمعين غير متفرقين لقد فعل ذلك حين هجا مجموعة من الناس مكونة من دينار بن عبد الله وأخيهيحي والحسن بن سهل والحسن بن رجاء وأبيه فقال :
ألا فاشتروا مني ملوك المخرم أبع "حسنا " " وابني رجاء " بدرهم
وأعط " رجاء " فوق ذاك زيادة وأسمح " بدينار" بغير تندم
فإذا رد عيب علي جميعهم فليس يرد العيب " يحيى بن أكثم"
إن هذه الصور الهجائية التي قدمناها وتجاوزنا عن غيرها من هجائيات دعبل التي تحر جنا من التمثيل بها على الرغم مما فيها من براعة ورشاقة تعتبر مرحلة وسطى في الهجاء حسبما ذكرنا قبلا بين بشار وابن الرومي بل إن ابن الرومي يكاد يستر خلف كل صورة من صور دعبل الهجائية إن دعبلا د فرض نفسه على موضوع الهجاء فرضا فان طبيعته ونفسيته واستعداده كل ذلك قد هيأه لان يحتل مكانة في شعر وبخاصة شعرة الإنساني .
ح-الصنعة والتجديد في شعر دعبل :
على الرغم من تورط دعبل في الهجاء تورطا يكاد يحجب فنه الجديد في الشعر العربي فإن طبيعة الصناعة الصارخة والصور البهجية التي عمد اختراعها تعلن عن نفسها بصوت عال مسموع.
لقد مر بنا قبل قليل قول دعبل وهو يقدم شخصيته الشعرية أنا ابن قولي :
لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
أي أنه عرف بهذا القول واشتهر, تماما كما كان أبو تمام يقول أنا ابن قولي:
نفل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
ذلك أن كل أعر يأتي بمعنى جديد أو صوغ طريق يشيع بين الناس كان يعرف بهذا القول ومن ثم يقول: أنا ابن قولي قولي كذا , ويذكر البيت.
والحق أن بيت دعبل قد على كل لسان وغنته أكثر القيان الغنيات المجيدات لفترة طويلة من الزمان , بل إن " المكارية " كانوا يتغنون به وهم يسوقون به يسمع المكاري من خلفه يتغنى بالبيت – لا تعجبي يا سلم – فسر دعبل لذلك وأراد إن يشغل المكاري بحديث يصرفه عن حث البغل على السرعة في المسير فقال له : أتعرف لمن هذا الشعر يا فتى ؟ وتوقع دعبل أن يلقى جوابا يرضيه أو وان يسمع اسمه على شفتي المكاري ، ولكن المكاري كان من سلاطة اللسان ، أو بالأحرى كان سليقته في القول – أعنى سليقة المكارية – فأجاب : هذا الشعر لمن ..... أمه
بل إن هذا البيت هو الذي أوصل دعبلا بالرشيد ، فقد غنى ابن جامع المقطوعة التي تضم هذا البيت بين يدي الرشيد فطرب كثيرا وسأل عن قائل الشعر ، فقيل له : دعبل بن علي الخزاعي ، فأمر الرشيد بإحضار عشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه ووجه خادما من خاصته على مركب مراكبه إلى خزاعة فسال عن دعبل وأعطاه إياها وأبدى له إعجاب الخليفة به ورغبته في إن يراه متى يشاء .
إن بيتا أو مقطوعة تذيع وتشيع بين طبقات المجتمع بدءا بالخليفة في قصره وانتهاء بالمكارية وراء بغالهم وحميرهم في الطرقات لشيء يبعث على الاهتمام ، فما هي هذه المقطوعة الشعرية التي أثارت كل هذا الاهتمام ؟ أنها مقطوعة تنم عن رقة متناهية ، وإحساس شاعري رهيف ، وتلاعب بالمعاني طريف ، ومداعبة بديعية لصيغة القول ، جمعت ألوانا من الزينات اللفظية من جناس وطباق إلى نكت بيانية تمثلت في الاستعارات الحضرية التي تضمنتها الأبيات ، والتي لم ينجح في ابتكارها من الشعراء الكثيري العدد إلا عدد قليل من أمثال مسلم بن الوليد وأبي نواس ، يقول دعبل في مقطوعته الرقيقة :
أين الشباب وأية سلكا ؟ لا أين يطلب ؟ ضل بل هلكا
لا تعجبني يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعري كيف نومكما يا صاحبي إذا دمي سفكا
لا تأخذوا بظلامتي أحدا قلبي وطرفي في دمي اشتركا
قد يبدو غريبا صدور مثل هذا القول المتناهي في رقته من شاعر عمل بعض الوقت قاطع طريق ، وعايش فترات طويلة من عمره الصعاليك والشطار ، ونذر نفسه للهجاء ، ولكن تعليل ذلك في غاية من البساطة ، فالرجل يملك روحا شاعره خصبة ، وملكة سخية معطاءة ، ولكن طبيعة الحياة التي نشا فيها ودور المجتمع الذي عاش فيه قد اجريا هذا التحول المنحرف في سلوكه وبالتالي في قوله وشعره .
ومع ذلك فقد كان دعبل يرتاح وهو في شيخوخته لسماع هذه النبرة الناعمة المترفة من شعر شبابه الباكر . فلقد حل ضيفا على من دعاه إلى منزله في بلدة شهر زور ، فسمع جارية محسنة تغني : أين الشباب ...... الأبيات فارتاح دعبل وقال : قد قلت الشعر منذ سبعين سنة.
لا شك في إن دعبلا يمثل مدرستين أو بالأحرى طبيعتين ، فهو من ناحية يمثل الطبيعة الناشزة النافرة غير المستأنسة التي تتمثل في خشونته وتطاوله على الناس وهجائهم وطول الهروب من المدينة ومعاشرة الصعاليك ، ولكنه من ناحية أخرى متأثر بالبيئة الحضرية الناعمة التي تعجب بالشعر السهل المترف الذي تمثل في الأبيات السابقة .
بل إن دعبلا قطع في التأثر بالبيئة البغدادية شوطا طويلا حين شارك أبا نواس في رفض الوقوف على الأطلال واستبداله ذكر الخمر بالوقوف على الربوع حتى نكاد نقع في لبس تجاه الشاعرين الكبيرين وأيهما كان البادئ في هذا الاتجاه ، المهم أن دعبلا رفض الوقوف على الربوع والطلل في قوله مخاطبا زيادا الساقي :
يقول زياد قف بصحبك مرة على الربع ، مالي و الوقوف على الربع
أدرها على فقد الحبيب فربما شربت على ناي الأحبة والفجع
فما بلغتني ألكاس إلا شربتها وإلا سقيت الأرض كأسا من الدمع
ليس من شك في أن هذا القول يزعزع من الفكرة التي تذهب إلى ا نابا نواس هو أول من ترك الوقوف على الأطلال – وان كان في حقيقة أمره لم يفعل حسبما مر بنا – فان دعبلا ينازعه في ذلك خاصة وان فارق المولد بينهما عامان اثنان لا غير .
ومن نماذج الصيغ الشعرية البهيجة التي تألق دعبل في نسجها وزركشتها وتلوينها بحيث بدت عذبة الرنين الرنين رخية الإيقاع أنيقة التشبيهات بارعة الاستعارات تلك الأبيات التي مزج فيها شاعرنا بين الطبيعة والمديح في قوله
وميثاء خضراء زربية بها النور يلمع في كل فن
ضحوكا إذا لا عبته الرياح تأود كـالشارب وعصب اليمن
فشبه صحبي سنا نورها بديباج كسرى وعصب اليمن
فقلت بعدتم ولكنني أشبهه بجنـاب الحسـن
فتى لا يرى المال إلا العطاء ولا الكنز إلا اعتقاد المنن
وعلى نفس النهج الذي سارت فيه مدرسة الشعر المجددة المعاصرة التي التزم دعبل اتجاهاتها في شبابه لا نستطيع أن نخفي إعجابنا بقوله في الكأس والخمر .
شربت وصحبتي يوما بغمر شرابا كان من لطف هواء
وزنا الكأس فارغة وملاى فكان الوزن بينهما سواء
إن دعبلا وقد سلك نفسه في هذا النهج من القول إنما يجري في المضمار الذي جرى فيه مسلم وأبو نواس ثم أبو تمام ، ومن قبلهم الحسين بن مطير وبشار .
ومن فنون الصناعة والتلاعب باللفظ الواحد واستخدامه قافية للقصيدة بحيث جعل منه معنى مستقلا في كل بيت ، صريحا حينا ، ومن قبيل التورية حينا آخر ، قوله في الفضل بن مروان وزير المعتصم ، مكررا لفظ ((الفضل )) كل مرة :
نصحت فأخلصت النصيحة للفضل وقلت فسيرت المقالة في الفضل
ألا إن في الفضل بن سهل لعبرة إن اعتبر الفضل بن مروان بالفضل
وفي ابن الربيع الفضل للفضل زاجر إذا ازدجر الفضل بن مروان بالفضل
وللفضل في الفضل بن يحيى مواعظ إذا فكر الفضل بن مروان في الفضل
فابق جميلا من حديث تفز به ولا تدع الإحسان والأخذ بالفضل
فانك قد أصبحت للملك قيما وصرت مكان الفضل والفضل والفضل
ولم أر أبياتا من الشعر قبلها جميع قوافيها على الفضل والفضل
وليس لها عيب إذا هي أنشدت سوى أن نصحي الفضل كان من الفضل
وهكذا يكد دعبل قريحته لكي يقدم قافية متميزة غير مسبوق إليها جميعها – حسب تعبيره – (( على الفضل والفضل )) وقد اجتهد في إن يكون كل ((فضل)) بمعنى ، فتارة هو الفضل بن مروان ، وأخرى هو الفضل بن سهل وثالثه هو الفضل بن الربيع ، ورابعة هو الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي وخامسة هم هؤلاء جميعا ، وسادسة بمعنى الإحسان وسابعة بمعنى فضل القول وهكذا . ولئن اعتبر بعض الناقدين هذا النسق من القول ضربا من التجديد ، فانه تجديد غير مفيد وغير بهيج لأنه كد للقريحة في غير ما طائل يلوي فيه الشاعر أعناق الألفاظ بشدة ويجرها بحبال متينة حتى يرصها صفا واحدا ، مخايل الإبداع والبهجة فيه اقل كثيرا من المجهود الذي بذل في سبيله .
هذا ما كان من أمر الزينات اللفظية والتشبيهات والاستعارات ، غير إن جانبا ذا قيمة وخطر لا زال يكمن في شاعرية دعبل ، إن هذا الجانب هو جانب الصورة الشعرية التي ازدهت وازدهرت فيما بعد عند كل من ابن الرومي وابن المعتز .
إن دعبلا يرسم لوحة لكلابه وهي ترحب بضيفه بحيث نكاد – لفرط ما خلع دعبل على لوحته – نحس بالكلاب تحرك إذنابها سرورا وترحابا من خلال الأبيات التي يقول فيها :
ويدل ضيفي في الظلام على القرى إشراق ناري أو نباح كلابي
حتى إذا واجهنه ولقينه حيينه ببصابص الأذناب
فتكاد من عرفان ما قد عودت من ذاك أن يفصحن بالترحاب
الواقع أنها صورة رائعة بارعة استطاع دعبل إن يخلع عليها حركة رشيقة بحيث بدت وكأنها شريط سينمائي قصير .
على إن هذه الصور على رشاقتها ودقتها ورقتها ليست في واقع أمرها إلا تقليدا لشاعر سابق من مخضرمي الدولتين اعتبرناه عند دراستنا له واحد من رواد التجديد ذوي الأصالة انه إبراهيم بن هرمة الذي يصور كلبه بضيوفه في قوله :
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا يكلمه من حبه وهو أعجم
بل إن ابن هرمة قد قدم صورة أخرى لكلابه وهي تهش لمقدم ضيوفه في نفس البحر والروي والقافية التي التزمها دعبل يقول ابن هرمة في الصورة الباكرة التي قدمها لكلابه :
وإذا أتانا طارق متنور نبحت فدلته علي كلابي
وفرحن إذ أبصرنه فلقينه يضربنه بشراشر الأذناب
إن الصورة التي رسمها دعبل لكلابه – مقلدا ابن هرمة – صورة جمعت بين الجدة والطرافة ، ولكن لدعبل صور شعرية أخرى متحركة فكهة ، فيها رشاقة وسخرية وخفة روح .
طار ذات يوم ديك من بيت دعبل في بغداد فسقط في بيت صالح بن علي القيسي وكان عنده جماعة من الأصدقاء ، وما أن رأوا الديك قريبا منهم حتى قالوا : هذا صيد سمين ، فذبحوه وشوه وجعلوه على مائدة شرابهم . أما دعبل فانه قد أسرع إلى دار صالح سائلا عن ديكه مطالبا به ، غير إن القوم أنكروا معرفة شيء عنه . فلما كانت الغداة ذهب دعبل إلى المسجد وصلى ثم جلس بين صفوة العلماء وجمهرة المصلين الذين كانوا يؤثرون الصلاة في هذا المسجد وانشد هذه الأبيات التي تمثل قصة الديك – الذي اثر إن يصفه بالمؤذن – مع جاره :
أسر المؤذن صالح وضيوفه أسر الكمي هفا خلال الماقط
بعثوا عليه بنيهم وبناتهم من بين ناتفة وآخر سامط
يتنازعون كأنهم قد أوثقوا خاقان أو هزموا كتائب ناعط
نهشوه فانتزعت له أسنانهم وتهشمت اقفاؤهم بالحائط *
لقد أصاب دعبل بأبياته هدفين وحقق غرضين ، ذلك انه نال من جاره وشهر به في المسجد بهذه الأبيات الفكهة ، فضلا عن انه أهدى إلى دنيا الشعر هذه الصورة المتحركة المضحكة
وهناك صورة أخرى فكهة ضاحكة مرة بارعة رسمها دعبل لبني بسام من خلال هجائه لهم بسبب إهمال نصر بن منصور بن بسام في قضاء طلب للشاعر فقال عامدا إلى التورية والطباق :
يا آل (( بسام )) في المخازي وعابسي الوجه في السؤال
حواجب كالحبال سود إلى عثانـــين كـالمخالي
وأوجه جهمة غلاظ عطل من الحسن والجمال
بل إن الصور الشعرية المرسومة بدقة وكأنها ريشة فنان قد اكتملت أسباب نضجها عند دعبل ، وليس ابن الرومي وابن المعتز إلا مكملين لهذا اللون الذي ألح عليه دعبل من واقع نفسيته الثائرة المتمردة حتى على القريبين منه . لقد كان له جارية اسمها ((غزل)) ويبدو انه كان حانقا عليها فرسم لها هذه الصورة الطريفة الفكهة الساخرة:
رأيت غزالا وقـد أقبلت فأبدت لعيني عن مبصقه
قصيرة الخلق دحداحة تدحرج في المشي كالبندفة
كان ذراعا علا كفها إذا حسرت ذنب الملعقة
تخطط حاجبها بالمداد وتربط في عجزها مرفقه
وأنف على وجهها ملصق قصير المناخر كالفستقه
وثديان : ثدي كبلوطة وآخر كالقربة المدهقه
وصدر نحيف كثير العظام تقعقع من فوقه المخنقه
وثغر إذا كشرت خلته تخالج فانية معلقة
إن هذه الصور الشعرية الساخرة تشكل الأساس الرئيسي لمدرسة الصورة الشعرية الساخرة التي ازدهرت عند ابن الرومي بحيث عرفت به ونسبت إليه ، والواقع إن فضلا كبيرا في أصلها يرجع إلى دعبل الشاعر الرسام الساخر الهجاء الفنان .
لقد كان دعبل شاعرا كبيرا مرموقا ، وكان البحتري – شاعر العربية الكبير – يفضله على مسلم بن الوليد حسبما مر بنا ، وعلى الرغم من العداوة التي كانت بين دعبل وأبي تمام ، فان البحتري ، وهو تلميذ أبي تمام وقريبه – جمع بين الشاعرين الكبيرين في مرثيته لدعبل الذي مات بعد أبي تمام بخمس عشرة سنة وفيها يقول :
قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي مثوى حبيب يوم مات ودعبل
أخوي لا تزل السماء مخيلة تغشا كما بسماء مزن مسبل
جدث على الأهواز يبعد دونه مسرى النعي ورمة بالموصل
نستطيع الآن في غير ما جهد أن نتفهم مكانه دعبل وموقعه في الشعر العباسي ، انه الحلقة الواسعة المتينة التي تربط شعر المرحلة العباسية الباكرة ومرحلة ما قبل الدويلات ، وهذه الحلقة تستوعب اتجاهين أساسين ، الأول اتجاه شعر الهجاء وربطة بين بشار وابن الرومي والاتجاه الثاني يتمثل في التجديد في شكل الشعر لفظا ومعنى الذي مثله أبو تمام فيما بعد وفي خلق الصورة الشعرية التي ازدهرت عند كل من ابن الرومي وابن المعتز في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري .







6-مهيارالديلمي

أ-صنعة مهيار
لم يكنمهيار يستعين على شعره بثقافة ولا فلسفة، وكان أجنبيًّا عن اللغة، وحاول أن يطيل في قصائده، فظهر تلفيقه مكشوفًا،
ولذلك تأثير واسع في صناعة الشعر عنده؛ إذ كان يضل التعبير عن المعاني الدقيقة، فيسقط إلى ألوان من الإسفاف تذيع سر المهنة عنده، ولذلك كان لا يحسن التعبير الحاد عما في نفسه. وقد سلمت له نشأة فارسية مجوسية؛ ولذلك كانت قصائده تمتلئ بنوافذ يشرف منها الإنسان على فارس، ولولا أنه أخذ نفسه بالأسلوب العربي وتخرج على يد شاعر عربي أصيل؛ وهو الشريف الرضي؛ لكان لفارسيته وأجنبيته عن اللغة العربية أثر أوسع. ولعل ذلك ما جعله يقول في وصف أشعاره:
حلىً من المعدنِ الصريحِ إذا ... غشَّ تجارُ الأشعارِ ما جلَبوا
تشكرُها الفرسُ في مديحك للـ ... معنى وتَرضى لسانها العَرَبُ
فمهيار كان يشعر شعورًا عميقًا بفارسيته، وكان يرى أن لهذه الفارسية سمات خاصة في شعره، وهو يرجع هذه السمات إلى ما يسميه المعنى؛ ولكن كلمة المعنى واسعة، وهي الروح الفارسية؛ فليس في معاني مهيار ما يمكن أن نسميه فارسيًّا. وكان يؤثر في شعر مهيار تأثيرًا واسعًا مزاجهالخاص، وهو مزاج فيه رقة وحدَّة في الحس،ودماثة وليونة ما يزال ينتشر في جميع أطراف شعره.
ب-تَلْفِيقُ مِهْيَارلشعرهوتطويلهلقصائده:
كان مهيار أجنبيًّا عن اللغة؛ يلفق قصائده على طريقة الشعراء الذين عاصروه ، وهو تلفيق لا يعتمد عنده على الثقافة ؛ إنما هو تلفيق داخلي ، إذ نرى الشعراء عاجزين عن التجديد إلا في حدود ما سبقهم من أفكار وخواطر، وهم لذلك ما يزالون يتناقلونها فيما بينهم، حتى يحدثوا لأنفسهم تلك النماذج التي كانوا يسمونها قصائد، ومن السهل أن يقرأ الإنسان لأي شاعر في تلك العصور ويرد ما يقرؤه إلى من سبقه من الشعراء، قد يستعين بعضهم على إخفاء هذا الجانب عنده بما يحققه لنفسه من الأسلوب العربي الأصيل كما نجد عند الشريف الرضي؛ ولكنا لا ننتقل إلى تلميذه مهيار حتى يكشف لنا كشفًا واضحًا عن تلك المهارة الحديثة في الفن العربي، وذلك أنه كان يعمد إلى تطويل نماذجه، فانبسطت الأبيات واتضح التلفيق، وانظر إلى هذه الفكرة عند المتنبي:
أَثافٍ بِها ما بِالفُؤادِ مِنَ الصَّلى ... وَرَسمٌ كَجِسمي ناحِلٌ مُتَهَدِّمُ
تحولت هذه الفكرة عند مهيار إلى تلك الأبيات:
هل عند هذا الطَّلَلِ الماحِلِ ... من جَلَدٍ يُجِدي على سائلِ
أصمُّ، بل يسمعُ؛ لكنَّهُ ... من البلى في شُغُلٍ شاغلِ
وقفتُ فيه شبحًا ماثلًا ... مرتفدًا من شبحٍ ماثِلِ
ولا ترى أعجبَ من ناحلٍ ... يشكو ضنا الجسمِ إلى ناحلِ
لهفَكِ يا دارُ ولهفي على ... قَطينِك المحتمِل الزَّائلِ
قلبيَ للأَحْزانِ بعد النَّوى ... وأنتِ للسَّافي وللنَّاخلِ
مثلُكِ في السُّقمِ ولي فضلةٌ ... بالعقلِ والبَلوى على العَاقِلِ
أساس الفكرة في هذه الأبيات هو أنه رسم يبكي رسْمًا، وهي فكرة المتنبي بل هي فكرة أبي تمام من قبله، وكل ما جاء به مهيار من جديد أنه عمد إلى التطويل والتفصيل؛ وأصبح أسلوبه كأنه أسلوب نثر؛ فهو يعتمد على المقارنة والتفصيل. و تكرار للألفاظ، يدنو به إلى حال من الابتذالتصيب شعره بضروب من الركاكة والإسفاف،
يقول مهيار :
نشدتُكِ يا بانةَ الأَجْرعِ ... متى رفعَ الحيُّ من لَعْلَعِ
وهل مرَّ قلبيَ في التابعيـ ... ن أم خارَ ضعفًا فلم يَتْبَعِ
لقد كان يُطمُعني في المُقام ... ونيّتُهُ نيَّةُ الْمُزْمعِ
وسِرْنا جميعًا وراء الْحُمُول ... ولكن رجعتُ ولم يرجِعِ
فأنّتُهُ لكِ بين القلوبِ ... إذا اشتبهت أنَّةُ الموجَعِ
وشكوى تدلُّ على سُقْمِهِ ... فإن أنتِ لم تُبصري فاسمعي
فقد أطال مهيار الفكرة ودار حولها هذا الدوران الذي يبعدها عن طبيعة الأفكار الغنائية؛ إنه يريد أن يجدد فلا يجد عنده ثروة فكرية يستعين بها على ما يريد، وما أشبه أسلوب مهيار بالسهل المنبسط ،فإذا بك تملُّه وتسأمه لما فيه من تكْرار وعدم تنوع. وهل كلمة "إذا اشتبهت" كلمة شعرية؟ وهل نستريح إلى التعبير عن الارتحال بالارتفاع كما يقول في البيت الأول؟ وهل نستريح لكلمة النية؟ ألا نحس في ذلك كله بضروب من خبو العاطفة وضعف الأسلوب.
لم يكن يعرف العبارة الحادة في الشعر العربي لأنه أجنبي دخيل على اللغة، وهو لم ينزح إلى البادية كما نزح إليها أبو نواس، ولا تعلَّم الفصاحة من شيوخ بني عقيل كما تعلمها بشار؛ فلم تتعمق فيه السليقة العربية، وصار إذا أراد التعبير عن فكرة جاءها من بعيد وبعد لفٍّ طويل؛ فانكشفت عيوبه في التلفيق.
واقرأ له هذه القطعة.
يالُواة الديون هل في قضايا الـ ... حسن أن يَمْطُلَ الغنيُّ الفقيرا
لي فيكم عهدٌ أُغيرَ عليهِ ... يومَ سلعٍ ولا أسمِّي المغيرا
احذروا العارَ فيهِ، والعارُ أن يمـ ... سي ذمامي في رعيهِ مخفورا
أو فردُّوا على حيرانَ أعْشَى ... ناظرًا فقد أخذتموه بَصِيرا
أنا ذاك اعتبدتُ قلبي وانفقـ ... تُ دموعي عليكُمُ تبْذِيرا
فاحفظوا في الإسارِ قَلْبًا تمنَّى ... شَغَفًا أن يموتَ فيكم أَسِيرا
وقتيلًا لكم ولا يشتكِيكُمْ ... هل رأيتم قبلي قتيلًا شكورا
ولعل القارئ شعر بغرابة هذه العهود التي يغار عليها وتسلب؛ فنحن نعرف أن العهود تنقض، أما أن يغار عليها وتسلب فهذا تعبير جديد غير مألوف؛ ولكن مهيار يريد التجديد في التعبير، بل هو فارسي قد ينسى الكلمة الأصيلة في اللغة فيعمد إلى التفصيل في أفكاره والاتساع في عباراته،
وراح يحاول إدخال مراسيم الرسائل في قصائده، حتى يستطيع أن يطيل فيها طولًا شديدًا. وإن الإنسان ليشعر شعورًا واضحًا إزاء كثير من نماذجه بأنها قد ألفت كما تؤلف الرسائل؛
أما وهواها حلفَةً وتَنصُّلا ... لقد نقَلَ الواشي إليها فأمْحَلا
وما أحلى ما قال بعده:
سعى جُهْدَه لكن تجاوز حدَّهُ ... وكثَّر فارتابتْ ولو شاء قلَّلا
ومهيار كما يبدأ قصائده ببراعة الاستهلال نراه يختمها بالدعاء على نمط ما يصنع الكتاب برسائلهم، وانظر إليه يقول في نهاية إحدى قصائده:
فلا قَلَصتْ عني سحائبُ ظلِّكم ... فمنها مُرِذٌ تارة وسَكُوبُ
ولا عدِمتَكم نعمةٌ خُلقتْ لكم ... ودنيا لكم فيها الحياةُ تطيبُ
يزوركُم النَّيروزُ مقتبَلَ الصِّبا ... وقد دبَّ في رأسِ الزَّمانِ مَشِيبُ
تصَوَّحُ أغصانُ الأعادي وغصنُكم ... من السَّعد ريَّانُ النباتِ رطيبُ
دعاءٌ حِيالي فيه ألفُ مؤمِّنٍ ... تَوافقُ منهم ألسنٌ وقلوبُ
وتطويله لم يضف للشعر جمالًا، بل أضاف إليه هلهلة وإسفافًا؛ بالحشو وكثرة التَّكْرار والاعتراض،
أقولُ وقد تعرَّمَ جُرحُ حالي ... وسُدَّ على مَطالِعيَ السَّراحُ
وكاشفني وكان مجاملًا لي ... عَبوسُ الوجهِ من زمني وَقاحُ
وقد منعت غضارَتها وجفَّت ... على أخلاقها الأيدي الشِّحاحُ
غدًا يا نفسُ فانتظري أناسًا ... هُمُ فرَجٌ لصدركِ وانشراحُ
ج-الميوعةُ في غَزَلِ مِهْيَار:
فب شعر مهيار ضرب من الميوعة واللِّيونة وخاصة في غزله؛ إذ يحس الإنسان دائمًا بأن فيه إفراطًا في الحس والشعور والرقة، بل إنه لتنساب منه ألوان من الذلة والضراعة، فقد خُلِقَ - رقيق القلب، وهو يتكلف الليونة والدماثة والحس الحاد والشعور المفرط؛ فإذا شعره يفقد ما يمكن أن يكون في العواطف من حرارة وقوة. إنه شعر يمتلئ بالميوعة والرقة المفرطة ولعل ذلك ما جعله يقول في وصف قصائده:
في كلِّ نادٍ نازحٌ غائبُ ... لها حديثٌ بكم حاضرُ
تعرض أيام التّهاني بها ... ما تعرضُ المعشوقة العاطرُ
تميسُ منها بين أيامكم ... خاطرةٌ يتبعها الخاطرُ
لثَّمها التحصين عن غيركم ... وهي على أبوابكم سافرُ
د-غزلُ مِهْيَار البدَوِيَّ:
يحشد مهيار بالعناصر البدوية في قصائده، بحيث لا يمر غزل في قصيدة دون أن نحس بأنه لشاعر يقيم في نجد أوفي الحجاز؛ فدائمًا صاحبته أمامه أو الرَّباب أو لمياء أو سعدى، ودائمًا هي من سكان: مِنَى أو الخِيف أو قباء أو سَلْع، وهو لذلك يكثر من ذكر الأماكن الحجازية والنجدية من مثل: أُحد وجُمَع وسَلَم ونُعمان والألال والمحصَّب وإضم وزمزم، إلى جَمٍّ من هذه الأمكنة التي تُنْشَر في مطالع قصائده، وهو إلى ذلك ما يزال يعنى بالحديث عن الأطلال عناية شديدة. وقد يعجب الإنسان لمزاوجة مهيار بين ميوعته في غزله وبين ارتفاعه بهذا الغزل عن حياته المتحضرة إلى الحياة المبتدية وما فيها من شظف العيش وخشونة الحياة، وأكبر الظن أن هذه الحال من التبدي في الغزل تسربت للشعراء من تأثرهم بأساليب المتشيعة والمتصوفة في شعرهم الخاص، إذا كان هؤلاء ينحون بغزلهم منحى بدويًّا، يعبرون فيه بالأماكن النجدية والحجازية، وكأنهم يريدون أن يعطوه بذلك ضربًا من العبادة والقداسة، وهم لذلك يتشبثون خاصة بالأماكن المقدسة في الحجاز. وقد كان مهيار متشيعًا بل كان من غلاة الرافضة، وقد نحا بغزله هذا المنحى الذي يعبر فيه هذا التعبير الواسع عن حبه، على الرغم مما قد يظن بأن هذه العناصر البدوية تقيد في خواطره وأفكاره. والحق أنها أعطت للغزل عند مهيار وعند غيره من الشعراء ضربًا من الاتساع في التعبير عن الوجدان والعاطفة،
على كل حال كان مهيار يكثر من العناصر البدوية في شعره، سواء منها ما يتصل بأسماء صواحبه أو أماكنهن أو ما في هذه الأماكن من النباتات والأشجار والأودية والرياح، كأن يقول في مطلع إحدى قصائده:
بَكَرَ العارِضُ تحدُوه النُّعامَى ... فسقاكِ الرَّيَّ يا دارَ أُماما
وتمشَّتْ فيك أرواحُ الصَّبا ... يتأرَّجنَ بأنفاسِ الخُزامَى
سَل طريقَ العيسِ من وادي الغضا ... كيف أغسقتَ لنا رَأْدَ الضُّحى
ألشيءٍ غير ما جيراننا ... نفضوا نجدًا وحَلّوا الأَبطحا
يا نسيمَ الصُّبحِ من كاظمةٍ ... شدَّ ما هِجتَ الجوَى والبُرَحا
الصَّبا إن كان لا بدَّ الصَّبا ... إنها كانتْ لِقَلْبي أرْوَحا
يا نداماي بسلْعٍ هل أرى ... ذلك الْمَغْبَقَ والمصْطَبَحا
اذْكُرونا قد ذكرَنا عهدَكُم ... ربَّ ذكَرى قرَّبتْ مَن نَزَحا
واذكروا صبًّا إذا غنى بكم ... شرب الدَّمعَ وعافَ القَدَحَا

ه-الْمَدِيحُ عندَ مِهْيَار:
إن شعر المديح عند مهيار يفقد أصباغه العقلية القديمة وأصباغه الحسية، ويتحول كما تحول الغزل لديه إلى ضرب من المديح الباهت؛ بل إن الغزل لم يسقط عند مهيار كما سقط المديح؛ لأنه عرف كيف يستعين عليه بالعناصر البدوية القديمة، ، أما المديح فلم يستطع أن يحول بينه وبين هذا السقوط. و لم يستطع مهيارأن ينوع في معاني المديح؛ إذ كانت تنقصه الثقافة، وكان ينقصه العمق، وهو كذلك لم يستطع أن يحتفظ للعبارة بمنطق العرب الأصيل، ولم يكن مهيار يحكم التعبير في قصيدة المديح؛ إذ كان لا يزال يطيل فيها هذا الطول الممل الذي ينتهي بها إلى ما يشبه الرسالة من الرسائل؛ فهي تبدأ ببراعة الاستهلال، وتنتهي بالدعاء، وتمتلئ بينهما بالحشو وما يطوى من تفكك وتلفيق، وكأنما أجدبت الحضارة العربية أو أجدب التفكير الفني؛ فليس هناك من جديد سوى هذا الأسلوب المنبسط الذي ينشر الفكرة المطوية في أبيات كثيرة.







7-مسلم بن الوليد

التصنيع في شعر مسلم بني الوليد
فقد مضى الشعراء في القرن الثالث يقفون في صفين متقابلين، منهم من يفهم الشعر على أنه تصنيع وزخرف وتنميق مثل أبي تمام وابن المعتز، ومنهم من لا يبعد في فهمه كل هذا البعد، مثل البحتري وابن الرومي، وإن كنا نلاحظ عندهما وعند أمثالهما من أصحاب مذهب الصنعة في القرن الثالث أنهم كانوا يستخدمون زخارف التصنيع في صورة أقوى وأوضح منها عند أسلافهم في القرن الثاني، ومِن ثَمَّ أخذ مذهبهم في التعقد. ولعل في ذلك ما جعلنا نؤمن بأن إيجاد الحواجز والفوارق المطلقة بين المذاهب الفنية أمر عسير؛ إذ ما تزال تتداخل وتتشابك على هيئات مختلفة، وهذا شيء طبيعي فإن الشعراء حينئذ كانوا يلتقون كثيرًا في مجالس الخلفاء والوزراء والنوادي الأدبية العامة، وكانوا دائمًا يعلقون على ما يسمعون من شعر باستحساناتهم، وبذلك تبادلوا التأثر بعضهم ببعض، ونسوق لذلك مثلًا: وظل أصحاب التصنيع والصنعة يجتمعون في بغداد، وهيأ هذا الاجتماع لشيء من التداخل بين المذهبين العامين في حرفة الشعر حينئذ، وأصبحنا نجد عند الصانعين محسنات المصنِّعين وزخارفهم؛ ولكنهم لا يستخدمونها مذهبًا، بل تسقط في نماذجهم وقصائدهم. وهذا هو فرق ما بين العملين والمذهبين، يوجد اختلاط؛ ولكن لا يوجد اتحاد، ويوجد عند الصانعين حليات التصنيع من حين إلى حين ولكن لا يوجد استمرار التطبيق.
لما أنشدمسلم لاميته المشهورة وبلغ قوله:
هل العيش إلا أن تروح مع الصبا ... وتغدو صريعَ الكأسِ والأعين النُّجل
قيل له: أنت صريع الغواني؛ فسمِّى بذلك حتى صار لا يُعْرف إلا به . وتدلنا أخباره على أن الرشيد كان يعجب به، وفي رأينا أن مصدر هذا الإعجاب لم يكن مديحه له فحسب؛ فقد وجده يشيد بقائده يزيد بن مزيد الشيباني حين قضى على ثورة الخوارج في عهده وكان ذلك سنة تسع وسبعين ومائة، وبلغ من هذه الإشادة كل مبلغ؛ حتى جعله عز الخلافة.
إذا الخلافةُ عدَّت كنتَ أنت لها ... عزًّا وكان بنو العباس حكامًا
بل جعله سداد الملك العباسي وصمام أمانه في حروب الخوارج وعلى حافات الثغور، يقول :
لولا يزيدُ لأضحى الملك مطرحًا ... أو مائل السمك أو مسترخي الطُّول
نابُ الإمامِ الذي يفترُّ عنه إذا ... ما افترَّت الحربُ على أنيابها العصل
وأكثر شعر مسلم في المديح والغزليات والخمريات، ومسلم في شعره يعتمد اعتمادًا شديدًا على الإطار التقليدي، وما يرتبط به من جزالة الأسلوب ومتانته ورصانته ونصاعته وقوته، حتى في غزله وخمرياته؛ جارى فيهما أصحاب مذهب الصنعة وتجديداتهم في البحور الشعرية، وهما على كل حال شذوذ في عمله، أما بعدهما فشعره يغلب أن يكون من الأوزان الطويلة حتى تتلاءم مع ما يريد من جرس قوي، ومن ضخامة البناء في اللفظ والتعبير. وهو من هذه الناحية يعدُّ في طليعة من دفعوا الشعراء العباسيين إلى التمسك بالأسلوب الجزل المصقول؛ وهو أول من دفع الشعراء في هذا الاتجاه؛ فقد كان الشعر العربي عند أبي نواس وأبي العتاهية على وشك أن يزايل هذا الأسلوب إلى الأسلوب الشعبي اليومي، فأمسك به مسلم دون هذه الغاية وردَّه في قوة إلى جزالته القديمة وجعلها مقومًا أساسيًّا من مقوماته، بل جعلها المقوم الأساسي الأول بين هذه المقومات. وعمَّ هذا الذوق عند أصحاب مذهب التصنيع و عند أصحاب مذهب الصنعة وهذا الأسلوب الجزل القوي لم يكن يكلف مسلمًا مشقة؛ بل لقد كان يكلفه عناء أي عناء في اصطفاء اللفظ والملاءمة بين اللفظة واللفظة في الجرس، حتى يتم له ما يريد من ضخامة البناء وروعته. وهو بناء يقام على أعمدة هي الأبيات، وكل بيت كسابقه في الضبط والإحكام، وكل قصيدة بل كل مقطوعة كمثيلتها في هذا النمط الذي لا يتفاوت نسيجه، و مسلم صاحب رَويَّة، لا يرتجل ولا يقول الشعر عفوًا؛ فالشعر عنده صناعة مجهدة، لا بد فيها من التريث والتمهل، ولا بد فيها من الصقل والتجويد، والزخرف الجديد الذي كان يأتي على قلة في الشعر القديم، يطبقه مسلم على شعره،
أجْرِرْتُ حبلَ خليع في الصبا غزلِ ... وشمرت همم العذال في العذلِ
هاج البكاءُ على العينِ الطموحِ هوى ... مفرقٌ بين توديعٍ ومُحْتَمَلِ
كيف السُّلوُّ لقلب راح مختبلًا ... يهذي بصاحب قلب غير مختبلِ
والجهد واضح في الأبيات سواء من حيث اختيار الألفاظ، أو من حيث إضافة زخارف الجناس والطباق؛ فهو يجانس بين العذال والعذل، وهو يطابق بين المختبل وغير المختبل، وفي البيت الثاني طباق دقيق بين الهوى المقسم بين التوديع والاحتمال أو الارتحال، فإن التوديع يتضمن الإقامة القليلة، وهو عكس الارتحال. ونمضي معه إلى المديح فنراه كله على هذا الطراز.
يغشى الوغى وشهابُ الموتِ في يديه ... يرمي الفوارسَ والأبطال بالشعل
يفترُّ عند افترار الحرب مبتسمًا ... إذا تغيَّر وجه الفارسِ البطلِ
ينالُ بالرفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلًا يأتي على مهلِ
لا يرحلُ الناسُ إلا نحو حجرتِه ... كالبيتِ يفضي إلى ملتقى السُّبلِ
وأنت تراه يعتمد على النحت وقوة البناء، كما يعتمد على الزخرف والتصنيع؛ حتى يصبغ هذا الديباج أو النسيج المتين بالألوان والأطياف.
ولعلك لاحظت في أثناء قراءة أبياته السالفة دقة تفكيره، وهي دقة كانت تفتح له أبوابًا من المعاني الخفية، التي تروِّع السامع بغرابتها وطرافتها من مثل قوله في الغزل:
إن كنت تسقين غير الراح فاسقيني ... كأسًا ألذُّ بها من فيكِ تشفيني
عيناك راحي، وريحاني حديثُك لي ... ولونُ خدَّيك لونُ الورد يكفيني
وقوله:
يا واشيًا حسنت فينا إساءته ... نجي حذارك إنساني من الغرق
وقوله في الخمر :
شققنا لها في الدَّنِّ عينًا فأسبلت ... كألسنةِ الحيَّات خافت من القتلِ
وقوله في الساقي :
يسقيك بالألحاظِ كأسَ صبابةٍ ... ويديرها من كفِّه جِرْيالا




8-الإمام الشافعي
ب-شخصيته : يعد الشافعي من أنبغ أدباء اللغة وكتابها وشعرائها , فقد بدأ بعد ما ختم القرآن الكريم بحفظ الشعر وروايته وشافه العرب في البادية ويسمع منهم ويحفظ لغتهم ويتدرب على أساليبهم حتى غدا أفصح أهل عصره وقد بقي في قبيلة هذيل سبعة عشر عاما ً راحلا ً برحلتهم ونازلا ً بنزولهم يتعلم أشعار العرب وآدابهم وأخبارهم في مكة وقد كان يحضر مجالس الشافعي أهل العربية للإفادة من لغته وأسلوبه وبلاغته وقد ربحته العربية أديبا ً مشهورا ً وعالما ً مجتهدا ً مدافعا ً عن السنة النبوية عليما ً بإسرارها خبيرا ً بدلالاتها وعللها بجزالة بيانه لإتقانه لكتاب الله تعالى حفظا ً وتعمقا ً ولذلك كان حجة في اللغة والنحو يحتج بكلامه كما يحتج بالبطن من العرب الفصحاء وقد شهد بذلك علماء اللغة والنحو كموسى بن أبي الجارود وأحمد بن حنبل وأيوب بن سويد وأبو عبيد ثعلب وعبد الملك بن هشام النحوي .
وقد جمع الشافعي بين موهبة الفطرة وملكة الاكتساب من تعلمه في قبيلة هذيل التي نبغ فيها أكثر من سبعين شاعرا ً وقد كان يقصد إلى الشافعي لتلقي شعر الهذليين أو تصحيحه كما فعل الأصمعي . وقد كان الشافعي يقول أروي لثلاثمائة شاعر مجنون بالإضافة إلى ما صححه الأصمعي من شعر الشمنفري وقد كان الشافعي في أول أمره متفقها ً غلب عليه الاجتهاد الأدب والفقه ولقد شهد للشافعي رضي الله عنه زعيم البيان الجاحظ .
لقد التقت في الشافعي الموهبة والاكتساب في مختلف علوم عصره ولو شاء لكان من المجلين في شعره ولكنه صرف مواهبه وعقله وقلبه إلى السنة والفقه والاجتهاد ولذلك ترك شعرا ً جيدا ً ارتفع عن شعر الفقهاء ولم يبلغ مكانه شعر المجيدين من الفحول وقد كان يجيش صدره بقول الشعر بين الحين والحين إن دعته المناسبة وهزته لقول الشعر مع انه لم يرو عنه قصائد طويلة كالتي قالها المشهورون لأنه لم يتخذ الشعر هواية أو غاية .

موضوعات شعره: تمليها مناسبة عابرة أو حكمة اجتماعية أو دينية أو تجربة حياتية مع الناس لذلك نجد أكثر شعره يتمثل به .
ومن ذلك انه يعلن حبه لآل البيت ولو اتهم بأنه رافضي :
يا راكبا ً قف بالمحصد من فتى واهتف بساكن خيفها والناهض
سحرا ً إذا فاض الحجيج إلى من فيضا ً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضا ً حب آل محمد فليشهد الثقلان إني رافضي
وفي اشتياقه إلى وطنه غزة قائلا ً :
وإني لمشتاق إلى أرض غزة وإن خانني بعد التغرق كتماني
سقى الله أرضا ً لو ظفرت بتربها كحلت به من شعره الشوق أجفاني .
وقال في حشو الكلام وبلاغته :
لا خير في حشو الكلام إذا اهتديت إلى عيونه
والصمت أجمل بالفتى من منطق في غير حينه
وعلى الفتى لطباعه سمة تلوح على جبينه
ومن تجاربه في الحياة :
صديق ليس ينفع يوم باس قريب من عدو في القياس
وما يبقى الصديق بكل عصر ولا الخوان إلا للتآسي
عمرت الدهر ملتمسا ً بجهدي أخائفة فأكثراه التماسي
تنكرت البلاه علي حتى كأن أناسها ليسوا أناسي
أما ما يتمناه من الأصدقاء فهو :
أحب من الإخوان كل موات وكل غضيض الطرف عن عثرات
يصاحبني في كل أمر أحبه ويحفظني حيا ً وبعد مماتي
فمن لي بهذا البيت إني أصبته أصبته فقاسمته مالي مع الحسنا ت
وطلب الشاعر عباس بن الأزرق الشافعي أن يجيزه في أبيات قالها متحديا ً :
قال عباس بن الأزرق :
ما همتي إلا مقارعة العدا خلق الزمان وهمتي لم تخلق
والناس أعينهم إلى سليب الغنى لا يسألون عن الجحاد الاولق
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بنجوم أقطار السماء تعلقي
فأجابه الشافعي :
إن الذي رزق اليسار فلم يصب أجرا ً ولا حمدا ً لغير موفق
فإذا سمعت بأن مجدودا ً حوى عودا ً فأثمر كل باب مغلق
وإذا سمعت مجدودا ً أتى ماء ً ليشربه فغاض مخفق
ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وأحمق خلق الله بالهم امرؤ ذو همة يبلى بعيش ضيق
وقد كتب الشافعي شعرا ً مثبوتا ً في معاجم الأدباء وحليمة الأولياء وتاريخ بغداد وطبقات الشافعية .
















9-عبد الله بن المعتز
أ-حياته ونشأته :ولد سنه 247 تبين أنه لم يعمر من تسع وأربعين سنه
ارتقى الخلافة ليوم اسمه عبد الله ويكنى أبا العباس وأبوه الخليفة المعتز بالله بن الخليفة المتوكل بن الخليفة المعتصم بن الخليفة هارون الرشيد بن الخليفة المهدي بن الخليفة المنصور ، إي أنه في حقيقة أمره ملك من نسل ستة ملوك عباسيين .
أما قصة توليه الملك ليوم وليلة فتتخلص في أن جماعة من القواد الذين كان لهم الحول والطول في مصير خلفاء بني العباس في تلك الحقبة الزمنية قد تآمروا على خلع الخليفة المقتدر ووضعوا ابن المعتز مكانه وبايعوه بالخلافة وأطلقوا عليه لقب المرتضى بالله وقيل المنصف بالله وأيا ما كان لقبه فإن تسلمه كرسي الخلافة لم يمتد لأكثر من يوم واحد لأن القواد ما لبثوا إن اختلفوا على أنفسهم وأعادوا المقتدر الذي ظفر بابن المعتز وسلمه إلى من قتله . وكان ذلك في الشهر الأولى من عام 269 هـ ،
ولد سنه 247 تبين أنه لم يعمر من تسع وأربعين سنه وهو عمر قصير بالنسبة لشاعر عبقري لو كتب له فسحة في الأجل لتصورنا كم كان الشعر العربي يصيب ثمار جنية طيبة
وإذن فلقد كان ابن المعتز شاعرا متأثرا ببيئته الملكية ، وكان عهد به إلى من بثقفه تثقيفا واسعا شأن أبناء الخلفاء جميعا، فنقول ذلك أحمد بن صالح سعيد الدمشقي ، الذي روى أدبه بعد مقتله ، كما كان من أهم أساتذته أيضا أبو العباس محمد بن يزيد المبرد ، وأبو العباس ثعلب ، والحسن بن عليل العنزي المحدث آل عن الأديب ، ومحمد بن هبيرة الاسدي صاحب الفراء، وأحمد بن صالح المعروف بابن أبي فنن .
وكان ابن المعتز متحمسا لعباسيته ضد أبناء عمه الطالبيين ، الأمر الذي وضح في كثير من شعره ، كما أن نشأته المترفة طبعت شعره بطابع الغنى وتصوير محتويات القصور الأمر الذي ظهر جليا في شعره وتشبيهاته ، كما أغرم بالصيد والشراب فقدم لنا طرديات بارعة الإنشاء وخمريات رقيقة الخيال ، فضلا عن أن لمحات حزينة كثيرة احتلت أكثر من مكان ديوانه ومهما كان الأمر وإذا كانت شهرة ابن المعتز في شعره قامت على التشبيهات والصور واللوحات التي تستوقف القارئ وتثير إعجابه ، فان جوانب الشعر الأخرى مثل الخمر والغزل والوصف والمدح والشكوى والتأمل والسياسة نامية عنده مستكملة أسباب النبوغ والنضوج ، ابن المعتز أمير ثم خليفة ، ينحدر من تسلسل ملكي يبدأ من أبيه المعتز بالله وينتهي بالخليفة أبي جعفر المنصور ثم يمتد نسبة إلى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ب-شخصيته :يمثل عبد الله بن المعتز واحة أنيقة من واحات الشعر العربي وهو نسيج وحده فيما قدم لنا من صور شعرية بارعة أخاذة ومن تشبيهات مخملية أنيقة أو هي بلغة العصر ، بحيث لم يسبقه إليها شاعر عربي ولم يلحق به بعده شاعر آخر ، ومن ثم فهو يشكل مرحلة من مراحل تطور الشعر العربي مرحلة الصورة الشعرية
وهو أيضا واسع الثقافة عميق الفكرة كاتب مترسل رقيق العبارة أنيق التناول عميق المعنى بحيث يدخل في عداد الكتاب المرموقين ، فقد عالج بعض الموضوعات بقلم متمكن ودبج بعض الرسائل بأسلوب وفطنة كان معاصرا وصديقا لائمة الكتابة العربية في زمانه من بني وهب وبني ثوابه .
وابن المعتز عالم بأسرار اللغة خبير بفنون الشعر وصناعته ، ذواقة نقادة مطلع على تاريخ الأدب وطرائفه موهوب ملكة التعبير ، مرتب الفكر صافي الذهن ، ومن ثم فقد طرق باب التأليف وصنف للمكتبة العربية بضعة عشر كتابا بعضها صادف نجاحا وخلودا لأنها كانت رائدة في موضوعاتها وأهمها كتاب (طبقات الشعراء )) وكتاب ((البديع)) .
شغل عبد الله بن المعتز كثيرا من الدارسين ، وقد اجمعوا على الإعجاب به والإشادة بطرافة شعره ، فابن خلكان يقول عنه إنه كان أديبا بليغا ، شاعرا مطبوعا ، مقتدرا على الشعر ، قريب المأخذ سهل اللفظ جيد القريحة مخالطا للعلماء والأدباء معدودا في جملتهم ويصفه العباسي بقوله (( إنه أشعر الناس في الأوصاف والتشبيهات )) ويقول عنه الحصري القيرواني إنه من المنصب العالي من الشعر والنثر وفي النهاية في إشراق ديباجة البيان والغاية من رقة حاشية اللسان .
إنه فنان عالم يحسن وضع المصطلحات الفنية .. ومنهم أيضا من يرى إن الشعر العربي وصل بابن المعتز إلى أرقى وأجمل ما وصل إليه من ارستقراطية وشرف وقد اشتقهما من نفس صاحبه اشتقاقا وانتزعهما من كيانه من ارستقراطية وشرف ومنهم إنه مطبوع ليس متكلفا ولا متعملا في شعره .... وهو شغوف بفن الوصف عامة والمادي بصفة خاصة حتى تفوق فيه على سائر الشعراء والمعجبون بابن المعتز كثيرون من قدامى و محدثين ،
ج-شعره :
1-المدح :
أسهم ابن المعتز في فن المديح شأن غيره من جمهور شعراء العربية ، والفارق بينه وبين غيره من الشعراء الذين توفروا على علاج هذا الفن تقليدا وليس احترافا ، وانه لم يتكسب به ولم يكتد ، وأنه لم يمدح إلا الخلفاء والوزراء الذين نستطيع إن نحصيهم وهم المعتمد والمكتفي والمعتضد من الخلفاء وعبيد الله بن سليمان بن وهب وابنه القاسم بن عبيد الله من الوزراء والكتاب ، وربما يكون قد مدح بعض بني ثوابة وكانت الأسرة التي إليها انتهت مقاليد الكتابة على زمانه ، يضاف إلى ذلك كله أن ابن المعتز لم يتبذل ولم يتهالك في مدائحه إلا في حالات قليلة جدا ، ولذلك كله فقد كان في هذا المجال بين أمرين : إما أن يقول في ممدوحيه شعرا تقليديا ليس فيه جديد ، وذلك هو الطابع العام الذي يشيع في مدائحه مثل مدح الخليفة وتهنئته بإبلاله من مرض :
أمير المؤمنين فدتك نفسي لقيت سلامة وربحت أجرا
أو رائيته في مدح الوزير عبد الله بن سليمان بن وهب :
أيا موصل النعمى على كل حالة إلي قريبا كنت أو نازح الدار
وإما أن يعمد إلى الإغراب ويقدح زناد فكره ليأتي بجديد حتى يتفرد بين شعراء المديح بما يميزه عنهم ، وهذا الإغراب أو الجديد هو الذي يحاول تقديم أمثله له وهو يخفق ويأتي بالخشن الصعب حينا ، ويوفق ويأتي بالحسن الطريف حينا آخر . فمن المحاولات التي عمد فيها إلى الإغراب الفكري وعدم الترفق بشاعريته قوله يمدح القاسم بن عبيد الله :
أيا حاسدا يكوي التلهف قلبه إذا ما رآه غازيا وسط عسكر
تصفح بني الدنيا فهل فيهم له نظير ترى ثم اجتهد وتفكير
فإن حدثتك النفس أنك مثله بنجوى ضلال بين جنبيك مضمر
فجد وأجد رأيا وأقدم على العدا وشد عن الإثم المآزر وأصهر
وعاص شياطين الشباب وقارع النوائب وارفع صرعة الضر واجبر
فان لم تطق ذا فاعذر الدهر واعترف لأحكامه واستغفر الله يغفر
إن ابن المعتز أراد ا نياتي بصورة غريبة في المديح فشق على نفسه ولم يترفق بشاعريته وأتى بشيء غريب غير معجب .
ولكنه حين مدح عبيد الله بن سليمان والد القاسم وحاول الإبداع فإنه وفق كل التوفيق حين استمد معنى المدح من طبيعة الممدوح وثقافته ، وكان كاتبا ذا مكانة في فنه وأدبه فقال :
عليم بأعقاب الأمور كأنه بمختلسات الظن يسمع أو يرى
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه تفتح نورا أو تنظم جوهرا
وهي صورة بهيجة جمعت بين الوصف الجميل والمديح الرقيق ، الأمر الذي عرف به ابن المعتز وصار سمة من سماته .
ومن المحاولات الناجحة لابن المعتز في مجال المديح محاولته التي مدح فيها المعتضد وعرج فيها على تهنئته بقصر ((الثريا )) الذي أبدع الفنانون في بنائه وتنسيقه وغرس بستان أنيق حوله وشق انهار صغيرة يجري الماء فيها عذبا سلسالا ، سلمت أمير المؤمنين على الدهر ولا زلت فينا باقيا واسع العمر
حللت الثريا خير دار ومنزل فلا زال معمورا وبورك من قصر
ولا يلبث ابن المعتز أن يلفت من موقف المديح التقليدي الكريه على نفسه ليخلص إلى وصف القصر الجديد وفيه يتخلص من مأزقه ويبدع في الصور التي يأتي بها في هذا السبيل:
جنان وأشجار تلاقت غصونها فأورقن بالأثمار والورق الخضر
ترى الطير في أغصانهن هواتفا تنقل من وكر لهن إلى وكر
هجرت سواها كل دار عرفتها وحق لدار غير دارك بالهجر
وبنيان قصر قد علت شرفاته كصف نساء قد تربعن في الأزر
وانهار ماء كالسلاسل فجرت لترضع أولاد الرياحين والزهر
وميدان وخش تركض الخيل وسطه فيؤخذ منها ما يشاء على قدر
إذا ما رأت ماء الثريا ونبته يسير وثوب الكلب فيهن والصقر
عطايا اله منعم كان عالما بأنك أوفى الناس فيهن بالشكر
2-شعره السياسي :
يعدابن المعتز المدافع الحقيقي عن العباسيين في وجه الطالبيين هو شاعرهم وأميرهم عبدالله بن المعتز ، لقد كان ابن المعتز شاعر بني العباس الأول ، المدافع عن حقهم في الخلافة المجادل في لين حينا وفي عنف حينا آخر حجج الجناح الآخر من الأسرة الهاشمية وهو جناح الطالبيين .
يقول ابن المعتز في إحدى قصائده ، موجها القول إلى الطالبيين ، ذاكرا لهم جانبا من تاريخهم مع بني أمية ، مبينا أنهم لم يستطيعوا استرجاع الخلافة منهم حتى سالت دماؤهم فنهض العباسيون للآخذ بثأرهم وهزموا بني أمية وقضوا على ملكهم وبالتالي أصبحت الخلافة حقا لهم.
أبى الله إلا ما ترون فما لكم عتاب على الأقدار يا آل طالب
تركناكم حينا فهلا أخذتم تراث النبي بالقنا والقواضب
زمان بني حرب ومروان ممسكو أعنة ملك جائر الحكم غاصب
ألا رب يوم قد كسوكم عمائما من الضرب في الهامات حمر الذوائب
فلما أراقوا بالسيوف دماءكم أبينا ولم نملك حنين الأقارب
فحين أخذتم ثأركم من عدوكم قعدتم لنا تورون نار الحباحب
وحزنا التي أعيتكم قد علمتم فلما ذنبناهل قاتل مثل سالب ؟
عطية ملك قد حيانا بفضله وقدرة رب جزيل المواهب
وليس يريد الناس أن تملكوهم فلا تثبوا فيهم وثوب الجنادب
ويقول ابن المعتز زاعما أن نبي العباس وهو عم النبي أولى بإرثه من بني بنته ، وقد غاب عنه أن الأنبياء لا يورثون وأن الخلافة نفسها لا تورث ، لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك ، ولكن ابن المعتز محامي العباسيين والناطق بلسانهم يردد هذه الحجج وغيرها قائلا :
قتلنـا أمية في دارهـا ونحن أحق بأسلابها
وكم عصبة قد سقت منكم الخلافة صابا بأكوابها
إذا مـا دنوتـم تلقتكـم زبونا وقرت بحلابها
ولما أبى الله أن تملكوا نهضنا إليها وقمنا بها
وما رد حجابها وافدا لنا إذ وقفنا بأبوابها
كقطب الرحى وافقت أختها دعونا بها وغلبنا بها
ونحن ورثنا ثياب النبي فكم تجذبون بأهدابها ؟
لكم رحم يا بني بنته ولكن بنو العم أولى بها
إلى أن يقول :
فمهلا بني عمنا إنها عطية رب حبانا بها
وكانت تزلزل في العالمين فشدت ألينا بأطنابها
وأقسم أنكم تعلمون بأنا لها خير أربابها
ويستبد الحماس بابن المعتز لبني قومه فيخرجه حماسه عن الجادة حين يتورط تورطا غير كريم في إجراء مقارنة بين أبي طالب والعباس عمي الرسول ، ويلمح إلى أنابا طالب في النار والعباس في الجنة ، وأعطى لنفسه ما ليس من حقه ، فالله وحده يعلم أين الرجل العظيم الذي كفل محمدا اليتيم من بعد جده ورعاه شابا وحمى رسالته نبيا والمنسوب إليه قوله .
ولقد علمت بأن دين محمد هو خير أديان البرية دينا
ولكنها السياسة وجاه الملك والحرص عليه تدفع بعض الناس إلى التهاون في حقوق العظماء والتعريض بهم من حيث يستحقون الإجلال والإعظام .
إن ابن المعتز يستغل هذه الثغرة ، ثم يندفع في توجيه تهديدات وتحذيرات دامية إلى بني عمه الطالبيين إذا هم استمروا في السعي إلى اقتناص الخلافة قائلا :
يا بني عمي إلى كم وحتى ليس ما تطلبونه يستقيم
أأبو طالب كمثل أبي الفضل أما منكم بهذا عليم ؟
سائلوا مالكا ورضوان عن ذا أين هذا ؟ وأين هذا مقيم
وعلي فكابنه غير شك واجب حقه علينا عظيم
فدعوا الملك نحن بالملك أولى قد أقرت لنا بذاك الخصوم
3-غزله :
كلف ابن المعتز بالغزل ، وبالغ في صوره التي رسمها مبالغة واضحة سواء أكان غزلا وصفيا أو غزل شكوى ، و متطلبات الغزل من مكابدة ولوعة وصبابة لا تكاد تقتنع بصدق ابن المعتز فيها وبالتالي فنحن لا نستطيع أن ننظمه في سلك العاشقين ، ولكنه غزل المترفين الذين ينتقلون بين قلوب الغانيات يصورون مشاعر طارئة أو مغامرات متكررة ، وإذا كنا لا نلمس صدقا في غزل ابن المعتز فإننا لا نعدم فيه مواطن لطف تناول وحسن تعليل ودقة تصوير ، فمن غزله الذي يمكن إن ينال إعجابا عابرا قوله.
يا من يسارقني النظر وإذا نظرت إليه فر
ما لي أرى لحظات عينك عندنا لا تستقر
إن كنت تبخل بالكلام فلا أقل من النظر
جسمي يقول بسقمه عندي من الحب الخبر
ويصور ابن المعتز الغيرة التي هي دليل الحب وخدينه بشيء من الغلو والتطرف ولكن في معنى رقيق في قوله:
أغار عليه من ألحاظ قلبي إذا ما صورته أفكار فكري
فكيف ترى أكون إذا رأته عيون الناس في أضحى وفطر
وكان لابن المعتز محبوبة يردد اسمها كثيرا في شعره تارة باسم شرة وأخرى باسم شرير وكان متعلقا بها أشد التعلق ، وهو يذكرها في نطاق من الطرافة وأسلوب المداعبة حين يقول :
يا وجه شرة يا أخا البدر أرضيت بالأعراض والهجر
وتركتني وحججت معتمرا طوبى لركن البيت والحجر
ويرق ابن المعتز ويطرف حين يتعلل لشبيه بالأعذار فيقول :
صدت شرير وأزمعت هجري وصغت ضمائرها إلى الغدر
قالت : كبرت وشبت ، قلت لها هذا غبار وقائع الدهر
ويعبرابن المعتز بصورة جديدة فريدة عن الليل حين يقول :
ترى الشمس قد مسخت كوكبا وقد طلعت في عداد النجوم
ويعمد ابن المعتز أحيانا إلى مزج الغزل بالشكوى فيصيب رقة في القول خفيفة على السمع حين يقول :
لمتني يا مسيء والذنب ذنبك ويح نفسي حسبك الله ربك
لا تحاول بحبس كتبك قتلي قد تولى الفراق قتلى فحسبك
وإذا ما ذكر ابن المعتز صاحبته ((شرة)) رق شعره وعذب أسلوبه وقربت معانيه إلى الخاطر وكأنها صادرة عفوه ، فلنقرأ له هذه الأبيات الرقيقة :
عبق الكلام بمسكة نفحت من فيه ترضي من يعاتبه
نبهته والحي قد رقدوا مستبطنا عضبا مضاربه
فكأني روعت ظبي نفا في عينه سنة تغالبه
ومن معاني الحب المتسمة بالعزة والإباء عند ابن المعتز مع تلاعب جميل بالألفاظ قوله:
إن عيني قادت فؤادي إليها عبد شوق لا عبد رق لديها
فهو بين الفراق والهجر موقوف بحزن فيها وحزن عليها
إن غزل ابن المعتز صورة دقيقة لشخصيته رقة وشاعرية مع تهتك سافر حينا مقنعا حينا آخر ، وهو في كل أحواله معجب مطرب صوغا وصورة ، سطحي متصنع في عواطفه وصبابته ،
4-الحكمة والتشاؤم :
لم تمنع حياة الترف شاعرنا أسباب الحكمة إذا ما عمد إلى التفكير ، وليس ببعيد على مقدرته القول الحكيم المزود برصين الفكر الصافي وأبعاد الإحساس الواقعي العميق في فترة صحو أو ساعة تدبر ، إذ لم تكن حياة شاعرنا سوءا كلها .
يقول ابن المعتز في فلسفة الأيام وصنوف البشر وحكمة الخالق:
طال ليلي وساورتني الهموم وكأني لكل نجم غريم
ساهرا هاجرا لنومي حتى لاح تحت الظلام فجر سقيم
دام كر النهار والليل محثو ثين ذا منبه وهذا منيم
ورحى تحتنا وأخرى علينا كل مرء فيها طحين هشيم
وسرور وكربة وافتقار وبريق كزخوف لا يدوم
ومعافى وذو سقام وحي وحبيس تحت التراب مقيم
وغوي عاص وبر تقي واستبان المحمود والمذموم
وبخيل وذو سخاء ولولا بخل هذا ما قيل هذا كريم
وترى صنعه تخبر عن خا لقنا انه لطيف حكيم
إنها نظرات فاحصة عميقة متدبرة تنفحص في عمق طبائع الناس وتستعرض في ثقة أخلاقهم و سلوكهم ثم تنتهي هذه النظرات المجرية بالوصول إلى الخالق الحكيم
وتمر بشاعرنا فترات ضيق كتلك التي يتعرض لها كل إنسان في هذه الحياة فلا يأبه لحسبه ولا يهتم لأدبه ولا يلتفت إلى عبقريته وإنما يتمنى أن يكون واحدا من الخاملين في ظل الأمان ، أو صاحب حظ في ظل الجهل ، فيعبر عن ذلك أدق تعبير بقوله
من يشتري حسبي بأمن خمول من يشتري أدبي بحظ جهول
ساء الزمان وأوجعتك صروفه وعسى الزمان يسر بعد قليل
وابن المعتز يؤمن بقضاء الله وقدره ، وهو متشائم في بعض الأحيان استجابة لمشاعر مقبضة كسيفة تلم به ، فيعبر عن ذات نفسه في صدق وعمق وتسليم .
مسهد في ظلام الليل أواه عضته للدهر أنياب وأفواه
إن كان يخطئ سمعي ما أقدره فليس يخطئ ما قد قدر الله
ويشكو ابن المعتز من الدهر والمشيب ونهاية الحياة وفقد الأحباب وسكناهم بطن الأرض فيقول :
آخى عليك الدهر مقتدرا والدهر ألام غالب ظفرا
ما زلت تلقي كل حادثه حتى حناك وبيض الشعرا
لله إخوان فقدتهم سكنوا بطون الأرض والحفرا
أين السبيل إلى لقائهم أم من يحدث عنهم خبرا
ويشغل التفكير في الموت شاعرية ابن المعتز فيترجم عن مشاعره نازعا إلى المتاب معترفا بالذنب طامعا في العفو فيقول :
إلى أي حين كنت في صبوة اللاهي أما لك في شيء وعظت به ناه
ويا مذنبا يرجو من الله عفوه أترضى بسبق المتقين إلى الله
ويفكر ابن المعتز في الموت تفكيرا طويلا وتسطير على تفكيره وتستبد به فكرة التوبة فيذكر سكان القبور واستحالة تزاورهم على قرب المحلة والدار ، اعتبارا بالموت وتذكيرا بالآخرة ،
وسكان دار لا تزاور بينهم على قرب بعض في المحلة من بعض
كأن خواتيما من الطين فوقهم فليس لها حتى القيامة من فض
5-فخره :
تنزع النفس إلى الفخر بما تراه مآثر انفردت بها دون غيرها ، أو محامد اتصفت لها في مجتمعها أو صفات خاصة استأثرت بها ورأت فيها فضلا وامتيازا .
ويفخر ابن المعتز بفروسية وبطولة في الحرب لغلبة تصورها في حلم يقظة مع أنه لم يعرف أنه خاض حربا أو شارك في معركة ، يقول ابن المعتز مفتخرا :
ولي صارم فيه المنايا كوامن فما ينتضى إلا لسفك دماء
ترى فوق متنيه الفرن دكانه بقية غيم رق دون سماء
ويقول مفتخرا :
وليل ككحل العين خضت ظلامه بأزرق لماع وأبيض صارم
ومضبورة الأعضاء حرف كأنها تصافح رضراض الحصى بمناسم
وفي مجال الفخر بالكرم والعفة يطرق ابن المعتز هذا المعنى
وما زلت مذ شدت يدي عقد مئزري غناي لغيري وافتقاري على نفسي
ودل علي الحمد مجدي وعفتي كما دل إشراق الصباح على الشمس
وابن المعتز هاشمي عباسي أمير من بيت الملك ، فلا عليه إذا ما تمثل نفسه ضمن واقعة وانشد أبياتا طويلة يتيه فيها بالنعمى ، ويدل من خلالها بالغنى والعزة ، يطلق لنفسه عنان الفخر المتطرف بفروسيته التي جعلت منه وحده جيشا جرارا إذا تحرك وقد امتطى جوادا كميتا
هاشمي إذا نسيت ومخصوص ببيت من هاشم غير عار
اخزن الغيظ في قلوب الأعادي وأحل الجبار دار الصغار
ولي الصافنات تردي إلى الموت ولا تهتدي سبيل الفرار
وسيوف كأنها حين هزت ورق هزها سقوط القطار
أنا جيش إذا غدوت وحيدا ووحيد في الجحفل الجرار

6-الصيد والطردعنده :
كان ابن المعتز واحدا من الذين اغرموا بالصيد ، ينشئ طرديات محبوكة السبك جيدة الصنع مليئة بالصور والحركات والمعاني والتشبيهات ، إن شعر الطرد يعتبر من أدق أساليب الوصف في الشعر العربي ، فيه حركة وتلوين وإجمال وتخصيص وكر وفر ، والطبيعة في نطاق الليل والفخر والنور والسماء والنجوم تدخل بدورها طرفا فيه ، هذا فضلا عن وصف الخيل والكلاب والفهود والصقور والبزاة والطرائد من ظباء ومها ووحوش ، وها هو ابن المعتز يقدم لنا واحدة من أجمل طردياته يصف فيها خيول الصيد وكلابه وصفا دقيقا قديرا كما يصف مطاردتها للظباء الرتع في المراعي وشكل المطاردة في ميدان المعركة بين كلب الصيد وضحاياه ، عامدا إلى رسم الصور وخلق التشبيهات العديدة التي انفرد بها وفرة واتقانا دون غيره من شعراء عصره ، يقول ابن المعتز مبتدئا بوصف الفجر والخيل :
لما تعرى الأفق بالضياء مثل ابتسام الشفة اللمياء
وشمطت ذوائب الظلماء وهم نجم الليل بالإعفاء
قدنا بعين الوحش والظباء داهية محذورة اللقاء
شائلة كالعقرب السمراء مرهفة مطلقة الأحشاء
كمدة من قلم سوداء أو هدبة من طرف الرداء
تحملها أجنحة الهواء تستلب الخطو بلا إبطاء
ثم يصف كلب الصيد وصفا دقيقا وكأنما يرسم له صورة ملونة قائلا :
ومخطف موثق الأعضاء خالفها بجلده بيضاء
كأثر الشهاب في السماء ويعرف الزجر من الدعاء
بإذن ساقطة الإرجاء كوردة السوسنة الشهلاء
ذا برثن كمثقف الحذاء ومقلة قليلة الأقذاء
صافية كقطرة من ماء تنساب بين أكم الصحراء
مثل انسياب حية رقطاء آنس بين السفح والفضاء
ويستطرد الشاعر واصفاالظباء وبيئتها :
سرب ظباء رتع الأطلاء في عازب منور خلاء
أحوى كبطن الحية الخضراء فيه كنقش الحية الرقشاء
كأنها ضفائر الشمطاء يصطاد قبل الأين والعناء
خمسين لا تنقص في الإحصاء وباعنا اللحوم بالدماء
يا ناصر اليأس على الرجاء رميت بالأرض على السماء
ولم تصب شيئا إلى الهواء فحسبنا من كثير العناء
هناك هذا الرمي يا ابن الماء




د-صنعة عبد الله بن المعتز:
في شعرابن المعتز رقة الملوكية وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين و فيه أشياء كثيرة تجري في أسلوب المجيدين ولا تقصُر عن مدى السابقين، وأشياء ظريفة من أشعار الملوك ،لقد كان شاعرًا محسنًاأميرًا مترفًا، لم يُتِحْ له ترفه أن يتعمق الثقافة والفلسفة ، وهو كذلك لم يتعمق وسائل التصنيع الحديثة، فإنه لم يعرف العمق في شيء؛ إنما عرف اللهو والنعيم، وعبر عن ذلك أجمل تعبير بقوله:
شربنا بالكبيرِ وبالصغيرِ ... ولم نحفِل بأحداث الدهورِ
لقد ركضتْ بنا خيلُ الملاهي ... وقد طِرنا بأجنحة السرورِ
وابن المعتز كان من ذوق المصنِّعين، فالتصنيع والزخرف أساسيان في حياته، وهما كذلك أساسيان في فنه. بدت فيه منذ نشأته نزعة إلى الغناء والموسيقى ضاعفت حسه بالجمال كما ضاعفها ترفه ونعيمه، فالترف يتيح ضربًا معقدًا من التصنيع في شئون الحياة والحق أن التصنيع كان مادة أصلية في حياته، وسرى منها إلى فنه؛ فهو يعيش في شعره كما يعيش في حياته معيشة تعتمد على التأنق والتنميق.
كان ابن المعتز شاعرًا مصنعًا من أصحاب مذهب التصنيع، وكان يعجب بهذا المذهب إعجابًا شديدًا دعاه إلى أن يكتب في أدواته وزخرفه كتابه "البديع" وهو يشهد له بأنه كان فنانًا عالِمًا يحسن وضع المصطلحات الفنية، لم يتعمق في فهم جوانب التصنيع والزخرفه ، فهِمَ الزخرف الحسي: زخرف الجناس والطباق والتصوير والمشاكلة، ولكنه لم يفهم الزخرف العقلي، ولذلك لم يسقط في كتابه أي تعريف بلون من ألوانه سوى ما سماه بالمذهب الكلامي. فهو الذي انحاز بالبديع العربي إلى الزخرف المادي، وجعله لا يهتم اهتمامًا واسعًا بالزخرف العقلي أو المعنوي
وكان ابنُ المعتز يعنى بزخرف التصوير في شعره عناية شديدة، ولكن أي تصوير؟ إنه ليس هذا التصوير الفلسفي الذي يمزج بنوافر الأضداد، وهو أيضًا ليس التصوير الحسي الذي يحلله أبو تمام إلى أصباغه التي تحدثنا عنها من تجسيم وتدبيج وتشخيص؛ إنما هو تصوير من نوع آخر لا يحتاج تأملًا عميقًا، أو هو بعبارة أدق صبغ آخر من أصباغ التصوير؛ ولكنه ليس صبغًا معقدًا ولا مركبًا، ونقصد: صبغ التشبيه، فقد شغف به شغفًا شديدًا كاد لا يبقى فيه بقية لزخرف آخر من زخارف المدرسة. وكان لذلك الزخرف عنده طرافة خاصة، فإنه استطاع أن يحول هذا الصبغ المحدود إلى صبغ له طاقة واسعة، بل لقد خرج عن نطاقه القديم وأصبح صبغًا مستقلًا له أوضاعه التي لا تحصى، وفي هذا الوعاء من أوعية التصوير يظهر تصنيعه ويظهر أيضًا تفوقه على شعراء عصره؛ فقد اختص بصبغ واحد من أصباغ لون واحد من ألوان التصنيع، ولكن عرف كيف يحوله إلى صبغ واسع ويستخرج منه ما لا يحصى من صور وأوضاع. وكان النقاد القدماء يعرفون له هذا الجانب. يقول ابن رشيق: "إن ابن المعتز يغلب عليه التشبيه" ، ويقول صاحب معاهد التنصيص: "هو أشعر الناس في الأوصاف والتشبيهات" ، وامتلأت كتب النقد والبلاغة بأوصافه، وأشاد به عبد القاهر الجرجاني في غير موضع من كتاباته.
وطبيعي أن يعدل ابن المعتز بتصنيعه إلى التشبيه؛ لأنه لا يحتاج بعدًا في الخيال ولا عمقًا في التصوير، وكأني به قال: دَعْني أبدِّل قيثارتي بلوحة الألوان، ولكنه حين انتقل هذه النقلة لم يحسن استخدام جميع الألوان التي تركها أبو تمام، بل لم يحسن استخدام لون التصوير نفسه؛ فقد انحاز إلى صبغ واحد من أصباغه وهو صبغ التشبيه، وترك الأصباغ الأخرى من تدبيج وتجسيم وتشخيص؛ غير أن من الحق أن نحمد لابن المعتز صنيعه بهذا الصبغ، فقد حوَّله إلى صبغ واسع وراح يستخرج منه أوضاعًا لا تحصى يزيِّن بها شعره ويجمله وهنا يأتي تصنيعه، فصبغ التشبيه أصبح عنده صبغًا ثريًّا بأوضاعه المتضاربة.
وليس من شك في أن هذه مقدرة ممتازة، تلك التي استطاع بها ابن المعتز أن يحول صبغ التشبيه إلى ما يشبه اللون الأخضر مثلًا في الطبيعة؛ فإذا هو على ضروب وأوضاع مختلفة، وإذا لكل ضرب ووضع روعة فاتنة. وإنها لمهارة تلك التي يستطيع صاحبها أن يؤلف لوحة من لون واحد فإذا هو زاهٍ أو باهت في بعض الجوانب، وإذ هو يتراوح بين هذين الصبغين إلى ما لا يحصى من أصباغ في الجوانب الأخرى. وحقًا أن ابن المعتز أظهر مهارة واسعة في هذا الصبغ من أصباغ التصوير؛ إذ عرف كيف يحول صبغًا محدودًا إلى صبغ واسع، ثم أخذ يستخرج منه أوضاعًا مختلفة حتى لا يحس قارئه بتكرار في المنظر؛ فهو لون واحد، بل هو صبغ واحد، ولكن الشاعر المصنِّع بارع؛ إذ يجعلنا نخطئ في الحس والتقدير، ونظن أننا نرى لونًا واسعًا له أوضاعه الكثيرة التي تنقلنا من عالمنا الحسي إلى عالم خيالي واهم. واقرأ هذه الأبيات إذ يقول في النرجس:
كأن أحداقَهَا في حسنِ صورتِهَا ... مداهنُ التبرِ في أوراقِ كافورِ
أو يقول فيه:
كأن عيونَ النرجسِ الغضِّ حولها ... مداهنُ درٍّ حشوهن عقيقُ
أو يقول في النارنج:
وأشجارُ نارنج كأن ثمارَهَا ... حقاقُ عقيقٍ قد مُلئن من الدرِّ
أو يقول في الآذريون:
كأنَّ آذريونها ... والشمسُ فيه كاليه
مداهنٌ من ذهبٍ ... فيها بقايا غاليه
أو يقول في الهلال:
انظرْ إليه كزورقٍ من فضَّة ... قد أثقلته حمولةٌ من عنبرِ
ويقول فيه:
انظرْ إلى حسنِ هلالٍ بدا ... يهتكُ من أنوارِه الحِندِسا
كمنجلٍ قد صيغَ من فضةٍ ... يحصدُ من زهر الدجى نرجِسا
أو يقول في قمر مشرق نصفه: "كأنه مجرفة العطر"؛ فقد استطاع ابن المعتز بهذه الأوضاع من التشبيه ونظائرها أن يطوف بنا في قصور من الوهم والخيال تحكي قصور ألف ليلة وليلة. وفي هذه القصور الخيالية يعيش من يقرأ في ديوان ابن المعتز؛ فإذا هو يرى مداهن من تبر، كما يرى كثيرًا من أواني الذهب والفضة المرصَّعة بأنواع الجواهر واللآلئ. إن التشبيه صبغ واحد ولكن ابن المعتز عرف كيف يحلِّله وكيف يستخرج منه أوضاعًا لا تحصى. وهذا هو سبب ما نزعمه من أنه شاعر مصنِّع؛ بل هو شاعر يعقد في التصنيع، فقد أخذ صبغًا واحدًا من أصباغه وذهب يعقده ويستنبط منه ما لا يحصى من أوضاع رائعة، وهل هناك أروع من هذا الهلال الذي يشبه منجلًا من فضة؟
وذهب ابن المعتز يكثر من أوضاع هذه الصور والتشبيهات في شعره، ويفرط فيها إفراطًا شديدًا، حتى لتظهر في قصائده على هيئة صفوف متلاحقة؛ ففي كل جانب منها صورة أوتشبيه، وهي صور وتشبيهات ما يزال ابن المعتز يحاول أن يحدث بها طرافة في شعره؛ فهي كل ما يقدمه للفن من زينة وجمال. لم يضع ابن المعتز همَّه في إحداث تنويع واسع في زخرف شعره؛ فقد رفض الزخرف العقلي أو بعبارة أدق لم يستطع أن يستخدمه، وهو كذلك لم يستطع أن يستخدم جميع أوعية الزخرف الحسي؛ فقد انحاز إلى التشبيه، وذهب يطرز به قصائده، ويوشي به أبياته. وأظهر في براعة لم تُتَحْ لشاعر من قبله، وهل هناك أبرع من هذا التشبيه؛ إذ يقول:
ريمٌ يتيهُ بحسنِ صورتِهِ ... عبثَ الفؤادِ بلحظ مقلتِهِ
وكأنَّ عقرب صُدغه وقفت ... لما دنت من نارِ وجنتهِ
فهذه صورة رائعة روعة شديدة لما أشاعه فيها جمال وبعث من نار، هي نار الوجنات أو هي نار الفن، وما أشبهها بهذه القطع من الشمس التي كان يلقيها الساقي في أقداح جماعته؛ إذ يقول:
وكأن كفيه تقسم في ... أقداحنا قطعًا من الشمسِ
كان ابن المعتز بارعًا في صنع الصور والتشبيهات، وهي براعة نرى آثارها في كل مكان من ديوانه، ومن الصعب أن نجمعها في حيز محدود في صحيفة أو صحف، ومع ذلك فمن المحقق أنه كلما جمع ناقد منها طائفة خرجت إليه أصباغ تحكي أصباغ الطيف أصباغ للون واحد؛ ولكنه لون معقد يعقده ابن المعتز، ويستخرج منه أوضاعًا متضاربة يشيع فيها النور والجمال والحياة، وانظر إلى قوله:
وزوبعةٍ من بناتِ الرياحِ ... تريك على الأرض شيئًا عجب
تضمُّ الطريد إلى نحرها ... كضمّ المحبة من لا يحبّ
أرأيت إلى هذه الصورة؟ إنها صورة خيالية رائعة لا بد لها من خيال فنان حتى يعرضها على أنظارنا؛ فإذا هذا العناق الغريب. وانظر إلى قوله:
ودنا إليَّ الفرقدان كما دنت ... زرقاءُ تنظر في نقابٍ أسود
فإنك ترى ابن المعتز يعرف كيف يطرف قارئه بالصور الغريبة وإنها لصور نادرة. هي ليست صورًا جامدة من تلك التي تواضع عليها الشعراء وأصبحت متحجرة في اللغة، إذا فقدت نضرتها وبهجتها؛ بل هي حية ناضرة وكأنما نقشت رسومها بالأمس، نقشها شاعر كان صبًّا ببعث الحياة والحركة في صوره حتى ليحس من يقرأ في ديوانه كأنه يعيش في دار من دور الصور المتحركة، فما يزال يرى مناظر وأشكالًا من شخوص ووجوه. وهي وجوه مستعارة، ولكنها تعبر عن روعة الفن بأجمل مما تعبر عنه الوجوه الحقيقية. وانظر إلى صورة الليل وهذا الوجه الحبشي.
قد أغتدي والليلُ في إهابه ... كالحبشي مالَ عن أصحابِهِ
والصبحُ قد كشَّف عن أنيابِهِ ... كأنه يضحك من ذهابِه
فإنك ما تلبث أن تستغرق في الضحك من هذا الحبشي أو هذا الوجه المستعار؛ بل إنه لوجه حقيقي يعبر عن حقيقة مظلمة وراءه، ولكن سرعان ما يخلفه وجه آخر ضاحك، وهو وجه الصباح الجميل.
وعلى هذا النمط ما نزال نرى في شعر ابن المعتز صورًا متحركة قد أعطاها أوضاعًا تؤكد حقيقتها وتجعلنا كأننا نلمسها ونشاهدها، وهل هناك صورة تثبت في الذهن كهذه الصورة التي أخرج فيها الصبح بعد المشتري:
والصبح يتلو المشتري فكأنه ... عريانُ يمشي في الدجى بسراج
إنها صورة عارية، وقد يؤذينا هذا العري؛ ولكنا لا نرتاب في أنه يثبت الصورة في عقولنا، ومن ينسى هذا الصبح الذي ذكره ابن المعتز؟ من ينسى هذا العريان وسراجه الذي كان يحمله في الدجى فيكشف عن نيته ويفصح عن عزيمته؟ وانظر إليه يعود إلى تصوير الصبح فيقول:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نُطير غرابًا ذا قوادم جونِ
وكذلك صور اختلاط الظلام بالضياء قائلا:
وكابدنا السُّرى حتى رأينا ... غراب الليل مقصوصَ الجناحِ
فأنت تراه يجنح في هذا البيت إلى التفصيل في صورة الغراب بأكثر مما صنع في البيت السابق؛ إذ عبر عن القِصَر الذي يصيب أطراف الليل بهذا القصِّ الغريب لجناح الغراب، وكل ذلك ليضبط الصورة ضبطًا دقيقًا.إن ابن المعتز كان يحسن استخدام صبغ التشبيه إحسانًا شديدًا؛ فإذا هو يستخرج منه تلك الصور والأوضاع الكثيرة ، وانظر إليه يصف الرياض في منظومته "ذم الصّبوح"؛ إذ يقول:
ألا ترى البستان كيف نوَّرا ... ونشر المنثورَ زهرًا أصفرا
وضحك الوردُ إلى الشقائق ... واعتنق القطرَ اعتناقَ وامقٍ
في روضة كحلل العروس ... وخرَّم كهامة الطاوس
وياسمين في ذرى الأغصان ... منتظم كقطع العِقْيَانِ
والسَّرو مثل قضب الزبرجدِ ... قد استمد العيش من ترب ند
على رياض وثرى ثري ... وجدول كالمبردِ المجلي
وأخرج الخشخاش جيبًا وفتقْ ... كأنه مصاحفٌ بيضُ الورق
أو مثل أقداحٍ من البلور ... تخالها تجسَّمت من نور
وبعضها عُريانُ من أثوابه ... قد خجل البائس من أصحابِه
تبصِرُه بعد انتشار الوردِ ... مثل الدبابيس بأيدي الْجُندِ
والسوسنُ الأبيضُ منشور الحلل ... كقطنٍ قد مسه بعض البلل
وقد بدت منه ثمار الكَنْكَرِ ... كأنه جماجمٌ من عنبرِ
وحلق البهارِ بين الآسِ ... جمجمةٌ كهامةِ الشَّمَّاس
وجلَّنارٌ كاحمرارِ الخدِّ ... أو مثل أعرافِ ديوكِ الهندِ














10-كلثوم بن عمرو العتابي – 220 هـ
أ-حياته ونشأته :كلثوم بن عمروالتعابي من أهل قنسرين غير بعيد من حلب ، وهو من ولد عمرو بن كلثوم الشاعر الفارس صاحب المعلقة وسيد تغلب في الجاهلية ، وليس ببعيد أن يكون العتابي قد ورث ملكة الشعر من بني قومه ، ذلك أن حبل الشعر فيهم ظل موصولا لأزمنة متتابعة ، فمن شعراء تغلب في الإسلام كعب وعميرة ابنا جعيل ، والأخطل والقطامي وتميم بن جميل ثم بنو حمدان – وكانوا جميعا شعراء – وعلى رأسهم الشاعر الأمير الحارث بن أبي العلاء المعروف بابي فراس . وقد كان التعابي يعتز بنسبه هذا الذي ينتهي به إلى عمرو بن كلثوم وان كان يذكر ذلك في إطار من الشعور بالحسرة للفارق الشديد بينه وبين جده الأعلى يتجلى ذلك في قوله :
إني امرؤ هدم الإقتار مأثرتي واجتاح ما بنت الأيام من خطري
أيام عمرو بن كلثوم يسوده حيا ربيعة والأفناء من مضر
أرومة عطلتني من مكارمها كالقوس عطلها الرامي من الوتر
ب-شخصيته :إن كلثوم بن عمرو المعروف بالعتابي يمثل قمة من قمم الشعر والكتابة وهو واحد من البلغاء القلائل
والعتابي شخصية فريدة ليس فقط بين شعراء المرحلة العباسية بل ربما كانت هذه الصفة تلازمه وتقتصر عليه بين شعراء العربية أجمعين .
فالتعابي سعى إلى كل ألوان الثقافة وسارع إلى كل فنون المعرفة فاغترف من معينها الصافي ونهل من بحرها الدافق ، ومن ثم فقد عد بلاغيا بارزا بين البلغاء ، كاتبا نابها بين الكتاب ، مؤلفا ثقة بين المؤلفين ، شاعرا مرموق القدر محمود الذكر بين الشعراء بل إن شعره النابغ من ثقافته قد تميز بالفكرة العميقة والصورة البارعة الأمر الذي يجعلنا لا نتردد في أن نعتبره صاحب ((الفكرة الشعرية )) ،
ويبدو أن العتابي قال هذه الأبيات وهو كبير السن ، فإنه يذكر الشيب ويقدم لنا ما يدل على أنه كان قصير القامة وذلك في قوله :
نهى طراف الغواني عن مواصلتي ما يفجأ العين من شيبي ومن قصري
جمع بين فني الشعر والنثر إجادة واتقانا ، إنه شاعر محسن وكاتب في الرسائل مجيد جمع بين الكتابة والشعر ، وأشعاره كلها عيون ليس فيها بيت ساقط مترسل بليغ مطبوع متصرف في فنون الشعر ، فهو شخصية نادرة لم تقدر قدرها اللائق بها
لقد كان شعر العتابي معيارا تقاس عليه جودة الشعر ورداءته حين يقف الشعراء على أبواب المأمون ، وقد ذكر صاحب الأغاني إن الشعراء اجتمعوا على باب المأمون فقال لهم حاجبه علي بن صالح : هل منكم من يحسن إن يقول كما قال أخوكم العتابي :
ماذا عسى مادح يثني عليك وقد ناجاك في الوحي تقديس وتطهير
فت المدائح إلا أن ألسننا مستنطقات بما تحوي الضمائير
فانصرفوا ولم يحاول واحد منهم إن يدخل على الخليفة يمدحه .
وقد قال بعضهم : في شعره تكلف ، وقال البعض الآخر : بل شعره ذو رقة ورشاقة وجودة ، فانبرى شيخ كان حاضرا وقال : ويحكم ، أيقال إن في شعره تكلفا وهو القائل :
رسل الضمير إليك تترى بالشوق ظالعة وحسرى
متزجيات ما ينين على الوجى من بعد مسرى
ما جف للعينين بعدك يا قرير العين مجرى
فاسلم سلمت مبرأ من صبوتي أبدا معرى
إن الصبابة لم تدع مني سوى عظم مبري
ومدامع عبرى على كبد عليك الدهر حرى
ج-ثقافة العتابي وفصاحته :
يعد العتابي الأديب الوحيد الذي جمع أسباب الإجادة والإبداع في فرعي الأدب من شعر ونثر، فقد توفر على لغته دراسة وفهما ، وعلى تراث قومه التهاما وهضما ، وعلى الأدب العربي والثقافة الإسلامية تعلما وحفظا ، تعلم لغة من لغات الحضارة المعاصرة ، وكانت اللغة التي هداه تفكيره إليها هي الفارسية ، وللعتابي فلسفة حكيمة وتعليلات عاقلة تم عن أفق واسع رحيب وفكر منظم رتيب ،
إن العتابي العربي صليبة ، التغلبي نجارا ، كان يؤمن بالثقافة في نطاقها الإنساني مخالفا الكثيرين من أهل زمانه الذين كانوا على الأغلب منقسمين بين عروبيين وشعوبيين ، ومن ثم لم يكن يجد غضاضة في تعلم لغة العجم والاعتراف بعراقة ثقافتهم وفيض عملهم ، هذه الثقافة جعلت لآثاره الأدبية والفكرية مذاقا خاصا وطعما متميزا ، فهو بحر لا ينزف ، وكان النمري يجل العتابي ويعظمه لقناعته وديانته ولعلمه وسعة أدبه .
إن احترام المأمون للعتابي قد بلغ مبلغا ربما لم يعامل به شاعرا غيره فلقد كان في زيادة للمأمون وقد أسن فلما أراد القيام قام المأمون فأخذ بيده , واعتمد العتابي على الخلفية فمازال ينهض رويدا رويدا حتى أقله فنهض .
والعتابي في نطاق فصاحته ومن منطبق احترامه لم يكن متزمتا ولا متعسفا في قول أسلوك بل إن له طرائف وفكهات تريح القلب وتمسح متاعب المهموم
والعتابي أحد البلغاء الذين عرفوا البلاغة بشروطها ومارسوها إنشاء وتحريرا، ويذكر أن التعابي سئل ما البلاغة ؟ فقال : إظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل في صورة الحق . وسئل عن البليغ فأجاب : كل من بلغك حاجتك وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ . قيل له : قد فهمنا الإعادة والحبسة ، فما معنى الاستعانة ؟ قال : إن يقول عند مقاطع كلامه ، اسمع مني ، وافهم عني ، أو يفتل أصابعه ، أو يكثر التفاته من غير موجب ، أو يتساعل من غير سعلة ، أو ينبهر في كلامه
وإذا كانت البلاغة مرتبطة باللسان ارتباطها بالعقل والجنان فان العتابي يحسب لذلك حسابه في قوله : إذا حبس اللسان عن الاستعمال اشتدت عليه مخارج
ولم يكن التعابي يصادف عيا يعوقه أو حبسة توقفه ، بل لعله كان إذا أمسك بالقلم تتزاحم المعاني في ذهنه فتسبب له من الربكة ما يسببه الجذب للغبي ، إن الحصري يروي هذه الحادثة الطريفة فيقول:
والعتابي بعد ذلك كله له مشاركة في التأليف وإثراء المكتبة العربية ، ولعل عناوين كتبه – التي ضاعت بكل أسف – تسهم في التعبير عن شخصيته والإفصاح عن تفكيره وثقافته ، فله من الكتب : كتاب المنطق ، وكتاب الآداب ، وكتاب فنون الحكم ، وكتاب الخليل ، وكتاب الألفاظ.
إن كبار مؤرخي الأدب ورواته قد انتفعوا بكتب العتابي ،
د-شعر التعابي :
تتميز نماذج شعره بطعم خاص وذوق متفرد ومذاق متميز وفكر متعمق ، في إطار الأسلوب الشاعري الموقع ونهج الصوغ البياني المتناغم ، لقد مر بنا قوله :
إني بلوت الناس في حالاتهم وخبرت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعا وإذا المودة اقرب الأنساب
إنه مذاق غريب حبيب لشعر عذب جديد ، ومن هنا جعل النقاد القدامى من التعابي واحدا من رواد البديع ، والبديع هنا هو الجديد ، وجديد العتابي يستقطب الصوغ والمعنى واللفظ والإيقاع على حد سواء .
لقد ولد العتابي شاعرا ، ورث ملكه الشعر من بني قومه التغلبيين ، وهذا وإن المعنى العميق والقول السديد والأسلوب الرفيع والتعبير الأنيق والصوغ المرتب كل ذلك لم يبعد عن شعر العتابي في جميع حالاته مادحا أو هاجيا ، معتذرا أو شاكيا محبا أو متغنيا ، مصطنعا الحكمة أو واصفا .
1-المديح :عمدالعتابي إلى المديح ، شأنه في ذلك شأن كل شعراء زمانه ، مدح البرامكة أولا ثم مدح الرشيد بعد ذلك فنال لديه حظوة وتكريما ، ثم ما لبث إن استغضب الرشيد فهرب ، غير أن البرامكة ما لبثوا إن مهدوا له عند الخليفة العباسي فعفا عنه ورده إلى سالف مكانته وسابق حظوته ، ولعل أشهر مديحه قالها العتابي في الرشيد هي قصيدته الرائية التي تقرب بها إليه بعد فتور كان سببه خروج الوليد بن طريف على الحكم العباسي ، وقد استهلها بقوله :
ماذا شجاك بحوارين من طلل ودمنه كشفت عنها الأعاصير
شجاك حتى ضمير القلب مشترك والعين إنسانها بالماء مغمور
وفي هذه القصيدة الرائية يجمع العتابي بين رقة القول غزلا ، والإشادة بالخليفة مديحا ، وخفض الجناح اعتذارا ، واصطناع الحيلة فخرا ، وابتداع الحكمة تقربا ، مع أسلوب عذب وإيقاع جميل ، وهي من أشهر قصائده ، أبياتها ذاتمعاني حكيمة ، والقصيدة من أرق شعر المديح مجملة أو مفصلة . إنها قصيدة مخططة الفكر منسوجة المنهج أادخل فيها الشاعر عامل المنطق العقلي والحجاج القولي وإذا لم تكن القصيدة كاملة الترتيب والبنية قد وصلت إلينا فتلك بعض أبياتها:
في ناظري انقباض عن جفونهما وفي الجفون عن الاماق تقصير
لو كنت تدرين ما شوقي إذا جعلت تنأي بنا وبك الأوطان والدور
علمت أن سرى ليلي ومطلعي من بيت نجران والغورين تغرير
إذ الركائب مخسوف نواظرها كما تضمنت الدهن القوارير
نادتك أرحامنا اللاتي نمت بها كما تنادي جلاد الجلة الخور
مستنبط عزمات القلب من فكر ما بينهن وبين الله معمور
فت المدائح إلا أن ألسننا مستنطقات بما تحوي الضمائير
ماذا عسى مادح يثني عليك وقد ناداك في الوحي تقديس وتطهير ، غير أن العتابي لم ينس أن يكون محامي قومه في هذا المجال ، ذلك أن خروج الوليد بن طريف الشاري – وكان تغليبا – على الرشيد لا يعني أن كل تغلب خارجه عليه ، ليس الأمر كذلك بل أن منهم من يسيطر على المعركة وهو يخوضها جالبا النصر للرشيد مثل القائد الفارس يزيد بن مزيد الشيباني الذي خاض معارك الظفر ووقائع النصر لحساب الرشيد ومن بين هذه المعارك معركته مع الوليد بن طريف ، وكلاهما – الخارج المدحور والظافر المنصور – ينتمي إلى قبيلة العتابي . إن العتابي يصوغ هذا الدفاع في رشاقة ومنطق وإيجاز قائلا :
إن كان منا ذوو إفك ومارقة وعصبة دينها العدوان والزور
فان منا الذي لا يستحث إذا حث الجياد وحازتها المضامير
وتضم هذه القصيدة البيتين الشهيرين اللذين أشاد بهما حاجب المأمون عندما تجمع الشعراء على بابه فقال لهم هل فيكم من يقول مثل العتابي :
ماذا عسى قائل يثنى عليك وقد ناجاك في الوحي تقديس وتطهير
فت المدائح إلا إن ألسننا مستنطقات بما تخفي الضمائير
وللشاعر قصيدة دالية عمد فيها إلى خاص نهجه ، وسار بها في أثير دربه ، من ابتداع الفكرة وتذليل متن الشعر الرقيق لها حتى تعتليه عذبا ذلولا ، فيحار القارئ بين جلال الفكرة وجمال الصيغة ، يقول العتابي في أبياته الدالية
إمام له كف تضم بناتها عصا الدين ممنوعا من البري عودها
وعين محيط بالبرية طرفها سواء عليها قربها وبعيدها
وأصمع يقظان يبيت مناجيا له في الحشا مستودعات يكيدها
سميع إذا ناداه في قعر كربة مناد كفته دعوة لا يعيدها
ينسب إليه بعض الزلات في حق كبار أهل زمانه وبخاصة الرشيد نفسه , ولم يكن العتابي رجل جلاد ونضال وإنما كان يفضل الحياة الهادئة دون كدر أو صخب أو خصام , ومن تكن هذه طبيعته يكثر الاعتذار على لسانه ,
2-الحكمة : عرف العتابي الحكمة في شعره ومما قالهالعتابي لجعفر البرمكي وقد كان واسطة خير له عند الرشيد كي يعفو عنه .
ما زلت في غمرات الموت مطرحا يضيق عني وسيع الرأي من حيلي
فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
ويرى العتابي إن هذا الذي قاله في تصوير حالة وتقرير صنيع منقذه غير كاف فيعمد إلى استغلال موهبته الشعرية والفكرية لتأكيد شكره وعرفانه بحسن الصنيع فيقول :
فلو كان للشكر شخص يبين إذا ما تأمله الناظر
لمثلته لك حتى تراه لتعلم إني امرؤ شاكر
أما وشاعرنا كثير الاعتذار كثير الشكر ، فان دلالة ذلك تفصح عن مذهبه في الحياة ومسلكه فيها ، انه غير مقبل إليها لا يتجشم في سبيلها إلا القليل ، ومن ثم فهو غير مستعد للمغامرة أو الاقتحام أو الجسارة . لقد لامته زوجته – وكانت من باهلة – لتقاعسه وانصرافه عن جمع المال بينما تلميذه منصور النمري يأخذ الأموال ويقتني الضياع ويشتري الحلي لأهل بيته ، فلم ينشط مستجيبا لرغبتها ، وإنما أانشأ يقول مصورا قناعته
تلوم على ترك الغنى باهلية روى الدهر عنها كل طرف وتالد
رأت حولها النسوان يرفلن في الكسا مقلدة أجيادها بالقلائد
تقول أما تحدوك للمجد همة تنيلك وجها من وجوه الفوائد
أسرك أني نلت ما نال جعفر من الملك أو ما نال يحي بن خالد
وإن أمير المؤمنين أغصني مغصهما بالمرهفات البوارد
ذريني تجئني ميتتي مطمئنة ولم أتجشم هول تلك الموارد
فإن كريمات المعالي مشوبة بمستودعات في بطون الأساد
3-نزعة التشاؤم : عند العتابي نزعة التشاؤمواضحة كل الوضوح ، وتشاؤمه قائم على نظرة إلى الحياة سوداء ، الحادثات لا ترحم ، والحياة فانية ، والأحباب إلى افتراق ، وغضارة العيش إلى ضيق وجفاف ، ومهما طالت الصحبة فإن بدد الشمل نهاية كل شيء ، حتى الفرقدين في السماء مصيرهما إلى شتات . تلك أفكار العتابي ، انتهز فرصة وداع جارية له فصب هواجسه في هذا القالب الشيق من رائق اللفظ وأنيق الأسلوب:
غدرات الأيام منتزعات ما غنمنا من طول هذا العناق
إن قضى الله أن يكون تلاق بعد ما قد ترين كان تلاق
هوني ما عليك واقني حياء لست تبقين لي ولست بباق
أينا قدمت صروف المنايا فالذي أخرت سريع اللحاق
ويد الحادثات رهن بمرات من العيش مصبرات المذاق
غر من ظن إن يفوت المنايا وعراهــا قـلائـد الأعناق
كم صفيين متعا باتفاق ثم صارا لغربة وافتراق
قلت للفرقدين والليل ملق سود أكنافه على الآفاق
أبقيا ما بقيتما سوف يرمى بين شخصكما بسهم الفراق
بينما المرء في غضارة عيش وصلاح من أمره واتفاق
عطفت شدة الزمان فأدته إلى فاقه وضيق خناق
لا يدوم البقاء للخلق لكن دوام البقاء للخلاق
وتبلغ نزعة التشاؤم والشعور بالبؤس والإحساس بالوحدة ذروتها عند العتابي في إطار رحلة كسيفة من الحزن والأسى والعطف والإشفاق على نابغة يوزع همومه ويبكي حظة فيقول :
أطفئ الحزن بالدموع إذا ما حمة الشوق أثرت في فؤادي
خاشع الطرف قد توشحني الضر فلانت له قناة قيادي
ترب بؤس أخا هموم كأن الحزن والبؤس وافيا ميلادي
وكأني استشعرت ما لفظ الناس من الثائرات والأحقاد
أتصدى الردى وأدرع الليل بهوجاء فوقها اقتـــادي
حظ عيني من الكرى خفقات بين سرحي ومنحنى أعوادي
أوحش الناس جانبي فما آنس إلا بوحدتي وانفرادي
قد رددت الذي به اتقى الناس وأبرزت للزمان سوادي
فاستهلت علي تمطري الشوق شآبيب مزنـة مرعاد
ه- صنعته : للعتابي شاعريته الدافقة الثرية المعطاءة المفكرة الرائدة التي يحتل بها مكانة اللائق به وبعلمه وبشعره وبفكره ،
وإذا كان شعر الفكرة لا يلتقي في كثير مع شعر الصنعة ، وكلاهما ضرب من ضروب التجديد ، فإن العتابي الحريص على التجديد في كل من الميدانين – ميدان الفكرة وميدان الصنعة – يقدم لمجيء شعره صورا خلابة من التجديد البديعي إذا ما استهدف وصف ظاهرة من ظواهر الطبيعة ، إنه يبيح لسجيته إن توغل بعض الشيء في اصطياد المحسنات البديعية وتقديمها لامعة بهيجة متألقة ، تشبيهات واستعارات وصور ولوحات ، وجناس وطباق وتصريع وترصيع إلى غير ذلك من فنون البديع وصور البيان المعروفة .
إن العتابي يصر على إن يقدم نماذج وفيرة من صور البيان والبديع في القصيدة الواحدة بحيث يضطر أساتذة النقد إلى الاعتراف بأنه واحد من المع رواد الصنعة البديعية المبكرة ، ولعل خير نموذج نعرفه له في هذا السبيل قصيدة له في وصف السماء والمطر يقول فيها:
راقت للبرق يخفى ثم يأتلق يخفيه طورا ويبديه لنا الأفق
كأنه غرة شهباء ،لائحة في وجه دهماء ما في جلدها بلق
أو ثغر زنجية تفتر ضاحكة تبدو مشافرها طورا وتنطبق
أو سلة البيض في جأواء مظلمة وقد تلقت ظباها البيض والدرق
والغيم كالثوب في الآفاق منتشر من فوقه طبق من تحته طبق
تظنه مصمتا لا فتق فيه فإن سالت عواليه قلت : الثوب منفتق
إن معمع الرعد فيه قلت : ينخرق أو لألأ البرق فيه قلت : يحترق
تستك من رعده أذن السميع كما تعشى ، إذا نظرت ، من برقه الحدق
فالرعد صهصلق ،والريح منخرق والبرق مؤتلق ، والماء منبعق
قد لاح فوق الربا نور له ارج كأنه الوشي والديباج والسرق
من صفرة بينهما حمراء قانية واصفر فاقع أو ابيض يقق
كان العتابي أكثرالشعراء ثقافة ومعرفة وإن كان يركب مركب الصنعة الموغلة في الترصيع مثلا ، شأن كل شاعر يوغل في الصنعة ،
فالرعد صهصلق والريح منخرق والبرق مؤتلق والماء منبعق
ولكنه الغلو ، والغلو ممجوج مرفوض في كل صورة وأشكاله وجوانبه ، ليس في الشعر وحده ، وإنما في كل مظهر من مظاهر الحياة ، وفي كل لون من ألوان الفنون .
وعلى الرغم من هذا الإيغال في الصنعة هذه القصيدة القافية من أجود ما قاله محدث في وصف السحاب والقطر والرعد والبرق.
وفي نطاق شعر الصنعة فإن العتابي واحد من رواد وزن المواليا:
يا ساقيا خصني بما تهواه لا تمزج أقداحي رعاك الله
دعها صرفا فإنني أمزجها إذ أشربها بذكر من أهواه
إن العتابي حتى في مجال صيغة الوزن الجديد في نطاق الغزل والشراب ، لا ينقلب من التزام الفكرة المؤتلقة الوضاءة .




12-عوف بن محلم الخزاعي
00 – 220 هـ
أ-حياته ونشأته :يمثل عوف بن محلم الخزاعيالمولود في رأس العين التفاعل بين القديم و الحديث وما جرى من شعر على لسانهوهو الشاعر النديم قريب دعبل وأبي الشيص محمد بن رزين ،شخصيته : إنعوفا يجمع بين طلاقة أهل الشام ورقتهم وبين انطباعات بيئة خراسان والعراق من جهة أخرى ، وبين نظرة إلى الماضي مشدودة بحبال قوية تارة ثالثة . لقد نادم طاهر بن الحسين ثلاثين سنة في بغداد وخراسان ، فلما مات تمسك به ولده عبدالله بن طاهر وأنزله نفس المنزلة التي كانت له عند أبيه
ب-شخصيته :
ج-شعره:
1-الحنين:يتمثل الحنين في شعر عوف في قوله وهو مرافق عبدالله بن طاهر بن الحسين في إحدى أسفاره إلى خراسان وقد ألح عليه الحنين إلى أهله في رأس العين
أفي كل عام غربة ونزوح أما للنوى من ونية فتريح
لقد طلح البين المشت ركائبي فهل أرين البين وهو طليح
وذكرني بالري نوح حمامة فنحت وذو الشجو الحزين ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ومن دون أفراخي مهامه فيح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى فتضحى عصا التسيار وهي طريح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقه وعدم الغنى للمعسرين طروح
2-شعر المتعة عنده : ويعيش عوف الخزاعي حياة زمانه من شراب ومنادمة وأخذ بأسباب المتعة الحسية ، ويصوغ ذلك شعرا في نطاق التحول الشعري الجديد فيقول
فما زالت الكأس تغتالنا وتذهب بالأول الأول
إلى إن توافت صلاة العشاء ونحن من السكر لم نعقل
فمن كان يعرف حق النعيم وحق الجليس فلا يجهل
وما إن جرت بيننا مزحة تهيج مراء على السلسل
3-شعرالحكمة :وعلى سنة شعراء زمانه أيضا من عودة إلى العقل ورجوع عن الجهل ولجوء إلى الحكمة يقول عوف هذا القول الحكيم:
ما ينزل الله بي أمرا فاكرهه إلا سينزل بي من بعده الفرجا
يا رب أمرين قد فرحت بينهما من بعد ما اشتبكا في الصدر واعتلجا
ولكن الارتباط بالماضي أمر كائن وحقيقة واقعة عند هؤلاء الشعراء ،
4-فخره :إن شاعرنا عوفا حين يفخر يعود أدراجه إلى أسلوب الأموية الناصع المشرق السهل الوضاء :
واني لذو حلم على إن سورتي إذا هزني قوم حميت بها عرضي
وان طلبوا ودي عطفت عليهم ولا خير فيمن لا يئول ولا يغضي
وما كل ذي غش يضرك غشه ولا كل من يؤتى كرامته يرضي
ومعترض في القول غريب قوله وقلت له ليس القضاء كما يقضي
ركبت به الأهوال حتى تركته بمنزل ضنك لا يكد ولا يمضي
واني لأجزي بالكرامة أهلها وبالحقد حقدا في الشدائد والخفض
إن هذا القول ليس مما يتمشى مع طبيعة العصر نحوا وأسلوبا ولكنه عود من الشاعر إلى جادة من الشعر يرتاح إليها واو كان – في نظر البعض – قد انقضى وقتها ومضى زمانها

د-المعاني الحضرية:
وتتمثل المعاني الحضرية والصيغة البغدادية في قوله يمدح طاهر بن الحسين ويصف حراقته تنساح صفحة دجلة في بغداد :
عجبت لحراقة ابن الحسـين كيف تعوم ولا تغرق
وبحران من تحتها واحد وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها وقد مسها كيف لا تورق


13-علي بن جبله العكوك 160 – 213 هـ
أ-حياته ونشأته :يعد علي بن جبلة بغدادي الميلاد والوفاة ، عاش بين سني 160 ، 213 هـ وهي فترة الانتعاش الثقافي والتغير الحضاري والتعميق العقلي والانطلاق الفكري والتألق العلمي والسياسي والانقلاب الخلقي والتحلل الاجتماعي ، فكان الشاعر صورة – مثله في ذلك مثل غيره – لمجتمع شعراء زمانه أخذا بأسباب الثقافة وجنوحا إلى جانب الأخذ بمذهب اللذة الحسية وبعدا عن القيم الدينية حتى إن إحدى الروايات تذهب إلى إن حياته انتهت على يد المأمون لمبالغته في مدح أبي دلف بقوله :
أنت الذي تنزل الأيام منزلها وتمسك الأرض عن خسف وزلزال
وما مددت مدى طرف إلى أحد إلا قضيت بأرزاق وأجال
والحق أن هذه الأبيات لم تكن هي الدافع الأصيل لحملة المأمون على العكوك وإنما السر الكامن وراء ذلك هو إجادة العكوك في مدح كل من أبي دلف القاسم العجلي وأبي غانم حميد الطوسي إلى ذروة من الإبداع وبخاصة مدائحه لأبي دلف .
إن ابن المعتز يميط اللئام عن ذلك بذكره هذه الرواية:
(( لما بلغ المأمون قول علي بن جبلة في أبي دلف :
كل من في الأرض من عرب بين بادية إلى حضرة
مستعيـر منـك مكرمـة يكتسبها يـوم مفتخرة
إنما الدنيا أبو دلف بين مبداه ومحتضرة
فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره
استشاط من ذلك وغضب وقال : ويلي على ابن الفاعلة ، يزعم أنا لا نعرف مكرمة إلا مستعارة من أبي دلف ، وطلبة فهرب إلى الجزيرة ، فكتب في طلبه فحمل إليه ، فلما صار بين يديه قال : يا ابن اللخناء : أنت القائل للقاسم بن عيسى :
كل من في الأرض من عرب بين باديه ومحتضره
مستعير منك مكرمة يكتسيها يوم مفتخره
فقال : يا أمير المؤمنين عنيت أشكال قاسم وأشباهه لا، فأما أنتم فقد أتاكم الله بالفضل عن سائر عباده لأنه اختصكم بالفضل والنبوة والكتاب والحكمة وجمع لكم إلى ذلك الخلافة والملك ، وما زال يستعطفه حتى عفا عنه .
ويستطرد ابن المعتز فيذكر أن بعض الرواة روى انه قتله ، وذلك بان قال له أما أني لا استحل دمك بهذا القول ، ولكن استحله بكفرك وجرأتك على الله إذ تقول في عبد مهين ، تسوي بينه وبين رب العالمين حين تقول :
أنت الذي تنزل الأيام منزلها وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد إلا قضيت بأرزاق وأجال
ثم أمر فاخرج لسانه من قفاه ثم قتله.
ب-شخصيته :إن علي بن جبلة لم يكن أعمى وحسب ، وإنما كان إلى ذلك أسود أبرص وهي عيوب جثمانية تجعل الناس تنفر منه ، وكان أيضا سمينا قصيرا مما جعل الأصمعي يلقبه بالعكوك غيظا منه وحقدا عليه ، ومع ذلك فقد فتحت له جودة شعره ورقته وتجديده فيه أبواب الملوك والرؤساء والقواد ، ولم يكن عنصر الجودة في شعر وحسب ، وإنما كان في إنشاده أيضا حتى إن الجاحظ يشهد له قائلا : كان أحسن خلق الله إنشادا ، وما رأيت مثله بدويا ولا حضريا
لئن فات هذا البغدادي وسامة البغداديين وسماتهم ، فقد خلعت عليه بغداد من رقتها وأدبها ما جعله يدلف في يسر إلى ساحات الرؤساء يمدحهم فيلقي وفير التكريم وفيض العطاء وبالغ التقدير ، لقد أفسح له كل من أبي دلف وحميد الطوسي والحسن ابن سهل صدورهم وقصورهم لما نمق فيهم من جيد المديح الأمر الذي جعل المأمون صاحب كرسي الخلافة يغار ويستدعيه ويغلظ له القول على رواية أو يقتله على رواية أخرى
إن علي بن جبلة الذي أطلق عليه الأصمعي صفة العكوك فلصقت به وغلبت عليه هو واحد من قافلة شعراء المرحلة العباسية المطبوعين ، وهو أيضا من مجموعة الشعراء اللمكفوفين النهابين الذين بدأ عهدنا بهم مع السائب بن فروخ الشاعر المخضرم الذي اشتهر بكنيته وصفته (( أبي العباس الأعمى )) ثم توالت هذه القافلة وقد ضمت بشار بن برد وصالح بن عبد القدوس وأبا يعقوب الخريمي وربيعة الرقي ، وكل واحد من هؤلاء طيب نفس الشعر ، عميق القاع ، بعيد الشاطئ ، صاحب ميزة أو ميزات ترفعه درجة أو درجات في ميدان أو أكثر من ميادين الشعر موضوعا وأسلوبا .
ج- فنون العكوك الشعرية:
1-الهجاء :كتب العكوك في الهجاء كما كتب في غيره من الأغراض الشعرية الأخرى ، ولقد روي أنأبا دلفأراد أن يداعب العكوك ذات يوم فقال له إنك تحسن أن تمدح ولا تحسن أن تهجو ، فما كان من العكوك إلا أن أجاب الأمير بقوله : الهدم أيسر من البناء وأردف منشدا
أبو دلف كالطبل يذهب جوفه وباطنه خلو من الخير أخرب
أبا دلف يا أكذب الناس كلهم سواي فإني في مديحك أكذب
وهكذا لم يكتف الشاعر – إثباتا لمقدرته حيال الأمير – أن يهجو الأمير وحده وإنما ، من قبيل التأكيد ، هجا نفسه معه
وللعكوك صور من الهجاء في غاية من الطرافة على ندرنها ، فمن ذلك ما قاله شاعرنا في هجاء قوم بخلاء يتركون الضيافة ويضيعون الضيفان :
أقاموا الديدبان على يفاع وقالوا لا تنم للديدبان
فإن آنست شخصا من بعيد فصفق بالبنان على البنان
تراهم خشية الأضياف خرسا ويأتون الصلاة بلا أذان
وكان العكوك يتصدق على أصدقائه من الشعراء الكبار بأبيات من الهجاء يتكفل بها دونهم وقصة ذلك لا تخلو بدورها من طرافة . كان الخريمي الشاعر الكبير صديقا للعكوك ، وكان يريد أن يهجو الهيثم بن عدي ، فذهب إلى صديقه العكوك ورجاه أن يهجوه له، فتعجب العكوك وقال له : مالك لا تهجوه وأنت شاعر؟ فقال : قد فعلت فما جاءني شيء كما أريد . فقال العكوك : كيف أهجو رجلالم يتقدم إلي منه إساءة ولا له إلي جرم يحفظني ؟ فقال : تقرضي ، فاني مليء بالقضاء ، إي قادر على قضاء هذا القرض ، فقال أمهلني اليوم ومضى ، وأخذ العكوك يفكر في سبيل للهجاء فهداه تفكيره إلى حادثة مفادها أن الهيثم كان قد تزوج إلى بني الحارث بن كعب ، ورأى القوم أن يطلقوا ابنتهم منه ربما لعدم التكافؤ بينهما وذهبوا إلى الرشيد يطلبون ذلك ، فقال الرشيد – وكان أديبا واسع الثقافة في الشعر – أليس هو الذي يقول فيه الشاعر :
إذا نسبت عديا في بني ثعل فقدم الدال قبل العين في النسب
قالوا : بلى يا أمير المؤمنين ، فأمر الرشيد داوود بن يزيد أن يفرق بينهما .
أن العكوك يستحضر هذه الحادثة ويستغلها استغلالا بارعا في هجاء الهيثم بن عدي احتسابا لصديقه الخريمي ويقول :
للهيثم بن عدي نسبة جمعت آباءه فأراحتنا من العدد
أعد عديا فلو مد البقاء له ما عمر الناس لم ينقص ولم يزد
نفسي فداء بني عبد المدان وقد تلوه للوجه واستعلوه بالعمد
حتى أزالوه كرها عن كريمتهم وعرفوه بذل أين أصل عدي
يا ابن الخبيثة من أهجو فافضحه إذا هجوت ؟ وما تنمى إلى احد
2-الغزل :والعكوك إذا قال في الغزل رق شعره حتى يكاد يتناهى من الرقة ، وعذب حتى لا يبقى ذوق إلا ويستسيغه ، وهو في بعض غزله يلهو باللفظ ويعبث بالمعنى ، لهوا محببا وعبثا مرغوبا فيه ، مثال ذلك هذه الأبيات التي جرت على لسانه :
بأبي من زارني مكتتما خائفا من كل شيء جزعا
زائر نم عليه حسنـه كيف يخفي الليل بدرا طلعا
رصد الغفلة حتى أمكنت ورعى الحارس حتى هجعا
ركب الأهوال في زورته ثم ما سلم حتى ودعا
ومن أبياته الطريفة في لوعة الحب ،ويمكن ملاحظة نهج أسلوب المكفوفين فيها قوله:
لو أن لي صبرها أو عندها جزعي لكنت اعلم ما آتي وما ادع
لا احمل اللوم فيها والغرام بها ما حمل الله نفسا فوق ما تسع
إذا دعا باسمها داع فأسمعني كادت له شعبه من مهجتي تقع
ويقع العكوك في حب جارية اسمها شكله ويلح عليه غرامها فيشكو حاله في أبيات من الغزل الرقيق الذي نلحظ فيه أيضا أسلوب الشعراء المكفوفين وبخاصة في البيتين الثاني والثالث . يقول العكوك مضمنا غزله معاني غريبة على العشاق :
إني ليقنعني تعهد شكله إن حال دون لقاء شكله حائل
ويزيدني كلفا بها هجرانها ويسرني عنها الحديث الباطل
وإذا تكلم عاذل في حبها أغرى الفؤاد بها ورق العاذل
من أين ما امتحنت محاسن وجهها بهر العيون بها هلال ماثل
شجيت خلاخلها بساق خدلة وشجيت عمدا بالذي هو قائل
وإذا كانت قرائن من العفة – أو في اليسير البعد عن المجون – بدت في تلك الأبيات فان العكوك هو صاحب القصيدة الدالية الطويلة التي جمعت بين الغزل وبين وصف المرأة وصفا أتى على كل جزء من أجزاء جسمها بحيث لم يتحرج عن ذكر مواطن العفة منها وقد عرف بعض الأدباء بهذه القصيدة باسم ((اليتيمة)) وعرفها آخرون باسم ((الدعدية))على اعتبار أنها قيلت فيمن اسمها دعد
هل بالطلول لسائـل رد أم هل لها بتكلم عهد
درس الجديد جديد معهدها وكأنما هي ريطة جرد
من طول ما تبكي الغيوم على عرصاتها ويقهقه الرعد
فوقفت أسالها وليس بها إلا المها ونقانق ربد
وينتقل العكوك من حديث الغزل إلى رسم صورة لصاحبته دعد فيصف أجزاء جسمها في دقة متناهية لا يستطيع المرء أن يحجب إعجابه حيالها – رغم خروجه على حدود الذوق في بعضها – نظرا لان الشاعر أعمى لا يبصر ، فلنستعرض بعض هذه الصور وليس كلها
لهفي على دعد وما خلقت إلا لطول بليتي دعد
بيضاء قد لبس الأديم أديم الحسن فهو لجلدها جلد
ويزين فوديها إذا حسرت صافي الغدائر فاحم جعد
فالوجه مثل الصبح مبيض والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنه الضد
وجبينها صلت وحاجبها شحت المحط أزج ممتد
فكأنها وسنان إذ نظرت أو مدنف لما يفق بعد
بفتور عين ما بها رمد وبها تداوي الأعين الرمد
وتريك عرنينا به شمم وتريك خدا لونه الورد
وتحيل مسواك الأراك على رتل كأن رضابه الشهد
والجيد منها جيد جارية تعطوا ذا ما طالها المرد
وكأنما سقيت ترائبها والنحر ماء الورد إذ يبدو
والمعصمان فما يرى لهما من نعمة وبضاضة زند
ولها بنان لو أردت له عقدا بكفك أمكن العقد
3-الوصف :برع العكوك في الوصف براعة ما لها شبيه وخاصة وصف وجده للمرأةالمرأة ومن ذلك غزلهالصارخ المخيف ، :
يا من لو اكتحل القبيح بحسنها لغدا وليس لحسنـه نـد
أن لم يكن وصل لديـك لنـا يشفي الصبابة فليكن وعد
قد كان أورق وصلكم زمنا فذوى الوصال وأروق الصد
لله أشواقي إذا نزحـت دار بكـم ونأي بكم بعد
أن تتهمي فتهامـة وطني أو تنجدي أن الهوى نجد
وزعمت أنك تضمرين لنا ودا ، فهلا ينفع الود
وإذا المحب شكا الصدود ولم يعطف عليه فقتلـه عمد
ومن الطريف أن علي بن جبلة لا يكتفي من قصيدته بهذا الشتات من نماذج الغزل والشكوى ووصف المرأة وأجزاء جسمها ، وإنما ينتهي بقصيدته نهاية غير متناسقة مع عناصرها السابقة ، فيعمد في عدد غير قليل من الأبيات إلى الفخر بنفسه ، ولكنه فخر هزيل لم يصادف مكانه الصحيح .
ولعل من روائع العكوك قصيدته في وصف فرس أبي دلف ، وقد مر بنا الموقف الذي أدى إلى وصفها ، والحق أن العكوك قد تقمص شخصية فارس خبير بالكر والفر وأنواع السير والركض وشخصية مدرب خيل أصيلة يعرف كيف يدربها على الحركة ، ومجمل القول في القصيدة أنها عمل رائع من شاعر مبصر فما بالك إذا كان الشاعر ضريرا . يقول العكوك في قصيدته واصفا الفرس:
مرتهج يرتج من أقطاره كالماء جالت فيه ريح فاضطرب
تحسبه اقعد في استقباله حتى إذا استدبرته قلت اكب
وهو على إرهاقه وطيه تقصر عنه المحزمان واللبب
تقول فيه خبب إذا انثنى وهو كمتن القدح ما فيه خبب
يخطو على عوج تناهبن الثرى لم يتواكل عن شظا ولا عصب
تحسبها ناتئه إذا خطت كأنها واطئة على الركب
شتا وقاظ برهتيه عندنا لم يؤت من بر به ولا حدب
يصان عصري حره وقره ويقصر الخور عليه بالجلب
حتى إذا تمت له اعضاؤه لم تنحبس واحدة على عتب
رمنا به الصيد فرادينا به أوابد الوحش فأجدى واكتسب
مجذم الجري يباري ظله ويعرف الأحقب في شوط الخبب
إذا تظنينا به صدقنا وان تظنى فوقه العير كذب
لا يبلغ الجهد به راكبه ويبلغ الريح به حيث طلب
ه-صنعته :أن العكوك بارع في خلق التشبيهات الدقيقة ،ولم يقف الأمر به حين يعمد إلى خلق التشبيهات ، ولكن تشبياته تنسرب انسرابا في أكثر شعره من غزل ومديح وهجاء ، ولقد مرت بنا تشبياته الكثير الوفيرة في قصيدته الدعدية ، هذا وللعكوك عديد من التشبيهات التي فاق بها كثيرا من الشعراء المبصرين ، مثال ذلك قوله من قصيدة سينية مدح بها حميدا الطوسي :
الناس جسم ، وإمام الهدى رأس ، وأنت العين والراس
أو قوله في وصف رماح أحد ممدوحيه :
كأن أرماحه تعطي إذا علمت تحت العجاجة أسماعا وأبصارا
وقال في نفس المعنى والموضوع ، وهو تشبيه ثري محكم فيه تحد للشعراء المبصرين
كأنهم والرماح شابـكة اسد عليهـا اظلـت الاجم
وقال في مدح حميد الطوسي ووصفه في ساحة الحرب :
إذا ما تردى لأمة الحرب أرعدت حشا الأرض واستدمى الرماح الشوارع
وأسفر تحت النقع حتى كأنه صباح مشى في ظلمه الليل ساطع
إنها صورة بارعة حقا والتشبيه في البيت الثاني
وله تشبيه بارع حكيم في وصف الناس وتشبيهم بالخيل :
والناس كالخيل إن ذموا وإن مدحوا فذو الشيات كذي الأوضاع في الناس
وللعكوك في الشيب صور عديدة طريفة وتشابيه كثيرة بارعة ، فمن هذه التشبيهات قوله :
كـأن حسور الصبـا عن الشيب حين اشتعل
زهـا أمل مونـق اطـل عليه اجـل
لقد ألقى هذا الشاعر الأعمى الأبرص المتكور الجسم في أسماع الناس من شعره صورا من الرقة والتجديد لا تمحي ولا تبيد ، وكانت في رقة إنشائها وثراء معانيها وبساطة صوغها – الذي كان أكثره من البحور القصيرة – ونصوع جمالها اكبر تعويض له عن جمال افتقده في تكوين خلقته فبقي له في بديع صنعته .
وان نفس العكوك التي الفت أن تلتذ بالحياة وتعيشها ملء برديها ، لم تبعد بصاحبها عن قول الحكمة واصطناعها في شعره ، صحيح ا نابيات الحكمة عنده قليلة إذا ما قورنت بمثيلاتها عند معاصريه من أمثال صديقه الخريمي ، أو العتابي ، أو ابن يسير أو محمود الوراق ، ولكنها مع ذلك عميقة الأثر صادقة الصدى . إننا لا نملك أن نحجب إعجابنا عن هذين البيتين اللذين تتضوع الحكمة في ردنيهما :
وارى الليالي ما طوت من شرتي ردته في عظتي وفي إفهامي
وعلمت أن المرء من سنن الردى حيث الرمية من سهام الرامي
ومن شعره في قول حكيم يحض على الصبر فيه ويستبعد اليأس :
عسى فرج يكون عسى نعلـل أنفسا بعسى
فلا تقنط إذا لاقيت هما يقبض النفسا
فاقرب مـا يكون المرء من فرج إذا أيسا
ومن نماذج الشعر التي جمعت بين الفخر بحسن الشمائل وبين اصطناع الحكمة قول العكوك
وكم رمية للدهر في باب مأمن جعلت مجني – دون مكروهها – صبري
أذود منى نفسي جهيدا وعفتي إذا حملت غيري على المركب الوعر
ومهما طال القول في علي بن جبلة ، فانه واحد من المع شعراء مرحلة التفاعل الشعري ونجم من نجوم التجديد في معاني القصيدة ومبناها ، ولعله أكثر شعراء عصره استعمالا للبحور القصار – بنجاح – في مواطن يحسن فيها استعمال البحور الطوال ، وهو شاعر طيب النفس ، صادق الحس ، مجيد في الوصف ، مجدد فيما قدم من صور عاش بعض الشعراء الكبار من بعده عيالا عليها .
ج-العكوك وأبو دلف:
كثيرا ما تكون قصيدة بعينها مثيرة حوله ما يرفع شأنه أمر ما ينشر الحقد حوله أو ما يهيء للأمرين جميعا ولقد كانت القصيدة الرائية سببا ذلك بالنسبة إلى العكوك لقد جعلته هذه القصيدة يصيب الشهرة العريضة في الآفاق بحيث لم يذكره مترجم أمؤرخ أو صاحب طبقات إلا وقرن اسمه بتلك القصيدة فأصبحت أشهر من قصيدة أبي نواس في البحر والقافية والروينفسه إن القصيدة ما إن أنشدت في محفل أبي دلف حتى شك الشعراء الحاضرون في أمكان قدرته على قول هذا الشعر , فما كان من الشاعر إلا أن تحدى الجمع وطلب إليهم أن يمتحنوه , فسألوه أن يصف فرس أبي دلف فطلب أن يتحسس الفرس ومعه من يثقون فيه ولم يلبث أن أملاه قصيدته البائية التي مطلعها
ريعت لمنشور على مفرقه ذم لها عهد الصبا حين انتسب
فكانت هذه القصيدة وليدة تلك :
ورائية العكوك سارت هذه في أبي دلف سير الشمس والريح وهي القصيدة الغراء التي سارت في العرب والعجم. ، وينتشر صيت هذه القصيدة في أركان منتديات الأدب وأدب نافق عند الخلفاء والرؤساء ، وبقصد العكوك ساحة حميد الطوسي وكان بدوره رئيسا أديبا وقائد أريبا وافر الفروسية جزيل العطاء ، وما أن يستأذن ويدخل عليه لينشده حتى يبادره حميد قائلا :
وما عسيت أن تقول فينا ؟
وهل أبقيت لأحد مدحا بعد قولك في أبي دلف؟ :
إنما الدنيا أبو دلف بين مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره
وهنا يقول علي بن جبلة العكوك : أصلح الله الأمير ما قلت فيك أحسن . قال : وما قلت ؟ فأنشده :
إنما الدنيا حميد وأياديه الجسام
فإذا ولى حميد فعلى الدنيا السلام
فتبسم حميد ولم شيئا وتعجب كل من حضر المجلس من جودة بديهته لأنهم استنتجوا أنه قال بيتيه هذين على البديهة .
وإذا كان بيتا العكوك في حميد لهما رقة اللفظ وحسن إيقاع على السمع فأن بيتيه بل أبياته في أبي دلف تنسرب إلى القلب انسرابا وتقران فيه فلا تخرجان
إن عليا العكوك يسمع عن أبي دلف القاسم العجلي القائد المظفر, الفارس المقدم , العالم المؤلف , الفصيح الخطيب الشاعر , الموسيقي الفنان , لقد جمع أبو دلف كل هذه الصفات فروسية وإقداما وعلماء وتأليفا وفصاحة وشعراء وموسيقى , فيسعى العكوك إلى ساحته كما سعى غيره إليها وأنشدوا بين يديه روائع شعرهم ويسمعون منه روائع شعره وبخاصة ما كان منه متصلا بالفروسية , فمن شعر أبي دلف في الغزل الممزوج بالفروسية قوله:
الحرب تضحك من كرى وإقدامي والخيل تعرف آثاري وأيامي
سيفي مدامي وريحاني مثقفتي وهمتي مقة التفصيل للهام
وقد تجرد لي بالحسن منفردا أمضى وأشجع مني يوم إقدامي
سلت لواحظه سيف السقام على جسمي فأصبح جسمي ربع أسقام
أو قوله :
أحبك يا جنان فأنت مني محل الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان روحي لخفت عليك بادرة الزمان
لإقدامي إذا ما الخيل جالت وهاب كماتها حر الطعان
, ولأبي تمام مع أبي دلف هذا أخبار ممتعه.وفقد جود في جود في هذا القول الرقيق :
ذاد ورد الغي عن صدره فارعوى واللهو من وطره
وأبت إلا الوقار له ضحكات الشيب في شعره
ندمي أن الشباب مضى لم أبلغه مدى أشره
وانقضت أيامه سلما لم أهج حربا على غيره
وبعد بضعة أبيات تقليدية في وصف الرحلة التقليدية إلى الممدوح يخلع العكوك على أبي دلف حشدا من معاني المديح العذبة المختارة ، المصوغة في عناية وأناقة ، الحاوية لأكثر من تشبيه خصب فريد ، المتضمنة البيتين الذائعي الصيت اللذين سببا له لذة الشهرة ومتاعب الحاسدين . يقول العكوك ماضيا في قصيدته :
المنايـا في منـاقبـه والعطايا في ذرا حجرة
هضـم الدنيـا بنائلـه وأقال الدين من عثـره
ملك تندى أنامله كابتسام الروض عن زهره
مستهل عن مواهبه كانبلاج النوء عن مطره
إنما الدنيا أبو دلف بين مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره
و لا يلب ثان ينعطف إلى معاني الفروسية التي تمثلت في حروب أبي دلف وبخاصة في واقعته مع قرقور الثائر المعروف:
يا دواء الأرض إن فسدت ومجير اليسر من عسره
رب ضافي الأمن في وزر قد أبت الخوف في وزره
زرتـه والخيل عابسة تحمل البؤس إلى عقره
خارجات تحت رايتها كخروج الطير من وكره
فأبحت الليل عقوته وقريت الطير من جزرة
إن هذه القصيدة ، لمعانيها الجليلة وصوغها البارع وسهولتها الممتنعةجديرة بأن تحتل مكانا مرموقا بين قصائد المديح .



د-العكوك يمدح حميدا الطوسي ويرثيه :
للعكوك العديد من القصائد في حميد الذي كان قادا محكنا من قواد المأمون ، مظفرا جبارا ، وكان شأنه شأن كل رجالات زمانه يطرب للمديح ويجزل عطاء المادحين .
وكان العكوك محتفلا بمدح حميد كل الاحتفال متفننا في إبداع معاني مديحه كل التفنن ، ولكنه على رغم منه لم يبلغ في واحدة منها مبلغه في قصيدته في أبي دلف الرائية رغم العديد من القصائد التي أنشاها فيه ، فمن صنوف التفنن وتوليد المعاني في مدحه حميدا
قوله :
دجلة تسقي ، وأبو غانم يطعم من تسقي من الناس
أعد للمعـروف أمواله وسيفـه في حلـبه الباس
يرتق مـا يفيق أعداؤه وليس يـأسو فتقـه آس
الناس جسم ، وإمام الهدى رأس وأنت ، العين في الرأس
ويوسع العكوك باب المديح من خلال القصائد ذات البحور القصيرة حين يخص حميدا بالعديد من القصائد التي صيغت في هذه البحور ، فمن ذلك بائيته التي يقول فيها :
فأنت الغيث في السلم وأنت الموت في الحرب
وأنت الجامع الفارق بين البعد والقرب
بك الله تلافى الناس بعد العثـر و النكب
ورد البيض و البيـض إلى الأغماد والحجـب
بإقدامك في الحـرب وإطعامك في اللزب
ويموت حيميد سنة 210 هـ ويحس الشاعر بمصيبته فيه ، فقد طالما خلع عليه حتى انه كان يعطيه أحيانا عن القصيدة الواحدة مائتي ألف درهم .
أن علي بن جبلة يرثي حميدا بقصيدة عينية تعتبر من عيون شعر الرثاء بحيث عاش على معانيها الكثير من فحول الشعراء مثل البحتري والمتنبي ، بل أن البحتري سلخ معانيها وضمنها مرثيتين له في أبي سعيد الثغري الذي كان أول عظيم مدحه البحتري .
إن العكوك يبدأ مرثيته بأبيات في الحكمة ، وقول الحكمة مرتبط دائما بمناسبات الحرب والرثاء ويستهلها بهذا البيت النفيس :
أللدهر تبكي أم على الدهر تجزع وما صاحب الأيام إلا مفجع
ويمضي الشاعر مصورا حزنه في ثوب من قول الحكمة :
ولو سهلت عنك الأسى كان في الأسى عزاء معز للبيب ومقنع
تعز بما عزيت غيرك إنها سهام المنايا حائمات ووقع
أصبنا بيوم في حميد لو أنه أصاب المنايا حائمات ووقع
وأدبنا ما أدب الناس قبلنا ولكنه لم يبق للصبر موضع
ويصور الشاعر القائد الفقيد بصورة الجبل المنيع على مسرى القصيدة في قوله :
وكيف التقى مثوى من الأرض ضيق على جبل كانت به الأرض تمنع
وفي قوله :
هوى جبل الدنيا المنيع وغيثها المريع وحاميها الكمي المشيع
ثم يطلق الشاعر لسجيته الحزينة الخصيبة العنان فيبكي حميدا بالمعاني التي وقرت له في نفسه من طول صحبته له وتجربته معه ومعرفته إياه ، ويتحير على إي نحو يبكيه وبأي شجو يرثيه :
على إي شجو تشتكي النفس بعده إلى شجوه أو يذخر الدمع مدمع
ألم تر أن النفس حال ضياؤها علي وأضحى لونها وهو أسفح
وأوحشت الدنيا وأودى بهاؤها وأجدب مرعاها الذي كان يمرع
وقد كانت الدنيا به مطمئنة فقد جعلت أوتادها تتقلع
بكى فقده روح الحياة كما بكى نداه الندى وابن السبيل المدمع
وفارقت البيض الخدور وأبرزت عواطل حسرى بعده لا تقنع
وأيقظ أجفانا وكان لها الكرى ونامت عيون لم تكن قبل تهجع
ولكنه مقدار يوم ثوى به لكل امرئ منه نهال ومشرع





15-محمد بن يسير الرياشي
( 00 - حوالي - 230هـ )
أ-حياته ونشأته :محمد بن يسيرالمجهول الولادة والمتوفى /230/ه واحد من الشعراء الذين تمسكوا بالإقامة في بلدتهم ولدوا فيها فلم يغادروها إلى مكان آخر خارجها، فهو لم يغادر مدينته " البصرة" خلال حياته التي شملت النصف الثاني من القرن الثاني الهجري وطرفا من القرن الثالث . والبصرة أنذال تحفل بكل متضاد متناقض من أسباب الحياة الاجتماعية و الأدبية والثقافية والفكرية والدينية ومظاهرها ، مجتمعها مجتمع زاخر فائر مختلط فيه الحابل بالنابل مشتبك فيه الغث بالسمين ، فلقد كان في البصرة آنذاك من مظاهر المجون والانحلال والانفلات عن القيم شيء كثير ، وكان فيها من نفحات الفكر والجدل في النحو واللغة واصطراع الأفكار والآراء وكان فيها من تيارات الأدب شعرا ونثر ورواية وتسجيلا شيء كثير وكان فيها من نفحات الفكر والجدل في النحو واللغة واصطراع الأفكار والآراء بحور زاخرة متلاطمة وكان فيها من حلقات العلوم الدينية من فقيهة ومذهبية وكلامية ما حفلت به الكتب وامتلأت به المتون وكان فيها من اتجاهات الزهد والحكمة ما تجلى في أعمال وأقوال الزهاد والقصاص وكان فيها من أجناس البشر وأشتات الناس بأخلاقهم المتنافرة وقيمهم المتشاجرة ومسالكهم المتشابكة ما جعل مجتمع البصرة مجتمعا غريب الأشكال متميز الأطوار متقلب الأحوال .
ب-شخصيته :لقد كان الشاعر محمد بن يسير صورة دقيقة لمجتمع البصرة ولعل السبب الرئيسي في ذلك أنة عاش فيها حياته لم يغادرها فانعكست صورتها على شخصيته ووضحت تياراتها على مسلكه وبرزت تناقضاتها في شعره .
ولذلك فقد تجمعت في ابن يسير صفات ما كانت لتتجمع إلا في بصري تعمد أن يعيش حياة البصرة كما هي بكل مظاهرها تلك المتناقضة فكان الرجل مستهترا خليعا سكيرا منحلا بخيلا هجاء وصافا غنيا فقيرا إنسانيا زاهدا حكيما أنها صورة غريبة تلك التي تتكون من صور عدة ثم تتجمع لكي تلبس أنسانا وتكسوه بأثوابها المتباعدة المقاييس والأحجام المتنافره المعايير والألوان أنه جامع الضدين بدأ ماجنا وانتهى
ج- أغراضه الشعرية :
1-+ 2-الهجاء والوصف عنده
ولابن يسير مشاركة في الهجاء ولكنه هجاء راق فكه غير متدن ولا مسف ولا مفحش ولا متهافت وهو لا يهجو لمجرد الهجاء وإنما هو يهجو لسبب لطيف معقول وهو يصب هجاءه في قالب من الفكاهة وإطار من الظرف وخفة الروح وأكثر هجاء ابن يسير انصب على جاره " منيع" البقال وإذا كانت العناية بالجار واجبة ودفع الأذى عنه يدخل في صلب المروءة فان إهمال " منيع" في حق ابن يسير قد دفع بشاعرنا إلى هجاء نعجته التي كانت تقوم بغاراتها على بستانه تارة وعلى دارة أخرى وكان الدمار الذي توقعه بالبستان يوجع قلب الشاعر فليس أكثر إيجاعا لقلب شاعر من أن يرى أزهار تتلف وأشجاره تكسر وأغصانه تقصف وخضرته تصوح أو نضارة بستانه تذوي وأما الدمار الذي كانت توقعه النعجة بالبيت فكان أكثره إيلاما لابن يسير هو أكلها كتبه وإتلافها قراطيس شعره .
والشاعر فيها طويل النفس مسترسل الأوصاف في يسر وبساطة وفي غير ما عسف أو تكلف وكأن الشعر طوع يمينه وملء برديه
لي بستان أنيق زاهر ناصر الخضرة ريان ترف
راسخ الأعراق ريان الثرى غدق تربته ليست تجف
لمجاري الماء فيه سنن كيفما صرفته فيه انصرف
مشرق الأنوار مياد الندى منثن في كل ريح منعطف
تملك الريح عليه أمره فإذا لم يؤنس الريح وقف
يكتسي في الشرق ثوبي يمنة ومع الليل عليها يلتحف
ينطوي الليل عليه فإذا واجه الشرق تجلس وانكشف
صابر ليس يبالي كثرة جز بالمجل أو منه نتف
كلما ألحف منه جانب لم يلبث منه تعجيل الخلف
لا ترى للكف فيه أثرا فيه بل ينمي على مس الأكف
فترى الأطباق لا تمهله صادرات واردات تخلف
فيه للخارف من جيرانه كلما احتاج إليه مخترف
أقحوان وبهار مونق وسوى ذلك من كل الطرف
وهو في الأيدي يحيون به على الاناف طورا يستشف
إن ابن يسير يسهم بهذا الوصف البديع الخلاب إسهاما واضحا في فن الروضيات من شعر الطبيعة فلقد خلع على بستانه من صفات البهاء والنضرة والجمال أوفر وأخصب ما يخلعه شاعر عاشق للطبيعة على بستان غير إن يسير لم يكن يقصد إلى وصف البستان كغرض وهدف وإنما جعل ذلك مقدمه أن ابن يسير لم يكن يقصد إلى وصف البستان كغرض وهدف وإنما جعل ذلك مقدمة لتأليف الخواطر على النعجة المخربة التي أنزلت التلف والدمار بهذا البستان الأنيق ومن الطريف أن ابن يسير جعل من هذه النعجة خصما و غريما وتمثلها كما لو كانت شخصيا يصدر أفعاله عن عقل وسوء نية ومن ثم فهو يصب عليها من ألوان الهجاء ما لو صبه على ذي مروءة من البشر لجدع أنفه ونال من كرامته إن ابن يسير يصف فمها فيقول إنه كالح هم قبيح المنظر وأما أنفها فدائم السيل لا يجف وأما أظلافها فطويلة مخربة غير مهذبة تنسف في مشيتها فتثير سحابا من الغبار و أعاصير من التراب وبعد وصفة مشيتها يصف سعالها ويذكر " أشياء أخرى" تتبع السعال ويمعن الشاعر في هجاء النعجة فيقول:إنها كريهة الرائحة شوهاء الخلقة تعافها التيوس وهيلوعرضت في مكان عام ونودي عليها لجمع صاحبها فلوسا كثيرة:
اعفه يا رب من واحدة ثم لا أحفل أنواع التلف
اكفه شاة " منيع" وحدها يوم لا يصبح في البيت علف
اكفه ذات سعال شهلة متعت في شر عيش بالخوف
اكفه يا رب وقصاء الطلى الحم الكتفين منها بالكتف
وكلوح أبدا مفترة لك عن هتم كليلات رجف
ونئوس الأنف لا يرقا ولا أبدا تبصره إلا يكف
لم تزل أظلافها عافية لم يظلف أهلها منها ظلت
فترى في كل رجل ويد من بقاياهن فوق الأرض خف
ترهج الطرق على مجتازها بيد في المشي والخطو القطف
في يديها طرق مشيتها حلقة القوس وفي الرجل حنف
فإذا ما سعلت واحدة ودبت جاوب البعر عليها فخصف
وأحص الشعر منها جلدها شنة في جوف عار منخسف
ذات قرن وهي جماء إلا إن الوصف كوصف مختلف
وإذا تدنو إلى مستعسب عافها نتنا إذا ما هو كرف
لا ترى تيسا عليها مقدما رميت من كل تيس بالصلف
شوهة الخلقة ما أبصرها من جميع الناس إلا وحلف
ما رأى شاة ولا يعلمها خلقت خلقتها فيما سلف
عجبا منها ومن تأليفها عجبا من خلقها كيف ائتلف!
لو ينادون عليها عجبا كسبوا منها فلوسا ورغف
إن هذا الوصف الساخر لا نكاد نرى له مثيلا , وهو من الدقة بحيث لا يحسه إلا ريفي سمع الثغاء ورأى قطعان النعاج في طريقها إلى الرعي , وفراداها تعبث في الحقول وتعيث فسادا في البيوت ، ولفرط غيظ ابن يسير من شاة منيع يمضي في قصيدته الهجائية الطويلة الطريفة يدعو عليها ويتمنى لها كل أسباب الشر والهلاك بسكين رهيفة الشفرة في يد حكيم الكف خفيفها :
فتناهت بين أضعاف المعى وتبوت بين أثناء الشغف
أو أن يراها :
شاغرا عرقوبها قد أعقبت بطنة من بعد إدمان الهيف
وغدا الصبية من جيرانها ليجروها إلى مأوى الجيف
فتراها بينهم مسحوبة تجرف الترب بجنب منحرف
فإذا صاروا إلى المأوى بها أعملوا الآجر فيها والخزف
ثم قالوا ذا جزاء للتي تأكل البستان منا والصحف
لا تلوموني , فلو أبصرت ذا كله فيها إذن لم أنتصف
وخصومة ابن يسير وشاة منيع متتابعة موصولة , لأن عبث هذه النعجة المتلافة لا يقف مع الشاعر عند حد . وابن يسير في كل ذلك محتشم التصرف مهذب الجوار , إنه لم يزد على أن هجا الشاة لعبثها بالبستان , ولكنها تتشجع , وينتقل ميدان نشاطها المدمر من البستان إلى الدار , فتهجم عليها وهو غائب فتأكل كتبه والأوراق التي دون فيها شعره . لقد أشار ابن يسير إلى شيء من ذلك ـ بلطف ـ في البيت قبل الأخير , ولكنه هذه المرة لفرط غيظه لا يجد بدا من التلميح الخفيف والإشارة إلى أصحاب النعجة بضمير الغائبين , إنهم يجيعونها فتنقض على أمتعة الجيران , وهو يطلب إليهم إن يبيعوها طالما أعوزهم العلف . إنه يقول ذلك في الأبيات طريفة تجمع بين نفثات مغيظة وانعكاسات ضاحكة :
قل لبغاة الآداب ما صنعت منها إليكم فلا تضيعوها
وضمنوها صحف الدفاتر بالــ ــحبر وحسن الخطوط أوعوها
فإن عجزتم ولم يكن علف تسيغه عندكم فبيعوها
هذا ولابن يسير هجاء في البشر اشتمل كثيرا من المعاني الفكهة التي ضمنها هجاءه الغنم , إنه ينحو إلى جانب الطرافة والسخرية الخفيفة غير المريرة مع تماسك في أسلوبه وبنائه الشعري , فمن ذلك أبيات كتبها لأحد الهاشميين كان بينهما مودة أعقبها ملال :
قد كنت منقبضا وأنت بسطتني حتى انبسطت إليك ثم قبضتني
أذكرتني خلق النفاق وكان لي خلقا فقد أحسنت إذ أذكرتني
لو دام ودك وانبسطت إلى امرىء في الود بعدك كنت أنت غررتني
فهلم نجتذب التذاكر بيننا ونعود بعد كأننا لم نفطن
3+4_الموضوعات الاجتماعية والثقافية:
لشاعرنا صروف من القول متميزة عن كثيرين ممن شاركوا في فنون الشعر , ذلك أنه يسجل علاقته بمجتمعه الذي حوله تسجيلا طريفا دقيقا , وهو أمر قلما نلحظه عند لقد أراد أن يستعير حمارا مكن أحد جيرانه يحمله إلى مكان يقضي فيه بعض أموره , ولكن جاره بخل عليه بالحمار ، فما كان من ابن يسير إلا إن ذهب إلى حيث أراد ماشيا ولكن هذه الحادثة تثير في خاطره شجنا فيعزي نفسه بأنه صاحب رجلين قويتين تبلغانه حاجاته البعيدة كأنهما – لما تثير انه من غبار – عاصفة أو إعصار ، ويظل شاعرنا الظريف يصف نفسه مستعملا رجليه وكأنه يصف جوادا أصيلا أو في أسوا الحالات حمارا نشطا ، فينشئ هذه الأبيات التي يوجهها إلى صديقة عمرو القصافي مخبرا وشاكيا :
إن كنت لا عير لي يوما يبلغني حاجي وأقضي عليه حق إخواني
وضن أهل العواري حين أسألهم من أهل ودي وخلصاني وجيراني
فإن رجلي عندي – لا عدمتهما رجلا أخي ثقة مذ كان جولاني
تبلغاني حاجاتي وإن بعدت وتدنياني مما ليس بالداني
كأن خلفي إذا ما جد جدهما إعصار عاصفة مما تثيران
رجلاي لم تألما نكبا كأنهما قطا وقدا وإدماجا مداكان
فالحمد لله يا عمرو الذي بهما عن العواري وعن ذا الناس أغناني
ويبلغ ابن يسير قمة من قمم المواقف الإنسانية حين يتعجب بعض القوم من نعال خلقة وسخة كان يلبسها فيكتب أبياتا بارعة يصف فيها نعاله هذه وصفا دقيقا رقيقا ، ويربط بين قدمها وبين نفسه بمعاني الود التي جمعته إليها ، ويعمد في أبياته كذلك إلى التهكم ، والى الفخر بإخائه ووفائه وعفافه ومنطقة وفعاله إن رأى غيره أن يفخر بالنعال فلنستعرض هذا الضرب الجديد الغريب من الفكر والشعر :
كم أرى من مستعجب من نعالي ورضائي منها بلبس البوالي
كل جرداء قد تحيفها الخصف بأقطارها بسرد النقال
لا تداني وليس تشبه في الخلقة إن أبرزت نعال الموالي
لا ولا عن تقادم العهد منها بليت لا ولا لكر الليالي
ولقد قلت حين أوثر ذا الود عليها بثروتي و بمالي
من يغالي من الرجال بنعل فسوائي إذا بهن يغالي
أو بغاهن للجمال فاني في سواهن زينتي وجمالي
في إخائي وفي وفائي ورأيي وعفافي ومنطقي وفعالي
ما وقاني الحفا وبلغني الحاجة منها ، فإنني لا أبالي
وابن يسير شاعر مثقف يحب الكتب ويهوى القراءة ، وكم فجعته النعجة العتيدة – نعجة البقال منيع في كتبه التي تشكل شيئا هاما في حياته ، إنها بالنسبة إليه ليست مجرد صفحات تحوي أخبارا ، ولكن الكتب في بيته مؤنسون وألاف وجلساء خير ، وعشراء معرفة أنها نفسها نظرة الشاعر المثقف العالم أبي عمرو العتابي ، بل إنها معانيه ، ولكنها صيغت بأسلوب آخر وروح أخرى – ولا باس في ذلك – وكم تمنينا لو أكثر الشعراء من القول في مثل هذا الغرض ولو تقاربت معانيهم . بقول محمد بن يسير في وصف الكتب:
هم مؤنسون وألاف غنيت بهم فليس لي في أنيس غيرهم أرب
لله من جلساء لا جليسهم ولا عشيرهم للسوء مرتقب
لا بادرات الأذى يخشى رفيقهم ولا يلاقيه منهم منطق ذرب
ابقوا لنا حكما تبقى منافعها أخرى الليالي على الأيام وانشعبوا
فأيما آدب منهم مددت يدي إليه فهو قريب من يدي كثب
إن شئت من محكم الآثار يرفعها إلى النبي ثقاب خيرة نجب
أو شئت من عرب علما بأولهم في الجاهلية أنبتني به العرب
أو شئت من سير الأملاك من عجم تنبي وتخبر كيف الرأي و الأدب
حتى كأني قد شاهدت عصرهم وقد مضت دونهم من دهرهم حقب
وتتولى مشاكل ابن يسير الثقافية بشكل أو بأخر ، لقد كان الشاعر يحتفظ معه بألواح من الأبنوس يكتب فيها ما يعن له من شعر أو غيره ، وكان بينه وبين قثم بن جعفر بن سليمان مودة وصداقة ، وكثيرا ما كان قثم يدعوه للشراب ، وقد أسلفنا القول إن ابن يسير لم يبت ليلة إلا وهو سكران ، وليس أهون من سرقة السكران ، فانتهز قثم مناسبة سكر ابن يسير وسرق منه ألواحه الأبنوسية الثمينة ، فلما اكتشف الشاعر ضياعها حزن عليها ورثاها تماما كما لو كان أنسانا عزيزا يشاد بشمائله ويرثي لفضائله . أنها بداية المرحلة الثقافية الشعرية فقد تلا ذلك بسنوات ثم بعقود من السنوات ثم بقرن أو أكثر وصف القلم والمحبرة والبركار والأصطرلاب ورثاء سكينة بري الأقلام وغير ذلك من ذكر أدوات الثقافة . إن ابن يسير واحد من الشعراء الرواد في هذا المجال فلنقرأ رثاءه الطريف لألواحه ((الفقيدة)) :
عين بكي بعبرة تسفاح وأقيمي مآتم الألواح
أوحشت حجزتي وردناي منها في بكوري وعند كل رواح
واذكريها إذا ذكرت بما قد كان فيها من مرفق وصلاح
آبنوس دهماء حالكة اللون لباب من اللطاف الملاح
ذات نفع خفيفة القدر والمحمل حلكوكة الذرا والنواحي
وسريع وجفوفها إن محاها عند ممل مستعجل القوم ماحي
هي كانت على علومي وإلا داب والفقه عدتي وسلاحي
كنت أغدو بها على طلب العلم إذا ما غدوت كل صباح
هي كانت غذاء زوري إذا زار وري النديم يوم اصطباحي
ويبدو أن هذه الألواح كانت عزيزة على قلب ابن يسير بحيث ظل ذاكرا لها حزينا على ضياعها ، لأنه رثاها أكثر من مرة ، ويفهم من شعره فيها أنها كانت مزدانة الصدف والأطر الجلدية . يقول شاعرنا مرة أخرى في ألواحه:
أبقت الألواح إذ أخذت حرقه في القلب تضطرم
زانها فصان من صدف واحمرار السير والقلم
وتولى أخذها قثم لا تولـى نفعها قثـم

5+6_الحكمة والزهد عند ابن يسير :
وينتهي المطاف بابن يسير كما انتهى بغيره من الشعراء من معاصريه باصطناع الحكمة أو باعتناقها مبدأ وسبيلا ، لقد انتهى إليها كل شعراء زمانه تقريبا ، وعاش في رحابها بداية ونهاية بعض منهم كالعتابي والخريمي ومحمود الوراق . أمت شرعرنا فمن الفريق الأول ، ذلك الفريق الذي أسرف على نفسه وعلى مجتمعه في مرحلة الشباب والهرم ولم يتوبوا إلا على أبواب الشيخوخة ، شيخوخة السن أو شيخوخة العافية ، بجانب أنساني عميق مؤثر . إن ابن يسير بدأ يعلن عن حبه للحياة بشكل جديد ، ليس لمعاقرة الكأس أو مصاحبة الغواني ولكن لعيش لابنته التي يحبها ويحنو عليها ويخشى عليها إذا مات ذل اليتيمة وقد جفاها ذوو رحمها ، انه يخشى على فلذة كبده فظاظة عم أو جفاء أخ ، وهو كلما تصورها تندبه سالت عبرته ممزوجة بدمه ، ومن ثم فهو يتمنى لها شيئا آخر في حياته حبالها وشفقة بها ، فماذا قال الشاعر الحكيم وماذا تمنى ؟
أنه يقول:
لولا أميمة لم أجزع من العدم ولم أجب في الليالي حندس الظلم
وزادني رغبة في العيش معرفتي ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم
أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
إذا تذكرت بنتي حين تندبني جرت لعبرة بنتي عبرتي بدم
تهوى بقائي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
ولا يلبث ابن يسير في ضوء تجارب الحياة أن ينطلق من عقال ذاتيته إلى ميدان الحياة الرحيب ، فيلفظ الحكمة لكل الناس ينتفعون بها ويرددونها نماذج تروى على ألسنتهم من بعده ، انه يقول:
تخطي النفوس مع العيان وقد تصيب مع المظنة
كم من مضيق في الفضاء ومخرج بين الأسنه
ولكنه إن بدا قدريا في البيتين السابقين فهو صاحب حكمة تجريبية عميقة ومبدأ أخلاقي صادق في حديثه عن صاحب السوء والتعريف به عندما يقول
وصاحب السوء كالداء العياء إذا ما ارفض في الخد يجري من هنا وهنا
يبدي ويخبر عن عوارء صاحبه وما يرى عنده من صالح دفنا
فان يكن ذا فكن عنه بمعزلة أو مات هذا فلا تشهد له خبنا
هذا ولابن يسير أبيات استقرت في خواطر وحوافظ كثير من الناس دون إن يعرف أكثر حفاظها من قائلها . إنها الأبيات الجيمية القافية التي تطرد اليأس وتحض على الصبر في علاج الأمور ومداومة العمل والسعي دون كلل أو ملل مع الاحتراز من الأيام ، فصفوها لا يدوم وكدرها ممزوج بصفوها . يقول الشاعر المجرب الحكيم :
ماذا يكلفك الروحات والدلجا البر طورا وطورا تركب اللججا
كم من فتى قصرت في الرزق خطوته ألفيته بسهام الرزق قد فلجا
لا تيأس وان طالت مطالبة إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
اخلق بذي الصبر إن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب إن يلجا
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقا عن غرة زلجا
ولا يغرنك صفو أنت شاربه فربما كان بالتكدير ممتزجا
لا ينتج الناس إلا من لقاحهم يبدو لقاح الفتى يوما إذا نتجا
ومن مقام الحكمة ينتقل محمد بن يسير إلى المرحلة التالية ، إنها مرحلة الزهد في الحياة وتذكر الموت واستحضاره ، انه يطرق معاني أبي العتاهية ولكن بصورة أعمق فكرة وأوقر تناولا ، وأجزل شعرا ، وذلك في قوله الرصين العميق :
لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون والقبور تزيد
هم جيرة الأحياء أما محلهم فدان ولكن اللقاء بعيد ثم ينتقل الشاعر إلى مرحلة أبعد في الزهد حين يستحضر الموت ويرى نفسه على سرير المنايا ماضيا في فكرته على درب أبناء زمانه ، ولكنه أكثر منهم إفصاحا عن إيمانه بالآخرة والثواب والعقاب.
عجبا لي ومن رضاي بحال أنا منها على شفا تغرير
عالما لا اشك أني إلى عدن إذا مت آو عذاب السعير
كلما مر بي على أهل ناد كنت حينا بهم كثير المرور
قيل من ذا على سرير المنايا؟ قيل هذا محمد بن يسير
ويطلب محمد بن يسير الرحمة من الله للناس ، ويخشى العذاب ويندم على غفلته ويسخر من طول المقام في الدنيا فالموت نهاية كل حي ، ويكرر الابتهال إلى الله طمعا في رحمته وذلك في قوله الذي نحس فيه صدق المناجاة
ويل لمن لم يرحم الله ومن تكون النار مثواه
واغفلتا في كل يوم مضى يذكرني الموت وأنساه
من طال في الدنيا به عمره وعاش فالموت قصاراه
كأنه قد قيل في مجلس قد كنت آتيه وأغشاه
محمد صار إلى ربه يرحمنا الله وإياه
تلك رحلة عمر محمد بن يسير : مجون وانحلال ، ثقافة ومعرفة ، ثم حكمة وتجربة ثم زهد وتوبة وابتهال . وإما رحلة فنه فهو شاعر موهوب جيد المعاني متمكن الصوغ وصادف دقيق صاحب فكاهة ، رائد في مدرسة الشعر الثقافي ، أوله نواسي ووسطه عتابي وآخره خريمي ، إن فيه من أبي نواس مجونه وخلاعته ورقة شعره ، ومن العتابي ثقافته وحبه للمعرفة وعشقه للكتب وإجلاله لها ، ومن الخريمي حكمته العميقة النابعة من تجاريب الحياة وأسلوبه الشعري المتمكن الجزل البناء الرصين التكوين ، وهو بعد ذلك . سجل أمين دقيق لثقافة أهل زمانه وطبيعة مجتمعهم .






16-ديك الجن
عبد السلام بن رغبان
/ 161- 235/ هـ
أ-حياته ونشأته :ولد وعاش ومات فيها , لم يبرحها إلا إلى المناطق المجاورة لها ولم يحاول أن يذهب إلى بغداد التي كانت قبلة الشعراء والأدباء ومركز العلم والثقافة والوجاهة والسياسة مثلما كان يفعل شعراء زمانه , وإنما أصر على البقاء في موطنه . بشدو بشعره المختل,ف الألوان والأشكال والطعوم حتى سافر شعره دونه إلى بغداد وغير بغداد , الأمر الذي جعل كبار شعراء بغداد يفدون إلى حمص ويطرقون باب بيته يكيلون له الثناء والإعجاب ويجزلون له التحايا والتقريظ على ما سوف نبين بعد قليلوتسمية عبد السلام ابن رغبان بديك الجن , هو أن عبد السلام ابن رغبان كان ذا عينين زرقاوين صافيتين صفاء عين الديك .

ب -شخصيته :
إن عبد السلام بن رغبان الملقب بديك الجن واحد من الشعراء الذين ميزتهم من غيرهم أحداث خاصة وقضايا بعينها , ذلك أن ديك الجن من شعراء الأمصار العباسية , فهو شامي من حمص , , كان ديك الجن ماجنا خليعا متلافا على معاشرة المجان ومخالطة أهل الخلاعة وكان له ابن عم يكنى بأي الطيب لا يتوانى عن وعظه وإسداء النصح إليه , فكان ديك الجن يقابل ذلك بالاستخفاف , وانتهى به الأمر إلى إنشاء قصيدة طويلة يجاهر فيها بالانحراف ويهجو ابن عمه هجاء مقذعا مطلعها :
مولاتنا يا غلام مبتكره فباكر الكأس بلا نظره
غدت على اللهو والجون على أن الفتاه الحيية الخفره
لحبها – لا عدمتها – حرق مطوية في الحشا ومنتشره
والقصيدة طويلة عاج فيها ديك الجن على هجاء ابن عمه هجاء حوى أسبابا من الفحش والقسوة والمرارة , وختمها- والخطاب موجه إلى ابن عمه- بقوله
سبحان من يمسك السماء على الأرض وفيها أخلاقك القذره
كل ذلك التهجم والقسوة سببها إرادة الخير للشاعر وزجره عن خلاعته ومجونه ودعوته إلى الحشمة والاستقامة .
ج-شذوذه:وكان ديك الجن في مضمار مجونه يشبب بفتى من حمص اسمه بكر , وأكثر من قول القصائد والمقطوعات غزلا بهم تشببا فيه.
د-حبه لآل البيت :ولكن الأمر الذي يبدو غريبا أن آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم , وله في مدحهم ورثاء حالهم والبكاء على الحسين قصائد كثيرة لعل أشهرها تلك التي يقول فيها :
يا عين لا للقضاء ولا الكتب بكا الرزايا سوى بكا الطرب
ه-شعوبيته :وديك الجن بالإضافة إلى ذلك شعوبي يحمل على العرب ويتحمس لغيرهم , بل إنه افتخر بعدم انتسابه إلى العرب وذلك في قوله :
إن كان عرفك مذخورا لذي سبب فاضمم يديك على حر أخي نسب
أو كنت وافقته يوما على نسب فاضمم يديك فاني لست بالعربي
إني امروء بازل في ذروتي شرف لقيصر ولكسرى محتدي وأبي
من خلال هذه الصيغة الهجومية كان ديك الجن يحمل على العرب ويهاجمهم ويفخر بالانتساب إلى غيرهم فإذا ما خفف من غلواء شعوبيته قال: مالهم فضل علينا , أسلمنا كما أسلموا , ومن قتل منهم رجلا منا قتل به .
وكان الشعراء الشعبيون يتخذون من الوقوف على الأطلال ذريعة للتهجم على العرب والتعويض بهم , وإن ديك الجن يعمد إلى الصنيعنفسهفي بعض قصائده , فمن ذلك قوله:
قالوا السلام عليك يا أطلال قلت السلام على المحيل محال
عاج الشقي مراد دمن البلى ومراد عيني قبة وحجال
لأغادين الراح وهي زلال ولأطرقن البيت غزال
ولأتركن حليلها وبقلبه حرق وحشد فؤاده بلبال
كما صنع أبونواس في أبياته:
عاج الشقي على دار يسائلها وعجت أسأل عن خمارة البلد
وديك الجن في بيته الثالث الذي يسترخص فيه حرمات البيوت إنما يناقض به الخلق العربي الحريص على العفة والفضيلة والحفاظ على الجارات الذي يتمثل في قول عنترة :
وأغض طرفي إن بدت لي جاري حتى بواري جارتي مأواها
وعلى النهج نفسه في كراهيته للعرب يقول ديك الجن في أبيات أخرى ساخرا من ظاهرة الوقوف على لأطلال:
نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى كهوى جديد أو كوصل مقبل
ما إن أحن إلى خراب مقفر درست معالمه كأن لم يؤهل
مقتي لمنزلي الذي استحدثته أما الذي ولى فليس بمنزلي
إن أبا تمام أخذ ا المعنى من ديك الجن وقلبه رأسا على عقب فقال :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل
لقد كانت الشعوبية وكراهية العرب منتشرة بين كثير من الشعراء في ظل الحكم العباسي الذي كان يدين بنشأته للفرس . ومن ثم كانت بغداد متخمة بجموع الشعراء الشعوبيين . فإذا ما نحينا السلوك الشخصي جانبا وجدنا ديك الجن من أنبغ شعراء الفترة العباسية وكان ندا لكبار شعراء زمانه مثل أبي نواس ودعبل الخزاعي , كما و-أستاذيته في الشعر:كان أستاذا لكبار شعراء العربية من أمثال أبي تمام والمتنبي والوأواء الدمشقي .
فأما أبو نواس فقد اجتاز بحمص وهو في طريقه من العراق إلى مصر لكي يمدح واليها الخصيب بن عبد الحميد . و فيها توجه إلى دار ديك الجن وطرق بابه واستأذن الدخول . ولكن جارية ديك الجن أنكرت وجود سيدها بالبيت حسبما أوصاها بذلك . فعرف أبو نواس بفراسته أن الرجل ينكر وجوده خشية أن يبدو قاصر أمامه وقال لها : قولي له اخرج فقد فتنت أهل العراق بقوتك :
موردة من كف ظبي كأنما تناولها من خده فأدارها
فلما سمع ديك الجن حديث أبي نواس للجارية خرج إليه وأحسن استقباله.
لقد جرى إعجاب أبي نواس بديك الجن حين كان هذا الأخير لم يتعد الثلاثين من عمره بعد وكان منطويا على نفسه في حمص لا يبرحها , ولكن جودة شعره انطلقت في الآفاق تدق أبواب أندية بغداد والبصرة وأنحاء أخرى من عالم ذاك الزمان .
ولدعبل الخزاعي قصة مشابهة مع الشاعر الحمصي فلقد وفد على حمص وقصد إلى دار ديك الجن يبغي لقاءه ولكن ديك الجن لم يرد أن يواجهه خوفا منه تماما مثلما فعل مع أبي نواس وهنا بقول دعبل : ماله يستر عنا وهو أشعر الجن والإنس أليس هو القائل :
بها غير معدول فداو خمارها وصل بعشيات الغبوق ابتكارها
ونل من عظم الوزر كل عظيمة إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها
حينئذ اطمأن ديك الجن وظهر لدعبل واعتذر له وأحسن استقباله .
هذا ولقد تثقف الشاعر العظيم أبو تمام على شعر ديك الجن , وكان يتردد عليه بين الحين والحين وكان ديك الجن يعطف عليه ويعطيه نسخا من قصائده يتثقف عليها وينمي شاعريته بقراءتها , وكان أبو تمام آنذاك حدث السن رطب العود.
ومن الطريف أن التلميذ قد فاق أستاذه شعرا وشهرة , ومن المؤسف كذلك أنه لم يعمر طويلا , فقد مات التلميذ في حياة أستاذه الذي حزن على وفاته ورثاه.
ز-حادثة قتله زوجته وشعره فيها :
لا يذكر ديك الجن إلا وتذكر معه حادثة رهيبة أثرت حادثة قتله لزوجته في حياته وجعلته يمنح التراث الشعري لونا جديد من فن الرثا المخلوط بالغيرة المتلفع بالندم المشوب بالدماء أما الحادثة التي نشير إليها المرتبطة بحياته وسيرته فهي أنه أحب فتاة نصرانية اسمها ورد ثم جعلها تعتنق الإسلام وتزوجها , وتصادف أن غاب ديك الجن عن بيته بعض الوقت فلما عاد سمع من أفواه الناس ما يسيء إلى سمعة زوجته وعفتها , فقتلها ولما أن أفاق من غضبته ندم على فعلته وأخذ يبكيها بكاء مرا تارة وتارة أخرى يخلط البكاء والرثاء بوجوب الثأر منها والانتقام لشرفه وعرضه . وهناك رواية أخرى تقول إن المقتولة هي جاريته دنيا التي اتهمها في غلامه
وصف .
وسواء صحت هذه الرواية أو تلك فقد وقعت الحادثة وكانت مصدر الهام ونفجع مدته أمدته بلون من الشعر يشتمل على الكثير من الأعذار والعواطف , ولكنه مشبع في كل حالاته بالدماء .
يقول ديك الجن مصورا قتله لزوجته غيرة عليها وبخلا بحبها على سواه:
يا طلعة طلع الحمام عليها وجنى لها ثمر الردى بيديها
رويت من الثرى ولطالما روى الهوى شفتي من شفتيها
مكنت سيفي في مجال خناقها ومدامعي تجري على خديها
فوحق نعليها وما وطىء الحصى شيء أعز علي من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن أبكي إذا سقط الغبار عليها
لكن بخلت على سواي بحبها وأنفت من نظر الغلام إليها
وفي أبيات أخرى الجن يذهب الشاعر مذهب الندم ويحاول تبرئة ساحة نفسه حيال فعلته ، ويظهر الحزن والبكاء والأسى ولكن أساه ليس على ما فعل بل على ما فعلت هي ، وفي ذلك يصدر عن هذه الأبيات:
ليتني لم أكن لعطفك نلت و إلى ذلك الوصال وصلت
فالذي مني اشتملت عليه ألعار ما قد عليه اشتملـت
قال ذو الجهل قد حلمت ولا أعلم أني حلمت حتى جهلت
لائم لي بجهلة ولماذا أنا وحدي أحببت ثم قتلت
سوف آسى طول الحياة وأبكيك على ما فعلت لا ما فعلت
ويظل ديك الجن سادرا في خضم غضبه ويثير في خواطره الإحساس بالتمرد على هوى الغواني ويرميهن بالكذب في عواطفهن والنفاق في مشاعرهن ، ثم ينعطف إلى زوجة القتيل مصدرا حكمه عليها بالقتل لخيانتها قائلا :
لك نفس مواتيه والمنايـا معاديـة
أيها القلب لا تعد لهوى البيض ثانية
ليس برق يكون أخلب من برق غانية
خنت سري ولم أخنك فموتي علانية
غير أن ديك الجن لا يلب ثان ينهار أسى وينفطر حزنا على زوجته القتيلة رغم خيانتها له ، فتزدحم في خاطره شحنات كاسحة من العواطف والذكريات فيفرغها جميعا في هذه الأبيات الرقيقة الحزينة الباكية :
أشفقت أن يرد الزمان بغدره أوأبتلى بعد الوصال بهجره
قمر أنا استخرجته من دجنه لبليتي وجلوتـه من خدره
فقتلته وله علي كرامة ملء الحشى وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميتا كأحسن نائم والحزن يسفح عبرتي في نحره
لو كان يدري الميت ماذا بعده بالحي حل بكى له في قبره
غصص تكاد تفيض منها نفسه وتكاد تخرج قلبه من صدره
نقول إن شحنات من العواطف والذكريات ازدحمت في خاطر ديك الجن فبكى زوجته على رغم خيانتها هذا البكاء الذي بدا صادقا ، ذلك أننا لو عدنا بعلاقتهما إلى الوراء قليلا واستعرضنا ما قاله فيها من غزل لوقعت أعيننا على بدرة من أبيات الحب وصورة من صور الجمال عذبة خلابة رسمها الشاعر المحب في عناية وتأنق وافتنان قال ديك الجن في ((ورد)) التي صارت له زوجا ثم ضحية وشاية على بعض الروايات :
انظر إلى شمس القصور وبدرها وإلى خزاماها وبهجة زهرها
لم تبل عينك أبيضا في أسود جمع الجمال كوجهها في شعرها
وردية الوجنات يختبر اسمها من ريقها من لا يحيط بخبرها
وتمايلت فضحكت من أردافها عجبا ولكني بكيت لخصرها
تسقيك كأس مدامة من كفها وردية ومدامة من ثغرها
لقد اقترف الشاعر جريمة قتل من أحب حبا شديدا وبالتالي فقد أحسن بمضاعفات الوزر الذي ارتكبه ، ثم أراد إن يهرب من هذا الوزر وما يستتبعه من هواجس أقضت مضجعه وبلبلت خواطره ، فكان عليه لكي يهرب من واقعه الأليم إن يقنع نفسه بشرعية ما اقترف وصواب ما ارتكب ، ومن ثم فقد اندفع يقول شعرا يحمله هذه المعاني ، ولكن كوامن إحساسه بالحسرة والندم كانت تفرض واقعها عليه فتغلبه على أمره ، فكان نتاج أحاسيسه هذا الشعر الغريب الفريد الذي جمع من الرقة نهايتها ومن العاطفة أعمقها ومن الأحاسيس ألوانا متنافرة متعاركة متداخلة متشاجرة ، ولكن تمكن الشاعر القاتل المحب من فنه وإمساكه بعنانه جعله يسوقه في هذا المضمار المستقيم في لون من التجانس إن رفضه العقل والمنطق قبله الذوق والإحساس .
ح-صنعته : يعد ديك الجن الحمصي شاعرا مجيدا متمكنا ممسكا بأسباب الإتقان غير بعيد عن التطور إن لم يكن رائدا فيه وبالتالي فهو مقلد حينا ، مجدد أحيانا أخرى ،
1-التقليد عنده : فمن شعره الذي قلد فيه سابقه من الشعراء المحبين الماديين قوله متابعا نهج مدرسة عمر بن أبي ربيعة :
و معدولة مهما أمالت إزارها فدعص وأما قدها فقضيب
لها القمر الساري شقيق وإنها لتطلع أحيانا له فيغيب
أقول لها والليل مرخ سدوله وغصن الهوى غض الشباب رطيب
ونحن به فردان في ثني مئزر بك العيش يا زين النساء يطيب
لانت المنى يا زين كل مليحة وأنت الهوى أدعى له فأجيب
ليس من شك في أن هذه الأبيات رقيقة النسج عذبة الإيقاع ، ولكنها شبيهة بالكثير من شعر المحبين السابقين زمانا على ديك الجن ممن كانت حياتهم إلى البداوة أقرب منها إلى الحضارة . ومثلها بل أكثر بداوة منها قوله :
ولي كبد حرى ونفس كأنها بكف عدو ما يريد سراحها
كأن على قلبي قطاة تذكرت على ظمإ وردا فهزت جناحها
2-التجديدعنده :غير أن نصيب ديك الجن من الجديد أكبر وسهمه في التجديد أوفر ، لقد مر بنا في صدر الحديث عن الشاعر قال أبو نواس للجارية حين أنكرت وجود سيدها ديك الجن في البيت ،قوله لهأ فقد فتنت أهل العراق بقولك :
موردة من كـف ظبي كأنـما تناولها مـن خـده فـأدارها
وهو بيت من مقطوعة يقول فيها :
بها غير معدول ، فداو خمارها وصل بعشيات الغبوق ابتكارها
وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغر ولا تسق إلا خمرها وعقارها
فقام ، تكاد الكأس تحرق كفه من الشمس أو من وجنتيه استعارها
موردة من كف ظبي كأنما تناولها من خده فأدارها
ظللنا بأيدينا نتعتع روحها وتأخذ من أقدامنا الراح ثارها
لا شك أنابا نواس كان صادقا الصدق كله حين أبدى إعجابه وترجم عن إعجابه مواطنه العراقيين بهذه الأبيات التي جمعت من أسباب الاتساق والخيال والصورة ، ومن براعة الصوغ ورقة الإيقاع ما يجعلها تحتل مكانة مرموقة بين صور التجديد وأساليبه .
ومن الصيغ الجديدة التي قدم لها ديك الجن نماذج عدلت فيه رشاقة الأسلوب وانتفاحه طرافه المعاني وأعماقها قوله متغزلا :
وغرير بين الدلال وبين الملك فارقته على رغم أنفي
لم أكن أعلم الزمان بحبيه فيجني فيه علي بصرف
صنت عن أكثري هواه فما يعلم ما بي إلا فؤادي وطرفي
إنها صناعة في القول مترفة ، وتأنق في المعاني مرتب ، العفوية بعيده عنها ، ولكن الذوق يقبلها ويعجب بها ولا يرفضها .
ومع ذلك فإن ديك الجن لا يفتأ ممسكا بزمام فحولة القول وجلال المعنى في مختلف أبواب الشعر ، وإذا كان القول في الرثاء محكا صادقا لفحولة الشعراء لما يتطلبه الموقف من جلال المعاني ودقتها ، وصدق الصور وحرارة المشاعر وتوليد الحكم و جزالة الأسلوب فإن ديك الجن لا يقصر في هذا المجال ،بل إنه يجيد ويبرز ويتفوق
إن لديك الجن مراثي كثيرة لعل من أشهرها قصيدته الطويلتين ، الأولى كانت عزاء لجعفر بن علي الهاشمي في فقد ولده ، والثانية في رثاء جعفر نفسه لما مات ومطلع مرثيته لجعفر :
على هذه كانت تدور النوائب وفي كل جمع للذهاب مذاهب
وفيها يقول مصطنعا الحكمة التي تمتزج عادة مع مواقف الرثاء :
تزلنا على حكم الزمان وأمره وهل يقبل النصف الألد المشاغب ؟
وتضحك سن المرء والقلب موجع ويرضى الفتى عن دهره وهو عاتب
ألا أيها الركبان والرد واجب قفوا حدثونا ما تقول النوادب
إلى أي فتيان الندى قصد الردى وأيهم نابت حماه النوائب
هذا ولم ينس الشاعر أن يعمد إلى صنعة خفيفة كانت من حسن العرض وخفة النسج بحيث لم تفرض ثقلها على السمع وبالتالي لم تفسد جلال موقف الرثاء ومعانيه .
فيا لأبي العباس كم رد راغب لفقدك ملهوفا وكم جب غارب
ويا لأبي العباس إن مناكبا تنوء بما قد حملتها النواكب
فيا قبره جد كل قبر بجوده ففيك سماء ثرة وسحائب
فإنك لو تري بما فيك من علا علوت وباتت في ذراك الكواكب
أخا كنت ابكيه دما وهو نائم حذارا وتعمى مقلتي وهو غائب
فمات ولا صبري على الأجر واقف ولا أنا في عمر إلى الله راغب
ويغمس الشاعر نفسه في تيار الحزن غمسا عميقا في مناجاة نفسية نحس فيها الصدق والعمق وذلك في قوله :
أأسعى لأحظى فيك بالأجر ؟ أنه لسعي إذن مني لدى الله خائب
وما الإثم إلا الصبر عنك وإنما عواقب حمد إن تذم العواقب
يقولون : مقدار على المرء واجب فقلت : وإعوال على المرء واجب
هو القلب لما حم يوم ابن أمه وهى جانب منه واسقم جانب
ترشفت أيامي وهن كوالح عليك وغالبت الردى وهو غالب
وعندما انتقل الشاعر إلى ذكر شمائل المرثي ومناقبه فإن ديك الجن يصورها حزين النفس عفوي العطاء ، لا تعسف في اقتناص معنى ولا تعثر في اصطياد خاطرة :
فتى كان مثل السيف من حيث جئته لنائبه نابتك فهو مضارب
فتى همه حمد على الدهر رابح وإن غاب عنه ماله فهو عازب
شمائل إن يشهد فهن مشاهد عظام وان يرحل فهن كتائب
بكاك أخ لم تحوه بقرابة بلى إن إخوان الصفاء أقارب
وأظلمت الدنيا التي كنت جارها كأنك للدنيا أخ ومناسب
يبرد نيران المصائب أنني أرى زمنا لم تبق فيه مصائب
وكثيرا ما كان ديك الجن يعمد إلى الصنعة اللفظية والصورة البيانية في مقام الرثاء حتى يستجلب أعجاب من يهتمون بالأشكال دون الجواهر وهم كثيرون في كل زمان ومكان ولكنه في اهتمامه بالشكل الذي يقدمه لبعض الناس لا يتنازل عن الاهتمام بالجوهر الذي يرجو به الخاصة ويرضى به نفسه ، فمن ذلك قوله :
سقى الغيث أرضا ضمنتك وساحة لقبرك فيه الغيث والليث والبدر
وما هي أهل إذ أصابتك بالبلى لسقيا ولكن من حوى ذلك القبر
إن ديك الجن شاعر فحل ، وإذا كان اعتمد على معاني السابقين فاقتسبها وحسنها ، فإن غيره من كبار الشعراء اللاحقين قد اعتمدوا عليه واقتبسوا معانيه طورا وصيغه تارة أخرى ، وفي أحيان كثيرة اقتبسوا الصيغة والمعنى جميعا ، وكان في مقدمة هؤلاء المقتبسين أبو الطيب المتنبي الذي نحس بالكثير من معاني الحكمة عند ديك الجن صارخة في شعره ، وهذا البيت الأخير الذي اختتم به ديك الجن مرثيته البائية في جعفر الهاشمي ليس إلا الأصل لبيتي المتنبي المشهورين :
رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال
وهناك البيت المشهور الذي يردده علماء الصناعة لاحتوائه خمسة تشبيهات دفعة واحدة الذي قاله الوأواء الدمشقي :
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت وردا وعضت على العناب بالبرد
إن بعض معانيه مأخوذة من بيت ديك الجن :
وحاذرت أعين الواشين فانصرفت تعض من غيظها العناب بالبرد
ومن مظاهر الصنعة والتجديد : مظهران اثنان :
1- مظهر الشكل والصيغة:
حيث يعمد إلى موسقة بعض أبياته بضروب من الجرس وألوان من الإيقاع ، وربما كان الترصيع أقرب هذه الألوان إلى ذوق ديك الجن ، مثال قوله:
حر الإهاب وسيمه ، بر الإياب كريمه ، محض النصاب صميما
أو قوله :
إن العلا شيمي ، والبأس من نقمي والمجد خلط دمي ، والصدق حشو فمي
ويعمد ديك الجن إلى التجنيس الذي هو بدوره ظاهره موسيقية شعرية ، وهو في تجنيسه وطباقه صانع بارع ، يسوق إليك زخرفته في غير تعسف أو إسفاف بل في ثوب من الكلمات الناعمة المترفة الجرس الرطيب والإيقاع المنغم مثل قوله :
نبهته والندامى طال مكثهم فقلت قم واكفنا الهم الذي وكفا
واصرف بصرفك وجه الهم يومك ذا حتى ترى نائما منهم ومنصرفا
و يعمد ديك الجن أحيانا إلى خلق الصيغة الجديدة المصنوعة وربطها إلى معنى جديد طريف فيه صورة وحركة كقوله :
ودعتها لفراق فاشتكت كبدي إذ شبكت يدها من لوعة بيدي
وحاذرت أعين الواشين فانصرفت تعض من غيظها العناب بالبرد
فكان أول عهد العين – يوم نأت بالدمع ، آخر عهد القلب بالجلد
وهذه ليست عفوية أو طبع ، وإنما هو ترتيب لفظ بلفظ وأتباع حركة بحركة ، الأمر الذي بدا أول العهد به مقبولا مرحبا به على أنه شيء جديد ، فلما انساق الشعراء في تياره و ألحوا على الإكثار منه أصبح شيئا تمجه النفس ويستثقله الذوق لضياع معاني الشعر السامية الرفيعة في خضم زحمة الألفاظ ودهاليز الأساليب .
قولـي لطيفك ينثني عن مضجعي عنـد المنـام
عند الرقاد ، عند الهجوع عند الهجود ، عند الوسن
فعسى أنام وتنطفي نـار تأجج في العظام
جسد تقلبـه الأكف على فراش من سقـام
من قتاد ، من دموع من وقود ، ومن حزن
أمـا أنا فكمـا علمت فهل لوصلـك من دوام
من معاد ، من رجوع من وجود ، من ثمـن
إن ديك الجن قد ذهل به التجديد في الشكل مذهبا بعيدا فجعله ينفلت من وزن البيت التقليدي إلى هذا الشكل الذي مر بنا ، والذي نعلله بسابق قولنا من إن معاني الوجد والحسرة والشكوى والحزن والأسى والندم تزاحمت في خواطر الشاعر فلم يكن لها منصرف عنه إلا من خلال هذه الصيغة الجديدة التي شكلت مرحلة من مراحل نشأة الموشحات العربية وهي في طريقها إلى الأرض الأندلسية .
2- الصورة والمحتوى :أسس ديك الجن الحمصي مدرسة شعرية في ابتكار الصور الشعرية،وإن الذي يدرس أبيات ديك الجن في وصف الديك يستطيع إن يرد مدرسة الصورة الشعرية التي اشتهر بها كل من ابن الرومي وابن المعتز إلى أستاذها الأول ديك الجن عبد السلام بن رغبان .
لقد رسم ديك الجن للديك صورة حقيقة ذات ألوان زاهية ، هي نفسها ألوان الديك الفاقعة الموزعة على عرفة وجانبي رأسه وعنقه وريش جناحيه وبقية جسمه .
وجعل للصورة خلفية بارعة من كواكب الليل الغارية التي كانت ترتعي الظلام , ذلك الظلام الذي انقشع بمطلع ضياء الفجر وهي لوحة متحركة تنم بدقة عن حركته حين يهم " بالأذان " بل هي صورة ناطقة تضمنت غناء وحوت طربا لعل من الخير أن نشهد الصور المتحركة الناطقة كما رسمها فنانها . يقول ديك الجن "
أما ترى راهب الأشجار قد هتفا وحث تغريده لما علا الشعفا
أوفي بصيغ أبي قابوس مفرقه كدرة التاج لما أن علا شرفا
مشنف بعقيق فوق مذبحه هل كنت في غير أذن تعرف الشنفا
لما أراحت رعاة الليل عازبة من الكواكب كانت ترتعي السدفا
هز اللواء على ما كان من سنة فارتج , ثم علا , واهتز , ثم هفا
ثم استمر ,كما غنى على طرب مريح شرب على تغريده وضفا
إذا استهل استهلت فوقه خصل كالحي صيح صباحا فيه فاختلفا
إن ديك الجن رائد في رسم الصورة الشعرية الملونة المتحركة التي رسمها للديك في أبياته هذه البالغة حد الإتقان بحيث أصبحت مثالا يحتذى عند الشعراء الذين جاءوا من بعده سواء في ذلك شعراء المشرق أو شعراء الأندلس
ولديك الجن صورة أخرى فكهة رسمها لديك آخر , ولكنه ديك عجوز قدم طعاما في مأدبة أقامها عمير بن جعفر , كان ديك الجن مدعوا إليها , ولعل الحوار الذي أجراه الديك الشاعر الآكل مع الديك المذبوح المطهو المأمول لمن أطرف أنواع الحوار وأمتعه فيما لو وجد حوار مماثل من هذا القبيل . يقول ديك الجن في أبياته تلك الفكهة الساخرة اللطيفة :
دعانا أبو عمرو عمير بن جعفر على لحم ديك دعوة بعد موعد
فقدم ديكا عد دهرا ذملقا مؤنس أبيات مؤذن مسجد
يحدثنا عن قوم هود وصالح وأغرب ما لاقاه عمرو بن مرثد
وقال : لقد سبحت دهرا مهللا وأسهرت بالتأذين أعين هجد
أيذبح بين المسلمين مؤذن مقيم على دين النبي محمد
فقلت له : ياديك ,إنك صادق وإنك , فيما قلت , غير مفند
إن شاعريته كانت من الخصوبة – فنا وانتاجا وتنوعا ومحافظة وتجديدا- بحيث فرضت فته على معاصريه من ساكني عاصمة الشعر بغداد , ثم صارت مثلا يحتذى وأنموذجا يقتفي عند كبار الشعراء العرب الذين جاءوا من بعده





17-أبو يعقوب الخريمي
( 000- حوالي- 240 هـ)
أ-حياته ونشأته
هو اسحاق بن حسان بن قوهي وكنيته أبو يعقوب , وهو من مواليد الاقاليم وليس من أهل بغداد , فهو جزري – أي من جزيرة ابن عمر من نواحي المواصل – ولكنه نزل حين نما عوده الى بغداد عاصمة الدولة , ومحط رحال العلماء والشعراء والثقفين , ومقر رجال السياسة والقواد والوزراء الذين كان الشعراء يرتبطون بهم مدحا ومنادمة فيجزلون لهم العطاء وللمدينة دائما بريقها الذي يستهوي عامة الناس ويغريهم بالرحلة اليها والاستقرار فيها فما بالك بالشعراء والادباء .
ب-لقبه :وأما لقب الخريمي فقد جاءه من مدحه عثمان بن عمارة بن خريم الغطفاني وكان قائدا جليلا فنسب الشاعر إلى خريم وبقيت هذه النسبة مصاحبة له في حياته وبعد مماته , وكان الخريمي أعور ولذلك فكثيرا ما يرد اسمه في كتب الأدب والتراجم تحت اسم أبي يعقوب الأعور , وفي أحيان أخرى إسحاق بن حسان الأعور وهكذا ارتبطت به هذه العاهة في كثير من المراجع .
ج-شخصيته :وعلى الرغم من أن الخريمي قد مدح عثمان بن عمارة ومحمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة وغيرهم فان مدائحه – على جمالها ورونقها - لم تكن أحسن شعره وإنما للرجل شعر مفرط الرقة بالغ الرواء في الحكمة والأخلاق ومعنى الصداقة والوداد والفخر بالمعاني البكريمة فضلا عن بكائه بغداد ورثائه أباها إبان الفتنة التي أخذت بخناقها أيام حرب الأخوين المأمون والأمين سنة 196هـ وما بعدها هذا فضلا عن شعره الإنساني الرفيع في البكاء على عينيه حينما أصيب بالعمى.ولم يعرف عن الخريمي انحراف عن الجادة ولا انفلات من القيم الخلقية بل كان متألها متدينا. فإن النماذج الشعرية التي قالها تعلن عن مذهب الشاعر وفلسفته وتبين عن مقدرة نادرة في اقتناص المعاني الكريمة وصوغها .
أنه يمثل إحدى نقاط الارتكاز الشعري التي منها انطلق إلى مدارس فنية ومذاهب أدبية ،
د-شعوبيته :لقد اتهم الخريمي بالشعوبية ، وله أبيات يفخر فيها بفارسيته ، ربما كان الدافع إلى قولها دفاع عما تصوره استعلاء عليه فيها
فإن تفخري يا جمل أو تتجملي فلا فخر إلا فوقه الدين والعقل
أرى الناس شرعا في الحياة ولا يرى لقبر على قبر علاء ولا فضل
ه- ديباجته :يمثل الخريمي ركيزة الديباجة الشعرية المشرقة مع الأسلوب الناعم الأخاذ ومحافظة على عمود الشعر وابتعاد عن الإيغال في الصنعة وتجنب للتعسف في نحت المعاني ورسم الصور ، ومن هنا يمكن إن يكون احد أساتذة البحتري من الناحية المذهبية الفنية ، وليس من الناحية التعليمية ، فأستاذه في تلك الناحية هو أبو تمام على ما سوف يستبين لنا فيما يستقبل من حديث بعد حين .
و-صنعته:ولم يكن الخريمي مجرد شاعر وحسب وإنما كان أديبا بليغا ناقدا ، وله في ذلك أقوال بالغة حد الدقة ، والجاحظ على سمو مرتبته في فنون القول جعل الخريمي واحدا من مصادره روى عنه ونصيب منه واحدا من نجوم كتابه النفيس ((البيان والتبيين)) فهو يرصع صفحات كتابه هذا بين الحين والحين برأي للخريمي أو ببيت أو أكثر من شعره المشرق العذب الرقيق.
لقد كان النقاد ومحبو الشعر يقولون للخريمي متسائلين : ما بال شعرك لا يسمعه احد إلا استحسنه وقبلته طبيعته !! فكان يجيب : لأني أجاذب الكلام إلى إن يساهلني عفوا ، فإذا
سمعه إنسان سهل عليه استحسانه. وبذلك يكون شاعرنا قد أفصح بلسان القول فضلا عن مثال الشعر عن المدرسة التي ينتمي إليها ويؤمن بها مسلكا فنيا ومذهبا أدبيا ، وهي مدرسة العفوية والطبيعة والصفاء والابتعاد عن افتعال المعاني ونحت الأساليب
إن الشريف المرتضى يعجب بعفوية هذه الأبيات ويتمثل بها للمعنى الأصيل الذي صب في ثوب من الألفاظ رقيق وصيغ في نهج من الأسلوب مطبوع :
رايتك يـا زيد زيـد الندى وزيد الفخار وزيد الكرم
تزيد على نائبات الخطوب بذلا وفي سابغات النعم
كذا الخمر والذهب المعدني يجود هذا وذاك القدم
ويتألق الخريمي تألقا وضاء في بعض معاني الرثاء حين يقول :
بقية أقمار من العز لـو خبت لظلت معد في الدجـى تتسكـع
إذا قمر منهـا تغور أو خبا بدا قمر من جانب الأفق يلمع
إن أبا تمام لا بد أن يكون قد قرأ هذين البيتين قبل إنشاء قصيدته – كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر – عند رثائه محمد بن حميد فاستعان بمعناهما في قوله :
كأن بني نبهان يوم وفاته نجوم سماء خر من بيتها البدر
فيعلقأ بن عبيد بن ناصح على بيت أبي تمام متسائلا : أردت أن تصف حسن حالهم بعده أم سوء حالهم ؟ فيجيب : لا والله إلا سوء حالهم لان قمرهم قد ذهب ، فقال ابن ناصح : والله ما تكون الكواكب أحسن ما تكون إلا إذا لم يكن معها قمر !! ألا قلت كما قال أبو يعقوب إسحاق الخريمي : بقية أقمار .... (البيتين )
فأبو تمام أراد أن يمدح محمد بن حميد فهجاه لا أهله كانوا خاملين فلما مات أضاءوا بموته إنها وجهة نظر على كل حال ، على أن الفرق بين الرجلين وبين المعنيين هو الفرق بين مدرسة صفاء الديباجة وعفوية المعاني ، وبين مدرسة صناعة الأسلوب ونحت المعاني . الحق أن الخريمي نشأ مكتملا أدوات الشعر وأسبابه ، فهو مثقف ثقافة واسعة ، غير أن هذه الثقافة لم تفسد عليه غنائية الشعر وإيقاعه وبساطته منذ إن قال الشعر لأول مرة ، ا ناول شعر للخريمي هو قوله :
بقلبي سقام لست أحسن وصفه على أنه ما كان فهو شديد
تمر به الأيام تسحب ذيلها فتبلى به الأيام وهو جديد
بهذه الرقة المتناهية والاكتمال الفني بدأ الخريمي يقول الشعر .
الخريمي واحد من أعذب شعراء المرحلة العباسية قولا , وأرقهم طبعا , وأقربهم الى سماحة الشعر ويسره وعفويته , مع تمكن في الانشاء ووعي للمعاني وصفاء في الاسلوب , فكأن القوافي ملك يمينه يطلبها فتطيعه , والحكمة طوع خاطره يستدعيها فتلبيه .فهوشاعر المطبوع متدفق ، ففضلا عن جودة شعره ورقته وأصالته فإن كبار النقاد القدامي الذين نحترمهم لم يتوانوا عن الاشادة به والثناء عليه ,فقد كان كان شاعرا مفلقا مطبوعا مقتدرا على الشعر، أشعر المولدين , وإن شاعرا هذا شأنه وتلك موهبته جدير بكل اهتمام ودراسة ومتابعة .إنه واحد من ألمع وأقدر رواد مدرسة الديباجة والجزالة والسلاسة والسهول والإشراق التي أصبح البحتري فيما بعد رئيسها وعنوانها.

ز-أغراض شعره :
1-حكمتة
إن الخريمي كان متدينا مؤمن ، والتدين إذا ما صاحبته سماحة وسعة أفق انبثق من صاحبه عادة راجح القول ونفيس الفكر ، وليس القول راجحا والفكر نفيسا إلا الحكمة بعينها ، وهكذا كان حال الخريمي . فقد كانت حكمة أصيلة غير مصنوعة لأنها صورة نفسه وفيض مشاعره وحصاد ثقافته وثمرة تجاربه .. لقد خبر الحياة حلوها ومرها ، وعرف الناس خيارهم وأشرارهم ، وحلل أخلاقهم ودرس طباعهم ، فرسم لهم هذه الصورة الحكيمة :
الناس أخلاقهم شتى وإن جبلوا على تشابـه أرواح وأجساد
للخير والشر أهل وكلوا بهما كل له من دواعي نفسه هاد
منهم خليل صفاء ذو محافظة أرسى الوفاء أواخيه بأوتاد
ومشعر الغدر محني أضالعه على سريره غمر غلها باد
مشاكس خدع جم غوائله يبدي الصفاء ويخفي ضربه الهادي
يأتيك بالبغي في أهل الصفاء ولا ينفـك يسعى بإصلاح لإفساد
وإذا كان الخريمي قد اصطنع الحكمة في أبياته السابقة في سياق دراسة نفسية لأخلاق الناس وتحليل لسلوكهم ، فإنه في مقام آخر يسوقها في مقام الفخر من خلال أسلوبه العذب الذي جعل الناس يسائلونه عن السر الذي يكمن وراء استحسان سامعه له ،
أسر خليلي شاهدا وأبره وأحفظه بالغيب حين يغيب
وشاعرنا لا يقدم دستوره الأخلاقي ورأيه في الصداقة والصديق من خلال إبدائها مرتبطة بشخصه وحده ، ولكنه يعالج هذه القيم من خلال وصف صديقه الذي يجتمع فيه كل صفات الصديق وكل معاني الصداقة . إن الخريمي يسجل كل هذه القيم في قصيدة قالها متشوقا إلى الحسن بن التختاخ الذي كان قد رحل إلى مصر وفيها يقول :
وإني لسهل الوجه للمبتغي الندى وإن فنائي للقرى لرحيب
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
وإني لتصفو للخليل سريرتي وقد جعلت أشياء منه تريب
أعاتبه مزحا وأعرض بالتي لها بين أثناء الضلوع دبيب
أخاف لجاجات العتاب بصاحبي وللجهل من قلب الحكيم نصيب
ليحيى دفين من مودة بيننا فيخلف ظن أو يثوب غريب
فإن فاء لم أعد عليه ذنوبه وهل بعد فيئات الرجال ذنوب ؟
وإن لج في هجري صفحت تكرما لعل الحجا بعد الغروب يثوب
ويدلف الخريمي بنا في مسيرة حكمته إلى الحياة الخاصة بين الزوجين ويعالج موضوع الغيرة علاجا أخلاقيا باسطا رأيه على طرفي الغيرة – الرجل والمرأة – ولعله أخذ جانب المرأة حين طلب من الرجل إلا يلح في الاتهام وأن يحفظ عرضه هو أولا ويصون دينه ، وفي ذلك يقول شاعرنا المجرب الحكيم :
ما أحسن الغيرة في حينها وأقبح الغيرة في كل حين
من لم يزل متهما عرسه مناصبا فيها لريب الظنون
أوشك إن يغريها بالذي يخاف أن يبرزها للعيون
حسبك من تحصينها وضعها منك إلى عرض صحيح ودين
لا تطلع منك على ريبة فيتبع المقرون حبل القرين
و لم معاني الخريمي من الحكمة التي يسوقها ناغمة الأسباب ، رخية الجناب ، حتى في حالة معالجته للشائع الجاري من الأمور، لقد كثر القول في الشيب وفوات الشباب وافتقاد أسباب اللهو ومقوماته ،
باحت ببلواه جفونه وجرت بأدمعه شئونه
لما رأى شيبا علاه ولم يحن في الغد حينه
فعلا على فقد الشباب وفقد من يهوى أنينه
ما كان أنجح سعيه وشبابه فيه معينه
واللهو يحسن بالفتى ما لم يكن شيب يشينه
وللخريمي قصيدة رائية في الفخر تضم البيت المشهور :
ولست بنظار إلى جانب الغنى إذا كانت العلياء في جانب الفقر
ولعل استهلالها يعتبر بدوره من أرق النسيب وأكثره تماسكا ، وليس ببعيد أن يكون أبو فراس قد انشأ رائيته المشهورة على نهج قصيدة الخريمي هذه ، ففيهما الكثير من التشابه وبخاصة وحدة البحر والقافية واتفاق المعاني وإن اختلف الروي ،والقصيدة من الشعر الجيد المعجب روائعه ومطلعها
ثقي بجميل الصبر مني على الدهر ولا تثقي بالصبر مني على الهجر
أصابت فؤادي بعد خمسين حجة عيون الظباء العفر بالبلد القفر
وإذا كان الخريمي قد ذكر ((الظباء العفر في البلد القفر )) في أبياته السابقة مرققا شعره بلمسات بدوية عارضة ، فإنه في مناسبات أخرى وفي نفس مجال القول يأتي بالصورة البدوية الأصيلة التي تطرب وتعجب على الرغم من بداوتها الواضحة كقوله
وخلجة ظن يسبق الطرف حزمها تشيف على غنم وتمكن من ذحل
صدعت بها والقوم فوضى كأنهم بكارة مرباع تبصبص للفحل
فالصورة ممعنة في البداوة ولكن منطق القول ممعن في الإعلان عن قائل مثقف حضري متمرس ، وتنسرب أسباب الحكمة من خاطر الخريمي فتنسحب على كثير من موضوعات شعره ، حتى النوال والعطاء يخضعهما شاعرنا لمعايير حكمته ويصبغهما بصيغتها . وهل هناك من لا يعجب بهذا القول ويطرب له :
ودون الندى في كل قلب ثنية لها مصعد حزن ومنحدر سهل
وود الفتى في كل نيل ينيله إذا ما انقضى لو أن نائله جزل
ومجمل القول في حكمة الخريمي أنها ذات آفاق رحبة وأعماق بعيدة ، وأنها قدمت في قوالب من الشعر المشرق السهل المأخذ العذب المورد ، ولعله يعمد إلى الصناعة اللفظية كما هو الحال في البيتين الأخيرين ، ولكن في نطاق البساطة والبعد عن أي تكلف يشوب شعره .


2-رثاؤه :مثل الرثاء عند الخريمي منحيين اثنين هما
أ-رثاؤه لعينيه :
كان الخريمي مبصرا ثم عمي في المرحلة الأخيرة من عمره ، فكتب في رثاء عينيه رثاء يعتبر ضربا جديدا من موضوعات الشعر , فقد جعل من مأساته قضية تشغله فقال فيها شعرا كثيرا متطورا مترعا بالأحاسيس الذاتية مفعما بالمعاني النفسية مليئا بالمشاعر الإنسانية . لقد كانت معاني البصر والبصيرة مائلة في خاطر الشاعر في أول عهده بالعمى . وقد أنشأ يقول :
فإن تك عيني خبا نورها فكم قبلها نور عين خبا
فلم يعم قلبي ولكنما أرى عيني إليه ســـــــرى
فأسرج فيه إلى نــوره سـراجا من العلم يشفي العمى
ويحس يثقل الكارثة التي حلت به بفقد عينيه وما صاحبها من قيود وتحول في علاقته بالحياة وبالناس , فينزع إلى التحسر وإبداء الحزن في هذه الأبيات
كفى حزنا أن لا أزور أحبتي من القرب إلا بالتكلف والجهد
وأني إذا حييت ناجيت قائدي ليعدلني قبل الإجابة في الرد
إذا ما أفاضوا بالحديث تقاصرت بي النفس حتى ما أحير وما أبدي
كأني غريب بينهم لست منهم وأن لم يحولوا عن وفاء ولا عهد
أقاسي خطوبا لا يقوم بثقلها من الناس الأكل ذي مرة جلد.
ولكن الحالة لا تقف بالرجل المتوجع لفقد بصره عند هذا الحد , إنه ينتقل إلى مرحلة أكثر ألما أو بعد حسرة , وبكاء بعد أن تغير أمامه كل شيء , وأضحى فريسة للخوف وضحية لتوقع الخطأ,
أصغي إلى قائدي ليخبرني إذا التقينا عمن يحييني
أريد أن أعدل السلام وأن أفضل بين الشريف والدون
أسمع ما لا أرى وأكره أن أخطئ والسمع غير مأمون
لله عيني التي فجعت بها لو أن دهر ا بها يواتيني
لو كنت خيرت ما أخذت بها تعمير نوح ملك قارون
حق أخلائي أن يعودوني وأن يعزوا عني ويبكوني
ويستمر الخريمي في رحلة الحياة مسنا مكفوفا يائسا فيتنقل من مرحلتي التحسر والبكاء إلى مرحلة الرثاء , أعني رثاء نفسه . ألم تمت عيناه بفقد بصره ؟. ! والعينان بعض من الإنسان . إنه إذن حقيق بالمعنى الذي جال في خاطره فغير عنه بأقسى ما يمس شغاف القلوب من فن القول وذلك في بيتيه :
إذا ما مات بعضك فابك بعضا فإن البعض من بعض قريب
يمنيني الطبيب شفاء عيني وهل غير الإله لها طبيب ؟
إننا نستطيع أن نقرر أن الخريمي الشاعر المبدع السيء الحظ قد ادخل إلى ميدان الشعر العربي لونا من الشعر الغنائي الحزين المتصل بالعمى الطارئ وفقدان البصر
ب-رثاؤلبغداد :
عرف هذا اللون من الرثاء في المشرق في وقت مبكر كل التبكير ، فإن أول من رثى المدن الداثرة والقصور المخربة والدول الدائلة هو الحميري الشاعر ، وأبو العباس الأعمى وأبو عدي العبلي وآدم بن عبد العزيز .
غير أن الذي حل ببغداد من خراب ودمار وقتل ونهب وتشربد أيام الفتنة بين الأمين والمأمون كان له من الأثر في نفوس الناس ما جعل الشعراء يسهمون بشعرهم رثاء حينا ووصفا حينا آخر وسخرية حينا ، وأشهر شاعر سجل هذه الأحداث الحزينة التي حلت ببغداد أبو يعقوب الخريمي فقدبكى بغداد ووصف المحنة في قصيدة بالغة الطول ،
والشاعر في رثائه بغداد إنسان قد هزته الفجائع التي يراها كل يوم وقد تصور أن هذا الذي حل بالقوم إنما هو غضب من الله عليهم لانحرافهم وعصيانهم وانغماسهم في الشهوات ، وموقفه والحال كذلك كان في جانب المأمون ، فقد كان الأمين سيء السمعة مغرقا في اللذات ، وكان المأمون حسن السيرة طيب الأحدوثة الأمر الذي أسهم إلى حد كبير في سقوط الأمين ومهد لانتصار المأمون .
يقول الخريمي في قصيدته :
قالوا ولم يلعب الزمان ببغداد وتعثر بهـا عواثرها
إذ هي مثل العروس باديها مهول للفتى وحاضرها
جنة دنيا ودار مغبطة قل من النائبات دائرها
درت خلوف الدنيا لساكنها وقل معسورها وعاسرها
وانفرجت بالنعيم وانتجعت فيها بلذاتها حواضرها
فالقوم منها في روضة انف أشرق غب القطار زائرها
من غره العيش في بلهنية لو أن دنيا يدوم عامرها
دار ملوك رست قواعدها فيها وقرت بها منابرها
ويمضي الخريمي وقد غلب عليه الأسى مما أصاب بغداد يتساءل تساؤل الحزين عما كانت تحويه مدينة المنصور من صنوف الجند والحراس والعبيد والخصيان ومواكب الجند ، ثم يعرج على مظاهر الترف يعرضها في تفصيل مثير لكي ينتهي مرة ثانية إلى وصف المحنة التي حلت بها فجعلتها كجوف الحمار فارغة تستعر بجحيم الحريق :
فأين حراسها وحارسها وأين مجبورها وجابرها
وأين خصيانها وحشوتها وأين سكانها وعامرها
أين الجرادية الصقالب والأحبس تعدو هدلا مشافرها
ينصدع الجند من مواكبها تعدو بها سربا ضوامرها
بالسند والهند والصقالب والنوبة شيبت بـها برابرها
طيرا أبابيل أرسلت عبثا يقدم سورانها احامرها
أين الظباء الأبكار في روضة الملك تهادى بها غرائرها
أين غضاراتها ولذتها وأين محبورها وحائرها
أمهلها الله ثم عاقبها لما أحاطت بها كبائرها
بالخسف والقذف والحريق وبالحرب التي أصبحت تساورها
ويستطرد الخريمي في قصيدته الطويلة التي بلغت مائة وسبعة وثلاثين بيتا يصور كل ما حل ببغداد من ألوان الخراب والدمار والحريق والفساد والنهب والهدم والعذاب الذي لم يترك عزيزا ولا فارسا ولا امرأة ولا طفلا ولا شيخا إلا وأصابه من كل ذلك شيء كثير هذا فضلا عن الجثث التي تنهشها الكلاب ، ومواكب الجنائر تجتاز المسالك والدروب ، وأنات الثكالى وأصوات العويل التي تسمع في كل مكان .
وهي تدخل في باب الشعر التعليمي أكثر مما تدخل إليه من بابه الفني ، ولذلك فإن هذه القصيدة يمكن إن تعتبر نواه للشعر التعليمي


18-بشار بن برد:
(96هـ ) وتوفي (168هـ)
أ-حياته وشأنه:
ولد بشار بن برد عام (96هـ ) وتوفي (168هـ)
أبوه مولى وأمه عقيلية عربية، ولداً أعمى من أول لحظة واختلط بحلقات العلم والأدب في البصرة، وتردد على الأعراب ، وتنقل بين الكوفة والبصرة وحرّان ، وقد انقسمت حياته بين المسجد في الصغر، ومجالس الزندقة في الكبر، حيث كانت نهايته بسبب الزندقة.
وقد كان مغالياً في هجائه وفسقه وعجونه على الرغم من أنه كان أحد مؤسسي حلقات المعتزلة مع واصل بن عطاء وعمر بن عباد.
ب-شخصيته:
1- الصفات الجسدية:الضخامة – العمى – قبح المنظر – الإصابة بالجذري .
2- الصفات الاجتماعية:الانتساب إلى الموالي – النشوء في أسرة فقيرة – الأحاطة لمجتمع متخلف.
3- الصفات النفسية:الشعور بالإحباط والمرارة- النقمة على الحياة – السخرية عن حوله – اعتماده الإباحية والمجون كثرة الاعتداء بالنفس.
ملاحظة :
أهم ما يميز بشار توقد الذكاء – الجواب الحاضر – مقدرته على صناعة التشبيه التمثيلي كما في قوله :
كأنّ مثارُ النقع فوق رؤوسنا وأسيا فنا ليلٌ تهاوى كواكبه
شعره ومعانيه وأغراضه:
يعد شعر بشار بن برد انعكاساً لصفاته النفسية، وترجمةً لبيئته التي تراوحت بين القديم والجديد ، وبين التقليد والتجديد .
وقد كتب بشار في أغراض المدح والهجاء والفخر والرثاء والغزل.


ج-صنعته:
1-صفات المدح عند بشار:
أ-اعتماده على المعاني التقليدية .
ب- البناء على البحور الطويلة (المديدة التفعيلات)
ج- الوقوف على الأطلال.
د- تردد المعاني البدوية.
هـ- عدم
و- الاعتماد على المعاني الواقعية.
ز- المبالغة في المدح.
ح- اقتباس المعاني الأموية.
إذا الملك الجبّار صغَّر خده مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
ويقول في المعاني البدوية يمدح عقبة بن مسلم والي البصرة :
أريحي له يدٌ تمطر النيل وأخزى سمٌّ على الأعداء.
2- خصائص هجاء بشار:
آ- النيل من الأغراض والكلام البذيء
ب- الشتم والسب.
ج- استخدام الهجاء وسيلة للثراء والكسب.
د- جعل الهجاء فناً جديداً مستقلاً.
3- خصائص الغزل عند بشار :
آ- المعاني البدوية في بعض القصائد تعتمد الجزالة اللفظية و الاشراق واستخدام البحور الطويلة والمديدة كقوله في وصف عبده:
كقارورة العطار أو زاد نعتها تلين إذا ما بنتها وتطيب
ب- المعاني الحضرية وهي سهلة ميسورة تعتمد البحور القصيرة والأوزان الخفيفة كقوله:
حوراء إن نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا
وكأنّ تحت لسانها حاورت ينفث فيه سحرا

4- خصائص الوصف عند بشار:
آ- لم يخرج بشار عن المعاني البدوية في الوصف سواءً كان هذا الوصف للصحراء أو للنساء.
ب- حاول بشار في مطالع قصائده استبدال وصف الناقة بوصف السفينة والبحر.
ج- لم يجد
د-الحكم على سلوك بشار وشاعريته وتجديده :
1- الحكم على سلوك بشار: سلك بشار مسلك المتهتكين بأعراض الآخرين وقد كان شعوبياً يفاخر بشعوبيته زنديقاً، وثنوياً، أسهم العمى والرق لديه في اذكاء شعوره بالنقص، وقد دفعه ذلك إلى الفسق في القول كقوله:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
وقد أخذ بشار هذا المعنى عن الشاعر سلم الخاسر:
من راقب الناس مات همّا وفاز بالطيبات الجسور
كما أن سلوكه دفعه إلى إظهار الحكمة تعويضاً عن النقص كقوله:
إذا بلغ الرأي المشورة ما ستعن برأي نصيخٍ أو نصيحة حازم
ه- الحكم على شاعرية بشار:
ليست شاعرية بشار إلاّ تعويضاً عن نقصٍ (العمى وسوء المنظر) كما أن أخويه كانا جزارين ، ونحن نعرف أن الموهبة قد تلازم العاهة، وأن معظم بشاعرية بشار هي استجابة لمطلب (نبذ الإشباع الغريزي في الخيال). وقد اسهمت الشعوبية في هذه الشاعرية مرة، والولاء للعرب مرة أخرى، فهو يمدح الفرس ، ويمدح ولاة العرب ، وهذا فيه تناقض .
و- الحكم على تجديد بشار:
لا شك أن بشاراً شاعرٌ موهوب، ولكن بعض النقاد رفع من فكان بشار في ثلاث قضايا نسبت إلى بسار وهي قضايا غير دقيقة وغير صحيحة جعلت هؤلاء النقاد يعتبرونه أو المجذوبين هي:
-المبالغة في نسبة كل جديد لبشار.
-النسب الملوكي إلى بشار لأن بشار رقيق ومن أسرة فقيرة .
-أن بشار كتب ثلاث عشر ألف قصيدة وأنّه يفخر بثلاثة عشر ألف بيتاً من عيون الشعر العربي وهذا غير صحيح.
ز-صنعته في شعره:
نهج بشار للعباسيين طريقتهم الجديدة، وهي طريقة كانت تعتمد اعتمادًا شديدًا على الأصول التقليدية للشعر القديم، حتى لتبدو فيه نزعة محافظة وخاصة في مدائحه، فإن الإطار فيها لا يختلف عن الإطار القديم إلا قليلًا؛ إذ يستوفي فيها قيم التعبير الجزلة وكل ما تقتضيه الجزالة من رصانة وقوة في البناء، ومعنى ذلك أن بشارًا الفارسي الجنس قد أثر فيه مرباه العربي حتى أصبح عربيًّا خالصًا في أسلوبه وتعبيره. ولا يعني ذلك أنه كان غائبًا في مديحه عن عصره؛ فهو يزاوج بين الماضي والحاضر: يصف الأطلال والصحراء ولكن بذوق حضري جديد فيه رقة، وفيه دقة في استنباط المعاني وتوليدها. فنسيجه العام قديم، ولكن خيوطًا كثيرة جديدة تلمع في هذا النسيج، حتى في نماذجه الموغلة في التشبه بالبدو،
وحين يصف ممدوحه بالشجاعة والكرم على طريقة العرب ويقول في تضاعيف ذلك
ما كان مني لك غيرُ الوُدِّ ... في ثناء مثل ريحِ الوردِ
ومن براعته في تدبر بيت امرئ القيس في وصف العقاب:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
حتى قال في المديح:
كأن مُثارَ النقعِ فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وإذا تركنا مديحه إلى فخره وجدنا فيه نفس متانة البناء ونفس الصياغة الباهرة التي تميز بها شعراء العرب السابقين من أمثال زهير والنابغة وجرير، وإنه ليضيف إلى معانيه مبالغة تزيدها جمالًا على شاكلة قوله مفتخرًا بقيس مواليه في ميميته المشهورة:
إذا ما غضبنا غضبة مُضَريَّةً ... هتكنا حجابَ الشمسِ أو تمطر الدَّما
وتطور الهجاء عنده على هدي الأمثال الفارسية القصيرة، فقد كان كان يقوم على القذف في الأعراض والاتهام بالزندقة والإلحاد، ويصور بشار هجاءه فيقول:
تزل القوافي عن لساني كأنها ... حمات الأفاعي ريقُهن قضاءُ
وكان بشار لا يأبَه للقيم الخلقية والدينية، وكان ضريرًا، فاعتمد على حاستي السمع واللَّمس في غزله، ولعل من الطريف أنه يصرح بذلك في مثل قوله :
يا قوم أذْني لبعض الحي عاشقةٌ ... والأُذْنُ تعشقُ قبل العينِ أحيانا
ولا يصبح الغزل عنده في أكثر جوانبه حسيًّا فحسب، بل يصبح ضربًا من نداء الغريزة النوعية بصورة ليس فيها أدني احتشام؛ بل فيها غير قليل من العدوان على المجتمع وآدابه. و قد نقرأ عنده غزلًا يحتفظ فيه بكرامته وكرامة المرأة من مثل قوله :
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكَرَى طيف ألم
نَفِّسي عني قليلًا واعلمي ... أنني يا عَبدَ من لحم ودم
إن في بُرديَّ جِسْمًا ناحلًا ... لو توكأتِ عليه لانهدم
ومن صوره البارعة:
خليليَّ ما بال الدُّجى ليس يبرحُ ... وما بال ضوءِ الصبحِ لا يتوضحُ
أضلَّ الصباحُ المستنيرُ طريقَهُ ... أم الدهر ليلٌ كلُّه ليس يبرحُ

لقد كانت صنعة بشار في شعره تقوم على الموازنة الدقيقة بين العناصر التقليدية في الشعر العربي والعناصر التقليدية المستمدة من الحضارة والثقافة المعاصرة. وثَبَّتَ بشار هذه الطريقة؛ بحيث أصبحت منهجًا عامًّا للشعراء من بعده، وبحيث عدَّ بحق زعيم المجددين؛ فهو الذي نهج لهم هذا النهج من التطور بالشعر العربي تطورًا لا تنقطع الصلة فيه بين حاضره وماضيه.







19-أبو العتاهية 130ـ 211
أ-نشأته وحياته :
هو أبو اسماعيل بن القاسم بن سويد ، كان أبوه حجاما ، وهو نبطي من موالي بني عنزة وأمه من من موالي بني زهرة ، وأبو العتاهية كنية غلبت عليه.
ولد الشاعر في عين تمر بالقرب من الأنبار عام (130هـ) وتوفي عام (211هـ) اختلط في بداية حياتة بالمخنثين من الرجال الذين يتقلدون بالنساء لبسا وقد عمل خزافا صانعا للجرار ، ثم عاد وانتظم في حلقات الخلفاء في المساجد وشيوخ الأدب واتفق مع ابراهيم الموصلي أكبر مغني العصر العباسي , وانتقلا إلى بغداد فنجح الموصلي وفشل أبو العتاهيه , ولكنه عاد إلى بغداد وتقرب من المهدي بعد أن مهد له الطريق صاحبه ابراهيم . تعلق بجريه اسمها "عتبه " ولكنها كانت تضجر منه وتحول أخيرا إلى حياة الزهد .
ب-شخصيته :
أثر في شخصية أبي العتاهية عوامل ساعدت في توجه هذا الشاعر إلى الزهد وهي:
استعداده الفطري .
تهتك المعاصرين له وإسرافهم في المجون بحيث انقلب إلى عكس ما يصنعون.
إخفاقه في حب عتبه .
المعاناة التي عاشها في الأيام الأولى متمثلة في الفقر .
وقد عاش أبو العتاهية حياته متأثرا بالأفكار المانوية وقد أشار إلى ذلك (منصور بن عمار ) أحد الوعاض في عصره واستدل على زندقته بكثرة ذكره الموت دون أن يذكر الجنة والنار .
كما وأن فقر أبي العتاهيه كان سببا في نجله الشديد.
جوانب شعره :
كتب أبو العتاهيه في أبواب الشعر وفنونه، وجدد في معانيه وأغراضه وموسيقاه ، وهجر الحديث عن الأطلال وأكثر ما برع فيه الزهد .
يقول أبو العتاهية في مدح المهدي :
أتته الخلافة منقادة إليه تجرر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها.
ويقول في حبه لعتبة واصفا إياها بالدرة الثمينة:
كأنها من حسنها درة أخرجها اليم إلى الساحل
ويقول واصفا فلسفته للموت والحياة:
لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى تباب
ألا يا موت لم أر منك بدا أتيت وما تحيف وما تحابي.
ويقول في الحكمة والموت:
أجلل قوم حين صرت إلى الغنى وكل غني في العيون جميل
إذا مالت الدنيا إلى المرء رغبت إليه ومال الناس حيث تميل
ويقول باكيا على أيام شبابه :
ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب
الحكم على شعر أبي العتاهية :
اقترب أبو العتاهية في شعره من العامة ، وهجر جزالة الألفاظ ، وترك الوقوف على الأطلال ، فكان شاعرا مطبوعا غزير الشعر يتناول المعاني القريبة من العامة بألفاظ سهلة واضحة متجنبا الغرابة والتعقيد والتكلف وقد اعتبره صاحب الأغاني متقدما في الشعر.
ج-صَنْعَةُ أبي العَتاهِيَةِ
تمثل أشعارأبي العتاهية حياته وما حدث بها من انقلاب ، إذ يتراءى لنا في شعره مرحلتان واضحتان تمام الوضوح:
1-مرحلة تصوير اللهو والمجون ومجالس الأنس والطَّرب والمدحبأسلوب سهل عذب فمن مدحه:
أتته الخلافةُ منقادةً ... إليه تجرر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ... ولم يكن يصلح إلا لها
ولو رامها أحدٌ غيرُهُ ... لزلزلت الأرضُ زلزالها
ولو لم تطعه بناتُ القلوبِ ... لما قبل اللهُ أعمالَها
وإن الخليفةَ من بغض لا ... إليه ليُبْغِضُ من قالها
فأسلوبه خفيف قريب إلى النفوس، وتبلغ السهولة الغاية في غزله؛ حتى ليقول ابن المعتز: "إن غزله لين جدًّا مُشَاكل لكلام النساء" وكأن ملازمته للمخنثين في مطلع حياته وتعرفه على لغتهم هما اللذان أتاحا له هذه السهولة المفرطة التي تلقانا في مثل قوله :
كأنها من حسنها درةٌ ... أخرجها اليمُّ إلى الساحلِ
كأن في فيها وفي طرفها ... سواحرَ أقبلن من بابلِ
لم يبقِ مني حبُّها ما خلا ... حشاشة في بدنِ ناحلِ
يا من رأى قبلي قتيلًا بكى ... من شدة الوجد على القاتل
والرقة واضحة أيضا في هذه الأبيات، وهي تقع من القلوب موقع الزُّلال البارد من الظمآن، وكأنها الماء السلسبيل
2-مرحلة الزهد والدعوة إلى الانصراف عن الدنيا ومتاعها، والتفكير في الموت وظلمة القبر ووحشته، ويسود زهدياته في أثناء ذلك تشاؤم أسود حزين؛ فالحياة ليس فيها إلا الألم وإلا الموت وغصصه، وأولى بالإنسان فيها أن لا يفرح بمتعها، بل أولى به أن يبكي على نفسه، يقول :
لدواعي الخيرِ والشـ ... ـرِ دنوٌ ونزوحُ
سيصيرُ المرءُ يومًا ... جسدًا ما فيه روحُ
بين عيني كلِّ حي ... عَلَمُ الموتِ يلوحُ
كلُّنا في غفلةٍ والْـ ... موتُ يغدو ويروحُ
نُحْ على نفسِكَ يا مسكين ... إن كنت تنوحُ
لتموتنَّ وإن عُمِّـ ... رَت ما عُمِّرَ نوحُ
ويقال: إن الملاحين غنَّوا الرشيد هذه المقطوعة في إحدى نزهاته بدجلة؛ فلما سمعها جعل يبكي وينتحب . وهذا يدل على قرب شعره من روح الشعب؛
فقد قالوا: "إنه نظم في بعض مراثيه قول بعض الفلاسفة لما حضروا موت الإسكندر: الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه أمس"؛ فقال في رثاء على بن ثابت:
وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيَّا
وقد جعله تصويره لآلام الحياة والموت يجيد في هذا الموضوع، وكان كثيرًا ما ينقل حكم الأوائل من فرس وغير فرس إلى شعره، ولعل ذلك ما أتاح له أن ينظم مزدوجته "ذات الأمثال" التي امتدت إلى أربعة آلاف بيت، وقد كانت صنعته تقوم على
أ-السهولة المفرطة في اختيار الألفاظ والعبارات؛ حتى لتقترب من لغة الناس اليومية، بل حتى ليصيبها أحيانًا ضرب من الابتذال، ومن أجل ذلك كان الأصمعي يقول: "شعر أبي العتاهية كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى" ،
ب-يقال : إنه كثير الساقط المرذول مع أنه لم يدخل في شعره ألفاظًا أعجمية؛ إنما هو القرب فقط من كلام العامة، وكان يتخذ ذلك مذهبًا في صنعة شعره، حتى يكون أكثر تداولًا ومع ذلك لم يخرج عن الفصحى، وظلت عنايته بالمعاني تحول بين شعره وبين السقوط.
ج- بسَّط لغة الشعرفي مجال اللهو والغزل و الزهد والمديح، فحتى المديح لم يقف عائقًا في سبيل هذا الأسلوب المبسط السهل، إذا انفك عن كثير من تقاليده القديمة من حيث مقدماته في وصف الصحراء والرحلة على النوق،
د-لغته الضخمة الجزلة وما كان يشوبها من الغريب
ه- اختيار الأوزان الخفيفة والمجزوءة يصوغ منها شعره؛ بل لقد اندفع يجدد في الأوزان على نحو ما مر بنا في الفصل السابق مُظْهِرًا براعة فائقة.



20-أبو نواس 140 ـ 199هـ
أ-نشأته وحياته :
ولد الشاعر الحسن بن هانئ في إحدى قرى خوزستان من بلاد فارس . توفي الأب حين بلغ الابن السادسة فانتقلت الأم بابنها إلى البصرة ودفعت ابنها لحفظ القرآن فحفظه ، ثم عمل الشاعر خادما عند عطار وتعرف على الشاعر الخليع وابلة بن الحباب الدمشقي الأصل والمنشأ توفي فأثر على أبي نواس تأثرا كبيرا ، حيث انتقل مع والبة إلى الكوفة يعاقر الخمرة ويجالس المجان ، ولكنه عاد إلى البصرة ليجالس شيوخ الأدب والفكر في ذلك العصر ، ثم انتقل إلى بغداد وأصبح شاعرا الرشيد والأمين عاش 59 عاما امتدت بين عامي : (140هـ) و(199هـ) وتروي كتب الأدب أن أمه كانت من ذوات البيوت صاحبات الرايات استرابة وشكا بحيث أثر ذلك على أبي نواس .
ب-شخصيته :
1-الصفات النفسية : حاد المزاج بحيث تتغير مواقفه بحسب الظروف، محبا للهو ، ومجالس الخمر والنساء .
2-الصفات الثقافية : استقى الشاعر ثقافته من البيئة العباسية المحيطة به ، ومما تعلمه من الثقافة الفارسية بالإضافة إلى القرآن والحديث .
3-الصفات الاجتماعية : تأثر أبو نواس بالواقع الاجتماعي المحيط به والمنحرف عن جادة الصواب ، وساهم في انحرافه مادية المجتمع العباسي وانحراف أمه ، وقد جعله ذلك يدعو بشعره إلى الانحلال من الأخلاق والابتعاد عن القيم الإيجابية .
ج-جوانب شعره :
عايش أبو نواس حالة التغير والتبدل الاجتماعي والفكري والأدبي ،وحاول كغيره أن يجدد من مضامين القصيدة العربية ، وسخر من وقوف العرب على الأطلال ، ولكنه بقي تقليدا في قصائد المدح التي كانت يمتدح بها الخلفاء .يقول أبو نواس واصفا الخمرة :
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
ويقول قي الوقوف على الأطلال :
عاج الشقي على رسم يسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد
ويقول في رثائه للخليفة الأمين :
طوى الموت ما بيني وبين محمد وليس لما تطوي المنية ناشر
وكنت عليه أحذر الموت وحده فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
ويقول معاتبا جارية الرشيد ( خالصة ) :
ضاع شعري على بابكم كما ضاع عقد على خالصة.
ويقول مادحا الرشيد:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق.
د-الحكم على شعره :
لقد كان شعر أبي نواس صورة واقعية لحياة اللهو والمجون ومعاقرة الخمرة ، وغزل النساء والغلمان ، إذ إن الحياة العباسية أثرت في حياته فأخرجته من فتى يحفظ القرآن إلى شاب خليع لا يراعي الواقع الخلقي والاجتماعي..
ه-صَنْعَةُ أبي نُوَاسٍ


عني أبو نواس بصناعته اللفظية في المديح والرثاء والغزل والمجون ،فهو يفرط في السهولة حين يتغزل، وكان ينظم كثيرًافي أوزان المجتث والمقتضب والمتدارك وما يشاكلها من البحور المجزوءة، معبرًا عن أحاسيس الحب، وملائمًا بينها وبين الغناء الذي عاصره، وله شعر في الزهديات ربما نظمه مجاراة لأبي العتاهية وأمثاله ممن كان تروج أشعارهم في العامة

يا ناظرًا في الدين ما الأمر؟ ... لا قدرٌ صحَّ ولا جَبْرُ
ما صح عندي من جميع الذي ... تذكرُ إلا الموت والقبر
وقوله:
يا أحمد المترجى في كل نائبة ... قم سيِّدي نعصِ جبار السماوات

يا رب وجهٌ في الترابِ عتيقُ ... ويا رب حسن في الترابِ رفيقُ
فقل لقريبِ الدارِ إنك راحلٌ ... إلى منزلٍ نائي المحلِّ سحيقِ
وما الناس إلا هالكٌ وابن هالكِ ... وذو نسبٍ في الهالكينَ عريق
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشَّفَتْ ... له عن عدوٍ في ثيابِ صديقِ
وكانت صنعة الشعر عند أبي نواس كانت تعتمد اعتمادًا شديدًا على الإطار القديم في المديح والرثاء وما يشبهما؛ بينما كانت تنفك من هذا الإطار أحيانًا في الغزل والخمريات، وقد تظل له قوة البناء فيهما، وتظل له روعة التصوير ودقة العاطفة، وقد يهبط وخاصة حين يتعابث ويهزل إلى لغة العامة وإلى أسلوب ليس فيه شيء من قوة، كان يعمد فيه إلى اللحن أحيانًا. ولعل ذلك ما جعل بعض القدماء يقول عنه، وهو قول صحيح: "إنه كان لا يقوم على شعره ويقوله على السكر كثيرًا، فشعره متفاوت؛ لذلك يوجد فيه ما هو في الثريَّا جودة وحسنًا وقوة وما هو في الحضيض ضعفًا وركاكة" .





21-ابن الرومي/221/- ـ 238/
أ-حياته ونشأته :
ولد ابن الرومي علي بن العباس عام (221هـ) وتوفي (283هـ) لأبوين رومي وفارسية، وكان له أخ اسمه محمد وأخت توفيت قبل أمها، وقد اطلع على علوم العربية والفلسفة وعلم الكلام التي استمرت طيلة حياته لخوفه من الأسفار، ولم يسافر من بغداد إلا مرة واحدة والمسافة قصيرة جداً إذ لم يتجاوز مدينة سامراء، وقد بقي متعلقاً بوطنه وارضه وبيته:
ولي وطنً آليتُ ألا أبيه وألاّ أرى غيري له الدهر مالكا
ب-شخصيته:وعناصر تكوينها:
1-العناصر الشكلية لشخصية الشاعر:تميز ابن الرومي بدمامة الوجه وقبح المنظر، وخولة في الجسم، وصلع كبير بحيث امتنع عليه خلع الكوفية.
العناصر الداخلية (الطبع والجبلّة): وقد امتلك ابن الرومي رهافة في الإحساس والمشاعر ودقة في الأعصاب بحيث جعل ذلك خياله آلة تصوير ناطقة تلتقط الصور الواقعية بدقة، وتعكسها بدقة، وقد أورث له هذا الإحساس الرقيق عقدة التطير.
2-العناصر الاجتماعية: وقد تعرض ابن الرومي لنكبات متعددة إذ توفي والده صغيراً، وتوفيت أمه بعد ذلك ثم توفيت زوجه وأخوه الذي كان يعينه على الحياة، وتوفي معظم أولاده مما جعله يشعر بالخيبة والمرارة واليأس ، كما أنه عانى من سوء المخالطة للناس، فاصبح مغروراً يعبر عن ذلك بالهجاء والمقذع والسخرية اللاذعة.
ج- شعر ابن الرومي:
يعد ابن الرومي من الشعراء المطبوعين الذين يجري شعرهم على السليقة والفطرة، فهو بعيد عن التكلف يركز على المعاني أكثر من الألفاظ وتميز بتوليدها وقد كتب في معظم فنون الشعر وتفوق في الرثاء والوصف والهجاء.
1- رثاء ابن الرومي:
تميز بالصدق والعاطفة المتأججة والعبقرية الفنية:
توخّى حمامُ الموت أوسط حبيبتي فللّه كيف اختار واسطة العقد
وأولادنا مثل الجوارح أيَّها فقدناه كان الفاجع البنين العقد
2- هجاء ابن الرومي:
وقد تميز بدقة الوصف والتحليل للشخصيات التي هجاها بحيث يبدو رساماً كاركتوري في شعره يقول في هجاء بخيل يقتر على نفسه:
يقتّر عيسى على نفسه وليس بباقٍ ولا خالدِ
فلّو يستطيع لتقتيره تنفَّس من منخرٍ واحدٍ
ويقول في وصف معلم صبيان يدعى أبا سليمان:
أبو سليمان لا تُجدي طريقته لا في الغناء ولا تعليم صبيانٍ
ولعل من أهم الجوانب التي تلفت النظر في شعر ابن الرومي جانب الهجاء؛ فقد أعده مزاجه الحاد وقدرته البارعه في لمح الدقائق والعيوب الجسمية لضرب من الهجاء يمكن أن نسميه "الهجاء الساخر"؛ إذ كان يعبث بمهجويه عبثًا.
لاذعًا يشبه عبث أصحاب الصور "الكاريكاتورية"؛ فهو يقف عند نواحي الضعف ويكبرها ويظهرها في أوسع صورة لها، حتى ليثير الضحك والإشفاق على من يتناوله منهم؛ إذ يصنع بهم صنيع أصحاب الصور "الكاريكاتورية" فهم يضعون رأسًا كبيرًا على جسم صغير، أو يخالفون في أعضاء الجسم فيركبونها عليه تارة بالطول وتارة بالعرض، وهو تركيب مضحك في كل صوره وهيئاته، وكذلك كان ابن الرومي يتناول من يهجوه فيشوهه تشويهًا غريبًا، مستخدمًا ما يمتاز به من بعض النقائص الجسدية، وانظر إليه يقول في الأحدب الذي كان يتطير به:
قصُرت أخادعُه وغاب قذالُهُ ... فكأنَّه متربِّص أن يُصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرَّة ... وأحسَّ ثانيةً لها فتجمَّعا
ويقول في بعض مهجويه:
وجهكَ يا عمرو فيه طولُ ... وفي وجوهِ الكلابِ طولُ
والكلبُ وافٍ وفيك غدرٌ ... ففيك عن قدره سُفُولُ
وقد يحامي عن المواشي ... وما تحامي ولا تصولُ
وأنت من أهلِ بيتِ سوءٍ ... قصتُهم قصةٌ تطولُ
وجوههم للوري عظاتٌ ... لكن أقفاءهم طبولُ
مستفعلن فاعلن فعولُ ... مستفعلن فاعلن فعولُ
بيتٌ كمعناك ليس فيه ... معنى سوى أنه فضولُ
وعلي نحو ما كان يلتقط العيوب الجسدية كان يلتقط العيوب الصوتية والمعنوية، يقول في مغنٍّ قبيح الصوت:
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا ... عند التنغُّم فكَّي بغلِ طحَّانِ
ويقول في بخيل يسمى عيسى :
يقتر عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره تنفس من منخر واحد
ويقول في بعض مهجويه , ويصوره يجتر كالحيوانات المجترة :
بعض اضراسه يكادم بعضا ً فهي مسنونة ٌ بغير سنون
لا دءوب ٌ الا دءوب رحاها او دءوب الرحى التي للمنون
ما ظننت الانسان يجتر حتى كنت ذاك الانسان عين اليقين
وكان مشغوفا ً بهجاء اللحى وتصويرها تصويرا ً هزليا ً كأن يقول في بعضهم :
علق الله في عذاريك مخلا ة ولكنها بغير شعير
وانظر إليه يقول في لحية , لم يعجب بها ولا بصاحبها :
لو قابل الريح بها مرة لم ينبعث من خطوه إصبعا
أو غاص في البحر بها غوصة صاد بها حيتانه اجمعا
فإنك تراه يركب من يهجوهم ركوبا ً غريبا ً , إذ يسخر منهم سخرية لاذعة وهي سخرية ناشئة عن دقته في لمح العيوب الجسمانية وغير الجسمانية عند خصومه , وناشئة أيضا ً عن حيه ومزاجه وتشاؤمه وإناتهم له في تطيره , فانصب عليهم شواظا ً من نار يلذعهم , بل يكويهم ويكوي وجوههم , وأنوفهم , واقفاءهم وأفواههم . وكان يعرف كيف يكبر مواضع العيب منهم فإذا هو يعبث بهم وباقفائهم . كما يعبثون بتطيره وتشاؤمه , وما الناس من حوله إلا كهذا الأحدب المخيف !
3- الوصف عند ابن الرومي:
أجاد ابن الرومي في وصف الطبيعة وكان ميالاً إلى التشخيص كما أجاد في وصف الحمَّال الأعمى ووصف المغنية وحيد.
يقول في وصف بستان عنب للمنصور الخليفة:
ورازقي مخطف الخضور كأنّه مخازن البلّور
قد ضمِّنت مسكاً إلى الشطور وفي الأعالي ماء وردٍ جوري
لو أنّه يبقى على الدهور قرّط آذان الحسان الحور
ويقول في وصف وحيد المغنية:
غادة زانها من الغصن قدٌّ ومن الظبي مقلتان وجيدُ
تتغنّى كأنّها لا تُغني من سكون الأوصال وهي تجيد
خلقت فتنةً ، غناءً وحسناً مالها فيهما جميعاً نديدُ
د-صنعة ابن الرومي
لم يكن ابن الرومي يذهب في أن الشعر لا يحتاج إلى فلسفة ومنطق؛ بل كان يرى أنهما أصلان مهمان في حرفته؛ فهو يعتمد عليهما في تفكيره، وهو يستخدمها في صياغته، حتى لتتخذ أبياته في كثير من نماذجه شكل أقيسة دقيقة؛ فهو يقدم لها بمقدمات ويخرج منها بنتائج، وكأنه رجل من رجال المنطق، وهو لذلك يأبى إلا أن يخرج نماذجه إخراجًا حديثًا، فيه فكر، وفيه فلسفة، وفيه منطق، وفيه تلك الصفات العقلية الجديدة التي يمتاز بها شعراء العصر العباسي من أسلافهم القدماء، واقرأ له هذه الأبيات.
لما تؤذنُ الدنيا به من صُرُوفها ... يكون بكاءُ الطفلِ ساعةَ يولدُ
وإلا فما يُبْكيه منها وإنها ... لأفسحُ مما كان فيه وأرغدُ
إذا أبصرَ الدنيا استهلَّ كأنَّه ... بما سوف يلقى من أذاها مهدَّدُ
وللنفس أحوالٌ تظل كأنها ... تشاهدُ فيها كل غيب سيشهدُ
ويمكننا أن نخلص ذلك في جانبين:
1- الوضوح:الذي جعله يستقصي أطراف الفكرة حتى تتضح من جميع جوانبها؛ فهو رجل منطق، يعشق البيان الواضح، ولعله من أجل ذلك كان شعره يمتاز بالطول فهو يستقصي ويتعمق في عرض أفكاره، حتى تبرز بروزًا دقيقًا.
2-التنسيق :الشديد والربط الوثيق بين أفكاره فهو طويل النفس شديد الاستقصاء للمعنى مسترسل فيه، ولا ريب أن هذا الاستقصاء كان سببًا من أسباب الإطالة؛ وكان ابن الرومي يستخدم الصياغة المنطقية، في قصائده، فشغف بهذا الطول الذي هو من أخص صفات من يريدون التعبير المنطقي الواضح. ومهما يكن فإن ثقافة ابن الرومي قد أحدثت في شعره هذا النوع الغريب من الطول في نماذجه؛
3-الشعرعنده تعبيرعن العاطفة :
4-الشعر عنده تعبير عن العقل:
ه-التَّصويرُ في شعرِ ابنِ الرُّومي:
كان ابن الرومي يعتمدفي شعره على فن التصوير، إذا كان لديه قدرة غريبة على ملاحظة دقائق الأشياء وتصويرها تصويرًا بارعًا، واستعان في ذلك بأداتين هما: التشخيص والتجسيم.
1- التشخيص: فقد استخدمه استخدامًا واسعًا في شعر الطبيعة؛ إذ كان يحس بأن الطبيعة ذاتٌ ناطقة وأشخاص متحركة فهو يعيش مع كل نسمة فيها وكل حركة وكل خفقة وكل همسة، وكأنها تستغويه وتستهويه:
ورياض تخايل الأرض فيها ... خيلاء الفتاة في الأبراد
منظرٌ معجبٌ، تحيَّة أنف ... ريحها ريحُ طيب الأولادِ
فهي تدلُّ على إدلال الفتاة الحسنة، وهو يحنُّ إليها حنانًا غريبًا، يحس فيه برائحة ذكية، رائحة الأولاد النجباء وما يشعر به الآباء نحوهم من عطف وحنو ومحبة؛ بل إنها لتتصبَّاه إذ تتبرَّج له:
تبرَّجت بعد حياءٍ وخفرٍ ... تبرجَ الأنثى تصدَّت للذَّكَر
2-التشخيص :
كما كان يكثر من استخدام أداة التشخيص اندفع إلى ذلك تحت تأثير حساسيته الخاصة فمثله ممن يتطير ويتشاءم ويكبر التوافه لا بد أن يلتزم ذلك في تصويره ومعانيه؛ فهو كثير الخيال والأحلام، يتصور الخيال والحلم حقيقة فينفعل ويعظم انفعاله.
ويكبر تصوره ويتضخم، فإذا المعاني والأشياء تتجسم أمامه وتشخص، وإذا لها كل ما للأحياء من خواص وصفات، فهي تعقل عقلها، وهي تحس إحساسها وهي تشعر شعورها، واستخدام ألوان التصنيع في استخدامه لألون الثقافة القاتمة فإنها لم تتحول عنده إلى ألوان فنية زاهية.
وكان ابن الرومي من أصحاب مذهب الصنعة، ولعل من أهم هذه الجوانب ما يلاحظ عليه من استخدام لوني الطباق والجناس،
قلت لما بدت لعينيَّ شُنعًا ... ربَّ شوهاءَ في حشا حسناءِ
قلن لولا انكشافُنا ما تجلَّت ... عنك ظلماءُ شبهةٍ قتماء
قلت أعجب بكن من كاسفاتٍ ... كاشفاتٍ غواشيَ الظلماءِ
فهو يطابق بين كلمتي شوهاء وحسناء، وهو يجانس بين كلمتي كاسفات وكاشفات؛ إلا أنه يلاحظ أن ابن الرومي لم يكن يكثر من هذين اللونين؛ فهو ليس من أصحاب التصنيع إنما هي أشياء تسقط في بعض شعره، وقد لا تسقط؛ إذ هي لا تأتي عنده كمذهب، على أن ابن الرومي كان يهتم بجانب آخر في صناعته، وهو جانب القافية؛ فقد كان يطلب شواذها ولا يترك حرفًا شاردًا من حروفها؛ إلا ويؤلف عليه قصيدة أو قصائد مختلفة، وليس ذلك كل ما يلفتنا في صناعة قوافيه؛ فقد كان يلتزم حركة ما قبل الروي في المطلق والمقيد في أكثر شعره اقتدارًا" ، فمن ذلك في الروي المطلق:
لم يسترحْ من له عينٌ مؤرقةٌ ... وكيف يعرف طعمَ الرَّاحةِ الأرِقُ
فقد مضى في هذه المقطوعة يلتزم كسرة قبل الروي وهو هنا مطلق ، ويماثله في المقيَّد قصيدته:
أبَينَ ضلوعي جمرةٌ تتوقَّد ... على ما مضى أم حسرةٌ تتجددُ
فقد التزم الفتحة قبل الرَّوي. وكان لا يعاقب بين الواو والياء في أكثر شعره قدرة على الشعر واتساعًا فيه" ؛ فمن ذلك مطولته:
شابَ رأسي ولاتَ حين مشيبِ ... وعجيبُ الزمانِ غيرِ عجيبِ
فقد التزم فيها الياء قبل الرَّوِيِّ كما التزم الواو في مقطوعته السابقة:
وجهُك يا عمرو فيه طولُ ... وفي وجوهِ الكلابِ طولُ
إنه قد يلتزم الحرف وحركته قبل الروى،

وفي مطولة التي يبدؤها على هذا النمط:
صبرًا على أشياءَ كلِّفتُها ... أعقبتها الدَّنَّ وسُلِّفتُهَا
يلتزم فيها الفاء قبل الروى، وكأنه كان يرى أن الروي في هذه المطولة هو الفاء لا الهاء ولا التاء. ومهما يكن فإن ابن الرومي لم يستطع أن ينتقل بصناعته من دائرة الصانعين إلى دائرة المصنِّعين؛ لأنه كان يفهم الشعر بصورة أقرب من الصورة التي علقت بأذهان أصحاب التصنيع؛


22-أبو الطيب المتنبي
( 303- 354)
أ-حياته ونشأته:
ولد أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين الجعفي سنة (303هـ) وتوفي سنة (354هـ) في حي من أحياء الكوفة "بني كندة" وقد إدّعى النبوة في بادية السماوة وسجن في حمص وتنقّل بينس القبائل والبادية فاطلع على اللغة والأدب وفنون القول، كان والده سقّاء سفي مساجد الكوفة التقى في انطاكية بأبي العشائر وعرّفه على سيف الدولة الذي أعجب به وقرّبه إليه. مما جعل الحساد من الشعراء يوقعون بينه وبين سيف الدولة مما جعله يهاجر إلى مصر ويلتقي بكافور الاخشدي الذي ماطله في تعينيه والياً في مصر ، فهرب ليلة عيد الأضحى هاجياً كافور ثم توجخ إلى الكوفة ثم تردد إلى بغداد والتقى بابن العميد في منطقة أرّجان، وبعضد الدولة في منطقة شيراز.
ب-شخصيته:
الصفات الجسمية: لم يرد ذكرٌ لصفات قبيحة في شخصية المتنبي، ويرجع البعض نسبه إلى بني هاشم .
الصفات النفسية: يعد المتنبي من الشعراء الطموحين المغرورين والمعتدين بنفسهم، والمتطلعين إلى المجد والسيادة وكان يؤمن بالقوة والجلد، أمضى حياته باحثاً عن طموحه ولكنه فشل في مبتغاه.
الصفات الخلقية: يتنيز المتنبي بالصدق مع نفسه والوفاء مع غيره، وهو رجل ودود لم ينس فضائل سيف الدولة عليه.
ج-شعر المتنبي:
يعد المتنبي عند الدارسين العرب، وغير العرب، الشاعر الأول من حيث القدرة والعطاء، فقد كان شاعراً بارعاً في تناوله لموضوعاته، كتب في معظم أغراض الشعر كالفخر – المديح – الهجاء – الوصف – الحكمة .


1ً- الفخر:
القارئ لشعر المتنبي يجد أن هذا الشاعر قد بثَّ فخره الفردي في معظم قصائده بحيث قاده هذا الفخر إلى الغرور من ذلك:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صممُ
وقوله
أيّ محلٍ أرتقي وأيّ عظيمٍ أتقي
وكل ما خلق الله وما لم يخلق
متقرٌ في همتي كشعرة في مفرقي
2ً- المديح:
وهو الغرض الأهم المشتمل على معظم قصائده ، فقد أكثر المتنبي من المديح، وبرع به وتوجه به إلى صديقه أبي العشائر وسيف الدولة الحمداني وكافور الإخشيدي ومن قصائده المميزة قوله في أبي العشائر:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إنْ لم تسعد الحالُ
ويقول في ميحيته والتي مدح فيها سيف الدولة:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
ويقول مادحاً سيف الدولة بأبيات بارعة:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاحٌ وثغرك باسمُ
3ً- الهجاء :
وهو الفن الذي يقضي على المتنبي ، وقضى عليه بالنهاية على يد فاتك الأسدي بسبب قصيدته التي مطلعها :
ما أنصف القوم ظبة وأمه الطرطبة .
وفي قوله لكافور :
لا تشتري العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ

4ً- الرثاء :
وقد تميز الرثاء بالسمو في المعاني ، أكثر ما ظهر ذلك في رثائه لجدته التي احتضنته بعد وفاة أمّه، وقد كان أثناء رثائه صغيرا فغلب على قصيدته الفخر :
يقولون لي : ما أنت في كلِّ بلدةٍ وما تبتغي؟ ما ابتغي جلَّ أن يُسمى
وإني لمن قومٍ كأنّ نفوسهم بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما
والثانية لرثائه لخولة أخت سيف الدولة والظاهر أنه كان يودها ، ولكنه لم يجرؤ أن يخطبها :
فليت طالعة الشمس غائبة وليت غائبة الشمسين لم تغبِ
5ً- الحكمة :
استقى المتنبي حكمته من تجاربه الشخصية وثقافته الدينية واطلعاته على فلسفة ارسطو وحكم اليونان . إذ كان هذا الرجل ثاقب النظرة ، قوي التأمل ، جمّل معظم قصائده بحكمٍ لا تزال سائرة على ألسنة الناس إلى يومنا هذا . ومن ذلك قوله :
ما كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقوله :
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سناناً
وقوله:
إذا غامرت في شرف روم فلا تقنع بما دون النجوم
وقوله :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
6ً-الوصف:
وقد كان المتنبي بارعاً في تصويره لكثير من القضايا والمشاهد التي رآها في عصره، والمتصفح لديوان المتنبي يجد عجباًُ لمقدرة هذا الشاعر على رصد الصور الجميلة من ذلك قوله في وصف منطقة "شعب بوان".
ملاعبُ جنّة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان
طبت فرسننا والخيل حتى خشيت وإن كرمن في الحران
كذلك وصفه للجيش في الحدث الحمراء:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
وفي أذان الجوزاء منه زمام
وكذلك وصفه للحمّى التي أصابته :
وزائرتي كأنّ بها حياء فليس تزور إلاّ في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فخافتها وباتت في عظامي
7ً- الغزل:
كان الطموح الذي تحمله نفسية المتنبي والذي تمثّل ببحثه عن المجد والزعامة والسيادة ألا يجعل المتنبي شاعراً يبحث عن المرأة ، ولكنه مع ذلك يصف لواعج الشوق وتبارع الحنين وصفاً بارعاً من ذلك قوله:
القلب أعلم يا عذول بدائه وأحقُ منك بجفنه وبحائه
ومن أحبّه لأعصينك في الهوى قسماً به وبحسنه وبهائه
ويقول أيضاً في وصف أثر الحب في نفسه متخيلاً امرأة :
أمن ازديارك في الدجى الرقباء إذ حيث كنت من الظلام ضياءُ
قلق المليحة وهي مسك هتكها ومسيرها بالليل وهي خفاءُ
أسفي على أسفي الذي دلهني عن علمه فبه عليَّ خفاء
ومن ذلك قوله:
أثرها لكثرة العشاق تحسب الدمع خلقت في المآقي
د-صنعة المتنبي
يتطابقشعر المتنبي مع حياته، و يمثل ثقافته، وهي ثقافة واسعة يمتزج فيها التشيع والتصوف والفلسفةفقد تصنُّعُ المتنبي للثقافاتِ المختلفةِ:
و أثرت القرمطية في أسلوب المتنبي وصياغته، وإليها يرد كثيرًا من الظواهر الفنية
وتصنُّعُ المتنبي للعبارةِ الصوفيةِ وشاراتِهَا:وهذه الصوفية يمكن أن يُلحظ تأثيرها في شعر المتنبي من جهة أخرى غير جهة الرمزية والأفكار والمعاني؛ إذ نرى في شعره تأثرًا آخر لا يأتي من أنه يستعير أفكار المتصوفة ومعانيهم؛ إنما يأتي من استعارته لطريقتهم في التعبير وما يتصل بها من ظروفها وأحوالها الخاصة، فإن المتنبي حين عدل بشعره إلى العبارة الصوفية كان قد أسلم هذا الشعر إلى صعوبات في التركيب، وهي صعوبات كانت تميز أساليب المتصوفة في هذه العصور؛ لأن اللغة لم تكن قد اتسعت بعد لأداء أفكارهم ومعانيهم ، وقد لاحظها القدماء في بعض الأبيات: لاحظها صاحب اليتيمة في قوله يصف فرسًا:
وتسعدني في غمرةٍ بعد غمرةٍ ... سبوحٌ لها منها عليها شواهدُ
وقوله:
ولولا أنني في غير نومٍ ... لبِتُّ أظنني منِّي خيالا
وقوله:
ولكنك الدُّنيا إليَّ حبيبةً ... فما عنك لي إلا إليك ذهابُ والمتنبي هو خير شاعر يصور لنا أساليب المتصوفة في القرن الرابع، وأنه يبلغ من ذلك ما لا يبلغه الحلّاج والشِّبلي والْجُنَيد وغيرهم من متصوفة هذا القرنوالمتنبي لم يكن متصوفًا؛ إنما كان ممثلًا للتصوف يقترح عباراته في الشعر، وما يزال يطلب جميع شاراتها وحركاتها، وما يمكن أن تخرج فيه من ظروف مختلفة تكثر فيها الضمائر أو تكثر فيها أدوات النداء أو تكثر أسماء الإشارة، وربما التقط في أثناء ذلك تعبيرًا فيه تصغير ، على أن هذا الالتجاء لأساليب المتصوفة وما سبقه من التجائه لأساليب المتشيعة بعث فيها حالًا من الغلو والمبالغة في مدح أصحابه؛ حتى ليخيل إلى الإنسان -في كثير من الأحيان- أنه يقرأ مدحًا لإمام من أئمة المتشيعة أو المتصوفة؛ إذ كان يذهب مذهبهم في المبالغة، فيخرج إلى ضروب غريبة من الغلو والإفراط، واقرأ هذه الأبيات التي يقولها في بعض ممدوحيه:
لَو كانَ ذو القَرنَينِ أَعمَلَ رَأيَهُ ... لَمّا أَتى الظُّلُماتِ صِرنَ شُموسا
أَو كانَ صادَفَ رَأسَ عازَرَ سَيفُهُ ... في يَومِ مَعرَكَةٍ لَأَعيا عيسى
أَو كانَ لُجُّ البَحرِ مِثلَ يَمينِهِ ... ما انشَقَّ حَتّى جازَ فيهِ موسى
أَو كانَ لِلنيرانِ ضَوءُ جَبينِهِ ... عُبِدَت فَصارَ العالَمونَ مَجُوسا
من أهم الوسائل التي كان يستخدمها المتنبي وغيره من الشعراء في هذه العصور وسيلة الفلسفة والثقافة اليونانية؛ فقد كان يحاول أن يستوعب الأفكار والصيغ الفلسفية في قصائده ونماذجه حتى يتخلص قليلًا من صيغ الفن الثابتة وقوالبه العتيقة، وإن الإنسان ليحس دائمًا عند المتنبي أنه كان يبحث عن صيغ جديدة للتعبير، ولكنه لم يكتفِ بأن يخضع هذا البحث لتجاربه الخاصة في التعبير عن وجدانه وأفكاره؛ إذ ذهب يقترض طائفة من الصيغ المذهبية أو الفلسفية، وبذلك انصب كثير من تجديده على تغييره في القيود ووجوه التكلف. ولعل أول ما يقابلنا من ذلك حكمه الكثيرة التي شاعت في شعره، وعرف بها عند القدماء والمحدثين؛ فهم يذكرون أن الصاحب بن عبّاد ألف رسالة لفخر الدولة ابن بُويه، جمع فيها من شعر أبي الطيب زهاء ثلاثمائة وسبعين بيتًا تجري مجرى الأمثال .
وقد كتب الحاتمي رسالة يبين فيها كيف استغل صاحبنا حكم أرسطو وكيف صاغها شعرًا، فمن ذلك قوله:
يُرادُ مِنَ القَلبِ نِسيانُكُم ... وَتَأبى الطِباعُ عَلى الناقِلِ
وأصله عند أرسطو طاليس: "روم نقل الطباع من رديء الأطماع شديد الامتناع"
ومن ذلك قوله:
لَعَلَّ عُتْبَكَ مَحمودٌ عَواقِبُهُ ... فَرُبَّما صَحَّتِ الأَجسامُ بِالعِلَلِ
وأصله عند أرسططاليس: "قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكي والفَصْد اللَّذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها، ومن ذلك قوله:
وَمَن يُنفِقِ السَّاعاتِ في جَمْعِ مالِهِ ... مخافةَ فَقْرٍ فَالَّذي فَعل الفقرُ
وأصله عند أرسططاليس: "من أفنى مدته في جمع المال خوف العدم فقد أسلم نفسه للعدم" . وعلى هذه الشاكلة أخذ الحاتمي يحقق ترجمة هذه الحكم اليونانية إلى الشعر العربي عند المتنبي حتى بلغ بها نحو مائة وعشرين حكمة.
ومن يقرأ في ديوان المتنبي يحس إحساسًا واضحًا بأن الشعر كان يعتمد عنده على العقل المتفلسف والصياغة الفلسفية، وقد ذهب يستخدم هذه الحكم، مضيفًا إليها ضروبًا من القافية المنطقية الدقيقة حتى ينال ما يريده من الدوي العالي:
وتركك في الدنيا دويًّا كأنما ... تداولُ سَمْع المرء أنْمُلُهُ العشرُ
والمركَّبُ الفَنِّي الفلسفي في شعر المتنبي موجود بسبب توافر الأضداد" وقد أحاله لونًا فنيًّا جميلًا، وهنا تبينّا جانبًا من قابلية العقلية العربية للتفكير اليوناني،
الجيشُ جيشُك غير أنك جيشه ... في قلبِهِ ويمينه وشمالِهِ
وليس في البيت غرابة ولا تعقيد، ولذلك يبدو يسيرًا سهل الفهم، ولكن إذا أمعنا النظر وجدنا فيه شيئًا يشبه أن يكون تعقيدًا؛ إذ يجعل المتنبي ممدوحه جيشًا، ويجعل الجيش جيشه، وفي الوقت نفسه يجعله جيش الجيش؛ فهو جيش دائر على نفسه، أو هي فكرة فيها دور وليس من شك في أن المتنبي عمد إليها عمدًا وتصنع لها تصنعًا، وما الفرق بينه وبين غيره من شعراء عصره ممن لم يتثقفوا ثقافة فلسفية إن لم يأت بمثل هذه العبارات المتداخلة؟ وانظر إلى قوله:
فتىً يشتهي طول البلادِ ووقته ... تضيق به أوقاتُهُ والمقاصدُ
فإنك تراه لا يزال يتعمَّل للأسلوب الفلسفي في تفكيره وصياغته؛ وعلى هذا النحو نراه يقول بيته:
أَسَفي عَلى أَسَفي الَّذي دَلَّهتِني ... عَن عِلمِهِ فَبِهِ عَلَيَّ خَفاءُ
فإنه يأسف على أسفه أسفًا غير مفهوم، فالأسف يركب أسفًا مثله، كهذا الزمان الذي يقي منه زمان مثله، وهذا الحمام الذي يفدي منه حمام مثله، وما يزال هذا القانون من التوليد يلعب في فكر المتنبي وشعره حتى نراه يقول:
نِقَمٌ عَلى نِقَمِ الزَمانِ يَصُبُّها ... نِعَمٌ عَلى النِّعَمِ الَّتي لا تُجْحَدُ
فالنقم على نوعين والنعم على نوعين، وكل شيء يمكن أن يستخرج منه شيء آخر يماثله، ويتحد معه، فيقوم دونه، أو يصبُّ عليه، أو يركِّبه ركوبًا غريبًا. وعلى هذا النمط ما تزال أساليبه تتشابك وتتداخل تداخلًا غير مألوف، تداخلًا يوقعه في مثل هذه الأساليب المنحرفة، أو في مثل قوله:
إِلى كَم ذا التَخَلُّفُ وَالتَّواني ... وَكَم هَذا التَّمادي في التَّمادي
وما كان مثله لينام وهو يحلم بتعبير فلسفي، يحقق له ما لا يبلغ الزمن من نفسه على حدِّ تعبيره:
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ... ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
وقد شكا في شعره كثيرًا من سهاده وسهره؛ إذ يقول:
كَأَنَّ الجُفونَ عَلى مُقلَتي ... ثِيابٌ شُقِقنَ عَلى ثاكِلِ
فهو يطلب النوم والنوم يتأبى عليه، ولعله هو الذي كان يتأبى على النوم لانشغاله عنه بلفظه أو فكرة،
وفي شعره تعقيدُ للموسيقى الإيقاعيةِ في الشِّعْرِوانظر إلى قوله :
وَفاؤُكُما كَالرِّبعِ أَشجاهُ طاسِمُه ... بِأَن تُسعِدا وَالدَمعُ أَشفاهُ ساجِمُه
فقد قدم في البيت وأخَّر حتى أحدث الخلل المقصود، وإنه لخلل غريب يكشف جانبًا من المهنة عند شعراء القرن الرابع؛ إذ كانوا يلجئون إلى مثل هذا الارتباك في ترتيب ألفاظ البيت فيحدثون هذا الخلل الذي يمكن أن نسمي موسيقاه باسم "الموسيقى ذات النشاز" وانظر إلى هذا البيت المذكور آنفًا:
قَلَقُ المَليحَةِ وَهيَ مِسكٌ هَتكُها ... وَمَسيرُها في اللَّيلِ وَهيَ ذُكاءُ
فقد أحدث المتنبي ارتباكًا موسيقيًّا في الشطرين، ويظهر ذلك من الرجوع إلى النحو، فإن الشطر الأول يتكون هكذا: مبتدأ- حال- خبر، أما الشطر الثاني فيتكون هكذا: مبتدأ- ظرف- حال، وحذف الخبر للعلم به، أي أن مسيرها في الليل هتك لها. أرأيت كيف استطاع المتنبي بثقافته النحوية أن يحدث هذه الموسيقى الجديدة الغريبة؟
إن المتنبي استطاع مع كل ما رأيناه عنده من ضروب تصنع مختلفة أن يحلق في أسمى أفق للشعر العربي، إذا كان لشعره -ولا يزال- حيوية وطلاوة وروعة تأخذ بالألباب على الرغم من هذا التصنع للإيماءات المذهبية والشواذ الموسيقية والشوارد النحوية؛ فقد كان لديه من المهارة الفنية ما يستطيع أن يخفي به سمات هذا التصنع وما ينطوي فيه من تكلف شديد؛
ومع ذلك فإن مذهب المتنبي في التصنع بدا فيه منذ الأدوار الأولى من حياته الفنية، وأشاع المتنبي في شعره حيوية وجمالا ما لهما من نظيرلأسباب عدة :
1- غزله في شعره بالأعرابيات؛ وقدعبَّر عن ذلك أجمل تعبير؛ إذ يقول:
مَنِ الجَآذِرُ في زِيِّ الأَعاريبِ ... حُمر الحُلى وَالمَطايا وَالْجَلابيبِ
إن كنتَ تسأل شكًّا في معارفها ... فمنْ بلاكَ بتسهيدٍ وتعذيبِ
كَم زَورَةٍ لَكَ في الأَعرابِ خافِيَةٍ ... أَدهى وَقَد رَقَدوا مِن زَورَةِ الذيبِ
أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي ... وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي
حُسنُ الحَضارَةِ مَجلوبٌ بِتَطرِيَةٍ ... وَفي البَداوَةِ حُسنٌ غَيرُ مَجْلوبِ
أَفدي ظِباءَ فَلاةٍ ماعَرَفنَ بِها ... مَضغَ الكَلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ
2-في شعره ضرب من التشاؤم جعله برمًا بالدهر ساخطًا على الناس حتى لكأنَّه ثائر على الدُّنيا ثورة نابعة من نفسه كأن يقول:
رماني الدَّهرُ بالأَرْزَاءِ حتَّى ... كأني في غشاءٍ من نبالِ
فصرتُ إذا ما أصابتني سهامٌ ... تكسَّرَتِ النِّصالُ على النِّصالِ
أو يقول:
فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبًّا ... جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ
وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ ... لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ
وَلَذيذُ الْحَياةِ أَنفَسُ في النَفـ ... سِ وَأَشهى مِن أَن يُمَلَّ وَأَحلى
وَإِذا الشَيخُ قالَ أُفٍّ فَما مَـ ... لَّ حَياةً وَإِنَّما الضَعف مَلّا
3-تغنِّيه بالبطولة؛
يُحاذِرُني حَتفي كَأَنِّيَ حَتفُهُ ... وَتَنكُزُني الأَفعى فَيَقتُلُها سُمّي
كَأَنّي دَحَوتُ الأَرضَ مِن خِبرَتي بِها ... كَأَنّي بَنى الإِسكَندَرُ السَدَّ مِن عَزمي
أو يقول:
وَفي الناسِ مَن يَرضى بِمَيسورِ عَيشِهِ ... وَمَركوبُهُ رِجلاهُ وَالثَوبُ جِلدُهُ
وَلَكِنَّ قَلبًا بَينَ جَنبَيَّ مالَهُ ... مَدىً يَنتَهي بي في مُرادٍ أَحُدُّهُ
أو يقول:
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ ... فَلا تَقنَعْ بِما دونَ النُّجُومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ حقيرٍ ... كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ






24-أبو فراس الحمداني
( 320 - 357 ) هـ
1- حياته ونشأته:
ولد الحارث بن سعيد بن حمدان عام (320هـ) في الموصل وتوفي بحمص (357هـ) وكان أبوه قد توفي وهو طفل مكفله ابن عمه سيف الدولة. حيث تلقى الشاعر علومه وخالط العلماء والأدباء وصاحب سيف الدولة في غزواته و تقلد ولاية منبج وحرّان وهو في السادسة عشرة من عمره أسر مرتين في حصن خرشنة والقسطنطينية وكتب وهو في الأسر الروميات ، وقد ثار أبو فراس على أبي المعالي، ابن سيف الدولة.
ب-شخصية أبي فراس الحمداني:
1-الصفات الجسمية: يعد أبو فراس من الشعراء ذوي الطلعة البهية، والقوام المعتدل، ولم تذكر كتب الأدب صفات منفردة إذ أن زوجة امبراطور الروم أصرت على رؤية الشاعر وأعجبت به ايما إعجاب.
2-الصفات النفسية: امتلك أبو فراس رقة في الإحساس وصدقاً في العاطفة، وطموحاً نحو المجد، وزهوراً في النفس، وقد كان فارساً مقداماً، عانى من الأسر ما عانى، فانعكس ذلك على نفسه التي أصبحت متألمة لما يحس به.
نحن إذن بإزاء بطل من أبطال الحمدانيين، وقد استيقظت فيه شاعريته منذ مطالع شبابه، واتجه بها إلى الغزل والفخر بأسرته والاعتداد بشجاعته وغنائه في الحروب هو وآله، وقراعهم لكتائب الروم وغير الروم على شاكلة قصيدته المشهورة:
سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم ... وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ
وفخره يمتلئ بالحيوية؛ لأنه يصوِّر فيه واقعًا لا وهمًا من أوهام الخيال. وجرَّته شيعيته -والحمدانيون جميعًا شيعة- إلى نظم قصائد في آل البيت يتعرض فيها أحيانًا لخصومهم العباسيين. وخير أشعاره جميعًا رومِيَّاته التي نظمها في أسْرِهِ والتي كان يرسل بها إلى سيف الدولة معاتبًا لتقاعسه عن فدائه، وهي تكتظ بالحنين إلى الأهل والشكوى من الدهر والرفاق، ومن روائعها قصيدته التي يخاطب فيها أمه والأخرى التى يرئيها بها رثاء حارا . وهو بارع في تصوير أحاسيسه ومشاعره، سواء تحدث إلى ابن عمه وهو في أسره أو خاطب حمامة تنوح ، أو صور ليلة من ليالى حبه . غير أن شعره في جملته لا يصعد إلى الأفق الذى يحلق فيه المتنبى، لسبب بسيط وهو أنه أمير مترف، يتناول شعره كما يتناول حياته في يسر وسهولة.
ج- شعره:
كتب أبو فراس في أعراض الشعر العربي معظمها من غزلٍ ورثاء ووصف ومدحٍ، ولكنه برع في الغزل والفخر .
1ً- الفخر عند أبي فراس:
اتخذ الفخر عند هذا الشاعر منحيين ، منحىً يتجه فيه إلى النفس وفيه يقول:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ
ومنحىً يتجه فيه إلى قبليته وبذلك يقول:
لنا الحبل المطلُ على نزارٍ حللْنا النجد فيه والهضابا
تفضّلها الأنامُ ولا غاشى ونوصف بالجميل ولا غاتى
2ً- الغزل عند أبي فراس:
نظراً لاعتداد الشاعر بنفسه وما يمتكله من أنفة وكبرياء وعزة نفس ، فقد توجه بغزله إلى الصفات المعنوية عند المرأة ولا يتطرق إلى المفاتن الجسدية ، لذلك بدا غزله مشوباً بالحنين والشوق. من ذلك قوله:
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
معللتي بالوصل والموت دونه إذا مت ظمآناً فلا نزل القطرُ
3ً- العتاب عند أبي فراس:
وهو مجموعة من القصائد التي قالها معاتباً سيف الدولة على تقصيره بافتدائه من الأسر ، وخاصة وأنه أسر مرتين، لاقى خلالهما العنت والعذاب والحزن على فراقه أمه ومحبوبته .
وحبحبته:
أمن بعدل بعد بذل النفس فيما تريده أثاب بمر العتب حين أثاب
مليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
د- والحكم على شعر أبي فراس:
تميز شعر أبي فراس بميزتين أساسيتين . الأولى : دقة التعبير العفوي لدى الشاعر ، والثانية : الثقافة العصرية المتنوعة التي عكست شخصية الشاعر.
ويعد أبو فراس من شعراء الطبقة الأولى في العصر الحمداني فالعاطفة لديه متوقدة صادقة متوقدة صادقة حارة لا يشوبها أي تزوير أو كذب والمعاني عربية خالصة ، والجملة الشعرية أقرب إلى التعبير إلى التصوير .




25-أبو العلاء المعري
( 363 - 449)
آ- حياته ونشأته:
ولد أبو العلاء المعري أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي في معرة النعمان سنة (363هـ) وتوفي سنة (449هـ) وقد كفَّ بصره في الثالثة من عمره بعد أن أصيب بمرض الجذري ولا يتذكر من الألوان إلا اللون الأحمر .
وقد نشأ في بيت علم ووجاهة ، حيث توارثت أسرته القضاء ، نهل المعري من الثقافة الإسلامية والفلسفية والاغريقية، واطلع على المذاهب والفرق الدينية عند الهنود ، وتبحر في معرفة الديانة النصرانية واليهودية وحاول التكسب بشعره في أول الأمر ، وسافر إلى بغداد ثم رجع بعد وفاة أبيه وعاود الكرة في السفر إلى بغداد ليجد أمه توفيت ، فاعتزل الناس وألزم نفسه الإقامة في بيته حتى توفي .
وقد التقى بكثير من الأدباء والشعراء وتتلمذ على يديه نفر كبير من أهل الأدب ، أعجب كثيراً بشعر المتنبي وكان ذلك سبباً في خلافه مع الشريف الرضي .
ب- شخصيته:
1-الصفات الجسدية : يتسم المعري باستثناء عاهة العمى بصورة مقبولة ومعهودة بين الناس، ولم تذكر كتب الأدب أي صفات تبين قبحاً ما فيه باستثناء العمى.
2-الصفات النفسية والفكرية : امتلك المعري ذكاءً شديداً وحافظة قوية مكنته من الاطلاع على ثقافة عصره ولكن قراءته المنوعة ، ونظرة الناس إليه كصاحب عاهة بالإضافة إلى ما عاناه من معاملة متميزة جعله ميالاً إلى التشاؤم .
الصفات الثقافية : نظراً لاتساع ثقافة الشاعر واطلاعه على مذاهب الفكر والفلسفة والدين، فقد وقف من الحياة موقفاً نافراً وصريحاً يعتمد على أن وجود الإنسان "خطيئة" يجب عليه ألا يكررها على غيره وأن الفساد والشر مطبوعٌ في نفس الإنسان ، وأنه لا يمكن أن يعاش في هذه الحياة بالأخلاق الحميدة ضمن النظرة الواقعية ولذلك نراه يقول:
"هذا ما جناه أبي عليَّ ، وما جنيت على أحد" ومن هنا حرم على نفسه اللحوم والزواج، واحتبس نفسه مدة تزيد على أربعين سنة لزم فيها بيته، ولم يخرج إلا إلى قبره، ومع ذلك فقد امتلك نفساً إنسانية تحبّ الخير للناس جميعاً.وهو بذلك يناقض موقف أبي فراس من خلال قوله :
ولو أني حبيت بالخلد فرداً لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليست تنتظم البلادا
بينما أبو فراس يقول:
معللتي بالوصل والموت دونهإذا متُّ ظمآن فلا نزل القطر
ج- شعره:
لم يظهر في الشعر العربي شاعر فيلسوف استطاع أن يمتلك زمام الحكمة ، وأن يقف من الحياة والكون وحوادث الإنسان مثل المعري ، فقد كان هذا الشاعر من الشعراء الذين أسسوا لخدمة الفلسفة للشعر ، إذ تميز شعره باعتماده على الفكر والفلسفة أكثر من العاطفة والوجدان وقد ترك لنا المعري حوالي مئتين من المؤلفات في الشعر والنثر ضاع أكثرها وبقي منها :
(سقط الزند- اللزوميات- الدرعيات- رسالة الغفران- رسالة الملائكة- الفصول والغابات- شرح دواوين المتنبي والبحتري وأبي تمام).
يمثل ديوان سقط الزند بداية حياة الشاعر ،حتى رجوعه إلى بغداد ، ويكشف عن خصائص شعره في تلك المرحلة .
الدرعيات:ديوان شعر في وصف الدروع.
اللزوميات:وهي الممثل الحقيقي لشخصيته الفكرية والفلسفية وتأملاته في الحياة ، والموت, وقد ألزم نفسه في هذه القصائد بحرفين قبل القافية، وسلسل القوافي وفق حروف المعجم.
رسالة الغفران :وهي أعظم مؤلف نثري كتبه المعري على شكل رحلة مصورة خيالية إلى الجحيم والجنة والتقى فيهما بالشعراء كلٌّ بحسب موقعه ، ساق ذلك بجو نقدي ساخر، وقد تأثر بهذا المؤلف الشاعر الإيطالي ((دانتى)) في الملهاة أو الكوميديا الإلهية.


د- أغراض الشعر عند المعري :
كتب المعري في الفخر والوصف والرثاء والحكمة والمديح يقول المعري في الفخر مبيناً سجاياه النفسية والخلقية وهمته العالية في سعيه إلى المجد ومكانته المرموقة:
1-فخره :
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل عفافٌ وإقدامٌ وسيبٌ ونائلٌ
وإني- وإن كنت الأخير زمانهُ لأتِ بما لم تستطعه الأوائلُ
وهو بذلك يحاكي المتنبي الذي كان معجباً به إعجاباُ كبيراً في قوله:
إذا غامرت بشرف المروم فلا تقنع بما دون النجوم.
2- وصفه :
ويقول المعري في الوصف:
ليلتي هذه عروس من الزن ج عليها قلائد من جمان
هرب النوم عن جفوني فيها هرب الأمن عن فؤادي الجبان.
وكأن الهلال يهوى الثريا فهما للوداع معتنقان.
وسهيل كوجنة الحبِّ في اللون وقلب المحب في الخفقان.
3- رثاؤه :
يقول أيضاً في الرثاء الفلسفي :
صاح هذه قبورنا تملأ الرح ب فأين القبور من عهد عاد.
4-حكمته:
ويقول في الحكمة :
قالوا: فلانٌ جيدٌ لصديقه لا تكذبوا ما في البرية جيدُ
ومما ينسب له قوله :
زعموا أني سأبعث حياً بعد طول المقام في الأرماس
وأجوز الجنان ارتع فيها بين حور ولدة أكياس
أي شيءٍ أصاب عقلك يا مسكين حتى رميت بالوسواس.
وقال أيضاً في وصف منتقدي العميان :
قالوا: العمى منظرٌ قبيحٌ قلت: بفقدانكم يهون
والله ما في الوجود شيءٌ تأسى على فقده العيون
ويقول أيضاً واصفاً المعاصي:
زعم الجهول ومن يقول بقوله إنّ المعاصي من قضاء الخالق
إن كان حقاً ما يقال فلم قضى حد الزناد أو قطع يد السارق
ويقول أيضاً وهو مما ينسب إليه:
في القدس قامت ضجة ما بين أحمد والمسيح
هذا بنا قوسٍ يدق وذا بأذنٍ يصيح
وكل مسند دينه يا ليت شعري ما الصحيح
5-نقده الاجتماعي:
يعد المعري شاعراً بارعاً في انتقاد العادات والتقاليد والأديان والظلم الاجتماعي والإنساني.
يغدو الفقير وكلُّ شيءٍ جندّه والأرض تغلق دونه أبوابها
فتراه مجفواً وليس بمذنبٍ ويرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأيت ذابرةٍ هشت إليه وحرّكت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً بائساً نبحت عليه وكشرت أنيابها
ويقول في انتقاده الديانات الوضعية والسماوية:
عجبت لكسرى وأشياعه وغسل الوجوه ببول البقر
وقول اليهود إلهٌ يحب وسيس الدماء وريح القتر
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله وتزويج بنته لابنيه في الدنا
علمنا بأن الخلق من أصل ريبة وأن جميع الناس من عنصر الزنا
ه-تعقيد التصنع عند أبي العلاء
يعتد المعري بالغريب والشاذ في التراكيب، كما يعتد بالتصنع لألفاظ الثقافات المختلفة والتغني بالفيافي والحكم والأمثال والفخر بنفسه وذم الدهر والشكوى منه مع عنايته واسعة بالجناس. ومن يقرأ اللُّزوميات وينظر فيها نظرة فنية من حيث الصياغة والتنسيق يلاحظ أن جوانب كثيرة منها واهية؛ إذ استغرقها أبو العلاء بالتَّكرار حتى كاد أسلوبه أن يسقط في غير موضع من مواضعها، نعم إنه وفق في بعض أبياتها ولكن الكثرة الغالبة يعمها الإسفاف والضعف، وكأني به نسى أسلوب الشعر الذي كان يعرفه في سقط الزَّند، وهل يستطيع الإنسان أن يؤمن بأن اللُّزوميات أنشأها أبو العلاء بعد ديوان "سقط الزند" بنفس صورة صياغته؟! على أنه ينبغي أن نعرف أن سقط الزند لا يعتبر مثلًا أعلى في الصياغة الفنية للشعر العربي، وقد أظهر فيها تفوقًا نادرًا من حيث الصياغة وخاصة مرثيته:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نوحُ باكٍ ولا ترنُّم شادِ
وإن هذه القصيدة لتتفوق على كل ما كتبه في لزومياته، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه يسود فيها الخلل والضعف في البناء. إن السقط جيد بخلاف اللُّزوميات،
أن أبا العلاء لم يكن يعني بتجويد شعره وتحبيره في اللزوميات فهو لا يعطيه المهلة الكافية للصقل والانتخاب والتنقيح، ثم التأليف والتنسيق، فخرج شعره مهلهلًا ضعيف النسج ليس فيه شيء من حبكه التعبير ولا جمال التصوير إلا في القليل الأقل. والحق أن أبا العلاء لم يستطع أن ينهض بالصياغة الفنية في لزومياته إذا كان يعتمد على تكرار الأفكار، وإن الإنسان ليخيل إليه أن هناك مجموعة من الأفكار ما يزال ينظمها أبو العلاء على قوافٍ وحروف مختلفة، وهو يغاير في القافية أوفي الحرفين الأخيرين؛ ولكنه قلما حاول أن يغاير في المعاني والأفكار، وليس في اللزوميات غالبًا جمال في الصياغة ولا تنويع في الأفكار؛ إنما فيها بدء وإعادة وتكرار غريب للمعاني، وهي معانٍ عامة وكثيرًا ما ينقصها العمق والابتكار، وما يزال المعري ينظمها على حرف من الحروف كالباء ثم يعود إلى حرف آخر كالتاء، وهو ينظمها مرة على حرف الباء أو غيرها مضمومة، ثم يعود مرة أخرى أو مرارًا فينظمها على حرف الباء أو غيرها من الحروف مكسورة أو منصوبة أو ساكنيجتر أفكارًا محفوظة يكررها على قواف وأوزان مختلفة. ولعل ما يصور ذلك تصويرًا واضحًا رسالته المسماه باسم "ملقى السبيل" حيث نجده يصوغ المعنى نثرًا، ثم يصوغه شعرًا على هذا النمط؛ إذ يقول: "كم يجني الرجل ويخطئ، ويعلم أن حتفه لا يبطئ:
إن الأنام ليخطئو ... ن ويغفر الله الخطيئةْ
كم يبطئون عن الجميـ ... ل وما مناياهم بطيئةْ
إن أبا العلاء كان واعظًا في لزومياته، ولذلك لم يحسن صوغ أفكاره في الأساليب الخاصة بالشعر؛ لأن الوعظ من طبيعته التكرار، وهو يلائم النثر، ولا يلائم الشعر،
وكذلك لم يوفر أبو العلاء مجهودًا واسعًا في إحكام صياغته؛ إذ كان مشغولا عنها بعقد ولوازم غريبة في لزومياته، لقد تكلف في هذا التأليف ثلاث كُلَف: الأولى أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها، والثانية أنه يجيء رويُّة بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك، والثالثة أنه لزم مع كل روي فيه شيء لا يلزم من باء أو تاء أو غير ذلك من حروف". ونحن نلتفت من هذه الكلف إلى أن اللزوميات ليست ديوانًا بالمعنى المألوف عند العرب .. إذ يقول:
أراني في الثلاثة من سُجُوني ... فلا تسأل عن الخبر النَّبيثِ
لفقدي ناظري ولزوم بيتي ... وكونِ النفسِ في الجسمِ الخبيثِ
وذهب يحبس أفكاره في هذه السجون العروضية السابقة ولم يكتف بها؛ يتصنع الإغراب في ألفاظه، وعمَّم ذلك في جميع أشعاره وكتاباته، حتى ليشعر الإنسان في أحوال كثيرة بأنه يقرأ في متن من متون اللغة العويصة، ولعل من الطريف أن أبا العلاء استطاع أن يستخدم هذا الجناس استخدامًا مزدوجًا فهو يأتي به غالبًا ليعبر عن جناس من جهة وليعبر عن لفظ غريب من جهة أخرى. كان أبو العلاء يستخدم الجناس استخدامًا لغويًّا يريد به أن يدلَّ على مهارته في اللغة قبل أن يدل على مهارته في استخدام لون قديم من ألوان التصنيع. ولم يكتفِ أبو العلاء بما أحدثه بين الجناس والألفاظ الغريبة من مزاوجة؛ بل راح يصعب على نفسه؛ إذ نراه يطلبه بين حَشْوِ البيت والقافية، حتى يحدث هذه القيم المعقدة في قوافيه؛ فهو يلتزم فيها حرفين أو أكثر، وهو يلتزم فيها اللفظ الغريب، وهو يلتزم الجناس بينها وبين ألفاظ البيت، عَذيري مِنَ الدُّنيا عَرَتني بِظُلمِها ... فَتَمنَحَني قُوَّتي لِتَأخُذَ قُوَّتي
وَجَدتُ بِها ديني دَنِيًّا فَضَرَّني ... وَأَضلَلتُ مِنها في مُروتٍ مُروَّتي
أخوتُ كما خاتتْ عقابٌ لو انني ... قدرتُ على أمرٍ فَعُدَّ أخوَّتي
وأصبحتُ في تِيهِ الحياةِ مناديًا ... بأرفعِ صوتي أين أطلبُ صوَّتي
وكان اللزوميات إنما جاءت لتحدث هذه الصعوبات والتعقيدات في الشعر وما يطوَى فيها من شعب ومنعطفات؛


26-أبو تمام الطائي الجاسمي
188 ـ 232
أ-حياته ونشأته:
ولد جيب بن أوس الطائي في قرية جاسم بحوران على خلافٍ في مكان بين جاسم القرية التابعة لمدينة منبج وجاسم الواقعة بين طبرية ودمشق (188هـ) وتوفي عام (232هـ).
ويروى أن اسم والده (قدوس) فحرفه إلى أوس، كان والده يبيع الخمر، انتقل أبو تمام إلى دمشق في ريعان الصبا وعمل عند (حائل) (قزاز) ثم انتقل إلى مصر وبدأ يبيع الماء في المساجد، ولكنه مالبث أن رجع إلى دمشق ثم يسافر إلى العراق واستقر في بغداد ولمع نجمه في أيام المعتصم، وخاصة في وقعة عمورية ، وثورة بابك الخرمي_ ومقتل الأفشين.
ب-شخصيته :تميز أبو تمام بالذكاء والبديهة السريعة والإطلاع الواسع وانفرد بمذهب البديع والجدل، ومن أشهر مؤلفاته: (الجماسة – نقائض جرير والأخطل – ديوانه).
ج-أغراض أبي تمام الشعرية:
كتب أبو تمام في المدح والرثاء والوصف والهجاء والغزل.
1-2-المدح والرثاء: نظراً لكثرة مدائح ومراثي الشاعر أطلق عليه البعض (مدّاحه – نوّاحه) وقد بلغ عدد ممدوحيه نحو ستين شخصاً، وبقي في مدحه منهج منهج القدماء يوطيء لمدحه بالحكم أحياناً، وبالوصف أحياناً أخرى، وبالمدح دون توطئة مباشرة أحياناً، فهو مولع بالوقوف على الأطلال والبكاء على الديار وتميز مدحه بما يلي :
آ- الجزالة
ب- طول النفس
ج- شدة الجرس
د- الفخامة في الألفاظ
هـ- المعاني العربية
و- جعل الممدوح متميزاً بالنبل
ز- إدخال البديع إلى شعره
ح- العظمة
يقول أبو تمام مادحاً المأمون :
الله أكبر جاء أكبر من جرت فتعثرت في كهنه الأوهام
من شرّد الإعدام عن أركانه بالبذل حتى أستطرف الإعدام
ويقول في مدح المعتصم:
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجا بها فليتق الله سائله
ويقول في مدح المعتصم:
لقد تركت أمير المؤمنين بها للنار يوماً ذليل الصخر والخشبِ
أما رثاؤه وإن كان أقل من مدحه فقد أجاد به أبو تمام إجادة كبيرة ويقسم إلى قسمين:
الأول :رثاء المشهورين من القادة ، كرثاء محمد بن حميد الطوسي الذي وجهه المأمون لقتال بابك الخرمي فقتله عام (214هـ)
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ
فتى مات بين الطعن والضرب ميتةٌ تقوم مقام النصر إذ فاته النصرُ
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتّلت عليه القنا السمر
الثاني :رثاء ذوي قرباه ويتميز بالأسف والأسى واللوعة والمبالغة في الإطراء ، يقول في رثاء أخيه :
لم يبق من بدني جزءٌ علمت به إلا وقد حلّه جزءٌ من الحزن
3- الوصف:
امتلك أبو تمام خيالاً ثاقباً ساعده في إبراز مقدرته في وصف ما كان يقع تحت ناظريه، وقد كان وصفه مستقلاً أحياناً وموزعاً بين فنون الشعر أحياناً أخرى والوصف عنده نوعان:
أ-وصف الطبيعة:وقد شمل ذلك القسم الأكبر من وصفه بسبب نشأته في منطقة خضراء وبسبب كثرة اسفاره وتميز وصفه بما يلي :
1-دقة الملاحظة
2- استقراء أخفى دقائق الموضوعات
3- التأمل الفكري
4 - استخراج خفايا معاني غامضة
5-الاتكاء على الصور والمعاني القديمة
6-التوغل في المجاز
7-شدة الانفعال النفسي
8-الإكثار من المحسنات
9-قوة الخيال المبدع
10-بث الحياة والحركة والدفء في الموصوف
يقول في وصف الربيع:
يا صاحبي تقصيا نظريكما تريا وجوه الأرض كيف تصّورُ
تريا نهاراً مشمساً قد شابه زهر الرّبى فكأنما هو مقمرُ
ويقول في وصف سحابة ممطرة:
ديمةٌ سمحةٌ القياد، سكوب مستغيث بها الثرى المكروبُ
وصف المعارك: وقد أبرز فيه أبو تمام شعراء عصره لإجادته فيه أيما إجادة ويتميز ب-وصف المعارك عنده:ويتصف ب:
1-النفس الملحمي
2-التصوير الواسع والمخيف للأحداث الخطيرة
3-الخيال الرحب
4-الاعتماد على الوقائع التاريخية
5-لانفعال النفساني
6-الأسلوب الجزل
7- الألفاظ الفخمة
يقول أبو تمام في وصف عمورية:
تسعون ألفاً كأساد الشرى نضحت جلودهم قبل نضج التين والعنب
بصرتَ بالراحة الكبرى فلم ترها تنال إلاّ على جسر من التعب
4- الغزل عند أبي تمام:
لا يعد وأن يكون غزل الشاعر غزلاً تقليدياً، يمثل ظاهرة الوقوف على الأطلال وباستثناء بعض المقطعات الشعرية التي بدا فيها الغزل وجدانياً بقي أبو تمام يعتمد الوقوف على الأطلال يقول في غزله الطلبي:
سعدت غربة النوى بسعاد فهي طوع الاتهام والانجاد
ويقول في غزله الوجداني:
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزلِ


د-الخصائص الفنية لشعر أبي تمام
يمتاز شعر أبي تمام الخصائص التالية:
1-الغوص على المعاني البعيدة والصعبة:التي لا تدرك إلاّ بكد الذهن :
ضوءٌ من النار والظلماء عاكفة وظلمة من دخان في ضحى شحب
2-الاعتماد على الفلسفة والبراهين المنطقية في عرض الأفكار:
السيف أصدق أنباءً من الكتب في حدّه الحدَّ بين الجدّ واللعبِ
3-إلباس المعاني صوراً من التشبيهات والاستعارات المنسوجة في خياله:
لقد تركت أمير المؤمنين بها للنار يوماً دليل الصخر والخشبِ
4-إتكاؤه على بعض صور الآخرين:
يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفلاً معسولة الحلب
5-الإسراف في المحسنات البديعية كقوله مرصعاً:
تبدير معتصم بالله منتقم لله تقب في الله مرتغب
6-التعقيد والإغراب بحثاً عن الجديد من خلال استعمال الألفاظ الأبدة :
فاسلم سلمت من الآفات ما سلمت سلام سلمى ومهما أورق السلم
ه-صنعة أبي تمام:
تنوعت ثقافة أبي تمام حتى إنك تجد في شعره ألفاظ كثيرة تدل على ثقافاته المتنوعة، فمن ذلك قوله:
كم في النَّدى لك والمعروف من بدعٍ ... إذا تُصُفِّحت اختيرت على السُّن
ونحس كأن الشعر أصبح تنميقًا وزخرفًا خالصًا؛ فكل بيت في القصيدة إنما هو وحدة من وحدات هذا التنميق والزخرف، وهو ليس زخرفًا لفظيًّا فحسب، بل هو زخرف لفظي ومعنوي يروعنا فيه ظاهره وباطنه وما يودعه من خفيَّات المعاني وبراعات اللفظ. ومعنى ذلك أن التنميق والزخرف عند أبي تمام لا يحجبان عنا مشاعره وأحاسيسه بل هما جزء لا يتجزأ من هذه المشاعر والأحاسيس. ونحن لا نقرأ فيه حتى نحس أثر عنائه وأنه كان يجهد نفسه في صنع شعره إجهادًا شديدًا، و إن له ستمائة قصيدة وثمانمائة مقطوعة، وأكثر ما له جيد، والرديء الذي له إنما هو شيء يستغلق لفظه فقط فأما أن يكون في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا، وقد أنصف بالبحتري لما سئل عنه وعن نفسه فقال: "جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه، وذلك لأن البحتري لا يكاد يغلظ لفظه؛ إنما ألفاظه كالعسل حلاوة، والحق أن من يقرأ في شعر أبي تمام يحس إحساسًا واضحًا بأنه كان يشقى في بنائه واستنباط معانيه كما يشقى صيادو اللؤلؤ فهو يتنفس فيه الدم، وكان يشعر بذلك في دقة؛ فأكثر من وصف أشعاره بالإغراب والغرابة على شاكلة قوله:
خذها مغرِّبةً في الأرض آنسةً ... بكل فهمٍ غريبٍ حين تغتربُ
فهو يطلب الإغراب في فنه، حتى يسبغ على شعره كل ما يمكن من آيات الفتنة والروعة، وقد عاش لصناعته ينمِّيها ويخلع عليها كل ما يمكن من وسائل الزخرف والتصنيع، وما زال بها حتى جعلها تنميقًا وزينة خالصة؛ فهي حَلْيٌ أنيق ووشي مرصع كثير، وصوَّر ذلك في بعض شعره، فقال:
خذها مثقفةَ القوافي، ربها ... لسوابغ النَّعماء غير كنودِ
كالدر والمرجان ألِّف نظمُهُ ... بالشَّذر في عنق الكعاب الرُّود
كان أبو تمام يستخدم المحسنات التي تسمى بالطباق والجناس والمشاكلة والتصوير، والتي يقوم في نفوس كثير من الناس أنها كل ما كان يعتمد عليه الشاعر العباسي من وشي في تطريز شعره وتنميقه، يضيف إليها وشيًا آخر من الثقافة والفلسفة، لعله أروع من هذا الوشي المعروف؛ وربما أسرف أبو تمام في الْمُطابق والْمُجانس ووجوه البديع من الاستعارة حتى استثقل نظمه واستُوخم رصفه" .
وفي هذا ما يجعلنا نلتفت إلى جانب مهم في استخدام ألوان التصنيع، ذلك أنها تستخدم على طريقتين:
الطريقة الأولى :أن تأتي متعاقبة لا يتعلق بعضها ببعض
الطريقة الثانية:فتمتزج فيها هذه الألوان، ويمر بعضها في بعض فتتغير شياتها وهيئاتها، كما نجد عند أبي تمام في أكثر أحواله.
ولعل أهم لون استعان به أبو تمام على هذا المزج والاتحاد هو لون التصوير؛ فقد كان يمزجه بالجناس، وكان يمزجه أيضًا بالطباق والمشاكلة، واقرأ هذا البيت:
كل يومٍ له وكل أوانٍ ... خلقٌ ضاحكٌ ومالٌ كئيبُ
فإنك ترى فيه طباقًا بين الضحك والكآبة؛ ولكنه ليس طباقًا خالصًا؛ ففيه شِيات لون آخر هو لون التصوير، وكأنما الكلمتان تتكافآن في النسبة إلى ألبست فوق بياض جدك نعمةً ... بيضاءَ تُسرع في سوادِ الحاسدِ
وعلى هذا النمط يستمر أبو تمام يغمر اللون من الجناس أو الطباق أو المشاكلة في أصباغ لون التصوير؛ بل إن هذه الألوان جميعًا ليمر بعضها في أوعية بعض فإذا هي تتجلى في هيئات وشيات جديدة. والتصويرُ في شعرِ أبي تمامٍ يمتزج بالجناس والطباق والمشاكلة؛ فقد كان أبو تمام يشغف به شغفًا شديدًا، واستطاع أن يحلِّلَهُ إلى أصباغه المختلفة، وأن يستخدمها استخدامًا واسعًا في شعره؛ وقد كان يعتمد على صبغ التدبيج؛ حتى يعطي لصوره ألوانًا حسية ملموسة، كما نرى في مثل قوله:
كأن سوادَ الليلِ ثم أخضرارَهُ ... طيالسةٌ سودٌ لها كُففٌ خضرُ
والحق أن أبا تمام كان يحسن هذا الصِّبْغ في تصويره إحسانًا شديدًا، ، كما كان يستعير منه صبغين آخرين، هما: التجسيم والتشخيص. أما التجسيم فقد ملأ به أبو تمام شعره؛ إذ نراه يجسِّم المعاني في صور مادية حسية حتى تثبت في نفوسنا كأن يقول:
راحتْ غواني الحيّ عنك غوانيا ... يلبسن نأيًا تارةً وصدودا
أحلى الرجال من النساء مواقعًا ... من كان أشبههم بهن خدودا
فقد جسَّم النأي والصدود في هذه الثياب الغريبة
فهو يتصور الندى بكرياته اللؤلؤية طيبًا سقط من غدائر السحاب وشعره المسترسل على لمم الثرى ولحاه من العشب والأشجار. ونمضي معه فيقول:
من كل زاهرة ترقرقُ بالندى ... فكأنها عينٌ إليك تحدرُ
تبدو ويحجبها الجميمُ كأنها ... عذراءُ تبدو تارةً وتخفَّرُ
حتى غدت وهداتها ونجادها ... فئتين في حُلَلِ الربيعِ تبخترُ
وليس من شك في أن هذا تشخيص رائع. وقد ذهب أبو تمام يعمم هذا التشخيص في جميع صوره وأفكاره،
وإنه لينبغي أن نعرف أن أبا تمام لم يحدث هذا الصبغ في اللغة العربية إحداثًا؛ فمن قبله نجد له أمثلة منتشرة في النصوص القديمة، وذكر ابن المعتز في كتابة البديع طرفًا منها، من ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} وقوله عز وجل: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} ، وجاء في الشعر الجاهلي، يقول امرؤ القيس في وصف الليل:
فقلتُ له لما تمطَّى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناءَ بكَلكَلِ
ولكن أبا تمام أكثر منه واتخذه مذهبًا له يغمر فيه أبياته، فما تزال تتألق في صبغ عجيب
وأبو تمام لا يقف بفنه عند هذه الألوان القديمة من التصنيع التي يبتهج بها الحس؛ بل نراه ينفذ إلى ألوان جديدة يبتهج بها العقل، وهي ألوان قاتمة، كانت تتسرب إليه من الفلسفة والثقافة العميقة. وفي هذه الألوان القاتمة الجديدة تستقر مهارته إذا قسناه بغيره من الشعراء الذين سبقوه أو عاصروه؛ فالطباق والجناس والتصوير والمشاكلة، كل ذلك يزدوج بالفلسفة وألوان الثقافة القاتمة، فيجلِّله الغموض الفني
ومهما يكن فإن شعر أبي تمام يستحوذ على صعوبات كثيرة؛ إذ نراه يمتلئ بكثير من الأسرار الغامضة التي تجعل الإنسان يخرج عن نطاق نفسه ويسير مع الشاعر كما يريد له في هذا العالم الحالم. أما ما فيه من صعوبة والتواء فذلك طبيعي عند شاعر كان يعتمد في شعره على الفلسفة والفكر الدقيق، وهل يمكن لشاعر يلعب العمق والخفاء في شعره وتلعب الفلسفة والثقافة في فنه أن يعبر تعبيرًا مألوفًا؟ وقد يخطئ أحيانًا إنه يبتكر أفكارًا وصورًا جديدة؛ ولكنه يحس دائمًا أن اللغة لا تستطيع أن تؤدي ما يريد
وكان أبو تمام يعتمد في شعره على الغموض وإن تغشاه سحب زاهية من الفلسفة والثقافة، ولم يعد هناك ما يعوق التزاوج والاتصال الشديد بين التفكير الفني والتفكير الفلسفي والثقافي. وإن الإنسان ليحار إزاء هذه الموهبة النادرة في المزج بين التفكير الثقافي والتفكير الفني؛ فكل منهما يغمس في ليقة الآخر ويصبغ بأصباغه؛ فيتغير عن شِياته المعروفة وهيئاته المألوفة. أما الرمز فولَّده تفكيره العميق؛ إذ كان يلتفُّ لون التصوير على هذا الجانب العقلي في شعره، أو بعبارة أدق الجانب الفلسفي، فتحدث تلك الرمزية الواسعة التي يلاحظها كل من يقرأ في أشعاره. وكان يستعين على أحكامها بصبغين مهمين من أصباغ التصوير، وهما: التجسيم والتدبيج؛ إذ نراه يجسم معانيه العميقة في صور حسية لا يلبث أن يدبجها بألوان مادية. وانظر إلى قوله في بعض ممدوحيه:
أبديت لي عن جلدة الماء الذي ... قد كنت أعهده كثيرَ الطُّحْلُبِ
ووردتَّ بي بحبوحة الوادي ولو ... خلَّيتني لوقفت عند الْمِذنَبِ
يقول له: إنك صفَّيت لي العطاء وكنت أراه من غيرك كدرًا وعسرًا؛ ولكن انظر كيف رمز لهذه الفكرة، فإنك تراه يبدأ فيجعل للماء جلدة، كما قالوا: جلدة السماء وأديم الأرض، ثم يستمر فيعبر عن الكدر والعسر بركوب الطحلب للماء، ويصور نفسه مع ممدوحه في بحبوحة الوادي وقطع الرياض؛ بينما غيره يقف به عند المذنب فلا يُنيله إلا الوَشل القليل.
وعم هذا التجسيم في شعر أبي تمام كأن يقول لابن أبي دؤاد:
يا أبا عبد الله أوْرَيتَ زندًا ... في يدي كان دائمَ الإصلادِ
أنت جبت الظلام عن سبل الآمال ... إذ ضلَّ كلُّ هاد وحادِ
فقد عبر عن نُجْح مطلبه عنده وإخفاقه عند غيره بهذا الزناد الذي أوراه في يده، واستمر فقال: إنه كشف الظلام عن طريق الآمال؛ بينما ضل الحداة والروَّاد هذه الطرق. وكما كان أبو تمام يستخدم التجسيم للرمز عن أفكاره البعيدة كان يستخدم التدبيج، ونراه يقول في رثاء ابن حميد الطوسي وقد قتل في الحرب:
تردَّى ثيابَ الموتِ حمرًا فما دجى ... لها الليلُ إلا وهي من سندسٍ خضرِ
فقد جنح في التدبيج يستمد منه ما يريد من الرمز عن أفكاره،
لم يكن أبو تمام يستخدم الطباق استخدامًا ساذجًا بسيطًا؛ بل كان يستخدمه استخدامًا معقدًا؛ إذ يلوِّنه بأصباغ فلسفية قاتمة ما تزال تغير في إطاره بل في داخله تغيرات تنفذ به إلى لون جديد مخالف للطباق؛ فإذا هو من طراز آخر غير معروف، طراز فلسفي إن صح هذا التعبير، ففيه تناقض وفيه تضاد وفيه هذه الصور الغريبة. وكان أبو تمام يستخدمه قاصدًا إليه عامدًا، يقول في مديح ابن أبي دؤاد:
قد غرستم غرس المودة والشَّحْـ ... ـناءِ في قلب كل قارٍ وبادي
أبغضوا عزَّكم وودوا نداكم ... فقروكم من بغْضَة ووِداد
لا عدمتم غريب مجدٍ رَبقتم ... في عراه نوافر الأضداد"
فالناس يحسدونهم لشرفهم ويحبونهم لجودهم" ؛ فهم يأتون بوصفين متضادين ويجمعون بين متناقضين.
ومن يدرس أبا تمام يرى هذه الأضداد متصلة بأخلاقه فهو تارة كريم جدًّا وتارة بخيل جدًّا، وهو تارة متدين مسرف في تدينه وتارة ملحد مسرف في إلحاده.
وأحقُّ الأنام أن يقضي الدَّيـ ... ـن امرؤٌ كان للإله غريما
واقرأ هذا البيت يقول في بعض ممدوحيه:
صيغت له شيمةٌ غرَّاء من ذهب ... لكنها أهلكُ الأشياءِ للذَّهبِ
ومن ذلك قوله:
بيضاء تَسري في الظلام فيَكتسي ... نورًا وتسرُبُ في الضياءِ فيُظْلِمِ
أرأيت إلى هذا التضاد وهذا الضياء المظلم؟ إن حقائق الأشياء تتغير في شعر أبي تمام على هذه الصورة التي نرى فيها الضياء المظلم وإنه لضياء عجيب لا يستطيع شيء أن يعبر عن فتنته؛ وعلى هذا النمط تمتزج أصباغ الطباق عند أبي تمام بهذه الأصباغ الفلسفية الغريبة من نوافر الأضداد؛ فإذا بها تخرجنا من أوقاتنا التي تقيدنا، وتطلقنا من عقال أمكنتنا، وتجعلنا نتحرر في داخلنا من كل ما يتعلق بنا. ولعل هذا هو معنى ما يقولونه من إن الشاعر الممتاز له جو غريب ينقلنا من عالمنا الذي نعيش فيه إلى عالم آخر طليق من الوهم، عالم ينشر فيه أبو تمام من عبق هذه الأضداد ما يؤثر به على أعصابنا وحواسنا تأثيرا يخلد في أذهاننا ، ولعل مما يتصل بذلك ما نراه عنده من استخدام الأقيسة المنطقية؛ فقد كان يستغلها استغلالًا فنيًّا إذ ما يزال بها حتى يغير شياتها المنطقية ويحدث لها شيات جديدة من الشعر والفن . وانظر إلى هذا القياس الطريف يقوله في الرثاء:
إن ريبَ الزمانِ يحسن أن يهـ ... دي الرَّزايا إلى ذوي الأحسابِ
فلهذا يجفُّ بعد اخضرارٍ ... قبل روض الوهاد روض الرَّوابي
ويقول في تحبب الرحلة ومفارقة الأوطان:
وطول مقام المرء في الحي مخلقٌ ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد



27-البحتري
( 206 ـ 284 هـ)
أ-نشأته وحياته:
ولد البحتري عبيد الله بن بحتر الطائي القحطاني في منبج سنة /206/وتوفي سنة /284/ وتلقى تعليمه الأول في منبج ثم انتقل إلى حمص، والتقى هناك بأبي تمام وعرض عليه شعره، فأعجب به وأوصاه بالسير ضمن منهج شعري مختلف عن منهجه، ويتمثل هذا المنهج بالمجانسة بين اللفظ والمعنى، وإظهار المعنى، واتباع نظرية عمود الشعر المتمثل بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والمقاربة في التشبيه، وقد اتبّع البحتري وصية أستاذه أبي تمام حيث قال:
"إنني لم آكل الخبز إلاّ بأبي تمام" وقد رحل البحتري إلى بغداد واتصل برؤساء الدولة وعلى رأسهم المتوكل وبقي شاعر الخلافة مدة تزيد على أربعين عاماً، نال خلالهما العطايا والأموال الكثيرة.
ب-شخصيته:
امتلك البحتري شخصية تعتمد على موهبة شعرية مبكرة حيث كان لهذا الشاعر مخزون كبير من أشعار العرب، وقد اتصف بصفتين ذميمتين أثرتا في شخصيته كإنسان ولم يؤثرا في شعره كشاعر وهما:
البخل وسوء الملبس، فقد وصفه الأصفهاني بأنه رث الثياب سيء المنظر وسجع الإنشاد، على الرغم من جمال الشعر لديه.
كما وأن البحتري كان يتعلق تعلقاً شديداً بالغلمان وكان يكثر من الأشعار منهم، ومع ذلك فقد بقيت الشخصية الشعرية لديه تحمل طابع الابتكار لأنها تواكب الحوادث التي جرت في عصره.
ج- ثقافته:
تشمل الوعاء الأدبي والفكري الذي اعتمد عليه البحتري ما يلي :
1-حفظ القرآن الكريم.
2- تعليم أحكام الدين الإسلامي
3-تعلم علوم اللغة العربية.
4- الاطلاع على اختبار الفتوح.
5-حفظ عدد كبير من دواوين الشعراء.
6-حفظ المعازي وأيام العرب وأنسابهم.
7-لم يؤثر عنه الثقافة الفلسفية.
د- صفات ديباجته:
1-عدم الغوص إلى المعاني الدقيقة.
2-عدم الاتكاد على الأدلة المنطقية والبراهين العقلية.
3-الابتعاد عن المعاني الفلسفية.
4-الابتعاد عن الغموض والتعقيد.
5-اعتماد الطبع وقلة التكلف.
6-وضوح الديباجة وحسن الانسجام.
ه- عناصر الجمال في شعره:
برزت عناصر الجمال في شعره من خلال :
1- اختبار الألفاظ الشعرية:وجعلها محور الفصاحة والبلاغة إذ أنه كان "يلتقط ألفاظه، ينتقيها ليؤلف منها جملة عذبة رقيقة".
2- المشاكلة بين اللفظ والمعنى:بحيث تبدو الألفاظ أردية للمعاني تلبسها لبوساً تاماً، تجعلنا نشعر بالغياء المتماسك لهذه الألفاظ، من خلال الحروف المناسبة للموضوع المطروح:
تغيّر حسن الجعفري وأنسه وقوض بادي الجعفري وحاضره
تحمّل عنه ساكنوه فجاءةً فصادت سواءً دورُه ومقابره
3- الموسيقا الشعرية العربية :والتي اعتمدت صدى الصوت أساساً لها في ايصال المعاني وفي استعمال القوافي الداخلية "الترصيع".
صنت نفسي عما يدنّس نفسي وترفعت عن جد الحل جبس
وتماسكت حين زعزي الدّهر التماساً منه لتمسي ونكسي
وقد بدا هذا التجانس اللفظي في القافيتين (تعسى ونكسي) من حيث عدد الحروف والحركات والسكنات .
وهكذا بدا البحتري شاعراً بارعاً من شعراء الطبقة الأولى في العصر العباسي .
و-الأغراض الشعرية:
كتب البحتري في معظم الأغراض الشعرية من وصف ومدح ورثاء وفخر واعتذار:والمديح والعتاب، ولكنه أجاد في غرضي المديح والرثاء ، على أنه بارعاً في وصفه وقد اعتبر الدكتور "طه حسين" أن أجود شعر البحتري ما قيل في المتوكل إذ بقي الشاعر يعتمد في مدائحه على المطالع الغزلية كذكر البعد عن الحبيب والألم والشوق الذي يعاني منه.كما أنه كتب في الرثاء مدة أربعين عاماً وكان أجمل رثائه في المتوكل.
1-الوصف:
وصف البحتري في معظم قصائده كل ما وقع تحت ناظريه، وأكثر ما أجاد في وصف الآثار والحضارات والعمران والأبنية ولقصور والحدائق، وكان وصفه دقيقاً واقعياً يصوّر فيه المشهد الموصوف تصويراً يمازج الرسم أحياناً وكأنه بدقته قد أسهم في صنع ذلك الموصوف، وأهم مشهدين وصفهما البحتري هما. ايوان كسرى – بركة قصر المتوكل .
يقول البحتري في وصف معركة أنطاكية اللوحة الباقية في إيوان كسرى على مر العصور:
وإذا ما رأيت صورة أنطا كيّة ارتعت بين رومٍ وفرس
والمنايا مواثل وأوشر وإن يزجي الصفوف تحت الأرض
في اخضرار من اللباس على أحد فريختال في صبيغة ورسِ
2-المدح:
سخّر البحتري معظم شعره في مدح الخليفة المتوكل والخلفاء في عصره والقادة وكان المدح لديه يتميز بالجزالة والقوة وسمو المعاني وقد مدح البحتري شخصيات كثيرة كان فيها المعتز بالله وفيه يقول:
رأينا الأمجاد في كلِّ معشر فكانوا لعد الله في الجود أعبدا
عليه من المعتز بالله بهجةً أضاءت فلو يسري بها المراكب لاهتدا
طلوبٌ لأقصى غاية بعد إذا قلت يوماً قد تناهى تزيدا
3-الرثاء:
كتب البحتري في الرثاء أيضاً فأجاد في ذلك وكان رثاؤه للمتوكل الذي قتله جند الأتراك بعد عزله لابنه المنتصر من ولدية العهد رثاءً بارعاً:
صريعٌ تقاضاه السيوف حشاشة يجود بها والموت حمرٌ أظافره
حرامٌ علىَّ الراح بعدك أو أرى دماً بدم يجري على الأرض حائره
أكان وليُّ العهد أضمر غدرةً؟ فمن عجبٍ أن وليِّ العهد غادره
4-الفخر:
بقي البحتري يفخر بقومه وبطولاتهم وأمجادهم، على اعتبار أنه ينتسب إلى العرب الأقحاح، فكان يضفي على افتخاره بقومه صفات السؤدد والعز والمجد والحلم:
إنَّ قومي قوم الشريف قديماً وحديثاً، مأبوةً وجدوداً
نحن أبناء يعرب- أعرب النا س لساناً وأنضر الناس عودا
ملكو الأرض قبل أن تملك الأر ض وقادوا في حافتيها الجنودا
وكان يفتخر بنفسه وبمكانته التي تؤهله لمجالسة الخلفاء والقادة:
إن أبق أو أهلك فقد نلت التي ملأت صدور أقاربي وعدأتي
وشفعت في الأمر الجليل إليهم بعد الجليل، فأنجموا طلباتي
5-الاعتذار :
دفع البحتري إلى كتابة الاعتذاري في شعره ما حصل بينه وبين الفتح بين خاقان وزير المتوكل بسبب وشاة وقعت بينهما فكيف البحتري معاتباً ومعتذراً:
أقرُّ عالم أجنه، متذخِّلاً إليك، على أني إخالك ألوما
لي الذنب معروفاً وإن كنت جاهلاً به، ولك العتبى عليَّ، وأنعما
ولم يجد البحتري في اعتذاره كما أجاد المتنبي من قبله ، وذلك أن علاقة هذا الشاعر بالملوك والقادة لم تكن علاقة مودة وصداقة بقدر ما كانت علاقة تكسب واقتناص للحال .


ز-مقارنة بين مذهب أبي تمام ومذهب البحتري

أبو تمام البحتري
1- يمزح بين الفكر والشعر . - لا يمزح بين الفكر والشعر
2- يعتمد على الغموض في شعره - يعتمد الوضوح
3- وجود تعقيد في شعره - لا يوجد تعقيد
4- يزاوج بين العقل والحس - يعتمد على العاطفة والمعاني المألوفة
5- يستند إلى ثقافة واسعة - يستند إلى ثقافة واسعة في الشعر وقليلة في الفلسفة والبديع
6- يظهر التكلف في شعره - يظهر الطبع في شعره
7- يعتمد على مذهب البديع - يعتمد على عمود الشعر العربي

ح-صنعةالبحتري
أجاد البحتري إجادة بديعة في مدائحه واعتذاراته، وغزله، فقد كان يقف في صف الصانعين يفهم الشعر على أنه طبع وموهبة، فهو أعرابي الشعر مطبوع، وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروفحافظ على الأساليب الموروثة، عمود الشعر العربي؛ فصناعته أقرب ما تكون إلى صناعة البادية، ليس فيها تجديد ولا خروج على التقاليد، ومن أين يجيئه ذلك وهو ليس من أهل المدن ولا من ثقافتهم وعقليتهم ، على أن هناك جماعة من النقاد سلكته في طائفة المصنعين إنه بدوي تحضر، وتحضرت معه صناعته، وخلع عليها ألوانًا من الجمال الحضري الذي تلقفه من أبي تمام وغير أبي تمام، وإن لم يستطع أن يجاريه وأن يأتي بنماذج على غرار نماذجه، فالبحتري كان يحتفل بهذا البديع أو بهذه الألوان من الجمال الحضري،
كان البحتري يستخدم أحيانًا بعض أدوات التصنيع ولكن في يسر وسهولة ودون أن يعقد فيها كما نرى عند جماعة المصنعين، فهو من أصحاب الصنعة وهو لذلك لا يستطيع أن ينهض بشعره إلى الغاية التي حققها أصحاب التصنيع،
لم يعد التصنيع ويستخدم البحتري- التصوير والجناس والطباق؛ ولكنه استخدام ساذج يخالف ما سنجده عند أبي تمام. واقرأ هذه الأبيات التي تذيع سر المهنة عند البحتري.
مني وصلٌ ومنك هجرٌ ... وفي ذلُّ وفيك كِبر
وما سواءٌ إذا التقينا ... سهل على خلَّة ووعر
قد كنت حرًّا وأنت عبدٌ ... فصرت عبدًا وأنت حرُّ
برَّح بي حبك المعنَّى ... وغرني منك ما يغرُّ
أنت نعيمي وأنت بؤسي ... وقد يسوء الذي يسرُّ
فإنك تجد فيها هذا الطباق الذي عرف به البحتري؛ ولكنه طباق ساذج لا تعقيد فيه ولا تعب ولا عناء ولا مشقة، طباق ضحل بسيط، هو أشبه ما يكون بتداعي المعاني، فلا خيال ولا عمق ولا فكرة؛ إنما وصل وهجر، وذلٌّ وكبر، وسهل ووعر، وعبد وحر، ونعيم وبؤس، وإساءة وسرور، ولكن هل تحس في هذه المعاني المتقابلة شيئًامن اللذة سوى ما فيها من تقطيع صوتي يدفعها عن السقوط؟
لم يكن البحتري يعتمد في شعره على فلسفة وثقافة يعقدان في أدواته، وكان يعرف ذلك من نفسه، كما كان يعرفه معاصروه، وتلوَّموه من أجله فرد عليهم بقوله:
كلفتمونا حدودَ منطقِكُم ... والشعرُ يغني عن صدقِهِ كذبُهْ
ولم يكن ذو القروحِ يلهجُ بالـ ... منطق ما نوعه وما سببُهْ
والشعرُ لَمْحٌ تكفي إشارتُه ... وليس بالهذرِ طوِّلت خطبُهْ
ولكن أحقًّا ما يقول البحتري من أن الشعر لا يحتاج فلسفة ولا منطقًا؟ إن وقائع الفن المادية في العصر العباسي لا تتفق وهذا القول؛ فقد دخلت الفلسفة والمنطق في صناعة الشعر وعقَّدا في وسائله وأدواته هذا التعقيد الذي رأينا وجها من وجوهه عند أبي تمام، ودائمًا نجد شيئًا من المنطق ينقص البحتري في فنه؛ وانظر في صياغته ونقصد الصياغة الذهنية؛ فإنك تراه لا يعنى بتنسيق أفكاره وترتيب معانيه ترتيبًا منطقيًّا دقيقًا. وبونٌ بعيد جدًّا بينه وبين شاعر كأبي تمام في هذا الجانب؛ فإنك تحس عند الأخير بوحدة القصيدة واضحة كما تحس بتسلسل الأفكار، أما عند البحتري فإنك ترى دائمًا خنادق وممرات بين أبياته. و البحتري لا يحسن الخروج من موضوع إلى موضوع في الشعر، وإنه يجنح دائمًا طفرًا وانقطاعًا .واقرأ له هذين البيتين اللذين كانا يروعان السابقين بتقسيمه فيهما؛ إذ يقول:
ذاك وادي الأراك فاحبس قليلًا ... مقصِرًا من صبابةٍ أو مُطيلا
قِفْ مشوقًا، أو مُسْعدًا، أو حزينًا ... أو معينًا، أو عاذرًا، أو عذولا
فإنك إذا نَحَّيتَ جمال الأصوات الذي عرضت فيه الأفكار وجدت البحتري لا يحسن التقسيم؛ لأن التقسيم عمل عقلي يحتاج إلى منطق وهو لم يكن من رجال العقل ولا من رجال المنطق؛ فنحن نراه يقسم من يناديه قسمه متداخلة غير معقولة، إذ يجعله إما مشوقًا أو مسعدًا أو حزينًا أو معينًا أو عاذرًا أو عذولًا، وهي صفات متداخلة، ولكن البحتري يعتذر بأنه ليس من أهل المنطق، فالشعر شيء والمنطق شيء آخر
ومهما يكن فإن عقل البحتري لم يكن من عقل أبي تمام، لا في الدرجة ولا في النوع، بل هو من جنس مخالف. حقًّا إن البحتري أحسن على نحو ما مر بنا في الفصل الثاني جانبَ الموسيقى الداخلية في الشعر وما تستتبعه من المشاكلة بين الألفاظ والمعاني والتوافق الصوتي بين الحروف والحركات والكلمات، وكأني به كان يوفر وقته جميعه للصوت، وهذا جل ما يعتمد عليه في شعره من جو، فهو يطلق الموسيقى ويدعها تؤثر في أعصابنا كما يريد ويشتهي .




28-أبو حية النميري
أ-حياته ونشأته :الهيثم بن الربيعأبو حية النميري, شاعر مجيد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية , وهو أحد شعراء بني نمير بن عامر بن صعصعة , القبيلة القيسية ذات الشأن والخطر في الجاهلية والإسلام , وفي حياة الدولة الأموية والعباسية , فبنو نمير من القبائل العزيزة من قيس عيلان , وإحدى جمرات العرب الثلاث : بنو نمير بن عا مر بن صعصعة , وبنو ضبة بن أد , وبنو الحارث بن كعب , وقد اطئت جمرة بني ضبة لمحالفتها الرباب , كما أطفئت جمرة بني الحارث لمحالفتها قبيلة مذحج , وبقيت بنو نمير لم تحالف فقد كانت عزيزة بنفسها , كثيرة بعددها , ولذلك يفخر أبو حية بهذه الجمرة فيقول :
لنا جمرات ليس في الأرض مثلهم كرام وقد جربن كل التجارب
نمير وعبس تتقي صقراتها وضبة قوم بأسهم غير كاذب
كانت منازل بني نمير الغور من تهامة في الجاهلية , ونزلوا اليمامة في الإسلام مجاورين بني حنيفة , وعرفت اليمامة بالخصب والغدران الجارية والعيون الثرة , وكان بها الزرع والنخيل فعرفت حياتهم الدعة والاستقرار . ونجدهم في العصر الأموي يستقرون في " الشريف " في نجد وهو موقع مخصب فيه الزرع , ويقول القلقشندي : إنهم هاجروا إلى الجزيرة الفراتية والشام بعدوتي الفرات .
ولنمير بن عامر بن صعصعة من الولد أربعة هم : ضنة , وكعب وعامر والحارث , ومن الحارث بن نمير الراعي النميري , أما أبو حية فمن عامر بن نمير , فهما ابنا عم .
أكثر المصادر على أن اسم أبي حية هو الهيثم بن الربيع , أما نسبه فتتفق على انه الهيثم بن الربيع بن زرارة بن كثير بن جناب بن كعب بن مالك بن عامر بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور بن عكرمة بن خفصة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار , فهو من بني عامر بن نمير بن صعصعة ولكن الآمدي ينسبه إلى عامر بن نمير فيقول : (( ويقال هو أجد بني عبد الله بن الحارث بن نمير )) وهذا يعني أنه من فرع الراعي النميري , وليس الأمر كذلك .
ليس لدينا الكثير عن حياة أبي حية , فأخباره قليلة وما ذكر عنه روايات مكررة , فلا تعرف عن أبنائه وأسرته غير حبه لزوجته وكانت ابنة عمه فتوفيت عنه , ويقول ابن المعتز : (( وكاد يخرج عليها من الدنيا وأشعاره الجياد كلها وفي وصفها في حياتها , ومرائيها بعد مماتها )) .
ب-شخصيته :يجمل أبو الفرج ترجمة أبي حية في قوله : (( وأبو حية شاعر مجيد مقدم من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية , وقد مدح الخلفاء فيهما أجمع , وكان فصيحا ً مقصدا ً راجزا ً من ساكني البصرة , وكان أهوج جبانا ً بخيلا ً كذابا ً , معروفا ً بذلك أجمع , وكان أبو عمرو بن العلاء يقدمه , وقيل إنه كان يصرع ))
لا تدري متى ولد أبو حية وبمن اتصل من خلفاء بني أمية وبني العباس , ومع أن أبا الفرج ينص على أنه (( مدح الخلفاء فيهما أجمع )) فليس لدينا من مديحه غير أبيات في مديح مروان الحمار من الأمويين , وأبيات في مديح المنصور من العباسيين , ولذلك لا نستطيع أن نعرف بأي الخلفاء اتصل ومن مدح غير هذين الخليفتين , ويقال انه أدرك أيام هشام بن عبد الملك , فإذا علمنا أن هشاما ً حكم من سنة 105 هـ وتوفي سنة 125 هـ يكون أبو حية قد نشأ إبان هذه الفترة , وبقي حتى أدرك زمن المهدي لأنه مدح المنصور ولدينا أبيات من هذا المديح ورثاه , وإن كنا لا نملك هذا الرثاء . وهذا يعني انه كان حيا ً زمن المهدي ولم يصلنا شعره في المهدي ما دام قد مدح كل الخلفاء الذين عاصرهم كما يقول أبو الفرج , وتنص بعض المصادر على سنة وفاته فيقول البكري : انه مات آخر خلافة المنصور وقد توفي المنصور سنة 158 هـ ويذكر البغدادي تاريخا ً آخر لوفاته فيقول : توفي سنة بضع وثمانين ومائة , وفي طبقات الشعراء لابن المعتز , إشارة إلى انه توفي في حدود العشر والمائتين 210 هـ .
لقد كان لأبي حية صلة بالشاعر ابن مناذر وبينهما حديث ومنافسة , وكان ابن مناذر قد توفي سنة 198 هـ , فمن مقارنة هذه الأرقام نستطيع أن نرجح رواية البغدادي التي تقول انه توفي سنة بضع وثمانين ومائة , أي انه أدرك زمن هارون الرشيد ( حكم الرشيد من سنة 170هـ - 193 هـ ) وإن لم تكن لدينا إشارة إلى صلنه بالرشيد , ولعل فيما ضاع من شعره سدا ً لهذه الثغرات التاريخية .
لقد تحدثت المصادر عن لوثات أبي حية , والرجل الألوث هو الأهوج , وقد سئل الأصمعي عن المجنون المسمى قيس بن معاذ , فقال : لم يكن مجنونا ً ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حية , وقد جهلع الجاحظ من مجانين الشعراء وفرقه عن مجنون بني عامر فقال : ( ولست أعني مثل مجنون بني عامر ومجنون بني جعدة , وإنما اعني مثل أبي حية في أهل البادية , ومثل حعيفران في أهل الأمصار ) . وزاد فجعله أكثر جنونا ً من جعيفران : ( وأما أبو حية فإنه كان أجن ....... وكان أشعر الناس ) . وصيره مرة ثالثة مع المجانين والموسوسين والنوكى ’ وانه مجنون يصرع , ويروون للوثته هذه قصة طريفة : (( كان لأبي حية سيف يسميه لعاب المنية ليس بينه وبين الخشبة فرق , وكان من اجن الناس . قال : فحدثني جار له قال : دخل ليلة إلى بيته كلب , فظنه لصا ً , فأشرفت عليه وقد انتضى سيفه لعاب المنية , وهو واقف في وسط الدار وهو يقول : أيها المغتر بنا والمجترئ علينا , بئس والله ما اخترت لنفسك , خير قليل , وسيف صقيل , لعاب المنية الذي سمعت به , مشهورة ضربته , لا تخاف نبوته , اخرج بالعفو عنك قبل أن ادخل بالعقوبة عليك . إني والله أن ادع قيسا ً إليك لا تقم لها , وما قيس ؟ تملأ والله الفضاء خيلا ً ورجلا ً , سبحان الله , ما أكثرها وأطيبها . فبينما هو كذلك خرج إذ خرج الكلب , فقال الحمد لله الذ مسخك كلبا ً وكفاني حربا ً )) . ولعل الذين وصفوه بالجبن ينظرون إلى هذه الحادثة وليس في أخباره ما يدل على جبنه . ويروون عن لوثته قصصا ً ولكن في هذه القصص ما يدل على الذكاء والفطنة والظرف أكثر مما فيها عن اللوثة , من ذلك ما قاله أبو خالد النميري وذكروا فرعون ذا الأوتاد عند أبي حية فقال أبو حية : الكلب خير منه واحزم , فقيل له : كيف خصصت الكلب بذلك , فقال : لأن الشاعر يقول :
ومالي لا أغزو وللدهر كرة وقد نبحت نحو السماء كلابها
وقال الفرزدق :
فاإنك إن تهجو حنيفة سادرا ً وقبلك قد فاتوا يد المتناول
كفرعون إذ يرمي للسماء بسهمه فرد عليه السهم أفوق ناصل
فهذا يرمي السماء بجهله , وهذا ينبح السماء من جودة فطنته .
ويقولن إنه كذاب , بل من أكذب الناس , ويروون في ذلك نوادر , هي في باب الطرائف والملح ادخل منها في باب الأكاذيب , من ذلك قولهم : إن أبو حية حدث أنه كان يخرج إلى الصحراء فيدعو الغربان فتقع حوله , فيأخذ منها ما يشاء , فقيل له : أرأيت إن أخرجناك إلى الصحراء فدعوتها فلم تأتك , فما نصنع بك ؟ قال : أبعدها الله إذن .
ومن أكاذيبه الطريفة ونوادره الشائعة قوله : " عن لي ظبي يوما ً فرميته فراع عن سهمي , فعارضه السهم , ثم راغ , فعارضه السهم , فما زال والله يروغ ويعارضه حتى صرعه ببعض الجبانات " .
ومثل هذه الأكذوبة قوله : (( رميت والله ظبية , فلما نفذ سهمي عن القوس , ذكرت بالظبية حبيبة لي فغدوت خلف السهم , حتى قبضت على قذذه قبل أن يدركها )) , وقد شهرت هذه النوادر عن أبي حية وذاع أمرها وتحدث بها الناس في الأجيال اللاحقة وصار سهم أبي حية هذا مثلا ً يشبهون به ويشيرون إليه , فقد أشار إلى هذا السهم ابن نباتة المصري في غزله حيث يقول :
وبديع الزمان لم ير طرفي مثل أعطافه ولا طرف غيري
كلما حدت عن هواه أتاني سهم ألحاظه كسهم النميري
ويضيفون إلى هذه الصفات صفات أخرى لأبي حية منها البخل والسفه والمجون , من ذلك أنه وفد على الخليفة المنصور وامتدحه وهجا بني حسن بقصيدته التي أولها
عوجا نحيي ديار الحي بالسند وهل بتلك الديار اليوم من احد
فوصله أبو جعفر بشيء دون ما كان يؤمل , فاحتجن لعياله أكثره , وصار إلى الحيرة فشرب عند خمارة بها , فأعجبه الشرب , فكره إنفاد ما معه , وأحب أن يدوم له ما كان فيه , فسأل الخمارة أن تبيعه بنسيئة , واعلمها انه مدح الخليفة وجماعة من القواد , ففعلت وشرهت إلى فضل النسيئة , وكانت كلما سقته خطت في الحائط فانشأ أبو حية يقول مصورا ً ما حدث وكان قد كشف لها عن عورته فتدلهت :
إذا أسقيتني كوزا ً بخط فخطي ما بدا لك في الجدار
فإن أعطيتني بدين فهاتي العين وانتظري ضماري
خرقت مقدما ً من جنب ثوبي حيال مكان ذاك من الإزار
فقالت ويلها رجل ويمشي بما يمشي به عجر الحمار
وقالت ما تريد فقلت خيرا ً نسيئة ما علي إلى يساري
فصدت بعد ما نظرت إليه وقد ألمحتها عنق الحوار
وقد كان أبو حية مع هذه الصفات الغريبة مغترا ً بنفسه معجبا ً بشعره سليط اللسان قاسي الجواب , وقد عرف أبو عمرو بن العلاء ذلك عنه وكان يردعه على الرغم من تفضيل أبي عمرو لشعره , يقول الأصمعي : (( أنشد أبو حية يوما ًأبا عمرو :
يا لمعد ويا للناس كلهم ويا لغائبهم يوما ً ومن شهدوا
كأنه معجب بهذا البيت , فجعل أبو عمرو يقول له : إنك لتعجب بنفسك كأنك الأخطل )) وإذا كان أبو حية قد كف لسانه عن أبي عمرو بن العلاء لمكانته وجلالة قدره , فانه يطلق لسانه في غيره في جواب مفحم ولسان سليط , فقد لقي ابن مناذر أبا حية , فقال له : أنشدني بعض شعرك , فأنشده :
ألا حي من أجل الحبيب المغانيا
فقال ابن مناذر : وهذا شعر ؟ فقال أبو حية : ما في شعري عيب هو شر من انك تسمعه , ثم انشده ابن مناذر شيئا ً من شعره فقال أبو حية : قد عرفتك ما قصتك ؟ وجواب أبي حية هذا لا يدل على لوثة بقدر ما يدل على جودة البديهة وحدة الخاطر وقوة الردع , ويبدو أن بين أبي حية وابن مناذر حسدا ً ومنافسة , فالقصيدة التي انشدها أبو حية من جياد قصائده التي أعجب بها الناس شعراء ونقادا ً , ومع ذلك فإن ابن المناذر لا يرى فيها شيئا ً , وتروى هذه الرواية بشكل آخر , حيث يكون أبو حية هو البادئ بالإساءة ويكون تعليقه على ما يسمع من شعر ابن مناذر في غاية السخرية حيث يتجاهل ما سمع كأنه لم يسمع شيئا ً يدخل في باب الشعر , قال أبو معد : (( مر بنا أبو حية النميري ونحن عند ابن مناذر , فقال علام اجتمعتم ؟ قلنا هذا شاعر المصر , قال أنشدني فانشده , فلما فرغ قال : الم اقل لك أنشدني ؟ قالوا فأنشدنا يا ابا حية فأنشدنا :
ألا حي من اجل الحبيب المغانيا لبسن البلى مما لبسن اللياليا
فلما فرغ منها قال : ما أرى في شعرك شيئا ً , قال ما في شعري إلا استماعك له ))

ج-شعره :
اعتمد أبو حية النميريأسلوب التجاهل فيما يسمع فيه إهانة شديدة , ويبدو أنه رأى في هذه الطريقة خير ما يغيظ بها منافسيه من الشعراء فاستعملها مع يحيى بن نوفل الحميري وهو شاعر فصيح , فقد استنشده أبو حية من شعره , فانشده مليا ً وهو ساكت , فلما فرغ يحيى من إنشاده قال له : ألم أقل أنشدني ؟ ترى أيدل هذا السلوك على لوثة أبي حية , أم يدل على خبث ورغبة في إيذاء الآخرين ؟ ويضاف إلى هذه الصفات جميعا ً أن ابا حية كان اميا ً لا يجيد معرفة الحروف , وإن كان ذا ذكاء وفطنة , فقد قيل له يوما ً : ابن لنا قصيدة على القاف , فقال :
كفى بالنأي من أسماء كاف وليس لحبها إذ طال شاف
ولم يعرف القاف , وفي جواب أبي حية ما يدل على حس مرهف بمعرفة جرس الألفاظ وإيقاع القافية على الرغم من جهله بالحروف .
ومع امية أبي حية فقد كان له بصر بجيد الشعر وصناعته , فقد انشده سلمة ابن عياش قصيدته :
طربت وما هذا بحين تطرب ورأسك مبيض العذارين أشيب
فلاحظ أبو حية عدم ترابط أبياتها فعبر عن ذلك بقوله : لم أرك أعدت قافية بعد قافية .
وأبو حية شاعر مجيد مقدم محسن فصيح له شعر جيد , جيد الطبع مألوف الكلام رقيق حواشي الشعر , وبالغ بعض النقاد فعده من أحسن الناس شعرا ً وارقهم فيه طبعا ً , على لوثة كانت فيه , وكان عمرو بن العلاء يستحسن شعره ويرويه ويفضله على شعر الراعي النميري فيقول : (( أبو حية النميري اشعر في عظم الشعر من الراعي )) . ويقول الأصمعي : " سئل أبو عمرو بن العلاء عن الراعي النميري وأبي حية النميري فقال : الراعي أكبرهما قدرا ً وأقدمهما " . فأبو عمرو يقر بمكانة الراعي في قومه وقدمه في السن ولكنه لا يفضله على أبي حية في الشعر .
كان أبو حية ينزل بادية البصرة , ويلم بالبصرة , ولا بد انه كان كثير التردد على المربد , ولقاء الفرزدق وغيره من الشعراء , وسماع الشعر الجيدج وحفظه وقد تعلق بخاصة بشعر الفرزدق , فكان يروي عن الفرزدق , بل كثير الرواية عنه , ومن هنا حسن شعره وجاد وتمثل به الناس وسار على الألسن لما فيه من فصاحة وجودة ورقة وعذوبة , يقول ابن المعتز في سيرورة شعره : ((وما رأيت ذكيا ً ولا عاقلا ً ولا كاتبا ً ظريفا ً إلا وهو يتمثل من شعر أبي حية بشيء )) .
ولقد تناول الأدباء والنقاد شعر أبي حية وتأملوا فيه فاستجادوا منه ما استجادوا , وتمثلوا بأبيات منه ووازنوا بينه وبين شعر غيره , وقد بلغ الإعجاب بشعر أبي حية لدى هارون بن علي حدا بحيث لم ير شبيها ً ولا بديلا ً لبيتي أبي حية :
نظرت كأني من وراء زجاجة إلى الدار من فرط الصبابة انظر
بعينين طورا ً تغرقان من البكا فأعشى وطورا ً تحسران فأبصر
وفضلهما على كل ما يشبههما من شعر ولم يعدل عنهما إلى غيرهما .
وقد ذكر له الحصري قصيدة يتغزل فيها ويذكر ثغر حبيبته وطيب نكهته , والقصيدة أولها :
إلا أيها الربع القواء إلا انطق سقتك الغوادي من اهاضيب فوق
وعلق عليها قائلا ً : (( هذا شعر ظريف الصنعة حسن الوشي والسبك وقد ملح ما شاء في وصف الثغر وطيب النكهة وهو معنى حسن جميل )) . وكان الحصري قد وصف أبي حية بقوله : " من أحسن الناس شعرا ً وارقهم فيه طبعا ً " .
ويفضل المبرد شعر أبي حية لتخلصه من التكلف وسلامته من التزيد وبعده عن الاستعانة , وذلك في قوله :
رمتني وستر الله بيني وبينها عشية آرام الكناس رميم
وقد وازن بعض النقاد بين أبيات أبي حية وأبيات الشعراء السابقين واللاحقين , وهم مستحسن أو معيب أو منتقد , فأبو القاسم الأصفهاني يستحسن لأبي حية وصف الدمع والعين فيقول : " فمن أحسن ما ذكروا قول أبي حية النميري وهو أول من افترعه :
نظرت كأني من وراء زجاجة إلى الدار من فرط الصبابة انظر
وقال بعض العرب :
ومما شجاني أنها يوم أعرضت تولت وماء العين في الجفن حائر
وتبعه بشار فقال : أقول وقد غصت جفوني بمائها " .
ويذكر أبياتا ً لابن حبيبات والبحتري والمتنبي ويقول : ( فهؤلاء كلهم وصفوا حيرة الدمع وكلهم قاصرون عن أبي حية ) .
أما أبو هلال فيرى أن بيت البحتري :
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامتها ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
أحسن لفظا ً من قول أبي حية :
إذا هن ساقطن الحديث كأنه سقاط حصى المرجان من سلك ناظم
ويقول : وبيت البحتري أيضا أتم معنى لأنه تضمن ما لم يتضمنه بيت أبي حية من تشبيه الثغر بالدر . وحكم أبي هلال حكم رجل منطقي لا يرى في البيت إلا معادلة عن كمية المعنى , ويغفل عن الإحساس بوقع البيت وجرس ألفاظه وأثره في النفس , ففي بيت أبي حية من الجمال والموسيقى التي تشيعها سينات ساقطن وسقاط وصاد حصى , ما يفتقر إليه بيت البحتري .
وقد لاحظ بعضهم أن أبا حية في قوله :
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان من الفم
وهو من شواهد سيبويه – قد ألم ببيت الفرزدق :
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه والحرب قد لاح نارها
وقد عابوا على أبي حية التقديم والتأخير في قوله :
كما خط الكتاب بكف يوما يهودي يقارب أو يزيل
أراد : كما خط الكتاب يوما ً بكف يهودي يقارب أو يزيل , وكان امرؤ القيس قبله قد قدم وآخر في قوله :
هما أخوا في الحرب من لا أخاله إذا خاف يوما نبوة ودعاهما
أراد : هما أخوا من لا أخا له في الحرب . وكذلك فعل الفرزدق حين راكب كلامه وعاظله :
وما مثله في الناس إلا ملمكا أبو أمه حي أبوه يقاربه .
وفي اكبر الظن أن ما ضاع من شعر أبي حية جزء كبير , وخير دليل على ضياع شعره , هذه الأبيات المفردة أو القطع المفرقة في المجموع , وهي في الأصل قصائد ضاع أكثرها ووصلت منها هذه المفرقات والأبيات المفردة .
ومما ضاع أيضا ً رجزه , إذ أن المصادر التي ذكرت أبا حية نصت على انه : (( كان فصيحا ً راجزا ً مقصدا ً )) . وليس لدينا من رجزه غير ثلاثة أشطار , ولا شك أن الذي فقد من رجزه كثير جيد بحيث يستحق أن يوصف صاحبه بالراجز المقصد , ولكن حسبنا هذا الذي بين أيدينا من شعر أبي حية , ففيه صورة صادقة لجوده شعره , وسمات واضحة عن أصالة طبعه وعلو كعبه بين الشعراء .لقد طرق أبو حية الموضوعات الفنية التي يجود فيها الشاعر , فأكثر شعره وصف للديار وبيئة البادية , وغزل بالمرأة وذكر لأيام الصبا , وأسفاره الشاقة على ناقة أمون جسرة , ووصف لحيوان الصحراء كحمار الوحش والثور وصراعهمها مع الصائد وكلاب الصيد , وبقية الحيوان كالفرس والنعامة والأسد .
وأبو حية من شعراء المديح ولكنه لا يطيل في اماديحه , بل تأتي القصيدة الطويلة وفيها ما فيها من أغراض فنية ثم يفرد بيتين أو ثلاثة لذكر الممدوح وبيان خصاله , وقد وصلنا من مديحه الخلفاء قصيدة فيها ذكر لمروان بن محمد وقطعة يمدح فيها المنصور ويعرض ببني حسن , ولديه بعض القصائد والمقطعات في مدح بعض أعيان عصره الذين قلما نجد لهم ذكرا ً في كتب التراجم , من مثل : يزيد بن عتاب بن الأصم , والوليد ابن يزيد بن القعقاع , وشخص اسمه جعفر , وعمرو بن كعب .
وقد افتخر أبو حية بنفسه وقومه وذكر أيام بني عامر ومنها يوم أود ويوم النشاش ويوم شعب جبلة , ولكن السمة الغالبة على كل هذا الشعر هو الغزل الذي برع فيه وأحسن وأجاد .
إن شعر أبي حية النميري من نماذج الشعر الرفيع في تراثنا العربي , فلغته فصيحة صافية رائعة صائبة , وأسلوبه مشرق أخاذ وفيه بعد ذلك ما في الشعر القديم من قوة وجزالة وأصالة وإبداع , وقد وجدت في تحقيقه ونشره خدمة للغتنا المجيدة وإحياء لتراثنا الأصيل .




وقال أبو حية :
أَلا يَا غُرابَ البَينِ مِمَّ تَصيحُ؟ فصَوْتُكَ مَشْنُوٌّ إِليَّ قَبيحُ
وكل غداة ٍ تنتحي لك تنتحيإلي فتلقاني وأنت مشيح
تخبرني أن لست لاقي نعمة بعدت ولا أمسى لديك نصيح
وإن لم تهجني ذات يوم ٍ فإنهستغنيك ورقاء السراة صدوح
تذكرت والذكرى شعوف ٌ لذي الهوى وهن بصحراء الخبيت جنوح
حبيبا ً عداك النأي فأسبلت على النحر عين ٌ بالدموع سفوح
إذا هي أفنت ماءها اليوم أصبحت غدا ً وهي ريا المأقين نضوح
ظللت وقد ولوا بليل وقلصت بهم جلة ٌ فتل المرافق روح
فلاقيتهم يوما ً على قطرية ٍوللعيس مما في الخدور دليج
وقائلة ٍ لولا الهوى ما تجشمت به نحوكم عبر السفار طليح
بدا يوم رحنا عامدين لأرضها سنيح فقال القوم مر سنيح
فهاب رجال ٌ منهم وتقاعسوا فقلت لهم جاري إلي ربيح ُ
عقاب ٌ بإعقاب ٍ من الدار بعدما جرت نية ٌ تسلي المحب طروح ُ
وقالوا حمامات فحم لقاؤها وطلح ٌ فزيرت والمطي طليح
وقال صحابي هدهد ٌ فوق بانة ٍ هدى وبيان ٌ بالنجاح يلوح
وقالوا دم ٌ دامت مواثيق بيننا ودام لنا حلو الصفاء صريح
لعيناك يوم البين أسرع واكفا ً ودام لنا حلو الصفاء صريح
ونسوة شحشاح غيور يخفنه أخي ثقة ٍ يلهون وهو مشيح
يقلن وما يدرين عني سمعته وهن بأبواب الخيام جنوح
أهذا الذي غنى بسمراء موهنا ً أتاح له حسن الغناء متيح
إذا ما تغنى أن من بعد زفرة كما أن من حر السلاح جريح
وقائلة ٍ يا دهم ويحك إنه على غنة ٍ في صوته لمليح
وقائلة ٍ أولينه البخل إنه بما شاء من زور الكلام فصيح
فلو أن قولا ً يكلم الجلد قد بدا بجلدي من قول الوشاة جروح

وقال أبو حية :
إذا أنت رافقت الحتات بن جابر فقل في رفيق غائب ٍ وهو شاهد
أصم إذا ناديت جهلا وإن ناديت تسر فأعمى وإن تفعل جميلا ً فجاحد
أراني وإياه الطريق عشية يهاب سراها الأحمسي المعاود
فأقسم برا ً أن لولا خياله لما كنت إلا مثل من هو واحد







29-ربيعة بن ثابت الرقي
أ-حياته ونشأته وشخصيته : هو ربيعة بن ثابت بن لجأ بن العيزار بن لجأ الأسدي نسبا ً , الرقي موطنا ً , من شعراء صدر الدولة العباسية , ولد ونشأ في الرقة من مدن الجزيرة الفراتية على نهر الفرات , كان ضريرا ً إلا أن الله سبحانه وتعالى عوضه عن فقدان البصر بصيرة وفطنة فاخذ الشعر يجري على لسانه في ريعان صباه , وسرعان ما غادر مسقط رأسه قاصدا ً بغداد , وهي يومئذ مقصد النابهين من الشعراء , وملتقى المفكرين والعلماء , وهناك لقي معنا ً بن زائدة الشيباني في قدمة قدمها إلى العراق من بلاد اليمن التي كان يتولاها لعهد أبي جعفر المنصور , وقيل : إنه مدح معنا ً بقصيدة إلا أن الممدوح لم يجزل له المكافأة ولم يهش لشعره , فاخذ الشاعر في هجائه , ولعل مرد هجائه معنا ً أسباب أخرى لا تتعلق بالعطاء القليل , هذا إذا سلمنا أن ربيعة قد مدحه حقا ً , رغم عدم ذكر الرواية شيئا ً من ذلك المدح , مما يدعونا إلى الاعتقاد بان هذا الهجاء لا يعود إلى سبب مادي هو أننا لا نجد فيما وصل ألينا من هجائه له ما يشير إلى قلة المكافأة , كما أن المشهور عن معن انه لم يكن مقترا ً على الشعراء أو شحيحا ً .
سافر ربيعة وهو بعد شاب يافع إلى أرمينية . وهناك التقى بيزيد بن أسيد السلمي والي المنصور عليها . ويروى أن شاعرنا مكث في أرمينية حولا ً كاملا ً ينظم الشعر في مدح السلمي . غير أن هذه العلاقة الحسنة بين الوالي وشاعره ما لبثت أن ساءت , فترك أرمينية ويمم وجهه شطر مصر وكان واليها حينئذ يزيد بن حاتم المهلبي , الذي كان كثير الشبه بجده المهلب بن أبي صفرة في حروبه ودهائه وكرمه وسخائه , ولذلك كان قبلة الشعراء .
ومن الجدير بنا ألا نذهب مع الرواية التي تعزو هجر ربيعة ليزيد السلمي وتحوله إلى المهلبي إلى قبض يد الأول عنه وقد بسطها له الثاني في العطاء . ولعل السبب الحقيقي لهذا التحول هو أن شاعرنا كان يبحث عن الممدوح الذي يمثل صورة الطموح , والذي يرتفع إلى مستوى قيم القصائد ومعانيها , ويروى أن المهلبي تشاغل عن ربيعة أول مرة فكتب له في رقعة يقول :
أراني , ولا كفران لله , راجعا ً بخفي حنين من نوال ابن حاتم
فلما بلغت المهلبي الرقعة أشخصه إليه وبالغ في إكرامه .
وفي عام 152 هـ عزل المنصور يزيد بن حاتم عن أكرة مصر لفشله في القضاء على دعوة العلويين بها , أو لتشيعه الذي جعله يتهاون في أمرها فشيعه ربيعة بقصيدة يقول في أولها :
بكى أهل مصر بالدموع السواجم غداة غدا عنها الأغر ابن حاتم
وهذا دليل على أن الحال لم يكن حافزا ً له في مدح المهلبي , وان صحبته له ترجع إلى شعوره بعظم المهام التي ينهض بها يزيد بن حاتم وجسامتها .
ولم يطل المقام بربيعة في مصر بعده فغادرها راجعا ً إلى مدينته الرقة .ولم تمض سنوات قليلة حتى كانت قصائده في الغزل تسير في البلاد , فتطرق أسماع جواري الخليفة المهدي فيشغفن بها ويرغبن في " أن يسمعن ربيعة الرقي , فوجه إليه المهدي من أخذه من مسجده بالرقة , وحمل على البريد حتى قدم به على المهدي . . . واستنشده ما أراد فضحك وضحكن منه . ثم أجازه جائزة سنية فقال له :
يا أمير المؤمنينا الله سماك الأمينا
سرقوني من بلادي يا أمير المؤمنيانا
سرقوني فاقض فيهم بجزاء السارقينا
قال : قد قضيت فيهم أن يردوك إلى حيث أخذوك , ثم أمر به فحمل على البريد من ساعته إلى الرقة
ولم يلبث في الرقة طويلا ً , فقد عاد إلى بغداد . قال الأصفهاني في أغانيه : (( فأشخصه المهدي إليه فمدحه بعدة قصائد وأثابه عليها ثوابا ً كثيرا ً )) ولم يبق لنا الزمن من مدائحه فيه سوى بيتين اثنين . ولعل ربيعة عاد بعد لقائه الأول الفاشل مع المهدي فحاول الوفود إليه ثانية , وأصاب نجاحا ً في محاولته بما وقع للمهدي من شعره في المهلبي الذي يقول فيه :
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر بن حاتم
ولم تطل إقامته الثانية في بغداد , حيث لم يكن له قبل بمنافسة بشار ابن برد , ومروان بتن أبي حفصة , وأبي العتاهية , والسيد الحميري في بلاط المهدي , فقفل راجعا ً إلى الرقة , حيث أقام بعيدا ً من أضواء العاصمة , وما تهبه للشعراء من شهرة ومجد , فكان أن خمل ذكره وضاع معظم شعره .
وتؤول الخلافة إلى الرشيد فيتصل به الشاعر , ويروج عنده الشعر وتكثر ملحه ونوادره معه , بيد أن شعره فيه ضاع ولم يصل إلينا منه شيء .
وفي عام 185 هـ ولي العباس بن محمد عم الخليفة الرشيد إمارة الجزيرة الفراتية , واتخذ من الرقة مقرا ً له , ففرش له في قصر الإمارة , واتخذت له الآلات , وشحن بالرقيق فحباه الرشيد حباء ً كثيرا ً وعظمه اشد تعظيم . وكان على الشاعر أن ينتهز الفرصة ويستثمرها استثمارا ًحسنا ً فلم يتوان عن التوجه إليه بقصيدة تعد من أجود شعره .
غير أن العباس الذي كان مبخلا ً لم يكافئ الشاعر بأكثر من دينارين اثنين . فجن جنونه , وراح يسخر من ممدوحه بما يؤذيه ويؤلمه , فركب العباس إلى الرشيد وأبلغه ما هجاه به ربيعة , فغضب الرشيد لعمه , وأمر بإحضاره فاحضر , والرشيد يتميز غيظا ً , وعزم على قتله , ولكنه لما سمع منه قصته مع العباس , ووقف على حقيقة الأمر اطرق هنيهة ثم نظر إلى العباس منكرا ً , وأمر لربيعة بثلاثين ألف درهم . وجعله من ندمائه وخلع عليه على إلا يعود إلى هجاء عمه .
وعاش ربيعة بقية حياته في يسر وسعة , ونرجح أن صحبته للرشيد لم تطل , فقد عاد إلى الرقة . حاملا ً معه من الهدايا والمال ما يكفي لتحسين أحواله وظروف معيشته في شيخوخته .
ويمضي الشطر الأخير من عمره وادعا ً قد كف عن السعي إلى ما يتطلع إليه طموحه في شبابه من الحياة العريضة , وأصبح أكثر ميلا ً إلى الزهد والرغبة والطمع في عفو الله وثوابه ورضاه . ينبئ عن ذلك بيتاه .
لا تسأل الناس ما يملكون ولكن سل الله واستكفه
وكل مقل ٍ وذي ثروة فإن المنية من خلفه
وهكذا حتى نوفي قبل نهاية عام ثمانية وتسعين ومائة .


ب-شعره وأغراضه
يذكر ابن النديم في فهرسته أن لربيعة ديوان شعر يقع في مائة ورقة , تشتمل الواحدة منه على عشرين سطرا ً , وبهذا الاعتبار يكون مجموع أبيات الديوان أربعة آلاف بيت .
ويقول أبو الفرج الأصفهاني : إن ربيعة من المكثرين المجيدين غير أن هذه الكثرة قد ضاعت , ولم يبق منها إلا وشل متناثر في كتب الأدب والتاريخ .
ولا شك أن ربيعة تناول في شعره أغراضا ً متعددة , إلا أن ما وقع ألينا من شعره كان في المدح والغزل والهجاء والوصف والزهد والحكمة ولم يصل ألينا شيء من شعره في الرثاء أو في الفخر .
ولا يعني هذا انه لم يتناول هذه الأغراض , فلعل شعره فيها قد ضاع مع ما ضاع منه .
1-الغزل :يعد شعر الغزل عنده أكثر مما نظم في سواه من الأغراض فقد نظم فيه مبكرا ً , فظهر تأثره فيه بمن سبقه من شعراء الغزل , تأثر بعمر بن أبي ربيعة , الشاعر الذي شغف الغانيات حبه فشكون صده وإعراضه ورجون لقائه . فمن ذلك يقول ربيعة :
والغواني مغويات ٌ مولعات باقتناصي
قد تواصين بحبي حبذا ذاك التواصي
وربيعة في كثير من غزله مخلص في حبه , متسام ٍ , فتراه يرضى من حبيبته بالوعد والمنى , أو حتى باليأس . ويشكو السقم في حبه الذي تغلغل في أحشائه وحل في عظامه , ويذكر تولهه وخضوعه لحبيبته .
وهو حينا ً يتأمى بالعذريين العاشقين .
وهكذا تتغير صورة ربيعة الرقي بحيث يسهل علينا القول : إنه في هذه النماذج من غزله لا يصدر عن تجربة شعورية ولا يعبر عن حب حقيقي .
ولا ريب في أن ما أصيب به من العمى كان له تأثير واضح على معانيه وصوره الشعرية , فقد طبعها بطابع حسي , ويبقى كغيره من الشعراء العميان يلتذ بالحديث ويسحر به :
أحب حديثها وتحب قربي وما إن نلتقي إلا لماما ً
وهكذا فإن المتأمل في غزل ربيعة يجد نفسه وكأنه أمام شاعرين لا شاعر واحد , بيد انه في كل أحواله يظل مبتعدا ً عن شعراء الغزل المكشوف أمثال أبي نواس والحسين بن الضحاك ومسلم بن الوليد , فغزله يخلو من التهتك والرفث والفحش , وما كانت هذه الظاهرة إلا لأنه لم يعش حياة مثل أولئك المجان ولم يحضر مجالسهم .
أما تقدمة في هذا الفن فقد كان متميزا ً بين شعراء عصره ومقدما ً على كثير منهم وقد شهد بذلك ابن المعتز في قوله : ( فأما شعره في الغزل فإنه يفضل على أشعار هؤلاء من أهل زمانه جميعا ً ) . وأجرى ابن المعتز مقارنة بين غزل ربيعة وغزل أبي تواس فقال : كان ربيعة اشعر من أبي نواس , لان في غزل أبي نواس بردا ً كثيرا ً , وغزل هذا سليم عذب .
وبالرغم من الصعوبة التي نجدها عندما نريد مناقشة رأي ابن المعتز بسبب ضياع معظم شعر ربيعة الرقي , فإنا نميل إلى أن ابن المعتز قد أنصفه , وقال فيه كلمة حق , فنحن من جهة نجد في غزل أبي نواس ضعفا ً , ومن جهة أخرى نجد ربيعة في بعض قصائده يصدر عن إحساس قوي وعاطفة صادقة ومعاناة حقيقية .
ولرقة شعره الغزلي يجري على كل لسان , ويذيع في كل مكان , حتى ليقال بان بعضه كان ينقش على البسط , وعاش بعضه الآخر تحفظه لنا بطون كتب الأدب أمثال الأغاني وغيره .
أما أسماء النساء اللائي ذكرهن في نسيبه مثل ليلى وسعاد وعثمة وغنمة ورخاص وداحا , فأظن أنها لا تعدو رموزا ً اصطنعها , خلافا ً لما ذهب إليه الدكتور شوقي ضيف من أن بعض هذه الأسماء حقيقي .
2-المدح :كان المدح من أهم الأغراض التي تناولها ربيعة في شعره ومعظمه – على ما وصل إلينا منه – في يزيد بن حاتم المهلبي , حيث نقر له أجزاء من خمس قصائد من بديع شعره جزالة لفظ وإحكام عبارة وحسن بناء . ولا نرتاب في أن ربيعة كان يصدر في هذا المدح عن عاطفة صادقة وشعور حقيقي بأهمية الممدوح ومكانته , فهو – كما يصوره لنا – مقدام يسعى في بناء المكرمات , ويلجأ إليه الناس في الشدائد , لأنه حمال كل عظيمة , وخير مدافع عن الإسلام .
أما مدائحه لمعن ويزيد السلمي فقد ضاعت كلها , ويغلب على الظن أنها لم تكن ذات بال من الناحية الفنية , فقد نظمها الشاعر في مطلع شبابه , فهي لا تمثل نضجه الفني , وقيل إن معنا لم يستحسن بعضها .
ولعل أجود ما أثمرته قريحة ربيعة قصيدته في العباس بن محمد عم الخليفة الرشيد وواليه على الجزيرة الفراتية , تلك القصيدة التي أعجب بها الخليفة (( فاستحسنها واستجادها , وأعجب بها وقال : ما قال احد من الشعراء في احد من الخلفاء مثلها , وأصبح بعض أبياتها كثير الدوران في كتب الأدب , لما فيها من صور فنية جميلة .
ومن المؤسف حقا ً أن تضيع هذه القلادة , فإنها تمثل ذروة نجاح الشاعر الفني , فمن المؤكد انه قد حشد كل مقدرته الفنية , واستجمع كل أدواته الشعرية في سبيل الإجادة والتفوق في مدح العباس , الذي كان معظما ً وجليلا ً عند الخليفة , وكان على ربيعة أن يحلق في سماء الفن ولا احسبه إلا محلقا ً في قوله :
إن المكارم لم تزل معقولة حتى حللت براحتيك عقالها
العود يرطب إن مست لحاءه والأرض تعشب إن وطئت رمالها
غير أن هذا الجهد الفني , وهذه المبالغة لم يستدرا من كف العباس غير دينارين اثنين , فانقلب على ممدوحه يهجوه ولقد كان لهذه القصيدة اثر سياسي مهم , فقد فتر الرشيد بعدها عن عمه , وتغير عليه وقيل : إنه اقلع عن عزمه على أن يزوج العباس ابنته , وظهر منه له يعد ذلك جفاء كثير وإطراح , وبالرغم من أن هذه القصيدة ليست مما يمكن عده سببا ً كافيا ً لتحول الخليفة عن عمه , وانه لا بد من أن تكون وراء هذا التحول أسباب أخرى لم نقف عليها , فإن القصيدة كانت الكاشف المباشر عما أضمره الرشيد لعمه من استياء وحنق . ولقد كانت متنفسا ً للخليفة للتعبير عن سخطه على العباس الذي كان يبدو وكأنه أعظم ولاته واكبر رجال دولته وأقواهم صلة به .
وهكذا تكون لقصيدة ربيعة في العباس بن محمد قيمة فنية عالية وأهمية سياسية كبيرة .
أما طريقته في مدائحه فإنه كان يباشر فيها المدح دونما مقدمات طليلة أو غزلية في بعض الأحيان , وفي أحيان أخرى كان يستهلها بأبيات في الغزل .
3-الهجاء : أما شعره في الهجاء فما وصل إلينا منه قدر قليل كان في معن بن زائدة , ويزيد بن أسيد السلمي , والعباس بن محمد , وقد عبر فيه الشاعر عن سخطه وغضبه على هؤلاء الذين لم يقدروا شعره , ولم يفهموا معاناته من اجلهم , فكانت له معهم تجربة فيها مرارة وقسوة , فرأى أنهم مستحقون للانتقاد , , محتاجون للتقويم والإصلاح . وهو حين تصدى لهم إنما تصور المثل والنموذج , فكأنه أراد منهم أن يرتفعوا ويسموا ويستقيموا , فلما خيبوا أمله , وساء ظنه بهم , وظهروا على خلاف ما تصورهم في خياله , مال إلى ثلمهم والقدح فيهم .
ويبدو أن ربيعة يأتسي في هجائه بالاتجاه السائد القائم على السخرية والتهكم والتعريض بالمهجو , والإلماح دون التصريح , إلا انه في هجائه معنا ً مال إلى التصريح ليوجعه وليشفي غليله منه .
ملامح تأثره ببعض الشعراء
قلنا : إن ربيعة قد تأثر بعدد من شعراء العصر الأموي , وهذه طائفة من أشعاره يبدو فيها ذلك التأثر .
فهو في قوله :
وأمنح طرف العين غيرك رقبة حذار العدى والطرف نحوك أميل
فيه من معنى قول الأحوص :
إني لأمنحك الصدود وإني قسما ً , إليك مع الصدود لأميل
ويبدو ربيعة في قوله :
فلو كنت ذا عقل لأجمعت صرمكم برأيي ولكني امرؤ ليس أعقل
مقلدا ً جميل بن معمر في قوله :
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ولكن طلابيها لما فات من عقلي
وفي قول ربيعة :
خليلي هذا ربع ليلي فقيدا ً بعيريكما ثم ابكيا وتجلدا
اتكاء كبير بل إغارة على بيت كثير بن عزة :
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا فلو صيكما ثم ابكيا حيث حلت
ويبدو شاعرنا في قوله :
ستصرم إنسانا إذا ما صرمتني بحبك فانظر بعده من تبدل
مشدودا ً إلى معين بن أوس في قوله :
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني يمينك فانظر أي كف تبدل
وإذ تقرأ المقطعة التالية لربيعة تجد كأنك أمام شعر عمر بن أبي ربيعة حين يحكي عن نفسه على لسان من يشبب بها :
قالت : ومن أنت قلن التابعات لها هذا ربيعة هذا فتنة الأمم
هذا المعنى الذي كانت مناسبه تأتيك فاستتري بالبرد والقتم
شيطان أمته لاقاك محرمة ٌ فبالإله من الشيطان فاعتصمي
قالت : أعوذ بالله ربي منك واستترت بغادة ٍ رخصة الأطراف كالعنم
أما أبياته :
خليلي هذا ربع ليلي فقيدا بعيريكما ثم ابكيا وتجلدا
قفا لمسعداني بارك الله فيكما وإن أنتما لم تفعلا ذاك فاقعدات
وإلا فسيرا واتركاني وعولتي اقل لجنابي دمنة الدار اسعدا
فقالا وقد طال الثوي عليهما لعلك أن تنسى وان تتجلدا
فذات دلالة قوية على انجذابه إلى شعر مجنون ليلى وتأثره به , ولولا أن يأخذ سحر عمر بن أبي ربيعة في آخر هذه القصيدة أي في قوله :
فأقبلن من شتى ثلاثا ً وأربعا ً وثنتين يمشين الهوينا تأودا
يطأن مروط الخز يلحقنها الحما ويسحبن بالأعطاف ريطا ً معتمدا
فلما التقينا قلن أهلا ً ومرحبا ً تبوأ لنا بالأبطح السهل مقعدا
وأغلب الظن أن القصيدة من شعر المجنون . ولرغبة شاعرنا في محاكاة شعر مجنون ليلى اختلط شعره بشعر ذلك .
ويجب إلا تحملنا هذه النماذج التي ظهر فيها تأثر ربيعة بالشعراء الأمويين على الاعتقاد بأنه كان دائما ً يسير على نهجهم , فهو في كثير من شعره يفترق عنهم افتراقا ً كبيرا ً بحيث لا نجد له أثرا ً لسواه فيه , وهو عندما يرسل نفسه على سجيتها وطبعها ويتحرر من اسر التقليد يحملك على أن تطرب له وتهتز ثم تثني عليه . ومن هذا نفهم ونفسر أقوال ابن المعتز : (( فهذا كما ترى أسلس من الماء وأحلى من الشهد )) , و (( وهذا أطبع ما يكون من الشعر وأسهل ما يكون من الكلام )) , (( فهذا كما ترى لا يسمع مثله لشاعر رقة وغزلا ً )) . وما لا شك فيه آت تأجج العاطفة وقوة الانفعال وقرب المأخذ وتدفق الطبع , كل ذلك دفع ابن المعتز إلى إطلاق هذه الإحكام .
ج-الخصائص الفنية في شعره
أبرز سمة في شعر ربيعة الرقي
1- سهولة اللفظ وبساطة التعبير وسلامته المفرطة ,
2- ثم قرب مآخذ المعاني ووضوحها وجمالها . هذه الخصائص والسمات مجتمعة جعلت شعره محببا ً لدى الجواري وعامة الناس , وأدت إلى ذيوعه , حتى كتب على البسط . وقوله مثلا ً :
ليتني كنت حماما لك مقصوص الجناح
أيها الناس ذروني لست من أهل الفلاح
أنا إنسان معنى بهوى المرض الصحاح
وقوله : فيا غنام يا بصري وسمعي رسيس هواك أورثني السقاما
لقد أقصدت حين رميت قلبي بسهم الحب إن له سهاما
زجرت القلب عنك فلم يطعني ويأبى في الهوى إلا اعتزاما
إذا ما قلت اقصر واسل عنها أبى من صرمكم إلا انهزاما
وجل شعر ربيعة على هذا النحو السلس العذب المصقول الذي يعد صورة ونموذجا ً للشعر المطبوع لا تثقله الصناعة اللفظية , أو يذهب برونقه وبهائه تعقيد .
إن معظم شعر ربيعة يجمع إلى إحكام الصياغة ومتانتها وسلاستها وعذوبتها . وحسبك أن تقف عند لاميته وقصيدته في مدح العباس بن محمد لتلمس تمكن الشاعر من فنه وامتلاكه لأدواته الشعرية .
ولكن هذا لا يعني أن شعره كله يخلو من العيوب والسقطات الشعرية , فثمة ضعف في التعبير وتكرار لفظي ثقيل وحشو معيب .
فمن التكرار اللفظي قوله :
أفي هجران بينك تصرميني وما رمنا لصرمكم صراما
كرام الناس قبلي قد احبو كرائمهم وأحببن الكراما
أقام الحب حبك في فؤادي وحبي في فؤادك قد أقاما
وهي حوراء كالمهاة هجان لهجان ٍ وأنت غير هجان
وقوله أيضا :
والشوق قد غلب الفؤاد فقاده والشوق يغلب ذا الهوى فيقوده
ومن الحشو قوله :
من لعين ٍ رأت خيالا ً مطيفا واقفا هكذا علينا وقوفا
عتكي مهلبي كريم ٌ حاتمي قد نال فرعا ً منيفا ً
فهو في البيت الأول يجر أنفاسه للوصول إلى القافية , وقد حشر لفظة ( هكذا ) من اجل ذلك . أما في البيت الثاني فإن لفظة ( حاتمي ) من حشو الكلام , فلفظة ( كريم )أدت إلى المعنى المراد . وفي قوله :
نلت الجمال ودلا ً رائعا ً حسنا ً فما تسمين إلا ظبية البلد
جاءت لفظة ( حسنا ً ) زائدة لا معنى لها , فلفظة ( رائعا ً ) أغنت عنها وكفت . وفي البيت :
ولولا فتنتي بك فاعلميها إذا صلى ربيعة ثم صاما
وردت الجملة الاعتراضية ( فاعلميها ) من غير ضرورة . فقد اضطر إليها الشاعر اضطرارا ً لإتمام الوزن .
ولا بد من القول : إن هذه الهنات والسقطات الشعرية لا يخلو منها أو من مثلها شعر شاعر , ولكن العبرة في قلتها وضآلتها , وكفى ربيعة الرقي أن الجيد البديع مما وقفنا عليه من شعره كثير والرديء المطرح منه قليل .
وتبقى بعد ذلك ظاهرة بارزة في شعره تلك هي شيوع الأوزان الصافية والقصيرة , فالرمل مثلا ً يحتل وحده ما يقارب ربع ما هو بين أيدينا اليوم من شعر الشاعر , والرمل كما هو معروف بحر ويوافق المرقص والمطرب من الشعر وهو ذو موسيقى انسيابية , ويمكن عزو تلك الظاهرة إلى سببين : أولهما انتشار الغناء وحاجة المغنيين والمغنيات إلى أوزان قصيرة يسهل عليهم تقطيعها وترجيعها , فكان النظم على الأوزان القصيرة في شعر الرقي أن بعض المواقف الشعرية كالحدث الطارئ والموقف الآني لا تمكن الشاعر من التريث والصبر على فنه فيجنح إلى الأوزان القصيرة إيثارا ً للسهولة في النظم .
وبعد , فلا شك أن ربيعة الرقي شاعر كبير موهوب , فقد نظم في الحور الطويلة والقصيرة والسهلة والصعبة فأجاد فيها جميعا ً وتفوق , فنال إعجاب معاصريه من الشعراء , وممدوحيه من الخلفاء والأمراء , وحظي بثناء من جاء بعده من النقاد , واحتج بشعره بعض أئمة اللغة , منهم الأصمعي . فقد قال المبرد في كامله : (( وربيعة احتج به الأصمعي وذلك عندما أورد بعض شعره )) . وهذا وحده كاف للاهتمام بشعره ودراسته .
قافية الباء
وقال ربيعة الرقي :
لمن ضوء نار قابلت أعين الركب
تشب بلدن العود والمندل الرطب
فقلت لقد آنست نارا كأنها
صفا كوكب لاحت فحن لها قلبي
قافية التاء
وقال يهجو أبو العباس بن محمد :
مدحتك مدحة السيف المحلى
لتجري في الكرام كما جريت
فهبها مدحة ذهبت صياعا ً
كذبت عليك فيها وافتريت
فأنت المرء ليس له وفاء
كأني إذ مدحتك قد رثيت
قافية الحاء
ومما يستحسن لربيعة قوله :
صاح إني غير صاح أبدا من حب داح
صار قدحا ً حب داح في فؤادي المستباح
جنح القلب إليها إن قلبي ذو جناح
وعصى في حب داح كل لوام ولاحي
ليت لي رسلا ً من الجـ . . . . . ـن إليها والرياح
تبلغ الحاجات عني ثم تأتي بالنجاح
أنا والله قتيل لك من غير جراح
لابسيف قتلتني لا ولا سمر الرماح
أنت للناس قتول ٌ بالهوى لا بالسلاح
وبشكل ٍ وبدل وبغنج ٍ ومزاح
وبعينين صيودين وثغر كالأقاحي
ليتني كنت حماما ً لك مقصوص الجناح
أيها الناس ذروني لست من أهل الفلاح
أنا إنسان معنى بهوى المرض الصحاح
قافية الدال
وقال يمدح يزيد بن حاتم المهلبي ويعرض بيزيد السلمي
يزيد الأزد إن يزيد قومي
سميك لا يجود كما تجود
يقود جماعة وتقود أخرى
فترزق من تقود ومن يقود
شبيهك في الولادة والتسمي
ولكن لا يجود كما تجود
فما تسعون يحفزها ثلاث ٌ
يقيم حسابها رجل ٌ شديد
وكف شثنة جمعت لوجه
بأبكد من عطائك يا يزيد
قافية الصاد
وقال :
أنا للرحمن عاصي لجنوني برخاص
ثم للناس جميعا من أدان وأقاصي
ورخاص الكرخ ظبي لم أنل منه افتراضي
ما أبالي من لحاني فيك أو رام انتقامي
ولقد عذبت روحي فمتى منك خلاصي
فاتقي الرحمن فينا واحذري يوم القصاص
والغواني مغويات ٌ مولعات ٌ باقتناصي
قد تواصين بحبي حبذا ذاك التواصي
كتب ربيعة ليزيد بن حاتم :
أراني ولا كفران لله راجعا ً
بخفي حنين من يزيد بن حاتم
فلما قرأها أمر بنزع خفي الشاعر فحشاهما دنانير فقال ربيعة لما عزل وولي محله يزيد بن أسيد :
بكى أهل مصر بالدموع السواجم
غداة غدا عنها الأغر ابن حاتم
وفيها يقول :
حلفت يمينا ً غير ذي مثنوية ٍ
يمين امرئ آلى بها غير آثم
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد سليم والأغر ابن حاتم
يزيد سليم سالم المال والفتى
اخو الأزد للأموال غير مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله
وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام إني هجوته
ولكني فضلت أهل المكارم
فيا أيها الساعي الذي ليس مدركا ً
بمسعاته سعي البحور الخضارم
كفى لبناء المكرمات ابن حاتم
ونمت وما الأزدي عنها بنائم
فيا ابن أسيد لا تسام ابن حاتم
فتقرع إن ساميته سن نادم
هو البحر إن كلفت نفسك خوضه
تهالكت في آذيه المتلاطم
تمنيت مجدا ً في سليم سفاهة
أماني حال ٍ أو أماني حالم


30-الشريف الرضي
( 970 – 1016 م ) ( 359 – 406 هـ )
أ-حياته ونشأته :هو محمد بن الحسين المعروف بالحسين الرضي , يرتقي نسبه إلى الأمام علي بن أبي طالب . ولد في بغداد 970 م 359 هـ ونشأ فيها , وتلقى العلوم والآداب على علمائها وأساتذتها , فاخذ الفقه عن الشيخ المفيد بن عبد الله محمد بن النعمان , ودرس اللغة على السيخ أبي الفتح عثمان بن جني , حتى برع في الفقه والفرائض والآداب وسائر العلوم .
نابت هذا الشاعر الشاب بعض البلايا ولازمته طويلا ً حتى آخر حياته وذلك جزء من جراء الفواجع التي انتابت بغداد , والقلاقل التي عبثت فيها . فحبس والده في إحدى قلاع فارس سبع سنوات 369 – 376 هـ وصودرت أملاكه ورغم كل هذه المصائب التي أقضت مضجع الشاب الصغير , فقد كان رقيق الحس مرهف القلب يحب أباه حبا جما ً , فنظم فيه متلهفا ارق الشعر .
عاصر الشريف الرضي ثلاثة من الخلفاء العباسيين هم المطيع والطائع والقادر , وكان في أيام الأول طفلا ً بعد بينما كان عهد الخليفة الطائع مسرحا ً للعراك بين الفرس والترك , وقد سيطر الديلم والترك مدة على العراق , مما اضطر الشاعر على موالاتهم , مع انه اخلص الود للطائع وانس به كل الإنس ومدحه بكل صدق وإخلاص , إذ رأى فيه بقايا الأصالة العربية من بني العباس . وقد أغدق عليه الخليفة الهدايا والعطايا , وقد رثاه الشاعر بعد وفاته بقصائد عدة كما مدح عبد القادر من بعده , ولكن ما عتم هذا الأخير أن مال عنه , عندما شعر بميله إلى العلويين والفاطميين ومدحه للوزراء والملوك .
توفي الشريف الرضي في 26 حزيران 1016 م الموافق لـ 6 محرم 406 هـ ودفن في بيته بالكرخ في ضواحي بغداد , فدفنت معه آماله الواسعة , فقد كان نقيبا ً للإشراف يوم لم يكن للإشراف عرش ولا تاج , بل لهم العلم والأدب والبيان . وكان أبي النفس شريفها تيمنا ً باسمه , عالي الهمة لم تعنه الأيام على بلوغ أقصى أمانيه في المعاني . وله عدة مؤلفات ضاع أكثرها ومن أهمها :
-كتاب المجازات في الآثار النبوية ,
-كتاب حقائق التأويل في متشابه التنزيل طبع بالنجف
-تلخيص البيان عن مجازات القرآن .
-الخصائص ,
- وكتاب أخبار قضاة بغداد .
-وجمع كتب نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب .
-وله ديوان كبير في الشعر جمعه عدة أدباء منهم أبو الحكم الخيري وطبع في بيروت سنة 1307 هـ

ب-شخصيته :لم يطمع الشريف الرضي يوما ً من شعره بالتكسب , بل كان يصف الاشتباكات السياسية الناشبة بين فارس والعراق , وخدمة الأغراض السياسية , وكان يصف تقلبات الأحوال , ولم يبتغ أية فائدة مادية من اتصاله بالوزراء والملوك , بل كان حرصه على المكانة المعنوية وإن يكون ذا شأن وجاه في تصريف المعضلات وتسلم عرش الخلافة , وقد استطاع بدافع هذا القصد الشريف أن يكون صلة بين كل من الحجاز وفارس والشام من جهة وبين العراق من جهة أخرى .
ج-موضوعات شعره:
وكان شعر الشريف الرضي بالإجمال صورة تترجم ما تنطوي عليه نفسيته الطموح من الآمال العراض والأحلام الذهبية نحو المجد والسؤدد , فلم يكن الشعر عنده يوما ً واسطة للتكسب ولا مركبا ً للمداجاة والمواربة , بل كان معظمه تغنيا بالمحبة والآلام , ونشيدا ً من أناشيد العزة والفخار فقد أوحت إليه مواسم الحج وطرقه بموضوعات ( الحجازيات ) وأوحى إليه العلويون والطالبيون المحرومون من السلطان بموضوعات ( الشيعيات ) وكان تروعه من الأمراض والأخطار ينظم في وصف ( الشيب ) كما دفعته دموعه التي قذفها قلبه الجريح ونفسه المكلومة الحزينة على فراق الأحبة والأصدقاء والأقرباء من تصويرها ( بالرثائيات ) وأعطى مجالا ً لاستعادة الأمجاد القديمة والماضي التليد المندرس بموضوعات ( فخرياته ) وكل هذه القصائد في جميع الأبواب التي طرقها إنما هي انطباع من نفسه الكبيرة وقلبه الرقيق وحسه المرهف ومعنوياته العالية . بل كان مرآة معكوسة لما يتأجج في أعماقه من حرارة المحبة وتنفس الوجدان , وهيامه بالمعنويات والقيم السامية والآمال والمراكز المرموقة التي كانت تصبو إليها نفسه الشماء .
1-فحجازياته نحو أربعين قصيدة ضمنها الشاعر لوعة صبابته . وغزله شديد اللصوق بنفسه ينبجس من أعمق أعماقه . بل هو العشق النزاع بين العقل والقلب والصراع بين العزة والذل من قوله :
عفافي من دون التقية زاجر وصونك من دون الرقيب رقيب
عشقت ومالي يعلم الله حاجة سوى نظري والعاشقون ضروب
وقوله : تلفتت عيني فمذ خفيت عنها الطلول تلفت القلب
وانحصر رثاؤه في الأهل والأصدقاء وفي الملوك والعظماء , وفي صريع كربلاء الحسين بن علي , وكان يشيد بمآثر وبطولات جميعهم حيث يتضاءل المجد والعز أمام ذكرياتهم .
2-وفخره :فقد كان الشريف شاعر الفخر بلا منازع , يفتخر بقومه ومجد أسرته وبالتالد والطريف من شرفه , ولا سيما في أهل البيت يقول :
كالصخر إن حملوا والنار أن غضبوا والأسد أن ركبوا والوبل أن بذلوا
وكما كان يفاخر ويتباهى بأهله والشرفاء من قومه في باب الفخر , كذلك كان يحيي ذكريات من قتل من آل البيت , ولا سيما الحسين فيقف على قبورهم في لهفة وحرقة , وهو ذا يناشد الخليفة نفسه :
مهلا ً أمير المؤمنين فإننا في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت أبدا كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فأنني أنا عاطل منها وأنت مطوق
3-وهو شاعر المدح :له فيهما قصائد كثيرة من عيون الشعر يحاول أن يضارعه المتنبي في بعضها , وكان صبا ً بابيه علوقا ً بحبه إلى أقصى الحدود , مدحه في قصائد كثيرة متوجعا ً عليه في سجنه , ومهنئا ً إياه بخلاصه ورد أملاكه ومباركا له بالأعياد والمناسبات التي يخلع فيها عليه رداء الملوك والخلفاء .
وكان الشريف الرضي يقتنص المناسبات الجميلة والفرص السانحة في نظم قصائده والاحتفال بها , فينتقي أجمل العبارات وأبلغ المعاني وأعذب القوافي وأصدق المشاعر وأسحر البيان , فاسمعه في ما يفاخر :
منتصبات كالقنا لا نرى عيا ً من القول ولا أفنا
لا يفضل المعنى على لفظه شيئا ً ولا اللفظ على المعنى .
4-وكان أيضا وجداني النزعة في شعره: يتقارب مع الأقدمين من بين شعراء عصره آخذا ً نصيبه من الصبغة العباسية , مستعملا ً كل الأساليب والوسائل , بل الحروف والحركات الضرورية للتعبير عن مقاصده ومراميه . ففي رثاء أحبابه مثلا ً ينادي الدهر قائلا ً :
يا دهر رشقا بكل نائبة قد انتهى العتب وانقضى العجب
رد يدي ما استطعت عن إربي لم يبق لي بعد موتهم أرب
كما يتفنن في المناجاة بوجدانه فينادي النظرة ووقفة الأحباب , كما ينادي نفسه ويشجعها على تحمل الآلام وينادي الشباب بقوله :
فمن يك ناسيا عهدا فإني لعهدك يا شباب غير ناس
فإن العيش بعدك غير عيش وإن الناس بعدك غير ناس
ففي مثل هذين البيتين تبرز ألفاظ الشريف الرضي مشخصة لتدفق العاطفة عنده . وقوافيه كالموسيقى الساحرة في تموجاتها , حيث تبقى أثرا عميقا ً بموسيقاه البحتري شيخ النغم الشعري .
4-مكانته :وإذا لا نستطيع أن نضع الشريف الرضي في صف المتنبي تفكيرا ً وانطلاقا ً , ولا مع ابن الرومي تحليلا للمعنى والتقصي فيه , ولا مع أبي تمام في فلتاته النادرة في انتقاء الأبيات الفذة الجذابة , إلا انه يحوز النصيب الذي لا يستهان به من كل ميزاتهم المذكورة , ولكنه بزهم في الشعر الوجداني , مع الحذر الشديد في ما اعتور ابن الرومي بسبب إفراطه في التقصي والتحليل , وما زل به أبو تمام في المبالغة بالصنعة والتكلف , وما شاب شعر المتنبي من المبالغة غير المعقولة والمعاظلة الشديدة .
5-صنعة الشريف الرضي :
يكثرالشريف الرضي من مديح الخلفاء العباسين لعصره وأمراء بنى بويه ووزرائهم؛ إلا أنه يتوقر في مديحه ولا يسف إلى مغالاة أو غلو، بل يحتفظ بكرامته، وهى كرامة ترد إلى طيب محتده ومكانته في بيته وعصره، وكل من يقرأ ديوانه يحس الصلة واضحة بينه وبين المتنبي؛ فقد كان يحتذي شعره احتذاء، ولعل ذلك ما جعله يكثر من الفخر والاعتداد بنفسه، كما أكثر من نقد الأخلاق وأحوال المجتمع والناس من مثل قوله:
وخلائق الدنيا خلائق مومس ... للمنع آونة وللإعطاء
طورًا تبادلك الصفاء وتارة ... تلقاك تنكرها من البغضاء
واستمر يشكو من الدهر كأن يقول:
فأينَ من الدَّهرِ استماعُ ظلامتي ... إذا نظرتْ أيامُهُ في المظالمِ
ولم أدرِ أنَّ الدَّهرَ يخفضُ أهلِهُ ... إذا سكنت فيهم نفوسُ الضَّرَاغِمِ
وهي شكوى ترددت كثيرًا في هذا العصر عند الشريف وغيره من الشعراء؛ فقد كان هناك من الكآبة في الحياة الإسلامية العامة؛ بسبب ما أصابها من اضطراب سياسي واجتماعي، ما جعل الشعراء يرددون هذا اللحن، وكان الشريف من أكثر الشعراء ترديدًا له متأسيًا -كما قلنا- في صنيعه بالمتنبي، وأكثرَ مثلَهُ من الحِكَم في شعره كقوله:
إذا أنت فتَّشْتَ القلوبَ وجدتَهَا ... قلوبُ الأعادي في جسومِ الأصادقِ
وأيضًا فقد قلَّده في غزله بالأعرابيات وما ينطوي معها من ذكر العِيس والبِيد كقوله:
وعْجنا العيسَ توسعنا حَنِينًا ... تُغَنِّينا ونوسعها بكاء
وقوله:
حَيِّيا دون الكثيبِ ... مرتَعَ الظَّبي الرَّبيب
ولهذه الغزليات حيز واسع في ديوانه، وهو يطبعها بطوابع من العفة والطهر، ودائمًا يردد ذكر مواضع نجد والحجاز فمعشوقاته دائمًا حجازيات. وله في ذلك قطع رائعة مثل مقطوعته المشهورة.
يا ظبية َالبانِ ترعَى في خمائله ... ليهْنِك اليوم أن القلب مَرعَاك
وتوسع في هذا الموضوع كما توسع في الحكم؛ غير أنه ينبغي إذا ذكرنا المتنبي معه أن نضعه في مرتبة متخلفة عنه؛ إذ يتفوق المتنبي عليه في جمال التعبير وقوته. وعلى كل حال كان الشريف يحاكي المتنبي ويلفِّق كثيرًا من معانيه وحكمه في نماذجه؛ وقد عم التلفيق من حوله في هذه العصور؛ إذ نرى الشعراء يلفقون نماذجهم من الخواطر الموروثة والأفكار المطروقة.
6-نماذج من شعره:
كربلا كرب وبلا
قال وهو بالحاير الحسيني يرثي جده سيد الشهداء عليه السلام :
كربلا , لا زلت كربلا ً وبلا ما لقي عندك ال المصطفى
كم على تربك لما صرعوا من دم سال ومن دمع جرى
كم حصان الذيل يروي دمعها خدها عند قتيل ٍ بالظمأ
تمسح الترب على إعجالها عن طلى نحر ٍ رميل ٍ بالدما
وضيوف ٍ لفلاة ٍ قفرة ٍ نزلوا فيها على غير قرى
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا بحدى السيف على ورد الردى
تكسف الشمس شموسا ً منهم لا تدانيها ضياء ً وعلى
وتنوش الوحش من أجسادهم أرجل السبق وإيمان الندى
ووجوها ً كالمصابيح , فمن قمر غاب , ونجم قد هوى
غيرتهن الليالي , وغدا جاير الحكم عليهن البلى
يا رسول الله لو عاينتهم , وهم ما بين قتلى وسبا
من رميض يمنع الظل , ومن عاطش ٍ يسقى أنابيب القنا
ومسوق ٍ عاثر ٍ يسعى به حلف محمول على غير وطا
متعب يشكو أذى السير على نقب المنسم , مجزول المطا
لرأت عيناك منهم منظرا ً للحشى شجوا ً , وللعين قذى
ليس هذا لرسول الله , يا امة الطغيان والبغي , جزا
غارس لم يأل في الغرس لهم فأذاقوا أهله مر الجنى
جزروا جزر الأضاحي نسله ثم ساقوا أهله سوق الإما
معجلات ٍ لا يوارين ضحى سنن الأوجه أو بيض الطلى
هاتفات ٍ برسول الله في بهر السعي , وعشرات الخطى
يوم لا كسر حجاب ٍ مانع ٌ بذلة العين ولا ظل خبا
أدرك الكفر بهم ثاراته وأزيل الغي منهم فاشتفى
يا قتيلا ً قوض الدهر به عمد الدين وأعلام الهدى
قتلوه بعد علم منهم انه خامس أصحاب الكسا
وصريعا ً عالج الموت بلا شد لحيين ولا مد ردا
غلوه بدم الطعن , وما كفنوه غير بوعاء الثرى
مرهقا ً يدعو ولا غوث له بأب ٍ بر ٍ وجد ٍ مصطفى
وبأم ٍ رفع الله لها علما ً ما بين نسوان الورى
أي جد وأب يدعوهما جد يا جد أغثني يا أبا
يا رسول الله يافاطمة , يا أمير المؤمنين المرتضى
كيف لم يستعجل الله لهم بانقلاب الأرض أو رجم السما
لو بسبطي قيصر , أو هرقل فعلوا فعل يزيد , ما عدا
كم رقاب من بني فاطمة عرقت ما بينهم , عرق المدى
واختلاها السيف حتى خلتها سلم الابرق , أو طلح العرى
حملو رأسا يصلون على جده الاكرم طوعا ً وأبا
يتهادى بينهم لم ينقضوا عمم الهام , ولا حلوا الحبى
ميت تبكي له فاطمة وأبوها وعلي ذو العلى
لو رسول الله يحيا بعده قعد اليوم عليه للعزا
معشر منهم رسول الله والـ ـكاشف الكرب إذا الكرب عرا
صهره الباذل عنه نفسه وحسام الله في يوم الوغى
أول الناس إلى الداعي الذي لم يقدم غيره لما دعا
ثم سبطاه الشهيدان . فذا بحسا السم . وهذا بالظبى
وعلي وابنه الباقر والصادق القول وموسى والرضا
وعلي وأبوه وابنه والذي ينتظر القوم غدا
يا جبال المجد عزا ً وعلى وبدور الأرض نورا وسنا
جعل الله الذي نابكم سبب الوجد طويلا ً والبكا
لا أرى حزنكم ينسى ولا رزءكم يسلى . وإن طال المدى
قد مضى الدهر , وعفى بعدكم لا الحوى باخ , ولا الدمع رقا
انتم الشافون من داء العمى وغدا ً ساقون من حوض الروا
نزل الدين عليكم بيتكم وتخطى الناس طرا ً . وطى
أين عنكم للذي يبغي بكم ظل عدن ٍ دونها حر لظى
لا تيأسن فربما عظم البلاء وفرجا
قد ينسخ الخوف الاما ن , ويغلب اليأس الرجا
الدنيا كثيرة الأزواج
إني إذا حلب الخيل لبانها أمسيت احلبها دم الأوداج
خطبتني الدنيا فقلت لها ارجعي إني أراك كثيرة الأزواج
سيال اليدين
قال يمدح الطائع ويذم بعض أعدائه وذلك سنة أربع وسبعين وثلاثمائة :
أغار على ثراك من الرياح واسأل عن غديرك والمراح
واجهر بالسلام ودون صوتي منيع لا يجاوز بالصياح
وأهوى أن يخالطك الخزامى ويلمع في اباطحك الاقاحي
وكم لي نحو أرضك من ميسر دفعت به الغدو إلى الرواح
وهذا الدهر خفض من عرامي ورنق من غبوقي واصطباحي
وقد كان الملام يطيف مني بمنجذب العنان إلى الجماح
تؤول النائبات إلى مرادي , ويعطيني الزمان على اقتراحي
وعالية السوالف والهوادي تدافع في الأسنة والصفاح
إذا استقصين غامضة الدياجي فقأت بهن عاشية الصباح
ومدرع ٍ سموت له مغذا ً وقد غرض المقارع بالرماح
بنافذة تمطق عن نجيع ٍ تمطق شارب المقر الصراح
وأخرى في الضلوع لها هدير ٌ هدير الفحل قرب للقاح
فما لي تطلب الأعداء حربي ويصبح جانبي غرض اللواح
أبا هرم , وأنت تزيد ضيمي , باي يد تطامن من طماحي
لحقت أبي نزاعا ً في المعالي وعرقا ً في الشجاعة والسماح
وأنت فما لحقت أباك إلا كما لحق الذنابى بالجناح
نميت من العقول إلى المخازي كما ينمى الهرير إلى النباح
فنحن نرى مكانك من نزار مكان الداء في الأدم الصحاح
بني مطر دعوا العلياء يطلع إليها كل مندلق وقاح
وولوا عن مقارعة المنايا ولقيان الململمة الرداح
أيخفى لوم أصلكم وهذي قرونكم تنم على الجراح
تعيرنا القبائل أن قطعنا قرائن عامر وبني رياح
وعلقنا مطامعنا بحبل تعلقه القلوب بغير راح
وكلهم يجرون العوالي محافظة على عشب البطاح
فبلغ سادة الأحياء أنا سلونا بالغنا ضرب القداح
وعفنا القاع نسكنه وملنا عن السمرات والنعم المراح
وطبقت العراق لنا قباب ٌ نظللها بأطراف الرماح
نعلل بالزلال من الغوادي ونتخف بالنسيم من الرياح
وجاورنا الخليفة حيث تسمو عرانين الرجال إلى الطماح
نوجه بالثاء له مصونا ونرتع منه في مال ٍ مباح
وسيال اليدين من العطايا مهيب الجد مأمون المزاح
إذا ابتدر الملام ندى يديه مضى طلقا ً على سنن المراح
أمير المؤمنين أذال سيري ذرى هذي المعبدة الزراح
فكم خاض المطي إليك بحرا ً يموج على الاماعز والضواحي
سراب ٌ كالغدير تعوم فيه ربى كغوارب الإبل القماح
وكم لك من غرام بالمعالي وهم في الأماني وارتياح
وأيام تشن بها المنايا عوابس يطلعن من النواحي
إذا ريع الشجاع بهن قلنا لأمر غص بالماء القراح
فلا نقل المهيمن عنك ظللا ً من النعماء ليس بمستباح
وواجهك الثناء بكل ارض معاونة لشكري وامتداحي




الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية
في العصر العباسي
-2-

المجلد الثامن
فنون النثر

حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية


حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية

مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط

ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب









الباب السابع
الفصل الأول
فنون النثر
الباب السابع
النثر في العصر العباسي
عندما قامت الدولة العباسية كانت الكتابة الفنية قد أصبحت ذات قواعد وأصول على يد عبد الحميد الكاتبوالعصر العباسي هو العصر الذهبي للكتابة الفنية؛ فقد نبغ فيه كبار الكتاب الذين جددوا في أساليب النثر ومعانيه، وفتحوا آفاقاً جديدة للكتابة.
وقد ارتفع شأن الكتَّاب في العصر العباسي، فأصبح لكل خليفة أو وزير كاتب أو أكثر، وأنشئت لذلك الدواوين المتعددة، بل إن بعض الكتاب قد وصل إلى الوزارة بسبب قدرته على الكتابة الفنية، كما أن الكتابة قد حلت محل الخطابة في آخر العصر، وأزالت دولة الشعر من الصدارة الأدبية.
وقد تعددت أنواع الكتابة في هذا العصر؛ فهناك الكتابة الديوانية مثل كتب البيعات وعهود الولاء وكل ما يصدر عن ديوان الرسائل معبراً عن رأى الخليفة أو الوزير في شؤون الدولة العامة، وسميت بالديوانية نسبة إلى صدورها من "ديوان الرسائل".
وهناك الكتابات والرسائل الإِخوانية المتبادلة بين الكتاب في أمورهم الخاصة من مدح أو اعتذار أو تهنئة أو تعزية.
وهناك الرسائل الأدبية التي يكتبها الأدباء والبلغاء لإِبراز قدرتهم وإبداعهم كرسائل الجاحظ وابن العميد.
ويقسم مؤرخو الأدب الكُتَّاب في العصر العباسي إلى أربع طبقات، لكل طبقة رجالها وميزاتها الفنية:
- الطبقة الأولى: وإمامها ابن المقفع، ومن أشهر رجالها: الحسن بن سهل، وعمرو بن مسعدة، وسهل بن هارون، والحسن بن وهب.
وتمتاز هذه الطبقة بتنويع العبارة، وتقطيع الجملة، وتَوَخِّي السهولة، والعناية بالمعنى، الزهد في السجع.
- الطبقة الثانية: وإمامها الجاحظ، ومن أشهر رجالها: الصولي، وابن قتيبة، وأبو حيان التوحيدي.
وقد تابعت الطبقة الأولى في كثير من أساليبها، لكنها تمتاز بالاستطراد، ومزج الجد بالهزل، والإكثار من الجمل الاعتراضية، وشيء من الإطناب لتحليل المعنى واستقصائه.
- الطبقة الثالثة: وإمامها ابن العميد، ومن أشهر رجالها: الصاحب بن عباد، وبديع الزمان الهمداني، والخوارزمي، والثعالبي.
ومن خصائصها السجع بجمل قصيرة، والتوسع في الخيال والتشبيهات، والإكثار من الاستشهاد وتضمين المعلومات التاريخية والطرائف الملح، والعناية بالمحسنات البديعية.
- والطبقة الرابعة: وإمامها القاضي الفضل، ومن أشهر رجالها: ابن الأثير، والعماد الأصبهاني الكاتب.
وهذه الطبقة سارت على نهج الطبقة الثالثة في السجع والإكثار من المحسنات البديعية، إلا أنها غلبت في ذلك وأغرقت في التورية والجناس حتى أصبحت الكتابة عبارة عن ألفاظ منمقة مسجوعة، لكن ذلك كان على حساب المعنى.
نعم لقد طرأت تطورات جديدة على النثر في الجاهلية وعصر صدر الإسلام والعصر الأموي بفعل امتزاج الثقافات الفارسية واليونانية والهندية ، عن طريق النقل والترجمة والاقتباس ونظراً إلى أن العباسيين أقاموا دولتهم معتمدين على العنصر الفارسي فقد حاولوا أن يبينوا هذه الدولة بالطريقة الفارسية من حيث إنشاء الدواوين والوزارات التي أخذ الكتاب يتنافسون في تقلد مناحبها ، إذ إنه كان يشترط فيمن يستوزر أن يكون
العوامل التي أثرت في تطور النثر فيالعصر العباسي الأول.
1-ازدهار حركت الترجمه والتأثر بالآثار الأدبيه الأجنبيهوالنظرات والأفكار البلاغيه لدى الفرس واليونان والهند.
2-انتشار الوعاظوالقصاص والنساك في المسجد والساحات وألتفاف العامه حولهم.
3-ظهور المذاهبالفلسفية وأقوال الحكماء في الثقافات الأجنبيه في الأدب العربي.

4-احتدامالجدل الديني وقيام المناظرات بين الفرق الإسلاميه.
هذه بعض العوالمالتي ساعدت في ازدهار النثر في العصر العباسي الأول وهي كانت عوامل مساعده فقطوليست أساسيه فالعرب منذ العصر الجاهلي وهم يعرفون هذا الفن ، وسبب عدم حفظ النثر فيالأدب العربي هو أن العرب في الجاهليه وفي صدر الإسلام لم يكن فيهم كتاب الإ قليل،وكان جميع العرب أهل حفظ ، فإذا قال أحدهم مقوله حفظها الجميع، والسبب الآخر أيضاًهو أنه كان لهم في كل نادي من نواديهم أو تجمع خطيب فلم يكن يملكون أوراق يقرأونمنها بل كانوا يحفظون.
وهذا العصر أخرج لنا فنٌا جديد وهو فن الرسائل وكانت علىنوعان:
1-الرسائل الدويوانية: وهي عباره عن رسائل يبعثها الخلفاء إلى الولاة والعمال في شتى بقاء الخلافه.
2-الرسائل الأدبية: وهي رسائل بين الأدباء،ويندرج تحتها: الرسائل الإخوانيه: وهي الرسائل التي يبعثها الأدباء بينهم فيشؤونهم الإجتماعيه.
ومن الرسائل الأدبيه :مايتناول الصفات والأخلاق ومسائلالسياسه وشؤون الحكم ونصيحة السلطان، وكان من أبرز من كتب في هذا الفن هو عبداللهبن المقفع واحتل ابن المقفع مكانه عاليه بين كتاب هذا العصر وتاريخ الكتابه العربيهعلى مر العصور، كان ذو ثقافه واسعه ، عمل في الدواوين ، أتقن اللغه الفارسيه حتىتمكن من ترجمة كتاب ((كليله ودمنه)) من الفارسيه إلى العربيه، وكتب عددة رسائلومنها الأدب الصغير والأدب الكبير،
وكان يعالج في الأدب الصغير قضايا الناسووعضهم، أما في الأدب الكبير يعالج أمور الخلافه والسياسهوالحكم.
نظراً لتغير الحياة السياسية، والاجماعية والفكرية في هذا العصر، فقد ظهرت فنون جديدة تعبر عن حاجات المجتمع العباسي. الوعظ- القصص الديني – المناظرات .
إضافة إلى الفنون التي قلّدها العباسيون: الخطب والرسائل. وأهم هذه الفنون:
1ً- الخطـابة:
أ-توطئة :
ازدهر في بداية العصر العباسي فن الخطابه واضمحل شأنها في نهايتهوالسبب في ذلك أن الخطابه ازدهرت دفاعاً عن حق العباسيين في الخلافه وتمكيناًلدولتهم، واضمحلت بعد ذلك بسبب احتجاب الخلفاء عن العامه وزوال الداعيلها.
وكان للخطابة شأن كبير في أوائل العصر العباسي؛ فقد كانت الدولة الجديدة في حاجة إلى ترسيخ الملك وإثبات حق العباسيين في الخلافة، وكان الخلفاء العباسيون الأوائل كالسفاح والمنصور والمهدي خطباء مصاقع، فازدهرت الخطابة في ذلك العصر.
وكانت الخطبة تلقى على مسامع الناس لأغراض مختلفة، فهناك الخطب السياسية التي يلقيها الخلفاء والقادة في استقبال الوفود أو تحميس الجنود، وهناك الخطب الدينية التي تلقي في الأعياد والجمع، والخطب الاجتماعية في المدح أو الذم أو الاستعطاف أو العتاب.
وقد امتازت الخطابة في أول العصر العباسي بجزالة الألفاظ، وعدم الالتزام بالسجع، وكثرة الاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث الشريف، وغلبة الإِيجاز إلا ما تدعو الضرورة فيه إلى الإِطناب.
وأشهر خطباء هذه الفترة السفاح، والمنصور، وداود بن على، وعيسى بن علي، وخالد بن صفوان، وشبيب بن شيبة.
ولما استقرت الدولة العباسية، وفشت العجمة، وسيطر الأعاجم من بويهيين وسلاجقة على الخلافة، ضعفت الخطابة، وقويت الكتابة، فلم يعد الخلفاء قادرين عليها كأسلافهم، فأصبحت الخطابة مقصورة على بعض المناسبات الدينية كالعيدين والجمعة، وقد أناب الخلفاء والحكام غيرهم فيها.
ثم ازداد الأمر سوءاً في آخر العصر العباسي، وضعفت الخطابة الدينية أيضاً، وأصبح خطباء المساجد يرددون خطب السابقين ويقرؤونها من كتبهم على المنابر، وأغلبها خطب مسجوعة متكلفة.
اهتم العباسيون كأسلافهم الأمويين بالخطابة كحظ دفاع أول يسهم في دعوتهم أولاً، وتثبيت ملكهم ثانياً.
وقد اتضح ذلك في خطبة أبي العباس السفاح حين بويع بالخلافة في مدينة الكوفة، ولفت الانتباه إلى صلته بالرسول الكريم عليه السلام. يقول أبو العباس السفاح:
"وزعم السبئية الضلاَّل أنّ غيرنا أحقُّ بالرياسة و الخلافة منا، فشاهت وجوههم، بم ولم أيها الناس، وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم ... وبصّرهم بعد جهالتهم... وأنقذهم بعد هلكتهم...".
وخطبة عمه داوود بن علي في أهل الكوفة حين كان والياً عليها لأبي العباس السفاح.يقول داوود بن علي :
"شكراً شكراً، أما والله ما خرجنا لنحتفى فيكم زهىً ولا لنبتني قصرا، أظنَّ عدوُّ الله أن لن نظفر به إذ أرخي له في زمامه حتى عثر في فضل خطابه، فالآن عاد الأمر في نصابه، وطلعت الشمس من مطلعها، والآن أخذ القوس باريها، وعادت النبل إلى النزعة ، ورجع الحق إلى مستقره في أهل بين بينكم : أهل بيت الرأفة والرحمة".
وإذا كانت الخطابة في هذا العصر قد برزت سياسياً مع استلام العباسيين لمقاليد السلطة فإنها ضعفت بعد القضاء على الثورات التي قامت جمد العباسيين، وخاصة أن العباسيين كموا الأفواه. وأخذوا الناس بالشدة، فضعفت الأحزاب، وصودرت الحريات السياسية كذلك سرى الضعف إلى الخطابة الحفلية إذ وضع الأغنياء حاجزاً بينهم وبين الوفود التي كانت تأتي إلى بني أمية واقتصرت على مناسبات زواج أو موت أحد أقاربه أو موت الخليفة نفسه.
يقول الخطيب ابن عتبة المهدي يهنئه بالخلافة ويعزيه بأبيه المنصور:
"أجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله، وبارك لأمير المؤمنين فيما خلفه له أمير المؤمنين بعده، فلا مصيبة أعظم من فقد أمير المؤمنين ، ولا عقبى أفعل من وراثة مقام أمير المؤمنين".
أما الخطابة الدينية في المساجد فقد بقيت مزدهرة يشارك فيها الخلفاء والولاة، ولم تضعف إلاّ عندما طلب الرشيد من الأصمعي أن يعد خطبة لابنه الأمين، وعندما طلب الرشيد نفسه إلى إسماعيل الرشيدي أن يُعد خطبة للمأمون ليخطبا بهما.
ب-الخطابة الدينية في العصر العباسي الأول :
ظل للخطابة الدينية وما اتصل بها من وعظ ازدهارها في هذا العصر على نحو ما كان عليه الخلفاء والولاة يشاركون فيها خلال عصر بني أمية حيث كان للولاة والخلفاء دور بارز في الخطابة الدينية إذ نجد للمهدي خطبة بارعة مأثورة ، كما نجد للرشيد خطبة أخرى رائعة ، على أننا نجد الرشيد يستن سنة كانت سببا في إن تضعف الخطابة عللا السنة الخلفاء وتنزل بمستواها ، إذ طلب إلى الأصمعي إن يعد لابنه الأمين خطبة يخطب بها يوم الجمعة ، كما طلب إلى إسماعيل اليزيدي وابن أخيه أحمد إن يعد خطبة مماثلة يخطب بها المأمون ، وبذلك سن للخلفاء إن يخطبوا بكلام غيرهم ، وكان المأمون معروفا بالفصاحة والجهارة وحلاوة اللفظ وجودة اللهجة والطلاوة . وكان الولاة يجمعون بين الولاية والصلاة ، ويظهر أنهم اخذوا مع مر الزمن يخطبون بكلام غيرهم وقد يندبون من يقوم مقامهم في الصلاة والخطابة .
وذكر الجاحظ عن محمد بن سليمان العباسي والي البصرة والكوفة بعهد المنصور والمهدي انه كانت له خطبة يوم الجمعة لا يغيرها ، وهي خطبة قصيرة . ولكن إذا كانت الخطابة الدينية أخذت تضعف على لسان الولاة والخلفاء ، فإنها أينعت في بيئة الوعاظ النساك ممن كانت تزخر بهم مساجد بغداد والبصرة والكوفة ، وكان بعضهم يلم بمجالس الخلفاء لوعظهم ، وأحيانا كانوا يستقدمونهم ، فيعظونهم حتى يبكرهم ، بما يوقعون في أنفسهم من خشية عقاب الله ، وبما يصورن لهم من زفر جهنم وهم في تضاعيف ذلك يزجرونهم عن ظلم الرعية واقتراف المعاصي والسيئات . ومن كبارهم الذين عرفوا بمقاماتهم المحمودة بين أيدي الخلفاء ثلاثة ، وهم : عمرو بن عبيد المعتزلي الزاهد المشهور وتعظ المنصور ، وصالح بن عبد الجليل واعظ المهدي ، وابن السماك واعظ الرشيد ويروى إن عمرو بن عبيد دخل على أبي جعفر المنصور فقال له : عظني ، فقال :( إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاستر نفسك ببعضها ، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده ))فوجم أبو جعفر المنصور من قوله ، فقال له الربيع حاجب المنصور : يا عمرو غممت أمير المؤمنين ، فقال عمرو :
((إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير لك عليه إن ينصحك يوما واحدا ، وما عمل وراء بابك بشيء من كتاب الله ولا سنة نبيه .))دخل ابن السماك على الرشيد فقال له : عظني ، فقال :((يا أمير المؤمنين ، اتق الله وحده لا شريك له ، واعلم انك واقف غدا بين يدي الله ربك ثم مصروف إلى إحدى منزلين لا ثالث لهما : جنة ، أو نار ، فبكى هارون الرشيد حتى أخضلت لحيته .
1-من خطب الخليفة المهدي العباسي :
الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه ورضي به من خلقه ، احمده على آلائه ، وأمجده لبلائه واستعينه و أومن به وأتوكل عليه توكل راض بقضائه ، وصابر لبلائه ، واشهد أن لا اله لا الله وحده لا شريك له ، و إن محمدا عبده المصطفى ، ونبيه المجتبي ، ورسوله إلى خلقه ، وأمينة على وحيه ، أرسله بعد انقطاع الرجاء وطموس العلم واقترب من الساعة إلى امة جاهلة مختلفة أمية ، أهل عداوة وتضاغن ، وفرقة وتباين ، قد استهوتهم شياطينهم ، وغلب عليهم قرناؤهم ، فاستشعروا الردى ، وسلكوا العمى ، يبشر من أطاعه بالجنة وكريم ثوابها وينذر من عصاه بالنار وأليم عقابها ، ليهلك من هلك عن بينه ، ويحي من حيي عن بيتنة وان الله لسميع عليم أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإن الاقتصار عليها سلامة ، والترك لها ندامة ، وأحثكم على إجلال عظمته ، وتوفير كبريائه وقدرته ، والانتهاء إلى ما يقرب من رحمته وينجي من سخطه ، وينال به ما لديه من كريم الثواب وجزيل المآب ، فاجتنبوا ما خوفكم الله من شديد العقاب واليم العذاب ووعيد الحساب يوم توقفون بين يد الجبار ، وتعرضون فيه على النار .
فإن الدنيا دار غرور وبلاء وشرور ، واضمحلال وزوال وتقلب وانتقال ، قد أفنت من كان قبلكم ، وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم ، من ركن إليها صرعته ، ومن وثق بها خانته ، ومن أملها كذبة ، ومن رجاها خذلته عزها ذل وغناها فقر ، والسعيد من تركها ، والشقي فيها من آثرها ، والمغبون فيها من باع حضه من دار آخرته بها ، فالله الله عباد الله والتوبة مقبولة ، والرحمة مبسوطة ، وبادروا بالأعمال الزكية في هذه الأيام الخالية قبل إن يؤخذ بالكظم وتندموا ، فلا تنالون الندم في يوم حسرة وتأسف وكآبة وتلهف ، يوم ليس كالأيام ، وموقف ضنك المقام ، وان أحسن الحديث وابلغ الموعظة كتاب الله يقول الله تبارك وتعالى أوصيكم عباد الله بما أوصاكم الله به ، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه ، وأرضى لكم طاعة الله واستغفر الله لي ولكم
تحليل الخطبة :
تتضمن هذه الخطبة عدة أفكار :
أولا :حمد لله والثناء عليه بما هو أهله ، والشهادة لله بالوحدانية ولنبيه r بالرسالة ، كما هو معلوم شرعا في مقدمة الخطبة .
ثانيا :حاجة العرب إلى رسالة محمد r لما كانوا عليه من جهالة جهلاء وضلالة عمياء ، تحكمت فيها العصبية القبلية وهانت الأنفس والدماء ، والقوي يأكل الضعيف وعداوة مستحكمة فأصلح أحوالهم ونقلهم من الظلمات إلى النور .
ثالثا : الوصية بتقوى الله وإنذار من عصى بعذاب الله الشديد ، وبشارة من إطاعة بجنة عرضها السموات والأرض أعدها الله لعباده الصالحين يوم يقوم الناس لرب العالمين .
رابعا :الإكثار من الشواهد القرآنية والتركيز على الوعد والعيد والتحذير من الركون إلى الدنيا فهي دار غرور وبلاء وشرور .
خامسا : عدم الركون إلى الدنيا لتقلب أحوالها ، وعدم الثقة بعطائها ونعيمها فهي إلى زوال وهي دار شرور وبلاء وغرور لا ترعى عهدا ولا تحفظ مودة كم من عزيز من أهلها ذل ، وكم من غني افتقر .
سادسا :الحض على التوبة ، وتحقيق شروط قبولها والمبادرة بالأعمال الصالحة ، لنيل رحمة الله تعالى . لان السعيد من ترك التعلق بالدنيا واثر ما عند الله على ما سواه ، والشقي من باع آخرته للحصول على نعيم زائل وجاه زائف .
سابعا :التذكير بيوم القيامة يوم الحسرة والأسف والندامة .
ثامنا :الوصية في آخر الخطبة بالالتزام بكتاب الله ، فهو أحسن الحديث وفيه ابلغ موعظة ، والتذكير بطاعة الله تعالى .
تاسعا :الإكثار من الشواهد القرآنية .
2-خطبة هارون الرشيد الخليفة العباسي :
خطب قائلا : ( الحمد لله نحمده على نعمته ونستعينه على طاعته ، ونستنصره على أعدائه ونؤمن به حقا ، ونتوكل عليه مفوضين إليه ، واشهد إن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله ، بعثه على فترة من الرسل ودروس من العلم وأدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة بشيرا بالنعيم ونذيرا بين يدي عذاب اليم فبلغ الرسالة ونصح الأمة ، وجاهد في الله فادى عن الله وعده ووعيده حتى أتاه اليقين فعلى النبي من الله صلاة ورحمة وسلام ، وأوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإن في التقوى تكفير السيئات وتضعيف الحسنات وفوزا بالجنة ونجاة من النار ، وأحذركم يوما تشخص فيه الأبصار ، وتبلى فيه الأسرار ، يوم البعث ويوم التغابن ويوم التلاقي في ويوم التنادي ، يوم لا يستعيب من سيئة ولا يزداد من حسنة ،(وانذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خآنية الأعين وما تخفي الصدور) [غافر :18-19](واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون )[البقرة:281] عبا الله إنكم لم تخلفوا عبثا ولن تتركوا سدى ، حصنوا إيمانكم بالأمانة ، ودينكم بالورع وصلاتكم بالزكاة ، فقد جاء في الخبر إن النبي r قال :(( لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ، ولا صلاة لمت لا زكاة له )) ، إنكم سفراء مجتازون ، وانتم عن قريب تنتقلون من دار فناء إلى دار بقاء ، فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة والى الرحمة بالتقوى والى الهدى بالأمانة ، فإن الله تعالى ذكره اوجب رحمته للمتقين ومغفرته للتائبين وهداه للمنيبين ، قال الله عز وجل وقوله الحق :( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكوة) [الأعراف :156] وقال :( لمن تاب وامن وعمل صالحا ثم اهتدى)[طه:82] وأيكم والأماني فقد غرت وأوردت و اوبقت كثيرا حتى أكذبتهم مناياهم فتناوشوا التوبة من مكان بعيد ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، فأخبركم ربكم عن المثلات فيهم ، وصرف الآيات ، وضرب الأمثال ، فرغب بالوعد وقدم إليكم الوعيد ، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلا فجيلا ، وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والشعائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم ومن بين أظهركم لا تدفعون عنهم ، ولا تحولون دونهم ، فزالت عنهم الدنيا وانقطعت بهم الأسباب فأسلمتهم إلى إعمالهم عند المواقف والحساب والعقاب ليجزي الذين اساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، إن أحسن الحديث وابغ الموعظة كتاب الله عز وجل
( وإذا قرى القرءان فاستمعوا له ، وأنصتوا لعلكم ترحمون ) [الأعراف :204] أمركم بما أمر الله ، وأنهاكم عما نهى الله عنه ، واستغفر الله لي ولكم )
تحليل الخطبة :
يلاحظ إن الخطبة لا تخلو من طول ، وتتضمن باقة من الأفكار :
أولا : بدأ الخطبة بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله مع الشهيد .
ثانيا : تشبه إلى حد كبير خطبة أبيه الخليفة المهدي وتنطوي على نفس الأفكار تقريبا .
حيث تضمنت حاجة البشرية عامة والعرب خاصة إلى رسالة النبي r التي جاءت على فترة من الرسل .
ثالثا :الوصية بالتقوى لأنها أساس الإيمان ومفتاح النجاة عند الله ، وبها تنال رحمة الله .
رابعا :التحذير من كربات يوم القيامة ، والحث على طاعة الله تعالى التي بها ينال العبد الفوز بالجنة ، والحذر من المعاصي التي تهلك صاحبها وترديه في النار .
خامسا :الإشارة إلى إن الله سبحانه وتعالى ضرب لعباده الأمثال ورغب عباده بالوعد ، وحذرهم بالوعيد .
سادسا :الحذر من أماني الشيطان التي تقوم على الغرور والتعلق بالدنيا وذلك رأس كل خطيئة .
سابعا :الحث على التوبة الصادقة والوفاء بالعهود والوعود وأهمها الوفاء بعهد الله وعهود الناس لأنها أساس الدين وأداء الأمانات لأهلها وعلى رأسها أمانة التكليف التي اخذ الله ميثاقها على عباده عندما كانوا في الأصلاب .
ثامنا : كثرة الاستشهاد من القران الكريم والدعوة إلى الالتزام به ، والاعتصام بهديه .
3-خطبة المأمون الخليفة العباسي يوم الجمعة :
خطب فقال :( الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه ، ومستوجبه على خلقه ،احمده واستعينه وأومن به وأتوكل عليه ، واشهد أن لا اله إلا لله وحده لا شريك له ، واشهد إن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أوصيكم عباد الله بتقوى الله وحده والعمل لما عنده ، والتنجز لوعده والخوف لوعيده ، فإنه لا يسلم إلا من اتقاه ورجاه وعمل له وأرضاه، فاتقوا الله عباد الله ، وبادروا آجالكم بإعمالكم ، وابتاعوا ما يبقي بما يزول عنكم ، وترحلوا فقد جد بكم ، واستعدوا للموت فقد أظلكم ، وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا وعلموا إن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا ، فإن الله لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى ، وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت إن ينزل به ، وان غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة الواحدة لجديرة بقصر المدة ، وان غائبا يحدوه الجديدان الليل والنهار لحري بسرعة الأوبة ، وان قادما يحل بالفوز أو بالشقوة لمستحق لأفضل العدة ، فاتقى عبد ربه ونصح نفسه ، وقدم توبته ، وغلب شهوته ، فإن اجله مستور عنه وأمله خادع له والشيطان موكل به يزين له المعصية ليركبها ويمنيه التوبة ليسوفها حتى تهجم عليه منيته اغفل ما يكون عنها ، فيالها حسرة على ذي غفلة إن يكون عمره عليه حجة أو تؤديه أيامه إلى شقوة .
نسأل الله إن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة ، ولا تقصر به عن طاعته غفلة ، ولا تحل به بعد الموت فزعة ، انه سميع الدعاء بيده الخير ، إنه فعال لما يريد
تحليل الخطبة :
يلاحظ إن التشابه كبير في خطب الخلفاء العباسيين :
أولا : حمد اله والثناء عليه والتشهد وهذا من أركان الخطبة .
ثانيا : الوصية بالتقوى والعمل لما عند الله ابتغاء مرضاته للفوز بجنته والنجاة من ناره .
ثالثا :العظة بحدث الموت لأنه قضاء مبرم على الخلائق والاستعداد لما بعده .
رابعا :التحذير من الركون إلى الدنيا وزينتها لان فتنتها كبيرة ومهلكة وإنها ليست دار إقامة ، والله سبحانه لم يخلق الخلق عبثا ولم يتركم سدى .
خامسا :الترغيب بالجنة والعمل لها ليكون من أهلها ، والترهيب من الغفلة عن العمل للآخرة .
سدسا : التحذير من خداع الشيطان وحيله فهو عدو لبني ادم يزين لهم المعاصي ليركبوها ويمنيهم بالتوبة ليؤجلها لكن الموت يباغتهم وحينئذ لا ينفع الندم وتكون أيام العمر حجة على الغافلين فيا لها من حسرة تغم صاحبها وتدفعه إلى دار الشفاء .
سابعا :ختم الخطبة بالدعاء له وللمسلمين وسال الله تعالى إلا تبطره النعم ولا تقصر به عن طاعة الله تعالى .
ج-الخطابة الدينية في العصر العباسي الثاني
إذا كانت الخطابة الدينية ضعفت على السنة الخلفاء ، فإنها نشطت في المساجد ، حيث كانت تعقد حلقات للوعاظ والقصاص ، وكان الناس يتحلقون من حولهم ، وكان منهم الرسميون الذين تعينهم الدولة للخطابة في أيام الجمع ، ومنهم غير الرسميين وهم الجمهور الأكبر ، وكانوا يستمدون وعظهم وخطبهم من القران الكريم والحديث النبوي الشريف وقصص الأنبياء والمرسلين ، ومنهم من كان يقرا القران الكريم ويفسره وكثير منهم يذهب من الجيوش المجاهدة للوعظ في الحرب وبث روح الحماسة الدينية في نفوس المجاهدين ، من مثل أبي العباس الطبري الذي كان يذهب إلى الجهاد ، ويتولى أمر الوعظ والإرشاد للجند
وكثيرا ما كانت الخطب والمواعظ تنشط في رمضان ، فلا يخلو يوم من أيام رمضان ولا وقت من أوقات الصلاة فيه إلا وكان واعظ يقوم بعد الصلاة فيقف في الناس واعظا وخطيبا ، وكان الخطيب هو الذي يقوم بالخطابة والموعظة وإقامة الصلاة في الجمع والأعياد ، وكان كثير منهم فصحاء بلغاء يستحوذون على إعجاب الجماهير فيحتشدون حولهم مكبرين لهم إكبارا عظيما ، وكانت المساجد دائما مفتوحة ليلا نهرا تغص بالمصلين وحلقات التدريس تستقطب روادها من طلبة العلم.
ومن الجدير بالذكر إن الخطابة في هذا العصر كانت تمر بأطوار متفاوته ما بين خمود وازدهار .
فقد كانت مزدهرة في الطور الأول من العصر العباسي الثاني ، لكنها غدت في الطور الثاني الذي استبد فيه الأتراك بالخلفاء وهان شأنهم وفقد كل سلطان لديهم وقطعت الصلة بينهم وبين الناس . فلم يعد لهم أي أثر في الحياة ، وحجبوا عن شعبهم وماتت أسباب الفصاحة والقول والخطابة في المناسبات المختلفة ، وبلغ تحكم الأتراك بالخلفاء إلى درجة منعهم من الخروج إلى الصلوات الجامعة ، وأوكلوا مهمة الخطابة إلى غيرهم من العلماء وكان آخر خليفة خطب على منبر هو ((الراضي بالله)) المتوفى 329هـ ، وازداد الأمر سوءا ومعه الخطابة الدينية تراجعا في عهد البويهيين 324هـ ، وعهد السلجوقيين 447هـ حيث آخر الألسن وفقدت الخطابة أهم مقوماتها وهو حرية القول التي بها تحيا ، وبما إن البويهيين والسلاجقة أعاجم لم يتذوقوا جمال اللغة العربية ولم يفهموا حقيقة الدين من خلال كتاب الله الذي انزل بلسان عربي مبين ، لذلك لم يولوا اهتماما باللغة العربية ، فتوارت الفصاحة وتوارى البيان رويدا رويدا وعجزت الألسنة عن المشافهة والارتجال في الخطابة الدينية ، فضعف شانها وهانت مكانتها لفقدان تأثيرها في النفوس ، وهان لامعها شان الخطيب وازدادت هوانا إذ صار الخطيب يلجا إلى الكلام أعده غيره ومن إعداده أحيانا ويلقي خطبته من أوراق مكتوبة ، واعتمد الخطيب في خطب الجمعة والعيدين على السجع المتكلف والإغراق في المبالغة ، فصارت فارغة من الروعة والتأثير ،لكن الأمر لم يستمر على هذا الحال ، فقد تبدلت الظروف السياسية والأحوال العامة حيث تعرض العالم الإسلامي إلى عدوان الحروب الصليبية فشنوا حملاتهم المتوالية على بلاد الشام ومصر وشطرا من العراق .
د-خصائص الخطابة في هذه المرحلة :
تميزت الخطابة في هذا العهد :
1-الاقتباس من القرآن الكريم:لتأكيد ما يذهب إليه الخطباء من حمل النفوس على الجهاد والصبر على ملاقاة الأعداء وما أعده الله لهم من الجنة وعظيم المنزلة ، 2-الاستشهاد بالشعر:كما فعل ((ابن نجا)) فقد كان ينشد على المنبر ما يصلح للاستشهاد به من شعره كقوله :
وكيف بقاء عمرك وهو كنز وقد أنفقت منه بلا حساب
وكما في خطب ((سبط ابن الجوزي )) المتوفى سنة 654 هـ ، وقد طلب إليه في يوم عاشوراء أن يتحدث عن مقتل الحسين بن علي t ، فصعد المنبر وطال صمته ثم بكى بكاء شديدا، ثم أنشأ يقول في غمرة البكاء :
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه والصور في نشر الخلائق ينفخ
لابد أن ترد القيامة فاطمه وقميصها بدم الحسين ملطخ
3- الإصرار على السجع والتهافت على المحسنات البديعية:
4-تحبير الألفاظ :
5-واختيار الأساليب
ه-أشهر الخطباء في هذا العصر :
1-الخليفة المهدي
2-هارون الرشيد
3-المأمون






2ً- الموعظة التقوية:
رداً على ظهور تيار المجون والفسق في العصر العباسي، ازدهر في المساجد فن الوعظ وتبنّاه مجموعة من الوعاظ و السناك والزهاد والفقهاء والمتحدثين والمتكلمين ، وكان هؤلاء الوعاظ يجلسون في مجالس الخلفاء يذكرونهم بمخافة الله وعدم ظلم الرعية، وعدم افتراق المعاصي. كما كانوا يحدثون عامة الناس بدروس الإرشاد ، ومن زعماء الوعاظ:
(عمرو بن عبيد المعتزلي – صالح بن عبد الجليل واعظ المهدي- ابن السمّاك واعظ الرشيد .
وقد كان ابن عبد الجليل يطيل في وعظ المهدي حتى يبكيه ومن ذلك قوله:
((... كان أصحاب رسول الله يقولون: من حجب الله عنه العلم عذّبه على الجهل، وأشدُّ منه عذاباً من أقبل إليه العلم فأدبر عنه. فاقبل ما أهدى إليك الله من ألسنتنا)).
ويقول ابن السحّاك واعظاً الرشيد :
("يا أمير المؤمنين ، اتق الله وحده.....واعلم أنك واقف غدا مبين يدي الله ، مصروف إلى إحدى المنزلتين)".





3ً- القصص :
اعتمد الوعاظ في محاولاتهم الوعظية على ركائز أسهمت في ايصال الوعظ إلى المتلقين ، وذلك باستخدام أشياء متعددة تحمل في طياتها العبرة للمتعظين كالقصص الديني ، والقصص الواقعي المستمد ممن تجارب المعاصرين للوعاظ أو تجارب العصور السابقة لهم ، وقد كثر هؤلاء القصاص ، وعقد لهم الجاحظ فصلا في كتابه :"البيان والتبين".
ومن هؤلاء القصاص : موسى بن سيار الإسواري ، وكان يقص باللغتين العربية والفارسية ، وصالح المريّ الذي يقول في إحدى مواعظه معزيا عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة في موت ابنه:
".....إن كانت مصيبتك في ابنك أحدثت لك عظة في نفسك فنعم المصيبة مصيبتك ،وإن لم تكن أحدثت لك عظة في نفسك ، فمصيبتك في نفسك أعظم من مصيبتك في ابنك".
وقد ارتقى هؤلاء الوعاظ بصناعة النثر وطوروها من حيث المعاني وأضافوا لها معاني جديدة معتمدين لتحسين أساليبهم على :
-الدقة في اختيار اللفظ.
-الاحساس المرهف بجمال السبك و الصياغة.






4ً- المناظرات :
وهي المحاججات التي وقعت بين أصحاب الكلام والعلم والفلسفة والدين ، ولقد أسهمت هذه المناظرات التي كانت تعقد بين العلماء والمحدثين والفقهاء والفلاسفة في إغناء وتطور الثقافة الإسلامية تطوراً كبيراً من حيث الطريقة والأسلوب ومن حيث المعنى والفهم.
وتعد فرقة المعتزلة من الفرق التي أسهمت في تنشيط هذه الحركة الثقافية وعلى رأس هؤلاء المعتزلة "واصل بن عطاء – عمرو بن عبيد".
ونهض النثر العباسي من خلالهما نهضة رائعة حتى إنّ المتكلم كما يقول الجاحظ لا يعد جامعاً لأقطاب الكلام إن لم يحسن كلام الدين والفلسفة والعلوم الأخرى.وقد عقدت هذه المناظرات في العصر العباسي رداً على الملحدين والزنادقة من جهة ، وتفنيداً لدور العقل في الدين وإرساء لمبدأ أحقية الخلافة ، وكانت هناك نظريات كلامية في الروح والنفس والحواس والجسم والخير والشر والاستطاعة ، والقدر ثم انتقلت هذه المناظرات بل الجانب الديني إلى الجانب النحوي كما حدث بين الكسائي الكوفي وبين البصري .
وقد شجع الخلفاء أصحاب العلم في المناظرات فكانوا يعقدون لهم المجالس ، كما صنع البرامكة وعلى رأسهم يحيى بن خالد البرامكي ، وكما صنع المأمون ، وكما حصل في عصر المعتصم من جدال حول مسألة خلق القرآن .
وقد تحدث المسعودي عن هذه المناظرات وذكر من أصحابها:أبا هذيل العلاف – أبا اسحق ابراهيم بن سيّار النظام.
وكانت الخلافة تجري عليهم الرواتب الشهرية ، وكانت معظم المناظرات تدور بين المعتزلة ومن يعتنقون التشيع الغالي وأرباب الملك السماوية ، والنحل غير السماوية من الدهرية والمنانوية.
يقول أبو هذيل العلاف في مناظرته لأحد اليهود:
"أسألك أم تسألني ؟ فقال له اليهودي : بل أسألك فقال اليهودي : أتعترف بأن موسى نبيٌ صادق أم تنكر ذلك ، فقال له أبو هذيل : إن كان موسى الذي تسألني عنه هو الذي بشر بنبيي عليه السلام ، وشهد بنبوته وصدقه فهو بني صادق ، وإن كان غير من وصفت فذلك شيطان لاأعترف بنبوته".
وقد عقد أهل المناظرات مناظرة بين الكلب والديك فذكروا مساوئ الديك ومحاسنه ، ومحاسن (منافع) الكلب ومساوئه.





5- الرسائل :
أحد فنون النثر التي انتشرت في العصر العباسي
وهي نوعان :
أ-الرسائل الديوانية :
وتعد هذه الرسائل من أهم ما كتب في العصر العباسي لأنها مرتبطة بسياسة الخليفة وما يحتاجه من مراسلات مع الولاة والقادة ، ويشترط فيمن يكون قيما أن تكون لديه خبرة واسعة في الكلمة وفي فهم التاريخ والدين والواقع ، إذ إن من كان يستوزر برئيس للديوان كان يحظى بمنزلة رفيعة ، ومن هنا كان معظم الوزراء من المقتدرين علمياً وثقافياً وأدبياً ولغوياً ،
موضوعاتها:
وقد تناولت
الرسائل الديوانية النقاط التالية:
1- أعمال الدولة .
2- البيعة للخلفاء .
3-الفتوح والجهاد.
4- تولية الولاة .
5- تعين ولاة العهود .
6- مواسم الحج والأعياد.
7- أمور الرعية المنقولة إلى الخلفاء.
وأبرز من كتبوا في هذا الفن :
عمارة بن حمزة – اسماعيل بن صبيح – محمد بن الليث.
وقد بلغت الرسالة الديوانية في عصر المأمون الذروة مركزة على :
-العناية بالجمال الفني .
-التدقيق في المعاني بشكل كبير .
يقول اسماعيل بن صبيح في رسالة باسم الخليفة الرشيد إلى الولاة بما الأمين والمأمون من العهد بعده وتعليق هذا العهد في بيت الله الحرام :
"وقد كان من نعمة الله عز وجل عند أمير المؤمنين وعندك وعند عوامِّ المسلمين ما تولى الله من محمد وعبد الله ابنيّ أمير المؤمنين من تبليغه بهما أحسن ما أملت الأمة ومدت إليه أعناقها،
وقذف الله لهما في قلوب العامة من المحبة لقوام أمورهم ، وصلاح دهمائهم حتى ألقوا إليهما أزمتهم وأعطوهما بيعتهم بالعهود و وكيد الأيمان المغلظة عليهم أراد الله فلم يكن له مردٌّ ، وأقضاه فلم يقدر أحد من العباد على نقضه ولا إزالته ".
ب-الرسائل الإخوانية :
وهي الرسائل التي تصور عواطف الأفراد ، وما يفعل في نفوسهم من رغبة ورهبة ومديح وهجاء وعتاب واعتذار كما في رسائل ابن المقفع " الأدب الكبير والأدب الصغير" . وما جاء بهما من تصوير للأخوة والصداقة ، كما في مناسبات الزواج والظفر على الأعداء وغير ذلك من الأمور ، وقد تميزت هذه الرسائل بدقة التصوير للمعاني والتعبير عنها بأساليب جديدة.
يقول ابراهيم بن الهدي في رسالة يهنئ فيها المعتصم في انتصار في عمورية:
"الحمد لله الذي تم لأمير المؤمنين غزوته ، فأذل بها رقاب المشركين وشفى بها صدور قوم مؤمنين ، ثم سهل الله له الأوبة سالماً غانماً ".
ويضاف إلى هذه الأنواع :
ج- الرسائل الأدبية:
وهي فرع نما دوحة الرسائل الإخوانية ، يتناول النفس الإنسانية ، ويصور أهوائها وأخلاقها، ويوضح طريقها كي لا تسقط هذه النفس في مهاوي الشر .
وقد برز من كتّاب هذا النوع : يحيى بن زياد – غسان بن عبد الحميد.
يقول يحيى بن زياد راداً على رسالةٍ لابن المقفع في انعقاده الأخوة:
"فنسبنا الإخاء فوجدناه في نسبته لا يستحق اسم الإخاء إلا بالوفاء ، فلما انتقلنا عنا إلى الوفاء فنسبناه انتسب لنا إلى البر ، فوجدناه محتوياً على الكرم والنجدة والصدق والحياء والنجابة ".



نماذج من الرسائل في العص العباسي :
1-كتب أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429 هـ :
خبر عز على مستمعه , وأثر في قلبي موقعه . خبر تستاء له المسامع وترتج منه الاضالع , خبر يهد الرواسي ويفلق الحجر . كادت القلوب تطير والعقول تطيش والنفوس تطيح . خبر يشيب الوليد . ويذيب الحديد , قد كاد من الحزن أن تنقبض الألسن عن هذا النعي الفادح , وتخرس , وتقصر الأيدي عن التعزية بهذا الرزء الفادح وتيبس .
2-كتب ابن الرومي المتوفي سنة 284 هـ إلى بعضهم : أذن الله في شفائك وتلقة داءك بدوائك , ومسح بيد العافية عليك , ووجه وفد السلامة إليك وجعل علتك ماحية لذنوبك مضاعفة لثوابك .
3-وكتب أبو بكر الخوارزمي المتوفي سنة 383 هـ :
وصل كتابك يا سيدي فسرني نظري إليه ثم غمني اطلاعي عليه , لما تضمنه من ذكر علتك , جعل الله أولها كفارة وآخرها عافية , ولا أعدمك على الأولى أجرا ً وعلى الأخرى شكرا ً .
وبودي لو قرب على متناول عيادتك , فاحتملت عنك بالتعهد والمساعدة بعض أعباء علتك فلقد خصني من هذه العلة قسم كقسمك , ومرض قلبي فيك لمرض جسمك , وأظن إني لو لقيتك عليلا ً لانصرفت عنك , وأنا اعل منك فاني بحمد الله جلد على أوجاع أعضائي غير جلد على أوجاع أصدقائي – شفاك الله وعافاك .
4-كتب في التهنئة بميلاد الأولاد أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429 هـ :
أهلا ً وسهلا ً بعقيلة النساء وأم الأبناء وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار
ولو كان النساء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ٌ ولا التذكير فخر ٌ للهلال
والله يعرفك البركة في مطلعها والسعادة بموقعها فالدنيا مؤنثة والناس يخدمونها والذكور يعبدونها , والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية وفيها كثرت الذرية والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحليت بالنجوم الثواقب . والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام ولا تحرك الأنام , والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون وفيها تنعم المرسلون فهنيئا ً ما أوليت وأوزعك الله شكر ما أعطيت , وأطال بقاءك ما عرف النسل وبقي الأبد .
5-وكتب بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398 هـ إلى الداوردي يهنئه بمولود :
حقا ً لقد أنجز الإقبال وعده ووافق الطالع سعده وإن الشأن لفيما بعده وحبذا الأصل وفرعه وبورك الغيث وصوبه وأينع الروض ونوره وحبذا سماء اطلعت فرقدا ً , وغابة أبرزت أسدا ً وظهر وافق سندا ً وذكر يبقى أبدا ً ومجد يسمى ولدا , وشرف ٌ لحمة وسدى .
أنجب كل من والديه به إذا نجلاه فنعم ما نجلا
فألفياه شهاب ذكاء وبدر علاء .
ووجداه ابن جلا ابيض يدعى الجفلى
لمثله أولى فلا إذا الندى احتفلا
6-وكتب في التهنئة بالقدوم أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429 هـ : أهنئ سيدي ونفسي تطيب بما يسر الله من قدومه سالما واشكر الله على ذلك شكرا دائما ً جعل الله قدومك مقرونا بالخيرة التامة العامة . والكفاية الشاملة الكاملة .
غيبة المكارم مقرونة بغيبتك وأوبة النعم موصولة بأوبتك فوصل الله قدومك من الكرامة , بإضعاف ما قرن به مسيرك من السلامة وهناك بإيابك وبلغك غاية محابك , ما زلت بالنية معك مسافرا ً وباتصال الذكر والفكر ملاقيا ً إلى أن جمع شمل سروري بأوبتك وسكن نافر قلبي بعودتك .
7-وكتب أيضا في التهنئة برمضان :
ساق الله إليك سعادة إهلاله وعرفك بركة كماله لقاك فيه ما ترجوه ورقاك إلى ما تحب في تتلوه , جعل الله ما يطول من هذا الصوم مقرونا ً بأفضل القبول مؤذنا ً بدرك الغيبة ونجح المأمول , ولا أخلاك من بر مرفوع ودعاء مسموع , قابل الله بالقبول صيامك وبعظيم المثوبة تهجدك وقيامك أعاد الله إلى مولاي أمثاله وتقبل فيه أعماله , واصح في الدين والدنيا أحواله , وبلغه منها آماله . اسعد الله مولاي بهذا الشهر ووفاه فيه أجزل المثوبة والأجر .
8-وكتب أبو الفرج الببغاء المتوفي سنة 398 هـ تهنئة :
سيدي – أيده الله – ارفع قدرا وأنبه ذكرا وأعظم تبلا ً وأشهر فضلا من أن نهنئه بولاية وإن جل خطرها وعظم قدرها لأن الواجب تهنئة الأعمال بفائض عدله والرعية بمحمود فعله والأقاليم بآثار رياسته والولايات بسمات سياسته فعرفه الله يمن ما تولاه ورعاه في سائر ما استرعاه , ولا أخلاه من التوفيق فيما يعانيه والتسديد فيما يبرمه ويمضيه .
9-كتبالأمير أبو الفضل الميكالي المتوفي سنة 436 هـ :
إنما أشكو إليك زمانا سلب ضعف ما وهب وفجع بأكثر مما متع وأوحش فوق ما انس وعنف في نزع ما البس , فانه لم يذقنا حلاوة الاجتماع حتى جرعنا مرارة الفراق , ولم يمتعنا بأنس الالتقاء حتى غادرنا رهن التلف والاشتياق .
( والحمد لله تعالى على كل حال ) يسوء ويسر ويحلو ويمر , ولا أيأس من روح الله في إباحة صنع يجعل ربعه مناخى ويقصر مدة البعاد والتراخي , فألاحظ الزمان بعين راض ويقبل إلى حظي بعد إعراض واستأنف بعزته عيشا عذب الموارد والمناهل , مأمون الآفات والغوائل .
10-كتب بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 397 هـ :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني إني خطرت ببالك
الأمير أطال الله بقاءه في حالي بره وجفائه متفضل , وفي يومي إدنائه وإبعاده متطول وهنيئا ً له من حمانا ما يحله ومن عرانا ما يحله ومن أعراضنا ما يستحله .
بلغني انه – أدام الله عزه – استزاد صنيعه فكنت أظنني مجنيا ً عليه مساء إليه , فإذا أنا في قرارة الذنب ومثارة العتب وليت شعري أي محظور في العشرة حضرته أو مفروض من الخدمة رفضاه أو واجب في الزيارة أهملته وهل كنت إلا ضيفا ً أهداه منزع ٌ شاسع وأداه أمل واسع وحداه فضل وإن قل , وهداه رأي وإن ضل , ثم لم يلق إلا في آل مكال رحله ولم يصل إلا بهم حبله , ولم ينظم إلا فيهم شعره , ولم يقف إلا عليهم شكره .
ثم ما بعدت صحبة إلا دنت مهانة ولا زادت حرمة إلا نقصت صيانة ولا تضاعفت منة ٌ إلا تراجعت منزلة ولم تزل الصفة بنا حتى صار وابل الإعظام قطره وعاد قميص القيام صدره ودخلت مجلسه وحوله من الأعداء كتيبة فصار ذلك التقريب ازورارا ً وذلك السلام اختصارا والاهتزاز إيماء والعبارة إشارة وحين عاتبته أمل أعتابه وكاتبته انتظر جوابه وسألته ارجوا يجابه , أجاب بالسكوت فما ازددت له إلا ولاء وعليه ثناء ولا جرم إني اليوم ابيض وجه العهد واضح حجة الود طويل لسان القول , رفيع حكم العذر , وقد حملت فلانا من الرسالة ما تجافى القلم عنه .
والأمير الرئيس – أطال الله بقاءه – ينعم بالإصغاء لما يورده موفقا ً إن شاء الله تعالى .
11-وكتب أيضا إلى القاسم الكرجي المتوفي سنة 400 هـ :
أنا – وإن لم الق تطاول الإخوان إلا بالتطول , وتحامل الأحرار إلا بالتحمل – أحاسب مولاي – أيده الله – على أخلاقه ضنا ً بما عقدت يدي عليه من الظن به , والتقدير في مذهبه , ولولا ذلك لقلت في الأرض مجال ٌ إن ضاقت ظلالك وفي الناس واصل إن رثت حبالك وأخذه بأفعاله .
فإن أعارني أذنا واعية ونفسا ً مراعية وقلبا متعظا ً ورجوعا ً عن ذهابه ونزوعا ً عن هذا الباب الذي يقرعه ونزولا عن الصعود الذي يفرعه فرشت لمودته خوان صدري وعقدت عليه جوامع خصري ومجامع عمري وإن ركب من التعالي غير مركبه وذهب من التغالي في غير مذهبه أقطعته خطة أخلاقه ووليته جانب إعراضه .
لا أذود الطير عن شجر قد بلوت المر من ثمره
فاني وأن كنت في مقتبل السن والعمر , قد حلبت شطري الدهر وركبت ظهري البر والبحر ولقيت وفدي الخير والشر وصافحت يدي النفع والضر وضربت إبطي العسر واليسر , وبلوت طعمي الحلو والمر ورضعت ضرعي العرف والنكر فما تكاد الأيام تريني من أفعالها غريبا ً وتسمعني من أحوالها عجيبا ً ولقيت الأفراد وطرحت الآحاد فما رأيت أحدا ً إلا ملأت حافتي سمعه وبصره , وشغلت حيزي فكره ونظره وأثقلت كتفه في الحزن وكفته في الوزن ووددت لو بادر القرن صحيفتي , أو لقي صفحتي فمالي هذا الصغر في عينه ومال الذي أزرى بي عنده حتى احتجب وقد قصدته ولزم أرضه وقد حضرته .
وأنا احاشيه أن يجهل قدر الفضل , أو يجحد فضل العلم أو يمتطي ظهر التيه على أهليه واسأله أن يخصني من بينهم بفضل إعظام إن زلت بي مرة قدم في قصده وكأني وقد غضب لهذه المخاطبة المجحفة والرتبة المتحيفة وهو في جنب جفائه يسير فإن اقلع عن عادته وترع عن شيمته في الجفاء فأطال الله بقاء الأستاذ الفاضل وأدام عزه وتأييده .
12-وكتب أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفي بالبصرة عام 255 هـ :
والله يا قليب : لولا أن كبدي في هواك مقروحة وروحي مجروحة لساجلتك هذه القطيعة ومادتك حبل المصارمة وأرجو أن الله تعالى يديل لصبري من جفائك , فيردك إلى مودتي وانف القلي راغم .
فقد طال العهد بالاجتماع حتى كدنا نتناكر عند اللقاء والسلام .
13-وكتب أبو بكر الخوارزمي المتوفي سنة 383 إلى تلميذه : كتابي وقد خرجت من البلاء خروج السيف من الجلاء وبروز البدر من الظلماء وقد فارقتني المحنة , وهي مفارق لا يشتاق إليه , وودعتني وهي كودع لا يبكي عليه , والحمد لله تعالى على محنة يجليها , ونعمة ينيلها ويوليها كنت أتوقع أمس كتاب مولاي بالتسلية واليوم بالتهنية , فلم يكاتبني في أيام البرحاء بأنها عمته ولا في أيام الرخاء بأنها سرته ! وقد اعتذرت عنه إلى نفسي وجادلت عنه قلبي . فقلت : أما إخلاله بالأولى , فلأنه شغله الاهتمام بها عن الكلام فيها . وأما تغافله عن الأخرى فلأنه أحب أن يوفر على مرتبة السابق إلى الابتداء , بنفسه على محل الاقتداء لتكون نعم الله سبحانه على موفورة من كل جهة ومحفوفة بي من كل رتبة , فإن كنت أحسنت الاعتذار عن سيدي فليعرف لي حق الإحسان وليكتب إلي بالاستحان , وإن كنت أسأت فليخبرني بعذره اعرف مني بسره وليرض مني بأن حاربت عنه قلبي , واعتذرت عن ذنبه , حتى كأنه ذنبي وقلت يا نفس اعذري أخاك وكفاك منه ما أعطاك , فمع اليوم غذ – والعود احمد .
14-كتب بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398 هـ :
اسمع نصيحة ناصح جمع النصيحة والمقه
إياك واحذر أن تكون من الثقات على ثقة
صدق الشاعر وأجاد وللثقات خيانة في بعض الأوقات : هذه العين تريك السراب شرابا ً وهذه الأذن تسمعك الخطأ صوابا ً بمعذور إن وثقت بمحذور , وهذه حالة الواثق بعينه السامع بإذنه .
وارى فلانا يكثر غشيانك وهو الدنيء دخلته الرديء جملته السيئ وصلته الخبيث كلمته , وقد قاسمته في رزك وجعلته موضع سرك فأرى موضع غلطك فيه , حتى اريك موضع تلافيه : أفظاهره غرك ؟ امباطنه سرك ؟ ؟ .
يا مولاي يوردك ثم لا يصدرك ويوقعك ثم لا يعذرك فاجتنبه ولا تقربه وإن حضر بابك فاكنس جنابك وإن مس ثوبك فاغسل ثيابك وإن لصق بجلدك فاسلخ أهابك , ثم افتتح الصلاة لعنه وإذا استعذت بالله من الشيطان فاعنه .
15-وكتب أبو إسحاق الصابئ إلى بعض الرؤساء :
قد جرت العادة – أطال الله بقاء الأمير – بالتمهيد للحاجة قبل موردها وإسلاف الظنون الداعية إلى نجاحها . وسالك هذه السبيل يسيء الظن بالمسئول فهو لا يلتمس فضله إلا جزاء , ولا يستدعي طوله إلا قضاء , والأمير بكرمه الغريب ومذهبه البديع يؤثر أن يكون السلف له والابتداء منه , ويوجب على المهاجم برغبته إليه حق الثقة به . فالحمد لله الذي افرد بالطرائق الشريفة , ووحده بالخلال المنيفة وجعله عين زمانه البصيرة ولمعته الباقية المنيرة .
16-وكتب محمد بن عياد إلى جعفر بن محمد وزير المعتز وكان يتقرب إليه :
مازلت – أيدك الله تعالى – أذم الدهر بذمك إياه , وانتظر لنفسي ولك عقباه , وأتمنى زوال من لا ذنب له , إلى عاقبة محمودة تكون بزوال حاله , واترك الأعذار في الطلب على الاختلال الشديد ضنا ً بالمعروف عندي إلا عن أهله وحبا ً لرجائي إلا عن مستحقه .
17-ومن أرق الاستماحة ما كتبه عبيد الله بن طاهر إلى سليمان بن وهب :
أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا واشغفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له : نعماك فيها أتمها ودع أمرنا إن المهم المقدم
فأعجب سليمان بلطف طلبه في تهنئته وقضى حوائجه .
وقال أعرابي لرجل : ما اتهمت حسن ظني بك , منذ توجه رجائي نحوك ولا قعدت بجد قائل باعتمادي عليك , ولا استدعتني رغبة عنك إلى من سواك ولا أراني الاختيار غيرك عوضا ً عنك منك .
18-وكتب بديع الزمان الهمذاني في بابه إلى بعض أصحابه :
لك – أعزك الله – عادة فضل في كل فضل ولنا شبه مقت في كل وقت ولعمري أن ذا الحاجة مقيد , الطلعة ثقيل الوطاة ولكن ليسوا سواء .
19-كتب أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429 هـ :
الشكر ترجمان النية ولسان الطوية وشاهد الإخلاص وعنوان الاختصاص عندي من أنعامه وخاص بره وعامه , ما يستغرق منه الشكر , ويستنفد قوة النشر ,شكر الأسير لمن أطلقه والمملوك لمن اعتقه شكر كأنفاس الأحبار أو أنفاس الرياض غب الأمطار .
20-وكتب الحسن بن وهب المتوفي سنة 482 هـ :
من شكرك على درجة رفعك إليها أو ثروة أقدرته عليها فإن شكري لك على مهجة أحييتها , وحشاشة أبقيتها ورمق أمسكت به وقمت بين التلف وبينه فلكل نعمة من نعم الدنيا حد ينتهي إليه , ومدى تقف عنده , وغاية من الشكر لا يسمو إليها الطرف , خلا هذه النعمة التي فاقت الوصف وأطالب الشكر وتجاوزت قدره وأنت من وراء كل غاية رددت عنا كيد العدو وأرغمت انف الحسود , فنحن نلجأ منك إلى ظل ظليل وكنف كريم فكيف يشكر الشاكر ؟ وأين يبلغ المجتهد ؟ .
21-وكتب الأمير أبو الفضل الميكالي المتوفي سنة 436 هـ :
فأما الشكر الذي أعارني رداءه وقلدني طوقه وسناءه فهيهات أن ينتسب إلا إلى عادات فضله وأفضاله . أو يسير إلا تحت رايات عرفه ونواله , وهو ثوب لا يحلى إلا بذكر طرازه واسم حقيقته , ولسواه مجازه , ولو انه ( حين ملك رقي بأياديه واعجز وسعي عن حقوق مكارمه ومساعيه ) خلى لي مذهب الشكر وميدانه ولو يجاذبني زمامه وعنانه – لتعلقت في بلوغ بعض الواجب بعروة طمع , ونهضت فيه ولم على وهن وظلع ولكنه يأبى إلا أن يستولي على أمد الفضائل , ويتسم ذرى الغوارب منها والكواهل , فلا يدع في المجد غاية إلا سبق إليها فارضا ً وتخلف سواه عنها حسيرا ً ساقطا ً لتكون المعالي بأسرها مجموعة في ملكه منظومة في سلكه خالصة له من دعوى القسم وشركه .
ولما ولى الخليفة المهدي سليمان بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوي حرمته فقال : - اعز الله الوزير – أنا خادمك المؤمل لدولتك السعيد بأيامك المنطوي القلب على ودك المنشور اللسان بمدحك المرتهن بشكر نعمتك , وقد قال الشاعر :
وفيت كل صديق ودني ثمنا ً إلا مؤمل دولاتي وأيامي
فأنني ضامن أن لا أكافئه إلا بتسويغه فضلي وأنعامي
وإني لكما قال القيسي : ما زلت امتطي النهار إليك واستدل بفضلك عليك حتى إذا اجتن الليل فغض البصر ’ ومحا الأثر قام الرجاء يدني سائر أملي والنفس راغبة والاجتهاد عاذر وإذ قد بلغتك فقدني , فقال سليمان : لا عليك فاني عارف بوسيلتك محتاج إلى اصطناعك وكفايتك , ولست أؤخر عن يومي هذا توليتك ما يحسن عليك أثره , ويطيب لك خبره .
22-تلطف رجل من أهل الشام في استمناح المنصور
قدم رجل من أهل الشام على أبي جعفر المنصور فتكلم معه كلاما حسنا ً فقال له أبو جعفر : حاجتك ؟ فقال : يمليك الله يا أمير المؤمنين . قال : حاجتك فانه ليس كل ساعة يمكنك هذا ولا تؤمر به . فقال : والله ما استقصر عمرك ولا أخاف بخلك ولا اغتنم مالك وإن سؤالك لشرف وإن عطاءك لزين وما بامرئ بذل وجهه إليك نقص ولا شين . فأمر له المنصور بمنحة سنية .
وقد الم الرجل في أكثر معانيه بقول أمية بن أبي الصلت يستمنح عبد الله ابن جدعان القرشي :
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ببذل وما كل العطاء يزين
وليس بشين لامرئ بذل وجهه إليك كما بعض السؤال يشين
استمناح العتابي لأحد أصدقائه
23-كتب كلثوم بن عمرو العتابي إلى صديق له :
أما بعد – أطال الله بقاءك وجعله يمتد بك إلى رضوانه والجنة – فانك كنت عندنا روضة من رياض الكرم , تبتهج النفوس بها , وتستريح القلوب إليها , وكنا نعفيها من النعجة استنماما ً لزهرتها , وشفقة على خضرتها وادخارا ً لثمرتها , حتى أصابتنا سنة كانت عندي قطعة من سني يوسف , واشتد علينا كلبها , وغابت قطتها وكذبتنا غيومها واخلفتنا بروقها , وفقدنا صالح الإخوان فيها فانتجعتك وأنا بانتجاعي إياك شديد الشفقة عليك , مع علمي بأنك موضع الرائد , وانك تغطي عين الحاسد والله يعلم إني ما أعدك إلا في حومة الأهل , واعلم أن الكريم إذا استحيا من إعطاء القليل ولم يمكنه الكثير لم يعرف جوده ولم تظهر همته . وأنا أقول في ذلك :
إذا تكرمت عن بذل القليل ولم تقدر على سعة لم يظهر الجود
بث النوال ولا تمنعك قلته فكل ما سد فقرا ً فهو محمود
قيل : فشاطره جميع ماله .
24-كتب عبد الله بن سليمان أبو العيناء المتوفي سنة 282 هـ :
أنا – أعزك الله – وعيالي زرع من زرعك إن أسقيته راع وزكا وإن جفونه ذبل وذوى , وقد مسني منك جفاء بعد بر , وإغفال بعد تعاهد , حتى تكلم عدو , وشمت حاسد , ولعبت بي ظنون رجال كنت بهم لاعبا ً ولهم مخرسا ً .
لا تهني بعد أن أكرمتني وشديد عادة منتزعة
وكتب المرحوم عبد الخالق باشا ثروت :
إليك ( يا من قد استأثر النفوس واسترق الأحرار بجميل صنعه وأولى النعم والخيرات وأسدى المعروف والمبرات ) ارفع كتابا تبعثه إلى ناديك العالي عوامل الحاجة , وتزجيه إلى ساحتك من دواعي الشدة , أمل أن يكون تذكرة بأمري ( والذكرى تنفع المؤمنين ) وتذكرة بحالي ( والله لا يضيع اجر المحسنين ) فقد كان سيدي رفع الله قدره , وأعلى مرتبته , وعدني ( ومثله من يتمسك من الوفاء بالعروة الوثقى , ويقطع حبل الإخلاف بسيف الوفاء , ويطرز خلعه الوعد بوشي العطاء , أن يرسل إلي من خيراته ويوليني من آلائه وحسناته ويضاعف لي من مننه ويزيدني من عطائه ما اشد به أزري على الزمان وأطاول به نوائب الحدثان فقد بارزني الدهر بسيوفه , ورماني بسهامه وأناخ علي بكلاكله , وقد طال الأمد على حاجتي عند سيدي – أطال الله بقاءه – حتى شاب غراب شبابها وصاح بجانب ليلها فخفت أن تكون هبت عليها ريح النسيان وعصفت بها عاصفة الحدثان فكتبت إلى سيدي ومولاي تلك الرقعة استعجل بها بره , واستدر بها ضرع عطائه علما ً بأن التعجيل يكبر العطية , وإن كانت صغير ويكثرها وإن كانت يسيرة فعسى أن يكون قد لاح نجم النجاح وهب نسيم الفلاح فيرسل إلي سيدي سحاب كرمه ويمطرني من غياث فضله فترف غصون آمالي بعد ذبولها وتضحك وجوه مطالبي بعد عبوسها , وأملي في ذلك فسيح , فإن سيدي من أكرم الناس نسبا ً وأشرفهم حسبا ً ومثله جدير بحفظ العهد وانجاز الوعد , فإن رأى سيدي أن يخفف ثقل الحاجة عني , ويرد ما سلبه الدهر مني بقطرة من بحر عطائه ومنة من بعض آلائه ويجبر ما كسره الفقر من جناحي ويرد عني النوائب التي لا تفتأ تتولاني عقدت لساني على مدحه ووقفت نفسي على شكره , فيحرز من الله أجرا جزيلا ً , ومني شكرا ً جميلا ً إن شاء الله بمنه وكرمه .
ابن الرومي يستعطف القاسم بن عبيد الله
25-كتب ابن الرومي يستعطف القاسم بن عبيد الله :
ترفع عن ظلمي إن كنت بريئا ً وتفضل بالعفو أن كنت مسيئا فو الله إني ترفع عن ظلمي عفو ذنب لم اجنه والمس الإقالة مما لا اعرفه , لتزداد تطولا ً وازداد تذللا ً وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واش يكيدها واحرسها بوفائك من باغ يحاول إفسادها واسأل الله أن يجعل حظي منك بقدر ودي بوفائك ومحلي من رجائك بحيث استحق منك والسلام .
26-وكتب إليه القاسم بن عبد الله:
لو كان في الصمت موضع يسع حالي لخففت عن سمع الوزير ونظره ولم اشغل وجها ً من فكره وما زالت الشكوى تعرب عن لسان البلوى . ومن اختلت حالته كان في الصمت هلكته وقد كان الصبر ينصرني على ستر أمري حتى خذلني .
27-استعطاف أم جعفر بن يحيى الرشيد لأجل يحيى زوجها:
كانت أم جعفر بن يحيى أرضعت الرشيد مع جعفر وربته في حجرها وغذته برسلها وكان الرشيد يشاورها مظهرا لإكرامها , والتبرك برأيها وكان آلى وهو في كفالتها إلا يحجبها ولا استشفعته لأحد إلا شفعها وآلت أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونا ً لها ولا شفعت لأحد مقترف ذنبا ً فكم اسيرفكت ومبهم عنده فتحت ومستغلق منه فرجت فلما قتل ابنها جعفرا ً وحبس يحيى زوجها وسائر أهل بيته طلبت الأذن عليه , ومتت بوسائلها إليه فلم يأذن لها ولا أمر بشيء فيها , فلما طال بها خرجت كاشفة وجهها واضعة لثامها محتفية في مشيتها حتى صارت بباب قصر الرشيد فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب , فقال : ظئر أمير المؤمنين بالباب في حالة شماتة الحاسد , إلى شفقة أم الواحد . فقال الرشيد : ويحك يا عبد الملك أو ساعية ؟ قال نعم يا أمير المؤمنين , حافية . قال ادخلها يا عبد الملك فرب كبد غذتها وكربة فرجتها وعورة سترتها فدخلت , فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية قام محتفيا حتى تلقاها بين عمد المجلس واكب على تقبيل رأسها ومواضع ثدييها ثم أجلسها معه فقالت : يا أمير المؤمنين أيعدو علينا الزمان ؟ ويجفونا خوفا لك الأعوان ؟ ويحردك علينا البهتان وقد ربتك في حجري وأخذت برضاعتك الأمان من عدوي ودهري , فقال : وما ذلك يا م الرشيد ؟ فقالت ظئرك يحيى وأبوك بعد أبيك ولا أصفه بأكثر مما عرفه به أمير المؤمنين من نصيحة وإشفاقه عليه وتعرضه للحتف في شأن موسى أخيه فقال لها يا أم الرشيد أمر ٌ سبق وقضاء حم , وغضب من الله نفذ , قالت : يا أمير المؤمنين (( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب )) , قال : صدقت , فهذا مما لم يمحه الله , قالت : الغيب محجوب عن النبيين فكيف عنك يا أمير المؤمنين ؟ فاطرق الرشيد مليا ً ثم قال :
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
فقالت بغير روية : ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين وقد قال الأول:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخرا ً يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول الله عز وجل (( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )) فاطرق مليا ً ثم قال : يا أم الرشيد أقول :
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر تقبل
فقالت : يا أمير المؤمنين وأقول :
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني يمينك فانظر أي كف تبدل
قال هارون : رضيت . قالت : فهبه لي يا أمير المؤمنين فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ترك شيئا لله لم يوجده الله لفقده ) . فاكب هارون مليا ثم رفع رأسه يقول : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) قالت : يا أمير المؤمنين : (( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم )) واذكر يا أمير المؤمنين إليتك : ما استشفعتك إلا شفعتني . قال : واذكري يا أم الرشيد إليتك أن لا شفعت لمقترف ذنبا ً . فلما رأته صرح بمنعها ولاذ عن مطلبها أخرجت حقا ً من زمردة خضراء فوضعته بين يديه فقال الرشيد : ما هذا ؟ ففتحت عنه قفلا ً من ذهب فأخرجت منه خفضه وذوائبه وثناياه قد غمست جميع ذلك بالمسك . فقالت : يا أمير المؤمنين استشفع إليك واستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جسدك وطيب جوارحك ليحيى عبدك , فاخذ هارون ذلك فلثمه ثم استعبر وبكى بكاء شديدا وبكى أهل المجلس . فلما آفاق رمى جميع ذلك في الحق وقال لها : لحسن ما حفظت الوديعة فقالت : وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين . فسكت واقفل الحق ودفعه إليها وقال : (( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )) قالت : والله يقول : (( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )) . ويقول : (( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم )) قال : وما ذلك يا أم الرشيد ؟ قالت : أو ما أقسمت لي أن لا تحجبني ولا تمتهنني ؟ قال : أحب يا أم الرشيد أن تشتريه محكمة فيه . قالت أنصفت يا أمير المؤمنين وقد فعلت غير مستقبلة لك ولا راجعة عنك . قال : بكم ؟ قالت : برضاك عمن لم يسخطك , قال : يا أم الرشيد أمالي عليك من الحق مثل الذي لهم ؟ قالت بلى يا أمير المؤمنين أنت اعز علي , وهم أحب إلي . قال : فتحكمي في تمنية بغيرهم , قالت : كلا . قد وهبتكه وجعلتك في حل منه وقامت عنه وبقي مبهوتا ً ما يحير لفظة .
قال سهل بن هارون : وخرجت فلم تعد , ولا والله ما رأيت لها عبرة ولا سمعت لها أنة .
28-استعطاف إبراهيم ابن المهدي للمأمون .
أمر المأمون بإبراهيم ابن المهدي فادخل عليه فلما وقف بين يديه : قال : هيه يا إبراهيم ! فقال : يا أمير المؤمنين ولي الثار محكم في القصاص ( والعفو اقرب للتقوى ) ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشفاء أمكن عادية الدهر من نفسه وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب دونك فإن أخذت فبحقك , وإن عفوت فبفضلك . ثم قال :
ذنبي إليك عظيم وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أو لا فاصفح بفضلك عنه
إن لم أكن في فعالي من الكرام قكنه
فقال المأمون : شاورت أبا إسحاق والعباس في قتلك فأشارا به , فقال : فما قلت لهما يا أمير المؤمنين ؟ قال المأمون : قلت لهما نبدؤه بإحسان ونستأمره فيه فإن غير فالله يغير ما به . قال : أما أن يكونا قد نصحا في عظيم بما جرت عليه الساسة , فقد فعلا وبلغا ما يلزمهما وهو الرأي السديد , ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله , ثم استعبر باكيا ً . فقال له المأمون : ما يبكيك ؟ قال : جذلا ً إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الأنعام , ثم قال : انه وأن كان قد بلغ جرمي استحلال دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغاني عفوه ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب , وحق الأبوة بعد الأب . فقال المأمون : يا إبراهيم لقد حبب إلي العفو حتى خفت أن لا اؤجر عليه . أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذة لتقربوا إلينا بالجنيات لا تثريب عليك يغفر الله لك , ولو لم يكن حق نسبك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلغت ما أملت حسن تنصلك , ولطف توصلك ثم أمر برد ضياعه وأمواله . فقال إبراهيم :
رددت مالي ولم تبخل علي به وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
وقام عليك بي فاحتج عندك لي مقام شاهد عدل غير متهم
فلو بذلت دمي ابغي رضاك به والمال حتى اسل النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عارية سلفت لو لم تهبها لكنت اليوم لم تلم
29-استعطاف إسحاق بن العباس للمأمون
قال المأمون لإسحاق بن العباس : تحسبني أغفلت أمر ابن المهدي وتأييدك له , وإيقادك لناره ؟ فقال والله يا أمير المؤمنين لأجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من جرمي إليك ولرحمي بك امتن من أرحامهم , وقد قال لهم كما قال يوسف – على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام – لإخوته : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين )) وأنت يا أمير المؤمنين أحق وارث لهذه الأمة في الطول وممتثل لخلال العفو والفضل .
قال : هيهات تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام وجرمك جرم في أسلافك وفي دار خلافتك .
قال يا أمير المؤمنين فو الله للمسلم أحق بإقالة العثرة وغفران الذنب من الكافر وهذا كتاب الله بيني وبينكم إذ يقول : سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين . والناس يا أمير المؤمنين نسبة دخل فيها المسلم والكافر والشريف والمشروف .
قال : صدقت ورت بك زنادي ولا برحت أرى من اهلك أمثالك .
30-استعطاف الفضل بن الربيع للمأمون
قال المأمون للفضل بن الربيع لما ظفر به : يا فضل أكان من حقي عليك وحق آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك أن تثلبني وتسبني وتحرض على دمي ؟ أتحب أن افعل بك ما فعلته بي ؟
فقال : يا أمير المؤمنين إن عذري يحقدك إذا كان واضحا ً جميلا ً فكيف إذا أخفته العيوب ! وقبحته الذنوب ! فلا يضيق عني من عفوك ما وسع غيري منك فأنت كما قال الشاعر فيك :
صفوح عن الإجرام حتى كأنه من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
31-استعطاف تميم بن جميل للمعتصم
كان تميم بن جميل السدوسي قد خرج بشاطئ الفرات , واجتمع إليه كثير من الإعراب فعظم أمره , وبعد ذكره ثم ظفر به وحمل موثقا ً إلى باب المعتصم فقال احمد بن أبي داوود : ما رأيت رجلا ً عاين الموت فما هاله ولا شغله عما كان يجب عليه أن يفعله إلا تميم بن جميل فانه لما مثل بين يدي المعتصم فاحضر السيف والنطع وأوقف بينهما تأمله المعتصم وكان جميلا وسيما ً – فأحب أن يعلم أين لسانه وجنابه من منظره , فقال : تكلم يا تميم . فقال : أما إذا أذنت يا أمير المؤمنين فانا أقول : الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدا خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين , جبر بك صدع الدين ولم بك شعث المسلمين وأوضح بك سبل الحق واحمد بك شهاب الباطل , إن الذنوب تخرس الألسنة الفصيحة , وتعيي الأفئدة الصحيحة , ولقد عظمت الجريرة وانقطعت الحجة وساء الظن ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إلى أشبههما بك وأولاهما بكرمك , ثم قال – على البديهة - :
أرى الموت على السيف والنطع كامنا يلاحظني من حيثما أتلفت
واكبر ظني انك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت ؟
وأي امرئ يأتي بعذر وحجة وسيف المنايا بين عينيه مصلت
وما جزعي من أن أموت واني لأعلم أن الموت شيء موقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين انعي إليهم وقد خشموا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موتوا
وكم قائل لا يبعد الله روحه وآخر جذلان يسر ويشمت
فتبسم المعتصم وقال : كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل , قد وهبتك للصبية وغفرت لك الصبوة ثم أمر بفك قيوده وخلع عليه .
وكتب الجاحظ إلى ابن الزيات يستعطفه وكان قد تنكر له وتلون عليه : أعاذك الله من سوء الغضب وعصمك من سرف الهوى وصرف ما أعادك من القوة إلى حب الإنصاف ورجح في قلبك إيثار الأناة فقد خفت – أيدك الله – أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق السفهاء ومجانبة سبل الحكماء وبعد فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت :
وإن امرءا أمسى وأصبح سالما من الناس إلا ما جنى لسعيد
وقال الآخر :
ومن دعا الناس إلى ذمة ذموه بالحق وبالباطل
فإن كنت اجترأت – أصلحك الله – فلم اجترأ إلا لأن دوام تغافلك عني شبيه بالإهمال الذي يورث الإغفال , والعفو المتتابع يؤمن من المكافأة ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان رحمه الله : عمر كان خيرا ً لي منك ارهبني فاتقاني وأعطاني فأغناني , فإن كنت لا تهب عقابي – أيدك الله – لخدمة فهبه لأياديك عندي فان النعمة تشفع في النقمة وإلا تفعل ذلك فعد إلى حسن العادة وإلا فافعل ذلك لحسن الأحدوثة وإلا فآت ما أنت أهله من العفو دون ما أنا أهله من استحقاق العقوبة , فسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد وتتجافى عن عقاب المصر , حتى إذا صرت إلى من هفوت ذكر , وذنبه نسيان ومن لا يعرف الشكر إلا لك والإنعام إلا منك هجمت عليه بالعقوبة واعم – أيدك الله – أن شين غضبك علي كزين صفحك عني , وأن موت ذكري مع انقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك , واعلم أن لك فطنة عليم وغفلة كريم والسلام .
32-استعطاف رجل من أهل الشام للمنصور
يا أمير المؤمنين من انتقم فقد شفي وانتصف ومن عفا تفضل ومن اخذ حقه لم يجب شكره ولم يذكر فضله , وكظم الغيظ حلم والتشفي طرف من الجزع , ولم يمدح أهل التقوى والنهى من كان حليما بشدة العقاب ولكن بحسن الصفح والاغتفار وشدة التغافل . وبعد : فالمعاقب مستودع لعداوة أولياء المذنب والعافي مسترع لشكرهم آمن من مكافأتهم , ولأن يثنى عليك باتساع الصدر خير من أن توصف بضيقه على أن إقالتك عثرات عباد الله موجبة لإقالة عثرتك من ربهم موصولة بعفوه , وعقابك إياهم موصول بعقابه . قال الله عز وجل ( خذ العفو وأمر بالمعروف واعرض عن الجاهلين )) .
33-وكتب أبو عثمان بن عمرو بن بحر بن الجاحظ المتوفي بالبصرة سنة 255 هـ : أما بعد : فنعم البديل من الزلة الاعتذار وبئس العوض من التوبة الإصرار , فانه لا عوض من إخائك ولا خلف من حسن رأيك , وقد انتقمت مني في زلتي بجفائك , فأطلق أسير تشوقي إلى لقائك فأنني بمعرفتي بمبلغ حلمك وغاية عفوك , ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك , وقد مسني من الألم ما لم يشفه غير مواصلتك .
34-وكتبت زبيدة زوجة الرشيد المتوفاة سنة 216 هـ إلى المأمون :
كل ذنب – يا أمير المؤمنين – وإن عظم صغير في جنب عفوك , وكل إساءة وإن جلت يسيرة لدى حلمك , وذلك الذي عودكه الله أطال مدتك , وتمم نعمتك وأدام بك الخير , ودفع عنك الشر والضير .
وبعد : فهذه رقعة الولهى – التي ترجوك في الحياة لنوائب الدهر , وفي الممات لجميل الذكر – فإن رأيت أن ترحم ضعفي واستكانتي وقلة حيلتي وأن تصل رحمي وتحتسب فيما جعلك الله له طالبا ً وفيه راعيا ً – فافعل وتذكر من لو كان حيا لكان شفيعي إليك .
35-وكتب إليها المأمون جواب المواساة الآتي :
وصلت رقعتك يا أماه – أحاطك الله وتولك بالرعاية – ووفقت عليها وساءني – شهد الله – جميع ما أوضحت فيها لكن الأقدار نافذة والأحكام جارية , والأمور متصرفة , والمخلوقون في قبضتها لا يقدرون دفاعها والدنيا كلها إلى شتات وكل حي إلى ممات والغدر والبغي حتف الإنسان والمكر راجع إلى صاحبه .
وقد أمرت برد جميع ما اخذ لك ولم تفقدي ممن مضى إلى رحمة الله إلا وجهه , وأنا بعد ذلك على أكثر مما تختارين والسلام .
36-وكتب بعضهم :
إني وإن جنيت على نفسي وخرجت عن حد الأدب فيما يجب على العبد لسيده – فإني عبد نعمتك وصنيع إحسانك , وذنبي وإن عظم , وضاق باب التوبة عن قبول المعذرة , فالعفو عنه بعض حسناتك , التي فطرت عليها والإغضاء عني سر ٌ من أسرارك التي تميل إليها , فاجعل العفو عني قربة إلى مولى الموالي واترك العبد عتيق مكارم الأخلاق , وإلا فضع سيف نقمتك في بحر عبد نعمتك , وأنت حل من دم أراقه أهله , أو آل أمره إلى وارث لا يسعه إلا النزول عن المطالبة به , إلا وهو مقام جلالتكم السامي .
وحاشاك أن تعدم الصادق في خدمتك بهفوة لم يقصدها وذنب اقلع عنه وعلى كل فالعبد بين يديك , وأمره منك واليك , فقد ألقى إليك مقاليد الأجل فافعل ما تشاء واتق الله عز وجل .
37-كتب البديع إلى بعض إخوانه يعزيه وينصح له :
وصلت رقعتك ( يا سيدي ) والمصاب لعمر الله كبير , وأنت بالجزع جدير ولكنك بالصبر أجدر , والعزاء عن الأحبة رشد كأنه الغي , قد مات الميت فليحيى الحي , فاشدد على مالك بالخمس , فأنت اليوم غيرك بالأمس , قد كان ذلك الشيخ رحمه الله وكيلك تضحك ويبكي لك , وقد مولك مما ألف بين سراه وسيره وخلفك فقيرا ً إلى الله غنيا ً عن غيره , وسيعجم الشيطان عودك , فإن استلانك رماك بقوم يقولون : خير المال ما تتلفه بين الشراب والشباب وتنفقه بين الحباب والأحباب , والعيش بين القداح والأقداح ولولا الاستعمال لما أريد المال , فإن أطعتهم فاليوم في الشراب وغدا في الخراب , واليوم واطربا للكأس وغدا واحربا من الإفلاس . يا مولاي : ذلك الخارج من العود يسميه الجاهل نقرا ً فقرا ً وذلك المسموع من النأي هو في الآذان زمر , وفي الأبواب سمر , وإن لم يجد الشيطان مغمزا ً في عودك من هذا الوجه , رماك بآخرين يمثلون الفقر حذاء عينيك , فتجاهد قلبك وتحاسب بطنك وتناقش عرسك , وتمنع نفسك وتبوء في دنياك بوزرك وتراه في الآخرة في ميزان غيرك لا , ولكن قصدا ً بين الطريقين وميلا ً عن الفريقين لا منع ولا أسرفا , والبخل فقر حاضر عاجل , وإنما يبخل المرء خيفة ما هو فيه .
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر
فليكن لله في مالك قسم , وللمروءة قسم فصل الرحم ما استطعت وقدر إذا انقطعت , فلأن تكون في جانب التقدير , خير من أن تكون في جانب التبذير .
38-وكتب أبو الفضل بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398 هـ إلى ابن أخته :
أنت ولدي ما دمت : والعلم شأنك والمدرسة مكانك والمحبرة حليفك والدفتر أليفك , فإن قصرت ولا أخالك فغيري خالك , والسلام .
39-ومن وصية ابن سعيد المغربي المتوفي سنة 967 هـ وقد أراد السفر :
أودعك الرحمن في غربتك مرتقبا ً رحماك في أوبتك
فلا تطل حبل النوى إنني والله اشتاق إلى طلعتك
واختصر التوديع آخذا ً فما لي ناظر ٌ يقوى على فرقتك
واجعل وصاتي نصب عين ولا تبرح مدى الأيام من فكرتك
خلاصة العمر التي حنكت في ساعة زفت إلى فطنتك
فللتجارب أمور إذا طالعتها تشحذ من غفلتك
فلا تنم عن وعيها ساعة فإنها عون إلى يقظتك
وكل ما كابدته في النوى إياك أن يكسر من همتك
فليس يدري أصل ذي غربة وإنما تعرف من شيمك
وامش الهوينا مظهرا ً عفة وابغ رضا الأعين عن هيئتك
وانطق بحيث العي مستقبح واصمت بحيث الخير في سكتتك
ولج على رزقك من بابه واقصد له ما عشت في بكرتك
ووف كلا ً حقه ولتكن تكسر عند الفخر من حدثك
وحيثما خيمت فاقصد إلى صحبة من ترجوه في نصرتك
وللزرايا وثبة ٌ ما لها إلا الذي تذخر من عدتك
ولا تقل اسلم لي وحدتي فقد تقاسى الذل في وحدتك
ولتجعل العقل محكا ً وخذ كلا بما يظهر في نقدتك
واعتبر الناس بألفاظهم واصحب أخا يرغب في صحبتك
كم من صديق مظهر نصحه وفكره وقف على عثرتك
إياك أن تقربه انه عون مع الدهر على كرتك
وانم نمو النبت قد زاره غب الندى واسم إلى قدرتك
ولا تضيع زمنا ً ممكنا ً تذكاره يذكي لظى حسرتك
والشر مهما أسطعت لا تأته فانه جور على مهجتك
يا بني الذي لا ناصح له مثلي , ولا منصوح لي مثله – قد قدمت لك في هذا النظم ما أن أخطرته بخاطرك في كل أوان وأن رجوت لك حسن العاقبة – إن شاء الله تعالى – وإن اخف منه للحفظ ,و اعلق للفكر وأحق بالتقدم قول الأول :
يزين الغريب إذا ما اغترب ثلاث فمنهن حسن الأدب
وثانية حسن أخلاقه وثالثة اجتناب الريب
وأصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر , وسلم الكرم والصبر :
ولو أن أوطان الديار نبت بكم لكنتم الأخلاق والادابا
إذ حسن الخلق أكرم نزيل , والأدب أرحب منزل ولتكن كما قال بعضهم في أديب متغرب وكان كلما طرأ على ملك فكأنه معه ولد , واليه قصد , غير مستريب بدهره , ولا منكر شيئا ً من أمره .
وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من اخذ بمجامع هواه , فاجعل التكلف له سلما ً وهب في روض أخلاقه هبوب النسيم , وحل بطرفه حلول الوسن ,و انزل بقلبه نزول المسرة , حتى يتمكن لك وداده , ويخلص فيك اعتقاده وطهر من الوقوع فيه لسانك , وأغلق سمعك , ولا ترخص في جانبه لحسود لك منه , يريد إبعادك عنه لمنفعة , أو حسود له يغار لتجمله بصحبتك , ومع هذا فلا تغتر بطول صحبته ولا تتعهد بدوام رقدته , فقد ينبهه الزمان , ويتغير منه القلب واللسان وإنما العاقل من جعل عقله معيارا ً , وكان كالمرآة يلقي كل وجه بمثاله , وفي الأمثال العامة ( من سبقك بيوم سبقك بعقل )) . فاحتذ بأمثلة من جرب واستمع إلى ما خلد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال , فإنها خلاصة عمرهم وزبدة تجاربهم , ولا تتكل على عقلك , فإن النظر فيما تعب فيه الناس طول أعمارهم وابتاعوه غاليا ً بتجاربهم يربحك ويقع عليك رخيصا ً وإن رأيت من له عقل ومروءة وتجربة فاستفد منه , ولا تضيع قوله ولا فعله , فان فيما تلقاه تلقيحا ً لعقلك وحثا ً لك واهتداء .
وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه حتى تتدبره , فإن كان موافقا ً لعملك , مصلحا ً لحالك , فراع ذلك عندك , وإلا فانبذه نبذ النواة فليس كل أحد يتبسم ولا كل شخص يكلم , ولا الجود مما يعم به ولا حسن الظن وطيب النفس مما يعامل به كل أحد ولله در القائل :
وما لي لا أوفي البرية قسطها على قدر ما يعطي وعقلي ميزان
وإياك أن تعطي من نفسك إلا بقدر , فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء , ولا الكفء بمعاملة الأعلى , ولا تضيع عمرك فيمن يعاملك بالمطامع , ويثيبك على مصلحة حاضرة عاجلة , بغائبة آجلة ولا تجف الناس بالجملة , ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل , ولا ضجر , ولا جفاء فمتى فارقت أحدا فعلى حسني في القول والفعل , فانك لا تدري هل أنت راجع إليه ؟ فلذلك قال الأول :
ولما مضى سلم ٌ بكيت على سلم
وإياك والبيت السائر :
وكنت إذا حللت بدار قوم رحلت بخزية وتركت عارا
واحرص على ما جمع قول القائل : ( ثلاثة تبقى لك الود في صدر أخيك , أن تبدأه السلام وتوسع له المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه ) , واحذر كل ما بينه لك القائل : ( كل ما تغرسه تجنيه إلا ابن ادم , فإذا غرسته يقلعك ) وقول الآخر : ( إن ابن ادم ذئب مع الضعف أسد مع القوة ) . وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره , ويحكى أن ابن المقفع خطب من الخليل صحبته , فجاوبه : ( إن الصحبة رق ولا أضع رقي في يدك حتى اعرف كيف ملكتك ) , واستمل من عين على من تعاشره وتفقد في فلتات الألسن فإن الكلام سلاح السلم , وبالأنين يعرف الم الجرح , واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية وتجعلها نهاية لك :
وخذ الدهر ما أتاك به من قر عينا ً بعيشة نفعه
إذ الأفكار تجلب الهموم وتضاعف الغموم وملازمة القطوب عنوان المصائب والخطوب يستريب به الصاحب ويشمت العدو والمجانب , ولا تضر بالوساوس إلا نفسك , لأنك تنصر بها الدهر عليك – والله در القائل :
إذا ما كنت للاحران عونا ً عليك مع الزمان فمن تلوم ؟
مع انه لا يرد عليك الغائب الحزن ولا يرعوي بطول عتبك الزمن .
ولقد شاهدت بغرناطة شخصا ً قد الفته الهموم وعشقته الغموم ومن صغره إلى كبره لا تراه أبدا خليا من فكره , حتى لقب ( بصدر الهم ) .
ومن أعجب ما رايته منه انه يتنكد في الشدة , ولا تعلل بأن يكون يعدها فرج , ويتنكد في الرخاء خوفا ً من أن لا يدوم , وينشد :
توقع زوالا إذا قيل تم
وعند التناهي يقصر المتطاول
وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب , ومثل هذا عمره محسور يمر ضياعا ً ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمون من العلم ما تحسنه حسدا ً لك وقصدا لتصغير قدرك عندك , وتزهيدا لك فيه , فلا يجعلك ذلك على أن تزهد في علمك وتركن إلى العلم الذي مدحوه , فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلمه فصعب عليه ’ ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه فبقي محبل المشي كما قيل :
إن الغراب وكان يمشي مشية فيما مضى من سالف الأجيال
حسد القطا وأراد يمشي مشيها فأصابه ضرب من العقال
فأضل مشيته واخطأ مشيها فلذاك كنوه ( أبا مرقال )
ولا يفسد خاطرك من جعل يذم الزمان وأهله ويقول : ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل , ولا مكان يرتاح فيه , فإن الذين تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون ممن صحبهم الحرمان ,و استحقت طلعتهم للهوان وابرموا على الناس بالسؤال فمقتوهم , وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها , فاستراحوا إلى الوقوع في الناس , وأقاموا الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم , ولا تزل هذين البيتين من فكرك :
لن إذا ما نلت عزا فاخو العز يلين
فإذا نابك دهر فكما كنت تكون
والأمثال تضرب لذي اللب الحكيم , وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم , والفطن يقنع بالقليل , ويستدل باليسير , والله سبحانه خليفتي عليك لا رب سواه .
40-وصية هارون الرشيد لمعلم ولده الأمين :
يا احمر – إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه , وثمرة قلبه , فصير يدك عليه مبسوطة , وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين .
أقرئه القرآن , وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه , وامنعه من الضحك إلا في أوقاته , وخذه بتعظيم بني هاشم إذا دخلوا عليه , ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه , ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه , ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه , وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة , فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة .
41-كتب أبو منصور الثعالبي النيسابوري المتوفى سنة 429 هـ :
نحن في الظاهر على افتراق وفي الباطن على تلاق , نحن نناجى بالضمائر ونتخاطب بالسرائر , إذا حصل القرب بالإخلاص , لم يضر البعد بالأشخاص , أنا أناجيك بخواطر قلبي , وإن كان قد غاب شخصك عني , إن أخطأتك يدي بالمكاتبة , ناجاك سري بالمواصلة , رب غائب بشخصه حاضر ٌ بخلوص نفسه إن تراخى اللقاء , فإننا نتلاقى على البعاد , ونتلاقى نظر العين بالفؤاد .
وكتب أيضا ً :
أنا اشتاق لك كما تشتاق الجنان , وإن لم تتقدم لهما العينان , أنا وإن كنت ممن لا يسعد بلقائك فقد اشتمل على الإنس ببقائك , والشوق إلى محاسنك التي سارت أخبارها , ولاحت آثارها لا زالت الأيام تكشف لي من فضلك والأخبار تعرض على من عقلك , ما يشوقني إليك , وإن لم أرك ويزيدني رغبة .
42-وكتب الصاحب إسماعيل بن عباد المتوفى سنة 385 هـ :
مجلسنا يا سيدي مفتقر إليك معول في شوقه عليك , ولقد توردت خدود بنفسجه وفتقت فأرة نار نجه وانطلقت السن الأوتار وقامت خطباء الأطيار وهبت رياح الأقداح , ونفقت سوق الإنس والأفراح , وقد أبت راحته أن تصفو إلا أن تتناولها يمناك واقسم غناؤه لا طيب حتى تعيه أذناك ووجنات أترجه قد احمرت خجلا ً لإبطائك وعيون نرجسه قد حدقت تأميلا للقائك ونحن لغيبتك كعقد ذهبت واسطته وشباب قد أخذت جدته , وإذا غابت شمس السماء عنا , فلا أن تدنو شمس الأرض منا , فإن رأيت أن تحضر لتتصل الواسطة بالعقد ونحصل بك في جنة الخلد , فكن إلينا أسرع من السهم في ممره , والماء إلى مقره , لئلا يخبث من يومي ما طاب , ويعود من نومي ما طار .
43-وكتب أبو بكر الخوارزمي – المتوفى سنة 383 هـ :
كتابي وأنا بما يبلغني من صالح أخبار ( السيد ) مبتغط مسرور وبما يعرفه الزمان وأهله من اعتضادي به مصون موفور , والله على الأولى محمود وعلى الأخرى مشكور , التطفل وإن كان محظورا ً في غير مواطنه فانه مباح في أماكنه وهو وأن كان في بعض الأحوال يجمع عارا ووزرا ً فانه في بعضها يجمع فخرا ً وذخرا ً , ورب فعل يصاب به وقته فيكون سنة , وهو غير في وقته بدعة , وقد تطفلت على السيد بهذه الأحرف , اخطب بها مودته إليه , واعرض فيها مودتي عليه واسأله أن يرسم لي في لساني وقلبي رسما ً , ويخيم عليهما ختما ً فقد جعلتهما باسمة وقصرتهما على حكمه , وسأضعهما تحت ختمه , وبرئت إليه منهما وصرت وكيله فيهما , فهما على غيره حمى لا يقرب وبحيرة لا تحلب ولا تركب , ولما نظرت إلى أثار السيد على الأحرار ونشرت طراز محاسنه من أيدي القاصدين والزوار ورأيت نفسي غفلا ً من سمة مودته وعطلا ً من جمال عشرته حميتها من أن يحمى عليها ورد مورود ويحسر عنها ظل على الجميع ممدود , وعجبت من :
44-وكتب بديع الزمان الهمذاني المتوفى سنة 398 هـ :
يعز علي – أطال الله بقاء مولاي – أن ينوب في خدمته قلمي عن قدمي ويسعد برؤيته رسولي دون وصولي ويرد مشرعة الإنس به كتابي , قبل ركابي ولكن : ما الحيلة والعوائق جمة !! .
وعلي أن أسعى وليس علي أدراك النجاح
وقد حضرت داره وقبلت جداره, وما بي حب الحيطان ولكن شغفا ً بالقطان , ولا عشق الجدران ولكن شوقا إلى السكان :
أمر على ديار سلمى اقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
وحين عدت العوادي عنه , أمليت ضمير الشوق على لسان القلم , معتذرا ً إلى مولاي على الحقيقة عن تقصير وقع وفتور في الخدمة عرض , ولكني أقول :
إن يكن تركي لقصدك ذنبا ً فكفى أن لا أراك عقابا ً
45-وكتب أبو محمد عبد الله البطيلوسي المتوفى سنة 627 هـ :
يا سيدي الأعلى وعمادي الاسنى وحسنه الدهر الحسنى الذي جل قدره وسار مسير الشمس ذكره ومن أطال الله بقاءه لفضل يعلى منارة وعلم يحيي آثاره – نحن ( أعزك الله ) نتدانى إخلاصا , وإن تناءينا أشخاصا ً , ويجمعنا الأدب ولأن فرقنا النسب , فالأشكال أقارب , والآداب مناسب وليس يضر تنائي الأشباح إذا تقاربت الأرواح :
نسيبي في رأيي وعلمي ومذهبي وإن باعدتنا في الأصول المناسب
46-وكتب بديع الزمان الهمذاني المتوفى سنة 398 هـ :
أراني اذكر ( مولاي ) إذا طلعت الشمس , أو هبت الريح , أو نجم النجم أو لمع البرق أو عرض الغيث , أو ذكر الليث , أو ضحك الروض واني للشمس محياه وللريح رياه , وللنجم حلاه وعلاه , وللبرق سناؤه وسناه وللغيث نداه ونداه , وفي كل صالحة ذكراه وفي كل حادثة أراه فمتى أنساه ؟ ولشدة شوقاه عسى الله أن يجمعني وإياه .
47-وكتب ابن العميد المتوفى سنة 360 هـ في شكر صديق له على مراسلته إياه :
وصل ما وصلتني به ( جعلني الله فداك ) من كتابك بل نعمتك التامة ومنتك العامة فقرت عيني بوروده , وشفيت نفسي بوفوده , ونشرته فحكي نسيم الرياض غب المطر , وتنفس الأنوار في السحر وتأملت مفتتحة وما اشتمل عليه من لطائف كلمك وبدائع حكمك فوجدته قد تحمل من فنون البر عنك , وضروب الفضل منك جدا ً وهزلا ً ما ملأ عيني وغمر قلبي , وغلب فكري وبهر لبي , فبقيت لا ادري , اسموط در خصصتني بها أم عقود جوهر منحتنيها ولا ادري : أجدك ابلغ وألطف ؟ أم هزلك ارفع وأظرف ؟ وأنا أوكل بتتبع ما انطوى عليه نفسا ً لا ترى الحظ إلا ما اقتنيته منه , ولا تعد الفضل إلا فيما أخذته عنه , وأمتع بتأمله عينا لا تقر إلا بمثله مما يصدر عن يدك , ويرد من عندك , وأعطيه نظرا ً لا يمله , وطرفا ً لا يطرف دونه واجعله مثالا ً ارتسمه واحتذيه وأمتع خلقي برونقه , وأغذي نفسي ببهجته , وامزج قريحتي برقته , واشرح صدري بقراءته ولئن كنت عن تحصيل ما قلته عاجزا ً وفي تعديد ما ذكرته متخلفا ً لقد عرفت انه ما سمعت به من السحر الحلال .
48-وكتب أبو عثمان عمرو بن الجاحظ المتوفى بالبصرة سنة 255 هـ :
ليس عندي من الكرم والرحمة والتأميل الذي لا يكون إلا من نتاج حسن الظن , واثبات الفضل بحال المأمول , وأرجو أن أكون من الشاكرين , فتكون خير معتب وأكون أفضل شاكر , ولعل الله يجعل هذا المر سببا ً لهذا الأنعام وهذا الأنعام سببا ً للانقطاع إليكم , والكون تحت أجنحتكم , فيكون لا أعظم بركة ولا أنمى بقية من ذنب أصبحت فيه وبمثلك ( جعلت فداك ) عاد الذنب وسيلة والسيئة حسنة , ومثلك من انقلب به الشر خيرا ً والغرم غنما ً , من عاقب فقد اخذ حظه وإنما الأجر في الآخرة , وطيب الذكر في الدنيا على قدر الاحتمال , وتجرع المرائر , وأرجو أن لا أضيع ( واهلك ) فيما بين كرمك وعقلك وما أكثر من يعفو عمن صغر ذنبه , وعظم حقه , وإنما الفضل والثناء بالعفو عن عظيم الجرم , ضعيف الحرمة وإن كان العفو العظيم مستطرفا ً من غيركم فهو تلاد فيكم , حتى ربما دعا ذلك كثيرا ً من الناس إلى مخالفة أمركم فلا انتم عن ذلك تنكلون ولا على سالف إحسانكم تندمون ولا مثلكم إلا كمثل عيسى ابن مريم حين كان لا يمر بملأ من بني إسرائيل إلا اسمعوه شرا ً واسمعهم خيرا ً فقال له ( شمعون الصفار ) : ما رأيت كاليوم ! كلما أسمعوك شرا ً أسمعتهم خيرا ً ؟ فقال : (( كل امرئ ينفق مما عنده )) , وليس عندكم إلا الخير ولا في أوعيتكم إلا الرحمة , وكل إناء بالذي فيه ينضح .
49-كتب أبو منصور الثعالبي النيسابوري المتوفي سنة 429 هـ :
الكريم إذا قدر غفر وإذا أوثق أطلق , وإذا اسر اعتق , قد هربت منك إليك واستعنت بعفوك عليك , فأذقني حلاوة رضاك عني , كما أذقتني مرارة انتقامك مني , الحر كريم الظفر , إذا نال أقال , واللئيم إذا نال استطال قد هابك من استتر ولم يذنب من اعتذر , تكلف الاعتذار بلا زلة كتكلف الدواء بلا علة , مولاي يوجب الصفح عند الزلة كما يلتزم البذل عند الخلة مولاي يوليني صفيحة ويؤتيني العفو من عفوه زللت وقد يزل العالم الذي لا أساويه , وعثرت وقد يعثر الجواد الذي لا أجاريه , لا تضيقن عني سعة خلقك , ولا تكدرن علي صفو ودك , ما لي ذنب يضيق عنه عفوك , ولا جرم ٌ يتجافى تجافي تجاوزك وصفحك , والسلام .




6-المقامات الأدبية:
هي قطع أدبية تشتمل على كلمة أو موعظة أو نحو ذلك، توخى كاتبها إتقان العبارة وصاغها صياغة فنية ممتازة .وقد تأثر كثير من الكتاب في جميع العصور بالمقامات يحتذونها وينسجون على منوالها، وعنوا أكثر ما عنوا بالصياغة والأسلوب وإظهار المقدرة البلاغية، أي أنهم وقفوا بالمقامات عند الحد الذي رسمه لها البديع والحريري،وبذلك جمدت المقاماتولم تتطورمع الزمنولو أنهم نوعوا في موضوعاتها وتفننوا فيها بمقدار تفننهم في براعة الأسلوبوالصناعة اللفظية، لكان من الممكن أن تكونه هذه المقامات نواةً وأساساً لبناء القصة القصيرة في الأدب العربي.
تعريف بصاحب المقاماتبنبذة قصيرة عن الحريري ..

هو : أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري( 446-516هـ)
رغب في العلم مع وافر ثروته ، فجاء البصرة وطلبه على علماؤها - وسكن فيها بمحلة بني حرام فقيل له الحرامي – وما زال يجالس العلماء ، ويشهد حلقات الأدب ، حتى برع في الشعر والترسل ، واستبحر في اللغة وآدابها ، وحذق الفقه ، وتضلع في الفرائض .

و الحريري نسبة إلى الحرير وعمله أو بيعه .

و يُقال أن الحريري لما عمل المقامات كان قد عملها أربعين مقامة، وحملها من البصرة إلى بغداد وادعاها، فلم يصدقه في ذلك جماعة من أدباء بغداد، وقالوا:
إنها ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة ووقعت أوراقه إليه فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان وسأله عن صناعته، فقال:
أنا رجل منشيء. فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عينها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة ومكث زمانا كثيرا فلم يفتح الله سبحانه عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان، وكان في جملة من أنكر دعواه في عملها أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر - المقدم ذكره - فلما لم يعمل الحريري الرسالة التي اقترحها الوزير أنشد ابن أفلح، وقيل إن هذين البيتين لأبي محمد ابن أحمد المعروف بابن جكينا الحريمي البغدادي الشاعر المشهور:
شيخ لنا من ربيعة الفـرس ينتف عثنونه من الهـوس
أنطقه الله بالمشـان كـمـا رماه وسط الديوان بالخرس
فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر وسيرهن، واعتذر من عيه وحصره في الديوان بما لحقه من المهابة.
- ويحكى أنه كان دميما قبيح المنظر، فجاءه سخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئا، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس منه أن يملي عليه قال له: اكتب:
ما أنت أول سار نحـره قـمـر ورائد أعجبته خضـرة الـدمـن
فاختر لنفسك غيري إنني رجـل مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني
فخجل الرجل منه وانصرف.
ما قاله النقاد:
يقول ( ابن خالكان ) : كان أحد أئمة عصره، ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت علي شيء كثير من كلام العرب: من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها ، ومن عرفها حق معرفتها ، استدل بها على فضل هذا الرجل ، وكثرة اطلاعه ، وغزارة مادته .
وقال ( الزمخشري ) : أقسم بالله وآياته : ومشعر الحج وميقاته إن الحريري حري بأن : تكتب بالتبر مقاماته معجزة تعجز كل الورى : ولو سروا في ضوء مشكاته

يقول ( بطرس البستاني ) : يبدأ الحريري مقاماته بإسناد الكلام إلى راويتها الحرث بن همام ، لكنه لا يقتصر على البديع بل يميل إلى التغيير في بدء كل مقامة وللحريري لغة متينة ، قصيرة الجمل يقطعها تقطيعاً موسيقياً ، وهو في إنشائه بادي الصنعة ، ظاهر التكلف ، يتعمد الغريب ، ويسرف في استعماله ، ويفرط في اصطناع المجاز والتزيين ، حتى تجفو عبارته ويقل ماؤها ، ويعسر مساغها ، فقد أولع بالسجع ....
ويضيف ( بطرس ) في نقد مقاماته قائلاً :منزلة الحريري لم تقم على جمال القصص في مقاماته ، والتفنن في أغراضها ، وإنما قامت على إنشائها المنمق ، وما فيها من رموز لغوية ، وأحاج بيانية . فالحريري لم يحفل بالفن القصصي فيعمد إلى ترقيته ، بل قصر همته على التصرف في الألفاظ ، وضروب المحسنات والألغاز ، فجاءت أقاصيصه متشابهة المواضيع ، محدودة الخيال ، ولكنها حافلة بكل عجيب من أنواع البيان والبديع ، وكل غريب من كلام العرب ومذاهبهم . وكان التصنع في الإنشاء هو الطراز الأعلى يومذاك ، ففتن بإنشائه أهل زمانه ، ومن جاء من بعدهم ، فاتخذوا مقاماته عنواناً للكمال ، لا يلتفتون إلى غير الصناعة اللغوية فيها ، وإليها أشار( ابن خالكان ) في كلامه ( والزمخشري )في شعره .

مؤلفاته :
- مقامات الحريري ( أشهر آثاره ترجمت إلى عدة لغات وشرحها غير واح من العلماء )
- درة الغواص في أوهام الخواص
- مُلحة الإعراب ( أرجوزة في النحو )
- ديوان شعر ورسائل

،،،،،،

* المشان : بفتح الميم والشين المعجمة وبعد الألف نون، بليدة فوق البصرة كثيرة النخل موصوفة بشدة الوخم، وكان أصل الحريري منها، ويقال إنه كان له بها ثمانية عشر ألف نخلة، وإنه كان من ذوي اليسار.
هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري الحرامي ، كان أحد أئمة عصره العرب في لغاتها وأمثالها ،ورموز أسرار كلامها، ومن عرفها حق المعرفة استدل فيها على فضل هذا الرجل، وكثرة إطلاعه، وغزارة مادته ، وكان سبب وضعه لها ، ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله ، قال: كان أبي جالساً في مسجد بني حرام ، فدخل شيخ ذو طمرين ، عليه أُهبة السفر ، رث الحال ، فصيح الكلام حسن العبارة ، فسألته الجماعة :من أين الشيخ ؟ فقال من سروج فاستخبروه عن كنيته فقال :أبو زيد فعمل أبي المقامة الثامنة والأربعين المعروفة بالحرامية ، وعزاها إلى أبو زيد المذكور وبعد ذلك أتمها الخمسين.
ورزق الحريري الحظوة التامة في عمله المقامات ، وقد اشتملت على كثير من البلاغات...... ويحدثنا القلقشندي كذلك عن نشأة المقامة فيقول: واعلم أن أول من فتح باب عمل المقامات، علامة الدهر وإمام الأدب البديع الهمذاني (398 هـ) فعمل مقاماته المشهورة المنسوبة إليه، وهي في غاية من البلاغة، وعلو الرتبة في الصنعة، ثم تلاه الإمام أبو محمد القاسم الحريري (515 هـ) فعمل مقاماته الخمسين المشهورة، فجاءت نهاية من الحسن ،وأقبل عليها الخاص والعام"
وقد ورد هذا في صبح الأعشى أيضا في الجزء 14 الصفحة 125
وقال ابن خلكان: بديع الزمان هو صاحب الرسائل الرائقة والمقامات الفائقة وعلى منواله نسج الحريري مقاماته واحتذى حذوه واقتفى أثره واعترف في خطبته بفضله وأنه الذي أرشده إلى سلوك هذا المنهج"
مقامات الحريـــري
مقامات الحريري والتي تدور بمجملها حول اِبتزاز المال عن طريق الحيلة من خلال مغامرات بطلها أبي زيدِ السروجي التي يرويها الحارث بن همام. لغتها مسبوكة متينة، لا تخلو من بعص التصنع .


المقامة البغدادية ...
روى الحارث بن همام قال: ندوت بضواحي الزوراء مع مشيخة من الشعراء لا يعلق لهم مبار بغبار ,ولا يجري معهم ممار في مضمار فأفضنا في حديث يفضح الأزهار إلى أن نصفنا النهار فلما غاض ,در الأفكار وصبت النقوش إلى الأوكار لمحنا عجوزاً تقبل من البعد وتحضر إحضار الجرد وقد استتلت صبية أنحف من المغازل وأضعف من الجوازل ,فما كذبت إذا رأتنا أن عرتنا ,حتى إذا ما حضرتنا قالت ، حي الله المعارف وإن لم يكن معارف ,اعلموا يا مآل الآمال وثمال الأرامل اني من سر وات القبائل وسريات العقائل لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر ويسيرون القلب ويمطون الظهر ويولون اليد فلما أردى الدهر الأعضاد وفجع بالجوارح والأكباد وانقلب ظهراً لبطن نبا الناظر وجفا الحاجب .
وذهبت العين وفقدت الراحة وصلد الزند ووهنت اليمن وضاع اليسار وبانت المرافق ولم يبق لنا ثنية ولا ناب فمذ اغبر العيش الأخضر وازور المحبوب الأصفر اسودّ يومي الأبيض فودي الأسود حتى رثى لي العدو الأزرق فحبذا الموت الأحمر وتلوي من ترون عينه فراره وترجمانه اصفراره قصوى بيد أحدهم ثردة وقصارى أُمنيته بردة وكنت آليت أن لا أبذل الحر إلا الحر ولو أني مت من الضر وقد ناجتني المقرونة بأن توجد عندكم المعونة وآذنتني فراسة ألح وباء بأنكم ينابيع الحباء فنضر الله امرأً أبر قسمي وصدق توسمي ونظر آلي بعين يقذيها الجمود ...
مما تقدم، نرى أن المقامات طراز من النثر الفني ابتكره بديع الزمان ثم حذا حذوه الحريري وغيره من أمثال أبي حفص عمر بن الشهيد الأندلسي.
وتمتاز المقامات بأنها نثر في صورة قصص أو نوادر يرويها شخص واحد لا يتغير، هو عيسى بن هشام عند بديع الزمان، والحارث بن همام عند الحريري. وبطل كل قصة شخص آخر مليح النادرة سريع الخاطر، واسع الحيلة ، يمتاز بالفصاحة والبلاغة، ويدعى أبا الفتح الإسكندري في مقامات بديع الزمان، وأبا زيد السروجي في مقامات الحريري.
وخير مثال لذلك مقامات الزمخشري التي تعمد صاحبها أن تكون نصائح ومن أمثلة ذلك قوله في مقامة التقوى، مخاطبا نفسه:
"يا أبا القاسم العمر قصير، وإلى الله المصير، فما هذا التقصير؟ إن زبرج الدنيا قد أضلك، وشيطان الهوى قد استزلك. لو كنت كما تدعي من أهل اللب والحجى، لأتيت بما هو أحرى بك وأحى، ألا إن الأحجى بك أن تلوذ بالركن الأقوى ، ولا ركن أقوى من ركن التقوى ، الطرق شتى فاختر منها منهجا يهديك، ولا تخط قدماك في مضلة ترديك…"
بديع الزمانالهمذاني
يعد "بديع الزمان الهمذاني" المبتكر الأول لفن المقامة الذيانتشر على نحو واسع كأحد فنون النثر في الأدب العربي، كما يعد الرائد الحقيقيللصحافة، ليس في الأدب العربي فحسب، وإنما كان الصحفي الأول على الإطلاق؛ فقد كانترسائله ومقاماته النقدية الاجتماعية هي البدايات الحقيقية الأولى لذلك الفن الذيعُرف فيما بعد بالصحافة.
ولد "بديعالزمان أبو الفضل أحمد بن الحسينالهمذاني" فيهمذانسنة [358 هـ / 969 م]، لأسرة عربية ذات علم وفضل ومكانة مرموقة، فقد كان أخوه "الحسين بن يحيى" مفتي همذان.
ونشأ "بديع الزمان" في بيئة علمية خصبة، حيث كانتهمذانموطن عدد كبير من العلماء الأعلامالذين تتلمذ عليهم "بديع الزمان"، ومنهم " أحمد بن فارس" اللغوي المعروف، و"أبو بكر محمد بن الحسينالفراء" اللغويالشهير. وفي عام380هـ، انتقلبديع الزمانإلىأصفهانفانضم إلى حلبة شعراءالصاحب بنعباد، ثم يمم وجهه شطرجرجانفأقام فيكنفأبي سعيد بنمنصوروخالط أسرة من أعيانجرجان (تعرفبالإسماعيلية) فأخذ من علمها الشيء الكثير ثم مافتئ أن نشب خلاف بينه وبينأبي سعيد الإسماعيليفغادرجرجانإلىنيسابور، وكان ذلك سنة 382هـ / 992 م واشتدت رغبته في الاتصال باللغويالكبير والأديبالذائع الصيتأبيبكر الخوارزمي،ولبىهذاالخوارزميطلببديعالزمانوالتقيا،فلميحسن الأولاستقبال الثاني و حصلت بينهما قطيعة ونمت بينهما عداوة فاستغل هذاالوضعبعض الناس وهيأوا للأديبين مناظرة كان الفوز فيها لبديع الزمانبفضل سرعة خاطرته، و قوة بديهته. فزادت هده الحادثة منذيوع صيتبديعالزمانعند الملوكو الرؤساءوفتحتله مجال الاتصال بالعديد من أعيان المدينة، والتف حوله الكثير من طلاب العلم، فأملىعليهم بأكثر منأربعمائة مقامة، لم يبقى منهاسوىاثنتان وخمسون. ولم تطل'" إقامةبديعالزمان"' بنيسابورو غادرها متوجها نحوسجستانفأكرمهأميرهاخلف بن أحمدأيما إكرام، لأنه كان مولعابالأدباءوالشعراء. وأهدى إليه "'بديع الزمان"' مقاماته إلا أن الوئام بينهما لميدم طويلا، فقد تلقى "'بديعالزمان"' يوما منالأمير رسالة شديدة اللهجة أثارتغضبه، فغادرسجستانصوبغنزةحيث عاشفي كنفالسلطانمحمودمعززاً مكرماً، و في آخر المطاف حط رحاله بمدينةهراتفاتخذهادار إقامةوصاهرأبا علي الحسين بن محمد الخشناميأحد أعيان هذه المدينة و سادتها فتحسنتأحواله بفضل هذه المصاهرة.
وتوفيبديعالزمان الهمذانيفي [11 منجمادى الآخرة 398 هـ / 23 من فبراير 1008م] عنعمر بلغ أربعين عامًا، وتذكر الروايات أنه مات بالسكتة، وعُجّل بدفنه فأفاق فيقبره، وسمع صوته بالليل، فنُبش عنه، فوجدوه قابضًا على لحيته، ولكن ابن خلكان يذكرأنه مات مسمومًا دون أن يشير إلى من دس له السم، أو أن لهأعداء.

نماذج من المقامات
1- المقامة الصنعانية
حدّثَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: لمّا اقتَعدْتُ غارِبَ الاغتِرابِ. وأنْأتْني المَترَبَةُ عنِ الأتْرابِ. طوّحَتْ بي طَوائِحُ الزّمَنِ. الى صنْعاء اليَمَنِ. فدَخَلْتُها خاويَ الوِفاضِ. باديَ الإنْفاضِ. لا أمْلِكُ بُلْغَةً. ولا أجِدُ في جِرابي مُضْغَةً. فطَفِقْتُ أجوبُ طُرُقاتِها مِثلَ الهائِمِ. وأجولُ في حَوْماتِها جَوَلانَ الحائِمِ. وأرُودُ في مَسارحِ لمَحاتي. ومَسايِحِ غدَواتي ورَوْحاتي. كريماً أُخْلِقُ لهُ ديباجَتي. وأبوحُ إلَيْهِ بحاجتي. أو أديباً تُفَرّجُ رؤيَتُه غُمّتي. وتُرْوي رِوايتُه غُلّتي. حتى أدّتْني خاتِمَةُ المَطافِ. وهدَتْني فاتِحةُ الألْطافِ. الى نادٍ رَحيبٍ. مُحتَوٍ على زِحامٍ ونَحيبٍ. فوَلَجْتُ غابةَ الجمْعِ. لأسْبُرَ مَجْلَبَةَ الدّمْعِ. فرأيتُ في بُهْرَةِ الحَلْقَةِ. شخْصاً شخْتَ الخِلْقَةِ. عليْهِ أُهْبَةُ السّياحَةِ. وله رنّةُ النِّياحَةِ. وهوَ يطْبَعُ الأسْجاعَ بجواهِرِ لفظِهِ. ويقْرَعُ الأسْماعَ بزَواجِرِ وعْظِهِ. وقدْ أحاطَتْ بهِ أخلاطُ الزُّمَرِ. إحاطَةَ الهالَةِ بالقَمَرِ. والأكْمامِ بالثّمرِ. فدَلَفْتُ إليهِ لأقْتَبِسَ من فوائِدِه. وألْتَقِطَ بعْضَ فرائِدِه. فسمِعْتُهُ يقولُ حينَ خبّ في مجالِه. وهَدَرَتْ شَقاشِقُ ارتِجالِه. أيّها السّادِرُ في غُلَوائِهِ. السّادِلُ ثوْبَ خُيَلائِهِ. الجامِحُ في جَهالاتِهِ. الجانِحُ الى خُزَعْبِلاتِه. إلامَ تسْتَمرُّ على غَيّكَ. وتَستَمْرئُ مرْعَى بغْيِكَ? وحَتّامَ تتَناهَى في زهوِكَ. ولا تَنْتَهي عن لَهوِكَ? تُبارِزُ بمَعصِيَتِكَ. مالِكَ ناصِيَتِكَ! وتجْتَرِئُ بقُبْحِ سيرَتِك. على عالِمِ سَريرَتِكَ! وتَتَوارَى عَن قَريبِكَ. وأنتَ بمَرْأى رَقيبِكَ! وتَستَخْفي مِن ممْلوكِكَ وما تَخْفى خافِيَةٌ على مَليكِكَ! أتَظُنُّ أنْ ستَنْفَعُكَ حالُكَ. إذا آنَ ارتِحالُكَ? أو يُنْقِذُكَ مالُكَ. حينَ توبِقُكَ أعمالُكَ? أو يُغْني عنْكَ ندَمُكَ. إذا زلّتْ قدَمُكَ? أو يعْطِفُ عليْكَ معشَرُكَ. يومَ يضُمّكَ مَحْشَرُكَ? هلاّ انتَهَجْتَ مَحَجّةَ اهتِدائِكَ. وعجّلْتَ مُعالجَةَ دائِكَ. وفَلَلْتَ شَباةَ اعتِدائِكَ. وقدَعْتَ نفْسَكَ فهِيَ أكبرُ أعدائِكَ? أما الحِمام ميعادُكَ. فما إعدادُكَ? وبالمَشيبِ إنذارُكَ. فما أعذارُكَ? وفي اللّحْدِ مَقيلُكَ. فما قِيلُكَ? وإلى اللّه مَصيرُكَ. فمَن نصيرُكَ? طالما أيْقَظَكَ الدّهرُ فتَناعَسْتَ. وجذَبَكَ الوعْظُ فتَقاعَسْتَ! وتجلّتْ لكَ العِبَرُ فتَعامَيْتَ. وحَصْحَصَ لكَ الحقُّ فتمارَيْتَ. وأذْكَرَكَ الموتُ فتَناسَيتَ. وأمكنَكَ أنْ تُؤاسِي فما آسيْتَ! تُؤثِرُ فِلساً توعِيهِ. على ذِكْرٍ تَعيهِ. وتَختارُ قَصْراً تُعْليهِ. على بِرٍ تُولِيهِ. وتَرْغَبُ عَنْ هادٍ تَسْتَهْدِيهِ. الى زادٍ تَستَهْديهِ. وتُغلِّبُ حُبّ ثوبٍ تشْتَهيهِ. على ثوابٍ تشْتَريهِ. يَواقيتُ الصِّلاتِ. أعْلَقُ بقَلبِكَ منْ مَواقيتِ الصّلاةِ. ومُغالاةُ الصَّدُقاتِ. آثَرُ عندَكَ من مُوالاةِ الصَّدَقاتِ. وصِحافُ الألْوانِ. أشْهى إلَيْكَ منْ صَحائِفِ الأدْيانِ. ودُعابَةُ الأقْرانِ. آنَسُ لكَ منْ تِلاوَةِ القُرْآنِ! تأمُرُ بالعُرْفِ وتَنتَهِكُ حِماهُ. وتَحْمي عنِ النُّكْرِ ولا تَتحاماهُ! وتُزحزِحُ عنِ الظُلْمِ ثمْ تغْشاهُ. وتخْشَى الناسَ واللهُ أحقُّ أنْ تخْشاهُ! ثمّ أنْشَدَ:

تباً لطالِـبِ دُنْـيا ثَنى إلَيها انصِبابَهْ
ما يسْتَفيقُ غَراماً بها وفَرْطَ صَبابَهْ
ولوْ دَرى لَكفَـاهُ مما يَرومُ صُبابَهْ


ثمّ إنّهُ لبّدَ عَجاجَتَهُ. وغيّضَ مُجاجتَهُ. واعْتَضَدَ شكْوَتَهُ. وتأبّطَ هِراوَتَهُ. فلمّا رنَتِ الجَماعَةُ الى تحفُّزِهِ. ورأتْ تأهُّبَهُ لمُزايَلَةِ مركَزِهِ. أدْخَلَ كلٌ منهُمْ يدَهُ في جيْبِهِ. فأفْعَمَ لهُ سَجْلاً منْ سَيْبِه. وقال: اصْرِفْ هَذا في نفقَتِكَ. أو فرّقْهُ على رُفْقَتِكَ. فقبِلَهُ منهُم مُغضِياً. وانْثَنى عنْهُم مُثْنِياً. وجعَلَ يودِّعُ مَنْ يُشيّعُهُ. ليَخْفَى علَيْهِ مَهْيَعُهُ. ويُسرّبُ منْ يتْبَعُهُ. لكَيْ يُجْهَلَ مرْبَعُهُ. قال الحارِثُ بنُ هَمّامٍ: فاتّبعْتُهُ مُوارِياً عنْهُ عِياني. وقَفوْتُ أثرَهُ منْ حيثُ لا يَراني. حتّى انْتَهى الى مَغارَةٍ. فانْسابَ فيها على غَرارَةٍ. فأمْهَلْتُه ريثَما خلَعَ نعْلَيْهِ. وغسَل رِجلَيْهِ. ثمّ هجَمْتُ علَيهِ. فوجدتُهُ مُشافِناً لتِلْميذٍ. على خبْزِ سَميذٍ. وجَدْيٍ حَنيذٍ. وقُبالَتَهُما خابيةُ نبيذٍ. فقلتُ لهُ: يا هذا أيَكونُ ذاكَ خبرَكَ. وهذا مَخْبَرَكَ? فزَفَرَ زفْرَةَ القَيْظِ. وكادَ يتميّزُ منَ الغيْظِ. ولمْ يزَلْ يحَمْلِقُ إليّ. حتّى خِفْتُ أن يسطُوَ عليّ. فلمّا أن خبَتْ نارُهُ. وتَوارَى أُوارُهُ. أنْشَد:

لبِسْتُ الخَميصةَ أبغي الخَبيصَـهْ وأنْشَبْتُ شِصّيَ في كل شِيصَـه
وصيّرتُ وعْـظـيَ أُحـبـولَةً أُريغُ القَنيصَ بها والقَـنـيصَـه
وألْجأني الدّهْرُ حتـى ولَـجْـتُ بلُطْفِ احتِيالي على اللّيثِ عيصَه
على أنّني لـم أهَـبْ صـرفَـهُ ولا نبَضَتْ لي مِنْـهُ فَـريصَـه
ولا شرَعت بي عـلـى مَـورِدٍ يُدنّسُ عِرضيَ نفْسٌ حَـريصَـه
ولو أنْصَفَ الدّهرُ في حُكـمِـهِ لَما ملّكَ الحُكْمَ أهلَ النّقـيصَـه
ثمّ قال ليَ: ادْنُ فكُلْ. وإنْ شِئْتَ فقُم وقُلْ. فالتَفَتّ الى تِلميذِه وقُلتُ: عزَمْتُ عليْكَ بمَن تستَدفِعُ بهِ الأذى. لتُخْبرَنّي مَنْ ذا. فقال: هذا أبو زيْدٍ السَّروجيُّ سِراجُ الغُرَباء. وتاجُ الأدَباء. فانصرَفْتُ من حيثُ أتيتُ. وقضَيْتُ العجَبَ ممّا رأيْتُ.
2- المقامة الدينارية
رَوى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: نظَمَني وأخْداناً لي نادٍ. لمْ يخِبْ فيه مُنادٍ. ولا كَبا قدْحُ زِنادٍ. ولا ذكَتْ نارُ عِنادٍ. فبيْنَما نحنُ نتجاذَبُ أطْرافَ الأناشيدِ. ونَتوارَدُ طُرَفَ الأسانيدِ. إذْ وقَفَ بِنا شخْصٌ علَيْهِ سمَلٌ. وفي مِشيَتِهِ قزَلٌ. فقال: يا أخايِرَ الذّخائِرِ. وبشائِرَ العَشائِرِ. عِموا صَباحاً. وأنْعِموا اصطِباحاً. وانظُروا الى مَنْ كان ذا نَديّ ونَدًى. وجِدَةٍ وجَداً. وعَقارٍ وقُرًى. ومَقارٍ وقِرًى. فما زالَ بهِ قُطوبُ الخُطوبِ. وحُروبِ الكُروبِ. وشَرَرُ شرِّ الحَسودِ. وانْتِيابُ النّوَبِ السّودِ. حتى صفِرَتِ الرّاحَةُ. وقرِعَتِ الساحَةُ. وغارَ المنْبَعُ. ونَبا المَرْبَعُ. وأقْوى المجْمَعُ. وأقَضّ المضْجَعُ. واستَحالَتِ الحالُ. وأعْوَلَ العِيالُ. وخَلَتِ المَرابِطُ. ورَحِمَ الغابِطُ. وأودى النّاطِقُ والصّامِتُ. ورَثى لَنا الحاسِدُ والشّامِتُ. وآلَ بِنا الدّهرُ الموقِعُ. والفَقْرُ المُدْقِعُ. الى أنِ احْتَذيْنا الوَجى. واغْتذدَينا الشّجا. واستَبْطَنّا الجَوى. وطَوَيْنا الأحْشاءَ على الطّوى. واكْتَحَلْنا السُهادَ. واستَوطَنّا الوِهادَ. واستوطأن القتاد. وتناسينا الأقتاد، واستطبنا الحين المحتاج واستَبْطأنا اليومَ المُتاحَ. فهل من حُرٍّ آسٍ. أو سمْحٍ مُؤاسٍ? فوَالّذي استَخْرَجَني من قَيلَه. لقَد أمْسَيتُ أخا عَيْلَه. لا أمْلِكُ بيْتَ ليْلَه. قال الحارِثُ بنُ همّامٍ: فأوَيْتُ لمَفاقِرِه. ولوَطْتُ الى استِنْباطِ فِقَرِهِ. فأبْرَزتُ ديناراً. وقُلتُ لهُ اختِباراً: إنْ مدَحْتَهُ نَظْماً. فهوَ لكَ حتْماً. فانْبَرى يُنشِدُ في الحالِ. من غيرِ انتِحال:
أكْرِمْ بهِ أصفَرَ راقَتْ صُفرَتُهْ جوّابَ آفاقٍ ترامَتْ سَفرَتُـهْ
مأثورَةٌ سُمعَتُهُ وشُـهـرَتُـهْ قد أُودِعَتْ سِرَّ الغِنى أسرّتُـهْ
وقارَنَتْ نُجحَ المَساعي خطرَتُه وحُبِّبَتْ الى الأنـامِ غُـرّتُـهْ
كأنّما منَ القُلـوبِ نُـقْـرَتُـهْ بهِ يصولُ مَنْ حوَتْهُ صُرّتُـهْ
وإنْ تَفانَتْ أو توانَتْ عِتْـرَتُـهْ يا حبّذا نُضارُهُ ونَـضْـرَتُـهْ
وحبّذا مَغْناتُـهُ ونـصْـرَتُـهْ كمْ آمِرٍ بهِ استَتَبّتْ إمـرَتُـهْ
ومُتْرَفٍ لوْلاهُ دمَتْ حسْرَتُـهْ وجيْشِ همٍّ هزمَتْـهُ كـرّتُـهْ
وبدرِ تِمٍّ أنـزَلَـتْـهُ بـدْرَتُـهْ ومُستَشيطٍ تتلظّى جمْـرَتُـهْ
أسَرّ نجْواهُ فلانَـتْ شِـرّتُـهْ وكمْ أسيرٍ أسْلمَتْـهُ أُسـرَتُـهْ
أنقَذَهُ حتى صفَتْ مـسـرّتُـهْ وحقِّ موْلًى أبدَعَتْهُ فِطْرَتُـهْ
لوْلا التُقَى لقُلتُ جلّتْ قُدرتُهْ
ثم بسَط يدَهُ. بعدَما أنْشدَهُ. وقال: أنْجَزَ حُرٌ ما وعَدَ. وسَحّ خالٌ إذ رَعَدَ. فنبَذْتُ الدّينارَ إليْهِ. وقلتُ: خُذْهُ غيرَ مأسوفٍ علَيْهِ. فوضَعهُ في فيهِ. وقال: بارِك اللهُمّ فيهِ! ثمّ شمّرَ للانْثِناء. بعْدَ توفِيَةِ الثّناء. فنشأتْ لي منْ فُكاهَتِه نشوَةُ غرامٍ. سهّلَتْ عليّ ائْتِنافَ اغْتِرامٍ. فجرّدْتُ ديناراً آخَرَ وقلتُ لهُ: هلْ لكَ في أنْ تذُمّهُ. ثم تضُمّهُ? فأنشدَ مُرتَجِلاً. وشَدا عجِلاً:
تبّاً لهُ مـن خـادِعٍ مُـمـاذِقِ أصْفَرَ ذي وجْهَيْنِ كالمُنـافِـقِ
يَبدو بوَصْفَينِ لعَـينِ الـرّامِـقِ زينَةِ معْشوقٍ ولوْنِ عـاشِـقِ
وحُبّهُ عنـدَ ذَوي الـحَـقـائِقِ يدْعو الى ارتِكابِ سُخْطِ الخالِقِ
لوْلاهُ لمْ تُقْطَـعْ يَمـينُ سـارِقِ ولا بدَتْ مظْلِمَةٌ منْ فـاسِـقِ
ولا اشْمأزّ باخِلٌ مـنْ طـارِقِ ولا شكا المَمطولُ مطلَ العائِقِ
ولا استُعيذَ منْ حَسـودٍ راشِـقِ وشرّ ما فيهِ مـنَ الـخـلائِقِ
أنْ ليسَ يُغْني عنْكَ في المَضايِقِ إلاّ إذا فـرّ فِـرارَ الآبِــقِ
واهاً لمَنْ يقْذِفُهُ مـنْ حـالِـقِ ومَنْ إذا ناجاهُ نجْوى الوامِـقِ
قال لهُ قوْلَ المُحقّ الـصّـادِقِ لا رأيَ في وصلِكَ لي ففارِقِ
فقلتُ له: ما أغزَرَ وبْلَكَ! فقال: والشّرْطُ أمْلَكُ. فنفَحتُهُ بالدّينارِ الثّاني. وقلتُ لهُ: عوّذهُما بالمَثاني. فألْقاهُ في فمِهِ. وقرَنَهُ بتوأمِهِ. وانْكفأ يحمَدُ مغْداهُ. ويمْدَحُ النّاديَ ونَداهُ. قالَ الحارِثُ بنُ همّامٍ: فناجاني قلبي بأنّهُ أبو زيدٍ. وأنّ تعارُجَهُ لِكَيدٍ. فاستَعَدْتُهُ وقلتُ له: قد عُرِفْتَ بوشْيِكَ. فاستَقِمْ في مشيِكَ. فقال: إنْ كُنتَ ابنَ هَمّامٍ. فحُيّيتَ بإكْرامٍ. وحَييتَ بينَ كِرامٍ! فقلتُ: أنا الحارثُ. فكيفَ حالُك والحوادِثُ? فقال: أتقلّبُ في الحالَينِ بُؤسٍ ورَخاءٍ. وأنقَلِبُ مع الرّيحَينِ زعْزَعٍ ورُخاءٍ. فقلتُ: كيفَ ادّعَيْتَ القَزَلَ? وما مِثلُكَ مَن هزَلَ. فاستَسَرّ بِشرُهُ الذي كانَ تجلّى. ثمّ أنشَدَ حينَ ولّى:
تعارَجْتُ لا رَغبَةً في العرَجْ ولكِنْ لأقْرَعَ بابَ الـفـرَجْ
وأُلْقيَ حبْلي على غـارِبـي وأسلُكَ مسْلَكَ مَن قد مرَجْ
فإنْ لامَني القومُ قلتُ اعذِروا فليسَ على أعْرَجٍ من حرَجْ
3- المقامة الحرامية
روى الحارثُ بنُ همّامٍ عنْ أبي زيدٍ السَّروجيّ قال: ما زِلْتُ مُذ رحَلْتُ عنْسي. وارتَحَلْتُ عنْ عِرْسي وغَرْسي. أحِنّ إلى عِيانِ البَصرَةِ. حَنينَ المظْلومِ الى النُصرَةِ. لِما أجمَعَ عليْهِ أرْبابُ الدّرايَةِ. وأصْحابُ الرّوايَةِ. منْ خصائِصِ معالمِها وعُلَمائِها. ومآثِرِ مشاهِدِها وشُهَدائِها. وأسْألُ اللهَ أن يوطِئَني ثَراها. لأفوزَ بمرْآها. وأنْ يُمطيَني قَراها. لأقْتَري قُراها. فلمّا أحَلّنيها الحظُّ. وسرَحَ لي فيها اللّحْظُ. رأيتُ بها ما يمْلأ العَينَ قُرّةً. ويُسْلي عنِ الأوطانِ كلّ غَريبٍ. فغلَسْتُ في بعض الأيامِ. حينَ نصَلَ خِضابُ الظّلامِ. وهتَفَ أبو المُنذِرِ بالنُّوّامِ. لأخْطوَ في خِطَطِها. وأقْضيَ الوطَرَ منْ توسُّطِها. فأدّاني الاخْتِراقُ في مَسالِكِها. والانصِلاتُ في سِككِها. الى محلّةٍ موسومَةٍ بالاحْتِرامِ. منسوبَةٍ الى بني حَرامٍ. ذاتِ مَساجِدَ مشهودَةٍ. وحِياضٍ موْرودَةٍ. ومَبانٍ وثيقَةٍ. ومغانٍ أنيقَةٍ. وخصائِصَ أثيرَةٍ. ومَزايا كثيرةٍ:
بها ما شِئْتَ مـنْ دِينٍ ودُنْـيا وجيرانٍ تنافَوْا في المعانـي
فمَشغوفٌ بآياتِ المـثـانـي ومفْتونٌ برَنّاتِ المـثـانـي
ومُضْطَلِعٌ بتلْخيصِ المعانـي ومُطّلِعٌ الى تخْلـيصِ عـانِ
وكمْ منْ قارِئٍ فيهـا وقـارٍ أضَرّا بالجُفونِ وبالجِـفـانِ
وكمْ منْ مَعْلَمٍ للعِلْـمِ فـيهـا ونادٍ للنّدى حُلْوِ المَـجـانـي
ومَغْنًى لا تزالُ تـغَـنُّ فـيهِ أغاريدُ الغَواني والأغـانـي
فصِلْ إن شِئتَ فيها مَنْ يُصَلّي وإمّا شِئْتَ فادنُ منَ الدِّنـانِ
ودونَكَ صُحبَةَ الأكياسِ فيهـا أوِ الكاساتِ منطَلِقَ العِنـانِ
قال: فبَينَما أنا أنفُضُ طُرُقَها. وأستَشِفُّ رونَقَها. إذْ لمحْتُ عندَ دُلوكِ بَراحِ. وإظْلالِ الرّواحِ. مسجِداً مُشتَهِراً بطَرائِفِهِ. مزدَهِراً بطوائِفِه. وقد أجْرى أهلُهُ ذِكْرَ حُروفِ البدَلِ. وجرَوْا في حلْبَةِ الجدَلِ. فعُجْتُ نحوَهُمْ. لأستَمطِرَ نوّهُمْ. لا لأقتَبِسَ نحوَهُمْ. فلمْ يكُ إلا كقَبْسَةِ العَجْلانِ. حتى ارتفَعَتِ الأصْواتُ بالأذانِ. ثمّ رَدِفَ التّأذينَ بُروزُ الإمامِ. فأُغْمِدَتْ ظُبى الكلامِ. وحُلّتِ الحِبى للقِيامِ. وشُغِلْنا بالقُنوتِ. عنِ استِمْدادِ القوتِ. وبالسّجودِ. عنِ استِنْزال الجودِ. ولمّا قُضيَ الفَرْضُ. وكادَ الجمْعُ ينفَضّ. انْبَرى منَ الجماعَةِ. كهْلٌ حُلْوُ البَراعةِ. لهُ منَ السّمتِ الحسَنِ. ذَلاقَةُ اللّسَنِ. وفَصاحَةُ الحسَنِ. وقال: يا جيرَتي. الذينَ اصْطفَيتُهُمْ على أغصانِ شجرَتي. وجعلْتُ خِطتَهُمْ دارَ هِجرَتي. واتّخَذْتُهُمْ كَرِشي وعَيبَتي. وأعددْتُهُمْ لمَحْضَري وغيْبَتي. أما تعْلَمونَ أنّ لَبوسَ الصّدقِ أبْهى الملابِسِ الفاخِرةٍ. وأنّ فُضوحَ الدُنيا أهوَنُ منْ فُضوحِ الآخِرَةِ? وأنّ الدّينَ إمْحاضُ النّصيحَةِ. والإرْشادَ عُنوانُ العَقيدَةِ الصّحيحةِ? وأنّ المُستَشارَ مُؤتَمَنٌ. والمستَرشِدَ بالنُصحِ قَمِنٌ? وأنّ أخاكَ هوَ الذي عذلَكَ. لا الذي عذَرَكَ? وصديقَكَ منْ صدقَكَ. لا مَنْ صدّقَكَ? فقال لهُ الحاضِرون: أيها الخِلّ الوَدودُ. والخِدْنُ الموْدودُ. ما سِرّ كلامِكَ المُلغَزِ. وما شرْحُ خِطابِكَ الموجِزِ. وما الذي تبْغيهِ منّا ليُنْجَزَ? فوَالذي حَبانا بمحبّتِكَ. وجعلَنا منْ صفْوَةِ أحِبّتِكَ. ما نألوكَ نُصْحاً. ولا ندّخِرُ عنْكَ نَضْحاً. فقال: جُزيتُمْ خيراً. ووُقيتُمْ ضَيراً. فإنّكُمْ ممّنْ لا يَشْقى بهِمْ جَليسٌ. ولا يصدُرُ عنهُمْ تلْبيسٌ. ولا يُخيَّبُ فيهِمْ مَظنونٌ. ولا يُطْوى دونَهُمْ مكْنونٌ. وسأبُثّكمْ ما حاكَ في صدْري. وأستَفْتيكُمْ في ما عيلَ فيهِ صبْري. اعْلَموا أني كُنتُ عندَ صُلودِ الزّنْدِ. وصُدودِ الجَدّ. أخْلَصْتُ معَ اللهِ نِيّةَ العقْدِ. وأعطَيتُهُ صَفقَةَ العهْدِ. على أنْ لا أسْبأ مُداماً. ولا أُعاقِرَ نَدامَي. ولا أحْتَسيَ قهوَةً. ولا أكْتَسيَ نشْوَةً. فسوّلَتْ ليَ النّفسُ المُضِلّةُ. والشّهوَةُ المُذلّةُ المُزِلةُ. أنْ نادَمْتُ الأبْطالَ. وعاطَيتُ الأرْطالَ. وأضَعْتُ الوَقارَ. وارتضَعْتُ العُقارَ. وامتطَيْتُ مَطا الكُمَيتِ. وتناسيْتُ التّوبَةَ تَناسيَ الميْتِ. ثمّ لمْ أقْنَعْ بهاتِيكُمُ المَرّةِ. في طاعَةِ أبي مُرّةَ. حتى عكفْتُ على الخَندَريسِ. في يومِ الخَميسِ. وبتُّ صَريعَ الصّهْباء. في اللّيلَةِ الغرّاء. وها أنا بادي الكآبَةِ. لرَفْضِ الإنابَةِ. نامي النّدامَةِ. لوصْلِ المُدامَةِ. شديدُ الإشْفاقِ. منْ نقْضِ الميثاقِ. مُعتَرِفٌ بالإسْرافِ. في عَبّ السُّلافِ:
فيَا قوْمِ هلْ كَفّارَةٌ تعْرِفونَـهـا تُباعِدُ منْ ذَنْبي وتُدني الى ربّي
قال أبو زيد: فلمّا حلّ أُنشوطَةَ نفْثِهِ. وقَضى الوَطَرَ منِ اشتِكاء بثّهِ. ناجَتْني نفْسي يا أبا زيْدٍ. هذهِ نُهزَةُ صيْدٍ. فشمّرْ عن يدٍ وأيْدٍ. فانتهَضْتُ منْ مَجْثِمي انتِهاضَ الشّهْمِ.
وانخرَطْتُ منَ الصّفّ انخِراطَ السّهْمِ. وقُلتُ:
أيهـا الأرْوَعُ الــذي فاقَ مجْـداً وسـؤدُدا
والذي يبْتَغي الـرّشـا دَ ليَنجـو بـهِ غَـدا
إنّ عندي عِـلاجَ مـا بِتَّ منهُ مـسَـهَّـدا
فاستَمِعْهـا عـجـيبةً غادرَتْنـي مُـلَـدَّدا
أنا منْ ساكِني سَـرو جَ ذَوي الدّينِ والهُدى
كنتُ ذا ثـرْوَةٍ بـهـا ومُطاعـاً مُـسَـوَّدا
مرْبَعي مألَفُ الضّـيو فِ ومالي لهُمْ سُـدَى
أشتَري الحمْدَ باللُّهـى وأقي العِرْضَ بالجَدا
لا أُبالي بـمُـنـفِـسٍ طاحَ في البَذْلِ والنّدى
أوقِدُ النـارَ بـالـيَفـا عِ إذا النِّكسُ أخْمَـدا
وبَراني المـؤمِّـلـو نَ مَلاذاً ومَقْـصِـدا
لمْ يشِمْ بارِقـي صَـدٍ فانْثَنى يشْتَكي الصّدَى
لا ولا رامَ قـابِــسٌ قدْحَ زَندي فأصْـلَـدا
طالَما ساعَدَ الـزّمـا نُ فأصْبَحْتُ مُسْعَـدا
فقَضى اللـهُ أنْ يُغـيّ رَ مـا كـانَ عَـوّدا
بوّأ الـرّومَ أرْضَـنـا بعْدَ ضِغْـنٍ تـولَّـدا
فاسْتباحوا حـريمَ مَـنْ صادَفـوهُ مـوَحِّـدا
وحوَوْا كلَّ ما استـس رّ بها لي ومـا بـدا
فتطوّحْتُ في الـبِـلا دِ طَـريداً مُـشـرَّدا
أجْتَدي الناسَ بعْـدَمـا كُنتُ من قَبْلُ مُجْتَدى
وتُرى بي خَصـاصَةٌ أتَمنّى لـهـا الـرّدى
والـبَـلاءُ الـذي بـهِ شمْلٌ أُنسـي تـبَـدّدا
إسْتِباءُ ابْنَتـي الـتـي أسَروها لتُـفْـتَـدى
فاسْتَبِنْ مِحـنَـتـي وم دّ الى نُصْـرَتـي يَدا
وأجِرْني منَ الـزّمـا نِ فقدْ جارَ واعْتَـدى
وأعِنّي علـى فَـكـا كِ ابْنَتي منْ يدِ العِدَى
فبِذا تَنْمَـحـي الـمـآ ثِمُ عـمّـنْ تـمـرّدا
وبِـهِ تُـقـبَـلُ الإنـا بَةُ مـمّـنْ تـزَهّـدا
وهْوَ كفّـارَةٌ لـمَـنْ زاغَ منْ بعْدِ ما اهْتَدى
ولَئِنْ قُمتُ مُـنـشِـداً فلقَدْ فُهْتُ مُـرشِـدا
فاقْبَلِ النُصْحَ والـهِـدا يَةَ واشْكُرْ لمَنْ هَـدى
واسمَحِ الآنَ بـالّـذي يتسنّى لـتُـحْـمَـدا
قال أبو زيدٍ: فلمّا أتْمَمْتُ هذْرَمَتي. وأُوهِمَ المسؤولُ صِدْقَ كلِمَتي. أغْراهُ القرَمُ الى الكرَمِ بمؤاساتي. ورغّبَهُ الكلَفُ بحمْلِ الكُلَفِ في مُقاساتي. فرضَخَ لي على الحافِرَةِ. ونضَخَ لي بالعِدَةِ الوافِرَةِ. فانقلَبْتُ الى وَكْري. فرِحاً بنُجْحِ مَكْري. وقد حصلْتُ منْ صوْغِ المَكيدةِ. على سوْغِ الثّريدَةِ. ووصلْتُ منْ حوْكِ القَصيدَةِ. الى لوْكِ العَصيدَةِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ سُبحانَ منْ أبدعَكَ. فما أعْظمَ خُدَعَكَ. وأخْبَثَ بدَعَكَ! فاستَغْرَبَ في الضّحِك. ثمّ أنشدَ غيرَ مُرتَبِكٍ:
عِشْ بالخِداعِ فأنـتَ فـي دهْرٍ بَنوهُ كأُسْدِ بِـيشَـهْ
وأدِرْ قَناةَ المَـكْـرِ حـت ى تسْتَديرَ رَحى المَعيشَهْ
وصِدِ النّسورَ فإنْ تـعـذ رَ صيدُها فاقْنَعْ بريشَـهْ
واجْنِ الثّمارَ فإنْ تـفُـتْ كَ فرَضّ نفسَكَ بالحشيشَهْ
وأرِحْ فـؤادَكَ إنْ نَـبـا دهْرٌ منَ الفِكَرِ المُطيشَهْ
فتـغـايُرُ الأحْــداثِ يؤ ذِنُ باستِحالَةِ كُلّ عيشَـهْ
4- المقامة التِّنِّيسيّة
حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أطَعْتُ دَواعيَ التّصابي. في غُلَواء شَبابي. فلمْ أزَلْ زِيراً للغِيدِ. وأُذُناً للأغارِيدِ. الى أن وافَى النّذيرُ. وولّى العيشُ النّضيرُ. فقَرِمْتُ الى رُشْدِ الانتِباهِ. وندِمْتُ على ما فرّطْتُ في جنْبِ اللهِ. ثمّ أخذْتُ في كسْعِ الهَناتِ بالحَسَناتِ. وتلافي الهفَواتِ قبلَ الفَواتِ. فمِلْتُ عنْ مُغاداةِ الغاداتِ. الى مُلاقاةِ التُّقاةِ. وعنْ مُقاناةِ القَيْناتِ. الى مُداناةِ أهلِ الدّياناتِ. وآلَيتُ أن لا أصْحَبَ إلا مَنْ نزَعَ عنِ الغَيّ. وفاءَ منشَرُهُ الى الطّيّ. وإنْ ألْفَيْتُ منْ هوَ خَليعُ الرّسَنِ. مَديدُ الوسَنِ. أنْأيْتُ داري عن دارِهِ. وفرَرْتُ عنْ عَرّهِ وعارِهِ. فلمّا ألقَتني الغُربَةُ بتِنّيسَ. وأحَلّتني مسجِدَها الأنيسَ. رأيتُ بهِ ذا حَلقَةٍ مُلتَحمَةٍ. ونظّارَةٍ مُزدَحِمةٍ. وهوَ يقولُ بجأشٍ مَكينٍو ولِسنٍ مُبينٍ: مِسكينٌ ابنُ آدمَ وأيُّ مِسكينٍ. ركَنَ من الدّنيا الى غيرِ رَكينٍ. واستَعصَمَ منها بغيرِ مَكسنٍ. وذُبِحَ من حُبّها بغيرِ سِكّينٍ. يَكْلَفُ بها لغَباوَتِهِ. ويَكْلَبُ عليْها لشَقاوَتِهِ. ويعْتَدّ فيها لمُفاخرَتِهِ. ولا يتزوّدُ منها لآخرتِهِ. أُقسمُ بمَنْ مرَجَ البَحرَينِ. ونوّرَ القمَرَينِ. ورفَعَ قدْرَ الحجريْنِ. لوْ عقَلَ ابنُ آدَمَ. لما نادَمَ. ولوْ فكّرَ في ما قدّمَ. لبَكى الدّمَ. ولوْ ذكَرَ المُكافاةَ. لاستَدرَكَ ما فاتَ. ولوْ نظَرَ في المآلِ. لحسّنَ قُبْل الأعْمالِ. يا عجَباً كلَّ العجَبِ. لمَنْ يقتَحِمُ ذاتَ اللّهَبِ. في اكْتِنازِ الذّهبِ. وخزْنِ النّشَبِ. لذوي النّسَبِ. ثمّ منَ البِدْعِ العَجيبِ. أن يعِظَكَ وخْطُ المشيبِ. وتؤذِنُ شمسُكَ بالمَغيبِ. ولستَ ترى أن تُنيبَ. وتهذّبَ المَعيبَ. ثمّ اندفَعَ يُنشِدُ. إنشادَ منْ يُرشِدُ:

يا ويْحَ مَـنْ أنـذرَهُ شَـيبُــهُ وهوَ على غَيّ الصِّبا منكَمِـشْ
يعْشو الى نارِ الهَوى بـعْـدَمـا أصبَحَ من ضُعْفِ القُوى يرتَعِش
ويمتَطـي الـلـهْـوَ ويعْـتَـدُّهُ أوْطأ ما يفتَرِشُ المُـفـتَـرِشْ
لم يهَبِ الشّيبَ الـذي مـا رأى نجومَهُ ذو الـلُّـبّ إلا دُهِـشْ
ولا انتهَى عمّا نَهـاهُ الـنُـهـى عنهُ ولا بالى بعِـرْضٍ خُـدِشْ
فذاكَ إنْ ماتَ فسُـحْـقـاً لـهُ وإن يعِشْ عُدّ كأنْ لـمْ يعِـشْ
لا خيْرَ في مَحْيا امرئٍ نشْـرُهُ كنَشْرِ ميْتٍ بعدَ عشْرٍ نُـبِـشْ
وحبّذا مَـن عِـرضُـهُ طـيّبٌ يَروقُ حُسْناً مثلَ بُـرْدٍ رُقِـشْ
فقُلْ لمَن قـد شـاكَـهُ ذنـبُـهُ هلَكْتَ يا مِسكينُ أو تنتَـقِـشْ
فأخْلِصِ التّوبَةَ تطمِـسْ بـهـا منَ الخَطايا السودِ ما قد نُقِـشْ
وعاشِرِ الناسَ بخُلـقٍ رِضًـى ودارِ منْ طاشَ ومنْ لم يطِشْ
ورِشْ جَناحَ الحُرّ إنْ حَـصّـهُ زمانُهُ لا كانَ مـنْ لـم يرِشْ
وأنجِدِ الموْتورَ ظُـلـمـاً فـإنْ عجِزْتَ عن إنْجادِهِ فاستجِـشْ
وانعَشْ إذا نـاداكَ ذو كَـبـوَةٍ عساكَ في الحشْرِ بهِ تنتَعِـشْ
وهاكَ كأسَ النُصْحِ فاشرَبْ وجُدْ بفَضْلَةِ الكأسِ على مَنْ عطِشْ
قال: فلمّا فرَغَ من مُبكِياتِهِ. وقضَى إنشادَ أبياتِهِ. نهضَ صبيٌّ قد شدَنَ. وأعْرى البَدَنَ. وقال: يا ذَوي الحَصاةِ. والإنْصاتِ الى الوَصاةِ. قد وعَيْتُمُ الإنشادَ. وفقِهتُمُ الإرْشادَ. فمَن نَوى منكُمْ أن يقْبَلَ. ويُصلِحَ المُستَقبَلَ. فلْيُبِنْ ببِرّي عنْ نِيّتِهِ. ولا يعدِلْ عني بعَطيّتِهِ. فوالذي يعلَمُ الأسرارَ. ويغفِرُ الإصْرارَ. إنّ سرّي لكَما تَرَوْنَ. وإنّ وجهي ليَستَوْجِبُ الصّوْنَ. فأعينوني رُزِقْتُمُ العوْنَ. قال: فأخذَ الشيخُ في ما يعطِفُ عليْهِ القُلوبَ. ويُسَنّي لهُ المطْلوبَ. حتى أنْبَطَ حَفرُهُ. واعْشَوشَبَ قَفْرُهُ. فلمّا أنْ ترِعَ الكيسُ. انصَلَتَ يميسُ. ويحمَدُ تِنّيسَ. ولمْ يحْلُ للشيخِ المُقامُ. بعْدَما انْصاعَ الغُلامُ. فاستَرْفَعَ الأيْدي بالدّعاء. ثمّ نَحا نحْوَ الانكِفاء. قال الراوي: فارتَحْتُ الى أن أعجُمَهُ. وأحُلَّ مُترجَمَهُ. فتَبعتُهُ وهو يشتَدّ في سمْتِهِ. ولا يفْتُقُ رتْقَ صمتِهِ. فلمّا أمِنَ المُفاجيَ. وأمكَنَ التّناجي. لفَتَ جيدَهُ إليّ. وسلّمَ تسْليمَ البَشاشَةِ عليّ. ثمّ قال: أراقَكَ ذكاءُ ذاكَ الشُّوَيْدِنِ? فقلتُ: إي والمؤمِنِ المُهَيمِنِ! قال: إنهُ فتى السّروجيّ. ومُخرِجِ الدُّرّ منَ اللُّجّيّ! فقلْتُ: أشهَدُ إنّكَ لَشَجرَةُ ثمرَتِهِ. وشُواظُ شرَرَتِهِ. فصدّقَ كَهانَتي. واستَحْسَنَ إبانَتي. ثمّ قال: هل لكَ في ابتِدارِ البيتِ. لنَتنازَعَ كأسَ الكُمَيتِ? فقلتُ لهُ: ويْحَكَ أتأمُرونَ الناسَ بالبِرّ وتَنسَوْنَ أنفُسَكُمْ? فافتَرّ افتِرارَ مُتَضاحِكٍ. ومرّ غيرَ مُماحِكٍ. ثمّ بَدا لهُ أنْ تَراجَعَ إليّ. وقال: احفَظْها عني وعليّ:
إصْرِفْ بصِرْفِ الرّاحِ عنكَ الأسى وروّحِ القـلْـبَ ولا تـكـتَـئِبْ
وقلْ لمَـنْ لامـكَ فـي مـا بِـهِ تدفعُ عنكَ الـهـمّ قـدْكَ اتّـئِبْ
ثمّ قال: أمَا أنا فسأنطَلِقُ. الى حيثُ أصطَبِحُ وأغْتَبِقُ. وإذا كُنتَ لا تَصحَبُ. ولا تُلائِمُ مَن يطرَبُ. فلسْتَ لي برَفيقٍ. ولا طريقُكَ لي بطَريقٍ. فخَلّ سَبيلي ونكّبْ. ولا تُنقّرْ عني ولا تُنقّبْ. ثمّ ولّى مُدْبِراً ولمْ يُعَقّبْ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فالْتَهَبْتُ وجْداً عندَ انطِلاقِهِ. ووَدِدْتُ لوْ لمْ أُلاقِهِ
5- المقامة المعَرّيَّة
أخبرَ الحارِثُ بنُ هَمّامٍ قال: رأيتُ منْ أعاجيبِ الزّمانِ. أن تقدّم خَصْمانِ. الى قاضي مَعرّةِ النّعمانِ. أحدُهُما قدْ ذهَبَ منْهُ الأطْيَبانِ. والآخَرُ كأنّهُ قَضيبُ البانِ. فقال الشيخُ: أيّدَ اللهُ القاضيَ. كما أيّدَ بهِ المُتقاضيَ. إنّهُ كانَتْ لي مَمْلوكَةٌ رَشِقَةُ القدّ. أسيلَةُ الخدّ. صَبورٌ على الكدّ. تخُبّ أحْياناً كالنّهْدِ. وترقُدُ أطْواراً في المهْدِ. وتجِدُ في تمّوزَ مَسَّ البَرْدِ. ذاتُ عقْلٍ وعِنانٍ. وحدٍ وسِنانٍ. وكفٍّ ببَنانٍ. وفمٍ بلا أسْنانٍ. تلْدَغُ بلِسانٍ نَضْناضٍ. وترْفُلُ في ذيْلٍ فضْفاضٍ. وتُجْلى في سَوادٍ وبَياضٍ. وتُسْقَى ولكِنْ منْ غيرِ حِياضٍ. ناصِحَةٌ خُدَعَةٌ. خُبَأةٌ طُلَعَةٌ. مطْبوعَةٌ على المنفَعَةِ. ومطْواعَةٌ في الضّيقِ والسَّعَةِ. إذا قطَعَتْ وصَلَتْ. ومتى فصَلتَها عنْكَ انفَصَلَتْ. وطالَما خدَمَتْكَ فجمّلَتْ. وربّما جنَتْ عليْكَ فآلَمَتْ وملْمَلَتْ. وإنّ هذا الفَتى استَخْدَمَنيها لغرَضٍ. فأخْدَمْتُهُ إيّاها بِلا عِوَضٍ. على أن يجْتَنيَ نفْعَها. ولا يُكلّفَها إلا وُسْعَه. فأوْلَجَ فيها مَتاعَهُ. وأطالَ بها استِمْتاعَهُ. ثم أعادَها إليّ وقدْ أفْضاها. وبذَلَ عنْها قيمَةً لا أرضاها. فقال الحَدَثُ: أمّا الشيخُ فأصدَقُ منَ القَطا. وأما الإفْضاءُ ففَرَطَ عنْ خَطا. وقدْ رهَنْتُهُ. عن أرْشِ ما أوْهَنْتُهُ. ممْلوكاً لي مُتناسِبَ الطّرَفَينِ. مُنتَسِباً الى القَينِ. نقِيّاً منَ الدّرَنِ والشَّينِ. يُقارِنُ محلُّهُ سَوادَ العينِ. يُفْشي الإحْسانَ. ويُنْشي الاسْتِحْسانَ. ويُغْذي الإنْسانَ. ويتَحامَى اللّسانَ. إنْ سُوّدَ جادَ. أو وَسَمَ أجادَ. وإذا زُوّدَ وَهَبَ الزّادَ. ومَتى اسْتُزيدَ زادَ. لا يستَقِرّ بمَغْنى. وقلّما ينكِحُ إلا مَثْنى. يسْخو بمَوجودِه. ويسْمو عندَ جودِهِ. وينْقادُ معَ قَرينَتِهِ. وإنْ لمْ تكنْ منْ طينَتِهِ. ويُستَمْتَعُ بزينَتِهِ. وإنْ لمْ يُطْمَعْ في لينَتِه. فقال لهُما القاضي: إمّا أن تُبينا. وإلا فَينا.فابْتَدَر الغُلامُ وقال:
أعارني إبرَةً لأرفـوَ أطْـمـا راً عَفاها البِلـى وسـوّدَهـا
فانخرَمَتْ في يَدي على خطَـإٍ منّيَ لمّا جذَبْتُ مِـقـوَدَهـا
فلمْ ير الشيخُ أن يُسامِحَـنـي بإرْشِـهـا إذْ رأى تـأوُّدَهـا
بلْ قال هاتِ إبرَةً تُماثِـلُـهـا أو قيمَةً بعْدَ أن تـجـوّدَهـا
واعْتاقَ ميلي رَهْناً لـدَيْهِ ونـا هيكَ بـه سُـبّةً تَـزوّدَهــا
فالعينُ مَرْهَى لرَهْـنِـه ويدي تقصُرُ عنْ أن تفُكّ مِروَدَهـا
فاسبُرْ بذا الشّرْحِ غوْرَ مسكَنتي وارْثِ لمنْ لم يكُنْ تعـوّدَهـا
فأقبلَ القاضي على الشيخِ وقال: إيهٍ. بغَيرِ تمْويهٍ! فقال:
أقسَمْتُ بالمَشْعَرِ الحَرامِ ومنْ ضمّ منَ الناسِكينَ خَيْفُ مِنى
لوْ ساعَفَتْني الأيّامُ لمْ يرَنـي مُرتَهِناً مِيلَهُ الذي رَهَـنـا
ولا تصدّيتُ أبتَـغـي بـدَلاً منْ إبرَةٍ غالَها ولا ثَمَـنـا
لكِنّ قوْسَ الخُطوبِ ترْشِقُني بمُصْمِياتٍ منْ هاهُنا وهُنـا
وخُبْرُ حالي كخُبْرِ حالـتِـهِ ضُرّاً وبؤساً وغُربَةً وضَنى
قد عدَلَ الدهْرُ بينَنـا فـأنـا نظيرُهُ في الشّقاء وهْوَ أنـا
لا هُوَ يسْطيعُ فـكّ مِـروَدِهِ لمّا غدا في يَدَيّ مُرتَهَـنـا
ولا مَجالي لِضيقِ ذاتِ يَدي فيهِ اتّساعٌ للعَفْوِ حينَ جَنـى
فهَذِهِ قصّتـي وقـصّـتُـه فانْظُرْ إلَيْنا وبينَنـا ولَـنـا
فلمّا وعَى القاضي قَصَصهُما. وتبيّنَ خَصاصَتَهُما وتخَصُّصَهُما. أبرَزَ لهُما ديناراً منْ تحْتِ مُصَلاُّه. وقال لهُما: اقْطَعا بهِ الخِصامَ وافِصلاهُ. فتلقّفَهُ الشيخُ دونَ الحدَثِ. واستَخلَصَهُ على وجهِ الجِدِّ لا العبَثِ. وقال للحدَثِ: نِصْفُه لي بسَهْمِ مَبَرّتي. وسهْمُكَ لي عنْ أرْشِ إبْرَتي. ولستُ عنِ الحقّ أميلُ. فقُمْ وخُذِ الميلَ. فعَرا الحدَثَ لما حدثَ اكتِئابٌ. واكفَهَرّ على سَمائِهِ سَحابٌ. وجَمَ لهُ القاضي. وهيّجَ أسَفَهُ على الدّينارِ الماضي. إلا أنّهُ جبَرَ بالَ الفتَى وبَلْبالَهُ. بدُرَيْهِماتٍ رضَخَ بها له. وقال لهُما: اجْتَنِبا المُعامَلاتِ. وادْرآ المُخاصَماتِ. ولا تحْضُراني في المُحاكَماتِ. فما عِندي كيسُ الغَراماتِ. فنَهَضا منْ عِنْدِه. فرِحَينَ برِفْدِه. مُفصِحَينِ بحَمدِه. والقاضي ما يخْبو ضجَرُهُ. مُذْ بضَّ حجَرُهُ. ولا ينْصُلُ كمدُه. مُذْ رشَحَ جَلمَدُهُ. حتى إذا أفاقَ منْ غشيَتِه. أقبلَ على غاشِيَتِه. وقال: قدْ أُشرِبَ حِسّي. ونبّزني حدْسي. أنهُما صاحِبا دَهاء. لا خَصْما ادّعاء. فكيفَ السّبيلُ الى سبرِهِما. واستِنْباطِ سرّهِما? فقال له نِحْريرُ زُمرَتِه. وشِرارَةُ جَمرَتِه: إنّه لنْ يتِمّ استِخراجُ خَبْئِهِما. إلا بهِما. فقَفّاهُما عَوْناً يُرْجِعُهُما إليْهِ. فلمّا مَثَلا بينَ يدَيهِ. قالَ لهُما: اصْدُقاني سِنّ بَكْرِكُما. ولكُما الأمانُ منْ تبِعَةِ مَكْرِكُما. فأحْجَمَ الحدَثُ واسْتقالَ. وأقدَمَ الشيخُ وقال:
أنا السَّروجـيُّ وهـذا ولَـدي والشّبْلُ في المَخْبَرِ مثلُ الأسَدِ
ومـا تـعــدّتْ يدُهُ ولا يَدي في إبرَةٍ يوْماً ولا في مِـرْوَدِ
وإنّما الدهرُ المُسيءُ المُعْتَـدي مالَ بِنا حتى غدَوْناً نجْـتَـدي
كلَّ نَدي الرّاحةِ عذْبِ المَـوْرِدِ وكلَّ جعْدِ الكفّ مغْلولَ الـيَدِ
بكُلّ فنٍ وبـكـلّ مـقْـصَـدِ بالجِدّ إنْ أجْـدَى وإلاّ بـالـدَّدِ
لنَجلِبَ الرّشْحَ الى الحظّ الصّدي ونُنْفِدَ العُمْرَ بـعـيشٍ أنْـكَـدِ
والموتُ منْ بعْدُ لَنا بالمَرصَـدِ إنْ لمْ يُفاجِ اليومَ فاجَى في غَدِ
فقال لهُ القاضي: للهِ دَرُّكَ فما أعذَبَ نفَثاتِ فيكَ. وواهاً لكَ لوْلا خِداعٌ فيكَ! وإني لكَ لمِنَ المُنْذِرِينَ. وعليْكَ منَ الحَذِرينَ. فلا تُماكِرْ بعْدَها الحاكِمينَ. واتّقِ سَطْوَةَ المُتحكّمينَ. فما كُلّ مُسيْطِرٍ يُقيلُ. ولا كُلّ أوانٍ يُسْمَعُ القِيلُ. فعاهَدَهُ الشيخُ على اتّباعِ مَشورَتِه. والارْتِداعِ عن تلْبيسِ صورتِهِ. وفصَلَ عن جِهتِهِ. والختْرُ يلمَعُ من جبهتِهِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمْ أرَ أعجَبَ منْها في تصاريفِ الأسْفارِ. ولا قرَأتُ مِثلَه في تصانيفِ الأسْفارِ.
6- المقامة الرّحبيّة
حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: هتَفَ بي داعي الشّوْقِ. الى رَحبَةِ مالِكِ بن طَوْقٍ. فلبّيتُهُ مُمتَطِياً شِمِلّةً. ومُنتَضياً عَزْمَةً مُشمَعِلّةً. فلمّا ألقيتُ به المَراشي. وشدَدْتُ أمراسي. وبرَزْتُ منَ الحَمّام بعدَ سبتِ راسي. رأيتُ غُلاماً أُفرِغَ في قالَبِ الجَمالِ. وأُلبِسَ من الحُسنِ حُلّةَ الكَمال. وقدِ اعْتَلَقَ شيخٌ برُدْنِهِ. يدّعي أنّهُ فتَك بابنِه. والغُلامُ يُنكِرُ عِرفَتَهُ. ويُكْبِرُ قِرفَتهُ. والخِصامُ بينَهُما مُتطايِرُ الشَّرارِ. والزِّحامُ عليهِما يجمَعُ بين الأخيارِ والأشرارِ. الى أن تَراضَيا بعْد اشتِطاطِ اللّدَد. بالتّنافُرِ الى والي البلَدِ. وكان ممّن يُزَنّ بالهَناتِ. ويغلِّبُ حُبَّ البَنين على البَناتِ. فأسْرَعا الى ندْوَتِه. كالسُّلَيْكِ في عَدْوَتِه. فلمّا حضَراه. جدّدَ الشيخُ دعْواهُ. واستَدْعى عدْواهُ. فاستَنطَقَ الغُلامَ وقدْ فتَنَهُ بمحاسِنِ غُرّتِه. وطَرَّ عقلَهُ بتصْفيفِ طُرّتِهِ. فقالَ: إنّه أفيكَةُ أفّاكٍ. علِ غيرِ سفّاكٍ! وعَضيهَةُ مُحْتالٍ. على منْ ليس بمُغْتالٍ. فقال الوالي للشّيخ: إنْ شهِدَ لكَ عدْلانِ منَ المُسلِمين. وإلا فاسْتَوْفِ منهُ اليَمينَ. فقال الشيخُ: إنّهُ جدّلَهُ خسياً. وأفاحَ دمَهُ خالِياً. فأنّى لي شاهِدٌ. ولم يكُنْ ثَمّ مُشاهِدٌ? ولكِنْ ولّني تلْقينَهُ اليَمينَ. ليَبينَ لكَ أيصْدُقُ أم يَمينُ? فقال لهُ: أنتَ المالِك لذلك. معَ وجْدِكَ المُتَهالِك. على ابنِكِ الهالِك. فقال الشيخُ للغُلام: قُلْ والذي زيّن الجِباهَ بالطُّرَرِ. والعُيونَ بالحَوَرِ. والحَواجِبَ بالبَلَجِ. والمباسمَ بالفلَجِ. والجُفونَ بالسّقَمِ. والأنوفَ بالشّمَمِ. والخُدودَ باللّهَبِ. والثّغورَ بالشّنَبِ. والبَنانَ بالتّرَفِ. والخُصورَ بالهيَفِ. إنّني ما قتَلْتُ ابْنَكَ سهْواً ولا عمْداً. ولا جعلْتُ هامَتَهُ لسَيْفي غِمْداً. وإلا فرَمى اللهُ جَفْني بالعمَشِ. وخدّي بالنّمَشِ. وطُرّتي بالجلَحِ. وطَلْعي بالبَلَحِ. ووَرْدَتي بالبَهارِ. ومِسْكَتي بالبُخارِ. وبَدْري بالمُحاقِ. وفِضّتي بالاحْتِراقِ. وشُعاعي بالإظْلامِ. ودَواتي بالأقْلامِ. فقالَ الغُلامُ: الاصْطِلاءَ بالبَليّةِ. ولا الإيلاءَ بهذِه الألِيّةِ. والانقِيادَ للقَوَدِ. ولا الحَلِفَ بما لمْ يحلِفْ بهِ أحدٌ. وأبى الشيخُ إلا تجْريعَهُ اليَمينَ التي اخترَعَها. وأمْقَرَ لهُ جُرَعَها. ولم يزَلِ التّلاحي بينَهُما يستَعِرُ. ومَحجّةُ التّراضي تعِرُ. والغُلامُ في ضِمْنِ تأبّيهِ. يخْلُبُ قلْبَ الوالي بتلوّيهِ. ويُطْمِعُهُ في أنْ يلبّيهِ. الى أن رانَ هَواهُ على قلْبِهِ. وألَبّ بلُبّهِ. فسوّلَ لهُ الوجدُ الذي تيّمَهُ. والطّمَعُ الذي توَهّمَهُ. أنْ يُخلّصَ الغُلامَ ويستخلِصَهُ. وأن يُنقِذَهُ من حِبالَةِ الشيخِ ثمّ يقتَنِصَهُ. فقال للشيخِ: هلْ لكَ فيما هوَ ألْيَقُ بالأقْوى. وأقرَبُ للتّقْوى? فقالَ: إلمَ تُشيرُ لأقْتَفيهِ. ولا أقِفُ لكَ فيهِ. فقال: أرى أنْ تُقصِرَ عنِ القِيلِ والقالِ. وتقتَصِرَ منهُ على مئَةِ مِثْقالٍ. لأتحمّلَ منْها بعْضاً. وأجْتَبي الباقيَ لكَ عُرْضاً. فقالَ الشيخُ: ما مِني خِلافٌ. فلا يكُنْ لوعدِكَ إخْلافٌ. فنقَدَهُ الوالي عِشرينَ. ووزّعَ على وزَعَتِه تكْمِلَةَ خمْسينَ. ورقّ ثوْبُ الأصيلِ. وانقطَعَ لأجْلِهِ صوْبُ التّحصيلِ. فقالَ: خُذْ ما راجَ. ودَعْ عنْكَ اللّجاجَ. وعليّ في غدٍ أنْ أتوصّلَ. الى أن ينِضّ لكَ الباقي ويتحصّلَ. فقال الشيخُ: أقْبَلُ منْكَ على أنْ ألازمَهُ ليْلَتي. ويرْعاهُ إنْسانُ مُقلَتي. حتى إذا أعْفى بعْدَ إسْفارِ الصّبحِ. بِما بَقيَ منْ مالِ الصّلْحِ. تخلّصَتْ قائِبَةٌ من قُوبٍ. وبَرِئَ بَراءةَ الذّئْبِ منْ دمِ ابنِ يعْقوبَ. فقالَ لهُ الوالي: ما أُراكَ سفمْتَ شَططاً. ولا رُمْتَ فرَطاً. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا رأيتُ حُجَجَ الشيخِ كالحُجَجِ السُرَيجيّةِ. علِمتُ أنه علَمُ السَّروجيّةِ. فلبِثْتُ الى أن زهَرَتْ نُجوم الظّلام. وانتَثَرتْ عُقودُ الزّحامِ. ثمّ قصَدْتُ فِناء الوالي. فإذا الشيخُ للفتى كالي. فنَشَدْتُه اللهَ أهُوَ أبو زيدٍ? فقال: أيْ ومُحِلّ الصّيدِ. فقُلتُ: مَنْ هذا الغُلامُ. الذي هفَتْ لهُ الأحْلامُ? قال: هوَ في النسبِ فرْخي. وفي المكتَسَبِ فخّي! قلت: فهَلاّ اكتفَيْتَ بمَحاسِنِ فِطرَتِه. وكفَيتَ الواليَ الافتِتان بطُرّتِه? فقال: لوْ لمْ تُبرِزْ جبْهَتُهُ السّينَ. لَما قنْفَشْتُ الخمسينَ. ثمّ قال: بِتِ الليلَةَ عِندي لنُطْفئ نارَ الجَوى. ونُديلَ الهَوى. من النّوى. فقدْ أجْمَعْتُ على أنْ أنْسَلّ بسُحرَةٍ. وأُصْليَ قلبَ الوالي نارَ حسْرَةٍ! قال: فقَضَيتُ الليلةَ معَهُ في سمَرٍ. آنَقَ منْ حَديقَةِ زهَرٍ. وخَميلةِ شجَرٍ. حتى إذا لألأ الأفُقَ ذنَبُ السِّرْحانِ. وآنَ انبِلاجُ الفجْرِ وحانَ. ركِبَ متْنَ الطّريقِ. وأذاقَ الوالي عذابَ الحريقِ. وسلّمَ إليّ ساعَة الفِراقِ. رُقعَةً مُحكمَةَ الإلْصاقِ. وقال: ادْفَعْها الى الوالي إذا سُلِبَ القَرار. وتحقّقَ منّا الفِرارَ. ففضَضْتُها فِعْلَ المتملّسِ. منْ مِثلِ صحيفَةِ المتلمّسِ. فإذا فيها مكتوبٌ:مكتَسَبِ فخّي! قلت: فهَلاّ اكتفَيْتَ بمَحاسِنِ فِطرَتِه. وكفَيتَ الواليَ الافتِتان بطُرّتِه? فقال: لوْ لمْ تُبرِزْ جبْهَتُهُ السّينَ. لَما قنْفَشْتُ الخمسينَ. ثمّ قال: بِتِ الليلَةَ عِندي لنُطْفئ نارَ الجَوى. ونُديلَ الهَوى. من النّوى. فقدْ أجْمَعْتُ على أنْ أنْسَلّ بسُحرَةٍ. وأُصْليَ قلبَ الوالي نارَ حسْرَةٍ! قال: فقَضَيتُ الليلةَ معَهُ في سمَرٍ. آنَقَ منْ حَديقَةِ زهَرٍ. وخَميلةِ شجَرٍ. حتى إذا لألأ الأفُقَ ذنَبُ السِّرْحانِ. وآنَ انبِلاجُ الفجْرِ وحانَ. ركِبَ متْنَ الطّريقِ. وأذاقَ الوالي عذابَ الحريقِ. وسلّمَ إليّ ساعَة الفِراقِ. رُقعَةً مُحكمَةَ الإلْصاقِ. وقال: ادْفَعْها الى الوالي إذا سُلِبَ القَرار. وتحقّقَ منّا الفِرارَ. ففضَضْتُها فِعْلَ المتملّسِ. منْ مِثلِ صحيفَةِ المتلمّسِ. فإذا فيها مكتوبٌ:
قُلْ لوالٍ غادَرْتُـه بـعْـدَ بـيْنـي سادِمـاً نـادِمـاً يعَـضّ الـيَدَيْنِ
سلَـبَ الـشـيخُ مـالـهُ وفـتـاهُ لُبَّهُ فاصْطَلى لَظـى حـسْـرَتَـيْنِ
جادَ بالعينِ حـينَ أعـمـى هـواهُ عينَهُ فـانْـثَـنـى بِـلا عـينَـينِ
خفِّضِ الحُزنَ يا مُعَنّـى فـمـا يُجْ دي طِلابُ الآثارِ من بعـدِ عَـينِ
ولَئِنْ جَـلّ مـا عَـراكَ كـمـا ج لّ لدى المُسلِمينَ رُزْءُ الحُـسـينِ
فقَدِ اعتَضْتَ منهُ فَهمـاً وحـزْمـاً والـلّـبـيبُ الأريبُ يبْـغـيَ ذَينِ
فاعصِ من بعدها المَطامعَ واعلَـمْ أنّ صيْدَ الظّـبـاء لـيس بـهَـينِ
لا ولا كُـلّ طـائِرٍ يلِـجُ الـفَـخّ ولوْ كانَ مُحـدَقـاً بـالـلُـجَـينِ
ولَكَمْ مَنْ سعى ليَصْطادَ فاصْـطـي دَ ولك يلْقَ غيرَ خُـفّـي حُـنـينِ
فتبـصّـرْ ولا تـشِـمْ كـلّ بـرْقٍ رُبّ برْقٍ فيهِ صـواعِـقُ حَـينِ
واغضُضِ الطّرْفَ تسترحْ من غرامٍ تكتَسـي فـيهِ ثـوْبَ ذُلٍ وشَـينِ
فبَلاءُ الفتى اتّبـاعُ هـوَى الـنّـف سِ وبذْرُ الهَوى طُمـوحُ الـعـينِ
قال الرّاوي: فمزّقتُ رُقعتَهُ شذَرَ مذَرَ. ولمْ أُبَلْ أعَذَلَ أم عذَرَ.















7 ـ التوقيعـات

التوقيعات جمع توقيع، والمراد: كلام بليغ موجز، يكتبه الخليفة أو الوالي في أسفل الكتب الواردة إليه المتضمنة لشكوى أو رجاء أو طلب إبداء رأي.
والتوقيع الأدبي ليس التوقيع المعروف عندنا الآن (الإمضاء)، وإنما هو أقرب ما يكون إلى ما نسميه الشرح على المعاملات الواردة.
والتوقيعات تمتاز بالإيجاز أولاً، وبالبلاغة ثانياً، وإصابة الغرض بحيث تغنى عن الكلام الكثير، وتتضمن رأياً واضحاً وإن كان موجزاً في الأمر المعروض.
وقد عُنى العباسيون بفن التوقيعات وأبدعوا فيه، ولهم توقيعات مشهورة محفوظة، وقد يوقعون بآية كريمة أو حديث شريف أو بيت من الشعر متى ما كان ذلك مناسبا للغرض.
ويقال: إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أول من وقع في الكتب المعروضة ومنها كتاب ورد من سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه يستشيره في بناء دار له، فوقع على الكتاب بقوله: ابن ما يكنك من الهواجر وأذى المطر.












8-المناظرات في العصر العباسي:
كثرت المناظرات في العصر العباسي ، وانتشرت انتشارا واسعا بسبب انتشارالثقافة الواسعة
نماذج من المناظرات العباسية
1-مناظرة أبو تراب والشريف العباسي
اجتمع يوما أبو تراب هبة الله بن السريجي والشريف العباسي وكانا شاعرين – فقال أبو تراب :
أسلوت حب بدور أم تتجلد وسهرت ليلك أم جفونك ترقد
فأجاب الشريف بديها ً :
لا بل هم ألفوا القطيعة مثل ما ألفوا نزولهم بها فتبعدوا
فقال أبو تراب :
فالإم تصبر والفؤاد متيم ولظى اشتياقك في الحشى يتوقد
فأجاب الشريف :
ما دام لي جلد فلست بجازع إذ كان صبري في العواقب يخمد
فقال أبو تراب :
أحسنت : كتمان الهوى مستحسن لو كان ماء العين مما يجمد
فأجاب الشريف :
إن كان جفني فاضحي بدموعه أظهرت للجلساء إني أرمد
فقال أبو تراب :
فهب للدموع إذا جرت موهتها فيقال لم أنفاسه تتصعد
فأجاب الشريف :
امشي وأسرع كي يظنوا أنها من ذلك المشي السريع تولد
فقال أبو تراب :
هذا يجوز ومثله مستعمل لكن وجهك بالمحبة يشهد
فأجاب الشريف :
إن كان وجهي شاهدا بهوى فما يدري إلى من بالمحبة اقصد

فقال أبو تراب :
اخضع وذل لمن تحب فليس في حكم الهوى انف يشال ويقعد
فأجاب الشريف :
ذا لا يكون مع الحبيب وإنما مع ساقط متحيل يتعمد
2-مناظرة المنصور والربيع بن يونس
قال سعيد بن مسلم بن قتيبة دعا المنصور بالربيع فقال : سلني ما تريد ؟ فقد سكت حتى نطقت وخففت حتى ثقلت , واقللت حتى أكثرت , فقال : والله يا أمير المؤمنين , ما ارهب بخلك , ولا استقصر عمرك ولا استصغر فضلك ولا اغتنم مالك وإن يومي بفضلك على أحسن من أمسى , وغدك في تأميلي أحسن من يومي ولو جاز أن يشكرك مثلي بغير الخدمة والمناصحة لما سبقني في ذلك أحد .
قال صدقت . علمي بهذا منك أحلك هذا المحل , فسلني ما شئت ؟ ؟
قال : اسالك أن تقرب عبد ( الفضل ) وتؤثره وتحبه .
قال : يا ربيع أن الحب ليس بمال يوهب ولا رتبة تبذل , وإنما تؤكده الأسباب .
قال : فاجعل لي طريقا إليه بالتفضل عليه .
قال : صدقت . وقد وصلته بألف ألف درهم ولما أصل بها أحد غير عمومتي لتعلم ما له عندي , فيكون منه ما يستدعي به محبتي . وكيف سالت له المحبة يا ربيع ؟
قال : لأنها مفتاح كل خير , ومغلاق كل شر , تستتر عندك عيوبه وتصير حسناتك ذنوبه .
قال : صدقت واتيت بما أردت .
3-مناظرة معن بن زائدة والأسود
روى مروان بن أبي حفصة عن معن بن زائدة انه قال : لما جد المنصور في طلبي وجعل لمن يحملني إليه مالا ً , اضطررت لشدة الطلب أن تعرضت للشمس حتى لوحت وجهي وخفقت عارضي ولبست جبة صوف , وركبت جملا وخرجت متوجها إلى البادية لأقيم بها , فلما خرجت من باب حرب وهو أحد أبواب بغداد , تبعني اسود متقلد سيفا ً , حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فاناحه وقبض على يدي فقلت له : ما بك ؟ فقال : أنت طلبة أمير المؤمنين , فقلت : ومن أنا حتى اطلب ؟ فقال : أنت معن بن زائدة , فقلت له يا هذا , اتق الله عز وجل وأين أنا من معن ؟ فقال : دع هذا فاني والله لأعرف بك منك , فلما رأيت منه الجد قلت له : هذا عقد جوهر قد حملته بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي فخذه ولا تكن سببا ً لسفك دمي , قال : هاته فأخرجته إليه , فنظر إليه ساعة وقال : صدقت في قيمته , ولست قابله منك حتى اسالك عن شيء فان صدقني أطلقتك , فقلت قل , قال : إن الناس قد وصفوك بالجود , فاخبرني هل وهبت مالك كله قط ؟ قلت : لا , قال : فنصفه ؟ فقلت : لا قال : فثلثه ؟ قلت : لا , حتى بلغ العشر فاستحييت وقلت : أظن إني قد فعلت هذا , قال : ما ذاك بعظيم , أنا والله راجل ورزقي من أبي جعفر المنصور كل عشرون درهما وهذا الجوهر قيمته ألوف الدنانير , وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس , ولتعلم أن في هذه الدنيا من هو أجود منك فلا تعجبك نفسك ولتحقر بعد هذا كل جود فعلته ولا تتوقف عن مكرمة , فقلت : يا هذا قد والله فضحتني ولسفك دمي علي أهون مما فعلت , فخذ ما دفعته لك فاني غني عنه , فضحك وقال : أردت أن تكذبني في مقالي هذا , والله لا أخذته ولا اخذ لمعروف ثمنا ً أبدا , ومضى لسبيله فو الله لقد طلبته بعد أن أمنت , وبذلت لمن يجيء به ما يشاء , فما عرفت له خبرا ً وكأن الأرض ابتلعته .
4-مناظرة المأمون والمرأة المتظلمة
جلس المأمون يوما للمظالم فكان آخر من يقدم إليه , وقد هم بالقيام امرأة عليها هيئة السفر , وعليها ثياب رثة فوقفت بين يديه فقالت : ( السلام عليكم يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ) , فنظر المأمون إلى يحيى بن اكثم فقال لها يحيى : وعليك السلام يا امة الله , تكلمي في حاجتك , فقالت :
يا خير منتصف يهدي له الرشد ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عمد القوم أرملة عدا عليها فلم يترك لها سبد
وابتز مني ضياعي منعتها ظلما ً وفرق مني الأهل والولد
فاطرق المأمون حينا ً ثم رفع رأسه إليها وهو يقول :
في دون ما قلت زال الصبر والجلد عني واقرح مني القلب والكبد
هذا أوان صلاة العصر فانصرفي واحضري الخصم في اليوم الذي اعد
والمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا ننصفك منه وإلا المجلس الأحد
( السام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ) فقال : وعليك السلام أين الخصم ؟ فقالت : الواقف على راسك يا أمير المؤمنين , وأومأت إلى العباس ابنه فقال : يا احمد بن أبي خالد خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم , فجعل كلامها يعلو كلام العباس . فقال لها احمد بن أبي خالد : يا امة الله انك بين يدي أمير المؤمنين وانك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك , فقال المأمون : دعها يا احمد فإن الحق انطقها وأخرسه . ثم قضى لها برد ضيعتها إليها , وأمر بالكتاب لها إلى العامل ببلدها أن يوفر لها ضيعتها , ويحسن معونتها وأمر لها بنفقة .
5-مناظرة إبراهيم بن المهدي – وابن بختيشوع
قال العتبي : تنازع إبراهيم بن المهدي وابن بختيشوع الطبيب بين يدي احمد بن أبي داوود في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد , فأربى عليه إبراهيم السلام وأغلظ له , فاغضب ذلك ابن أبي داوود فقال :
يا إبراهيم إذا نازعت في مجلس الحكم امرئ فلا اعلمن انك رفعت عليه صوتا ولا أشرت بيد وليكن قصدك أمما وريحك ساكنة وكلامك معتدلا ووف مجالس الخليفة حقوقها من التعظيم والتوقير واستكانة والتوجه إلى الواجب , فإن ذلك أشبه بك , وأشكل بمذهبك في محتدك , وعظيم خطرك ولا تعجلن فرب عجلة تهب ريثا ً , والله يعصمك من خطل القول والعمل ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل إن ربك حكيم عليم .
فقال إبراهيم : أصلحك الله أمرت بسداد وحضضت على رشاد , ولست عائدا إلي الاعتذار , فهاأنذا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه معترف بجرمه , ولا يزال الغضب يستفزني ببوادره فيردني مثلك بحلمه وتلك عادة الله عندك وعندنا منك , وقد جعلت حقي في هذا العقار لابن بختيشوع فليت ذلك يكون وافيا ً بأرش الجناية عليه (( ولم يتلف مال ٌ أفاد موعظة )) وحسبنا الله ونعم الوكيل .
مناظرات المهدي ومشاورته لأهل بيته في حرب خراسان
هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان , أيام تحاملت عليهم العمال واعنفت , فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة على أن نكثوا ببيعتهم ونقضوا موثقهم وطردوا العمال , والتووا بما عليهم من الخرج , وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم ويكره من عنتهم , على أن أقال عثرتهم واغتفر زلتهم واحتمل دالتهم تطولا بالفضل واتساعا بالعفو وأخذا بالحجة ورفقا ً بالسياسة , ولذلك لم يزل مذ حمله الله أعباء الخلافة وقلده أمور الرعية رفيقا ً بمدار سلطانه , بصيرا ً بأهل زمانه , باسطا للمعدلة في رعيته تسكن إلى كنفه وتأنس بعفوه وتثق بحلمه , فإذا وقعت الاقضية اللازمة والحقوق الواجبة فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة , أثره للحق وقياما بالعدل وأخذا بالحزم , فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه والثقة بعفوه , أن كسروا الخراج وطردوا العمال وسألوا ما ليس لهم من حق , ثم خلطوا احتجاجا باعتذار , وخصومة بإقرار وتنصلا ً باعتلال , فلما انتهى إلى المهدي خرج إلى مجلس خلائه , وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه فأعلمهم الحال واستفهم للرعية , ثم أمر الموالي بالابتداء وقال للعباس بن محمد : ( أي عم ) تعقب قولنا وكن حكما بيننا وأرسل إلى ولديه ( موسى وهارون ) فاحضرهما الأمر وشاركهما في الرأي , وأمر محمدا بن الليث بحفظ مراجعتهم واثبات مقالتهم في كتاب .
فقال سلام صاحب المظالم :
أيها المهدي , إن في كل أمر غاية , ولكل قوم صناعة , استفرغت رأيهم , واستغرقت أشغالهم واستنفدت أعمارهم وذهبوا بها وذهبت بهم وعرفوا بها وعرفت بهم ولهذه الأمور التي جعلتنا فيها غاية , وطلبت معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب , وساسة الأمور وقادة الجنود وفرسان الهزاهز وإخوان التجارب وأبطال الوقائع الذين رشحتهم سجالها وفياتهم ظلالها وعضتهم شدائدها وفرمتهم نواجذها , فلو عجمت ما قبلهم وكشفت ما عندهم لوجدت نظائر تؤيد أمرك وتجارب توافق نظرك وأحاديث تقوي قلبك , فأما نحن معاشر عمالك وأصحاب دواوينك فحسن بنا , وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك واستودعتنا من أمانتك وشغلتنا من إمضاء عدلك وإنفاذ حكمك وإظهار حقك .
فأجابه المهدي : إن في كل قوم حكمة , ولكل زمان سياسة , وفي كل حال تدبيرا ً يبطل الآخر الأول , ونحن على علم بزماننا وتدبير سلطاتنا .
قال : نعم أيها المهدي أنت متبع الرأي , وثيق العقدة قوي المنة , بليغ الفطنة معصوم النية , محضور الرؤية , مؤيد البهية موفق العزيمة معان بالظفر , مهدى إلى الخير , إن هممت ففي عزمك مواقع الظن , وإن اجتمعت صدع فعلك ملتبس الشك فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك , وقل ينطق الله بالحق لسانك , فإن جنودك جمة وخزائنك عامرة ونفسك سخية , وأمرك نافذ .
فأجابه المهدي : إن المشاورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا ً بركة لا يهلك عليهما رأي ولا يتغيل منهما حزم فأشيروا برياكم وقولوا يما يحضركم , فاني من ورائكم وتوفيق الله من وراء ذلك .
قال الربيع : أيها المهدي أن تصاريف وجوه الرأي كثيرة , وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة ولكن خراسان أرض ٌ بعيدة المسافة متراخية الشقة متفاوتة السبيل , فإذا ارتأيت من محكم التدبير ومبرم التقدير ولباب الصواب رأيا , قد احكمه نظرك , وقلبه تدبيرك , فليس وراء مذهب طاعن ولا دونه معلق لخصومة عائب ثم خبت البرد به , وانطوت الرسل عليه بالحرى أن لا يصل محكمه , إلا وقد حدث منهم ما ينقضه . فما أيسر أن ترجع إليك الرسل وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم وشوارد أثارهم ومصادر أمورهم فتحدث رأيا غيره وتبتدع تدبيرا سواه , وقد انفرجت الحلق , وتحلت العقد واسترخى العقاب وامتد الزمان ثم لعلمك موقع الآخرة كمصدر الأولى ولكن الرأي أيها المهدي , وفقك الله أن تصرف إجالة النظر وتقليب الفكر فيما جمعتنا له واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم والحيل في أمرهم إلى الطلب لرجل ذي دين فاضل وعقل كامل وورع واسع ليس موصوفا يهوى في سواك , ولا متهما ً في أثرة عليك , ولا ظنينا ً على دخلة مكروهة ولا منسوبا ً إلى بدعة محذورة , فيقدح في ملكك ويريض الأمور لغيرك ثم تستند إليه أمورهم وتفوض إليه حربهم وتأمره في عهدك وصيتك إياه بلزوم أمرك ما لزمه الحزم , وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي عند استحالة الأمور واشتداد الأحوال التي ينقض أمر الغائب عنها ويثبت رأي الشاهد لها , فانه إذا فعل ذلك , فواثب أمرهم من قريب وسقط عنه ما يأتي من بعيد تمت الحيلة , وقويت المكيدة ونفذ العمل واحد النظر إن شا الله .
قال الفضل بن عباس :
أيها المهدي , إن ولي الأمور وسائس الحروب ربما نحى جنوده وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حز به , ولا ضغطة حال اضطرته فيقعد عند الحاجة إليها وبعد التفرقة لها عديما منها فاقدا لها , لا يتق بقوة ولا يصول بعدة , ولا يفزع إلى ثقة , فالرأي لك أيها المهدي وفقك الله أن تعفي خزائنك من الإنفاق للأموال وجنودك من مكابدة الأسفار ومقارعة الأخطار وتغرير القتال , وتسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون , والعطاء لما يسالون , فيفسد عليك أدبهم وتجرئ من رعيتك غيرهم ولكن اغزهم بالحيلة وقاتلهم بالمكيدة وصارعهم باللين وخاتلهم بالرفق وابرق لهم بالقول وأرعد نحوهم بالفعل وابعث البعوث وجند الجنود وكتب الكتائب واعقد الألوية وانصب الرايات واظهر انك موجه إليهم الجيوش مع احنق قوادك عليهم وأسوئهم أثرا فيهم , ثم ادسس الرسل , وابثث الكتب , وضع بعضهم على طمع من وعدك وبعضا على خوف من وعيدك , وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاشد فيهم واغرس أشجار التنافس بينهم , حتى تملأ القلوب من الوحشة وتنطوي الصدور على البغيضة , ويدخل كلا من كل الحذر والهيبة فإن مرام الظفر بالغيلة والقتال بالحيلة والمناصبة بالكتب , والمكايدة بالرسل , والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب القوي الموقع على النفوس المعقود بالحجج الموصول بالحيل المبني على اللين الذي يستميل القلوب , ويسترق العقول والآراء , ويستميل الأهواء ويستدعي المواتاة – أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح , كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل , ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة احكم عملا ً وألطف منظرا وأحسن سياسة , من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال , والإتلاف للأموال والتغرير والخطار.
وليعلم المهدي انه إن وجه لقتالهم رجلا لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة , وتقدم على أسفار ضيقة متفرقة وقواد غششة إن ائتمنهم استنفدوا ماله , وإن استنصحهم كانوا عليه لا له , قال المهدي هذا رأي قد أسفر نوره وابرق ضوءه , وتمثل صوابه للعيون ومجد حقه في القلوب , ولكن فوق كل ذي علم عليم , ثم نظر إلى ابنه فقال : ما تقول ؟ .
قال علي : أيها المهدي إن أهل خراسان لم يخلعوا عن طاعتك , ولم ينصبوا من دونك أحدا ً يقدح في تغيير ملكك ويريض الأمور لفساد دولتك , ولو فعلوا لكان الخطب أيسر والشأن اصغر والحال أدل , لأن الله مع حقه الذي لا يخذله وعند موعده الذي لا يخلفه , ولكنهم قوم من رعيتك وطائفة من شيعتك الذين جعلك الله عليهم واليا وجعل العدل بينك وبينهم حاكما ً ,طلبوا حقا ً وسألوا إنصافا فان أجبت إلى دعوتهم ونفست عنهم قبل أن يتلاحم منهم حال , أو يحدث من عندهم فتق , اطلعت أمر الرب وأطفات ثائرة الحرب , ووفرت خزائن المال وطرحت تغرير القتال , وحمل الناس على طبيعة جودك وسجية حلمك وأسجاع خليفتك ومعدلة نظرك , فأمنت أن تنسب إلى ضعف , أن يكون ذلك فيما بقي دربة , وإن منعتهم ما طلبوا ولم تجبهم إلى ما سألوا اعتدلت بك وبهم الحال , وساويتهم في ميدان الخطاب – فما ارب المهدي أن يعد إلى طائفة من رعيته مقرين بملكيته مذعنين بطاعته لا يخرجون أنفسهم عن قدرته , ولا يبرئونها من عبوديته فيملكهم أنفسهم , ويخلع نفسه عنهم ويقف على الحيل معهم , ثم يجازيهم السوء في حد المنازعة ومضمار المخاطرة – أيريد المهدي وفقه الله الأموال ؟ فلعمري لا ينالها , ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر منها مما يطلب منهم وإضعاف ما يدعي قلبهم , ولو نالها فحملت إليه أو وضعت بخزائنها بين يديه , ثم تجافى لهم عنها وطال عليهم بها , لكان مما ينسب وبه يعرف من الجود الذي طبعه الله عليه وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه , فإن قال المهدي هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا , وتحامل ولاتنا , فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود وانطقوا لسان الإرجاف , وفتحوا باب المعصية وكسروا قيد الفتنة فقد ينبغي لهم أن اجعلهم نكالا لغيرهم وعظة لسواهم , فيعلم المهدي انه لو أتى بهم مغلولين في الحديد مقرنين بالأصفاد , ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه ولإقالة عثرتهم صفحه واستبقاهم لما فيه من حزبه , أو لمن بإزائهم من عدوه لما كان بدعا ً من رأيه ولا مستنكرا ً من نظره .
لقد علمت العرب انه أعظم الخلفاء والملوك عفوا وأشدها وقعا ً وأصدقها صولا ً وانه لا يتعاظمه عفو , ولا يتكاءده صفح , وإن عظم الذنب وجل الخطب , فالرأي للمهدي وفقه الله تعالى أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم وأن يذكروا أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم برأيهم , وتوسعا ً لهم فإن إخوان دولته وأركان دعوته وأساس حقه الذين بعز يصول , وبحجتهم يقول , وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطة وتعرضوا له من معاصيه , وانطووا فيه عن إجابته , ومثله في قلة ما غير من رأيه فيهم أو نقل من حاله لهم , أو تغير من نعمته بهم كمثل رجلين اخوين متناصرين متوازرين أصاب احدهما خبل ٌ عارض ولهو ٌ حادث فنهض إلى أخيه بالأذى وتحامل عليه بالمكروه , فلم يزدد أخوه إلا رقة له ولطفا ً به واحتيالا لمداواة مرضه ومراجعة حاله عطفا ً عليه وبرا ً به ومرحمة .
فقال المهدي : أما علي فقد نوى سمت الليان وفض القلوب من أهل الخراسان ولكل نبأ مستقر , ثم قال ما ترى يا أبا محمد ؟ ( يعني موسى ابنه .
فقال موسى : أيها المهدي لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم , الحال من القوم ينادي بمضمرة شر وخفية حقد قد جعلوا المعاذير عليها سترا ً واتخذوا العلل من دونها حجابا ً رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير , والأمور بالتطويل , فيكسروا حيل المهدي فيهم ويفنوا جنوده عنهم حتى يتلاحم أمرهم , وتتلاحق مادتهم وتستفحل حربهم وتستمر الأمور بهم , والمهدي من قولهم في حال غرة ولباس آمنة قد فتر لها وانس بها , وسكن إليها ولو لا ما اجتمعت به قلوبهم , وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال والإضمار للقراع عن داعية ضلال أو شيطان فساد لرهبوا عواقب أخبار الولاة وغب سكون الأمور فليشدد المهدي – وفقه الله – أزره لهم , ويكتب كتائبه نحوهم وليضع الأمر على اشد ما يحضره فيهم , وليوقن انه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة إلى فسادهم وقوة على معصيتهم , وداعية إلى عودتهم وسببا ً لفساد من بحضرته من الجنود ومن ببابه من الوفود الذين إن اقرهم وتلك العادة وأجراهم على ذلك الأرب , ولم يبرح في فتق حادث , وخلاف حاضر , لا يصلح عليه دين ولا تستقيم به دنيا , وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة , واستمرار الدربة لم يصل إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة , والمؤونة الشديدة والرأي للمهدي وفقه الله أن لا يقيل عثرتهم , ولا يقبل معذرتهم حتى تطأهم الجيوش , وتأخذهم السيوف ويستحر بهم القتل ويحدق بهم البلاء ويطبق عليهم الذل فإن فعل المهدي ذلك كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم وهزيمة لكل بادرة شر منهم , واحتمال المهدي في مئونة غزوتهم هذه تضع عنه غزوات كثيرة ونفقات عظيمة , فقال المهدي : قد قال القوم , فاحكم يا أبا الفضل ! .
فقال العباس بن محمد : أيها المهدي : أما ( الموالي ) فاخذوا بفروع الرأي وسلكوا جنبات الصواب وتعدوا أمورا قصر بنظرهم عنها انه لم تأت تجاربهم عليها – وأما الفضل فأشار بالأموال أن لا تنفق والجنود لا تفرق , وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا ولا يبذل لهم ما سألوا , وجاء بأمر بين ذلك استصغارا لأمرهم , واستهانة بحربهم وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها , وأما علي فأشار باللين , وإفراط الرفق وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره وسفه حقه اللين بحتا ً والخير محضا ً , لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب عن لينة , ولا بشر يحسبهم إلى خيره , فقد ملكهم الخلع لعذرهم ووسع لهم الفرجة لثني أعناقهم , فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير خوف اضطرهم ولا شدة فنزوة في رؤوسهم , يستدعون بها إلى أنفسهم ويستصرخون بها رأي المهدي فيهم , وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللين المحض والخير الصراح فذلك ما عليه الظن بهم , والرأي فيهم وما قد يشبه أن يكون من مثلهم لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيموا الملك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر ولا تدركه الفكر , ولا تعلمه نفس , ثم دعا الناس إليها ورغبهم فيها , فلولا انه خلق نارا جعلها لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة لما أجابوا ولا قبلوا .
وأما موسى فأشار بأن يعصبوا بشدة لا لين فيها , وأن يرموا بشر لا خير معه , وإذا اضمر الوالي لمن فارق طاعته وخالف جماعته الخوف مفردا ً , والشر مجردا ً ليس معهما طمع ولا لين يثنهم اشتدت الأمور بهم , وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين أما أن تدخلهم الحمية من الشدة والأنفة من الذلة والامتعاض من القهر , فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف , والاستبسال في القتال والاستسلام للموت , وأما أن ينقادوا ويذعنوا بالقهر على بغضة لازمة , وعداوة باقية , تورث النفاق وتعقب الشقاق , فإذا أمكنتهم الفرصة أو ثابت لهم قدوة أو قويت لهم حال , عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ واشد مما كان .
وقال في قول الفضل : أيها المهدي أكفى دليل وأوضح برهان , وأبين خبر بأن قد اجمع رأيه وحزم نظره على الإرشاد ببعثه الجيوش إليهم وتوجيه البعوث نحوهم مع إعطائهم ما سألوا من الحق , وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل .
قال المهدي : ذلك رأي .
قال هارون : ما خلطت الشدة أيها المهدي باللين فصارت الشدة أمر فطام لما تكره , وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب , ولكن أرى غير ذلك .
قال المهدي : لقد قلت قولا بديعا ً , وخالفت فيه أهل بيتك جميعا ً والمرء مؤتمن بما قال وظنين بما ادعى , حتى يأتي ببينة عادلة وحجة ظاهرة فاخرج عما قلت .
قال هارون : إن الحرب خدعة , والأعاجم قوم مكرة , وربما اعتدلت الحال بهم واتفقت الأهواء منهم فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون وربما افترق الحالان , وخالف القلب اللسان , فانطوى القلب على محجوبة تبطن واستسر بمدخولة لا تعلن والطبيب الرفيق بطبه البصير بأمره العالم بمقدم يده وموضع ميسمه , لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء فالرأي للمهدي وفقه الله أن يفر باطن أمرهم فر المسنة ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء بمتابعة الكتب ومظاهرة الرسل , وموالاة العيون , حتى تهنك حجب عيونهم وتكشف أغطية أمورهم , فإن انفرجت الحال وأفضت الأمور إلى تغيير حال , أو داعية ضلال اشتملت الأهواء عليه وانقاد الرجال إليه وامتدت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه وإثم يستحلونه بشدة لا لين فيها , ورماهم بعقوبة لا عفو معها , وإن انفرجت العيون واهتصرت الستور ورفعت الحجب والحال فيها مريعة والأمور بهم معتدلة في أرزاق يطلبونها وأعمال ينكرونها , وظلامات يدعونها وحقوق يسألونها بماتة سابقتهم ودالة مناصحتهم , فالرأي للمهدي وفقه الله , أن يتسع لهم بما طلبوا ويتجافى لهم عما كرهوا ويشعب من أمرهم ما صدعوا ويرتق من فتقهم ما قطعوا ويولى عليهم من أحبوا ويداوي بذلك مرض قلوبهم وفساد أمورهم , فإنما المهدي من أمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق والوالد الشفيق والراعي المجرب الذي يحتال لمرابض غنمه , وضوال رعيته حتى يبرئ المريضة من داء علتها ويرد الصحيحة إلى انس جماعتها , ثم إن خراسان بخاصة الذين لهم دالة محمولة وماتة مقبولة ووسيلة معروفة , وحقوق واجبة لأنهم أيدي دولته وسيوف دعوته وأنصار حقه وأعوان عدله فليس من شان المهدي الاضطعان عليهم ولا المؤاخذة لهم , ولا التوعر بهم ولا المكافأة بإساءتهم لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى , ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ احزم في الرأي واصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها حتى يلتئم قليلها بكثيرها وتجتمع أطرافها إلى جمهورها .
قال المهدي : ما زال هارون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القدح من الماء وانسل انسلال السيف فيما ادعى , فدعوا ما سبق موسى فيه فانه هو الرأي وثنى بعده هارون , ولكن من لأعنة الخيل وسياسة الحرب وقادة الناس إن أمعن بهم اللجاج وأفرطت بهم الدالة ؟
قال صالح بن علي : لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث الطويل وطول الفكر أدنى فراسة رأيك وبعض لحظات نظرك , وليس ينفض عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم ذو دين فاضل ورأي كامل وتدبير قوي تقلده حربك وتستودعه جندك ممن يحتمل الأمانة العظيمة ويضطلع بالأعباء الثقيلة , وأنت بحمد الله ميمون النقيبة مبارك العزيمة , مخبور التجارب محمود العواقب معصوم العزم . فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد توليه أمرك وتسند إليه ثغرك إلا أراك الله ما تحب لك منه ما تريد .
قال المهدي إني لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه وحسن معونته عليه , ولكي أحب الموافقة على الرأي والاعتبار للمشاورة في الأمر المهم .
قال محمد بن الليث : أهل خراسان قوم ٌ ذو عزة ومنعة وشياطين خدعة زروع الحمية فيهم نابتة , وملابس الأنفة عليهم ظاهرة , فالروية عنهم عازبة ولعجلة عنهم حاضرة , تسبق مطرهم سيوفهم عذلهم , لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم وبين رؤساء لا يلجمون إلا بشدة ولا يفطنون إلا بالمر , وإن ولى المهدي عليهم وضيعا لم تنقد له العظماء وإن ولى أمرهم شريفا ً تحامل على الضعفاء وأن آخر المهدي أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمة ومواليه أو بني عمه أو بني أبيه ناصحا ً يتفق عليه أمرهم وثقة تجتمع له إملاؤهم بلا أنفة تلزمهم ولا حمية تدخلهم ولا مصيبة تنفرهم , تنفست الأيام بهم وتراخت الحال بأمرهم , فدخل بذلك من الفساد الكبير , والضياع العظيم ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جد , ولا يستصلحه وإن جهد , إلا بعد دهر طويل وشر كبير وليس المهدي – وفقه الله – فاطما عاداتهم ولا قارعا ً صفاتهم بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما ولا عدل في ذلك بهما : احدهما لسان ناطق موصول بسمعك ويد ٌ ممثلة لعينك وصخرة لا تزعزع وبهمة لا تثنى وبازل لا يفزعه صوت الجلجل , نقي العرض نزيه النفس جليل الخطر قد اتضحت الدنيا قدره , وسما نحو الآخرة بهمته فجعل الغرض لعينه نصبا , والغرض الأدنى لقدمه موطئا ً , فليس يقبل عملا ً ولا يتعدى أملا وهو رأس مواليك وانصح بني أبيك , رجل قد غذى بلطيف كرامتك ونبت في ظل دولتك ونشأ على قوائم أدبك قلدته أمرهم وحملته ثقلهم وأسندت إليه ثغرهم كان قفلا ً فتحه أمرك وبابا ً أغلقه نهيك , فجعل العدل عليه وعليهم أميرا والإنصاف بينه وبينهم حاكما ً . وإذا حكم المنصفة وسلك المعدلة فأعطاهم ما لهم واخذ منهم ما عليهم , غرس لك في الذي بين صدورهم , واسكن لك السويداء داخل قلوبهم , طاعة راسخة العروق باسقة الفروع متماثلة في حواشي عوامهم . متمكنة من قلوب خواصهم , فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه ولا يلزمهم حق إلا أدوه , وهذا احدهما , وآخر عود من غيضتك أو نبعة من أرومتك فتى السن كهل الحلم راجح العقل محمود الصرامة مأمون الخلاف يجرد فيهم سيفه ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون وعلى حسب ما يستوجبون وهو ( فلان ) أيها المهدي – فسلطه أعزك الله عليهم ووجهه بالجيوش إليهم ولا تمنعك ضراعة سنه وحداثة مولده فإن الحلم والثقة مع الحداثة خير ٌ من الشك والجهل مع الكهولة , وإنما إحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه , واختصكم به من مكارم الأخلاق ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور وصواب التدبير وصرامة الأنفس كفراخ عتاق الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب , والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب فالحلم والعلم والعزم والحزم والتؤدة والرفق , ثابت في صدروكم مزروع في قلوبكم , مستحكم لكم متكامل عندكم , بطبائع لازمة وغرائز ثابتة .
قال معاوية بن عبد الله :
إفتاء أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر , وأهل خراسان في حال عز على ما وصف , ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلا ً ليس بقدر الذكر في الجنود ول بنبيه الصوت في الحروب ولا بطويل التجربة للأمور , ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء , دخل ذلك أمران عظيمان , وخطران مهولان احدهما : أن الأعداء يغتمزونها منه ويحتقرونها فيه ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له والخلاف عليه قبل الاختبار لأمره , والتكشف لحاله والعلم بطباعه . والأمر الآخر : أن الجنود التي يقود , والجيوش التي يسوس , إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ولم يعرفوه بالصيت والهيبة انكسرت شجاعتهم وماتت نجدتهم واستخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم , وربما وقع البوار قبل الاختيار وبباب المهدي – وفقه الله – رجل مهيب نبيه حنيك صيت له نسب زاك وصوت عال قد قاد الجيوش وساد الحروب وتألف أهل خراسان , واجتمعوا عليه بالمقة ووثقوا به كل الثقة فلو ولاه المهدي أمرهم لكفاه الله شرهم . قال المهدي : جانبت قصد الرمية وأبيت إلا عصبية إذ رأى الحدث من أهل بيتنا كرأي عشرة حلماء من غيرنا , ولكن أين تركتم ولي العهد ؟
قالوا : لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده ونسيج وحده ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله , ولكن وجدنا الله عز وجل حجب عن خلقه وستر دون عباده علم ما تختلف به الأيام , ومعرفة ما تجري عليه المقادير من حوادث الأمور , وريب المنون المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك فكر هنا شسوعه عن محله ودار السلطان ومقر الإمامة والولاية , وموضع المدائن والخزائن ومستقر الجنود ومعدن الجود , ومجمع الأموال التي جعلها الله قطبا ً لدار الملك ومصيدة لقلوب الناس , ومثابة لإخوان الطمع وثوار الفتن , ودواعي البدع وفرسان الضلال وأبناء الموت , وقلنا : إن وجه المهدي ولي عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد يحدث بجنود الرسل من قبله , لم يستطع المهدي أن يعقبهم بغيره إلا أن ينهض إليهم بنفسه , وهذا خطر عظيم وهول شديد , إن تنفست الأيام بمقامه واستدارت الحال بإمامه , حتى يقع عوض لا يستغنى عنه , أو يحدث أمر لا بد منه صارما ً بعده ما هو أعظم هولا ً , واجل خطرا ً له تبعا ً , وبه متصلا ً .
قال المهدي : الخطب أيسر مما تذهبون إليه وعلى غير ما تصفون الأمر عليه , نحن أهل البيت نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابق من العلم , ومحتوم من الأمر , قد أنبأت به الكتب ونبأت عليه الرسل , وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا وتكامل بحذافيره عندنا , فيه ندبر وعلى الله نتوكل انه لا بد لولي عهدي وولي عهد عقبى بعدي , أن يقود إلى خراسان البعوث ويتجه نحوها بالجنود , أما الأول فانه يقدم إليهم رسله ويعمل فيهم حيلة ثم يخرج نشيطا ً إليهم حنقا ً عليهم يريد أن لا يدع أحدا ً من إخوان الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال , إلا توطئه بحر القتل والبسه قناع القهر , وقلده طوق الذل ولا أحدا ً من الذين عملوا في قص جناح الفتنة وإخماد نار البدعة ونصرة ولاة الحق إلا أجرى عليهم ديم فضله وجداول نهله , فإذا خرج مزمعا ً به مجمعا ً عليه لم يسر إلا قليلا ً حتى تأتيه أن قد عملت حيله , وكدحت كتبه ونفذت مكايده فهدأت نافرة القولب ووقعت طائرة الأهواء واجتمع عليه المختلفون بالرضا فيميل نظرا لهم وبرا بهم وتعطفا ً عليهم إلى عدو قد أخاف سبيلهم وقطع طريقهم ومنع حجاجهم بيت الله الحرام وسلب تجارهم رزق الله الحلال , وأما الآخر فانه يوجه إليهم ثم تعقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون وبذل ما يسالون , فإذا سمعت الفرق بقراباتها له وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه , فأضعت إليه الأفئدة واجتمعت له الكلمة وقدمت عليه الوفود قصد الأول ناحية بجعت بطاعتها وألقت بأزمتها فألبستها جناح نعمته وانزلها ظل كرامته وخصها بعظيم حبائه , ثم عم الجماعة بالمعدلة وتعطف عليهم بالرحمة فلا تبقى فيهم ناحية ذاتية ولا فرقة قاصية إلا دخلت عليها بركته ووصلت إليها منفعته فأغنى فقيرها وجبر كسيرها ورفع وضيعها وزاد رفيعها ما خلا ناحيتين : ناحية يغلب عليها الشقاء وتستميلهم الأهواء فتستخف بدعوته , وتبطئ عن إجابته وتتثاقل عن حقه , فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجه , فيصطلي عليها موجدة ويبتغي لها علة , لا يلبث أن يجد بحق يلزمهم وأمر يجب عليهم فتستلحمهم الجيوش وتأكلهم السيوف ويستحر بهم القتل ويحيط بهم الأسر ويفنيهم التتبع حتى يخرب البلاد وييتم الأولاد .
وناحية لا يبسط لهم أمانا ولا يقبل لهم عهدا ً ولا يجعل لهم ذمة لأنهم أول من فتح باب الفرقة وتدرع جلباب الفتنة وربض في شق العصا , ولكنه يقتل أعلامهم وياسر قوادهم ويطلب هرابهم في لجج البحار وقلل الجبال وحميل الأدوية وبطون الأرض تقتيلا وتغليلا وتنكيلا حتى يدع الديار خرابا والنساء ايامى – وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا ولا نصحح منه غير ما قلنا تفسيرا ً- وأما ( موسى ولي عهدي ) فهذا أوان توجهه إلى خراسان وحلوله بجرجان وما قضى الله له من الشخوص إليها والمقام فيها خير للمسلمين مغبة وله بإذن الله عاقبة بحيث يغمر لجج بجورنا ومدافع سيولنا ومجامع سيولنا أمواجنا فيتصاغر عظيم فضله ويتذاءب مشرق نوره ويتقلل كثير ما هو كائن منه , فمن يصحبه من الوراء ويختار له من الناس ؟
قال محمد بن الليث : أيها المهدي – إن ولي عهدك أصبح لامتك وأهل ملتك علما قد تثنت نحوه أعناقها ومدت سمته أبصارها , وقد كان لقرب داره منك ومحل جواره لك عطل غفل الأمر واسع العذر , فأما إذا انفرد بنفسه وخلا بنظره وصار إلى تدبيره , فإن من شأن العامة أن تتفقد مخارج رأيه . وتستنصت لمواقع آثاره , وتسأل عن حوادث أحواله في بره ومرحمته ومعدلته , وتدبيره وسياسته ووزرائه وأصحابه , ثم يكون ما سبق إليهم اغلب الأشياء عليهم واملك الأمور بهم وألزمها لقلوبهم وأشدها استمالة لرأيهم , وعطفا ً لأهوائهم فلا يفتأ المهدي وفقه الله ناظرا ً له فيما يقوى عمد مملكته , ويسدد أركان ولايته ويستجمع رضاء أمته بأمر هو أزين لحاله , واظهر لجماله , وأفضل مغبة لأمره واجل موقعا في قلوب رعيته , واحمد حالا في نفوس أهل ملته , ولا ادفع مع ذلك باستجماع الأهواء له وابلغ في استعطاف القلوب عليه من مرحمة تظهر من فعله ومعدلة تنتشر عن أثره , ومحبة للخير وأهله – وأن يختار المهدي وفقه الله من خيار أهل كل بلدة , وفقهاء أهل كل مصر , أقواما ً تسكن العامة إليهم إذا ذكروا , وتأنس إذا وصفوا , ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان , وفتح باب المعروف , كما قد كان فتح له وسهل عليه .
قال المهدي : صدقت ونصحت , ثم بعث في طلب ابنه موسى فقال له :
أي بني – انك قد أصبحت لسمت وجوه العامة نصبا ً , ولمثنى أعطاف الرعية غابة , فحسنتك شاملة وإساءتك نائية , وأمرك ظاهر فعليك بتقوى الله وطاعته فاحتمل سخط الناس فيهما , ولا تطلب رضاهم بخلافهما , فإن الله عز وجل كافيك , من أسخطك عليك إيثارك رضاه , وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه – ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمان فترة من رسله , وبقايا من صفوة خلقه وخبايا لنصرة حقه يجدد حبل الإسلام بدعواهم , ويشيد أركان الدين بنصرتهم ويتخذ لأولياء دينه أنصارا ً , وعلى إقامة عدله أعوانا ً يسدون الخلل ويقيمون الميل , ويدفعون عن الأرض الفساد , وإن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا وسيوف دعوتنا الذين نستدفع المكاره بطاعتهم , ونستصرف نزول العظائم بمناصحتهم وندافع الزمان بعزائمهم , ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم فهم عماد الأرض إذا ارجف كنفها وخوف الأعداء إذا برزت صفحتها , وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها , قد مضت لهم وقائع صادقات , ومواطن صالحات أخمدت نيران الفتن , وقسمت دواعي البدع , وأذلت رقاب الجبارين , ولم ينفكوا كذلك ما جروا مع ريح دولتنا وأقاموا في ظل دعوتنا , واعتصموا بحبل طاعتنا التي اعز الله بها ذاتهم ورفع بها ضعتهم , وجعلهم بها أربابا ً في أقطار الأرض وملوكا ً على رقاب العالمين بعد لباس الذل وقناع الخوف وإطباق البلاء ومحالفة الأسى وجهد البأس والضر فظاهر عليهم لباس كرامتك وأنزلهم في حدائق نعمتك ثم اعرف لهم حق طاعتهم , ووسيلة دالتهم وماتة سابقتهم , وحرمة مناصحتهم بالإحسان إليهم , والتوسعة عليهم والإثابة لمحسنهم والإقالة لمشيئتهم .
أي بني , ثم عليك العامة فاستدع رضاها بالعدل عليها واستجلب مودتها بالإنصاف لها , وتحسن بذلك لربك , وتوثق به في عين رعيتك , واجعل عمال العذر وولاة الحجج مقدمة بين يدي عملك ونصفة منك لرعيتك , وذلك أن تآمر قاضي كل بلد , وخيار أهل كل مصر أن يختاروا لأنفسهم رجلا ً توليه أمرهم وتجعل العدل حاكما بينه وبينهم فإن أحسن حمدت وإن أساء عذرت هؤلاء عمال العذر وولاة الحجج فلا يسقطن عليك ما في ذلك إذا انتشر في الآفاق وسبق إلى الأسماع من انعقاد السنة المرجفين وكبت قلوب الحاسدين وإطفاء نيران الحروب وسلامة عواقب الأمور ولا ينفكن في ظل كرامتك نازلا ً , وبعرا حبلك متعلقا رجلان : احدهما كريمة من كرائم رجالات العرب وأعلام بيوتات الشرف له أدب فاضل وحلم راجح ودين صحيح . والآخر له دين غير مغموز , وموضع غير مدخول , بصير بتقليب الكلام وتصريف الرأي , وأنحاء العرب , ووضع الكتب , عالم بحالات الحروب , وتصاريف الخطوب , يضع آدابا نافعة وأثارا باقية من محاسنك وتحسين أمرك وتحلية ذكرك فتستشيره في حربك وتدخله في أمرك فرجل أصبته كذلك فهو يأوي إلى محلتي ويرعى في خضرة جناني ولا تدع أن يختار لك من فقهاء البلدان وخيار الأمصار أقواما يكونون جيرانك وسمارك , وأهل مشاورتك فيما تورد , وأصحاب مناظرتك فيما تصدر , فسر على بركة الله , أصبك الله من عونه وتوفيقه دليلا يهدي إلى الصواب قلبك وهاديا ينطق بالخير لسانك .
6-مناظرة للامدي بين صاحب أبي تمام – وصاحب البحتري
صاحب أبي تمام : كيف يجوز لقائل أن يقول : إن البحتري اشعر من أبي تمام , ومن أبي تمام اخذ , وعلى حذوه احتذى , ومن معانيه استقى ! حتى قيل الطائي الأكبر , والطائي الأصغر !! .
صاحب البحتري : أما الصحبة له فما صحبه ولا تتلمذ له , ولا روى ذلك أحد عنه ولا نقله , ولا رأى قط انه محتاج إليه , ودليل ذلك الخبر المستفيض من اجتماعهما وتعارفهما عند ( أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري ) وقد دخل عليه البحتري بقصيدته التي أولها :* آفاق صب من هوى فأفيقا * وأبو تمام حاضر فلما انشدها علق أبو تمام منها أبياتا ً كثيرة , فلما فرغ من الإنشاد اقبل أبو تمام على محمد بن يوسف فقال : أيها الأمير , ما ظننت أن أحدا ً يقدم على أن يسرق شعري , وينشده بحضرتي حتى اليوم . ثم اندفع ينشد ما حفظه , حتى أتى على أبيات كثيرة من القصيدة .
فبهت البحتري , ورأى أبو تمام الإنكار في وجه أبي سعيد . فحينئذ قال له أبو تمام : أيها الأمير والله ما الشعر إلا له , وانه أحسن فيه الإحسان كله , واقبل يقرظه ويصف معانيه ويذكر محاسنه , ولم يقنع من محمد بن يوسف حتى ضاعف له الجائزة .
فمن كان يقول مثل هذه القصيدة التي هي من عين شعره وفاخر كلامه قبل أن يعرف أن أبا تمام جدير به أن يستغني عن أن يصحبه أو يتتلمذ له أو لغيره من الشعراء , على إنني لا أنكر انه استعار بعض معاني أبي تمام , لقرب البلدين وكثرة ما كان يطرق سمع البحتري من شعره وليس ذلك بمقتض أن يكون أبو تمام أستاذ البحتري , ولا بمانع أن يكون البحتري اشعر من أبي تمام , فهذا ( كثير ) قد اخذ من ( جميل ) واستقى من معانيه , فما رأينا أن أحدا قال أن ( جميلا ً ) اشعر منه بل هو عند أهل العلم بالشعر والرواية اشعر من جميل .
صاحب أبي تمام : إن البحتري نفسه يعترف أن أبا تمام اشعر منه , فقد سئل عنه وعن أبي تمام فقال : إن جيده خير ٌ من جيدي , وجيد أبي تمام كثير .
صاحب البحتري : إن كان هذا الخبر صحيحا فهو للبحتري لا عليه لأن قوله هذا يدل على أن شعر أبي تمام كثير الاختلاف وشعره شديد الاستواء , والمسوي الشعر أولى بالتقدمة من المختلف الشعر , وقد اجتمعنا نحن وانتم على أن أبا تمام يعلو علوا ً حسنا ً وينحط انحطاطا ً قبيحا ً , وأن البحتري يعلو بتوسط ولا يسقط , ومن لا يسقط ولا يسف أفضل ممن يسقط ويسف .
صاحب أبي تمام : إن أبا تمام انفرد بمذهب اخترعه وصار فيه أولا ً , وإماما ً متبوعا ً , وشهر له حتى قيل هذا مذهب أبي تمام وطريقة أبي تمام , وسلك الناس نهجه واقتفوا أثره , وهي فضيلة عرى عن مثلها البحتري .
صاحب البحتري : ليس الأمر على ما وصفت وليس أبو تمام صاحب هذا المذهب ولا بأول فيه ولا سابق إليه , بل سلك فيه سبيل مسلم بن الوليد واحتذى حذوه , وأفرط في ذلك وأسرف , حتى زال عن النهج المعروف , والسنن المألوف .
بل أن مسلما غير مبتدع , ولكنه رأى هذه الأنواع التي وقع عليها اسم البديع متفرقة في أشعار المتقدمين فقصدها , وأكثر في شعره منها , ولكنه حرص على أن يضعها في مواضعها , ولم يسلم مع ذلك من الطعن عليه , حتى قيل انه أول من افسد الشعر , فجاء أبو تمام على أثره واستحسن مذهبه , وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من هذه الأصناف فسلك طرقا ً وعرا ً واستكره الألفاظ والمعاني استكراها ً , ففسد شعره وذهبت طلاوته ونشف ماؤه , فقد سقط الآن احتجاجكم باختراع أبي تمام لهذا المذهب وسبقه إليه , وكل ما في المسألة انه استكثر منه وأفرط فكان إفراطه من أعظم ذنوبه , وأكبر عيوبه .
أما البحتري فانه فارق عمود الشعر , وطريقته المعروفة على كثرة ما جاء في شعره من الاستعارة والتجنيس والمطابقة فكان انفراده بحسن العبارة وحلاوة اللفظ وصحة المعنى والبعد عن التكلف والتعمل سببا ً في إجماع الناس على استحسان شعره , واستجادته وتداوله , ونفاق شعر الشاعر دليل ٌ على علو مكانته , واضطلاعه بما يلاءم الأذواق , ويلامس القلوب , من أساليب الكلام ومناهجه .
صاحب أبي تمام : إنما اعرض عن شعر أبي تمام من لم يفهمه لدقة معانيه وقصور فهمه عنه , أما النقاد والعلماء فقد فهموه وعرفوا قدره , وإذا عرفت هذه الطبقة فضيلته لم يضره طعن من طعن بعدها عليه .
صاحب البحتري : لا يستطيع أحد أن ينكر منزلة ابن الأعرابي , واحمد بن يحيى الشيباني , ودعبل الخزاعي من الشعر ومنزلتهم من العلم بكلام العرب , وقد علمتم مذهبهم في أبي تمام وازدرائهم بشعره , حتى قال دعبل : إن ثلث شعره محال وثلثه مسروق وثلثه صالح , وقال : ما جعل الله أبا تمام من الشعراء , بل شعره بالخطب والكلام المنثور أشبه منه بالشعر , وقال ابن الأعرابي في شعر أبي تمام : إن كان هذا شعرا ً فكلام العرب باطل ٌ , وهذا محمد بن يزيد المبرد : ما علمناه دون له كبير شيء .
صاحب أبي تمام : إن دعبلا ً كان يشنأ أبي تمام ويحسده على ما هو معروف ومشهور فلا يقبل قول شاعر في شاعر , وأما ابن الأعرابي فكان شديد التعصب عليه لغرابة مذهبه , ولأنه كان يرد عليه من معانيه ما لا يفهمه ولا يعلمه , فكان إذا سئل عن شيء منها يانف أن يقول لا ادري فيعدل إلى الطعن عليه .
ولا مانع أن يكون جميع من تذكرونه على هذا القياس .
صاحب البحتري : لا عيب على ابن الأعرابي في طعنه على شاعر عدل في شعره عن مذاهب العرب إلى الاستعارات البعيدة المخرجة للكلام إلى الخطأ والإحالة , والعيب في ذلك يلحق أبا تمام إذ عدل عن المحجة إلى طريقها يجهلها ابن الأعرابي وأمثاله من المضطلعين بالسليقة العربية .
صاحب أبي تمام : إن العلم في شعره أبي تمام , اظهر منه في شعر البحتري والشاعر العالم , أفضل من الشاعر غير العالم .
صاحب البحتري : كان الخليل بن احمد عالما ً شاعرا ً , وكان الأصمعي شاعرا ً عالما ً , وكان الكسائي كذلك , وكان خلف بن حبان الأحمر اشعر العلماء , وما بلغ بهم العلم طبقة من كان زمانهم من الشعراء غير العلماء , والتجويد في الشعر ليست علته العلم , والشائع المشهر أن شعر العلماء دون شعر الشعراء , وقد كان أبو تمام يعمل على أن يدل في شعره على علمه باللغة وكلام العرب , أما البحتري فلم يقصد هذا ولا اعتمده ولا كان يعده فضيلة ولا يراه علما ً , بل كان يرى انه شاعر , لا بد له أن يقرب شعره من فهم سامعه , فلا يأتي بالغريب إلا أن يتفق له في اللفظة بعد اللفظة في موضعه من غير طلب له ولا حرص عليه , على أن هذا العلم الذي تؤثرون به أبا تمام لم ينفعه , فقد كان يلحن في شعره لحنا ً يضيق العذر فيه ولا يجد المتأول له مخرجا ً منه , إلا بالحيلة والتحمل الشديد .
صاحب أبي تمام : لسنا ننكر أن يكون صاحبنا قد وهم في بعض شعره وعدل عن الوجه الأوضح في كثير من معانيه , وغير غريب على فكر نتج من المحاسن ما نتج وولد من البدائع ما ولد , أن يلحقه الكلال في الأوقات , والزلل في الأحيان وبل من الواجب لمن أحسن إحسانه أن يسامح في سهوه , ويتجاوز له عن أخطائه وما رأينا أحدا ً من شعراء الجاهلية سلم من الطعن , ولا من اخذ الرواة عليه الغلط والعيب , وكذلك ما أخذته الرواة عن المحدثين المتأخرين من الغلط والخطأ , واللحن أشهر من أن يحتاج إلى أن نبرهنه أو ندل عليه , وما كان أحد من أولئك وهؤلاء مجهول الحق ولا مجحود الفضل , بل عفا إحسانهم على أساءتهم وتجويدهم عن تقصيرهم .
صاحب البحتري : أما اخذ السهو والغلط على من اخذ عليهم من المتقدمين والمتأخرين ففي البيت الواحد والبيتين والثلاثة . أما أبو تمام فلا تكاد تخلو له قصيدة واحدة من عدة أبيات , يكون فيها مفسدا ً أو محيلا أو عادلا ً عن السنن أو مستعيرا ً استعارة قبيحة , أو مخطئا ً للمعنى بطلب الطباق والتجنيس أو مبهما ً بسوء العبارة والتعقيد , حتى لا يفهم ولا يوجد له مخرج . صاحب أبي تمام : تنكرون على أبي تمام من الفضل ما يعترف به البحتري نفسه فقد رثاه بعد موته رثاء اعترف فيه له بالسبق وفضله على شعراء عصره .
صاحب البحتري : لم لا يفعل البحتري ذلك ؟ ؟ وقد كان هو وأبو تمام صديقين متحابين واخوين متصافيين يجمعهما الطلب والنسب والمكتسب , فليس بمنكر ولا غريب أن يشهد احدهما لصاحبه بالفضل , ويفصه بأحسن ما فيه وينحله ما ليس فيه , على أن الميت خاصة يعطى في تأبينه من التقريظ والوصف وجميل الذكر ما كان يستحقه .
صاحب أبي تمام : كيفما كان الأمر لا تستطيعون أن تدفعوا ما اجمع عليه الرواة والعلماء , أن جيد أبي تمام لا يتعلق به جيد أمثاله , وإذا كان جيده بهذه المكانة وكان من الممكن إغفال رديئه واطراحه كأنه لم يقله فلا يبقى ريب في انه اشعر شعراء عصره , والبحتري واحد منهم . صاحب البحتري : إنما صار جيد أبي تمام موصوفا ومذكورا ً لندرته , ووقوعه في تضاعيف الرديء , فيكون له رونق وماء عند المقابلة بينه وبين ما يليه وجيد البحتري كجيد أبي تمام , إلا انه يقع في جيد مثله أو متوسط , فلا يناجئ النفس منه ما يفاجئها من جيد صاحبها .




















الباب السابع
الفصل الثاني
أساليب النثر وخصائصه
أ-أساليب النثر في العصر العباسي:
نظراً لتطور فن النثر في هذا العصر انطلاقاً من الحاجة لبعض فنونه ( الرسائل الديوانية ) أو إظهار القدرة والتفنن في ذلك من خلال الرسائل الديوانية والأخوانية فإن الكتاب اهتموا بهذا الفن وصنعوا له طرقاً مختلفة ولكنها تلتقي في نقطتين أساسيتين تظهران أسلوب النثر في ذلك العصر :
-ايصال المعنى الدقيق والطريف إلى القارئ .
-إثارة الجمال في نفس القارئ والسامع .
وبذلك يكون أسلوب النثر قد انتهج طريقاً واضحاً لايصال المعنى ، وقد أوضح الجاحظ في مقدمة كتابه " البيان والتبين " هذا الطريق من خلال اعتماد النقاط التالية:
1- فصاحة الألفاظ.
2-عدم تنافر الحروف.
أداء الألفاظ للمعاني الدقيقة .
اعتماد أسلوب البلاغة العربية في توصيل المعاني.
ب- خصائص النثر :
بما أن كتاب النثر في العصر العباسي اطلعوا على ما كتب في النثر في المصادر العربية كالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والمصادر الهندية واليونانية من خلال ما ترجم من كتب فلسفية ، فإن كتاب النثر اعتمدوا في كتابة منثوراتهم على خلط الطريقتين العربية والأعجمية مما جعل النثر يتميز بخصائص مختلفة بين الكتاب ويمكن حصرها بـ:
-استعمال الألفاظ المتوسطة التي تنفي الألفاظ المتوعرة والألفاظ السوقية الساقطة.
-ايجاد ضرب من التلاؤم الموسيقي الذي يكسو الكلام كسوة الازدواج والترادف الصوتي وكلام البديع.
-اعتماد مذهب السجع.
-التركيز على تصنيع العبارة وترصيعها وزخرفتها .
-اللجوء إلى المبالغات والتهويلات والاعتذار بكثرة العبارات المنمقة.
ملاحظة:
وقد وصل النثر في هذا العصر إلى درجة الاهتمام بالشكل أكثر من المضمون بحيث تبدو القطعة النثرية المكتوبة مقصودة لذاتها ، يريد الكاتب أن يعبر عن مقدرته وموهبته فيها أكثر مما يريد أن يعبر عن معنى من المعاني التي يحتاجها الإنسان .
ج- أهم كتاب النثر في العصر العباسي:
برز من كتاب النثر في هذا العصر الجاحظ وابن المقفع وسهل بن هارون وأبو بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني و الحريري.
وقد اهتم ابن المقفع وسهل بن هارون بمذهب الصنعة في العصر العباسي ، وترجع أهمية بن المقفع في النثر العربي إلى أنه يعد أفضل من نقل الثقافة الفارسية إلى العربية ، وما نقل إلى الفارسية من ثقافات يونانية أو هندية ، وقد ترجم كتاب "كليلة ودمنة " إلى أكثر من ثلاثين لغة كبرى لما لهذا الكتاب من أهمية كبيرة وقد كان (جوته) وكثيراً ما يذكران أن طفولتيهما عامرة بما ترجم عن العربية ( كليلة ودمنة – ألف ليلة وليلة)
يقول ابن المقفع ناصحاً كتاب النثر :
"إياك والتتبع لحواشي الكلام طمعاً في البلاغة ، فإن ذلك دليل على العي".
ويقول أيضاً
" عليك بما سهل من الألفاظ ، مع التجنب لألفاظ السفلة (العامة)".
وقد سئل ابن المقفع والبلاغة ؟ فقال:
" التي إذا سمعها الجاهل ظنّ أنه يحسن مثلها".
وتأتي أهمية الجاحظ من كونه رئيساً من رؤوساء المعتزلة وظاهرة فريدة من ظواهر العصر العباسي وقد قال ابن العميد فيه:
"الناس عيال عليه في البلاغة والفصاحة".
ويقول ابن العميد:" كتب الجاحظ تعلّم العقل أولاً والأدب ثانياً".
ويظهر تمييز الجاحظ من خلال اهتمامه بألفاظه ومعانيه ودقة آرائه ، والأدلة والبراهين التي يسوقها لإثبات القضية التي يتحدث عنها، إضافة إلى مقدماته ونتائجه المتأثرة بالمنطق والفلسفة والجدل والحوار.
يقول الجاحظ في مقدمة كتاب الحيوان :
"جنبك الله الشبهة ، وعصمك من الحية وجعل بينك وبين المعرفة نسباً، وبين الصدق سبباً، وحبّب عليك التثبيت وزيّن في عينيك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى".
فالألفاظ هاهنا منتخبة كقوله (جنّبك – الإنصاف- الحلاوة)
والعبارات مقطعة تقطيعاً صوتياً:
أما أبو بكر الخوارزمي فقد تحول النثر معه ومع نظيريه بديع الزمان والحريري إلى تصنيع معتمدين على السجع والترصيع والبديع.
يقول أبو بكر الخوارزمي في كتابٍ أرسله إلى أبي محمد العلوي
"قرأت الفضل المسجّع فشغلني الاقتباس منه عن الجواب عنه".
أما بديع الزمان فقد تميز بإنشائه لفن جديد في الأدب العربي وهو فن المقامات وأهم خصائص هذه المقامات:
القصص القصيرة – الحركة التمثيلية – الاعتماد على شخصيتين وهميتين هما أبو الفتح الاسكندري وعيسى بن هشام .




الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية
في العصر العباسي
-1-

المجلد السابع


حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية


حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية

مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط

ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب












الباب السابع
الفصل الثالث
أبرز أعلام النثر في العصر العباسي
آ- عبد الله بن المقفع :
1-حياته ونشأته:ولد أبو محمد عبد الله روزبة بن داذويه عام (106هـ) وتوفي في (142هـ) وهو فارسي الأصل رحل إلى البصرة موطن العلم والأدب، ثم نشأ مولى لأل الأهتم الفصحاء، وخالط الأعراب.قتله سفيان ابن معاوية والي البصرة بعد تشدده في كتابة صيغة الأمان بين أبي جعفر المنصور وعبد الله بن علي ويقال إنه قطع جسمه عضواً عضواً أو رمي في تنور مسجور.
2-شخصيته: قيل عن ابن المقفع إن عقله أكبر من علمه وأنه يستطيع أن يستوعب الثقافات المتعددة بزمن قصيراً لذلك برزت أهمية هذا الكتاب ، فقد نقل إلى العربية ثقافة الفرس المستقاة من الثقافة الهندية، واستوعب العربية بعلومها.
وقد كان ابن المقفع فارسي النزعة، نجوسي الديانة زرتشي المذهب، زندقي السلوك.
آثاره: ترك ابن المقفع آثاراً متميزة في التاريخ والأدب والاجتماع والأخوانيات وأهم كتبه: كليلة ودمنة : منقولة عن الفارسية .
الأدب الكبير والأدب الصغير – رسالة الصحابة .
ب- سهل بن هارون:
1-حياته ونشأته:ولد أبو محمد سهل بن هارون الأهوازي في منطقة ميسان بين واسط والبصرة، وانتقل إلى البصرة مع أهله ثم إلى بغداد واتصل بالرشيد وعين صاحب ديوانه ثم أصبح في عهد المأمون خازن بيت الحكمة، وقد كانت ولادته (140هـ) ونهايته عام (215هـ) .
2-شخصيته:يعد سهل بن هارون من الشخصيات البارزة في العصر العباسي التي تميزت بالحلم والحكمة والعلم، وحسن المعشر، فقد كان مترسلاً بليغاً وخطيباً فصيحاً ومصنفاً بارعاً، اعتمد الخرفات على لسان الناس والبهائم في صنع قصصه، وقد كان الجاحظ قبل شهرته يكتب الكتب وينسبها إلى سهل بن هارون حتى تلقى رواجاً عند الناس.
ويعد سهل بن هارون من الكتاب المشهورين بالبخل شأن البحتري وأبي العتاهية، وقد كان لذلك شأن سلبي في شخصيته.
3-آثاره:
كتب سهل بن هارون مؤلفات عديدة على رأسها :
"كتاب النمر والثعلب وهو تقليد لكتاب كليلة ودمنة كتاب الأخوان – كتاب المخزومي والهذلية- كتاب الموافق والعذراء – كتاب المسائل – كتاب تدبير الملك والسياسة وأهم كتبه رسالة البخل وتبرير مسلك البخلاء".
تميز سهل بن هارون بذوبة الألفاظ وبصاعة التعبير والبعد عن التكلف والاهتمام بالحكمة، وطرق مواضيعه بأسلوب قصصي سرداً ومواراً.
جـ ـ القاسم بن الحريري
1- ولادته ونشأته:
ولد أبو محمد القاسم بن علي الحريري في مشان وتتلمذيها لغة وأدباً وحديثاً ثم أصبح الخبر في ديوان الخلافة واستمرت الوظيفة في أولاده وقد كانت ولادته (446هـ - 516هـ) .
2- شخصيته:
تميز أبو محمد الحريري بقبح المنظر ودمامة الخلقة وعدم الاهتمام بلبسه وهيئته، ولكنه كان رجلاً لامع الذكاء متوقد الذهن، نال بذكائه وشهرته سمعة مدوية في عصره و العصور اللاحقة.
3- أهم آثاره:
درة الغواص في أوهام الخواص وهو نقد لأغلاط الكتاب في النحو سماها (ملحمة الإعراب في النحو). (مقامات الحريري) .
أهمية مقامات الحريري: تميزت مقامات الحريري التي بلغت الخمسين بكونها قصصاً تفيض بالحركة التمثيلية وتعتمد على الصراع الدرامي كتبها لتعليم الناشئة أساليب الأدب تتخذ أشكالاً مختلفة (دينية – خلقية – فكاهية مجونية )، أكثر فيها من السجع والتعقيد والأحاجي والمسائل الفقهية والفتاوى اللغوية.
وأهم هذه المقامات (المقامة الحرامية) اهتم فيها المؤلف بمذهب التصنيع:
ولديه أيضاً الرسالة السينية التي احتوت كل كلمة من كلماتها على حرف السين.
د- ابن العميد:
1-نشأته وحياته:ولد أبو الفضل محمد بن الحسين في قمم في إيران، ونشأ في بيت أدبٍ وعلم، والده كاتب ديوان الرسائل للملك نوح بن نصر، وقد عاش ابن العميد في منطقة الري وفارس، ثم أصبح في الذروة في وزارة ركن الدولة وابنه وفاته (360هـ) وقدعمل فيها لركن الدولة وابنه عضد الدولة، يقود الجيوش بنفسه، وينشر نفوذ عضد الدولة على بغداد والعراق.
2-شخصيته:
استوعب ابن العميد ثقافة عصره فحفظ القرآن و مشكلة ومتشابهة، ودواوين الشعراء الجاهليين والإسلاميين وعلم النحو والعروض والمنطق والفلسفة والإلهيات، ولقب بالجاحظ الثاني، والتق المتنبي وقال فيه المتنبي مادحاً:
عربي لسانه ، فلسفي رأيه ، فارسية أعياده
خلق الله أفصح الناس طراً في بلادٍ أعرابه أكراده
3- أسلوبه:
يعد ابن العميد استاذ مذهب البديع إذ أنه يعتمد السجع في كتابته ، ويهتم بألوان البديع كالطباق و الجناس، كما وإنه يهتم اهتماماً كبيراً بفن التصوير اتضح ذلك في رسالته إلى أحد القادة المسمى ابن ملكا الذي استعصى على ركن الدولة .


الباب الثامن
الجاحظ
(أبو عثمان عمرو بن بحر)
الباب الثامن
الفصل الأول
ملامح ولادة الجاحظ
آ- حياته وشخصيته:
بيئة الجاحظ السامة: عاش الجاحظ في بيئة جديدة ومختلفة ودخلت في شخصيته عوامل متعددة داخلية وخارجية أسهمت في جعله من أبرز علماء النثر في الأدب العربي والغربي (العالمي).
الحياة السياسية في البيئة العباسية:
كانت معركة الزاب الأعلى أحد روافد دجلة الذي ينصب قرب الموصل نهاية العصر الأموي وبداية عصر جديد، فقد تحطم ملك مروان بن محمد عام (132هـ) وطورد الأمويون في كل مكان، ولم ينج منهم سوى نفر قليل على رأسهم صقر قريش عبد الرحمن الداخل الذي أسس ملكاً جديداً لبني أمية في الأندلس .
وجاء عهد جديد انتقلت فيه عاصمة الخلافة إلى العراق وجعل أبو العباس الهاشمية (مدينة قرب الكوفة) قاعدة انطلاق له حيث أتم تأسيس الدولة وأخضع الثائرين، وفكر في تأسيس عاصمة جديدة كانت محط أنظار المهندسين هي بغداد، وبناها الخليفة أبو جعفر على شكل مستدير قصره في وسطها وقصور الحاشية والوزراء حوله، وقد تميزت هذه الدولة سياسياً بحقبتين :
أولاً- الحقبة الأولى (العراقية).
ثانياً- الحقبة الثانية (المصرية).
أولاً- الحقبة العراقية في بغداد:
امتدت هذه الحقبة 132هـ - 656هـ أي حتى سقوط بغداد بيد التتار وقد قسمها المؤرخون إلى:
آ- فترة القوة والعمل ومدتها 100عام (132هـ - 232هـ) .
ب- فترة استبداد المماليك الأتراك ومدتها 102عام (232هـ- 334هـ) .
ج- فترة استبداد الملوك البويهيين ومدتها 113عام (334هـ - 447هـ) .
د- فترة استبداد الملوك السلاجقة وتمتد حوالي 85عاماً .
هـ- فترة استعادة الخلفاء العباسيين بعض نفوذهم السياسي مع غلبة القادة العسكريين وتمتد (120عاماً)
ثانياً - الحقبة المصرية:
وقد امتد منذ سقوط بغداد (656هـ) حتى عام (922هـ) وذلك بسقوط الحكم المملوكي بيد العثمانيين عام /1516/ في معركة مرج دابق حيث بدأت فترة جديدة، وقد بنيت في الحقبة المصرية مدينة القاهرة وكانت السلطة في هذه الحقبة اسمية للخلفاء وفعلية للمماليك:
الحياة الاجتماعية في البيئة العباسية:
نظراً لامتداد العباسيين في فترة القوة واقتدارهم وسيطرتهم على مقاليد الخلافة، توسعت الحياة وتدفقت الأموال وتوافدت إلى العاصمة عناصر أعجمية طبعت الحياة الاجتماعية بمنهاج تفكير جديد حيث اختلطت العادات و الأعراف الأعجمية مع الأعراف العربية، وقويت شوكة الحركة الشعوبية واهتمت الدولة بالزراعة وشق الأمنية للري وعززت الصناعة، ومال الناس إلى اللهو وشاع الفراغ فتفننوا في المأكل والملبس والمشرب وراحت أسواق الغناء والرقص وشاع التسري، وانتشرت تجارة الرقيق ومال الناس إلى ممارسة هويات مختلفة كالصيد والشطرنج وسباق الخيل، وزاد الاهتمام بالعلماء والأدباء والشعراء والمغنين والموسيقيين فأصبحت مجالس هؤلاء تعج بها بلاطات الخلفاء والأمراء.
الحياة الفكرية والأدبية:
حاول الخلفاء العباسيون بناء دولتهم على غرار بناء الدولة الفارسية فاهتموا بالأدباء والشعراء لما لهم من أثر كبير في بناء الدولة وتقدم سيرها وفتحوا أمام أرباب العقول والمذاهب ورجال الفكر حرياتٍ واسعة وكثر الباحثون والدارسون وأئمة المذاهب الدينية وتم تدوين الحديث وتسجيل اللغة والشعر، وكثر المترجمون عن اليونانية والسريانية، ونشأت فلسفات حياتية ودينية وزهدية انطلقت من مزج الدين بالفلسفة أحياناً، وتسلح العلماء والأدباء بالجدل والمنطق، وقد كان الفكر الاعتزالي من أهم التيارات الجارفة في العصر العباسي حتى إن المأمون اعتنق هذا المذهب رسيماً وشايعه على ذلك المعتصم والواثق، وتفرعت المعتزلة إلى فرق أهمها (البشرية) نسبة إلى بشر بن المعتر الهلالي، و(الثمامية) نسبة إلى ثمامة بن أشرس، والهذبية نسبة إلى أبي الهذيل العلاّف و(النطاعية) نسبة إلى أبي اسحق النظّام، و(الجاحظية) نسبة إلى أبي عثمان عمرو الجاحظ.
وكانت البصرة المرتع الخصيب للاتجاه الاعتزالي والتي كانت قد احتضنت الجاحظ فكراً وأدباً وشخصيته إذ أنها مركز حساس يصل إيران بالعراق والجزيرة العربية بالشام أيضاً، وقد وصف الجاحظ عصره وبيئته قائلاً:
"وقد أمكن القول، وصلح الدهر، وهبت ريح العلماء وكسد الحيّ والجهل، وقامت سوق البيان والعلم".
ب ـ الجاحظ "اسمه – لقبه – كنيته"
1ً- اسمه:
وهو أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني بالولاء الشهير بالجاحظ أو الحدقي غلبة كلمة الجاحظ عليه، وقد قيل إن الجاحظ لم يرض عن لقبيه، وقد ألف رسالة في اسمه.
(فيمن سمّي من الشعراء عمرو)
وكان يرى أن اسمه (عمرو) مظلوم لالصاق الواو به ويرى أن هذا الاسم ما أطلق في الجاهلية ولا في الاسلام إلى على رجل متميز، كعمرو بن الشريد والد الخنساء، وعمرو بن مناف أحد أجداد النبي عليه السلام الملقب بها هشم، وعمرو بن معد يكرب الفارسي اليمني، والشاعر المعروف، وعمرو بن العاص فاتح مصر وأحد دهاة العرب.
ولم يكن الجاحظ يدري أن كبار الأدباء من بعده قد تباروا للخطوة بهذا اللقب كأبي زيد البلخي الملقب بجاحظ خورسان وابن العميد الملقب بالجاحظ الثاني.
2ً- نسبه:
ذكر المؤرخون آراء متباينة في نسب الجاحظ، واختلفوا بين كونه عربي كناني، وبين كونه افريقي فكتب التراجم تذكر أن نسبه كما يلي :
"أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب" وأضاف بعضهم اسم جده وهو فزارة، وأن فزارة كان أسود اللون جمّالاً لرجل يدعى عمرو بن قلع الكناني النساء ونسبه بعض المؤرخون إلى بني ليث أو فقيم، على أنه عربي كناني صليبة، وأكد على ذلك المؤرخون المحدثون أمثال:
محمد كرد علي – السدوبي، والمرجح أن يكون الجاحظ من عنصر افريقي للأسباب التالية:
ما ورد من خبر عن جدّ الجاحظ، وسوده وأنه كان مولى جمّالاً لأبي القلمس.
أن العرب كانت تختار الجمالين من الموالي الموجودين في النوبة والبربر والروم.
أن اسم جده محبوب لا تتسمى بها العرب، فهي تختار لأبنائها أشد الأسماء وأقساها كحرب- صخر، بينما تختار للموالي أسماء ظريفة كمحبوب ومسعود وبركة.
أن الجاحظ نفسه كان شديد السمرة، وهذا ما يرجح رجوعه إلى فزارة.
ومعنى أنه مولى عدم كونه عبداً ومن هنا تستنتج أن الجاحظ كان يبغض العصبيات ذلك أن له من الشخصيات القوية، ومن روح الاعتزال ما يرتفع به عنها.
أما أسرته الأولى فتنتهي إلى فزارة وهي أسرة متوضعة في منبتها الاجتماعي استنتاجاً من مهنة جده الجمّال وأن هذه الأسرة بعد أن أبطلت مأثره النسيء، فتراجعت عن مكانتها وأقامت في البصرة تعاني من شظف العيش وتسعى في سبيل الحصول على أقل حاجات الحياة.
3- ولادته:
اختلف المؤلفون في سنة ولادته بين الأرقام التالية : 155هـ - 159هـ - 160هـ - 164هـ - 165هـ - بسبب بساطة أسرته وبيئته المغمورة واتفق المؤرخون على سنة وفاته عام 255هـ ويكون قد تجاوز 90عاماً ولم يكن لأبيه أو أمه أي مكانة مشرفة فقد توفي والده وهو صغير فتولت أمه العناية به وهناك جهل في صفاته الجسدية والخلقية وأحواله الاجتماعية وقد كانت أمه تعاني من الحاجة في سبيل تقديم الرزق لابنها حتى إنها قدمت له مرة بدل الطعام طبقاً من الكراريس لحثه على العمل، لكن أحد أصدقائه واسمه مويسس بن عمران قدم له عشرين ديناراً فاشترى الدقيق وجاء به إلى أمه ليؤكد لها أن للعلم ثمرة.
4- عائلته:
ذكر الجاحظ رداً على ميمون بن هارون عندما سأله عن مصدر رزقه أنه يعيل جارية يتسرى بها، وأخرى تخدمها، وخادماً له وحماراً يركبه، فهو ليس له زوج ولا أبناء ولا بنات وجاريته كانت مملوكة ، وقد اختلف المؤلفون في سبب عدم زواجه بين مدع أن النساء والحرائر أعرضن عنه لشدة سمرته وتشوه خلقته، وبين مشير إلى أن الجاحظ نفسه أعرض عن الإنجاب إما بسبب بنيوي (العقم) أو بسبب إرادي رغبة منه بعدم الزواج والعلماء والمؤرخون يؤكدون على أن العباقرة وكثير من القادة والحكماء وانصرفوا عن الزواج خدمة ترجالاته والجاحظ بطبعه لا يحب القيود، فقد تسلم ديوان الرسائل ثلاثة ايام ثم تركه لأن ذلك قيد عليه.
5- صفاته الجسدية: ذكر أن الجاحظ كان ذميماً، قصير القامة جاحظ العينين صغير الرأس ، دقيق العنق، صغير الأذنين، وشديد السمرة، وقد أسهم الأدب الشعبي في استثمار هذا القبح في وضع القصص الساخرة والتطرف المليحة حوله والذي كان هو نفسه محبّا لها.
قال الجاحظ متندراً على نفسه: "ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلمّا رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني ...".
وقال أيضاُ:
"ما أخجلني إلاّ امرأتان: رأيت إحداهما في المعسكر وكانت طويلة القامة، وكنت على طعام ، فأردت أن أمازحها، فقلت لها: انزلي علي معنا! فقالت : اصعد حتى ترى الدنيا!
وأمّا الأخرى فإنها أتتني وأنا على باب داري فقالت: لي إليك حاجة وأريد أن تمشي معي! فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي وقال له مثل هذا !
وانصرفت فسألت الصائغ عن قولها، فقال: إنها أتت إلي بفص (خاتم) وأمرتني أن أنقش عليه صورة شيطان، فقلت لها: ما رأيت الشيطان!
فأتت بل وقال : ما سمعت".
6- نشأته وطفولته ومرحلة الكتاتيب:ولد الجاحظ في مدينة البصرة أكبر حواضر الأدب والعلم، حيث كانت تحفل بالأدب والكتاتيب التي كانت تعلم الكتابة والقراءة والحساب وكانت تحفل بالأدباء والفقهاء والفلاسفة والفرق الدينية والفكرية والسياسية والتي كانت مساجدها تشبه جامعات حرة لكلّ راغبٍ في العلم.
وكان الجاحظ يجالس المسجديين من أهل العلم والأدب فقد اختلف إلى كتّاب حي بني كنانة مع الصبية يحفظون القرآن الكريم والشعر والحساب والنحو ثم إنه لمّا شبّ كان يعمل بائعاً للخبز والسمك في منطقة سيمان.
وكان يتردد إلى مجالس العلم حيث شحذ طبعه من لقائه مع أبي الوزير وأبي عدنان اللّذين أسهما في توجه الجاحظ إلى العلم، وبدأ الجاحظ يشعر أن العلم يمكن أن يوصله إلى مكانة عالية فازداد طموحه ومضى إلى محاضرات العلماء والأدباء في سوف (المربد) وشغف بالمطالعة، وأخذ يكتري دكاكين الوراقين وينام فيها ليلاً، ويقرأ بها الكتب، وقد وجد صعوبة في الجمع بين الدرس والعمل. فترك العمل واتجه نحو العلم، وكانت لديه رغبة جامحة في ذلك.
فامتد تكوينه الفكري والثقافي أكثر من ربع قرن تعرف خلالها على الثقافة اليونانية، وقد كان مشاركاً في حلقات المساجد يبحث ويناقش من خلال ثقافته التي جمعت من مختلف العلوم.
7- حياته وشبابه:
يبدو أن الجاحظ هذا الشاب الفقير المدقع قد شبت معه أحلام الطموح تخلصاً من الفقر والجوع وطموحاً في الوصول إلى مركز مهم في المجتمع أخرى، فأخذ يتردد إلى الأمكنة التي توفّر له الوصول إلى طموحه وأخذ يلتهم ما يقع تحت سمعه من فقه وعلوم شرعية وحديث ونحو ولغة من خلال محاورات ومناقشات العلماء في سوق (المربد) أو في المساجد أو دكاكين الوراقين.
وقد شهد له نظراؤه بذلك ساعده على ذلك صعوبة انتظامه في عمل من الأعمال ،وما كان يلقاه من معونة أصدقائه لمواصلة العلم ، وقد كانت هذه المرحلة مرحلة انعطاف حقيقي نحو العلوم والتأليف فكانت المرتكز الأساسي في تكوينه العقلي والثقافي واللغوي ، وإن كنا نجد صعوبة في تحديد المدة الزمنية لهذا التكوين أو الاختصاص الذي حصلّه الجاحظ في هذه الفترة أو متى بدأ انتاجه وكيف بدأه وأغلب الظن أن تكوينه الفكري والثقافي امتد أكثر من ربع قرن بعد مرحلة الكتاب ، حصل على الثقافة اليونانية بعد ملازمةٍ كبيرة لحلقات المساجد ، وحضورٍ كثيف للدروس ومشاركة في مناقشات العلماء والمسجديين ومن خلال مباحثات متعددة في (المربد) .
ومن هنا سميت ثقافة الجاحظ التي تجمع مختلف العلوم والفنون بالثقافة الجاحظية لأنها استقت عناصرها من أماكن متعددة .
الباب الثامن
الفصل الثاني
العوامل المساعدة
في تكوين ثقافة الجاحظ
المكونات الفكرية التي ساعدت في تكوين
ثقافة الجاحظ
أسهم في تكوين ثقافة الجاحظ الثقافية عوامل متعددة أهمها:
التكوين الجسدي الذي جعل الجاحظ ينفر من العمل لاقتناعه أنه لا يتلاءم مع العمل بسبب قبح المنظر ، ومن هنا كانت نظرية التعويض دافعاً من دوافع الجاحظ إلى الثقافة.
1-المنبت الأسري :فالجاحظ من أسرة فقيرة تعاب بتدني مستواها الاجتماعي فهي أسرة زنجية من جهة ومن الموالي من جهة أخرى، وكلّ ذلك قد يدفع بالفرد إلى الثقافة لنيل مكانة اجتماعية أرقى من مكانته.
الميول والرغبات: فالجاحظ ينفرمن العمل، ويكره أن ينتظم في صنعة وعليه أن يسلك مسلكاً آخر ليضع لنفسه مكانة اجتماعية، وما روي عنه من أخبار تفيد بيعه للسمك والخبز إنما هي محاولات منه لاقناع نفسه بالعمل وبالتالي كان اندفاعه بفعل ميوله ورغباته إلى الثقافية والعلم لا إلى العمل.
2-الموهبة الذاتية:وقد ظهرت هذه المنخة الإلهية منذ طفولته ودفعته للاتجاه نحو الثقافة، وساعده على ذلك مجالس العلم.
الباب الثامن
الفصل الثالث
العوامل المؤثرة والموجهة لشخصية الجاحظ
إذا كان الجاحط قد اتجه بفعل مكوناته الفطرية إلى منهج ثقافي علمي فإنّ هناك مؤثرات أسهمت في تكريس هذا التوجه وأهم هذه المؤثرات :
الكتاتيب والمعلمون: فقد أثر كما ذكر الجاحظ نفسه – بثقافته شخصيات كثيرة كشخصيات أبي الوزير وأبي عدنان.
1-المسجد: وهو من وجهة نظر الثقافة المعاصرة للصدر الثقافي الرئيس فقد كان يتحلق في هذا المسجد القراء والمحدثون واللغويون والزهاد وأصحاب الملك والنحل والمتكلمون والشعراء وهؤلاء جميعاً مؤثر فعال في تكريس شخصية الجاحظ.
مساجد الأحياء: التي كان فيها أبناء القبائل وتحمل هذه الأحياء قصص الوعاظ.
مربد البصرة: ذلك السوق التجاري الأدبي الذي أخذ ينازع عكاظ وذي المجاز وذي المجنة، وقد كان العلماء والأدباء والشعراء يتناقلون أخبار بعضهم البعض في هذا السوف.
2-دكاكين الوراقين:التي كان يستأجرها الجاحظ وينام فيها ليقرأ ما تحويه من كتب.
الأساتذة: فقد أوتي الجاحظ حظاً كبيراً في لقاء مجموعة بين الأدباء والعلماء والنحاة والمتكلمين كالأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأبي عبيدة معمر بن المثنى والأخفش، وأبي يوسف القاضي، ويزيد بن هارون والسري بن عبد ربه.
3-النظّام:الذي تعرف عليه الجاحظ عن طريق (مويس بن عمران) الذي كان يقيم في داره منتدىً فكرياً يلتقي فيه العلماء والأدباء وقد توثقت العلاقة بين الجاحظ والنظّام منذ السنة الخامسة والثلاثين من عمر الجاحظ وأصبح من أخص شيوخه .
المنتديات والمجالس العامة: التي تقام في المجالس والأفنية والمجالس الخاصة في دور الأشراف كمويس بن عمران ومنتدى (تل نوبخت)، ومنتدى (آل سليمان بن علي) عم السفاح، ومنتديات أسرة أبي جعفر المنصور وأسر أخرى غيرها.
4-الحياة العامة: التي أخذت تنمو بتوسع الدولة وتوجه الناس إلى العلم والتنافس في دعابته.
5- الروح العامة لمدينة البصرة:فقد كانت هذه المدينة مكانة خطيرة من حيث الموقع الجغرافي والسياسي بحيث أصبحت مركز جذب لكلِّ المثقفين وأصحاب الفرق والباحثين عن المجد والمنزلة.
6- الأسفار: وقد عرف عن الجاحظ أنه رجل لطلب العلم إلى بلاد العرب والروم والأتراك والشام والجزيرة العربية مما زاد في ثقافته وعمّق شخصيته.
8- الثقافات الأخرى:التي تلقاها الجاحظ من الكتب أو من مجالسته أهل الفكر أو من الأسفار كالثقافة اليونانية اليونانية والسريانية وقد مال الجاحظ إلى امتلاكهما ميلاً عظيماً.
الباب الثامن
الفصل الرابع
طور التأليف عند الجاحظ
لم يستطع دارسو الأدب أن يحددوا الزمن الذي كتب فيه الجاحظ كل كتاب تركه للمكتبة العربية، ولذلك نجد خلطاً في الأزمان التي حددت كتابة كتبه، والملقب للانتباه أن بدايات الجاحظ في التأليف إذا صحت كان ينسبها المؤلفين قد ماء كابن المقفع، وذلك لأن الناس قد جلبوا على تقدير القديم وإهمال الحديث كما أشار إلى ذلك ابن قتيبة في (الشعر والشعراء) ويقال إن الجاحظ افتتح مرحلة التأليف الأولى بكتب (الإمامة) ككتاب (العثمانية) وكتاب (إمامة معاوية) وكتاب (إمامة بني العباس) وكتاب (وجوب الإمامة) وكتاب (الإمامة عند الشيعة) وقد قادته هذه الكتب إلى بلاط المأمون لما تحمله من نصاعة الأفكار ومهارة الجدل إذ أن المأمون قد كلّف أحد مؤدبيه (ياليزيدي) لفحص كتب الإمامة للجاحظ، وقد نقلت هذه الكتب بعد تلقيها بالقبول مع الجاحظ من البصرة إلى بغداد.
-الجاحظ في بغداد:
لما لقي الجاحظ قبولاً عند المأمون وليّ ديوان الرسائل في بغداد، ولكنه لم يصير أكثر من ثلاثة أيام فأعفي من منصبه، وهذا يشير إلى عدم احتمال الجاحظ للقيود والمنافسين وحسدهم.
وفي هذه الفترة التي استغرقت عند الجاحظ خمسين عاماً، كتب هذا المؤلف البارع معظم ما وصل إلينا من كتب، وقد قُسمت المرحلة البغدادية إلى قسمين فصل بينهما مقتل الوزير محمد بن عبد الله الزيات وزير المعتصم والواثق.
-الحقبة الأولى من المرحلة البغدادية:
وتمتد منذ وصوله بغداد حوالي (200هـ) وتنتهي عام (233هـ) توثقت خلالها صلات الجاحظ بثحامة بن أشرز ذي المكانة الكبيرة لدى المأمون، وقد اقترح على الجاحظ أن يجعله وزيراً فاستعفاه.
ألف الجاحظ خلال هذه المرحلة كتابه (الثابتة) وهو كتاب يتحدث عن أهل الحديث وكتاب (أخلاق الكتاب ) وكتاب (القحطانية والعدنانية) وكتاب (الموالي والعرب) وكتاب (الصرحاء والهجناء) وكتاب (فخر السودان على البيضان) وكتاب (طبقات المغنين) ورسالة القيان ....
-المرحلة الزياتية وتأليف الجاحظ:
لم تتغير سياسة الدولة ولا اتجاهها الديني المعتمد على الاعتزال بعد وفاة المأمون وتولي المعتصم والواثق ومحاربة المعتصم للثائرين على الدولة كالحزمية التي تدعو إلى الإباحية، وقد بدت حياة الجاحظ هادئة ترك فيها بغداد إلى سامراء وجاور منزل، الزيات وأهداه كتاب الحيوان، وأجازه الوزير بخمسة آلاف دينار وكان ثحامة بن أشرز قد توفي وفترت العلاقة بين الجاحظ والنظام وتحولت صداقة الجاحظ لابن الزيات إلى فتورٍ كبير علّله بحدة مزاج ابن الزيات وكتب الجاحظ في هذه الفترة أهم رسائله مثل رسالة (التربيع والتدوير) ذاماً بها أحمد بن عبد الوهاب الذي وكان يطاول ابن الزيات ويحاسنه، وكتب رسالة (في مدح التجار وذم عمل السلطات) وكتاباً في (فضل هاشم على عبد شمس) وكتاب (الشعوبية ) .
الحقبة الثانية من المرحلة البغدادية:
وتمتد بين عام 233هـ وعام 247هـ وبمساحة حكم المتوكل حيث اتصل الجاحظ بالقاضي أحمد بن أبي دواد وبالوزير (الفتح بن خاقان) وفي هذه الفترة استطاع ابن أبي دؤاد أن يوغر صدر المتوكل على ابن الزيات الذي عارض خلافة المتوكل وأراد تولية ابن الواثق حيث صودرت أمواله ووضع في تنور فيه مسامير، وكان ابن الزيات نفسه أعدّه لتعذيب أعدائه وقد هرب الجاحظ بعد إلقاء القبض على ابن الزيات نفسه، وقبض عليه ولمّا سئل عن سبب هربه قال: (خشيت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور)
ثم مثل بين يدي ابن أبي دؤاد وقال له مما قال:
((فو الله لأن يكن لك الأمر عليّ خيرٌ من أن يكون لي عليك، ولئن أسء وتحسن أحسن عندك من أن أحسن وتسيء، وأن تعفو عني في حال قدرتك أجمل من الانتقام مني ...))
فأعجب القاضي لقوله وكافأه بخمسة آلاف دينار بعد أن قدّم له كتابه (البيان والتبين)، وبقي الجاحظ ملتزماً مع الوليد بن أبي دؤاد وألف له كتاب (الفيتا) وكتاب (حج النبوة) وكتاب (نظم القرآن) وكتاب (أبي القرآن) وكتاب (مسائل القرآن) وكتاب رسالة (المعاد والمعاش) وكتاب (خلق القرآن) وكتاب (الرّدَ على المشبهة).
وقد تعرّف الجاحظ بالفتح بن خاقان الذي قرّبه وجمّل صورته عند المتوكل وأجرى له راتباً ورشحه ليكون مأدباً لولده، وجعله في حاشيته حين سافر الخليفة للشام في رحلة استغرقت (سبعة و تسعين يوماً).
وقد ألف كتاب (الردّ على النصارى) وكتاب (الردّ على اليهود) وكتاب (مناقب الترك وعامة جند الخلافة) وكتاب (فصل ما بين العداوة والحسد).
وفي هذه المرحلة أجيب الجاحظ بالفالج ثم سافر إلى بلده البصرة ولزم داره.
- العودة إلى البصرة:
شعر الجاحظ بنقل المرض وهو في سامراء ورأى بأم عينيه مقتل المتوكل بتحريض من ابنه (المنتصر) وعاد إلى مسقط رأسه في البصرة ثم أصيب بداء (النقرس) فتضافرت عليه العلل وأكب على المطالعة والتأليف وقد وصف المبّرد حالة الجاحظ عندما سأله: كيف أنت؟
فقال الجاحظ:
((كيف يكون من نصفه مفلوج لوجزّ بالمناشر ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لألمه وأشدّ من ذلك ست وتسعون أنا فيها)) .
وهذه الحقبة شهدت أوج نشاطه فكتب كتاب (الحيوان) وكتاب (البيان والتبين) وكتاب (البلدان) وكتاب (النساء).
- مذهبه وأخلاقه وآثاره:
اعتنق الجاحظ مذهب المعتزلة وبرع فيه وانفرد بأراء خاصة تداولها بعض الناس، وشكل مرقة سميت (الفرق الجاحظية) وقد جعل صفة الإرادة جنساً من الأعراض واعتبر هذه الأعراض متبدلة، واعتبر القدر خيره وشره من العبد، ورأى أن الجواهر لا يستحيل إلى فناء في مقابل ذلك عرف الجاحظ بدماثة المعشر والميل إلى الدعابة وحبّ النادرة و البحث الدؤوب ودقة الملاحظة،وقوة الإحساس ونفاذ البصيرة واستثمار الأوقات، والتملك من القيود والاستمتاع بأطايب الحياة، والبعد عن مواطن الشبهة مع أنانية يستأثر بها، وعدم قضاء لحاجات الناس وقد ترك من الآثار (ثلاثة مئة وخمسين) كتاباً ضاع الكثير منها وأهم هذه الكتب:
في مباحث السياسة: كتب الإمامة – كتب الاستبداد.
في مباحث الاقتصاد: رسالة في الخراج – كتاب فضول الصناعات.
في الدين والاعتزال والفلسفة: الاستطاعة وكتاب خلق الأفعال.
في الأدب والعلوم الإنسانية: البيان والتبين.
في الاجتماع والأخلاق: إثم العسكر – أخلاق الشطار
في الطبيعيات: كتاب الحيوان – رسالة في الكيمياء .
في العصبية: القحطانية والعدنانية.
في النساء: الجواري – رسالة في العشق و النساء.
في موضوعات شتى: رسالة التربيع والتدوير.
الباب الثامن
الفصل الخامس
رسالة التربيع والتدوير
آ- موضوع الرسالة: هي رسالة هزلية ساخرة كتبها الجاحظ في هجاء أحمد ابن عبد الوهاب وهو من أخوان الجاح ومن طبقة الكتاب (كتاب الأمراء لا كتاب الديوان) كان صديقاً للزيات متمذهباً بمذهب الشيعة المتطرفة (الرافضة) المشبهة، وهم أعداء المعتزلة وقد كان ابن عبد الوهاب نديماً لجعفر بن دينار الخياط أحد قواد الإمنشين وقد ولاه المعتصم اليمن.
وكتب هذه الرسالة أيام وزارة الزيات وقد بارت حول الشمائل التي تتناول ادعاء الجمال وتكلفه، واصطناع العلم والزهو به، تنعت المهجو بالعرض والضخامة دون الطول أي مربع مدوّر حيث تبدو صورة أحمد بن عبد الوهاب ذميمة الخلق قبيحة الهيئة فارغة من العلم لأنه طرح على مهجوه مئة مسألة تشكل معظم معارف عصره، فلم يجب عنها.
ب- قيحة الرسالة الفكرية:
تجلى في هذه الرسالة اطلاع الجاحظ الواسع ومعلوماته الواسعة، وعمق معرفته بالواقع، وما يحمله من الخرافات والقصص والمعتقدات القديمة والمعاصرة وقد تناول المؤلف في رسالة الكثير من القضايا التاريخية والفلسفية والعلمية مستفيداً من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والتاريخ العالمي و العربي، وتعرض في رسالته إلى قضايا متعددة كالألوان والأصوات والمد والجزر، وللمرآة والصورة التي تمسكها ولبعض التقاليد والطبائع وعلم الفراسة وأسرار بعض المخلوقات وخرفات أخرى (لعنقاء مغّرب).
ج- قيمة الرسالة الفنية والأدبية:
لم يستطع الجاحظ أن يبلغ من مهجوه مبلغاً للاستفاء إلاّ حينما استعمل أدواتٍ فنية أسهمت في رسم صورة هذا المهجو بشكل متناقض، فبدأ بتناقضة مضحكاً.وأهم
هذه السمات الفنية لهذه الرسالة:
-الإكثار من الدعاء الذي يسوقه للسخرية.
-إبراز صورة السخرية عن طريق المفارقات والتناقضات المعتمدة على الجدل ----والاحتجاج والحوار والمغالطات .
(أنا لم نر مقدوداً واسع الجفرة غيرك، ولا رشيقاً مستفيض الخاصرة سواك..)
وقوله: "وما عليّ أن رآني الناس عريضاً وأكون في حكمهم عليظاً، وأنا عند الله طويل جميل، وفي الحقيقة مقدود رشيق..."
جعل الجاحظ مهجوه موضع اختلاف لجأ فيه إلى مقاييس الجمال أحياناً ومقاييس القماءة أحياناً أخرى . انقلب أحمد بن عبد الوهاب تحت صرير قلم الجاحظ إلى مسألة اعتزالية، ومعضلة علمية، ومشكلة فلسفية وكأن ابن عبد الوهاب خلاف بين الرافضة والمعتزلة وبين المرجئة والخوارج.
-الاستفادة بالإيماء واستخدام للألفاظ من خلالها:
"فأنت المديد، وأنت البسيط، وأنت الطويل وأنت المتقارب، فيا شعراً جمع الأعاريض، ويا شخصاُ جمع الاستدارة والطول".
تحويل الجد إلى هزل وسخرية:
"إنك لا تحسد على شيءٍ حسدك على حسن القامة وضخم الهامة وعلى حور العين، وجودة القد، وعلى طيب الأحدوية".
إظهار عجز المهجو الثقافي بالقاء الأسئلة عليه.
د- أسلوب الرسالة:الألفاظ: اتصفت بالرشاقة والدقة واللين والوضوح والإيماء والسخرية والتهكم واللاذع.
الجمل: بدت حادة وهادة، تشهر بالمهجو وتحقر منه، تطول أحياناً، وتقصر أحياناً أخرى، وتتزاوج وتترادف تحفل بالطباق والمقابلة دون إساءةٍ إلى المعنى ولا تكلفٍ في الأداء.
الباب الثامن
الفصل السادس
البيان والتبين
اختلف الدارسون في تسمية الكتاب وزمن تأليفه فذكر أنّه سمّي بالتبين فقد، وأنه سمّي بالبيان والتبين أيضاً وكتب على نسختين الثانية أصح وأجود من الأولى، وأنّ الكاتب ما ألف هذا الكتاب إلاَ بعد رجوعه من البصرة و إحساسه بثقل المرض، وقد اتبع فيه الكاتب طريقة المتكلمين والمتناظرين في الجدل والمنازعة، فالكتاب بيان من جهة اختيار الجاحظ للنصوص والأخبار والأحاديث والوصايا والخطب والأدعية، وتبين لما يحمله من نظرات نقدية لحقائق الشعوبية وحقائق العرب وهو من أفضل كتب الجاحظ لأنه يوسّع المدارك، ويعلم الأدب والعقل وينبه الخاطر ويصقل الذوق ويهذّب الفكر.
آ- مادة الكتاب:
البيان والتبين كتاب عام في الخطابة وأصولها عند العرب والعجم، لا يتبع طريقة واضحة، ولا يلتزم تبويباً ولا ترتيباً حيث تشيع فيه الفوضى التأليفية يمزج علوم البلاغة والأدب والتاريخ والحكمة والزهد ويستطرد ضمن الموضوع الواحد.
ب- أهم موصفات الكتاب:
-في مجال الألفاظ: تناول الحروف استمالاً ونطقاً ومخرجاً وعجز العرب عن نطق الحروف العربية.
-في مجال البديع وأصحابه: تناول البلاغة وقيمتها وما هيتها ومواقف الكتاب منها.
-في مجال البيان: تناول قيمته وما قيل فيه، وأثر البيئة والصنعة فيه، ووضح كيف يمكن أن يكون.
-في مجال الخطابة: تناول مقوماتها وأنواعها والعيوب الخلقية في الخطب، ومزايا الأعراب والأنبياء وخطباء المدن والقبائل.
-في مجال الشعر: تحدث عن شروطه ومقوماته وألوانه وتأثر الناس به وأثره في القبائل والأفراد.
-في مجال البيوت النطقية: تحدث عن اللثغة والفأفأة واللحن الوفصاحة.
-في مجال نظم العرب: تناول النُظم الاجتماعية والسياسية والمالية والخلقية والتعليمية.
وقد توزعت جميع موضوعات الكتاب في أجزاء انبرى فيها الجاحظ في الدفاع عن العرب أمام مطاعن الشعوبية وبيّن فيه ما عابه هؤلاء الشعوبيون على العرب و خطبائهم من استعمال العصا.






-نقد الجاحظ
ونجد أن الجاحظ ( 255 هـ ) قد قسم الشعراء وفق منهج آخر : (( وإنما ذلك – أي قول الشعر – على قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز والبلاد والأعراق )) , ويشرح الجاحظ ذلك :
أولا ً (( القضية التي لا احتشم منها ولا أهاب الخصومة فيها أن عامة العرب والإعراب والبدو من سائر العرب , أشعر من عامة الأمصار والقرى من المولدة والنابتة , وليس ذلك بواجب في كل ما قالوه )) .
ثانيا ً : يشرح الجاحظ مفهوم الشعر بأنه (( صناعة وضرب من الصيغ وجنس من التصوير )) .
ثالثا ً : يقول : (( المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي )) .
رابعا ً : الشعرية النموذجية تكون وفق الجاحظ (( بإقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وصحة الطبع وجودة السبك )) .
حين تحدق في مفاهيم الجاحظ للشعرية العربية نلمح ما يلي :
أولا ً : العرب أكثر شعرية من العرب المولدين القادمين من الأمم الأخرى واستدراكه الوحيد هو (( ليس في كل ما قالوه )) بل معظمه , ولكنه لم يستدرك على المولدة أن يكون من بينهم الشاعر الذي يفوق الشعراء العرب , وهذا موجود بالفعل . ومن هنا نشتم من قوله هذا مسألة الصراع على السلطة بين العرب الأاصلاء والعرب الجدد من الناحية الثقافية .
ثانيا ً تعريف الجاحظ للشعر أقرب إلى تفضيل – الشكل على المضمون ظاهريا ً , ما دام الشعر : صناعة وصورة وصيغة . أما مسألة ( المعاني ) فلا فضل لشاعر على آخر فيها لأن المعاني معروفة للجميع . ومن ثم فإن أهمية الشاعر تكون في كيفية صياغة المعاني المعروفة . هنا نجد – من زاوية أخرى – أن الجاحظ يوحد النظر للمعاني بين الجميع توحيدا ً قسريا ً . – من زاوية ثانية – نرى أن الجاحظ يحكم على الصيغة المنجزة للمعاني في هيئة قصيدة وليس على المعاني الخام المستقلة قبل تحولها إلى شعر . إذن فإن مقولة تفضيل الشكل على المضمون الظاهرية ليست دقيقة عند تفسير جملة
(( المعاني مطروحة في الطريق )) .
ثالثا ً : الشعرية النموذجية عند الجاحظ تتبع الرأي السائد لدى الذوق العام للنقاد العرب آنذاك ولا جديد فيها .







الباب الثامن
الفصل السابع
منزلة الجاحظ وخصائص فنه
آ- خصائص فن الجاحظ:نظراً لكون الجاحظ صاحب مدرسة أدبية متميزة ، بنى أسسها من ثقافته الخصبة الواسعة وأسفاره واختلاطه بأصحاب القول والعلم فإن لهذا الكاتب خصائص متميزة تتمثل في:
1-وضوح شخصية الجاحظ نحن كلِّ ما يكتب لأن له بصمات تفكيرية وتعبيرية متميزة وأسلوباً وطرازاً خاصاً من التفكير يعتمد على الحجة والسخرية والتهكم.
2-لا يقبل الجاحظ كلَّ ما ينقله لنا دون أن يمحصه و يناقشه ويحقق الأمور الكونية والأدبية فيه.
3-ظهور صفة الاعتزال في كل ما يكتب من خلال العقل والجدل والبحث عن الحقيقة بعيداً عن الخيال والعاطفة .
4-اعتماده على الخفة والدعامة والمرح والسخرية.
5-الإلمام بجوانب الموضوع الذي يتحدث عنه دون وضع خطةٍ منظمة "الاستطراد".
6-الواقعية من حيث تناول شؤون الحياة بالوصف والنقد والعليق.
7-القدرة المدهشة على تناول الشيء وضده، مادحاً أو قادحاً.
8-طول التأليف التي كتبها، إذ يعد الجاحظ أول من ألف الكتب المطولة.
9-مرونة الأسلوب من حيث القدرة العجيبة على صياغة الألفاظ واستخدامها في أمكنتها وسبك الجمل والتصرف باللغة تصرفاً يدل على سعة ثروته اللغوية.
10- تكوين الأسلوب وفقاً لأغراضه ، فتارة يستعمل أسلوباً علمياً، وتارة يستخدم أسلوباً أدبياً .
11- تخير الألفاظ وإنزالها في مواصفها من الجمل مع مجانبة التكلف من خلال الدقة والموسيقا.
وبالنتيجة: الجاحظ نحات، بنّاء للغة، حسن التأليف ذو قدرة على الشاكلة بين الألفاظ والمعاني، يعتمد التوازن في الجمل والترادف والتناغم الوسيقي فيطيل الجمل، ويقصّرها بحسب الموقف، وتبدو جمله واضحة رشيقة جيدة التصوير، غير معتمد على السجع والتكلف.
ب- منزلة الجاحظ:اختل الجاحظ في الأدب العربي مكانة مروقة لدى المثقفين والمتأدبين نظراً لما تحمله آثاره الكثيرة من النظرات العلمية والكلامية والآراء الأدبية، وقد وضعه معظم النقاد والمفكرين على رأس الطبقة الأولى من الكتاب العرب وغير العرب، ومع ذلك فإن للجاحظ خصوماً التقطوا مثالبه، وأذاعوا عيوبه، ومن خصومه:
1-ابن قتيبة الدينوري
2- أبو العباس ثعلب
3-السعودي
4-الأزهري
5 - الهمذاني
6-البغدادي
7- القاضي الباقلاني (نظم القرآن)
ومن التهم التي رمي بها الجاحظ:
-أنه غير ثقة في ما يروي وهو غير مجلٍ في الأدب (الهمذاني) .
-أنه يستعين بكلام غيره أمّا كلامه فليس له ميزة (الباقلاني).
-فساد العقيدة ونصرة الباطل، ووضع الحديث النبوي وتشكيك الناس في عقائدهم (المسعودي) .
ومن الذين شهدوا للجاحظ بطول الباع وبالأدب وعلم الكلام "ثابت بن قرّة" الذي يقول:
"ما أحسد هذه الأمة إلا على ثلاثة أنفس : أولهم : عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته وحذره، والثاني : الحسن البصري في علمه وتقواه وزهده، والثالث الجاحظ في خطابته وأدبه وجده وهزله" .
الباب التاسع
أبو العلاء المعري ( الناثر )
أبو العلاء اسمه ( أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي ) ولقبه المعري , نسبة إلى مولده ( معرة النعمان ) وهي مدينة بين حماة وحلب من مدن سورية , ولد فيها سنة ثلاث وستين وثلاثمائة من أسرة اشتهرت بالعلم والأدب والقضاء .
وتحدثنا المصادر أن أبا العلاء ما أن بلغ الرابعة من عمره حتى مرض بالجدري , أدى إلى فقدانه بصره , وقد ذكر ذلك في إحدى رسائله , كما ذكرناه لا يعرف من الألوان إلا الأحمر لأنه البس في مرضه ثوبا ً مصبوغا ً بالعصفر , وقد كان أبو العلاء منذ صغره شغوفا ً بالعلم محبا ً للمعرفة تتلمذ على قوم من علماء بلده , فلما رغب في المزيد رحل إلى طرابلس الشام ثم إلى أنطاكية وكانت آنذاك من بلدان العلم والمعرفة , وكانت الثقافة السريانية هي السائدة في تلكم الحاضرة , وكانت اللاذقية تنافس أنطاكية في اجتذاب العلماء والمثقفين فارتحل إليها ونهل العلم من بعض أهلها , ثم عاد من اللاذقية إلى معرة النعمان وتوجه بعدها إلى حلب والتقى هناك ببعض الشيوخ واخذ عنهم , ثم حدثته نفسه بالذهاب إلى بغداد عاصمة الدنيا آنذاك , فيمم شطرها حوالي سنة 396 هـ ولكنه اضطر للعودة إلى مسقط رأسه وأنجز بعض أعماله واستأنف الرحيل إلى بغداد ثانية سنة 398 , وفي هذه المرة حدثت له الصدمة الكبرى مع الشريف المرتضى الذي كان يتمتع بمركز ديني واجتماعي كبير بالإضافة إلى مركزه نقيبا ً للإشراف , زيادة على كونه أديبا ً وكاتبا وشاعرا ً ومؤلفا ً , وكانت داره ملتقى النخبة المثقفة من البغداديين ومن علماء العربية .
وخلاصة الحادثة الكبرى التي اشرنا إليها قبل قليل أن أبا العلاء استدعي إلى دار الشريف المرتضى , وواكب ذلك اجتماع طائفة من رجال الأدب في دار الشريف , وكان هؤلاء يتناقشون في جلساتهم ببعض شؤون الشعر والشعراء , وطرحت ليلتذاك ( شاعرية المتنبي ) ويبدو أن الشريف المرتضى كان كارها ً للمتنبي , فاخذ الحاضرون يجاملون الشريف فيثلبون المتنبي ويعيبون شعره , فلما سئل أبو العلاء عن رأيه في المتنبي – وكان المعري مفتونا ً بشعره وفكره – قال : لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته التي يقول في مطلعها :
لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت وهن منك أو أهل
لكفاه فخرا ً , ففتر الشريف المرتضى قليلا ً , ثم أشار إلى خدمه قائلا ً لهم : جروا هذا الأعمى من رجليه والقوا به بالخارج مجلسنا هذا , ففعل الخدم , وعندما هدأت ثائرة الشريف سأل جلساه : هل تعلمون لماذا أخرجت هذا الأعمى , فقالوا : الله وسيدنا اعلم . فقال : ذلك لأنه أساء الأدب حيث اختار هذه القصيدة اللامية لان المتنبي يقول في هذه القصيدة :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي باني كامل
وكانت هذه الصدمة ذات وقع كبير على نفس المعري فقد قرر بعدها إلا يخرج من بيته وألزم نفسه السجن في داره , لا سجنا واحدا ً فحسب بل تعداه إلى سجون كثيرة ذكر منها ثلاثة :
سجن الدار وسجن العمى , وسجن نفسه في جسده , وفي هذه الفترة أنتج أبو العلاء مجموعة غير قليلة من المؤلفات , كسقط الزند , ولزوم ما لا يلزم وغيرهما من الدواوين الشعرية ورسالة الغفران ورسالة الملائكة وغيرهما من المؤلفات النثرية , وألف في النقد مجموعة من الكتب منها ( معجز احمد ) الذي شرح فيه شعر المتنبي , وذكرى حبيب ) وشرح فيه الغامض من شعر أبي تمام ( عبث الوليد ) وخصه بالتعليق على بعض أبيات البحتري .
هذه لمحة سريعة عن حياة أبي العلاء المعري يزيدها وضوحا أنها عاشت في جو سياسي مضطرب تتنازع السلطة فيه دولة الحمدانيين والمرداسيين في شمال سورية , ودولة الفاطميين في جنوبها , وتترقب من وراء الحدود الإمبراطورية البيزنطية , التي كانت تنتهز كل فرصة للإغارة على مملكة الإسلام .
ولم تكن الحياة الدينية أحسن حالا ً من الحياة السياسية , بل كانت أكثر اضطرابا ً وتموجا ً وكان المتدينون ينقسمون إلى قسمين : الأول متدينون بالوراثة ممن اتخذوا من الدين وسيلة لتحقيق مآربهم وأداة لفرض نفوذهم ومزجوا هذا بنوع من النفاق للحكام وتطويع مبادئ الدين الحنيف لخدمة الأغراض السياسية والاقتصادية وكان هذا القسم يمثل الأكثرية المطلقة من جمهور الشعب , والقسم الثاني متدينون فهموا جوهر الدين وحقيقته , وجاء سلوكهم انعكاسا ً لاعتقادهم ولكن هؤلاء قبعوا في بيوتهم ونفضوا أيديهم من الدنيا .
كل هذه الاتجاهات السياسية والعقيدية والفكرية يضاف إليها نسائم كانت تهب على المجتمع الإسلامي من بقايا الفلسفات القديمة كالهندية والفارسية والنسطورية والبيزنطية , اثر على تفكير أبي العلاء وطبعته بطابع الشك والقلق والحيرة , ولهذا اختلف الدارسون في هذا العصر – كما اختلف القدامى – في حقيقة عقيدة أبي العلاء , فمن قائل انه ملحد شديد الإلحاد كافر بالله وبالبعث والنشور , ولهذا نقل السيوطي في بغية الوعاة عن بعضهم انه قال : " زنادقة الإسلام ثلاثة : ابن الرواندي والتوحيدي والمعري " .
واعتقد انه لم يكن ملحدا ً ولكنه لم يرض أن يكون مؤمنا كإيمان العجائز , من غير أن يعمل فكره في كل ما انتهى إليه من مظاهر العقيدة الدينية ولذلك نجده في كثير من الأحيان يتردد في التوفيق بين ما انحدر إليه من تعاليم موروثة عن الدين ورأي يمتحنه من عقله وتفكيره , وينتهي إلى شيء من اليقين فيعرج بذلك فيقول :
أما اليقين فلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظن واحدسا
ومن قائل آخر ينسب إلى أبي العلاء انه مؤمن عميق الإيمان ويستشهد ببعض ما تركه من شعر , فقد اثر عنه بيت قال فيه :
والله حق وابن ادم جاهل من شأنه التفريط والتكذيب
وفي قصيدة أخرى يؤيد فكرة وجود الله ويجهر بهذا فيقول :
الله لا ريب فيه وهو محتجب باد , وكل إلى طبع له جذب
وبعد طول تفكير هداه عقله إلى أن هذا العالم الذي يسير بنظام لا بد له من منظم :
فلك يدور بحكمة وله – بلا شك – مدبر
ولنترك فكرة إيمانه بالله , ولنتوجه إلى معرفة رأيه في الموت وفيما بعد الموت , أما الموت فهو حاصل لا شك فيه , لا ينكره منكر وهذه الأجسام لا يجحد مفكر بان مآلها إلى التراب , ولكن الذي سأل عنه أبو العلاء هو الأرواح التي لا يملك جوابا ً لها , فيقول :
أما الجسوم فللتراب مآلها وعييت بالأرواح أنى نسلك
ومهما أمعن في التفكير فلن يهديه تفكيره إلى أكثر من الظن :
دفناهم في الأرض دفن يقين ولا علم بالأرواح غير ظنون
ويبدو انه استرسل في التفكير في هذه المشكلة ولكنه لم يهتد لصواب فارتد إليه تفكيره ورضي بان يجعل معرفة مصير الأرواح من خفايا علم الله الذي انفرد به . وما محاولة ابن ادم في الغوص وراء خفيات علم الله إلا ضرب من الجنون :
وروم الفتى ما قد طوى الله علمه يعد جنونا ً أو شبيه جنون
وتظل فكرة التساؤل عن مصير الروح تقلقه وتشغل باله , لذلك عاد وطرح السؤال مرة أخرى في اللزوميات وانتهى به الأمر إلى العجز عن إدراك هذه المشكلة التي حيرت الأنبياء والمفكرين من قبل , واعتبر التفكير بها ضربا ً من الهذيان :
قد قيل أن الروح تأسف بعدما تنأى عن الجسد الذي غنيت به
إن كان يصحبها الحجا فلعلها تدري وتأبه للزمان وغيبه
أولا , فكم هذيان قوم غابر في الكتب ضاع مداده في كتبه
ونتركه فيظنونه وتصوراته عن الأرواح لنلتفت ونتعرف على رأيه في الدين , فنراه يصرح باستنكاره للخصومات التي تنشأ بين أتباع الديانات وخاصة في عصره حيث احتدمت الخصومة بين المسلمين والنصارى في مدينة اللاذقية وهاجت المدينة للضجة التي كانت بين أتباع طه وأتباع المسيح , ولكنه لا ينتصر لفئة دون أخرى , فنسمعه يقول :
في اللاذقية ضجة ما بين طه والمسيح
كل يعزز دينه يا ليت شعري ما الصحيح
وعلى الرغم من انه يقف موقفا ً سلبيا ً من "ضجة اللاذقية " نجده يصرح بأن اتباع الديانات الثلاث تنكبوا عن سواء السبيل , وهداه تفكيره إلى أن أهل الأرض شخصان : أحدهما حاز الدين كله ولكن فاته أن يحوز شيئا ً من العقل , والثاني حاز العقل كله ولم يمسك من الدين شيئا ً لا من الإسلام ولا من النصارى ولا من اليهودية , ولا من المجوسية :
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ويهود حارت والمجوس مضللة
اثنان أهل الأرض ذو دين بلا عقل وآخر دين لا عقل له
ومشكلة الدين حيرته كثيرا ً , ولذلك ظل قلقا ً يذب بين الفكر والإيمان , واطلاعه على الكتب الثلاثة المقدسة , لم يستطع أن يستل القلق من من نفسه , بل دفعه الشك إلى الجنوح نحو الكفر في الديانات والكتب السماوية وكان يتمنى أن يأتي ذلك الجيل المبرأ من أوهام الديانات والتمرد على أباطيلها التي لفقها – على حد قوله – دعاتها :
دين وكفر وأنباء تقص وفرقان ينص وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل ملفقة فهل تفرد يوما ً بالهدى جيل ؟
وصراع أبي العلاء في الشرائع السماوية على اختلاف الكتب المقدسة التي حطها صراع طويل , ولذلك يحمل على كل هذه الكتب حملة شعواء , ويزعم أن ما فيها من شرائع هي التي بذرت الفتن بين خلق الله :
إن الشرائع ألقت بيننا أحنا واودعتنا أفانين العداوات
وما دمنا نتحدث عن رأيه في الدين والشرائع فقمين بنا أن نتحدث عن رأيه في حملة الدين وممثلي هذه الشرائع وهؤلاء برأيه يستغلون الدين اشد استغلال , ولا ندري أعلاقته برجال الدين في عصره كانت سيئة أم أن رجال الدين في زمنه كانوا من المتاجرين باسم الدين ومن المنتفعين بالتظاهر بلبس مسوح الرهبان وجلابيب الأئمة وأفعالهم تناقض أقوالهم , فهم يتظاهرون أمام الناس , بعزوفهم عن الخمرة ويعظون الجماهير بتركها وهم يعاقرونها صباح مساء , لذا تراه ينتقد سلوك هؤلاء فيقول :
رويدك قد خدعت وأنت حر بصاحب حلية يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحا ً ويشربها على عمد مساء
يقول لكم غدوت بلا كساء وفي لذاتها رهن الكساء
إذا فعل الفتى ما عنه ينتهي فمن جهتين لا جهة أساء
وليس رأيه في رجال السياسة أفضل من رأيه في رجالا لدين , وربما كان رجال السياسة وأصحاب السلطان في عصره من المستغلين لنفوذهم والممعنين في هذا الاستغلال ولكن ربما كانت عاهة أبي العلاء التي كونت عقدة كراهية جميع الناس لديه , ومهما يكن الأمر فإنه حمل بشدة على ولاة الأمور في زمانه , فلذلك وصفهم بأنهم ينصرفون إلى ملاذهم التي تشغلهم عن رعاية شؤون الأمة , ويتركون لأعوانهم أن يوغلوا في امتصاص دماء الجماهير التي كأنما خلقت لتقدم الخراج الذي من شأنه أن يزيد من رفاهية الملوك :
فشأن ملوكهم عزف ونزف وأصحاب الأمور جباة خرج
وهو يؤمن بأن الرسالة المنوطة بأعناق ولاة الأمور هي إقامة العدل بين المواطنين ودفع الأذى عنهم وحمايتهم من كل ما يهدد أمنهم , بيد أنهم إذا خانوا هذه الرسالة فإنهم بذلك يكونون قد استجازوا لأنفسهم هذه الأمة التي أوكلت إليهم سياسة أمورها وأناطت بهم تدبير شؤونها فلذلك نجد أبا العلاء يمل المقام في امة هذه أحوالها وأحوال حكامها :
مل المقام فكم أعاشر امة أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وكان شديد البرم والتأفف من رجال السياسة في عصره وخاصة أن السياسة آلت إلى مجموعة من الأحداث و الشباب الأغرار الذين لا عهد لهم بالسياسة فصرفوها أسوأ تصريف فوصفهم بقوله :
يسوسون الأمور بغير عقل فينفذ أمرهم ويقال ساسة
فأف من الحياة وأف مني ومن زمن رئاسته خساسة
ومع انه كان برما بالسياسة , فإن هذا لم يقلقه قدر قلقه من المسوسين أيضا , أي أن سخطه تعدى الحكام إلى المحكومين , إلى الجماهير وكأنه يؤمن بالقول المأثور " كما تكونوا يولى عليكم " لذلك حمل على الناس جميعا ً واعتبرهم " هم الفسدة " لذا قال :
قد فاضت الدنيا بادناسها على براياها وأجناسها
وكل حي فوقها ظالم وما بها اظلم من ناسها
ونظرته للإنسان أن تتجلى بأن هذا الإنسان تعرى عن اخص خصائص الإنسانية فيه وهي الصداقة التي طالما أشاد بها الشعراء .. :
قالوا فلان جيد لصديقه لا يكذبوا ما في البرية جيد
فأميرهم نال الإمارة بالخنا ونقيبهم بصلاته يتصبد
من نثر أبي العلاء المعري :
قال أبو العلاء في رسالة الغفران :
فإذا رأى قلة الفوائد تركهم في الشقاء السرمد , وعمد لمحله في الجنان فيلقى ابن ادم عليه السلام في الطريق فيقول : يا أبانا – ص – قد روي لنا عن شعر , منه قولك :
نحن بنو الأرض وسكانها منها خلقنا واليها نعود
والسعد لا يبقى لأصحابه والنحس تمحوه ليالي السعود
فيقول : إن هذا القول حق وما نعلته إلا بعض الحكماء , ولكنني لم اسمع به حتى الساعة , فيقول – وقر الله قسمه في الثواب – فنحن لك يا أبانا قلته ثم نسيت , فقد علمت أن النسيان متسرع إليك , وحسب شهيدا ً على ذلك الآية المتلوة في فرقان محمد – ص - : " ولقد عهدنا لأدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ً " وقد زعم بعض العلماء انك إنما سميت أنسانا ً لنسيانك , واحتج على ذلك بقولهم في التصغير : أنيسان , وفي الجمع : أناسي , وقد روي أن الإنسان من النسيان عن ابن عباس وقال الطائي :
لا تنسين تلك العهود وإنما سميت أنسانا ً لأنك ناس
وقرأ بعضهم : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " , بكسر السين يريد الناسي , فحذف الياء كما حذفت في قوله " سواء العاكف فيه والباد " , فأما البصريون فيعتقدون أن الإنسان من الإنس , وان قولهم في التصغير أنيسان شاذ , وقولهم في الجمع : أناسي أضله أناسين , فأبدلت الياء من النون , والقول الأول أحسن , فيقول ادم – ص – أبيتم إلا عقوقا ً وأذية , إنما كنت أتكلم بالعربية , وانأ في الجنة فلما هبطت إلى الأرض نقل لساني إلى السريانية , فلم انطق بغيرها إلى أن هلكت , فلما ردني الله إلى الجنة عاد علي العربية , فأي حين نظمت هذا الشعر : في العاجلة أم الآجلة ؟ والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار الماكرة , إلا ترى قوله : ( منها خلقنا واليها نعود ) فكيف أقول هذا المقال ولساني سرياني ؟ وأما الجنة فقبل أن اخرج منها فلم أكون ادري بالموت فيها , وانه مما حكم على العباد , صير كأطواق حمام , وما رعى لأحد من ذمام وأما بعد رجوعي إليها فلا معنى لقولي : واليها نعود , لأنه كذب لا محالة ونحن معاشر أهل الجنة خالدون مخلدون , فيقول قضي له بالسعد المؤرب : أن بعض أهل السير يزعم أن هذا الشعر وجده ( يعرب ) في متقدم الصحف بالسريانية , فنقله إلى لسانه , وهذا لا يمنع أن يكون . وكذلك يروون لك – صلى الله عليك – لما قتل قابيل هابيل :
تغيرت البلاد ومن عليها فوجه للأرض مغبر قبيح
وأودى ريع أهلها فباتوا وفود في الثرى الوجه المليح
وبعضهم ينشد ( وزال بشاشة وجه المليح ) على الإقواء , وفي حكاية معناها ما اذكر أن رجلا من بعض ولدك يعرف بابن دريد انشد هذا الشعر وكانت روايته ( وزال بشاشة الوجه المليح ) , فقال : أول ما قال : أقوى وكان في المجلس أبو سعيد السيرافي , فقال : يجوز أن يكون قال : ( وزال بشاشة الوجه المليح ) بنصب بشاشة على التمييز وبحذف التنوين لالتقاء الساكنين , كما قال : عمر والذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مستون عجاف , قلت أنا : هذا الوجه الذي قاله أبو سعيد شر من إقواء عشر مرات في القصيدة الواحدة , فيقول ادم – ص – اعزز علي بكم معشر ابيني , إنكم في الضلالة منهوكون , آليت ما نطقت هذا التكليم ولا نطق في عصري , وإنما نظمه بعض الفارغين فلا حول ولا قوة إلا بالله , كذبتم على خالقكم وربكم , ثم على ادم ثم على حواء أمكم , وكذب بعضكم على بعض , ومآلكم في ذلك إلى الأرض .

الباب العاشر
-حياة ابن المقفع ونشأته :
طبيعي للذي درس تاريخ النثر في العصر العباسي أن يبدأ بابن المقفع , لأنه يكون الحلقة الأولى في سلسلة النثر العباسي , ولان هذه الحلقة تشكل صلة الوصل بين العصرين الأموي والعباسي ,ففي أوائل حياته عاصر أواخر الدولة الأموية . وفي آخر حياته عاصر حقبة نشأة الدولة العباسية .
جاءته هذه التسمية من أبيه داذويه الذي ذكر المؤرخون انه كان يتولى جباية الخراج في زمن الحجاج , فاقتطع قسما ً من أموال الدولة لنفسه , فضربه الحجاج على يده المختلسة حتى تفقعت أي تشنجت , وقالوا أن أصل المقفع هذا من بلده ( حوز أو جور ) إحدى مدن فارس المشهورة برياضها .
وقال مؤرخون الأدب أن اسم ابن المقفع ( روزيه بن داذويه ) فعند ما اسلم تسمى عبد الله وكني بابي محمد . ويذكرون انه ولد حوالي سنة 106 هجرية في خلافة هشام ابن عبد الملك , وقضى عدة سنوات في كنف أبيه منصرفا ً إلى تحصيل الثقافة الفارسية وكان آنذاك مجوسيا ً بدين الزراد شينة , ويروى انه نشأ في البصرة في ولاء آل الأهتم – المشهورين بالفصاحة واللسن , وتردد على المريد حيث كان الأعراب يفدون على هذه السوق التجارية الأدبية فاخذ عنهم الفصاحة والبيان .
أول عهده بفن الكتابة انه كتب لداوود بن عمر بن هبيرة ولأخيه يزيد بن عمر بن هبيرة الذي كان واليا على العراق من قبل مروان بن محمد آخر خلفاء الدولة الأموية , ثم لما استتب الأمر لبني العباس اتصل بعيسى بن علي عم المنصور وكتب له وهو على كرمان , وعلى يد هذا الوالي اسلم ابن المقفع , ثم نقل إلى البصرة أيام ولاية سليمان بن علي عم الخليفة المنصور وكتب لسليمان , وفي هذه الفترة خرج عبد الله بن علي عم الخليفة أبي جعفر وتمرد عليه وطلب البيعة لنفسه , فتبعه جماعة كثيرون فوجه إليه المنصور جيشا ً وهزمه فالتجأ إلى أخيه سليمان بن علي والي البصرة . وكان ذلك سنة 127 هـ فأواه وأكرمه ولما لم يجد بدا من الانصياع لأبي جعفر بعد أن كاتبه طالبا ً الصفح عنه والعفو , كتب صك طلب العفو عبد الله بن المقفع فعفا عنه , ولكنه عزل عمه سليمان عن البصرة وولى مكانه سفيان بن معاوية الذي يعزى إليه قتل ابن المقفع حوالي سنة 1436 هـ ويذهب المؤرخون مذاهب شتى في تعليل أسباب قتل ابن المقفع : فمن قائل انه قتل بسبب تشدده في كتاب الأمان الذي كتبه ابن المقفع لعبد الله بن علي ووجهه للمنصور , ومما جاء فيه قوله : ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق , دوابه حبس وعبيده أحرار والمسلمون في حل من بيعته ) وغير هذا الكلام الذي جعل الخليفة يحقد عليه , ويتحين الفرص للانتقام منه . ومن قائل أن سبب قتله استخفافه بسفيان بن معاوية والي البصرة , فقد كان يسخر منه ومن انفه الكبير , فإذا دخل عليه وهو جالس وحده قال : السلام عليكما : يقصد بشخص سفيان وانفه , واحتقره في مواطن مشهودة مما أضرم نار الحقد عليه حتى دبر له المكيدة التي احرقه فيها , وهناك فئة ثالثة من الكتاب والمؤلفين تعزو سبب قتل سفيان لابن المقفع إلى زندقة الأخير فقد اثر عليه انه ظل يحن إلى ( بيت النار ) وهو مكان عبادة المجوس , حتى بعد إسلامه , وكلما مر أمامه تمثل بقول الشاعر :
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدى وبك الفؤاد موكل
إني لأمدحك الصدود وإنني قسط إليك مع الصدود لا ميل
وفي ذلك الزمن يكفي أن تتهم إنسان بالزندقة حتى تقتله , ونحن نذهب إلى حصيلة هذه الأسباب هي التي قتلت ابن المقفع , ويقولون أن صورة قتله كانت شنيعة . إذ أن سفيان اخذ يقطع أجزاء جسده عضوا ً عضوا ً ثم يلقيها في تنور كان قد أعده لذلك حتى لم يبقى من جسدسه قلامة .
ثقافته ومؤلفاته :
ولنعد إلى مصادر ثقافة ابن المقفع فنجد أنها مصدران أساسيان : الأول مصدر فارسي واستقاه من والده الذي اشرف على تربيته وتعليمه وخاصة في الفترة الأولى من حياته , وثقفه بالثقافة الفارسية التي كانت نافذة على الثقافتين الهندية واليونانية , ومصدر عربي ابتدأ بتداركه عند ما كان يتردد على المريد : سوق اللغة والأدب والعلم , وعندما كان يشافه الصحاء من بني الأهتم الذين يدين ابن المقفع لهم بالولاء فعلموه البلاغة والفصاحة , هذا بالإضافة إلى بقية عناصر الثقافة العربية المتمثلة بالقران الكريم , وحفظ الحديث النبوي الشريف ورواية الجسم الغفير من الشعر العربي قديمه وحديثه .
كل هذه الثقافات التي تمثلها في صغره وأيام شبابه انعكست على مؤلفات ومصنفات قد مدها للفكر العربي ويمكننا أن نقسم هذه المؤلفات إلى ثلاث :
الأولى : المجموعة التأليفية : وتشتمل على أربعة كتب هي كليلة ودمنة , وكتاب الأدب الصغير , وكتاب الأدب الكبير , وكتاب اليتيمة .
والثانية : مجموعة من الكتب المترجمة من اليونانية , وفي هذه المجموعة نجده يترجم ثلاثة كتب لأرسطو الأول كتاب " كاتاغورياس " والثاني يسمى " باري ارميناس " أي العبارة , والثالث يطلق عليه اسم " انالوطيقا " أي تحليل القياس كما نجده يترجم لـ " فرفوريوس الصوري " المدخل إلى كتاب المنطق ايوباغوجي " وبظني انه لم يترجم هذه الكتب من اللغة الأم اليونانية وإنما نقلوها من الفارسية إلى العربية لطائفة الثالثة من آثاره مجموعة الكتب التي ترجمها عن الفهلوية : الفارسية القديمة وهي خمسة كتب أيضا : الأولى يسمى " خداينامه " في السير الفارسية والثاني " ايبين نامه " وهذا الكتاب ضخم جدا ً يبلغ آلاف الصفحات تتحدث كلها عن عادات الفرس وأنظمتهم وحضارتهم والثالث كتاب " مزدك " وهو زعيم احد الفرق المجوسية والرابع كتاب " التاج " في سيرة انورشروان " والخامس كتاب " الكيكيين " وهو كتاب معظم عن الفرس يتضمن سير سلوكهم وآبائهم وتاريخ حضارتهم ونلاحظ من تعداد طوائف هذه الكتب أن ابن المقفع الم بكل الحضارات القديمة وأطلعه على أفكار اليونان والفرس والهند , ولنصطف من بين هذه الكتب واحدا ً ذائع الشهرة بين الناس لنحلل مضمونه , وليكن ذلك الكتاب كتاب كليلة ودمنة .
كليلة ودمنة :
يقسم المؤرخون هذا الكتاب إلى قسمين , احدهما يذهب إلى ابن المقفع هو الذي وضع هذا الكتاب وأداره على ألسنة الحيوانات ليدفع عن نفسه تهمة تأديب الملوك وعلى رأس القائلين بهذا الرأي ابن خلكان , والقسم الثاني يرى أن ابن المقفع لا يعدو أن يكون مترجما ً لما في هذا الكتاب من قصص عن اللغة الفارسية التي ترجمته بدورها عن اللغة الهندية وحجة هؤلاء تعتمد على عناصر مستنبطة من الكتاب نفسه , فهو يتحدث عن عادات هندية ويذهب بعض الدارسين إلى أن الكثير من قصصه موجود في السفرين الكبيرين للحضارة الهندية : " المهابهارتا " و " وبنج تترا " أي خمس مقالات كما يؤيد هذا الفريق رأيه بأن البيروتي وهو عالم ومؤرخ موثوق به يشهد بهندية هذا الكتاب كما أن الفردوسي في الشاهنامة " , يؤكد رحلة الفيلسوف الفارسي " بروزيه " إلى الهند لجلب هذا الكتاب .
وقصة تأليف الهنود لهذا الكتاب بقصة طويلة , تتفاوت المصادر في ذكر تفاصيلها , خلاصتها أن ملكا ً من ملوك الهند يسمى دبلشيم طغى وبغى في رعيته , فانتخب جماعة من البراهمة حكيما ً منهم وطلبوا أن يلتمس من الملك أن يعدل سيرته في رعيته , فلما تصدى له بالوعظ اغتاظ منه وسجنه وفي ليلة سهاد تذكر وعظه فأمر بإخراجه من السجن وتقريبه لبلاطه ومنادمته , فأعجب بنصائحه واكبر عقله فطلب منه أن يؤلف كتابا ً له دله على مخططه إذ قال : أحببت أن تصنع لي كتابا ً تستفرغ فيه عقلك يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها على طاعة الملك . وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية . قال : قد أجبت الملك , قال : وكم الأجل ؟ , قال : سنة . قال : قد أجلتك . وأمر له بجائزة سنية , ثم وضعه مع تلميذ له على لسان يهيمتين , ورتب فيه خمسة عشر بابا ً , وسماه كليلة ودمنة , وأداره على ألسنة الحيوانات ليكون ظاهره لهوا للخواص والعوام , وباطنه رياضة لعقول الخاصة , وضمنه ما يحتاج إليه الإنسان من سياسة لنفسه وأهله وخاصته , وما يحتاج إليه من أمر دينه ودنياه فاقر الملك هذا الكتاب وأمر بالمحافظة عليه .
ويقال أن كسرى انوشروان بن قباذ كان اكبر ملوك الفرس وأحبهم للعلوم والآداب قد علم بهذا الكتاب , وعلم قيمته فنشط لاقتنائه , وأرسل احد أطبائه الفيلسوف " بروزيه بن أزهر ) فاحتال للكتاب حتى حصل عليه , وسلمه لكسرى , فأمر كسرى وزيره – بزر جمهر " أن يقرظه وان يثبت هذا التقريظ في أول الكتاب منوها ً فيه ببروزيته , فالحق هذا التقريظ بالكتاب فكان مقدمة الكتاب له , ثم عندما وقع بين يدي ابن المقفع وضع بابا ً بين فيه غرض الكتاب قال فيه : هذا الكتاب كليلة ودمنة , وهو ما وضعته علماء الهند من الأمثال والأحاديث التي ألهموا فيها ابلغ ما وجدوا من القول في النحو والذي أرادوا , ولم تزل العلماء من كل امة ولسان يلتمسون أن يعقل عنهم , ويحتالون لذلك بصنوف الحيل ويبتغون إخراج ما عندهم من العلل , في إظهار ما لديهم من العلوم والحكم , حتى كان من تلك العلل وضع هذا الكتاب على أفواه البهائم , ثم تحدث ابن المقفع عن خطة هذا الكتاب ومضمونه فقال : وأما الكتاب فجمع حكمة ولهوا ً , فاختاره الحكماء لحكمته , والأغرار للهوه والمتعلم من الأحداث ناشط في حفظ ما صار إليه من أمر يربط في صدره , فأول ما ينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له , والرموز التي رمزت فيه , والى أية غاية جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضلعه إلى غير مفصح , وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالها , فأن قارئه متى لم يعقل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني ولا أي ثمرة يجتني منها , ولا أي نتيجة تحصل له من مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب ( كليلة ودمنة ) وواضح من بعض ما تقدم أن الكتاب موضوع في أصله باللغة الهندية وان الباب الثاني من قد وضعه الوزير بزر جمهر تقريظا ً لجهود الفيلسوف الطبيب بروزيه , الذي حصل عليه وترجمه للفارسية وان الباب الثالث من صنع ابن المقفع الذي اتخذ من كلامه في هذا الباب توطئة للدخول في ترجمته ومن هنا ندرك أن أصل الكتاب هندي , وقد ألحقت به عقول الأمم الأخرى إضافات لم تكن في الأصل الهندي نفسه .
صحيح أن اسم الكتاب اقترن باسم مترجمه ابن المقفع , ولكن يبدو أن محاولات أخرى غير ابن المقفع قد ترجمته إلى العربية , فقد ذكر ابن النديم في فهرسته أن غير ابن المقفع نقله إلى لسان العرب , وكذلك ذكر " حاجي خليفة " أن من اسمه ( عبد الله بن هلال الهوازي ) نقله إلى العربية أيضا .
ومنذ أن نقل الكتاب إلى العربية اخذ الكتاب يتسرب إلى لغات الأمم الأخرى فقد نقل إلى السريانية في القرن العاشر الميلادي , والى اليونانية سنة 1080 م ومنه إلى الايطالية والسلافية , ثم رجع إلى الفارسية القرن السادس , ومنها إلى التركية القرن العاشر والفرنسية في 1734 كما نقل إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر والاسبانية 1251 ثم ترجم إلى العربية 1270 ومنها تفرع إلى ثلاث لغات أساسية الأولى الألمانية وهذه بدورها أعطته إلى الدانمركية والهولندية والثانية الاسبانية التي أعطته للايطالية 1548 والثالثة الايطالية 1552 التي أعطته للانكليزية سنة 1570 , من هذه الرحلة لكتاب كليلة ودمنة ندرك قيمة الترجمة العربية التي فتحت أمام الكتاب نوافذ كثيرة لم يكن ليبلغها لو ظل نزيلا ً في شبه القارة الهندية .
وقد نال الكتاب عناية أخرى غير العناية للترجمة به , اقصد بهذه العناية عناية النظام والشعراء , فقد قيل أن الفرس نظموه شعرا ً أما العرب , وهم أهل النظم فقد تنافسوا في نظمه , فنظمه إبان اللاحقي , وعلي بن داوود كاتب زبيدة وسهل بن نوبخت , وبشر بن المعتمر , وابن الهبارية في كتابه " الصادح والباغم " وغيرهم كثيرون مثل عبد الرحمن الصاغاني , وابن مماتي المصري .وجلال الدين النقاش .
أما الذين فتنوا بهذا الكتاب وعبروا عن فتنتهم بانتزاعات بعض حكمه أو بمعارضته فكثيرون أيضا , منهم سهل بن هارون , عارضه بكتاب " ثعلة وعقرة " وسلم صاحب بيت الحكمة والمريد الأسود , الذي استدعاه المتوكل في أيامه من فارس , ويقال أن أبا العلاء المعري عارضه بكتابه المسمى " القائف " والذي شرحه بكتاب آخر سماه " منار القائف " كما يعزى إلى ابن ظفر بأنه عارضه أيضا ً في كتابه " سلوان المطلع في عدوان الأتباع " وخاتمة المطاف معارضة احمد بن عربشاه في كتابه ( فاكهة الخلفاء ومفلكهة الظرفاء ) .
وأما أبوابه فهي كما أشرت تتراوح بين اثني عشر بابا وإحدى وعشرين بابا ً , على اختلاف في طبعاته ولعل هذا التفاوت في عدد الأبواب له تفسير آخر . وهو أن بعض النسخ تقسم إلى الباب الواحد إلى بابين وتعطي لكل باب اسما ً مستقلا ً لذا يزداد عدد الأبواب وينقص .
أسلوب ابن المقفع :
لعله من تكرار القول أن نقول أن أسلوب ابن المقفع متخير الأساليب التي عرفها النثر العربي , من أصفى الأساليب قبل أن يتفشى فيها الزخرف وتستشري فيها الصنعة , وقصاراه التعبير عن المعنى الشريف باللفظ الجزل الوجيز . صحيح ما يقال عن ابن المقفع انه في أول عهده بالكتابة كان اثر الترجمة ظاهرا ً عليه , وبمقدرتك أن تكتشف بعض الالتواء في أسلوبه ولكنه مارس الكتابة وتضلع في النثر موفدا ً شيئا ً من فن التعبير حتى تخطي هذه المرحلة إلى مرحلة التميز بالأسلوب , فغدا صاحب طريقة في التعبير تكاد تكون وقفا ً عليه ولما تملك ناصية الفن دعا الكتاب إلى اقتفاء أثره في هذه الطريقة التي لحمتها البلاغة وسداها الفصاحة , ولذلك كان ينصح احد مريديه من تلاميذه في فن الكتابة , فيقول : " إياك والتتبع الوحشي للكلام طمعا ً في نيل البلاغة , فإن ذلك هو العمى الأكبر , وقال الآخر : عليك بما سهل مثلها " وقال : إذا أعطيت كل مقام حقه , وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام وأرضيت من يعرف حقوق الكلام فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو فإنهما لا يرضيهما شيء . وقال : إن خير الأدب ما حصل لك ثمره وبان عليك أثره , وسئل عن البلاغة فقال : اسم لمعان تجري في وجوه كثيرة , فمنها ما يكون في السكوت ومنها ما يكون في الاستماع ومنها ما يكون في الإشارة ومنها ما يكاد أن يكون شعرا ً ومنها ما يكون سجعا ً وما يكون ابتداء ومنها ما يكون رسائل , فعامة هذه الأبواب فيها والإشارة إلى المعنى , والإيجاز لهو البلاغة . وواضح أن رأيه في البلاغة يكاد يلخص كل فنون القول من شعر ونثر وحوار وسجع وخطابة ورسالة , ولكنها تلتقي حول ظاهرة البلاغة الأولى التي هي الإيجاز . وقد كان الإيجاز خاصة من خصائص أسلوبه فقريحته تمنحه المعاني الغزيرة فيتخير منها ما يصح للمقام , وقد سئل ذات مرة عندما شوهد يتوقف أثناء الكتابة فقال : إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لأتخيره ثم يلبس هذه المعاني بلبوس الألفاظ الرشيقة , متوخيا ً اختيار الألفاظ المأنوسة غير الوحشية مصطفيا ً أجزلها فيأتي له الإيجاز , ويتصف عندئذ أسلوبه بالسهولة التي قوامها سهولة التأليف وفصاحته وجلاء المعنى , والسلامة من التكلف والتصنع وجعل اللفظ وافيا ً بالمعنى , وترتيب الأفكار واتساقها , والجمع بين تفكير الحكيم وذوق الأديب , ويضيف إلى ذلك انه لا ينزع إلى المبالغة والغلو لتوخي الواقعية والدقة في التعبير , لهذه الصفة الأخيرة ترامز لا يتكلف السجع إلا إذا جاء عفو الخاطر فلذا جاء أسلوبه مرسلا ً مبرأ ً من القيود اللفظية , وإذا جنح إلى شيء فإنما يجنح إلى الازدواج بين الكلمات ليضمن الحد الأدنى من الصنعة المقبولة التي تضفي الإشراق على الأسلوب , أو يعمد إلى الترداد فيكرر بعض الكلمات حيث يرى الأمر جديرا ً يلفت نظر السامع لينبهه إلى أهمية ما يريد أن يقرره . وعلى الرغم من انه يلجأ إلى الاستشهاد بالقران والحديث ويضمن الأمثال العربية ويستخدم المصطلحات الإسلامية إلا انه غير مسرف في استخدام الشعر العربي القديم شواهد في كلامه . وبهذا الصنيع يبتعد عن صنيع أمثاله من الكتاب الذين اغرقوا كتاباتهم بما اتكئوا عليه من شعر الآخرين وأفكارهم .
الباب الحادي عشر
أبو حيان التوحيدي – 310 – 414 هـ
ا-سمه وكنيته ولقبه واصله :
انه علي بن محمد بن العباس , يكنى بابي حيان , ويلقب بالتوحيدي , وهو اشهر لقبيه والثاني الواسطي , ولقب بالتوحيدي نسبة إلى نوع من التمر يسمى التوحيد , كان أبوه يبيعه بالعراق . وقال ابن حجر : المحتمل أن تكون نسبته إلى التوحيد وهو الدين فإن المعتزلة يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد , ومعتزلي كما سيمر معنا واصله شيراز , وقيل وهو عربي على الرغم من مولده الذي ينسب إلى هذين البلدين الأعجميين , ولم يكن يعرف الفارسية .
ميلاده ونشأته :
ولد في العشر الثاني من القرن الرابع ثم انتقل إلى بغداد فأقام بها عدة , ومضى إلى الري وصحب بن أبا الفضل بن العميد , والصاحب بن عباد , فلم يحمدها وألف كتابا ً في مثالهما .
2-أساتذته :
تخرج في النحو على أبي سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وبالفقه الشافعي على حامد المروروذي وأبي بكر الشاشي . وفي الفلسفة على يحيى بن عدي وأبي سليمان المنطقي وأبي الحسن العامري وابن النفيس الرياضي , وفي التصوف جعفر الخلدي وابن سمعون .
3-ثقافته :
كان أبو حيان متفننا في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والأدب والفقه والكلام على رأي المعتزلة وكان جاحظيا يسلك في تصانيفه مسلكه ويشتهي أن ينتظم في مسلكه , فهو شيخ في الصوفية , وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة , ومحقق الكلام ومتكلم المحققي1نوامام البلغاء , فرد الدنيا الذي لا نظير له , فطنة وفصاحة ومكنة , كثير التحصيل للعلوم في كل فن , حفظه واسع الدراسة والرواية , وقد كان تفوقه في العلوم وتبحره في المعارف في أعلى طبقة من البيان , وكانت علومه هذه سببا ً في تقريبه من الكتاب والرؤساء .
4-أثار أبي حيان :
أ-الآثار الأدبية :
1- الإمتاع والمؤانسة .
2- الهوامل والشوامل .
3- الصداقة والصديق .
4- البصائر والذخائر .
5- مثالب الوزيرين .
6- النوادر .
7- تقريظ الجاحظ .
8- رسالة الحنين إلى الأوطان .
9- رسالة في علم الكتابة .
10- الرد على ابن جني في شعر المتنبي .
ب-الآثار الفلسفية :
1- المقابسات .
2- رسالة في ضلالات الفقهاء في المناظرة .
3- المحاضرات والمناظرات .
4- الإقناع .
5- التذكرة التوحيدية .
ج-الآثار الصوفية :
1- الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية .
2- الحج العقلي إذا ضاق الفضاء من الحج الشرعي .
3- الزلفى .
4- رسالة في أخبار الصوفية .
5- رياض العارفين .
د-كتب التراجم والجدل :
1- رسالة في بيان ثمرات العلوم .
2- رسالة الإمامة .
3- المناظرة بين أبي سعيد السيوفي ومتى بن يونس .
ه-كتب مجهولة المضمون :
1- الرسالة البغدادية .
2- رسالة أبي بكر الطالقاني .
3- رسالة لابن العميد .
4-رسائل أبي حيان التوحيدي .
5-أخلاقه :
لم يكن أبو حيان ذا حظ من هناءة في العيش , بل كان – على كثرة ما صحب من ذوي السلطان وأصحاب النفوذ والجاه – بائسا ً فقيرا ً رقيق الحال , قلق الركاب , لا يستقر له حال في مكان , دائم التفكير في أمر الدنيا وما يمرح فيه الجاهلون والمنقوصون من الجاه العريض والنعمة السابغة , والدنيا المقبلة , والحظ المواتي وكان يقارن ذلك بما هو عليه من بؤس وشقاء وشظف في العيش واستجد اللئام . فتثور ثائرته وتعصف به رياح التحسر والنقمة على القدر , فيعلن الشكوى على زمانه , ويبكي في تصانيفه على حرمانه , وكان – سخيف اللسان قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان الذم شأنه والثلب دكائه , وكان كما يقال – مجبول على الغرام بثلب الكرام , ولما صحب ابن العميد وابن عباد فلم يرضياه ولم يبلغاه من الدنيا مناه تتبع عوراتهما , وتجسس سوءاتهما , ثم انشأ فيهما كتاب ( مثالب الوزيرين ) وانعكس عليه فسبب له نفور كثير من الناس لان الصاحب بن عباد بما كان له من وسع السلطة وعظيم العطايا على الأدباء والعلماء وأهل الفضل قد سلط عليه كل ذي لسان وبيان , فقصدوه بالذم حتى أخملوا ذكره وغروا اسمه حتى قال عنه ياقوت : " ولم أر أحدا ً من أهل العلم ذكر في كتاب ولا دمجه في ضمن خطاب وهذا من العجب العجاب " .
وخلاصة أخلاق الرجل انه كان سوداوي المزاج يميل إلى الانقباض والحزن مما أدى به إلى التشاؤم وكان إلى جانب ذلك المزاج مرهف الإحساس سريع الانفعال , يلف كل ذلك شقاء وفقر . وكان يعاني صراعا ً عنيفا بين طموحه الذي يطمح إليه وواقعه الذي يرزخ تحته , ذلك بحقد كان نتيجة إخفاقه في الحياة لذا كان يرى أن ما في أيدي الناس من النعم والأموال , وما ينعمون به من الجاه والسلطان . قد كان ذلك من حقه دون غيره من سائر الخلق , فإذا رأى أنسانا ً بيده قليل أو كثير من متاع الدنيا عده سالبا ً لحقه حتى لو ناله شيء مما ينعم به ذلك الإنسان , فلا يرى له عليه حق الشكر , ويعتقد ذلك استردادا ً لبعض حقه , فإذا أطعمه امرؤ ألوان المطاعم لم يخطر بباله أن يقابله على إحسانه إلا بقوله :
غير اختيار قبلت برك بي والجوع يرضي الأسود بالجيف
فإذا عاتبه على كفران النعمة وسوء العرفان بالجميل انشده :
ما كنت إلا كلحم ميت دعا إلى أكله اضطرار
وإذا رأى إنسان في منزلة عالية نظر إليه والحقد يحرق كبده وهو يتحسر على منزلته فقال :
وإذا رأيت فتى بأعلى رتبة في شامخ من عزه المترفع
قالتلي النفس العروف بقدرها ما كان أولاني بهذا الموضع
رحلاته وصلاته بعظماء عصره :
سبق أن اشرنا إلى أن أبا حيان كان شيرازي الأصل أو نيسابوري , ويقول ياقوت الحموي في معجمه أنه قدم بغداد , فأقام بها مدة وفي هذه المدة اتصل أبو حيان في ظروف مجهولة – بالوزير المهلبي – وهو الحسن بن محمد بن عبد الله من ولد المهلب بن أبي صفرة . وهو من كبار الوزراء الأدباء الشعراء اتصل المهلبي بمعز الدولة البويهي . فكان كاتبا ً في ديوانه ثم استوزره وكان ذلك في خلافة الخليفة العباسي المطيع , فلما سمع به المطيع قربه أيضا , وخلع عليه ثم لقبه بالوزارة , فاجتمعت له وزارة الخليفة المطيع ووزارة السلطان المعز ولقب ندي الوزارتين , وكان من أشهر رجال الهالم حزما ً ودهاء وكرما ً وشهامة يجمع إلى ذلك الماما واسعا ً بالأدب وقرض الشعر مع اطلاع وفصاحة باللغة الفارسية , ولد المهلبي بالبصرة حوالي سنة 291 وتوفي بواسط وحمل إلى بغداد سنة 352 هـ وقد أضفت عليه كتب التراجم القديمة الكثير من الصفات فهذا ياقوت الحموي يقول عنه : " كان طيب الحديث وأكثره مذاكرة بالأدب وضروب الحديث من يجمعهم من العلماء والكتاب والقدماء وكان صاحب كتاب تجارب الأمم ينعته فيقول : " يعطف على أهل الأدب والعلوم فأحيا ما كان درس ومات من ذكرهم ونسوه ورغب الناس بذلك في معاودة ما أهمل منها " .
ويفاجئنا الذهبي في كتاب ميزان الاعتدال " فيقول لنا أن المهلبي غضب من أبي حيان التوحيدي بعد أن قربه إلى بلاطه ونفاه عن بغداد ويعلل سبب ذلك بسوء عقيدة أبي حيان , ولا ندري هل كان نفيه لسوء عقيدته الاعتزالية , لان المهلبي كان شديد الوطأة على أصحاب العقائد , والجدل والبدع , فقد فعل الأفاعيل بالعباسيين أعداء العلويين كما يقول صاحب تحفة الأمراء وأخباره في البعد عن التسامح واضطهاده القضاة وأرباب البدع مشهورة وربما هذا يعلل سببا ً قد أمه على نفي التوحيدي الذي كان عدو الشيعة والرافضة , وربما كان هذا هو السبب الذي نفي من اجله كل من ابن العميد والصاحب بن عباد , يضاف إلى ذلك أن أبا حيان كان يجهر ببعض الآراء المنافية لقواعد الإسلام كالتي في كتابه " الحج العقلي " والتي أدت إلى اتهامه بسوء العقيدة والزندقة والانحلال .
وخلف أبو حيان بغداد ومضى إلى الري بناء على دعوة من أبي الفضل بن العميد الذي ملأت شهرته الأفق وغدت داره محط آمال رواد الثروة والجاه من المنشغلين بالعلوم والآداب , وابن العميد هذا وصفه ابن مسكويه خازن كتبه فقال : أوتي من الفضائل والمحاسن ما بهر به أهل زمانه , حتى أذعن له العدو وسلم الحسود , ولم يزاحمه احد في المعاني التي اجتمعت له . فمن ذلك أن كان اكتب أهل عصره وكذلك شعره الذي جد فيه وهزل , فانه في أعلى درجات الشعر وارفع منازله " وكان ابن العميد من المولعين بالجاحظ ولعا ً شديدا ً حتى انه إذا وفد عليه واحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن الجاحظ , فإن لمس أثرا ً فيه لمطالعة كتبه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره , وبعض القيام بمسائله قضى له بالفهم وأغدق عليه من نعمه وان وجده غفلا ً عما يجب أن يكون موسوما ً به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ , لم ينفعه بعدد ذلك شيء من المحاسن , وإذا فلا جرم أن أبا حيان سيحوز قصب السبق لدى ابن العميد بجاحظيته .
هذه بعض صفات ابن العميد الذي قصده أبو حيان أملا ً أن يجد عنده ما افتقده عند غيره , غير أن أبا حيان لم يجد عنده ما كان يأمل , وربا الاختلاف طبيعة الشخصين فأبو حيان كان يفد على الوزراء وفيه اعتداد وصلف واستطالة , وهو صرفي الصمت مرقع الثياب , غر لا هيئة له في لقاء الكبراء ومحاولة الوزراء , وفي ابن العميد أبهة وزراء الفرس وعظمة سلاطينهم لذلك احتقره وازدراه .
ومع ما وصفنا به أبو حيان من اعتداد وصلف فقد قدم على ابن العميد أبي الفتح برسالة كلها استخذاء واستجداء , وهي طويلة تجترئ منها بعض المقاطع قال :
"اللهم هب لي من أمري رشدا ً ووفقني لمرضاتك أبدا , ولا تجعل الحرمان علي رصدا ً أقول لما رأيت شبابي هرما بالفقر , وفقري غنيا ً بالقناعة , وقناعتي عجزا ً عند أهل التحصيل , عدلت إلى الزمان اطلب إليه مكاني فيه , وموضعي منه فرأيت طرفه نابيا ً , وعنانه عن رضاي منثنيا ً . . . حتى لاحت لي غرة الأستاذ , فقلت : حل بي الويل وسال بي السيل أين أنا من ملك الدنيا والفلك الدائر بالنعمة , أين أنا من مشرق الخير ومغرب الجميل ؟ أين أنا من بدر البدور وسعد السعود ؟ أين أنا عمن يرى البخل كفرا ً صريحا ً والأفضال دينا صحيحا ً ؟ أين أنا عن سماء لا تفتر عن الهطلان وعن بحر لا يقذف إلا باللؤلؤ والمرجان ؟ أين أنا من فضاء لا يشق غباره وعن حرم لا يضام جاره ؟ أين أنا عن الباع الطويل والأنف الأشم والمشرب العذب والطريق الأصم ؟ لم لا اقصد بلاده ؟ لم لا اقتدح زناده ؟ لم لا انتجع جنابه وأرعى مزاده ؟ لم لا اسكن ريعه ؟ لم لا استدعي نفعه ؟ لم لا اخطب جوده واهتصر عوده ؟ لم لا استمطر سحابه ؟ لم لا استسقي ربابه ؟ لم لا استميح نيله واستحب ذيله ولا أحج كعبته واستلم ركنه ؟ لم لا أصلي إلى مقامه مؤتما ً بإمامه ؟ لم لا أسبح ببنانه مقدسا ً ؟
فتى صيغ من ماء الشبيبة وجهه فألفاظه جود وأنفاسه مجد
لم لا اقصد فتى للجود في كفه من البحر عينان نضاختان , لم لا أمتري معروف :
فتى لا يبالي أن يكون بجسمه إذا نال خلات الكرام شحوب
لم لا امدح :
فتى يشتري حسن المقال بروحه ويعلم أعقاب الأحاديث في غد
نعم لم لا انتهي في تقريظ فتى لو كان من الملائكة لكان من المقربين , ولو كان من الأنبياء لكان من المرسلين , ولو كان من الخلفاء لكان نعته اللائذ بالله . أصلح أديمي فقد حلم وجدد شبابي فقد هرم . وانطق لساني في اصطناعي فقد شردت صحائف النجح عند انتجاعي , ورش عظمي فقد براه الزمان , واكس جلدي فقد عراه الحدثان . اللهم فاحي به بلادك , وأنعش برحمته عبادك , وبلغه مرضاتك واسكنه فردوسك , وادم له العوم النامي والكعب العالي , والمجد والتليد والجد السعيد " . . الخ . . . .. ويسترسل أبو حيان في هذه الرسالة المستفيضة بمثل هذه اللهجة المستجدبة بضروب من الجمل الدعائية تارة والمستعطفة تارة أخرى , وهو بين هذه الأنواع من الجمل يستدرك فيصف بؤس حاله وشقاء نفسه , وجور الزمان عليه والحرمان الذي جرعه مر العذاب , وقد يعجب المرء من هذا التناقض في شخصية أبي حيان فبينما هو – كما لاحظنا من خلال رسالته – يتضرع ويستعطف حتى ليتضاءل شخصه ويتلاشى وجوده, إذا هو ينقلب في مواطن أخرى يتطاول على الوزراء ويتعاظم على ذوي السلطان , وينقم على كل ذي نعمة ويحسد كل ذي جاه , وما مرد ذلك إلا نزوات أبي حيان التي تنبع من مزاجه المريض ونفسه الحاقدة – المعقدة وتفتر العلاقات بين أبي حيان وابن العميد إلى أن انتهت إلى الركود .
عمر ابن العميد حوالي ستين سنة وتزيد قليلا , وقضى الشطر الأعظم من حياته في الوزارة إذ تقلدها سنة 328 وهو دون الثلاثين ومات عنها سنة 360 وقد عاصر أبو حيان وهو في آخر حياته , فلما توفي ابن العميد الأدب قام ابنه أبو الفتح مقامه في الوزارة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة , وكان ذلك سنة 361 وكان ركن الدولة ابن بويه قد شاخ وسئم وفوض الأمر لأبي الفتح ابن العميد , وكان فيه مع رجاحة عقله وفضله وأدب الكتابة ويقظته وفراسته فرق الشباب وسكر الحداثة وجرأة القدرة , فتطلعت نفسه إلى إظهار الزينة الكثيرة , وكان يسرف في ركوب الأهواء , فجلب ذلك ضروب الحسد .
وخرج أبو الفتح من الري عاصمة البويهيين إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية , فوصل إلى حضرة الخليفة فخلع عليه , ولقبه ذا الوزارتين , وكان مدة إقامته في بغداد يعقد مجالس مختلفة للفقهاء يوما ً وللأدباء يوما ً وللمتكلمين يوما ً وللمتفلسفين يوما ً , وفرق أموالا ً خطيرة وتعقد النابهين من أهل العلم والأدب وأراد استصحابهم معه إلى الري ومنهم أبو حيان التوحيدي . واستمرت إقامة أبي الفتح في بغداد . وأحب الخلافة وشدته بغداد إلى ملاهيها وملاذها وأصبحت له فيها أملاك والسفن والدور والاقطاعات ثم اضطر إلى العودة إلى الري ومارس منصب الوزارة فيها , والتقى بالصاحب بن عباد الذي كان يحسده على مكانته هذه غير انه تمكن من إقصاء الصاحب بن عباد عن الري وإبعاده إلى اصبهان , فلما خلا الجو للفتح عاد إلى العب من شهواته , واتفق أنه استدعى يوما ً ندمائه وعبأ لهم مجلسا ً عظيما ً واظهر من الزينة وآلات الذهب والصيني وما شاكله ما يفوت الحصر , وشرب واستفزه الطرب وكان قد شرب يومه وليلته فعمل شعرا ً غني به وهو :
دعوت المنى ودعوت العلى فلما أجابا دعوت القدح
وقلت لأيام شرخ الشباب ألا أن هذا أوان الفرح
إذا بلغ المرء آماله فليس له بعدها مقترح
فلما غنى بالشعر استطابه وشرب عليه إلى أن سكر , فما كان من مؤيد الدولة إلا أن قبض عليه وحمله إلى السجن وأوكل به من يعذبه , فأول ما عمل به أن سلمت إحدى عينيه ثم نكل به وجرت لحيته , وجدع انفه وعذب أنواع العذاب , فلما استيقن من الهالك كان ينشد ويردد البيتين التاليين :
ملك الدنيا أناس قبلنا رحلوا عنها وخلوها لنا
ونزلناها كما قد نزلوا ونخليها لقوم بعدنا
ثم شددوا عليه العذاب حتى مات سنة 366 فأتيحت الفرصة للصاحب ابن عباد أن يعود إلى الري وان يتسلم الوزارة مكانه .
وكان الصاحب في بدء أمره من صغار الكتاب يخدم أستاذه أبا الفضل بن العميد ومن اجل صحبته لابن العميد سمي الصاحب واسمه إسماعيل بن عباد . ولد سنة 326 ونشأ في بيت علم وفضل ووجاهة واقبل على طلب العلم منذ صغره , اخذ العلم عن أبيه وتتلمذ لأحمد بن فارس , فاخذ عنه الأدب في الري وظل الصاحب يكن المودة لأبي الفضل ابن العميد حتى توفي وآلت الوزارة إلى ابنه أبي الفتح فوقعت بينهما الجفوة , فلما نكب أبو الفتح وقتل سنة 366 تولى مكانه الصاحب وزيرا ً لمؤيد الدولة .
وفي المدة التي كان يكتب فيها الصاحب لمؤيد الدولة باصبهان – أي قبل أن يصبح وزيرا ً- زار المتنبي ابن العميد وطمع الصاحب في زيارة المتنبي إياه باصبهان , وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان , وهو ذلك الشاب فكتب الصاحب يلاطف المتنبي باستدعائه ويضمن له جميع ماله فلم يقم له المتنبي وزنا ً , ولم يجبه عن كتابه وقيل أن المتنبي قال لأصحابه : أن غليما ً معطاء يريد أن أزوره وامدحه ولا سبيل إلى ذلك فلما اخفق الصاحب في استجلاب المتنبي صيره غرضا يرشقه بسهام الوقيعة ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته , وينعي عليه سيئاته , وألف رسالة في عيوب المتنبي سماها " الكشف عن مساوئ المتنبي " مع انه اعرف الناس بحسناته وأحفظهم وأكثرهم استعمالا ً لها وتمثلا ً بها في محاضراته ومكاتباته
وظل الصاحب في الوزارة إلى أن توفي سنة 385 عن عمر يقارب الستين .
بعد هذه المقدمة القصيرة من حياة الصاحب بن عباد نعود إلى الحديث عن علاقته بابي حيان التوحيدي الذي قصده من بغداد سنة 362 عندما سمع بكرمه فقصده , بأمل فسيح , وصدر رحيب فخيب أمله فعاد " عاتبا ً على ابن عباد مغيظا ً منه مقروح الكبد لما ناله من الحرمان المر والصد القبيح , واللقاء الكريه والجفاء الفاحش , والقذع المؤلم والمعاملة السيئة والتغافل عن الثواب والخدمة وحبس الأجرة على النسخ والوراقة , والتجهم المتوالي عند كل لحظة ولفظة " على حد تعبير التوحيدي نفسه في الإمتاع والمؤانسة .
ويفسر الأدباء هذا الإخفاق الذي لاقاه أبو حيان عند الصاحب بن عباد بمجموعة عوامل منها مدح التوحيدي لابن العميد في حضرة الصاحب حتى سار الناس يذلونه على ذلك قائلين : " جنيت على نفسك عندما ذكرت عدوه عنده بخير وأثنيت عليه وجعلته سيد الناس ونعلق على هذا التفسير بأنه صحيح أن الصاحب يطمح دائما ً إلى حيازة الفضائل ويبحث عن الثناء , ويرغب أن يكون السيد المفضل ولكن العداوة التي تصورها الأدباء بين ابن العميد والصاحب لم تكن بين ابن العميد الأب : أبي الفضل الذي كان يجله الصاحب ويقدره ويسبح بحمده , ولكنها كانت بين الصاحب وأبي الفتح بن العميد الذي أسرف في السخافة واللهو فلم يظفر باحترام الصاحب ولا باحترام أبي حيان نفسه .
وهناك تفسير آخر يعزى إلى نفسيتي الرجلين , فقد كان التوحيدي – كما لاحظنا من أخلاقه – شديد الحسد والبغض لذوي النعمة والجاه , مجبولا ً على الغرام بثلب الكرام , حتى عرف بهذه الخصلة الذميمة وشهر بها , وربما مارس شيئا ً من الاعتداد والادلال بالمعرفة والعلم أمام الصاحب فقابله هذا بالزدراء والاحتقار , ويبدو أن سلوكه معه كان فظا ً ليس فيه أدب مخاطبة الملوك والوزراء ولذلك كان تخرج منه أجوبة تحمل الناس على النفرة منه , ففي كتاب الهفوات لابن الصابئ أن أبا حيان قال : " حضرت مائدة الصاحب بن عباد , فقدمت مضيرة ( وهي مرقة يطبخ فيها اللحم باللبن أشبه بالشاكرية في زمننا هذا ) فأمعنت فيها , فقال لي : يا أبو حيان أنها تضر بالمشايخ , فقلت : أن رأى الصاحب أن يدع التطيب على طعامه فعل , فكأني ألقمته حجرا ً , وجخل واستحيا , ولم ينطق إلى أن فرغنا , وتصوري للموقف أن الصاحب أراد أن يداعب أبا حيان بعبارته تلك , ولكن رد فعل أبي حيان كان خشنا ً , غير مهذب وهذا مما يغضب رجلا ً كالصاحب , فيضمر له الاحتقار , وهناك عدة أخبار رواها أبو حيان نفسه تفيد هذا المعنى , فمنها أن الصاحب سأله منذ أول لقاء التقى به فقال له : بلغني انك تتأدب فقال :أبو حيان : تأدب أهل هذا الزمان فقال : أبو حيان ينصرف ولا ينصرف ؟ فرد أبو حيان : أن قبله مولانا لا ينصرف فلما سمع الصاحب هذا الجواب تذمر وكأنه لم يعجبه ثم التفت إلى أبي حيان وقال له : ألزم دارنا وانسخ هذا الكتاب فقال أبو حيان : أنا سامع مطيع ثم غير أن وقع هذا التكليف كان ثقيلا ً على نفس أبي حيان , وبرم به وتململ منه , وخاصة عندما جاءه خادم الصاحب بثلاثين مجلدة من رسائل الصاحب وطلب منه أن ينسخها , فسخط من هذا التكليف وقال : " أن نسخ مثل هذا يأتي على العمر والبصر " وحدثته نفسه بالتمرد على طلب الصاحب , وهو الذي قصده من بغداد بأمل فسيح وصدر رحيب ليتخلص من حزمة الشؤم " الوراقة " ونسخ الكتب , فإذا بحرفة الشؤم تلاحقه حتى في موطن أمله مع أن الوراقة كانت رائجة ومربحة في بغداد ولكنه انف من ممارستها وطمح إلى الغنى والجاه في بلاط الصاحب , غير انه خاب أمله واستمر في بلاطه حوالي ثلاث سنوات , وكان أمله يتجدد بان الصاحب سيغير موقفه منه , ولكنه ظل ممعنا ً في احتقاره وازدرائه وسرد أبو حيان جملة حوادث جرت بينه وبين الصاحب انتهت إلى أن طفح الكيل بابي حيان بعد انتظار أكثر من ثلاث سنوات , فانسل من بيته وادرع الليل ورجع إلى بغداد وكأن ذلك سنة 370 وقد سوغ رجوعه الغاضب خيبة أمله فقال : " وجرت أشياء أخرى كان عقباها إني فارقت بابه , سنة سبعين وثلاثمائة راجعا إلى مدينة السلام بغير زاد ولا راحلة ولم يعطني في مدة ثلاث سنين درهما ً واحدا أو ما قيمته درهم واحد , فلما قبع أبو حيان في بغداد وأصبح في منأى من الصاحب وسلطانه تذكر ما جرعه إياه من الحرمان والازدراء وتذكر ما لاقاه قبله من خيبة أمل أخرى عند ابن العميد , فارتبطت عنده مدينة الري ووزيراها بالنكد والشؤم فتصدى لتأليف كتاب يعري فيه هذين الوزيرين ونفذ ما تصدى له فكان كتاب " مثالب الوزيرين " ونفث فيه كل حقده على الرجلين والكتاب طويل مسهب نكتفي بفقرات منتزعة من خاتمته لنبين مدى حقد الرجل عليهما وخاصة على الصاحب الذي قال عنه : ما ذنبي – أكرمك الله – إذا سألت عنه مشايخ الوقت وأعلام العصر فوصفوه بما جمعت لك في هذا المكان , على إني قد سترت شيئا ً كثيرا ً من مخازيه , أما هربا ً من الإطالة وصيانة للقلم عن رسم الفواحش وبث الفظائع , وذكر ما يسمج مسموعه ويكره التحدث به , هذا سوى ما فاتني من حديثه فاني فارقته سنة سبعين وثلاثمائة , وما ذنبي أن ذكر عنه ما جر عينه من مرارة الخيبة بعد الأمل , وحملني عليه من الإخفاق بعد الطمع مع الخدمة الطويلة والوعد المتصل والظن الحسن , حتى كأنني خصصت بخساسته وحدي , واوجب أن أعامل به دون غيري , وما ذنبي يا قوم إذا لم استطع أن انسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي يستحسن هذا الكلب , حتى اعذره في لومي على الامتناع , أينسخ الإنسان هذا القدر , وهو يرجو بعدها أن متعه الله ببصره , أو ينفعه ببدنه ؟ ثم ما ذنبي , ماذا قال لي : من أين لك هذا الكلام المفوف المشوف الذي تكتب به إلي في الوقت بعد الوقت , فقلت : وكيف لا يكون كما وصف مولانا , وانأ اقطف ثمار رسائله واستقي من قليب علمه , واشيم بارقة أدبه وارد ساحل بحره , واستوكف قطر مزنه , فيقول : كذبت وفجرت لا املك , ومن في كلامي الكيدة والشحذ والتضرع والاسترحام , كلامي في السماء وكلامك في السماد " . وعندما ترك أبو حيان الري توجه إلى بغداد , وأقام فيها وكان تردده على صديقه : أبي الوفاء المهندس كثيرا ً , وهو من اخلص أصدقائه , وأبو الوفاء هذا اسمه محمد بن محمد بن يحيى البوزجاني , وقد وصفه الذين ترجموا له بأنه احد الأئمة المشاهير في علم الهندسة , وله فيه استخراجات غريبة لم يسبق إليها , وكان عنده تآليف عدة وكانت ولادته سنة 328 في مدينة بوزجان , وقدم العراق سنة 348 وتوفي سنة 376 وقد وصفه ابن سعدان الوزير بأنه صاحب المؤانسة الطيبة والمساعدة المطرية , والمفاكهة اللذيذة , إلا أن لفظه خراساني وإشارته ناقصة , هذا مع ما استفاد بمقامه الطويل ببغداد , والبغدادي إذا تخرسن كان أعلى وأظرف من الخراساني إذا تبغدد .
ويعود الفضل لأبي الوفاء المهندس هذا على ابن حيان التوحيدي لأنه كان صلة الوصل بينه وبين الوزير العارض ابن سعدان وهو أبو عبد الله الحسين بن احمد بن سعدان , استوزره صمصام الدولة البويهي سنة 373 وكان هذا الرجل باذلا ً لعطائه مانعا ً للقائه , لا يخيب طالب إحسان منه في أكثر مطلبه , فبسط يده في الاطلاقات والصلات وكان لابن سعدان ناحية علمية أدبية بالإضافة إلى نواحيه السياسية , فهو – كما يصوره أبو حيان – واسع الاطلاع له مشاركة جيدة في كثير من فروع العلم من أدب وفلسفة وطبيعة وإلهيات وأخلاق , يدل على ذلك الحوار الذي يحكيه أبو حيان في كتابي الإمتاع والمؤانسة والمقابسات , فأسئلته تدل على عمق ونفاذ بصيرة , وفوق ذلك كان له في وزارته منتدى يجمع كثيرا ً من جلة العلماء والأدباء , وكان له مجلس شراب ولهو ومجلس جد ونقاش , وكان يباهي بمجالسه الأدبية خاصة والتي كان تضم ابن زرعة الفيلسوف النصراني , وابن مسكويه صاحب تهذيب الأخلاق وتجارب الأمم , وأبي الوفاء المهندس الآنف الذكر , ومن الشعراء الشاعر الماجن المشهور بمجونه " ابن حجاج , ومن الكتاب أبو عبيد الخطيب الكاتب وأبو حيان التوحيدي .
ويبدو أن أصدقاء الوزير العارض هم الذين رشحوا أبا حيان لمجالسة الوزير ومحاورته ومنهم أيضا ً زيد بن رفاعة الذي سمع من أبي حيان شيئا ً الصداقة والصديق أعجبه فنمى ذلك , إلى الوزير سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة , قبل تحمله أعباء الدولة وتدبيره أمر الوزارة , حين كانت الأشغال خفيفة , فأعجب الوزير بهذه الأشياء وطلب من زيد بن رفاعة أن يدله على أبي حيان , فعرفه عليه , وطلب منه أن يؤلف له كتابا ً في هذا فكان كتاب – الصداقة والصديق .
وكذلك رشح أبو الوفاء المهندس أبا حيان لمجالسة الوزير العارض فاخذ الوزير يجالسه ولقي عليه بعض الأسئلة وهو يجيب عنها , وطالت اللقاء بينهما مدة سبع وثلاثين ليلة , كانا يتسامران فيها بألوان مختلفة من شؤون الفكر والأدب والاجتماع , ثم استطرفه أبو الوفاء وطلب من صديقه أبي حيان أن يعيد كتابتها له , فكان له ما أراد وكان ثمرة ذلك كتاب " الإمتاع والمؤانسة " .
كتاب الإمتاع والمؤانسة :
1- كتاب يقع في أجزاء ثلاثة , حققه احمد أمين واحمد الزين وطبع سنة 1939 .
2- وهو الكتاب الذي ألفه أبو حيان بناء على رغبة صديقه أبي الوفاء المهندس للوزير أبي عبد الله العارض , الذي اشوذه صمصام الدولة سنة 373 وقتله سنة 375 وسامره به مدة سبع وثلاثين ليلة , يطرح عليه الوزير أسئلة وهو يجيب عنها , ثم يبدو أن أبا الوفاء المهندس طلب من أبي حيان أن يعيد له حكاية سمره مع الوزير فقدم له هذا الكتاب ووصف كل ما دار بينه وبين الوزير من دقيق وجليل وحلو ومر .
3- والكتاب كما وصفه القفطي : " كتاب ممتع على الحقيقة لمن له مشاركة في فنون العلم فانه خاض كل بحر , وغاض كل لجة وما أحسن ما رايته على ظهر نسخة من كتاب الإمتاع بعض أهل جزيرة صقلية وهو : ابتدأ أبو حيان كتابه صوفيا ً , وتوسطه وختمه سائلا ً ملحفا ً " .
والكتاب عبارة عن أسئلة من الوزير وأجوبة من أبي حيان في ظروف مختلفة من الثقافة المتنوعة تنوعا ً لا يخضع لترتيب , إنما يخضع للخواطر الحرة وشجون الحديث , وفيه من كل علم وفن , كالأدب والفلسفة والحيوان والمجون والنقد والأخلاق والبلاغة والطبيعة , والتفسير والغناء , والحديث والفلسفة والسياسة وتحليل الشخصيات وتراجم أعلام العصر وتصوير للعادات وإلمام بأحاديث المجالس وغير هذه الأشياء ويبدو أن المسامرات بينه وبين العارض كانت مقتضبة فلما طلب منه أبو الوفاء المهندس إعادة سردها اعتكف عليها وزاد فيها ورجع إلى الأخبار فاستكملها من مظلاتها ثم أوردها في هذا الكتاب . وقد اعترف أبو حيان بصنعه هذا فقال : " قد فرغت من الجزء الأولى على ما رسمت لي القيام به , وشرفتني بالخوض فيه , وسردت في حواشيه أعيان الأحاديث التي خدمت بها مجلس الوزير ولم آل جهدا ً في روايتها وتقويمها , ولم اجنح إلى تعمية شيء منها بل زبرجت كثيرا ً بناصع اللفظ مع شرح الغامض وصلة المحذوف , وإتمام المنقوص وحملته إليك على يد ( فائق ) الغلام , وانأ حريص على أن اتبعه بالجزء الثاني , وهو يصل إليك في الأسبوع أن شاء الله وعلى الرغم من أن بعض العلماء يرى أبا حيان من ال ـ ـ إلا أننا نذهب إلى انه تزيد كما صرح هو بلفظ . ولعل هذا السبب كان من ضمن الأسباب التي دعته أن يرجو صديقه أبا الوفاء الذي بيض له هذا الكتاب أن يظل الكتاب سرا ً , ذلك أنه ألف الكتاب في حياة الوزير وخشي أن يطلع عليه , فيعلم مقدار تزيده .
ومما هو جدير بالملاحظة أن أبا الوفاء المهندس كان يعرف في صديقه أبي حيان صفة الحقد والكراهية والاستعلاء على رجالات زمانه وبعضهم من ذوي السلطان فإذا سمح أبو حيان لنفسه أن يتعرض لهم في حضرة الوزير وهما على انفراد , فان أبا الوفاء رجا أبا حيان إلا يتعرض لذكرهم ولذمهم في الكتاب بشكل علني , مخافة أن يناله سوء , ثم وفى أبو حيان بوعده فأنجز الجزء الثاني والثالث وأرسلهما إليه , وشفعهما بقوله : " قد – والله – ألقيت فيه – أي الجزء الثالث – كل ما في نفيس من جد وهزل , وغث وسمين وشاحب ونظير وفكاهة وأدب واحتجاج واعتذار . . . الخ " .
ولكل هذه الألوان التي تضمنها الكتاب جاء ممتعا ً مؤنسا ً بالإضافة إلى فوائد جمة , إذ انه يلقي الضوء على أوضاع العراق في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري . أي القرن الذي استشرى فيه سلطان البويهيين ’ وهو عصر حافل بالأحداث الجسام , والكتاب يتعرض للكثير من الشؤون الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية فيصف الأمراء والوزراء ومجالسهم كابن عباد وابن العميد وابن سعدان ويتطرق لمحاسنهم ومساوئهم ويصف العلماء في عصره فيحلل شخصياتهم وينقد أعمالهم , ويصف ما كان يدور في مجالسهم من حديث وجدال وخصومة وجد وهزل , يصف بعض القضايا الفكرية التي كانت مدار الحديث الخاصة من المفكرين كالشعوبية والعرب والعجم والمفاضلة بين الشعر والنثر , وبعض الجمعيات السرية كإخوان الصفا الذين كان حديث أبي حيان التوحيدي عنهم في الإمتاع وثيقة سياسية مهمة نهل منها كل من أرخ لهذه الجمعية بعده , كما كان فيه وصف لحياة الجماهير وموقفها من الأمراء والحكام , وفيه جولات في حياة المجتمع وطبقاته , وفي الفضل الذي تحدث فيه عن الغناء والقيان وارتياد بعض رجالات الدولة لدور الغناء والملاهي تلخيص لصورة من حياة المجتمع في بغداد في ذلك القرن , ويعجبك أسلوب أبي حيان في هذا الكتاب لما يتمتع فيه من تفنن يقوم على الازدواج وإطالة البيان في تصوير الفكرة وتوليد المعاني حتى لا يدع مزيد المستزيد , وهو بذلك يشبه من بعض الوجوه أستاذه الجاحظ , وإذا كان ثمة غموض في الكتاب فمرد ذلك إلى بعض المسائل الفلسفية العميقة التي تعرض إليها , فإذا هو خرج من مثل هذه الموضوعات الفلسفية العويصة إلى الموضوعات الأدبية .
6-فن التوحيدي :
كان الناس في القديم يعرفون الأديب بأنه " هو الذي يأخذ من كل علم وفن يطرف " وكان يعجبهم قول ابن كتيبة : " من أراد أن يكون عالما ً فيطلب فنا ً واحدا ً ومن أراد أن يكون أديبا ً فليتسع في العلوم " ولعل قول هؤلاء الناس وكلمة ابن كتيبة هذه تنطبقان على التوحيدي كل الانطباق , فالآثار الكثيرة التي خلفها التوحيدي وثقافته الموسوعية تدلان على انه كان أديبا ً بكل معاني كلمة الأدب في ذلك الزمان , وما لنا نذهب إلى التأويل بعيدا ً وأبو حيان يحدثنا عن مكونات الأديب ومستلزمات الكاتب في القرن الرابع يقول : " لا يكون الكاتب كاملا ً ولا لاسمه مستحقا ً إلا بعد أن ينهض بهذه الأثقال , ويجمع إليها أصولا من الفقه مخلوطة بفروعها , وآيات القرآن مضمونة إلى سمته فيها , وأخبارا ً كثيرة مختلفة في فنون شتى لتكون عدة عند الحاجة إليها , مع الأمثال السائرة والأبيات الدائرة , والفقر البديعة , والتجارب المعهودة والمجالس المشهودة مع خط كثير مسبوك ولفظ كوشي محوك , ولهذا عز الكامل في هذه الصناعة " الإمتاع والمؤانسة " .
وأكد على وجوب هذه الثقافة الموسوعية في غير مكان في كتبه المختلفة وغني عن البيان أن تقول أن قراءات التوحيدي الكثيرة وتنزهه المستمرين بين الكتب وكون حرفة الوراقة التي كان يحترفها التوحيدي أوقفته على الكتب الكثيرة وقوف متصفح على تأن وروية بغية النسخ والنقل قد أغنت محفوظه وأثرت ثقافته ويجب أن لا ننسى عمره المديد الذي تجاوز به القرن واستتاره عن أعين السلطان في آخر حياته كل ذلك مكنه من الكتابة بغزارة وحرارة , قيل أن وزن المداد الذي صرفه في تصانيفه بلغ أربع مئة رطل – كما يقول صاحب كتاب روضات الجنات كل ذلك جعل من التوحيدي أديبا ً موسوعي الثقافة يقرأ ويهضم ما يقرأ ثم يفرز ما قرأ بأسلوب متميز عن غيره من أدباء زمانه ولكن على الرغم من موسوعية ثقافته ومشاركته في كل أنواع المعرفة في عصره إلا انه ظل يراوح عند سطحية هذه العلوم دون أن يتوغل كثيرا ً حتى يصل إلى لبابها , فجاء أدبه وقد طغت عليه مسحة الشمول والعموم أكثر من طغيان صفة العمق والتخصص .


الباب الثاني عشر
أبو بكر الصولي
مصادر دراسته :
كتب التراجم القديمة ( وفيات الأعيان لابن خلكان )
1- معجم الأدباء لياقوت الحموي – 2- الفهرست لابن النديم - كتاباه أدب الكاتب والأوراق – 3- ومن المراجع الحديثة تاريخ الآداب العربية لجرجي زيدان . – 4- مقال طه الحاجري في مجلة الرسالة من كتاب الأوراق وخطرة في كتابة التاريخ .
المقدمة : قامت خلافة بني العباس على أنقاض الدولة الأموية اثر اشتعال الثورة العباسية واستوى الأمر للعباسيين واستقرت دعائم الدولة إلى حد بعيد فنتج عن هذا الاستقرار نشاط هائل في جميع نواحي الحياة ولا سيما الناحية الأدبية والفكرية ونبغ كثير من الأدباء والعلماء وزاد من نشاط حركة التأليف تمازج الحضارة العربية بالحضارات الأخرى كالفارسية والهندية واليونانية عن طريق الترجمات الواسعة عنها ونخص بالذكر الترجمة عن اللغة الفارسية لتمازج العنصرين العربي والفارسي وطغيان العنصر الآخر على جسم الدولة العباسية ولقد اغنى هؤلاء واولئك الأدباء المكتبة العربية وقدموا للتراث العربي أدبا ً رفيعا لم تستطيع أن تبيده جحافل الطغيان المغولي , وأبو بكر الصولي واحد منهم .
-اسمه وكنيته :أديبنا محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس الصولي المعروف بالشطرنجي احد الأدباء الفضلاء المشهورين وإبراهيم بن العباس الشاعر , المتوفي سنة 243 هـ عم لوالده , وينسب الصولي إلى جده صول الذي كان وأهله ملوك جرجان كما ذكر ابن خلكان في وفياته وأضاف أن صول وأخاه فيروز ملكا جرجان وهما تركيان تمجسا وصارا أشباه الفرس وأمنهما يزيد بن المهلب يوم حضر جرجان واسلم صول على يده ولكن إذا ذكر ياقوت في معجمه أن أول من احدث جرجان يزيد بن المهلب فكيف ملكهما هؤلاء قبل أحداثها وهذا اضطراب تاريخ لا طائل للتحقيق فيه .
-ولادته :اغفل العلماء زمن ولادته ولكن أشير في كتابه الأوراق بتحقيق هيروث , دون انه عاش ثمانين عام وعلى ذلك يكون مولده سنة خمس وخمسين ومئتين .
مسقط رأسه ونشأته : ولد أبو بكر الصولي في مدينة بغداد عاصمة الخلافة وحاضرة الدنيا ومقر العلم والأدب واللغة وموئل المذاهب الفكرية والدينية وهذا يعني لنا الشيء الكثير بالقياس إلى علمه وأدبه ولنتخيل تلك المدينة ملتقى العلماء والأدباء حيث تبادلوا الآراء وتسابقوا إلى التأليف ولم تعيننا المصادر في معرفة نشأته الأولى قبل لقائه بأساتذته ولعل من طفولته كان يعشق الأدب وابتدأ طريقه بالتردد على الكتاتيب وحلقات المساجد وربما اختلف إلى المزيد أيضا ولم يذكر المترجمون ذلك ولكن من المؤكد انه التقى بأساتذته هناك .
-أساتذته :نبغ في القرن الثالث رجال يعتبرون فحولا ً في الأدب واللغة والنحو منهم أبو العباس المبرد صاحب كتاب الكامل في الأدب وثانيهم أبو حاتم السجستاني ثم احمد ابن يحيى ثعلب وغيرهم من أئمة الفكر والفقه واللغة .
معاصروه من رجال الدولة وخلفائها : كانوا كثر وأولهم الخلفاء الثلاثة الذين عاصرهم واسبقهم الراضي بالله الذي كان الصولي مؤديا ً له ثم نديما ً , وبعده المكتفي ثم المقتدر وبفضل مجالسته لأولئك الخلفاء ومنادمته لهم اكتسب ميزان أنضجت شخصيته وجعلت منه رجلا ً بارعا ً حاذقا ً يجالس الخلفاء وحياتهم المغلقة وما لهم من ملكات وما يحبون من الأمور وما يأنفون منه ويكرهونه واشتهر في قصورهم برج الدعابة والمرح والبراعة في لعب الشطرنج وان الراضي بالله كان يفضل لعبه على أجمل بستان وأروع زهر رآه في الطبيعة ويدل على رأي الخليفة على إعجابه بشخصية الصولي وحسن معشره , ومن خلال ما تقدم من صلته بمعلميه ومعاصريه من الخلفاء نحدد ما جناه من ثقافة وما تميزت به شخصيته .
-ثقافته :تتلمذ الصولي على أساتذة عرفناهم وأولهم المبرد ولعل أبا بكر استمد كثيرا ً من عناصر ثقافته وعلمه منه فقد اقتبس منه وعرف طريقته في تقصي أخبار العرب من لقاء البدو والإعراب وجمع مفردات اللغة ثم الالتفات إلى تأليف الكتب بعد التأكد من صحة مصادر الأخبار وإتباع مذاهب العلماء أمثال أبي عبيدة , فكل ما تلقاه محمد بن يحيى وفر له ذاكرة قوية وحافظة عجيبة في الشعر والأدب والأخبار ليكون كل ذلك رائده فيما يؤلفه من كتب وان ثقافته في الفقه والحديث لا تقل عن سابقها , ولعل اتصاله بالخليفة الراضي مورد لا ينضب لثقافته فقد أدبه وعلمه كثيرا ً من أمور الأدب والشعر العربي إلى غير ذلك من الحديث وفقه اللغة وهذا يكفي لإضافة حصيلة ثقافية إليه من خلال جهده وبحثه لينقل العلم إلى تلميذه بأمانة وان صلاته بالحياة الأدبية للخلفاء أكسبته خبرة بمواهبهم وكان يوجهها ويستفيد من ذلك ما عرفه من أخلاقهم ومزاياهم التي تختلف عن طبقات العامة اكسبه اطلاعا وخبرة بحياتهم وانعكس ذلك على أدبه ومؤلفاته الزاهرة بأخبارهم وأشعارهم وأخبار من يليهم من الكتاب والندماء والجلساء .
-جوانب شخصيته :
قد تيسر لنا أن نرسم ملامح واضحة لشخصية الصولي من خلال حياته وصلاته وثقافته وتتداخل جوانبها وتترابط فيما بينها وأولها الجانب الاجتماعي المتمثل بصلته بالخلفاء ومنادمتهم فعرف أصنافا ً عديدة من البشر وصار له دراية بمعاملتهم ويبدو حسن معشره ودماثة خلقه في المنادمة ولعب الشطرنج وسبقه أهل زمانه به مما يتصل بتوقد الذكاء وحسن الحيلة والتصرف وان هذه الشهرة قد تكسبه رفعة في الأدب وشهرة كبيرة , ويبدو من الجانب الأدبي رجلا ً واسع المدارك فضمن كتبه علمه وأدبه فأغنى طلابه وله شخصية مميزة في الأدب ومنها ننفذ لكونه أديبا ً ناقدا ً عالما ً كانت نظراته في النقد تنم عن قوة ولمعان والتزام بما يقدم من أداة العلم والمعرفة فينقد في كتابه " أدب الكتاب " ابن قتيبة وينكر شأن كتابه ويتهمه بأنه حشو لألفاظ فارغة لا غنى فيها وإنما يفضله كتابه المعنى بشأن الكتاب وأحوالهم ويبدو لنا عالما ً بالرواية فهو لا يسوق الخبر إلا بعد أن يعرف روايته وإسناده الصحيح ويستند إلى أصول علمية ليدلنا على نهج علماء عصره العلمي في الرواية والتأليف وعلى جانبه النقدي العلمي خاصة وبين أيدينا رواية تلقى الضوء على شخصيته النادرة الواعية , قال الصولي وقد عرض في أثناء حديثه عن احمد بن يوسف إلى رواية تحدث ابن طيفور عنه بها وخلط فيها فلم يدعها الصولي تمر دون أن ينقدها بما طوع له علمه الغزير وروحه العلمية القوية ثم كتب هذه العبارة الدالة على تثبته العلمي من ناحية وعلى مظهر من مظاهر الروح العلمية في ذلك العصر من ناحية أخرى , قال : " وقد رأيته – يعني ابن طيفور – في البصرة سنة سبع وسبعين ومائتين وقدمها إلى احمد بن علي الماورائي وكتب عليه مجلسين أو ثلاثة فلما رأيته صحفيا ً لم أر عنده ما أريد تركته ويعز علي أن اذكر أحدا ً من أهل الأدب بسوء أو استخفه ولكن لا بد من أن نعطي العلم حقه , ونضع الحق موضعه " . وتبدو سعة المادة عند الصولي والتثبيت في الرواية وعليها ما ــــــــ .
-وفاته :
توفي أبو بكر سنة خمس وثلاثين عن ثمانين عاما ً وقد يجاوز ذلك إلى عدد من السنوات لأنه إذا التقى ابن طيفور سنة سبع وسبعين ومائتين وقد صار في تلك الآونة أديبا ً لامعا ً وناقد له دراية بالرواية فانه يمكن أن يزيد عمره آنذاك على العشرين سنة مع بلوغه هذا الشأن وإذا نبغ وله من العمر عشرون عاما ً فيمكن إثبات مولده سنة خمس وخمسين ومائتين , ولقد مات في البصرة مستترا ً واتاها تاركا ً بغداد وبعد أن لحقته الخاصة والعامة لروايته خبرا ً في حق علي بن أبي طالب ولم تدركه , ويلفتنا أمر هام في ذلك الحين وهو شيوع المذاهب الفكرية والدينية واختطلاطها ومنعكساتها على الحكم على الإمامة الخلافة ولعل كان للصوفي مذهب معين ورأي في الخلافة أو به تشكك بإمامة علي وشخصيته حتى ذكر خبرا ً في حقه وما هذا إلا بنتيجة اختلاف في الآراء حول هذه المسائل في عصره وتدل الرواية على تجمع الشيعة وأنصار علي في بغداد حتى لحقوا بالصولي لينالوا منه ولكنه فر وتركوه فإما تركوه لأنه لا خطر منه ولا مخافة , أو لأنهم لم يستطيعوا الوصول إليه ومن المعلوم في ذلك الحين التشدد والمغالاة في العقائد مع التشعب والتعدد في الآراء والأفكار حولها .
-آثاره ومؤلفاته :
ترك مؤلفنا للأدب العربي آثارا ً أغنت لغتنا , فقد بعضها وبقي بعضها الآخر وثالث وصل ناقصا ً لما يتم .
1- كتاب الأوراق – 2 – أدب الكتاب – 3- كتاب الوزراء – 4- اللقاء والتسليم – 5- العبادة – 6- تفصيل السنان عمله لأبي الحسن علي بن الفرات – 7 – كتاب الشامل : في علم القرآن ولم يتمه – 8- كتاب الأنواع ولم يتمه – 9 – كتاب الغرر أمالي – 10 – أخبار الشعر على حروف الهجاء – 11- أخبار القرامطة – 12- أخبار ابن هرمة – 13- ديوان الحماسة لأبي تمام – 14- كتاب الشطرنج .
-نوعية تآليفه :
تنوعت كتبه فشملت الأدب واللغة والنحو وضروب الثقافة جميعا ً والأدب والتراجم خاصة ككتاب الأوراق مع ما يحتوي من جوانب تاريخية والى ما هنالك من كتب في علوم القرآن ولعبته الشطرنج وهو ثقافي لا شك وكذلك أمالي الغرر .
-كتاب أدب الكتاب :
الفصل الشمولي وبقي في المكتبة العربية ولم تتناوله الأيدي حتى عثر عليه الأديب محمد بهجت الأثري العراقي في مكتبة الشيخ أبي الثناء الالوسي وكان مخطوطه على الأصل الذي عمله صاحبه وقد عفا عليها الزمان فتآكلت بعض حروفها وأبهم اعجامها فنسخها من جديد وصحح الحروف وعلق على الحواشي وقد تصرف في بعض فقراته لضياع أصلها بعض الشيء واغفل ما غفى عنه وانقطع من الأسانيد ليجنب القارئ التعقيد , ولم يخل الكتاب من الخطأ والتقديم والتأخير والتصحيف أما الخطأ من المحقق أو من الطبع كما سيبدو في بعض فصول الكتاب .
-لمحة عن كتبه وأسلوب تأليفه :
كتابه هذا صغير يقع في ثلاثة أجزاء في مجلد واحد ولكنه عظيم الفائدة وافر الثقافة ويشير أبو بكر إلى فائدة الكتاب خاصة فهو يأتي بموضوعات لا غنى للكتاب عن معرفتها ليفيدهم في تأليفهم فيذكر فضل الكتاب ويستشهد على ذلك بالقران الكريم اقرأ باسم ربك الذي خلق , علم الإنسان ما لم يعلم . ويفيد أثرها في جميع القرآن وحفظ اللسن والآثار والعهود ويذكر روايات متعددة في أول من كتب الكتاب العربي منها رواية عبد الله بن عمرو بن العاص وعروة بن الزبير أن أول من وضع الكتاب العربي قوم نزلوا في عدنان وهم أبجد هوز حطي كلمن ووزعوا حروفا جديدة ليست من أسمائهم كالثاء والخاء والظاء والذال والعين فسميت بالروادف , ولعلها رواية غير صحيحة , وفي فصل آخر يتحدث عن محاسن الكتابة الشكلية كالنقط والشكل والخط وقيمة التنقيط في بحث التصحيف في الكتابة بعد أن كانت تحط من شأن الكاتب وتشير إلى جهله بالكتابة وحدثنا عن اللحن ومعناه في اللغة فاللحن بمعنى الخطأ والإمالة عن جادة الصواب أو انه بمعنى الفطنة والفصاحة في الكلام عن حقيقته كما في بيت مالك بن أسماء الغزاوي : منطق صائب وتلحن أحيانا ً وخير الحديث ما كان لحنا وفي الجزء الثالث يحيطنا الكاتب علما بأمور الدولة في جوانب أحوالها وتسمياتها , ويذكر عادات العرب في تسمية الحيوانات من الإبل والغنم والخيل ثم يعرج على مسائل نحوية دقيقة كأحكام النون الخفيفة , وغيرها من أمور الصرف كالإعلال والإبدال .
-قيمة كتابه :
يعتبر أدب الكتاب معينا ً ثقافيا ً جيدا ً للقارئ والكاتب وقد ساقه بأسلوب جميل وتحري فيه الدقة من ذكر الروايات وتعددها حتى لا يقطع بصحة واحدة إلا بالتأكد والمقارنة ويسوق الشواهد لإيضاح المعنى فقرب إلينا مواد كتابه وعرفنا على ثقافته ومناحي التأليف في عصره ولكتابه قيمة نقدية من بعض جوانبه حين رد كتاب ابن قتيبة " أدب الكتاب " وحط من شأنه ووصفه بالخلو من المضمون على الرغم من أن كتاب ابن قتيبة نال شهرة كبيرة لم يخطبها أبو بكر فكان الزمان يجود بنعمة الشهرة والمعرفة على أناس دون غيرهم ولو تساووا في قدراتهم .
-كتاب الأوراق :
حققه وعني بجمعه المستشرق الانكليزي هيوارث عن نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية كتب في القرن السادس الهجري وهي الأصل الوحيد في مكتبات العالم وقد خلت من العجام فتشابهت حروفها ومنها ما ضاع مع الزمن , وهذا الكتاب لم يتمه وذكر ابن النديم انه لم يتمه والذي خرج منه أخبار الخلفاء وأيامهم من السفاح إلى أيام المعتز بالله بن علي وآخره شعر أبي احمد محمد بن احمد بن إسماعيل ابن إبراهيم بن عيسى بن منصور ثم شعار الطالبين ولدا الحسن والحسين وولد العباس بن علي وولد عمر بن علي . وإخبار هرمه . ويبدو من كلام ابن النديم أن الصولي لم يتمم الكتاب وكل ما ذكره في روايته لم يصل إلينا وإنما من قطعه الموزعة في العالم ولم يعثر عليها وهي تحتوي أخبار إبان بن عبد الحميد وصلته بالبرامكة وشعره ومدائحه فيهم وما نظمه من كتاب كليلة ودمنة في شعر ألفه في ثلاثة أشهر وهو النثر لشعر بناء على طلب يحيى بن خالد البرمكي وشعره التعليمي وعقيدته وأخبار أشجع بن عمرو السلمي وأخيه ومدائحه في البرامكة وهارون الرشيد وأخبار احمد بن يوسف كاتب المأمون .
-قيمة الكتاب ونقده :
لو قارنا الأوراق مع طبقات ابن سلام والشعراء لابن قتيبة نجد انه أضاف شيئا ً جديدا ً فقد سبقه الاثنان إلى ذكر المشاهير من الشعراء وتصنيفهم في طبقات ولكن أبا بكر مال لذكر المغمورين منهم في عصره فنقل شعرهم على السجية والأصالة النفسية التي لم تشوهها قيود الشهرة وتملق الطبقة الخاصة من الممدوحين فنقل لنا شعرا ً صافيا ً صادقا ً وأحاطنا علما ً بشتى الاختلاطات الفكرية والدينية في عصره وطغيان الشعوبية حتى اتهم البريء منها بها والتشكك بالعقائد كعقيدة إبان لأنه مولى فارسي الأصل , وتتجلى لنا الناحية العلمية في تقسيم كتابه وتوزيع شعرائه حسب أسرهم فأولى القيمة لأثر الوراثة في الأدب وتعدد الملكات وهذا نحو من الفكر العلمي في التأليف .
ويلفت نظرنا إلى ما شاع في عصره من شعر تعليمي نظمه إبان بن عبد الحميد فنم عن روح عامية وخاصة في مجادلته الطالبين في دعواهم للخلافة وشعر إبان التعليمي اثر لما شاع عند اليونان وعرف بالترجمة ثم شاع عند العرب وكان له جذور في الشعر الجاهلي قديما ً ولكنه غلب لشيوع المنطق عند اليونان وروح الجدل التي اشبع بها إبان اثر معرفته المنطق وتأليفه به . وكان هذا النوع من الشعر بداية لمنظومات علمية ألفت فيما بعد .
-نظمه للشعر :
خلف الصولي أشعارا ً مختلفة في المديح والغزل وغير ذلك ولم يكثر منه واتصلت مدائحه بالخلفاء وكبار الرجال وخصهم بالشعر في شعره .
-موقف الأدباء منه :
أثنى عليه المترجمون القدماء ولكن ابن النديم اتهمه بأنه اعتمد في تأليف كتابه الأوراق على كتاب المرتدي في الشعر والشعراء , بل نقله وانتحله , قال : ( وقد رأيت دستور الرجل في خزانة الصولي فافتصح به ) ونرد اتهام ابن النديم بأنه شاعت في عصر الصولي كتب التراجم اثر نشاط حركة التأليف وتلاقي الأدباء وتبادلهم انتاجاتهم الأدبية , وهذا التلاقي مدعاة لتأثر كل منهم بالآخر وإتباع جوانب من أسلوبه في التأليف ولا غرو أن يطلع الصولي على كتاب المرتدي وليس معنى لك أنه نقله ونحله حتى ولو وجد دستور عنده ويعزى اتهام ابن النديم إلى ما شاع في عصره من الوضع والانتحال في الأدب لأسباب متعددة وأمر تخريد رأيه وهو عدم إجماع أدباء عصره على ذلك وإنما انفرد به وحده , كما وجهت اتهاما ً للصولي في وضع بعض الأحاديث .
-تحليل نص مما كتب ومعرفة خصائصه الأسلوبية واللفظية :
لم أتمكن من العثور على نص نثري لأبي بكر حتى يمكن تحليله والوقوف على خصائصه الأسلوبية اللفظية التي تعكس تطور النثر في عصره ولكن يوجد للكاتب فصل يتحدث فيه عن الكتابة في أدب الكتاب . ويشير إلى الغرض من تأليف كتابه لفائدة الكتاب جميعا ً فيمكن أن تقتطف منه أجزاء تشكل له نصا ً أدبيا ً مضمون وفكرة جيدة , ولكن قد يشكل علينا ما اعترى النص من تصحيف وتقديم وتأخير واضح ومخل بالمعنى لعله من عمل المحقق أو جرى أثناء الطبع ومع ذلك لا بأس من تناوله , يقول الصوفي : ( وليس هذا الكتاب والفوائد فيه نغم ولا لتابع دون متبوع , ولا خامل دون نبيه ولا محروفا ومحروم دون محفوظ , ولا ينبغي لمن رفعته حال أو ساعده جد وهو يؤمن من نفسه تقصيرا ً في الأدب وتخلفا ً عن صناعة الكتابة أن يغتر بحظه وإقبال الأيام عليه في وقت , فإنها دول متقلبة وأحوال متصرفة , وليتلاف ما ضيع , ويستدرك ما فرط , ولا يتكل على كفاءته مشتغلا بلذاته ومريحا قلبه وجسمه مستبصرا ً في كل وقت عليهم , ومتكلا ً على كفاءتهم , ينام ويسهرهم ويفرغ ويشغلهم , فإنما هذا الفعل إنما يحسن بالرؤساء إذا اشرفوا على العلم واستقلوا بالصناعة , وعرفوا ما يحتاجون إليه من أمر الكتابة وحفظوه , فعند ذلك تشرف عندهم أنفسهم ويحسن بمن عندهم استقامتهم حتى تحملوا عنه ما هو اعلم به منهم , ولا يكونوا أسراء في أيديهم ولا مضطرين إلى ما عندهم ) .
إن هذا النص يشتم على فكرة رئيسية وهي واجبات الكتاب نحو عملهم الكتابي والأدبي ونعتبر قوله من البداية وليس هذا الكتاب , حتى قوله ولا محروم دون محفوظ , مقدمة للنص ثم يفصل الفكرة في واجبات الكتاب وتوجيههم وهذا عرض ونختم الفكرة بتمام رأيه فيما يجب أن يفعله الكتاب ويخلص من أن اعتماد الكتاب على أعوانهم في المتمكنين من صناعتهم وأمر كتبهم .
والأفكار بالتفصيل هي :
توجيه الكتاب لكافة الكتاب والأدباء
2- أن واجب الكاتب الذي نال حظ من الشهرة أن يواصل جهده ولا يركن إلى ما وصل إليه من حظ ومعرفة .
3- الاعتماد على الأعوان والكتبة أمر مهين لمعرفة العمل والكتابة .
4- أن هذا الاعتماد يقتصر على المتمكنين من صنعتهم والمستقلين فيها والواثقين من أمر أعوانهم وكتبهم لفترة طويلة , وواضح أن هذا النص معنى بأمور توجيهية وإرشادية تتصل للعقل موضوعية يسخرها الكاتب لمصلحة الأدب والأدباء فهي تتطلب وعظا ً وإرشادا ً ليقرر الكاتب غرضه في أذهان مخاطبيه ولكن الكاتب صاغ ذلك في أسلوب أدبي مقبول يتطرق إلى النواحي الشعورية عند الكاتب وما تخيل لهم نفوسهم من الوصول إلى المجد وتوهم الكمال وتمام المعرفة وهذا ما يسيء إلى الموضوعية والأمانة العلمية التي يتوخاها الكاتب وتنقضها مشاعرهم الوهمية .
-وسائله التعبيرية :
يعتمد الكاتب في تناول فكرته على الأسلوب المتنوع بين الخبري والإنشائي فلقد قدم للحديث خبري ثم تلاه بإنشائي واستخدم الجمل الإنشائية المشتملة على الأمر والنهي وهذا مما يناسب الوعظ والتوجيه فيقول ولا ينبغي لمن رفعته حال . . . وليتلاف ما صنع , ويستخدم الشرط للتأكيد على فكرته والحرص على إيضاحها فيقول فإن هذا الفعل يحسن بالرؤساء إذا اشرفوا على العلم واستقلوا بالصناعة ونراه يعتمد على الحال للإخبار عن الأمور المتصلة بالكتاب وينوع بين الجمل الحالية والأحوال المفردة مثل قوله : وهو مؤنس من نفسه تقصيرا ً في الأدب . لا يتكل على كفاءته مشتغلا ً بلذاته ووزنها ويتصل هذا بوضوح الفكرة في ذهنه وجلاء مقصده في طرح الموضوع وتبدو الجمل أحيانا طويلة حتى يكتمل الغرض منها كجملة ( وهو مؤنس من نفسه تقصيرا ً في الأدب وتخلفا ً عن صناعة الكتابة ) ويعطف الجمل على بعضها ويقلب فيها ليرسخ المعنى في أذهاننا . ومن الملاحظ في هذا النص استخدامه للأسلوب المباشر في الكلام دون التعويل على الخيال والتشبيه والاستعارة بل يكفيه جمله التي تصور المعنى وتدل عليه لما فيها من حركة ووصف وتصوير لأحوال الكتاب وهذه الرسائل شاعت في عصره ولكن تفاوت استعمال الخيال والتعبير المباشر بالمقياس إلى مضمون النصوص في ذاتها .
-استخدامه للبديع :
من الخصائص النثرية الفنية الشائعة في عصره والتي رسخت في القرن الرابع الهجري استخدام ألوان من البديع كالسجع والطباق والجناس والموازنة والازدواج فمنها ما خرج لخدمة المعنى وجمال الشكل والزخرفة اللفظية ومنها ما هدف إلى التأنق اللفظي فحسب وقد يستعمل هذا دونما تكلف ولا إسراف فيبدو مستساغا ً محببا ً فكلما سبق وسجع ابن المقفع في نثره لم يكن نثره مكروها ً وإنما خدم المعنى ولم يخضعه لأناقة اللفظ وهذا الصولي في كتابه ونصه لا يعطينا فكرة عن مدى تجربته في هذا المضمار لأننا نفتقر إلى نصوصه ولكن تبدو من استخدامه للمحسنات اللفظية أو بعضها ولكنها غير متكلفة بل طبيعية تأتي متناسقة ومتجاوبة مع المضمون بل هي مسخرة له كاستعمال الطباق فيطابق بين راحة الكاتب وشغله لأعوانه ( ينام ويسهرهم ويفرغ ويشغلهم ) فينبه إلى الخطأ في الفعل من خلال المطابقة ويستخدم السجع فيقول فإنها دول متقلبة وأحوال متصرفة , ويوازن بين الكلمات في نهايات الجمل . وهذا جانب من جوانب واسعة لا مجال للاستفاضة بها
ونختم قولنا بإشارة إلى فضل الكاتب على عصره وعلى اللغة العربية بما قدمه من آداب جليلة أغنى بها العقول والقلوب .


الباب الثالث عشر
أبو الفرج الناشر
ومن استقراء هذه المؤلفات الكثيرة يتبين للدارس وفرة تأليف أبي الفرج – والمكانة الرفيعة التي احتلتها بين أدباء عصره . ولا ريب أن شهرة أبي الفرج قامت على كتابة الأغاني هذا الذي قيل في حقه : " انه مكتبة في كتاب والذي كان وما يزال محط أنظار الأدباء والمتأدبين ينهلون من مادته ويعكفون على دراسته .
أبو الفرج الناقد إذا عرفنا رأيه في التجديد والمحافظة , فلقد كان يجري مع الزمن ويعلم أن لكل عصر أطواره . من ذلك رأيه في شعر ابن المعتز : " وشعره وان كان فيه رقة الملوكية , وغزل الظرفاء , وهلهلة المحدثين , فإن فيه أشياء كثيرة تجري في أسلوب – المجيدين ولا تقصر عن مدى السابقين , وأشياء ظريفة من أشعار الملوك ليس عليه أن يتشبه فيها بفعول الجاهلية , وأبو الفرج في ذلك صاحب مذهب غير النقد فهو من المجددين الذين يرون لكل عصر أحواله وخاصة في الذوق والشعر .
سقطات كتابه :
إن كثرة المادة الأدبية التي ضمنها أبو الفرج كتابه فتحت للنسيان طريقا ً إلى نفسه فقد يعد بشيء ولا يفي به في موضعه , وهذا ما اخذ عليه ياقوت الرومي , ومن ذلك قوله في أخبار أبي العتاهية : " وقد طالت أخباره ها هنا , وسنذكر خبره مع عتبة في موضع آخر ولم يفعل ذلك وقال في موضع آخر : " أخبار أبي نواس مع جنان إذ كانت سائر أخباره قد تقدمت منها شيء . . .إلى أشباه ذلك . كما أن الأصوات المائة التي قال انه بنا عليه كتابه هي في الحقيقة تسعة وتسعون صوتا ً ومرد هذا احد احتمالين :
أما أن الكتاب قد سقط منه شيء , أو أن وفرة مادته جعلت النسيان يغلب عليه وبعض سقطات أبي الفرج وأخبار مجونه ولهوه التي شمنها تضاعيف كتابه جعلت ابن الجوري ينظر إلى أبي الفرج وكتابه نظرة ازدراء فقال : " كان يصرخ في كتبه بما يوجب عليه الفسق , ويهوى شرب الخمر , ومن تأمل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر " وقد اخذ عليه من المحدثين الأستاذ زكي مبارك جانب اللهو والمجون فقال :
" إن إسراف أبي الفرج في اللذات والشهوات انعكس على كتابه , فجاء حافلا ً بأخبار الخلاعة والمجون , وحين يعرض للكتاب والشعراء فانه يتهم بسرد الجوانب الضعيفة من أخلاقهم الشخصية ويهمل الجوانب الجدية إهمالا ً ظاهرا ً يدل على قلة عنايته بأخبار الجد والرزا والتجمل والاعتدال . " ومن أهم السقطات التي أخذت عليه : انه كان يسوق بعض الأخبار والقصص بأسانيدها مما يقربها في أذهان الكثيرين , وإذ بهذه الأسانيد غير صحيحة , ومن اطمأن إليها من الباحثين ضل أو أضل .
-أسلوبه في الكتاب :
سلك أبو الفرج في أغانيه مسالك المحدثين فكتابه لا يخلو من عبارات " اخبرني فلان . وروى فلان عن فلان . . . " ثم يذكر بعد هذه العبارات أسانيد الأخبار والروايات والأحاديث وأبو الفرج في ذلك كله كاتب منشئ بألفاظه هو , وإنما يدور على معنى الخبر الذي قد يكون جمعه منذ صغره حسب أخباره بذلك , كقوله في نهايات بعض أخباره : " هذا حفظته من أبي جعفر وانأ صغير السن " وقوله " فإن الحكاية تزيد أو تنقص " , وإذا لم تكن هذه الأخبار من إنشائه فانه ينبه على ذلك كقوله مثلا ً إذ أن كثيرا ً من مغامرات هذا الشاعر الغرامية , كانت من صنع خياله
وأما الأستاذ شفيق جبري فانه حاول استقراء كتاب الأغاني وخرج من دراسته واستقرائه إلى أن الأغاني يضم بين دفتيه موضوعات من حديث عن العامة والخلفاء والكتاتيب والمساجد والمرأة والحج , لم يشر إليها صاحب الأغاني في مقدمته , فخرج –الأستاذ شفيق جبري من ذلك بتساؤلات عن السبب الذي دعا أبا الفرج إلى التستر عليها وعما إذا كان هذا التستر يخفي وراءه قصدا ً إلى تجليه حقائق تتعلق بليالي الساسة الخاصة , والتي أغفلتها كتب التاريخ وكأني به قد خشي صولة السلطان وقرر أخيرا ً أن كتاب الأغاني يصور حياة عصر كاملة والذي نراه ونميل إليه أن الأستاذ جبري قد غالى في نظرته إلى الأغاني حين اعتبره كتاب تاريخ , وهذا الكلام لا يثبت على نظر لان تعميم ظاهرة سيئة على مجتمع بأكمله مدفوعة بالبداهة , وأمر طبيعي إلا يخلو مجتمع من طبقة من المستهترين العابثين , ولعل أبا الفرج كان واحدا ً منهم , كما مر معنا في الحديث عن الخلافة , ونحن في هذا لا ندعي أن كتاب الأغاني قد افرد لأخبار اللهو والمجون كما أشار إلى ذلك الأستاذ زكي مبارك , وإنما هو كتاب أدب قبل كل شيء , رغم ما تضمنه من أخبار العبث واللهو تلك التي جارته من كثرة تتبعه لسقطات الشعراء , وهفوات الكتاب .
-أبو الفرج الشاعر :
إلى جانب ما عرفنا عن أبي الفرج الكاتب المصنف , فقد اثر عنه قرضه للشعر وإجادته فيه , قال فيه هلال بن المحسن , وله شعر جيد إلا انه في الهجاء أجود , وكان الناس يتقون هجاؤه , ويصبرون في مجالسته ومعاشرته , على أن كل صعب من أمره , وقد ذكرنا أبياته في هجاء السيرافي , وأبياته في وصف الخمرة , ولا بأس أن نورد له بعض الأبيات قالها في ضروب مختلفة . فمن هجائه قوله في عبد الله البريدي لما تولى الوزارة من قصيدة له زادت على مئة بيت :
بأسماء اسقطي ويا ارض ميدي قد تولى الوزارة ابن البريدي
جعل خطب وحل أمر عضال وبلاءه اشا برأس الوليد
وقال من قصيدة يرثي بها ديكا كان له :
خطب طرقت به أمر طروق فظ الحلول علي غير شفيق
ابكي إذا أبصرت ريعك موحشا ً بتحنن وتأسف وشهيق
فتأسفي أبدا عليك مواصل بسواد ليل أو بياض شروق
وإذا آفاق ذوو المصائب سلوة وتصبروا أمسيت غير مفيق
المحدث بما له أو عليه , وإن كان أكثر ميلا ً إلى معاني المحدثين وجمال صنعتهم
الباب الرابع عشر
السهروردي
1- مولده ونشأته الأولى
في منتصف القرن السادس الهجري بين سنتي 545 و 549 هـ ( 1150 – 1155 ) ولد شهاب الدين السهروردي في قرية سهرورد , وهي بليدة تقوم في أعالي جبال فارس – العراق العجمي – من أعمال زنجان , وزنجان منطقة خصبة تزهو بطبيعة جميلة باسمة , ومناظر رائعة خلابة وأدغال وغابات كثيفة , أخرجت غير واحد من أكابر الرجال بينهم الفقهاء والعلماء والمتصوفون . وكانت سهرورد ازهي قرى تلك المنطقة , وقد نشأ فيها غير واحد من الفضلاء , وكان الأمام شهاب الدين أشهرهم بما تميزت به حياته من ألوان .
نشأ الطفل شهاب الدين , كأكثر أطفال القرية الذين يوجهون منذ نشأتهم الأولى وجهة دينية فحفظ القرآن , ودرب على تلاوة الأوراد , وكان يؤدي الصلوات الخمس بفرح نفساني عميق , لا يمنعه برد الشتاء القارس في تلك المناطق الباردة أن يحذو حذو أبيه ومشايخه من القيام في ساعة مبكرة لأداء صلاة الفجر يله صلوات التهجد والغفران وقيام الليل .
كانت الصلاة عنده وهو صغير ليست ركوعا ً وسجودا ً وتلاوة سور فحسب بل اتجاها ً كليا ً نحو الخالق العظيم أن يأخذ بيده إلى طريق الخير ويوجه خطواته نحو الصراط المستقيم . . .
تعلم وهو طفل , القراءة والكتابة في فترة قصيرة لم تطل , وكانت أحاطته بهما بهذه السرعة , موضع حديث القرية وما جاورها من القرى .
كان الجميع يتحدثون عن ذكاء الطفل وعن سيره في طريق تختلف كل الاختلاف عن الطريق التي يسلكها أطفال القرية ...
وإذ بلغ مراحل الفتوة , شعر من الأعماق أن هذه القرية التي نشأ في ظلالها لن تطمئن نزعاته إلى ما كانت تهجس به أخيلته . . .
فقد ضاق بسهرورد . أو ضاق به أطفال سهرورد الذين كانوا يريدون منه أن يجاريهم في أهوائهم وعبثهم . . . وان يصعد معهم في الجبال ويهبط الأودية يلعبون ويقنصون . فكان حبه للعم وتفتق ذهنه اليقظ من البواعث الملحة التي حفزته أن يترك بليدته إلى بلدة تكون فيها الدراسة اعم واشمل.
2-أساتذته
كانت " مراغة " وهي من أعمال اذربيجان من المدن التي استفاضت شهرتها بالعلم . فخرجت أكابر العلماء وانبتت شخصيات فذة في شؤون الدين وفي علوم الأولين . . وكان عالمها الأشهر لزمن السهروردي , هو الشيخ مجد الدين الجيلي , وهو من أكابر العلماء الذين عرفوا ببعد النظر وسعة العلم , وقد اشرب قلبه بالحب الإلهي فتتلمذ عليه غير واحد من الأعلام كان في طليعتهم الأمام فخر الدين الرازي .
وما كاد الفتى شهاب الدين التلميذ الناشئ المحب للمعرفة يسمع حلو كعب هذا الرجل حتى هرع إليه يطلب العلم من وطابه . وكانت حلقة دروسه تضم مختلف الشباب ممن استهوى العلم أفئدتهم , وكانوا من مناطق مختلفة وجنسيات متباينة , فقد كانت حلقات دروس أولئك المشايخ الأعلام تقوم مقام الجامعات في يومنا هذا , وقد التقى في حلقة الشيخ مجد الدين , مع فخر الدين الرازي , فكانا يسمعان إلى دروسه بكثير من الوعي دون أن يكون أية صلة سابقة بين التلميذين اللهم إلا هذه الصلة الجديدة , صلة التزاحم على اغتراف علم الشيخ , فكان الرازي مأخوذا ً بدروس علم الكلام , بينما كان السهروردي مأخوذا ً بعلم الكلام والمنطق كمدخل للدراسات الفلسفية .
استهوت السهروردي دروس الفلسفة أكثر من بقية العلوم لمواءمتها نزعته , وكان إلى فرط ذكائه وقوة حججه كثير الجدل وكانت مقدرته الجدلية موضع حديث كل من عرفه أو دخل معه في نقاش , وهذا الذي دفعه أن يمعن في دراسة الفلسفة لتقوي حجته على مناظريه .
وقد شعر بعد ملازمته للشيخ مجد الدين الجيلي وبعد أن حضر عليه زبدة دروسه , انه في حاجة إلى أفق أوسع , وكانت أصفهان ذات شهرة واسعة في العلم أيضا ً . . من زنجان إلى أذربيجان إلى أصفهان يغشى مدارسها ويتصل بعلمائها ويبحث عن نفيس كتبها فقرأ وهو في أصفهان كتاب " البصائر النصيرية " لابن سهلان الساوي . وقد همته بصورة خاصة كتب الرئيس ابن سينا , نعم لقد درج على هذه الحياة منذ نشأته الأولى فما يكاد يسمع برجل له شهرته أو بكتاب له قيمته حتى يشيد إليه الرحال .
في هذه الفترة من بدء حياته المتأرجحة بين علوم الدين من جهة , وعلوم الفلسفة من جهة ثانية , وبين نزعته الدينية التي قادته إلى عوالم صوفية مشعة بالأنوار , في تلك الفترة من حياته , أخذت الحلقات الصوفية تجتذبه إلى رحابها وقد تأثر أي تأثر بهذه الحلقات وبما كتبه الأئمة من المتصوفين فسار سيرهم واخذ يرسم اختلاجاته النفسية في رسائل تعبر عن نزعاته في الدين والحياة والكون وهي مشربة بروح فلسفية تصوفية , وقد أهدى هذه الرسائل , إلى أصدقائه في أصفهان . . .
3- نبوغه المبكر
نشأ السهروردي نشأة أولئك الذين استهوتهم حياة العقل منذ نعومة أظفارهم وما زال حتى بلغ أوج هذه الحياة .
عانى في سبيل الوصول إلى عالم الحق والذات الإلهية الكثير من العذاب والمشقة والعنف والجهد والإرهاق .
بدأ حياة التلمذة في أروقة المدارس وحلقات الجوامع يستمع إلى الأئمة والشيوخ في لهف وشوق . . . ولكن هذه الفترة من حياته لم تطل , فسرعان ما تخطى عهد التلمذة ووصل إلى مصاف الأساتذة : فمن تلميذ حاد الذكاء شديد النهم إلى المعرفة إلى معلم مرشد وأمام من كبار الأئمة ومن دروس النحو والصرف والفقه والتفسير والمنطق , إلى عالم التصوف ودرجات الفلسفة يقرأ ويتأمل , يجادل ويناقش , يكتب ويؤلف يتقشف ويتفلسف .
ولقد هال هذا النبوغ المبكر أساتذته الذين كانوا يضيقون بأسئلته ومناقشاته وبجدله وتخريجاته , , كان يحرجهم بمختلف الاستطرادات . وكثيرا ً ما كان يبزهم بدرايته ويتفوق عليهم في الفهم .
تخطى في برهة قصيرة كل من سبقه من أعلام الفكر وجهابذة المعرفة واستطاع , وهو في شبابه , أن يرسم فلسفته الاشراقية التي لم توطد ركائزها على ما كتبه الفلاسفة والمتصوفون فحسب , بل على ما أحسه وشعر به إلى أن ينسى كل ما في الكون في سبيل الوصول عن طريق " التجرد " إلى الذات العليا .
قرأ ما كتبه فلاسفة اليونان وفلاسفة الفرس والهند وما كتبه المتكلمون والمتصوفة من الإسلاميين , وكن لنفسه فلسفة جديدة قام بعضها على هذا المزيج من الفسلفات , وأكثرها على حياة " التفكير " و " التجرد " . . . وقد خلص من صوفيته ومن شتى دراساته المنطقية إلى نظرات فلسفية جديدة أملاها في الكثير من رسائله وكتبه وكونت بمجموعها " الفلسفة الاشراقية " التي اعتبر زعيمها الأول ومؤسس مدرستها الكبرى .
4- أسفاره:
كانت الأسفار والنقل في مختلف الأقطار بعض هواياته , فلا يكاد ينزل ببلدة جديدة حتى يبحث كما قلنا , عن علمائها ونفيس كتبها , بل عن أئمة الصوفيين يقبس من أنوارهم ما يسدد خطواته نحو المثل العليا : مثل الصوفيين الذين يتجردون عن كل ما في الحياة من مباهج في سبيل الوصول , على قدم التجرد إلى مشاهدة أنوار الحق .
إن نشأة هذا الإنسان نشأة عجيبة .
إنه طالب معرفة .
وكما قال تلميذه الوفي الشهرزوري عنه إنه (( كثير الجولان والطوفان في البلدان , شديدة الشوق إلى مشارك له في علومه )) .
ومن أصفهان إلى ديار بكر .
فحين هبط ديار بكر اتجه إلى خربوط فأنس عند أميرها عماد الدين قره ارسلان الذي كان يحكم تلك المناطق – انس كل مكرمة وتقدير فأهداه كتاب الالواح وهو كتاب في العلوم الحكيمة ومصطلحاتها , فحين توجه باسم عماد الدين سماه (( الألواح العمادية )) .
وعادة إهداء الكتب إلى الأمراء والخلفاء عادة شاملة منذ القدم وكان الخلفاء يبرون الأدباء والعلماء على مجهودهم العلمي ويكافئونهم بالهبات والمبرات ولم يذكر من أرخ للسهروردي مبلغ المال أو الهبة التي نفحه بها الأمير عماد الدين وما كان هذا المتصوف الحكيم ينشد المال والجاه بل كان ينشد المعرفة التي تقوده إلى مشاهدة النور الإلهي . فقد طغت النزعة الروحية في " ذاته " على أوضار المادة وعلى كل معريات الحياة ومباهجها . فما كان يهتم بصلات أمير ولا بهبات ملك .
وبالرغم من الرعاية التي أحيط بها في ديار بكر وخربوط فإن مقامه في هاتين البلديتين لم يطل . . إن نفسه نزاعة إلى آفاق أوسع . قد تكون المعرفة التي تنشدها نفسه هي في غير هذه المناطق . نفس تعتلج بالكثير من التفاعلات ولا سيما بعد أن اسلم قلبه إلى تلك القبسات العلوية , فهو يبحث عنها في يقظته ومنامه . ولا تمر دقيقة من حياته دون أن يستلهم شيئا ً جديدا ً وقد عبر لنا عن قلقه وحيرته وهمومه وآلامه بهذه الكلمة التي ترينا أي رجل هذا الذي ينشد المعرفة :
(( وها هو ذا . . . قد بلغت سني إلى قريب من ثلاثين سنة , وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والفحص عن مشارك مطلع على العلوم ولم أجد من عنده خبر عن العلوم الشريفة , ولا من يؤمن بها )) .
إن هذه السنوات التي قضاها في الأسفار , لم ترو غلته ولم تشبع نهمه لقد قرأ كثيرا ً واتصل بأعلام متفوقين , وغشى حلقات العلماء وأروقة الصوفيين وعاش لحظات طويلة مع الفلاسفة وأقطاب الحكمة . ومع ذلك كان يحس في قرارة نفسه , أن أشياء عويصة لا تزال مغلقة عليه . إنه يريد أن يطوف في مختلف أنحاء الدنيا ليصل إلى ما يكشف له هذه الأمور المغلقة وينتزع من قلبه هذه الغشاوة التي تعقد سحبها في كل خلية من خلايا وجدانه العقلي .
إن المناقشات التي أدارها مع من اتصل بهم في رحلاته لم تطمئن نزعاته انه يريد أن يصل إلى ما هو أسمى في حقيقة الكون , في النبوات , في الذات الإلهية . . .
ولقد كان في مجادلاته ومناقشاته أكثر عنفا ً في تأملاته . . . كان لا يتقيد في مناقشاته بالنصوص بل كان يعتمد على الحجة والعقل . إنه يريد أن يأتي بما لم يات به غيره من المتقدمين , وحين كان يضيق بالمجادلات العميقة كان يلجأ إلى الوحدة والتأمل , ففي عالم الوحدة والتأمل كانت تنكشف له حالات ترتفع به إلى تلك الآفاق الروحية التي يجد في رحابها بعض ما يطمئن نزعاته ويهدئ من ثوراته .
لقد ذاع صيته وطبقت شهرته الآفاق , وأصبح السهروردي وهو في هذه السن من النوابغ والأعلام . وما زال ينتقل من بلد إلى بلد حتى حط عصا التيسار بمدينة حلب
5- آراء العلماء فيه:
آراء الأقدمين : ترك لنا المعاصرون الكثير من الفقرات التي تكشف لنا عن بعض خصائصه الذاتية والعقلية وقد يكون من الأمانة أن ننقل هنا بعض هذه الفقرات .
فقد وصفه الشيخ فخر الدين المارديني وهو عالم متبحر وطبيب قد تصدى لشرح كتب ابن سينا , وكان السهروردي قد قصده في ماردين وناقشه مناقشات حادة . قال الشيخ فخر الدين :
(( ما أذكى هذا الشاب وافحصه لم أجد أحدا ً مثله في زماني . إلا إني أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره وقلة تحفظه , أن يكون ذلك سببا ً لتلافه )) .
وقد صدقت فراسة هذا الشيخ وسنشير إلى ذلك في نهاية هذا الفصل .
وفي معجم الأدباء لياقوت ( 575 – 616 هـ ) :
(( شهاب الدين أبو الفتوح السهروردي , كان فقيها ً شافعي المذهب أصوليا ً أديبا ً شاعرا ً حكيما ً نظارا ً لم يناظره مناظر إلا خصمه وأفحمه )) .
وفي عيون الأنباء لابن أبي أصبيعة ( 595 – 686 هـ ) قوله :
(( كان السهروردي أوحد أهل زمانه في العلوم الحكيمة , جامعا ً الفلسفية , بارعا في الأصول الفقهية , مفرط الذكاء جيد الفطرة , فصيح العبارة , وكان علمه أكثر من عقله )) .
وقال ابن خلكان ( 608 – 681 هـ) :
(( كان السهروردي من علماء عصره قرأ الحكمة وأصول والفقه على الشيخ مجد الدين الجيلي إلى أن برع فيهما )) .
وردد غير واحد من معاصريه كلاما ً مماثلا ً لما قدمناه , وقد رأينا الاكتفاء بهذه الفقرات التي تسجل رأي بعض الأئمة والمؤرخين بعبقرية هذا الشاب .
ب- آراء المحدثين :
وحين عرض له معاصرونا ودرسوا آراءه وكتبه وقارنوا بين فلسفته وفلسفة من تقدموا رأوا هذا العقل الاشراقي المتحرر الذي لم يقف عند هذه الحدود الضيقة من عرضه للمشاكل العقلية بل كان واسع الآفاق حر النزعة واعتبروه الزعيم الأول للمدرسة الاشراقية التي وضع أسسها .
ولطائفة من المستشرقين الفضل الأكبر في الكشف عن نواحي عبقريته فقد نشروا بعض كتبه ولخصوا آراءه الميتافيزيقية وفلسفته الاشراقية وعرضوا عضا ً شاملا ً لنواحي حياته . وقارنوا بين أرائه وآراء من تقدمه من فلاسفة الإغريق والفلاسفة المعاصرين وكان في طليعة المستشرقين الذين اهتموا بآرائه وكتبه " بروكلمن " و " أ . ريتر " الالمانيان , و " فان دي برج " المستشرق الهولندي الذي كتب عنه فصلا ً في " دائرة المعارف الإسلامية " وترجم كتابه " هياكل النور " إلى الهولندية ,.و " ماسينيون " الذي عرض له في أثناء بحوثه عن الحلاج , و" باول كراوس " الذي كتب عنه كثيرا ً ونشر بعض رسائله ولا سيما رسالة " أصوات أجنحة جبرائيل " وكذلك هنري كوربان " المستشرق الفرنسي الذي اهتم بالغ الاهتمام بحياة السهروردي وفلسفته فنشر كتابا ضم رسائله الكثيرة بعنوان " الحكمة المشرقية " وشخصية السهروردي وكتبه تمثلان عند " كوربان " لحظات جوهرية في تاريخ الفكر في الإسلام – عدا كثيرين ممن فتحوا نافذة واسعة للمؤلفين العرب ليبحثوا كتبه وشخصيته في ضوء جديد من البحوث الفلسفية المتحررة .
وهكذا فقد بدأت الدراسات تكثر بين مؤلفي الإسلام والمستشرقين حول شخصية هذا الصوفي الفيلسوف الذي مرت حياته القصيرة من تحت قنطرتي الحياة العقلية والحياة الروحية , بصور متباينة سواء فيما يتعلق بشخصه أم أرائه . وإنها لصور تبدو تارة جميلة من حيث عبقريته الملتمعة , وتارة قاتمة محزنة بالنهاية الأليمة التي انتهت بها مأساة حياته .
6- صورته الجسمانية :
بعد أن طوف السهروردي في مختلف البلدان تناهى إليه صيت حلب كمركز من مراكز الثقافة الإسلامية وكانت حلب حين اعتزم السفر إليها بعد أن مكث مدة في ماردين مع شيخها الطبيب العالم فخر الدين , تحت حكم الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الذي عمل على تعزيز الحركة العلمية التي بدأها وزيره القاضي بهاء الدين بن شداد مع نور الدين محمود زنكي , وذلك بإنشاء المدارس ورعاية العلماء مما جعلها تستعيد مكانتها السامقة في عهد الحمدانيين – كانت حلب منارة من منائر العلم .
وكانت المدرسة الحلوية أشهر مدارس حلب آنذاك تضم كبار العلماء من فقهاء وأصوليين ومتكلمين وأدباء وشعراء .
وكانت شهرة السهروردي قد سبقته إليها , وحرص العلماء حين دخوله المدينة أن يتعرفوا إلى هذه الشخصية العجيبة التي بلغت هذه المرتبة من العلم وهي لا تزال في هذه السن المبكرة .
ولم يكن مظهره يلقي الهيبة والاحترام في نفوس مستقبليه , وللمظهر تأثيره البليغ في نفوس الكثيرين حتى من طبقة العلماء !
كان الحكيم شهاب الدين السهروردي شابا ً غض الاهاب ولكنه أهمل نفسه أو كاد وبلغ الإهمال به حتى كان على حد وقل بعض من أرخ له – (( زري الخلقة دنس الثياب وسخ البدن , لا يغسل له ثوبا ً ولا جسما ً ولا يدا ً ولا يقص ظفرا ً أو شعرا ً )) وزادوا على ذلك فقالوا : (( إن القمل يتناثر على وجهه ويسعى على ثيابه وإن كل من يراه يهرب منه )) .
إن هذا الوصف قد يوائم حقيقة ازدرائه بالمظاهر التي يعتز بها بعض الناي أما قبوله أن تكون ثيابه دنسة – وهو الصوفي الورع – فهذا في اعتقادي مبالغة من الرواة أو بعض إرهاصات خصومه الفقهاء !
فالواقع أن السهروردي كان لا يعنى بالمظاهر فهذه الناحية اتفق عليها أصدقاؤه وخصومه معا ً . . ولكن ليس للدرجة التي اشرنا إليها فقد وصفه تلميذه المحب الشهرزوري صاحب كتاب " نزهة الأرواح :
(( انه كان مستوي القامة – يضرب شعره ولحيته إلى الشقرة , وإنه كان يميل إلى السماع – يريد الموسيقا – وكان يبدي احتقارا ً شديدا ً لكل مظاهر السلطان والأبهة الدنيوية , وكان – في بعضا الأحيان – يلبس ثوبا ً واسعا ً طويلا ً وعمامة زاهية الألوان , و- أحيانا ً أخرى – كان يبدو على العكس من هذا , في ثياب مهلهلة ومرارا ً كان يقتنع بارتداء خرقة الصوفية )).
وقد روى ابن رقيقة هذه الملحة الطريفة فقال :
(( كنت وإياه نتمشى في جامع " ميا فارقين " وهو لابس جبة قصيرة مضربة زرقاء , وعلى رأسه فوطة طويلة وفي رجليه زربول , ورآني صديق لي فأتى إلى جانبي وقال : ما جئت تماشي إلا هذا الخربندا " فقلت له : اسكت هذا سيد الوقت شهاب الدين السهروردي فتعاظم قولي وتعجب وانصرف !)).
وبالرغم من هذا الإهمال لمظهره فقد أحاط به العلماء يتعرفون إليه ويرحبون به .
وحكى بعض فقهاء قزوين قال :
نزلت برباط بأرض الروم في وقت الشتاء فسمعت صوت قراءة القرآن فقلت لخادم الرباط : من هذا القارئ ؟
فقال : شهاب الدين السهروردي . . .
قلت : إني منذ مدة سمعت به وأردت أن أراه فأدخلني عليه .
فقال : لا يدخل عليه احد , لكن إذا علت الشمس يخرج ويصعد السطح ويقعد في الشمس فأبصره !
قال : فقعدت على طرف الصفة حتى خرج , فرأيت عليه لبادا ً اسود وعلى رأسه أيضا ً قلنسوة من لباد اسود , فقمت وسلمت عليه وعرفته إني قصدت زيارته وسألته أن يجلس معي ساعة على طرف الصفة , فطوى مصلاي وجلس فجعلت أحدثه وهو في عالم آخر ...
فقلت : لو لبست شيئا ً غير هذا اللباد !
فقال : يتوسخ .
فقلت : تغسله .
فقال : يتوسخ .
فقلت تغسله .
فقال ما حييت لغسل الثياب . لي شغل أهم من ذلك .
وتروي كتب التاريخ الكثير عن ازدرائه هذه المظاهر , فقد وصف صفي الدين خليل بن أبي الفضل الكاتب دخوله مدرسة الحلوية . بقوله :
حدثنا الشيخ ضياء الدين بن صقر , رحمه الله تعالى إن في سنة خمسمائة وتسعة وسبعين قدم إلى حلب الشيخ شهاب الدين السهروردي ونزل مدرسة الحلوية وكان مدرسها يومئذ الشريف رئيس الحنفية افتخار الدين رحمه الله , فلما حضر شهاب الدين الدرس , وبحث مع الفقهاء كان لابسا ً دلق وهو مجرد بإبريق وعكاز خشب وما كان احد يعرفه , فلما بحث وتميز بين الفقهاء , وعلم افتخار الدين انه فاضل اخرج له ثوبا ً عنابيا ً وغلالة وبقيارا ً وقال لولده :
تروح إلى هذا الفقير وتقول له والدي يسلم عليك ويقول لك : أنت رجل فقيه , وتحضر الدرس بين الفقهاء (( وقد سير لك شيئا ً تلبسه إذا حضرت , فلما وصل إلى الشيخ شهاب الدين وقال له ما أوصاه سكت ساعة وقال : يا ولدي حط هذا القماش وتفضل اقض لي حاجة .
واخرج له فص بلخش في قدر بيضة الدجاجة , رماني , ما ملك احد مثله في قده ولونه وقال : تروح إلى السوق تنادي على هذا الفص , ومهما جاب لا تطلق بيعه حتى تعرفني , فلما وصل به إلى السوق قعد عند العريف ونادى على الفص , فانتهى ثمنه إلى مبلغ خمسة وعشرين ألف درهم , فأخذه العريف وطلع إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين , وهو يومئذ صاحب حلب , وقال هذا الفص جاب هذا الثمن . فأعجب الملك الظاهر قده ولونه وحسنه فبلغه إلى ثلاثين ألف درهم فقال العريف حتى انزل إلى ابن افتخار الدين وأقول له .
واخذ الفص ونزل إلى السوق وأعطاه له وقال له رح شاور والدك على هذا الثمن .
واعتقد العريف أن الفص لافتخار الدين , فلما جاء إلى شهاب الدين السهروردي وعرفه بالذي جاب الفص صعب عليه , واخذ الفص وجعله على حجر , وضربه بحجر آخر حتى فتته وقال لولد افتخار الدين خذ يا ولدي هذه الثياب ورح إلى والدك قبل يده عني وقل له لو أردنا الملبوس ما غلبنا عنه . فراح إلى افتخار الدين وعرفه صورة ما جرى فبقي حائرا ً في قضيته )) .
نعم بالرغم من هذا الإهمال لمظهره الذي لا يثير التجلة والاحترام فقد أحاط به العلماء يتعرفون إليه ويرحبون به , ولكن ترحيب الحذر من شاب جريء ذكي الجنان بليغ العبارة يحمل آراء اعتبرها بعض الفقهاء المتزمتين الذين يكرهون الصوفية – اعتبروها هرقطة وخروجا ً على روح الدين .
على انه لم يهتم بهذا اللغط الذي أثاره البعض فاخذ يجالس العلماء الثقات ويستمع إلى الدروس ثم يعود إلى غرفته بدون آراءه ويفضي بها إلى خلص أصحابه ومريديه
من سهرورد إلى مراغة – من بلدته في زنجان إلى أذربيجان إلى ديار بكر وأخيرا ً إلى حلب . إلى المدرسة الحلوية التي جعلها مقره ومستقره والتي اجتذبت إلى أروقتها ورحابها كبار العلماء والحكماء والمتصوفين .
ولا بأس من كلمة عن هذه المدرسة الوثيقة الصلة بحياته وبمأساته .
قال ابن الشحنة في الدر المنتخب :
(( المدرسة الحلوية كانت كنيسة من بناء هيلانة أم قسطنطين جعلها القاضي أبو الحسن بن الخشاب مسجدا ً بسبب ما اعتمده الإفرنج من بعثرة قبور المسلمين وإحراقهم دورها حين حصارهم حلب في سنة ثمان عشرة وخمسمائة .
وكانت تعرف بمسجد السراجين , فلما ملك نور الدين جعلها مدرسة وجد بها مساكن يأوي إليها الفقهاء . . .
وكان مبدأ عمارتها في سنة أربع وأربعين . وهي أعظم المدارس صيتا ً وأكثرها طلبة وأغزرها جامكية )) .
وقال : ومن شروط الواقف أن يجعل في كل شهر رمضان من وقفها ثلاثة آلاف درهم للمدرس يصنع بها طعاما ً للفقهاء .
وفي ليلة النصف من شعبان في كل سنة حلوى معينة .
وفي الشتاء ثمن لباس لكل فقيه . شيء معلوم .
وفي أيام شرب الدواء من فصلي الربيع والخريف ثمن ما يحتاج إليه من دواء وفاكهة
وفي المولد أيضا ً الحلوى . وفي الأعياد ما يرتفقون فيها – دراهم معدودة .
وفي أيام الفاكهة ما يشترون به من أنواعها بطيخا ً ومشمشا ً وتوتا ً )) .
هكذا كان الواقفون المسلمون يتقربون إلى الله بالبذل على العلماء الذين ينقطعون لنشر العلم بمختلف صنوفه وإشاعة الروح الإسلامية في نفوس أفراد الأمة .
وقد يسأل البعض لماذا سميت المدرسة الحلوية ؟
هناك أقوال متضاربة حول هذه التسمية . فمن قائل – والرواية لابن الشحنة – إن نور الدين الشهيد بن زنكي كان يحشو القطائف للفقهاء , ويملأ الجرن الموجود في فناء المدرسة – فيجتمعون عليه ويأكلونها .
ويقول الطباخ صاحب إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء :
إن هذه المدرسة كانت مسجدا ً يعرف بمسجد السراجين . والظاهر انه سمي بذلك لسراجين كانوا بجانبه , ولا يعرف ذلك السوق بسوق الحلاويين وقتئذ فيغلب على الظن في تسميتها بالمدرسة الحلوية , ما هو مشهور بين الناس , وهو هذه الحلوى التي كانت تصنع للفقهاء وتوضع في هذا الجرن .
وقد ظلت هذه المدرسة عبر القرون منارة من منائر الشرع الإسلامي أمها جهابذة أعلام من أقصى أقطار العالم ينهلون من ينابيعها الثرة في طليعتهم المتصوف الكبير جلال الدين الرومي وغيره وغيره من كبار العلماء والفقهاء .
وحين فرغ من بنائها على عهد نور الدين الشهيد استدعى لها الأمام برهان الدين احمد بن علي الأصولي السلفي للتدريس فيها , ولما توفي تولى التدريس الأمام الفاضل رضي الدين بن محمد أبو عبد الله السرخسي صاحب المحيط , ثم تولى هذا المنصب إسماعيل الغزنوي البلخي , ثم صاحب التصانيف البديعة في أحكام الشريعة علاء الدين وهو صاحب " بدائع الصنائع " في الفقه الحنفي , ثم ولى التدريس الأمام افتخار الدين عبد المطلب بن الفضل الهاشمي الذي شرح " الجامع الكبير " أوفى شرح ...
ثم تولى التدريس تاج الدين أبو المعالي وما زال إلى أن انتهى الأمر إلى قاضي قضاة حلب ومؤرخها الكبير لمكي الدين ابن العديم الذي تتلمذ عليه كثيرون .
من ثبت هذه الأسماء نعلم المكانة التي كانت لهذه المدرسة بل مكانة حلب من العلوم الإسلامية . وهذا الذي حدا بأكابر المفكرين أن يقصدوها من كل صوب .
وقد قصدها السهروردي ليتعرف إلى وجهة نظر علمائها وليبحث معهم ما اكتز به صدره وما تهجس به نفسه .
إنه جاء طالب علم وحكمة فهل وجد ضالته ؟
هل أنس عند علماء حلب وفقهائها هذا المجهول الغامض الذي يسعى وراءه والذي حفزه وان يقطع المسافات الطويلة للوصول إلى بغيته ؟
لقد كان هو في واد وفقهاء حلب في واد آخر .
ولهذا التباين في وجهات النظر قصة طويلة تتصل بمأساته التي ترجئ الحديث عنها إلى الفصل الآتي .
ولا علينا أن نستوفي الحديث عن مراحل نشأته , وعن بعض أطوار حياته , وبذلك نعطي صورة صادقة عن التيارات التي رافقت حياة هذا الحكيم الاشراقي .
قلنا أن السهروردي , بعد أن طوف في مختلف البلدان تناهى إليه صيت حلب كمركز من مراكز الثقافة الإسلامية فأمها , وقبل أن يصل حلب كانت شهرته قد سبقته إليها .
وقد حرص العلماء حين استقر به المقام في حلب أن يتفرقوا إلى هذه الشخصية العجيبة التي بلغت هذه المرتبة من العلم وما يزال في هذه السن المبكرة , وقد أضيف إلى معلوماته علم السيمياء , فألصقت به حكايات وأساطير منهم من ردها إلى كرامات الأولياء , ومنهم من ردها إلى شعوذات السمائيين الأذكياء .
قال ابن اصيبعة نقلا ً عن الحكيم إبراهيم بن أبي الفضل بن صدقة انه اجتمع بالسهروردي وشاهد منه ظاهر " باب الفرج " وهم يتمشون إلى الميدان الكبير ومعه جماعة من التلاميذ وغيرهم , وجرى ذكر هذا الفن – السيمياء –وبدائعه , وما يعرف الشيخ منه , وهو يسمع . فمشى قليلا ً وقال : ما أحسن دمشق وهذه المواضع ؟
قال : فنظرنا , وإذا من ناحية الشرق جواسق عالية متدانية بعضها إلى بعض , مبيضة , وهي أحسن ما يكون بناية وزخرفة , وبها طاقات كبار فيها نساء ما يكون أحسن منهن قط , وأصوات مغان وأشجار متعلقة بعضها مع بعض , وانهر جارية كبار لم نكن نعرف من ذلك من قبل .
فبقينا نتعجب منذ لك وتستحسنه الجماعة وانذهلوا لما رأوا .
وقال الحكيم إبراهيم فبقينا كذلك ساعة . . .
ثم غاب عنا وعدنا إلى رؤية ما كنا نعرفه من طول الزمن . . .
قال لي : إلا انه عند رؤية تلك الحالة الأولى العجيبة بقيت أحس في نفسي كأني في سنة خفية ولم يكن إدراكي كالحالة التي أتحققها مني )) .
أصحيح أن دمشق انتقلت إلى حلب بغوطتها وجوسقها وأنهارها وحسانها ونغمات فنانيها ؟
لا فقد خيل إليهم ذلك ؟
ولكن ما هي الطريقة التي لجأ إليها السهروردي حين سأل عن علمه بفن السيمياء , حتى أقنعهم انه يملكه ! .
ألجأ إلى التنويم المغناطيسي أم إلى ظواهر الروح ؟
إن العلم الحديث يقر اليوم " ظاهرة الجلاء البصري وفيها يرى الوسيط صورة لشيء ما لا يراها الغير , وتكون الرؤية باستعمال حس فوق الحس الفيزيقي طبعا ً , وتختلف حالات الرؤية وضوحا ً : من صورة ذهنية قوية إلى أخرى خارجية يراها الوسيط كما يرى الرائي أية صورة بالحس العادي .
كما أنها تختلف مكانا ً : إذ قد يراها الوسيط تتخذ محلها في نفس المكان الذي يكون فيه , وقد تبدو له في مكان آخر يبعد عن مكانه , وربما وصل هذا البعد آلاف الكيلو مترات بل ربما تبدت هذه الصورة للوسيط من جانب العالم الآخر , فيرى منه مناظر وأشخاصا ً رؤية حقيقية .
وقد اثبت الدكتور ج . ب . راين أستاذ علم النفس بجامعة دبوك بالولايات المتحدة :
1- إمكان التفاعل بين عقلين , عن قريب أو بعيد , بغير ما وسيلة مادية .
2- استطاعة العقل البشري الدخول في علاقة نشاط إدراكي مع المادة بغير استعمال أي من الوسائل الحية الذاتية المعروفة .
3- استطاعة هذه القوى العقلية أن تعلو على الحدود المكانية .
4- استطاعتها كذلك أن تعلو على الحدود الزمنية .
إننا نمر بهذه الحادثة – حادثة إراءتهم دمشق وغوطتها وجوسقها وأنهارها وحسانها ونغمات فنانيها دون تعليل ودون أن ننكر أن هناك قوى روحية للإنسان مستقلة تمام الاستقلال عن قواه الفيزيقية .
8- مأساته
اخذ السهروردي يحضر كتلميذ متواضع دروس شيخ المدرسة الحاوية الشريف افتخار الدين , يريد أن يقبس من شيخ حلب أنوار العلم ومصباح الهداية مما لم يصل إلى سمعه . ومرت الأيام وهو يستمع , فشعر انه لم يفد شيئا ً . . . وبدأ حياة المناظرة والجدل مع أستاذه ومع فقهاء حلب وكانوا يكونون عنه فكرة سيئة , وبدأت آراؤه وأقواله تنفذ إلى الهيئات العلمية في المدارس والجوامع والمنتديات , وأصبح له شأنه , أحبه أ ناس وكرهه آخرون , شأنه في ذلك شأن ذوي المواهب الفذة الذين لا يكادون يظهرون حتى تتألب عليهم عناصر الجهل والغباء وتعمل على إطفاء نورهم ووأد ملكاتهم وعبقرياتهم .
وقد تطور الجدل العلمي إلى خصومة رعناء .
اخذ الفقهاء يتقولون عليه أشياء لم يقلها , وينسبون إليه آراء لم يفه بها .
واستطاعوا أن يثيروا عليه نقمة الرأي العام , ولا سيما بعد أن ناظرهم في عدة مسائل فلم يثبت له احد منهم , وظهر عليهم كلهم , . . . عدا شيخه المفضال – شيخ المدرسة الحلوية – الذي ظهر فضله له فقرب مجلسه وأدناه . . .
وقد زاد هذا التقرب من الشيخ بغضا ً وضغينة من خصومه الذين يقلبون علمه جهلا ً , وهديه ضلالا ويقينه شكا ً وإيمانه كفرا ً وتصوفه شعوذة وفلسفته هرقطة , وكل حسناته سيئات !
وأكثروا من تشنيعهم حين اخذ الشيخ يمهد له عند السلطان , الذي حرص بعد هذه الضجة التي ثارت حوله , وبعد أن أفرطوا في الحط من مكانته العلمية وبعد أن أهموه بالزيغ وانحلال العقيدة – حرص الملك الظاهر أن يتعرف عليه وان يلمس مدى الصدق في أقوال علماء مملكته , ورثة الأنبياء ومصابيح الأمة الهداة !
استقبله الملك الظاهر في قصره الجميل , ورحب به أجمل ترحيب , ودارت الأحاديث حول الضجة القائمة حوله , فما كاد السهروردي يفيض في الحديث : حتى لمح فيه سمو الحكمة وإشراق الذهن . ونبين البون الشائع بين عقلية " علماء المملكة " وبين عقلية السهروردي المتحررة من كل قيد . وهنا . رأى المليك أن يكون الحكيم شهاب الدين من خلصائه , فقربه إليه وانزله أعظم منزلة من نفسه . . .
ولكن هذا العطف السامي زاد قلوب العلماء عليه حقدا ً , فاخذوا يشنون عليه الحملة تلو الحملة , ولم يتركوا نقيصة من النقائص – عدا رميه بالإلحاد –والزندقة – إلا ألصقوها به !
كان السهروردي في واد . . . وكان خصومه الفقهاء كما قلنا ’في واد آخر . انه جاء مدينة حلب ليتابع رسالته الاشراقية , ليكتب ما اختزنه صدره من آراء واتجاهات , ليبدع في الفلسفة الإسلامية اصدق النظريات . وبعد . ليتابع رحلاته إلى مختلف عواصم الدنيا – في الشرق وفي الغرب , يقف على مدى تطور الفكر ويستزيد علما ً ومعرفة , شأنه في ذلك شأن الأفذاذ الذين لايروى نهمهم من العلم . . .
إن صدره ممتلئ بالآمال الجسام . لقد وعى فلسفة الإغريق وفلسفة الهند وفارس والفلسفة الإسلامية على مختلف عصورها , وهو يريد أن يبدع من هذا المزيج , فلسفة جديدة رسم خطوطها الواضحة في فلسفته الاشراقية . . .
إنه بلغ هذه المرتبة العلمية وهو في الثلاثين من عمره . فماذا يكون شأنه حين يبلغ الستين مثلا ؟
لقد وضع في حلب برنامجا ً ضخما ً لحياته الفلسفية وللمؤلفات التي ستخطها براعته. ولكن إرهاصات الفقهاء , لم تقف دون إبداعه فحسب بل ائتمرت على حياته . لقد استطاعوا أن يثيروها عليه حملة شعواء وكادت تنشب فيه أظفارها لولا حماية الملك له . . . وقد انشطر الرأي العام الحلبي شطرين : هذا معه وذاك عليه .
وعلام ؟
إن انتصاره عليهم حفزهم أن يزيلوه من الوجود . ولا سيما أن هذا الانتصار قد مس مركزهم في المجتمع ولدى الملك وعند الدهماء بصورة خاصة .
وألفوا وفدا ً لمقابلة الملك الظاهر . وجروا معهم جمهورا ً كثيفا ً من الدهماء للتأثير فيه . . وقد استمع إليهم بصدر رحب واخذ يناقشهم بهدوء ورفق فذهبت محاولتهم عبثا ً . لقد طلبوا من الملك أن يصدر أمره بهدر دمه فهاله الطلب . كيف يهدر دم شاب عالم متصوف رأى فيه إنسانا ً اشرب قلبه بحب الله , وصوفيا ً يعد في مرتبة كبار المتصوفين وقد سمع منه آيات بلغت السمو في الإشراق ؟ !
لقد هال الملك الظاهر أن يصبح الفكر المشرق هزأة بيد إنصاف العلماء فردهم من حيث أتوا , ولم يلتفت إلى هذه الإرهاصات التي تعطل حرية الفكر وحيوية الإنتاج والإبداع . . .
وضاق الفقهاء كل الضيق من موقف الظاهر منهم وحمايته للسهروردي . فماذا يعملون ؟
لجأوا إلى أبيه الملك صلاح الدين يستفزون عاطفته الدينية , وسيرة صلاح الدين مشهورة بالتقى والورع وببغضه كتب الفلاسفة وأرباب المنطق , ومما أوهموا به صلاح الدين قولهم أن صحبة الملك الظاهر للسهروردي ستكون مدعاة لفساد عقيدته وعقائد الناس , وزادوا في التهويل حين ضمنوا رسالتهم العبارة الآتية (( أدرك ولدك وإلا تتلف عقيدته )) .
فما كان من صلاح الدين إلا أن كتب إلى ابنه بإبعاد السهروردي ونفيه ولكن الملك الظاهر , وهو عليم بسر هذه المأساة التي أجادوا تمثيلها , لم ينفذ أمر أبيه .
فثار اللغط من جديد . وضج العلماء وانقسم الناس قسمين : قسم معه وقسم عليه .
قال القاضي ابن شداد : (( أقمت بحلب فرأيت أهلها مختلفين فيه , منهم من يصدقه , ومنهم من يزندقه والله اعلم )) .
نعم ضج العلماء من سلوك الظاهر وتحيزه للرجل الذي حجبهم وكشف الكثير من جهالتهم , وكان أكثرهم غيظا ً وضجيجا ً وأشدهم نقمة الشيخان زين الدين ومجد الدين ابنا حميد . . .فما كان منهما إلا أن أثارا ثائرة العلماء فجمعوا جموعهم من جديد وطلبوا إلى الملك الظاهر في إلحاح شديد أن ينفذ أمر أبيه . ويظهر أنهم أحرجوه عند أبيه وعند سواد الشعب معا ً . ورأى أن خير طريقة للخروج من هذا الإلحاح أن يعقد مجلسا ً للمناظرة فيما هم مختلفون فيه مع غريمهم لاعتقاده أن السهروردي سيحجهم وينتصر عليهم وتهدأ ثائرة هذه الضجة . . . واستمهلهم أن يكتب إلى ابيه بذلك فرفضوا بهذا الحل , وكتب إلى أبيه يطلب منه الموافقة على عقد مجلس للمناظرة قبل أن ينفيه , فوافق صلاح الدين على هذا الاقتراح . . .
وذاع الخبر في المدينة . وفي حلقات المدارس وأروقة الجوامع . وسرى في نفوس العوام سريان النار في الهشيم , وباتوا ينتظرون الحكم بالموت على هذا الزنديق المارق بلهف وشوق . وقد حكموا هم عليه بالموت سلفا ً قبل أن ينعقد مجلس المناظرة وقبل أن يصدر أمر السلطان بهدر دمه . هذا هو منطق العوام وكثيرا ً ما تلعب الأهواء – ولا سيما الأهواء التي لها صلة بشؤون الدين – دورها الخطير في قضايا الفكر .
وبعد أيام انعقد المجلس واحتشد العلماء . وأخذت الأسئلة تنصب عليه من كل صوب , وكان يجيب بهدوء واتزان , ويدعم أجوبته بالبراهين والحجج – براهين أصحاب المنطق وحجج الفلاسفة وروحانية المتصوفين الذين يستمدون قواهم من روح الله . . .
ودحضت هذه الحجج والبراهين . فالفلسفة لون من الضلال والزيغ . . ومن اشتغل بها كان فاسد العقيدة . وارتفعت الأصوات في وجه السهروردي تنكر عليه الاستدلال بالمناطقة في مناظرته . ولم تكن حججه مستمدة من أقوال الفلاسفة بل من صميم الدين . ومع ذلك فقد اعتبروا حججه سفسطة . فمزج العلوم الشرعية بالمنطق من البدع والمنكرات – بهذا المنطق كانوا يجادلونه , ومع ذلك فقد تغلب عليهم وأفحمهم في جميع القضايا التي أثاروها , ولما طال الجدال بدون أن ينتهي إلى نتيجة وجهوا إليه السؤال الآتي : (( قالوا : . . . انك قلت في بعض تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبيا ً , وهذا مستحيل .
قال وما وجه استحالته ؟ فإن الله القادر هو الذي لا يمتنع عليه شيء )) .فلم يفرق لسائليه بين الممكن في حد ذاته والممكن الذي اخبر القرآن بأنه لم يقع .
ولم يتركوه يدلي برأيه فوقفوا عند هذا الجواب وحكموا عليه بالكفر وجردوه من الإيمان واتهموه بانحلال العقيدة والتعطيل وسرعان ما نظموا وثيقة كفره وأذاعوها على الناس وهي تفتي بهدر دمه.
أين هذه الوثيقة ؟ إن جميع من أرخ للملك الظاهر أو للسهروردي لم يوردوا نصها , واكتفوا بالالماع إليها .
وهكذا فقد نجحت المؤامرة , ورمي السهروردي بالكفر والتعطيل . وحكم عليه بالموت
وقد تأثر الملك الظاهر لهذه النهاية . حاول أن يصونه من دسائس الفقهاء وان يحميه من مؤامراتهم , ولكن محاولته ذهبت بددا ً . وشاءت إرادة الله الذي لا يمتنع عليه شيء حتى خلق النبوات أن يكون مصرع هذا الحكيم على يد من اصطفاه وفضله على الكثيرين . فقد أذعن الملك الظاهر إلى فتوى العلماء وصدرت إرادته بتنفيذ الحكم !
أيقتل أم يصلب أم يسلم إلى خصومه وأتباعهم يقطعون جسم هذا الكافر الزنديق أربا ً أربا ً ؟
يخيل ألينا أن الملك الظاهر طلب من صديقه الفيلسوف أن يختار ميتته فطلب أن يحبس في مكان ما , ويمنع عن الأكل والشرب إلى أن يموت . . .
وكأن السهروردي أراد أن يمتحن نفسه , وان يحقق نزعاته الصوفية بهذه الميتة التي أرادها له المتنطعون . فحياة الصوفيين لون من العذاب , أو هي الفناء في سبيل الحقيقة العليا , وليس أحب إلى نفسه أن يمتنع عن الأكل وعن الشرب أياما ً . وان يعيش زاهدا ً متقشفا ً إلى أن يلقى ربه . .
لقد اختلفت الروايات في مصرعه .
في رواية : أن الملك الظاهر سجنه ثم خنقه في سجنه بقلعة حلب , وذكر القزويني في كتابه " أثار البلاد وأخبار العباد " انه لما قبض عليه بحلب حبس في دار , فرأوا مكتوبا ً على جائزة لا يوصل إليها إلا بالسلاليم : (( بيت الظالم خراب ولو بعد حين )) , وكان كذلك : ذهب الملك عن الملك الظاهر عن قريب وخرب بيتهم .
وعن سبط ابن الجوزي في تاريخه عن ابن شداد انه قال : (( لما كان يوم الجمعة , بعد الصلاة في العاشر من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وخمسمائة اخرج الشهاب السهروردي ميتا ً من الحبس بحلب فتفرق عنه أصحابه )) .
نعم تفرقوا عنه وقبعوا في دورهم ينكرون هذا الطغيان الذي مس حرية الفكر . وقد تأثر الملك الظاهر وندم على فعلته . وحقد كثيرا ً على من جروه إلى هذا المأزق الحرج الذي أودى بحياة هذا الفيلسوف الحكيم الذي تجرد عن الدنيويات , وكتب في عهد شبابه أصفى التأملات .
ندم الملك , ولكن ما عساه يفعل انتقاما ً لذكراه ؟
يقول المؤرخون :
(( إنه نقم على جميع من أفتوا بقتله , فقبض عليهم ونكبهم وصادر جماعة منهم بأموال عظيمة )) .
فهل أرضى بفعلته هذه أنصار السهروردي ومريديه ؟
ربما . ولكن هيهات أن يكون قد انتقم للفكر بعمله هذا , وستظل ميتة السهروردي لطخة سوداء في تاريخ الظاهر الأيوبي على ما امتاز به حكمه من حسنات .
جوانب السهروردي
1- نزعته الصوفية
في الفترة القصيرة التي عاشها السهروردي , وقد عرفنا أن دمه قد هدر وهو في السادسة والثلاثين من عمره – في هذه الفترة القصيرة استطاع أن يفتح مجرى طويلا في حياة العقل .
فقد نزع منذ صغره نزعة المتصوفين الذين يزدرون كل مظاهر الحياة , وتعزف نفوسهم عن كل مباهجها , ويعيشون حياة الزهد والتقشف , همهم الخلاص مما هم فيه من (( شرط الوجود الإنساني الضيق المتهافت المحدود لبلوغ درجة الخلود الأبدي والعيش السرمدي ونيل رتبة كونية إلهية )) . فقد رأى صوفية الحلاج الذي اندفع وراء النور الإلهي هذه الأضواء الجميلة التي اجتذبته إلى عالمها , فسرعان ما سعى وراء هذا العالم المغلق , فلبس لباس الصوفيين مظهرا ً وحقيقة , وتجلبب جلبابهم وطرس على آثارهم وشغل قلبه بكل ما يوصله إلى الفيض الإلهي .
(( تباركت ربنا خالق النور ومبدأ الوجود , ارزقنا شوق لقائك , والصعود إلى جناب كبريائك , واجعل ذواتنا من الطاهرات الكاملات , فالفارقات العائدات إليك , إنك ولي الأيد وصاحب الطول العظيم المجيد .)).
ولكن هذه الحياة الصوفية التي كشفت له الكثير من العوالم لم تشبع نهمه إلى المعرفة فقد حاول عن طريق العقل أن يصل إلى ما لم يصل إليه غيره من المتصوفين ومن الفلاسفة والمتكلمين . فعكف على دراسة حياتهم وقراءة كتبهم ومناقشة أقوالهم دراسة فهم وتدبر وتأمل دفعته إلى أن يرفض الكثير من الآراء بعد نقدها وغربلتها . وما زال إلى أن ارتضى لنفسه نزعة جديدة وفلسفة جديدة عدها لباب الحكمة وفيضها المشرق .
ورأى في حياة الفلاسفة الذين عاش معهم عن طريق الفكر والروح الصفوة المختارة من أجناس البشر . فكانت " إنسانيته المشرقة " ابرز شيء في حياته الصوفية والفلسفية معا ً . فالفلاسفة عنده " رجال أسرة واحدة وفروع شجرة مباركة بما فيها من ثمار وخيرات , فأمبدوقل , وفيثاغورس وأفلاطون وارسطوطاليس , وبوذا وهرمس ومزدك وماني وإن انتسبوا إلى شعوب مختلفة هم أبناء الإنسانية أولا وبالذات , ورسل السلام والإصلاح " .
على أن امتزاج روحه بروحهم , من ناحية التأمل والتفلسف ورؤية الحياة على حقيقتها , لم تمح شخصيته , بل كان أولئك الفلاسفة الأفذاذ الذين يتناولون الفكرة لتمحيصها على مختلف الوجوه , وكثيرا ً ما ينقدونها ليقيموا على أنقاضها فكرة جديدة تكون أكثر بهاء واشد وهجا ً وإشراقا ً .
فالفلسفة اليونانية التي نقلها العرب , ولا سيما المنطق الارسططاليسي الذي ظل فترة طويلة ( قانون العقل الذي لا يرد والمنهج العلمي الثابت , تعاريفه وحدوده ثابتة , وإحكامه وقضاياه مسلمة , واقيسته منتجة لليقين وموصلة إلى العلم من حيث هو ) , إن هذا المنطق الممزوج بالهيات الفلاسفة قد اعتبره الكثير من الفقهاء والأصوليين والمتكلمين مما يخالف عقائد المسلمين , وقد تصدى لنقده الكثيرون وأقاموا منهجا ً جديدا ً استمدوا أصوله من روح إسلامية بحتة . . .
وقد وقف السهروردي إزاء هذا الصراع الفلسفي موقف الباحث المفكر الذي يناقش الفكرة من حيث هي مجردة عن كل لبس وغموض – وقف من المنطق الارسططاليسي مثلا ً موقفا ً مزدوجا ً , رفضه أولا ً ثم وضع منطقا ً ثانيا ً وهو بهذا قد جعل التفكير الحر أساس بحوثه , وقد دعم لون تفكيره بذوق صوفي (( لم يحصل لي أولا ً بالفكر , بل كان حصوله بأمر آخر , ثم طلبت عليه الحجة )) أي انه حصل عليه بالذوق ثم حاول البرهنة عليه نظريا ً .
لقد أقام السهروردي تصوفه على دعائم فلسفية . أو انه – وهذا الأصح قد أقام دعائم فلسفته على اشراقات صوفية , فما من فكرة أو حالة عرضت عليها اعمل فيها روحه وذوقه وفلسفته , وقد سمى الكثير من أبحاثه الجديدة (( ضوابط اشراقية )) ففي كتابه " حكمة الإشراق " يقرر أن بحوثه تبدأ على سياق يبني على الذوق والكشف ومشاهدة الأنوار بخلاف سياق المشائين الذي يبنى على البحث الصرف .
قرأ الفلسفة اليونانية قراءة درس وتبصر , وقايسها على غيرها من الفلسفات , وأعطاها رفيع منزلتها , ثم عكس عليها هذه الأضواء من روحه وذوقه وكشفه نزعاته وإذا هو ينقض الكثير من أسسها ليقيم على أنقاضها فلسفة جديدة أطلق عليها أئمة الفكر من شرقيين وغربيين (( الفلسفة الاشراقية )) واعتبروا السهروردي مبدعها وواضع أسسها ومدرستها .
ما هي خطوط هذه الفلسفة ؟
نقف قليلا ً عند كلمة " الإشراق " التي شغلت غير واحد من مفكري الغرب المستشرقين , فمنهم من قال إن كلمة إشراق تتصل من ناحية المعنى بالألفاظ العربية الدالة على الشرق . ومنهم من ترجمها بلفظة تدل على الإضاءة .
يقول ده سلان , سنة 1868 في ترجمته لمقدمة ابن خلدون : (( إن اللفظ الذي ترجمناه هنا بكلمة أي إشراقي هو لفظ مشرقية , وانأ اعتبر هذا اللفظ اسم فاعل من الفعل أشرق والمصدر منه " إشراق " واليه نسب فقيل اشراقيون ومعناه يدل على طائفة من الفلاسفة .
وبعد أن ذكر أسماء ثلاثة مؤلفين شرقيين بمناسبة فلسفة الإشراق ختم كلامه بقوله :(( إن المرحوم الدكتور كيورتن قد بحث هذه المسألة في التعليقات والتصحيحات لفهرست مكتبة بودلي المجلد 2 ص 532 )) وانتهى من بحثه إلى أن " الحكمة المشرقية " معناها حكمة الاشراقيين ويجب أن لا تترجم بما يدل على " الحكمة الشرقية " .
وقد رفض دوزي بحاسته الفيلولوجية ما انتهى إليه دوسلان فوافق على أن " الحكمة المشرقية هي الاشراقية .
وترجم ه. درابنور لفظ إشراقي أي من أتباع الفلسفة الاشراقية بكلمة أي روحاني , وهي ترجمة غير موفقة , ولا يتردد في أن يستعمل نفس هذه الترجمة للفظ مشرقي .
ويقول كاراداي فو " المشرقية " أي الاشراقية بمعنى الشرقية نسبة إلى الشرق .
ويطول بنا المجال لو رحنا نسرد آراء المستشرقين في المغزى الذي أراده السهروردي من فلسفة الإشراق .
2- فلسفته :
إن مبدأ الفلسفة الاشراقية وأساسها الأول – ( أن الله نور الأنوار ومصدر جميع الكائنات فمن نوره خرجت نوار أخرى هي عماد العالم المادي والروحي, والعقول المفارقة ليست إلا وحدات من هذه الأنوار تحرك الأفلاك وتشرف على نظامها )) .
فالإشراق , بمدلوله العميق , هو " الكشف " أي ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها بالاشراقات على الأنفس عند تجردها .
لقد شغل السهروردي بالإشراق عن كل شيء بالحياة – وإنا لنلمس نفحات هذه الفلسفة في الكثير من كلماته ودعواته التي كان يرددها في خلواته :
(( الإشراق سبيلك اللهم , ونحن عبيدك , نعتز بك , ولا نتذلل لغيرك , لأنك أنت المبدأ الأول والغاية القصوى , منك القوة وعليك التكلان . . .أعنا على ما أمرت , وتمم علينا ما أنعمت ووفقنا لما تحب وترضى , الخ . . . )) .
إن الإشراق هو سبيله إلى الفيض العلوي – هذا الفيض الذي لا يتجلى إلا على من اشرب قلبه بحب الحكمة , وقد أحب السهروردي الحكمة ومزج نفسه بها حتى لقب بالحكيم . ولا يطلق لقب الحكيم عنده إلا على من له مشاهدة للأمور العلوية , وذوق مع هذا وتأله .
ويرى أن أول الشروع في الحكمة :
1- الانسلاخ عن الدنيا .
2- مشاهدة الأنوار الإلهية .
3- ما لا نهاية له .
لقد قرن السهروردي الفلسفة إلى التصوف كما قلنا وأطلق على الفيلسوف المتصوف لقب " الحكيم المتأله " وهو عنده أن يكون على ارتباط وثيق بالصوفي الذي يتذوق . . والى هذا أشار في كتابه " حكمة الإشراق أن كتابه هذا (( لطالبي التأله والبحث , وليس للباحث الذي لم يتأله ولم يطلب التأله فيه نصيب .. . ولا نباحث في هذا الكتاب ورموزه إلا مع المجتهد المتأله , أو الطالب للتأله . فمن أراد البحث وحده فعليه بطريقة المشائين , فإنها جنة للبحث وحده , محكمة , وليس لنا معه كلام ومباحث في القواعد الاشراقية , بل الاشراقيون لا ينتظم أمرهم دون سوانح نورانية ))
ويشرح لنا هذه الفكرة بوضوح اشمل فيقول :
(( وفي الجملة " الحكيم المتأله " هو الذي يصير بدنه كقميص يخلعه تارة ويلبسه تارة أخرى . . . ولا يعد الإنسان في الحكماء ما لم يطلع على الخميرة المقدسة وما لم يخلع ويلبس , فإن شاء عرج إلى النور , وإن شاء ظهر في أي صورة أراد . وأما القدرة فإنها تحصل عليه بالنور الشارق عليه . الم ترى أن الحديدة الحامية إذا أثرت فيها النار تتشبه بالنار وتستضيء وتحرق ؟ فالنفس من جوهر القدس إذا انفعلت بالنور واكتست لباس الشروق أثرت وفعلت : فتومئ فيحصل الشيء بإيمائها , وتتصور فيقع على حسب تصورها . . . فالدجالون يحتالون بالمخارق والمستنير الفاضل المحب للنظام . البريء من الشر يؤثر بتأييد النور لأنه وليد القدس )) .
فلسفته تستمد أصولها من روح صوفية مشرقة , وهو يريد من الصوفي الفيلسوف أن يصل إلى مرتبة " الحكيم المتأله الذي يجمع في اطواء نفسه الحكمة والتجرد والانسلاخ عن الدنيا والوصول إلى الذات الإلهية .
فما هي صفات (( الحكيم المتأله )) وما مراتبهم عند شيخنا السهرودي ؟
إنهم أصناف متباينو الاتجاهات وإن كانوا يلتقون عند هدف واحد وهو (( الاستضاءة بنور الله )) ويصنفهم إلى مراتب :
1- حكيم الهي متوغل في التأله عديم البحث , وهو كأكثر الأنبياء والأولياء والصوفية أمثال أبي زيد البسطامي وسهل بن عبد الله التستري , والحسين ابن منصور الحلاج .
2- وحكيم بحاث عديم التأله , وهو كالمشائين من أتباع أرسطو في المتقدمين , وكالفارابي وابن سينا في المتأخرين .
3- وحكيم الهي متوغل في التأله والبحث وهذا هو الحكيم الاشراقي الذي يجمع بين الحكمية والذوق والبحثية .
وهذه الصفة تنطبق على السهرودي نفسه .
4- وحكيم الهي متوغل في التأله , ضعيف في البحث .
5- وحكيم الهي متوغل في البحث , ضعيف في التأله ,
وليس من شك أن أرقى هذه المراتب واسماها هي مرتبة الحكيم الإلهي المتوغل في التأله والبحث جميعا ً .
يقول الأستاذ مهدي علام إن وضع السهرودي الحكيم الاشراقي فوق مرتبة الأنبياء هو الذي أثار عليه ثارة عصره .
ومع أخذنا بهذا الافتراض نرى أن السهرودي حين أضفى صفة التأله على الحكيم لم يحالفه التوفيق في التعبير عن فكرته , إذ انه لم يرد أن يصل الحكيم الاشراقي إلى درجة الإلوهية بل أراد أن يقبس من أنوارها ما يعينه على البحث والوصول إلى البرازخ العليا التي تبعده عن الدنيويات .
فإذا أوغلنا مع السهرودي في أعماق مذهبه الاشراقي . ألفينا هذا المذهب يدور عنده على محور واحد وهو " النور " وألفينا لهذا النور مراتب هي في حقيقتها مراتب الوجود من أعلاها إلى أدناها
(( فالمبدأ الأول لكل وجود هو النور القاهر , أو النور الأول المطلق . وحقيقة النور وماهيته إنما هي في ظهوره .
وهذا يعني أن الظهور ليس صفة من الصفات التي تحمل على النور إذ لو كان كذلك لترتب عليه أن لا يكون للنور في ذاته ظهور ما , وان يكون ظاهرا ً بشيء آخر – ظاهر في ذاته وهذا محال .
(( ومن هنا لم يكن للنور الأول المطلق علة أخرى غير ذاته , وكان كل سوى هذا النور الأول المطلق تماما ً حادثا ً وممكنا ً ومفتقرا ً إليه , بقدر ما هو قديم وواجب وغني .
ثم عبر عن حقيقة النور بقوله :
(( إن كان في الوجود ما لا يحتاج إلى تعريفه وشرحه فهو الظاهر , ولا شيء اظهر من النور . ولا شيء أغنى منه عن التعريف , وإذا كان ذلك هو النور , فإن الظلمة ليست عبارة عن عدم وجود النور فحسب , فقد رأى أن الشيء ينقسم إلى نور وضوء في حقيقة نفسه , والى ما ليس بنور وضوء في حقيقة نفسه )) .
وهكذا فقد أظهرنا السهرودي على حقيقة " نور الأنوار " من خلال الصفات التي وصفه بها .
فنور الأنوار : نور محيط , لأنه يحيط بجميع الأنوار لشدة ظهوره وكمال إشراقه , ونفوذه فيها للطف .
وهو قيوم لقيام الجميع به .
وهو مقدس لأنه منزه عن جميع صفات النقص .
وهو الأعظم الأعلى إذ لا أعظم ولا أعلى منه بين جميع الأنوار جميعا ً .
وهو قهار لأنه يقهر ما دونه من الأنوار . وذلك لشدة إشراقه وقوة لمعانه .
وهو غني مطلق إذ ليس وراءه شيء يفتقر إليه : ولا دونه شيء يستغني عنه .
وهو قبل كل هذا وبعد كل هذا كله واحد .
ومن هنا ينتهي السهرودي إلى أن " نور الأنوار " بحكم طبيعته وحقيقته وأحديته إنما هو " واجب الوجود " بذاته , وما عداه واجب به , ومفتقر إليه , ومستمد وجوده منه
وهكذا يتبين مبدأ السهرودي في " حكمة الإشراق " كان بدعا ً بين الأذواق الصوفية والأنظار الفلسفية , كما كان مزاجا ً من هذه الأنظار وتلك الأذواق خرج منها نسق واحد جديد , اخص خصائصه بين العلوم والفلسفات الإسلامية العمق والطرافة والتجديد .
و رأى بعض الباحثين ولا سيما بعض المستشرقين , أن هذه الفلسفة ذات اتصال وثيق بالفلسفة اليونانية وبفلسفة الفرس وان ابن سينا قد عرض لها قبل السهرودي.
يقول كلمان هيوار :
(( حكمة الإشراق " – هي نوع من تصوف الأفلاطونية الحديثة , فهي الفلسفة المشرقية التي ظهرت في أيام ابن سينا وصنف فيها رسالة سماها " الحكمة المشرقية " وكان لها طابع مع الإبهام تحررت منه بعد ذلك )) .
ويقول ده بور :
(( الاشراقيون الحكماء , أتباع المذهب القائل بحكمة الإشراق أو الحكمة المشرقية ويطلق بوجه خاص على تلاميذ السهرودي . وهذه الحكمة هي عبارة عن مذهب التوفيق في الفلسفة اليونانية الذي انتقل إلى الشرق في كتب الأفلاطونية الجديدة , ومرمس وما شابهها وامتزج بكتب الفرس وغيرهم , وهي فلسفة روحانية لها في نظرية المعرفة مذهب صوفي , وتعبر عن الله وعن " عالم العقول " بالنور . . . والمعرفة الإنسانية في هذا المذهب عبارة عن الهام من العالم الأعلى يصل إلينا بواسطة عقول الأفلاك , واكبر أصحاب هذا المذهب هم هرمس واجاثوميين , وابندوقليس وفيثاغورس وغيرهم , ولأفلاطون بهذا المذهب أكثر من صلة ارسطوية , وهؤلاء الفلاسفة يوصفون غالبا ً بأنهم أنبياء وحكماء وملهمون , وقد تأثرت الفلسفة الإسلامية بهذا المذهب منذ نشأتها إلى وقتنا الحاضر تأثرا كبيرا ً , وأتباع مذهب المشائين في الإسلام متأثرون بالفلسفة الاشراقية بعض الشيء . . .وربما كان اقلهم تأثرا ً بها الفيلسوف ابن رشد )) .
ومع اتصال فلسفة الإشراق ببعض المذاهب التي انبثقت في فارس وعند الإغريق فقد صهر السهرودي آراء من تقدم ببوتقة من كشفه وذوقه ومواجيده وخرجها صورة نقية تعبر عن روح وحكمة وفلسفة , وهذا الذي جعل هذه الفلسفة توسم باسمه .
رد السهرودي كل شيء في العالم إلى نور الله وفيضه , وهذا النور هو الإشراق .
(( وإذا كان العالم قد برز من إشراق الله وفيضه , فالنفس نصل كذلك إلى بهجتها بواسطة – الفيض والإشراق – فإذا تجردنا عن الملذات الجسيمة تجلى علينا نور الهي لا ينقطع مدده عنا . وهذا النور صادر عن كائن منزلته منا كمنزلة الأب والسيد الأعظم للنوع الإنساني وهو الواهب لجميع الصور , ومصدر النفوس على اختلافها , ويسمى " الروح المقدسة " أو بلغة الفلاسفة " العقل الفعال " ومتى ارتبطنا به أدركنا المعلومات المختلفة , واتصلت أرواحنا بالنفوس السماوية التي تعيننا على كشف الغيب في حال اليقظة والنوم )) .
وأكد السهرودي هذا المعنى بقوله :
(( إن النفوس الناطقة من جوهر الملكوت , إنما يشغلها عن عالمها هذا القوى البدنية ومشاغلها . فإذا قويت النفس بالفضائل الروحية , وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر , تتلخص أحيانا ً إلى عالم القدس . وتتصل بابيها المقدس منه المعارف وتتصل بالنفوس الفلكية العالمة بحركاتها وبلوازم حركاتها , وتتلقى منه المغيبات في نومها ويقظتها كمرآة تنتقش بمقابلة ذي نقش )) .
3- شعره :
للشهر الصوفي في أدبنا العربي , لونه الخاص وجوه الخاص , وعبيرها المسكر الذي يرتفع بالقارئ من العالم السفلي العلوي . . .وهو يتميز بألفاظ وتعابير واصطلاحات خلقها الصوفيون خلقا ً فلبستهم ولبسوها وعبروا فيها عن ذوات أنفسهم وأنات قلوبهم وحالات الوجد والشوق والغيبوبة التي تمر بهم وقد يتسم الكثير من شعرهم بسمة الغموض لمن لا يدرك اصطلاحاتهم , ولا يعرف ما ترمي إليه ألفاظهم وتعابيرهم , ذلك لأنهم (( يؤثرون الإشارة على العبارة ويعمدون إلى التلميح دون التصريح , سترا ً لحقائقهم , وكتما ً لأسرارهم وغيرة على هذه الحقائق )) .
وهو لون من الشعر الرمزي الذي ساد مذهبه عند الكثيرين من شعراء هذا العصر . . . وربما كانت رمزية شعرنا الصوفي أدق في المبنى , وأصفى في المعنى لأنه يصور حالات فلسفية تصدر عن الذات التي ترى حياتها أو خلودها في الفناء . ويصور , إلى هذا أخيلة وهواجس تتلاقى في غريب صورها عوالم الوجد والشوق والبهاء . . . فكلمة ( السفر ) عندهم هي عبارة عن القلب إذا اخذ في التوجه إلى الحق .
و " المسافر " هو الذي يسافر بفكره في المعقولات والاعتبارات .
وكلمة " الأنس " هي اثر مشاهدة جمال الحضرة الإلهية في القلب , وهو جمال الجلال .
وكلمة " الوجد ترمز إلى ما يصادف القلب من الأحوال المغنية عن شهوده وكلمة " الوجود هي وجدان الحق في الوجد .
ولا مجال لتعداد الكثير من الألفاظ والتعابير . فهي تختلف في مدلولها عما يرمز إليه الكتاب والشعراء الذين لم تدركهم مواجيد الصوفيين .
وربما طالت تفسيراتهم للكلمة الواحدة , فقد فسر احد كبار المتصوفين كلمة " الوصول " بقوله : (( إذا دلك به عليه , كنت منه واليه , وإذا أفناك عن الإحساس , في حضرة الإيناس . وإذا كاشفك بحبه , لم تتلذذ إلا بقربه . وإذا غيبك عن شهودك تجلى لك من وجودك )) .
وفي قاموس الصوفيين عشرات الكلمات ومئات الاصطلاحات , ولكل كلمة معناها , ولكل اصطلاح كما قلنا , مغزاه ودلالته على حالة من الحالات . . . فخمرتهم , ليست الخمرة المعصورة من كروم العنب والتي تصرع الألباب , بل هي الخمرة الإلهية التي تريهم نور الحق والتي سكروا بها من قبل أن يخلق الكرم كما يقول ابن الفارض :
صفاء ولا ماء ولطف ولا موا ونور ولا نار وروح ولا جسم
تقدم كل الكائنات حديثها قديما ً , ولا شكل هناك ولا رسم
ويوضح محيي الدين بن عربي , هذه الناحية فيذكر اضطرار الصوفيين إلى استعمال ألفاظ يدل ظاهرها على معان أعمق مما يتصوره القارئ بقوله : (( فكل اسم ذكره في هذا الجزء فعنها أكنى – يريد الحقيقة الإلهية – وكل دار اندبها فدارها أعنى . . . ولم أزل في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية , والنزلات الروحانية , والمناسبات العلوية , جريا ً على طريقتنا المثلى , فإن الآخرة خير لنا من الأولى , والله يعصم قارئ هذا الديوان من سبق خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية والهمم العلية , المتعلقة بالأمور السماوية , وجعلت العبارة في ذلك بلسان الغزل والتشيب لتعشق النفوس بهذه العبارات , فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها , وهو لسان كل أديب طريف روحاني لطيف )) .
وبعد فلا نريد في هذا الفصل أن يطيل الحديث عن الشعر الصوفي , عن رموزه وإشاراته , فمجال الحديث عنه واسع , وليس شعر السهرودي مما يدق على الإفهام لغموض ألفاظه , بل الأمر بالعكس , فهو واضح كل الوضوح . . . ولكن أردنا من هذه التوطئة , في حديثنا عن شعره أن نقول إن الكلمات التي جاءت في شعره – أكثرها كلمات وتعابير صوفية إلى وجده الشديد في بحثه عن الذات العليا , وشعره – بالرغم من إيغاله في الدراسات الفلسفية – سوانح ولمحات كان ينفس بها عن حالات الوجد التي تنتابه وما لدينا من شعره قليل , ولا يخامرنا أي ريب بأن الكثير من شعره مفقود وليس بين أيدينا غير عدة مقطوعات وقصيدته الحائية المتداولة في أروقة الصوفيين :
أبدا ً تحن إليكم الأرواح ووصالكم ريحانها والراح
وهي أكثر قصائده شيوعا ً , ترسم بعض حالات وجده , وتصور هواجس نفسه حين يغيب عن العالم الذي يعيش في خضمه ليتصل بالذات الإلهية . وهي نفحة عبقة من الشعر الغنائي الذي ينشده الصوفيون في خلواتهم وحلقات أذكارهم .
نعم , فجو القصيدة جو صوفي , يرينا حنين العاشق وشوقه وتدلهه وتأرجح أيامه بين الوصل والهجر , وهو لا يصف ذاته فحسب , بل يرى في ذاته ذوات جميع المعذبين بالحب الكتوين بناره , فكل العشاق في محنتهم سواء . . .
وا رحمتا للعاشقين تكلفوا ستر المحبة والهوى فضاح
إنه يريد أن يكون في معزل عن العالم , يريد أن يكتم حبه وان لا تنم حالاته اللاشعورية عن وجده وحرقته وألمه . . . ولكن أنى له ذلك والهوى فضاح .
وتنتابه الهواجس . إنه بين امرين خطيرين – أيبوح بحبه فيكون ثمن البوح هدر دمه أم يكتم هذا الحب وهو غير قادر على كتمانه . ولو حاول كتمان حبه فدموعه تنم عما يقاسيه من الم وجوى , وما ينتاب جسمه من نحول وسقام وضنى . إذن لا بد له من أن يذل نفسه ويتحمل المهانة في سبيل محبوبه .
لا جناح عليه أن يخفض جناحه فنفسه مشتاقة إلى اللقاء بأي ثمن :
وبدت شواهد للسقام عليهم فيها لمشكل أمرهم ايضاح
خفض الجناح لكم وليس عليكم للصب في خفض الجناح جناح
فإلى لقاكم نفسه مشتاقة والى رضاكم طرفه طماح
إنه في ثورة هائجة من الألم الممض . كيف السبيل إلى لقاء الحبيب ؟
لقد وطن النفس على أن يتحمل ما لا يتحمله إنسان إلى أن ينجلي ليله الطويل عن اشراقة الصباح , وما الاشراقة التي تبدد ظلمة النفس إلا الوصال , هكذا صفة العشاق المدلهين , يطرقون باب حبيبهم بدون ملل , يطرقونه أناء الليل وأطراف النهار . لا يتراجعون حتى يبلغوا أمنياتهم العذبة . وأمنياتهم هي اللقاء . هي الفناء في ذات محبوبهم . ولطالما سفكوا نجى الدموع التي جعلوا منها بحرا ً , ومن حادي الشوق ملاحا ً ينقلهم من ضفة إلى ضفة , من بحر زاخر بالموبقات إلى بحر تطفو على سطحه المثاليات . . هنا . . أي حين تتحقق أمنية اللقاء بعد هذا الشوق والوجد والهجر الطويل يشعرون برعشات علوية تنسيهم نفوسهم . إنهم مع الحبيب وجها ً لوجه . لقد تملكهم الطرب واخذوا يصيحون كالمشدوهين من شدة فرحهم . . .
ففي لحظات اللقاء ينسى العاشق ذاته من فرط ويقظة نشوته . إنه يدعو النديم أن يهنئ له أدوات الشراب . يريد أن يبل ظمأه بعد هذا الحرمان الطويل . فما هي خمرته التي تشع أضواءها في نفسه ؟ إنها الخمرة الإلهية لا الخمرة التي تعتصرها الأيدي وتدوسها الأقدام .
هذا هو جو قصيدة السهرودي الحائية .
وفي إلماعي إليها وهي من أجمل الشعر الوجدي الذي تتلاقى في كل بيت من أبياته حالة من حالات الصوفيين ,أردت أن أشير إلى شعر هذا الحكيم المتصوف الذي لم يترك بابا ً من ابواب الحياة العقلية ولا مفازة من مفازات النفس إلا وطرقها وولجها باطمئنان . . .
ولأسلوبه الشعري هذا الجرس الذي يتصل بجوهر النفس , ومن المؤسف أن لا يصل إلينا من شعره غير هذه القصيدة وعدة مقطوعات في أغراض تتصل بذاته , وإن من تتوافر عنده هذه السليقة الشعرية لا بد أن يكون له عشرات القصائد والمقطوعات التي تؤلف ديوانا ً . . . فأين ديوانه ؟ نحن نميل إلى انه قد فقد كما فقدت أكثر تآليفه . . .
وأنا موقن أن له غير هذا الشعر الذي نشرناه في باب المنتخبات من هذا الكتاب , ولعل خصومه قد أتلفوه كما اتلفوا كتبه , ونرجو أن نكون مخطئين في افتراضنا , وان تكشف لنا الأيام عن ديوانه , فيكون لقراء فلسفته خير معين على تفهم الكثير من تأملاته في شتى مفازات الحياة وغوامض الكون
4- آثاره :
إن حياة العقل التي عاشها السهرودي ممزوجة بحياة التصوف التي نشدها من وراء الفيض العلوي قد كونت منه إنسانا ً ترك في التفكير الإسلامي آثارا ً لفتت إليه كبار المفكرين ولاسيما في عصرنا هذا حيث بدأوا يلتفتون إلى كتبه ورسائله , وكلما أمعنوا ببحثها ظهر لهم لون جديد من تفكيره الحر ونزعاته الإنسانية التي تمثلت عنده في أعلى درجاتها , فاعتبروا " فلسفة أو حكمة الإشراق التي وضع أسسها بمثابة النزعة الإنسانية الحقيقية في الفكر العربي " .
وقد بلغت كتبه كما ذكر تلميذه الشهرزوري 49 مؤلفا ً وذكر المستشرق الألماني الدكتور أ . ريتر حين عرض لتحليل ووصف مخطوطات السهرودي الموجودة في استانبول أنها في ثلاث وتسعين رسالة . وأكثرها كتب بالعربية . وبعضها بالفارسية , وقسم ثالث يحتوي على ترجمات لمؤلفاته العربية إلى الفارسية قام بها هو نفسه , وعلى رأسها كتابه " حكمة الإشراق " .
وحين يتأمل الباحث بعض مؤلفاته , ويرى هذه القدرة على الغوص إلى أدق النزعات الفلسفية يأخذه العجب من عبقرية هذا الإنسان الذي استطاع في هذه الفترة القصيرة من عمره الغض , أن يؤلف هذه الكتب , مع انشغال قلبه بالتصوف , وعدم تفرغه للتأليف .
لا شك أن التراث الفكري الذي تركه السهرودي يضعه في مصاف العباقرة الأفذاذ . وان من يريد التوسع بالنفاذ إلى جوهر فلسفته لا بد له من الرجوع إلى كتبه ورسائله , وهي تؤلف سفرا ً ضخما ً في الحكمة الإلهية أو الفلسفة المشرقية ضمت كل ما يمكن أن يتناوله فيلسوف متصوف قضى عمره في البحث والدرس والتجرد للوصول إلى الذات العليا . فكان مصيره من المتحذلقين المشعوذين الذين يعنون بالعرض دون الجوهر , القتل وهو في ريعان شبابه .
ونحن نثبت هنا أسماء المصنفات التي وضعها ليرجع إليها من يود التوسع بدراسة آراء هذا الفيلسوف الاشراقي :
1- هياكل النور أو الهياكل النورية وهو كتاب يشتمل على أنظار فلسفية وأذواق اشراقية , كتبه بالعربية وترجمه هو نفسه إلى الفارسية , النسخة العربية طبعت في مصر سنة 1355 هـ بمطبعة السعادة .
2- حكمة الإشراق – طبع حجر – طهران سنة 1316 وهو قسمان :
قسم في المنطق , ويشتمل على مقالات ثلاث . وقسم في الإلهيات , وهو يشتمل على مقالات خمس , ويعد هذا الكتاب من أهم مصنفات السهرودي واجمع لشتات مذهبه وأدلها على منزعه الاستشراقي .
3- رسالة أصوات أجنحة جبرائيل : وهي رسالة فلسفية كتبها السهرودي بالفارسية بعنوان " اوازير جبرائيل " وقد نشرها وترجمها مع مقدمة وتعليقات المستشرق هـ . كوربان وباول كراوس في المجلة الآسيوية , عدد يوليو – سبتمبر – تموز أيلول – سنة 1935 ص1 -82 ونشر النص المترجم من قبل كراوس الدكتور عبد الرحمن بدوي في نهاية كتاب (( شخصيات قلقة في الإسلام ص 136 – 156 مع شرح واف لها .
4- رسالة مؤنس العشاق وقد ذكرها الشهروزري باسم رسالة العشق , وهي بالفارسية وقد نشر نصها الفارسي الدكتور اتوه اشيبس في دلهي سنة 1934 وترجمها إلى الفرنسية هنري كوربان .
5- مجموعة في الحكمة الإلهية , مطبعة المعارف . استانبول سنة 1945 عن " النشريات الإسلامية لجمعية المستشرقين الألمانية " وقد عني بتصحيح هذه المجموعة هـ . كوربان مع مقدمة بالفرنسية عن مبدأ الإشراق والحكمة المشرقية وأسس الفلسفة الاشراقية وهي بحث شامل , وتضمنت المجموعة وهي في 511 صفحة من القطع الكبير عدا المقدمة التي بلغت صفحاتها 80 صفحة الرسائل الآتية
أ- كتاب التلويحات اللوحية والعرشية وهو في ثلاثة علوم : في المنطق والطبيعات والإلهيات .
ب- كتاب المقاومات وهو لواحق على كتاب التلويحات وقد جعله السهروردي بعد أن اختصره بمثابة الذيل أو اللواحق على حد تعبيره .
ج- كتاب المشارع والمطارحات وهو كتاب في المنطق والفلسفة والتصوف .
6- التنقيحات في أصول الفقه .
7- اللمحات وهو مختصر صغير في العلوم الحكمية الثلاث من منطق وطبيعيات وإلهيات .
8- الألواح العمادية : وهي عجالة في المبدأ والمعاد على رأى الإلهيين .
9- رسالة الغربة الغربية : وهي قصة رمزية تأثر فيها السهروردي قصة " حي بن يقظان " لابن سينا وقد نشرها الأستاذ احمد أمين في مجموعة رسائل حي بن يقظان لابن سينا والسهروردي . دار المعارف بمصر سنة 1952 .
10- رسالة أصفير سيمرغ : بالفارسية نشرها اشبيس وحتك في ثلاث رسائل , ترجمة فرنسية في مجلة هرمس 3 – 1939 .
11- كتاب علم الهدى وأسرار الاهتداء .
12- كتاب المعارج أو رسالة المعراج وهي بالفارسية .
13- بستان القلوب , وهو مختصر في الحكمة , كتبه بالفارسية لجماعة من أصحابه في أصفهان .
14- الرمز الموفي .
15- طوارق الأنوار .
16- التنقيحات في الأصول .
17- حكمة في التصوف أو مقالات الصوفيين .
18- البارقات الإلهية .
19- النفحات السماوية .
20- لوامع الأنوار .
21- الرقم القدسي .
22- اعتقاد الحكماء .
23- كتاب الصبر .
24- رسالة در حالة طفولية .- بالفارسية .
25- رسالة المعراج – بالفارسية .
26- رسالة روزي اجماعت صوفيان – بالفارسية .
27 – رسالة عقل .
28- رسالة برتونان – وهي مختصر بالفارسية في الحكمة تناول فيها السهروردي شرح بعض الاصطلاحيات .
29- رسالة لغة موران – وهي حكايات رمزية كتبت بالفارسية .
30- رسالة تفسير آيات من كتاب الله وخبر عن رسول الله .
31- رسالة غاية المبتدي .
32- التسبيحات ودعوات الكواكب .
33- أدعية متفرقة .
34- السرج الوهاج : ذكره الشهرزوري وشكك في صحة نسبه إلى السهروردي , وذلك إذ يقول (( والأظهر انه ليس له )) .
35- الدعوة الشمسية .
36- الواردات الإلهية بتحيرات الكواكب وتسبيحاتها .
37- مكاتبات إلى الملوك والمشايخ .
38- كتب في السيمياء ذكرها الشهرزوري دون أن يعين أسماءها , ولم يزد غير قوله أنها تنسب إليه .
39- تسبيحات العقول والنفوس والعناصر .
40- شرح الإشارات وهو بالفارسية .
41- كشف الغطاء لإخوان الصفاء .
42- الكلمات الذوقية والنكات – رسالة الأبراج .
43- رسالة لا عنوان لها , لم يذكرها الشهرزوري . وذكرها المستشرق الألماني ريتر , وأشار إلى أن موضوعاتها هي : الجسم والحركات والربوبية والمعاد والوحي والإلهام .
44- مختصر صغير في الحكمة : يتناول العلوم الحكمية الثلاثة من منطق وطبيعيات وإلهيات .
45- طائفة من المنظومات : ذكرها الشهروزري تفصيلا ً , وأشار إليها , ريتر إجمالا وذكر أنها وردت في معجم الأدباء لياقوت , وفي نزهة الأرواح للشهرزوري وفي ثلاث رسائل ص 103 – 112 لاشبيس وختك , وذكر ريتر بين هذه المنظومة قصيدة السهروردي التي مطلعها أبدا تحن إليكم الأرواح , - ولكن الشهرزوري قد اثبت في هذا الباب منظومات أخرى تتفاوت طولا ً وعرضا ً .
والكتب التي نشرت , وهي جزء ضئيل مما كتبه , تؤرخ ناحية من نواحي عبقريته الفذة . ونحن إذ نكتفي بهذه اللمحة من حياة هذا الفيلسوف الحكيم , نختار للقارئ بعض نصوص من كتبه , وهي كلمات ورموز وإشارات في المعرفة الإلهية ترينا كيف أن الجهل قد طغى على المعرفة حين تآمر الفقهاء على مصرعه وهو في ريعان شبابه فخسرت الفلسفة الإسلامية إماما ً من أئمتها وجهبذا ً فتح في تاريخ العقلية العربية نوافذ جديدة للبحث والفلسفة القديمة , في ضوء من الإشراق ومبدؤها , كما علمنا , أي مبدأ الفلسفة الاشراقية وساسها . أن الله نور الأنوار ومصدر جميع الكائنات , فمن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالم المادي والروحي , والعقول العارفة ليست إلا وحدات من هذه الأنوار تحرك الأفلاك وتشرف على نظامها .




الباب الخامس عشر
ضياء الدين بن الاثير
1- بيئته :
ولد ضياء الدين بن الأثير بجزيرة ابن عمر من أعمال الموصل وينسب إليها فيقال الجزري , وهي قرية صغيرة في إقليم الجزيرة شمالي العراق على الشاطئ الغربي لدجلة شمالي الموصل , ويذكر ياقوت أن سبب تسميتها بابن عمر لان أول من عمرها هو الحسن بن عمر بن الخطاب . يقابلها على الشاطئ الشرقي مكان نزه يسمى العقيمة .
وكان في عهده يحيط بالبلدة سور قوي على نهر دجلة يضم داخله مسجدا ً والقلعة والمدرسة , وكانت في القرن السادس تتبع واليا ً من قبل اتابك الموصل , ثم تولاها والده أثير الدين محمد , وضياء الدين لا يزال صبيا ً . وكانت له بساتين وضياع . قال عز الدين بن الأثير : (( كان من جملة أعمال جزيرة ابن عمر قرية تسمى العقيمة مقابل الجزيرة من الجانب الشرقي . . . وكان لنا بها عدة بساتين )) .
وانتقل هو وأسرته إلى الموصل وأتم بها أبناؤه تعليمهم ومن بينهم ضياء الدين والموصل حينذاك اتابكية عظيمة لآل زنكي , وقد ازدهرت في عهدهم ازدهارا ً كبيرا ً
وتعتبر الموصل اكبر المدن العراقية في الشمال لأنها ثغر العراق الشمالي ومفتاح الطريق بين الشمالي وبغداد , وملتقى الطرق بين فارس وبلاد المشرق وبلاد الروم والشام ومصر والمغرب . وكان لهذا الموقع العظيم على طريق التجارة القديم أثره على مركزها العمراني والثقافي بين عواصم العالم الإسلامي والعربي , وقد انحدرت إليها بعض أثار الثقافة المشرقية كما اتصلت اتصالا ً مباشرا ً ببلاد فارس , وقيل اسمها مشتق من موقعها الجغرافي , لأنها تصل المشرق بالمغرب , وتعد اكبر مدن ديار ربيعة وتصب عندها بعض روافد دجلة الصغيرة حيث تتجمع وتكون مجرى واحدا ً .
وكانت الموصل شبه دائرية في صورتها . ذكر المقدسي أنها بلغت في زمنه في القرن الخامس ثلث مدينة البصرة في عصره إلا أنها اتسعت بعد ذلك وكثر سكانها وخاصة في عهد آل زنكي في القرن السادس , ثم في عصر خلفاء صلاح الدين في القرن السابع . وقلعتها مربعة وتقع في الشمال على مجرى مائي يسمى نهر زبيدة وبجوارها السوق والمسجد العتيق . وتقع منازل سراتها على نهر دجلة وتمتد إلى مسافة بعيدة .
وبنيت بها المدارس وأكثر من عمارتها الاتابكة من آل زنكي , فأقاموا المساجد والرباطات والمارستانات والقصور , وازدهرت حالها , وراجت تجارتها وتوافد عليها الناس من كل مكان . وزارها ابن جبير فوجدها مدينة عظيمة حصينة ,فخمة (( قد طالت صحبتها للزمن فأخذت أهبة استعدادها للحوادث والفتن . قد كانت أبراجها تلتقي انتظاما ً لقرب مسافة بعضها من بعض ) .
وكان يفصل بين القلعة والبلد شارع متسع عتيد من أعلى البلد إلى أسفله وللبلدة ربض كبير فيه المساجد والحمامات والخانات والأسواق .
وقال عنها ياقوت في هذا العصر : (( إحدى قواعد بلاد الإسلام , قليلة النظير كبرا ً وعظمة وكثرة خلق وسعة رقعة , فهي محط رحال الركبان , ومنها يقصد إلى جميع البلدان . . . وكثيرا ً ما سمعت أن بلاد الدنيا العظام ثلاثة : نيسابور لأنها باب المشرق , ودمشق لأنها باب المغرب , والموصل لان القاصد إلى الجهتين قل من لا يمر بها )) . ويقول : (( وكثيرا ً ما وجدت العلماء يذكرون في كتبهم أن الغريب إذا اقام في بلد الموصل سنة تبين في بدنه فضل قوة وما نعلم لذلك سببا ً إلا صحة الماء في رساتيقها , وشدة حرها في الصيف , وعظم بردها في الشتاء , فأما أبنيتهم فحسنة جيدة وثيقة بهية المنظر لأنها تبنى بالنورة والرخام , ودورهم كلها أبراج وسراديب مبنية , ولا يكادون يستعملون الخشب في سقوفهم البتة ,وقل ما عدم شيء من الخيرات في بلد من البلدان إلا ووجد فيها )) .
وكان أكثر سكانها من القبائل العربية وخاصة من بكر وتغلب , كما كان بها عدد كبير من الأكراد , وقد غلبوا عليها منذ القرن الرابع الهجري , . قال ابن جبير عن أهلها : (( أهلها أحسن طبعا ً وأكرم حيلة من أهل بغداد وهم على طريقة حسنة يستعملون أعمال البر فلا تلقى منهم إلا ذا وجهن طلق وكلمة لينة , وهم كرامة للغرباء وإقبال عليهم , وعندهم اعتدال في جميع معاملاتهم )) .
بنى نور الدين بالموصل مسجدا ً ومدرسة ورباطا ً للفقراء , وكذلك فعل أخوه سيف الدين غازي بنى مدرسة سماها المدرسة الاتابكية , وهي أحسن المدارس بها وأوسعها وجعلها وفقا ً على فقهاء الشافعية والحنفية , وبنا رباطا ً آخر للصوفية , وبنى بها قايماز التركي ( المتوفى سنة 594 هـ ) متصرف المدينة في عهد أمراء بني زنكي الجامع المجاهدي ورباطا ً ومدرسة ومارستانا ً بظاهر المدينة على نهر دجلة .
وكانت أكثر مدارسها على شاطئ النهر , وتولى التدريس بمدارسها الست على دجلة جماعة من أفاضل العلماء .
وراجت تجارة المدينة وعم أهلها الثراء في هذا العصر , وكانت تجارها تحمل إلى المشرق والمغرب على السفن , وكانت تصدر نوعا ً من الأقمشة الحريرية عرف باسم (( الموسلين )) نسبة إليها وكان يستورده الايطاليون وعنهم شاع هذا الاسم في سائر أوروبا والعالم وكثرت الأموال في أيدي حكامها وأهلها , وقاموا بكثير من الإصلاحات وعمروا البلد وقاموا بأعمال واسعة للبر , ويقال إن مجاهد الدين قايماز واليها كان ينفق على الفقراء كل يوم مائة دينار غير ما كان يرتبه كل شهر لهم . وكان عليه لهم رواتب كثيرة بحيث لم يدع بالموصل بيتا ً فقيرا ً إلا وأغنى أهله كما يقول صاحب المرآة .
وأحاط ملوكها أنفسهم بمظاهر الثراء والجاه والترف , فكان سيف الدين غازي يجمع المغنيات , ويستمع للغناء , ويجمع الطيور النادرة كالبلابل والغرار والببغاء , قال صاحب الروضتين (( واشتهر انه كان مع سيف الدين أكثر من مائة مغنية وان السلطان صلاح الدين أرى ذلك لعساكره واستعاذ من هذه البلية )) .
2- نشأته وحياته:
ولد ضياء الدين سنة 558 هـ بجزيرة ابن عمر من أسرة عربية شيبانية عريقة فقد كان والده أثير الدين محمد بن عبد الكريم من سراة قومه , ولا نجد كثيرا ً عنه فيما بين أيدينا من المراجع , كذلك لا يحدثنا عنه ضياء الدين كثيرا ً , لكن ابنه الثاني عز الدين المؤرخ يذكر في مواطن متفرقة من كتبه نتفا ً من أخباره كلما عرضت مناسبة . وكان أثير الدين فيما جاءنا من أخباره رجلا ً عاقلا ً وقورا ً ذا مكانة في الدولة من آل زنكي اتابكة الموصل , ويبدو مما أورده عز الدين انه بدأ اتصاله برجال الشهيد عماد الدين زنكي مؤسس دولتهم بين عامي 522 هـ و 541 هـ , أو في خلال تسع عشرة سنة , وعقب مقتله تولى ابنه سيف الدين غازي , ثم قطب الدين مودود عهد إليه بولاية بلدته جزيرة ابن عمر وتولى خراجها أي خلال الفترة من سنة 541 إلى 565 هـ , وكان أثناء ولايته أمرها بارا ً بأهله , لا يثقل عليهم في تحصيل المكوس ومسح الأرض وجني الخراج مما دعا إلى غضب الاتابك ووزيره عليه أحيانا ً . فقد ذكر عز الدين أن قطب الدين استدعى والده مرة ولامه لتهاونه في الجباية . قال على لسانه : (( استدعاني يوما ً وهو بالجزيرة – وكنت أتولى أعمالها له – فلما حضرت عنده قال : بلغني انك تهمل هذه الجبايات ولا تحفظها , فقلت إني اعجز عن حفظها لأني أكون في بيتي والدزدار يفعل في القلعة ما يريد , ثم التفاوت ليس بعظيم , وأخاف من الاستقصاء فيها لودعي على بعض هؤلاء الملوك – وأومأت إلى أولاده – لكان شعرة منه تساوي الدنيا وما فيها , ولنا مواضع تحتمل العمارة يتحصل منها أضعاف هذا . فقال : جزاك الله خيرا ً نصحت وأديت الأمانة , فأسرع في عمارة هذه الأماكن التي تتحمل العمارة . قال : فقلت وقد كبرت منزلتي عنده ولم يزل يثني علي )) . ويبدو من هذا النص حكمة الرجل وسياسته ودهاؤه , وحبه لأهله وعشيرته فقد استطاع التوفيق بين خدمة اتابكه ومصلحة أهل بلدته . وكان يجمع إلى هذا الحب لمواطنيه والإخلاص لرؤسائه , وحسن الرأي والنصيحة والعفة وعدم التكالب على المال فما يرويه كذلك ابنه عز الدين عنه ما دار مرة بينه وبين اتابك قطب الدين مودود قال :( دخلت إليه مرة فسألني عما أتولاه من الأعمال وأحوال الرعية فيها وانأ اخبره عما سألني عن القرايا التي بها خاصة ومن يتولى قسمتها واستخلاص أموالها فقلت له أنا افعل ذلك بنفسي . فقال : وما الذي قرر لك عليها في مقابل تعبك ؟ فقلت : لي من إنعام مولانا ما لا حاجة لي إلى تقرير شيء آخر , ثم المقرر لي من الجامكية والرسوم إنما هو أعمال من جملتها هذه القرايا . فقال : لا يجوز تتعب بغير فائدة ثم أمر لي بعمالة خاصة جميعها في بلاد الجزيرة , ولما خرجت رايتها كثيرة يحصل منها ما يزيد على سبعمائة دينار أميري , وليس لي بها من العمل كثير أمر , فقل في نفسي ربما لا يعلم مقدارها فإذا علمه يظن إنني اغتمنت غرته , فأرسلت له مع صاحبه أقول له : إن هذه العمالة يتحصل منها في هذا الرخص كذا وكذا دينارا ً , وانأ اقنع ببعض ذلك . قال : فلما سمع قولي ضحك وقال : هذا كلام رجل عاقل والجميع له )) .
وكان لكرم خلقه وحسن تدبيره وولائه أثرها في نفس اتابك الموصل إذ قويت ثقته به وصار يطمئن له فيما يكله إليه من عمل ويجزيه عنه خير الجزاء . وزاد تقريب قطب الدين له فولاه الخزانة العامة . قال عز الدين عن والده : (( وكان – أي قطب الدين – يدخل إلى الخزانة بعض الوقت ونحن فيها إذ كنت أتولاها فلا يخرج منها إلا وقد وهب كلا من الحاضرين منها شيئا ً صالحا ً . وربما يرسل إلى من غاب سهمه )) .
وانتقل بهذا المنصب الجديد إلى الموصل وظلت مكانته في قربى ووثوق بالاتابكة وكذلك أولاده من بعده حتى وثقوا بهذا البيت , وصار أبناؤه يخدمون بيت قطب الدين في ولاء وتولوا لهم الوزارة والكتابة على ما يتعرف بعد قليل .
وبلغ من الجاه والمنصب ما تتوق إليه النفوس , كما بلغ من الثروة القدر الوفير الذي مكن له وأولاده أن يعيشوا في بحبوحة وخير وفير . فكانت له ضياع وبساتين ببلده وبالعقيمة مقابلها , وكانت له تجارة تغدو وتروح بين الموصل والشام ومصر وتمخر البحر إلى أوربا . ويذكر عز الدين أن الفرنج نهبوها مرة عام سبع وستين وخمسمائة باللاذقية واخذوا مركبين منها مملوءتين بالأمتعة .
إذا فقد اجتمع لأسرة ضياء الدين الأصل العربي الكريم والثراء والجاه وكان له عددا ً من الأخوة نبغ بينهم ثلاثة . اثنان يكبرانه هما مجد الدين ( ولد سنة 544 هـ ) وعز الدين ( ولد سنة 555 هـ)
ولا نعرف كثيرا ً عن طفولته ولا ما تلقى من العلوم , وكل ما نعلمه انه ولد بجزيرة ابن عمر سنة 588هـ . واغلب الظن أيام أن كان والده متوليا ً أعمال الجزيرة فتلقى دروسه الأولى كغيره من أطفال المسلمين والعرب في عصره , فحفظ القرآن والحديث وتعلم شيئا ً من اللغة والأدب والحساب . وحفظ بعض الأحاديث والشعر القديم , وقد ذكر أخوه عز الدين انه كان يتردد على المدرسة بجيرة ابن عمر يسمع شيئا ً من الحديث سنة 574 هـ .
وانتقل بعد ذلك مع أسرته إلى الموصل حيث عمل أبوه صاحب خزانة قطب الدين مودود , أي بعد سنة 565 هـ , ولا نستطيع تحديد الزمن بالدقة , وقد ظل والده يعمل في خدمة الاتابكة إلى أن استعفى وتولى بعده ابنه مجد الدين خدمة عز الدين مسعود في حدود سنة 589 هـ .
وظل ضياء الدين يواصل دراسته في صباه المبكر بالموصل , في إحدى مدارسها الكثيرة , وان يدرس على جماعة من شيوخها المشهورين وخاصة على أخيه الأكبر مجد الدين العالم المحدث .
وانتقل ضياء الدين إلى الشام عام 587 هـ , والتحق بخدمة صلاح الدين وأبنائه وعمره إذ ذاك تسعة وعشرون ربيعا ً . ويذكر ابن خلكان انه لدى وصوله إلى دمشق اتصل أولا ً بالقاضي الفاضل , فألحقه بخدمة السلطان , وكان القاضي الفاضل يعطف على الأدباء والكتاب , ويجل العلماء ويقربهم , وربما كانت له صلة بأخيه الأكبر مجد الدين , أو كان قد سمع به وبعلمه . ولا نستطيع أن نحدد مكان التقاء الاثنين لأول مرة , إلا أننا نعلم من حوادث هذه السنة 587 هـ أن صلاح الدين كان مشغولا ً بحرب الصليبيين على سواحل فلسطين في عكا وغيرها من المواقع .
ويذكر ابن خلكان أن القاضي الفاضل قدم ضياء الدين للسلطان في شهر جمادى الآخر من السنة نفسها . وكان السلطان إذ ذاك مستجما ً في بيت المقدس شتاء , وقد سرح جنده في إجازة استجمام , وكان ابنه الأفضل في دمشق , وسمح بالتحاق ضياء الدين بخدمة ابنه الأفضل على , وربما التقيا من قبل حول عكا فأعجب الملك الأفضل بالكاتب الشاب ورغب إليه أن يلازمه , واستأذن أباه في أن يستلحق ضياء الدين , فبعث السلطان لضياء الدين بان يختار بين البقاء في صحبته أو اللحاق بابنه فاختار جوار الأفضل ولحق به في شوال سنة 587 هـ .
وتلازما منذ ذلك التاريخ ولم يفترقا , وعاد معه في خريف ذلك العام وبداية العام التالي سنة 588 هـ حيث كانت جيوش السلطان تتجمع من جديد لتقف متربصة بجيوش الصليبيين المتحفزين على الساحل قرب يافا وغيرها من الثغور .
ويذكر ضياء الدين انه كان بأرض فلسطين (( قبالة العدو الكافر من الفرنج – لعنهم الله – وتقابل الفريقان على مدينة يافا عام ثمان وثمانين وخمسمائة )) .
ولم يحرز احد الفريقين انتصارا ً حاسما ً في هذا العام فتوقفا عن القتال وعقدت الهدنة , وعاد السلطان وولده الأفضل وكبار رجال الدولة كالقاضي الفاضل والعماد الاصبهاني , والقاضي ابن شداد وضياء الدين بن الأثير جميعا ً إلى دمشق .
وفي عام تسع وثمانين أي في العام الثالث لحضور ضياء الدين للشام توفي صلاح الدين وتولى من بعده ابنه الملك الأفضل على الشام , وكان شابا ً في الثانية والعشرين من عمره يملؤه الغرور والطيش , ويحالفه سوء الحظ , وتنتابه من حين لآخر نوبات تدل على الاضطراب وعدم الاتزان , فتارة تراه قاسيا ً عنيفا ً , وتارة يغلبه الضعف ويستسلم للبكاء . وحينا ً تراه معربدا ً يشرب الخمر ويستبيح الحرمات ويسهر في معاقرة ملاذه للصباح , وحينا ً يستبد به الوجد والتصوف والتزام حدود الدين فيعكف على القران يقرؤه أو ينسخه بخطه , تاركا ً الأمور كلها بيد وزيره الشاب ضياء الدين والأفضل بعد هذا وذاك كله أديب يعشق الأدب وينظم الشعر .
وتصرف الملك الأفضل بعد وفاة والده صلاح الدين تصرفا ً يوحي بالتسرع والحمق إلى حد كبير . نفر منه كثيرا ً من كبار الدولة والمقربين من والده . ومن ذلك انه بعد وفاة أبيه تصدر دست الحكم ولم يفرغ المشيعون من جنازته , ومنه طرده الأمراء الكبار , وإقصاء كبار معاوني والده عن بلاطه بإيعاز من وزيره ضياء الدين كما يقول أكثر المؤرخين . قال ابن كثير : (( وكان الأفضل بعد وفاة أبيه قد أساء التدبير , فابعد أمراء أبيه وخواصه , وقرب الأجانب , واقبل على اللعب وشرب المسكر واللهو . واستحوذ عليه وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزري , وهو الذي كان يحدوه إلى ذلك فتلف وأتلفه , وضل وأضله وزالت النعمة عنهما )) .
وقال عماد الدين الأصفهاني : (( ووزيره الجزري قد بلى الناس منه ببلايا وهو في غفلة عن تلك القضايا , وكان يدخل إليه ويوهمه من قبل أقوام أنهم عليه وأنهم يميلون إلى أخيه , فيصدقه الأفضل فيما يدعي , فصار يبلغ العادل عنه أحوال ٌ ما تعجبه , بل تغضبه وصار يتصل به كل من هاجر من الشام إلى مصر وما منهم إلا من يشكو الوزير الجزري )) .
كذلك ذكر المؤرخون أن أهل دمشق ضجوا من سياسة الوزير الكاتب ضياء الدين . فقال فيه احد شعرائهم :
متى أرى وزيركم وماله من وزر
يقلعه الله فذا أوان قلع الجزر (ى)
ومن هذه النصوص التاريخية نتبين حقيقة في سياسة الوزير ضياء الدين وصاحبه الأفضل وهي سخط رجال الدولة الكبار عليهما , وقد اشرنا إلى أن ذلك ربما كان راجعا ً إلى طبيعة في خلق الأفضل وتصرفاته , فقد غلب عليه الطيش والاضطراب , وربما وجد من ضياء الدين ما ساعده على ذلك , وقد نشتم مما جاء من أخبار ضياء الدين ضربا ً من الاعتداد الشديد بالنفس والافتقار إلى الكياسة وحسن التصرف والسياسة ولين الجانب على عكس والده أثير الدين .
قال فيه العماد : (( وتفرد الوزير في توزره , ومد الجزري في جزره )) .
وربما ساعد على تجمع الناس ضد الملك الأفضل وضياء الدين بالإضافة إلى خلقهما الخاص نفور الأمراء شخصية الأفضل كخليفة لأبيه ونفور من ضياء الدين وزيره لتدخله , أو لانتهازيته وتقدمه , وهو الغريب أو الأجنبي على المجموعة القديمة التي لازمت صلاح الدين , على الأمراء الكبار ورجال الدولة العظماء وتطاوله عليهم أحيانا ً , ونلاحظ تطاوله على الوزير الخطير والكاتب ونائب الملك أحيانا في مصر القاضي الفاضل في كتابه المثل السائر ومحاولته الإقلال من شأنه وتقديم نفسه عليه في الكتابة .
وربما رأى رجال صلاح الدين المخلصون تدخل هذا الرجل في شؤون دولته وهو أصلا ً ابن احد كبار رجال دولة الاتابكة الموصليين الأعداء التقليديين , والمنافسين الخطيرين في المعسكر العربي الإسلامي خطرا ً على دولتهم أو تطفلا ً .
وهكذا تجمع الساخطون ممن طردهم الأفضل من دمشق بإيعاز من ضياء الدين في مصر عند العزيز عثمان وعمه العادل , وأوغروا صدريهما للإطاحة بهما , ودبت عقارب الفتنة . واتسعت شقة الخلاف , وثارت نار الحرب بين الأخوين عثمان والأفضل وزكاها العادل ليكسب من ورائها , وليحقق أطماعه في وراثة ملك أخيه العريض .
وحاصر العزيز عثمان دمشق ودخلها وتدخل العادل , فأصلح بين الأخوين ونصح الأفضل بإقصاء وزيره ضياء الدين , ثم غادر دمشق بعد أن زوج الأفضل ابنته واصطحب معه العزيز متجهين إلى مصر . وما لبثا غير قليل حتى جاءتهما الأنباء من جديد بعودة الأفضل إلى سيرته الأولى , ورجوع ابن الأثير إليه , وإمعانه في غيه وسوء تصرفه , فنهض العادل ومعه العزيز مرة أخرى , وانتزعا دمشق من الأفضل وقد أعانهما قادة الأفضل وأمراؤه الذين أغضبهم ابن الأثير وأبعدهم عن بلاطه فسلموا دمشق خيانة لسيدهما . قال ابن قايماز في مرآة الزمان : (( أما الأفضل فانه لما عاد إلى دمشق ازداد وزيره الجزري من الأفعال القبيحة وآذى الأكابر من الدولة , والأفضل يسمع منه ولا يعدى أحدا ً ولا يخالفه فكتب قايماز الجمي واعيان الدولة إلى العادل يستدعونه , فأرسل العادل إلى الأفضل يقول : ارفع يد هذا الأحمق السيئ التدبير القليل التدقيق , فلم يلتفت فاتفق مع العزيز على النزول على دمشق )) .
وكانت النتيجة أن استسلم الأفضل كما يقول المؤرخون , وفتحت أبواب دمشق بعد أن تخلى عنه أنصاره , ونزل من القلعة مستسلما ً يبكي ويعتذر ويطلب الصفح , وانتهى الأمر بينه وبين عمه وأخيه إلى الصلح وان ينتقل من ملك دمشق والشام إلى ولاية صغيرة , في صرخد . ودبر حاجبه جمال الدين أمر هروب ابن الأثير متخفيا ً في جملة الصناديق التي تحمل متاع الأفضل ليلا ً .
وبالاستيلاء على دمشق ونفي الأفضل إلى صرخد وهروب ضياء الدين متخفيا ً تنتهي المرحلة الثانية من حياة صاحبنا الحافلة المثيرة , وتنتهي إلى حد كبير أطماعه السياسية وآماله العريضة التي كان يبنيها لنفسه كرجل دولة له شأنه . ولم يمض على مجيئه إلى دمشق من بلده الموصل مهاجرا ً أكثر من أربع سنين .
واهم ما اثر في ثقافة ضياء الدين وفنه الكتابي في هذه الفترة اتصاله بعلماء دولة صلاح الدين وكبار كتابه وعلى رأسهم القاضي الفاضل وعماد الدين الأصفهاني وقد كتب للأفضل كثيرا ً من الرسائل الديوانية , كما تبادل بعض الرسائل الاخوانية حفظ لنا نماذج منها في كتابة المثل السائر وفي ديوان رسائله .
وحرص ضياء الدين أثناء توليه زمام الأمور في دمشق مع الأفضل على اقتناء الأموال . قال ابن الجوزي : انه اخذ أموالا ً كثيرة مما ادخره من أموال دمشق وأعمالها ثلاث سنين وهرب بها إلى بلاده .
وصحب ضياء الدين الأفضل إلى صرخد , ويقال انه خرج من دمشق إلى الموصل , ثم عاد فلحق بالأفضل في صرخد , وتبادل معه قبل اللحاق به بعض الرسائل واتصل في الموصل بخدمة نور الدين ارسلان شاه ( 589 هـ - 1193 م ) – ( 607 هـ - 1210 م ) , وظلا متصلين عن قرب أو بطريق الرسائل حتى تجددت الأحداث بموت العزيز في تلك الصلة بين الأفضل ووزيره السابق , وتحفز الأفضل لاستعادة السلطة , ووراثة ملك أخيه وكان عمه العادل مشغولا ً بحصار احد حصون ديار بكر , وكانت لا تزال المناوشات والنزاع قائما ً بين اتابكة الموصل ومن تبعهم وبين العادل وأبناء صلاح الدين .
واتفق بعض قادة العزيز بعد وفاته على استدعاء الأفضل إلى مصر ليكون وصيا ً واتابكا ً لابن العزيز الطفل . وجاء الأفضل القاهرة من الشمال متخفيا ً حتى لا يعلم عمه العادل أو بقية أعدائه في مصر والشام فيقفون في طريقه .
واستولى على مقاليد الأمور بالقاهرة في ربيع الأول سنة 595 هـ , ولحق به ضياء الدين بن الأثير بعد أن ظن أن الأمور قد استتبت . فبعد استيلاء الأفضل على الحكم بعث إليه برسالة يهنئه بملك مصر من الموصل على لسان صاحب الموصل , يقول في المثل السائر :
(( ومن ذلك ما كتبته في صدر كتاب إلى الملك الأفضل على بن يوسف أهنئه بملك مصر سنة خمس وتسعين وخمسمائة فقلت : المملوك يهنئ مولانا بنعمة الله المؤذنة باستخلاصه واجتبائه وتمكينه حتى بلغ أشده واستخرج كنز أبائه , ولو أنصف لهنأ الأرض منه بوابلها , والأمة بكافلها , وخصوصا ً ارض مصر التي خضت بشرف سكناه , وغذت من فيض البحر وفيض يمناه )) .
وأرسل إليه على لسان نور الدين ارسلان بن مسعود صاحب الموصل كتابا ً آخر يتضمن تعزية في أخيه وتهنئة بملكه الجديد قال في المثل السائر : " أما التعزية فبوفاة أخيه الملك العزيز عثمان صاحب مصر , وأما التهنئة فبوراثة الملك بعده " .
وأسرع ضياء الدين بالسفر إلى مصر في العام نفسه سنة ( 595 هـ ) ليتصل بخدمة الأفضل مرة أخرى , ومكث في القاهرة عاما ً وبعض عام من سنة 595 هـ إلى سنة 596 هـ وذكر شيئا ً عن هذه الرحلة إلى مصر في " الوشي المرقوم " فقال : وكنت سافرت إلى مصر سنة ست وتسعين وخمسمائة .
واتصل بالقاهرة بجماعة من علمائها وخاصة علماء الأدب واللغة , وتركت إقامته في القاهرة ومصر آثارها على إنتاجه وكتابته , يذكر ابن خلكان أن له رسالة في " مصر والنيل " يقول فيها " وعذب رضابه فضاهى جنى النحل , واحمر صفيحه فعلمت انه قتل المحل " .
واشترك في الحياة الأدبية , وناظر العلماء والأدباء , وسجل بعض ذلك في كتبه قال : " ورأيت الناس مكبين على شعر أبي الطيب المتنبي دون غيره , فسألت جماعة من أدبائها عن سبب ذلك , وقلت : إن كان لان أبا الطيب دخل مصر فقد دخلها قبله من هو مقدم عليه , وهو أبو نواس الحسن بن هانئ , فلم يذكروا لي في هذا شيئا ً , ثم إني فاوضت عبد الرحيم بن علي البيساني في هذا فقال إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس , ولقد صدق فيما قال " .
ولم يمهله القدر طويلا ص بالقاهرة , إذ ما لبثت الرياح أن جرت بغير ما يهوى فعاد العادل من الشمال بعد وفاة العزيز , وكان الأمل الذي يراوده بالانفراد بملك أخيه لا يزال يقوى ووجد الفرصة مواتية بوفاة صاحب مصر , فأراد أن يملك مصر ويخلع عنها الأفضل لأنها بيضة الملك وسرته , ومن امتلكها سيطر على بقية دولة صلاح الدين , ولما علم الأفضل بوصول عمه إلى مصر وبنيته في خلعه هرب , وفي أعقابه وزيره ضياء الدين متخفيا ً مرة أخرى , ويقال انه صحب الأفضل مخفيا ً للمرة الثانية إلى سميساط إحدى ولايات الشمال الصغيرة .
وتم الاتفاق بين الأفضل وعمه العادل على أن يسلم له الأفضل حكم مصر نظير أن يخرج هو إلى بعض بلاد الشمال حيث أعطاه العادل ميافارقين وحران وسميساط من بلاد الجزيرة . ولكن الأمور لم تستقر بينهما مع ذلك وظل الأفضل في محاولاته لاستعادة ملك أبيه من عمه فسار بجيش سنة 597 هـ يؤازره أخوه الملك الظاهر صاحب حلب لحصار دمشق , وكان عليها احد أبناء العادل الملك المعظم عيسى , ولكنهما فشلا في الاستيلاء عليها , وكان الملك المعظم قد أحسن السيرة , واجتذب قلوب أهل دمشق فأعانوه والتفوا حوله , وخاصة عند علمهم بعودة الأفضل . وعادوا حصار دمشق مرة أخرى سنة 598 هـ ولكن الأفضل عاد ثانية مدحورا ً إلى الشمال إلى حمص ثم إلى سميساط التي لم يبق له سواها .
ولزم ضياء الدين الأفضل في سميساط سنوات من سنة 596 هـ إلى سنة 606 هـ أو سنة 607 , وشاهد اندحار صاحبه , وفشل كل محاولاته لاستعادة ملكه وتقلصت آماله واقتصرت على تلك المدينة من مدن الشمال بعد الملك العريض والجاه والسلطان . وفي تلك الأثناء دبت الوحشية بينهما . ولم يلبث الأفضل أن انقطعت به الأسباب واختلف مع أخيه الملك الظاهر صاحب حلب , وأصبح خلفاء أبيه جميعا ً ضده , وحالفه سوء الحظ , فلم يجد مخرجا ً من تلك الخطوب التي حلت به إلا أن يلجأ إلى صاحب الروم من سلاجقة آسيا الصغرى – فيضع نفسه وولايته تحت إمرته ويدين له بالولاء ويقطع خطبة عمه ويخطب له , يريد بذلك أن يرد على نكايته بنكاية وقابله على تآمره بخيانة ! .
ويشير ضياء الدين إلى هذه المحن في حياته مع أميرة في سميساط وبلاد الروم في مواضع كثيرة من المثل السائر .
من ذلك قوله (( ومن ذلك ما كتبته من فصل اصف فيه الحمى وكنت إذ ذاك بحصن سميساط وهو بلد من بلاد الأرمن )) . وكتب رسالة أخرى إلى بعض أصدقائه يصف له شدة البرد في تلك الجهات (( وهو كتاب يشمل على وصف البرد وما لاقيته منه )) .
ويغادر ضياء الدين الأفضل بعد زوال دولته , وخروجه على عمه وإخوته إلى أعدائهم سلاجقة الروم , فيلجأ إلى الملك الظاهر صاحب حلب سنة 607 هـ , ولم يكن اللقاء بينه وبين الظاهر جديدا ً بل سبقه لقاء آخر في سفارة له بين أخيه الأفضل وبينه مرات , وربما ظن ضياء الدين أن خروجه عن كنف الأفضل إلى الظاهر سيبعد عنه نجم النحس الذي لازمه وانه ربما حقق بعض ما خاب ظنه في تحقيقه مع الأفضل , ولكن سوء الحظ أبى إلا ملازمته حتى في صحبته للظاهر .
فلقيه الظاهر بفتور , وربما كان ذلك لحذره منه وحرصه من مغامراته وتصرفاته أو لعله كان حريصا ً على رضا رجاله وقواده , وكان كثير منهم من أعوان والده . والذين قد يسوؤهم تدخل ضياء الدين وخاصة بعد أحداث دمشق والقاهرة .
ولم يبق في حلب طويلا ً فأسرع في لم شمله متجها ً إلى موطنه الموصل ولا نستطيع أن نحدد مدة بقائه في حلب إلا انه من الراجح انه لم يتم بها عاما ً , فإنه كتب لعز الدين مسعود رسالة عقب توليه الملك سنة 607 هـ بعد وفاة أبيه وهي السنة نفسها التي غادر فيها جوار الأفضل في سميساط والظاهر في حلب .
وانتهى به المطاف مرة أخرى بالموصل في ذلك العام , والتحق بخدمة أميرها عز الدين مسعود الثاني في أولى سنوات توليه ( 607 – 615 ) وكان اخو ضياء الدين الأكبر مجد الدين المبارك قد توفي قبل وصوله بشهور سنة 606 بينما كان أخوه الثاني عز الدين في خدمة البلاط .
وتنقل بين الموصل واربل وبغداد في هذه الفترة الأخيرة من حياته منذ 607 هـ إلى سنة 637 هـ فذهب إلى اربل سنة 611 ثم إلى سنجار ثم عاد إلى الموصل سنة 618 هـ , ثم ذهب في سفارة إلى بغداد .
وكانت هذه الفترة التي تنقل فيها بين الموصل واربل وسنجار فترة نزاع بين البلاد الثلاثة فقد كانت اربل وسنجار يعاضدهما الاشرف موسى ضد الموصل وعليهما خلفاء الملك مسعود من أبناء زنكي , وانتهى النزاع بين اربل والموصل , وتم الصلح بين كوكبوري صاحب اربل وبدر الدين لؤلؤ اتابك الموصل والوصي على أميرها سنة 617 هـ , وكان إذ ذاك الأمير ناصر الدين محمود ( 616 – 631 ) وتولى طفلا ً في الخامسة وقام على دولته اتابكة بدر الدين .
ولزم ضياء الدين بلاط ناصر الدين محمود وخدم اتابكة لؤلؤ وكتب له الإنشاء وظل كذلك إلى أن مات ناصر الدين محمود وتولى لؤلؤ الملك سنة 631 هـ وهو الذي أوفده في سفارة إلى خليفة بغداد في السنة التي مات فيها سنة 637 .
وظل ضياء الدين طوال تسعة عشر عاما ً , وهي الفترة الأخيرة من عمره مستقرا ً بالموصل بعد طول أسفاره شرقا ً وغربا ً , شمالا ً وجنوبا ً سعيا ً وراء المجد والغنى , وتفرغ للأدب قراءة وكتابة وتعليما ً , وقال ابن كثير في حوادث سنة 627 , بعد تولية الخليفة المستنصر العباسي ببغداد (( وقدم رسول ٌ من صاحب الموصل يوم غرة شعبان يحمل رسالة من الوزير ضياء الدين أبي الفتح نصر الله بن الأثير فيها التهنئة والتعزية بعبارة فصيحة بليغة )) .
وظل يدرس كتبه وخاصة " المثل السائر " لطلبته , وذاع أمره بين الناس وتوافد عليه طلاب العلم يتزودون من فضله وأدبه , وكذلك تولى تدريس كتب أخيه مجد الدين المبارك . وقد لقيه في هذه الفترة من علماء العصر علي بن أنجب المعروف بابن الساعي صاحب تاريخ " الجامع المختصر " والمتوفي سنة 674 هـ , وجلس إليه وحدثه بكتب أخيه .
وتمنى ابن خلكان – وكان وقتئذ باربل ومر بالموصل – أن يلتقي به ليأخذ عنه شيئا ً , قال (( وقد ترددت إلى الموصل من اربل أكثر من عشر مرات وهو مقيم بها , وكنت أود أن اجتمع به لأخذ عنه شيئا ً لما كان بينه وبين الوالد من المودة الأكيدة , فلم يتفق ذلك )) .
كذلك ذكر ابن خلكان في ترجمة ابن الصائغ احد علماء حلب : (( وكنت يوما ً عند ابن الصائغ وقد قدم عليه من الموصل رجل من فضلاء المغاربة في علم الأدب فحضر حلقته وبحث في درسه بحث رجل فاضل , وجرى ذكر مباحث جرت له بالموصل مع جماعة من أدبائها وقال : كنت عند ضياء الدين بن الأثير الجزري , قال فتحاورنا وتناشدنا وأنشدته قول بعض المغاربة )).
وبعد أن ترك ضياء الدين للأدب والعلم ثروة من رسائله ومؤلفاته كما خلد اسمه بين علماء عصره وطلاب علمه توفي سنة 637 هـ , وقد بلغ من العمر ثمانين عاما ً .
3- ثقافته وشيوخه
تلقى العلم صغيرا في بلدته جزيرة ابن عمر , ثم أتمه بالموصل بمدارسها التي اشرنا إليها , وكان شافعيا ً كأبويه وإخوته , وكانت الشافعية مذهب كثير من أمراء العصر وكبار رجاله وخاصة بني زنكي وبني أيوب , وقد شجعوا فقهاء المذهب وبنوا لهم المدارس وأعانوهم بالمال .
واهتم ضياء الدين بدراسة القرآن والحديث , وحفظه صغيرا ً كما استوعب كثيرا ً من الحديث حفظا ً وتفسيرا ً , واستعان بهما في دراساته البيانية وفي كتابته إذ اقتبس منهما وضمنهما كثيرا ً من كتاباته , وتتلمذ فيهما على أخيه الأكبر مجد الدين صاحب الكتب المشهورة في الحديث ورجاله .
كذلك نستطيع ن نقول مما أورد في كتبه انه قرأ من الكتب المتصلة بالقرآن " جواهر القرآن " للغزال و " تفسير الكشاف " للزمخشري , وعن اهتمامه بالحديث يقول في كتاب الوشي المرقوم : (( وكنت أتعبت نفسي زمانا ً في ذلك حتى جمعت كتابا ً يشتمل على أكثر من ثلاثة آلاف خبر من الأخبار النبوية , كلها يحتاج إليه في أسباب الكتابة , وكنت ألزم مطالعة ذلك الكتاب لزوم المخصل , ولا أزال في مطالعته كالحال المرتحل , حتى صار لدي مقصودا ً وبلسان قلمي معقودا ً )) .
وقرأ في الفقه وأصول الدين بعض كتب أبي حامد الغزالي مثل " إحياء علوم الدين " و " كتاب الأربعين " كذلك قرأ له في أصول الفقه كتابا ً لم يعينه .
وقرأ في اللغة والنحو وعلم البيان والأدب مجموعة كبيرة , قال ابن خلكان : (( وانتقل مع والده إلى الموصل وبها اشتغل وحصل العلوم وحفظ كتاب الله الكريم وكثيرا ً من الأحاديث النبوية , وطرفا ً من النحو واللغة وعلم البيان وشيئا ً كثيرا ً من الأشعار )) .
ففي اللغة قرأ لأبي علي الفارسي , وقرأ للمبرد كتاب الروضة وربما كتاب الكامل أيضا , والخصائص لابن جنى , والأمثال للميداني وإصلاح ما تغلط فيه العامة لأبي منصور الجواليقي , وفي الأدب كتاب الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني ومقامات الحريري , وفي الشعر ديوان الحماسة لأبي تمام , واستوعب أكثره ونقل عنه واستشهد بما فيه . كما قرأ اللزوميات لأبي العلاء المعري , وله عليه مآخذ , ونقائض جرير والفرزدق ودواوين كثير من الشعراء القدامى والمعاصرين ورسائل مشاهير الكتاب أمثال أبي هلال الصابي .
يقول عن نفسه : (( حفظت من الأشعار القديمة والمحدثة مالا أحصيه كثة ثم اقتصرت بعد ذلك على شعر الطائيين حبيب بن اوس وأبي عبادة البحتري وشعر أبي الطيب المتنبي , فحفظت هذه الدواوين الثلاثة , وكنت اكرر عليها الدرس , مدة سنين حتى تمكن تمن صوغ المعاني , وصار الإدمان لي خلقا ً وطبعا ً , )) .
ولم يكن اهتمامه بشعر هؤلاء الشعراء الثلاثة من وحي ذوقه فحسب , بل كان صورة لذوق عصره وبيئته فقد اهتم الناس في زمانه بأشعارهم بين حفظ وشرح واقتباس وتقليد أو معارضة .
ويعبر ضياء الدين في مناسبة أخرى عن هذا الاهتمام من جانبه بشعر هؤلاء الثلاثة دون غيرهم فيقول : (( وقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن اوس وأبي عبادة الوليد وأبي الطيب المتنبي وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزاه ومناته الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته , وقد حولت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء )) .
ومحصوله في البيان وكتب البلاغة والنقد أوفر من غيرها .
قال في الجامع الكبير : (( أما بعد فلما كان تأليف الكلام مما لا يوقف على غوره ولا يعرف كنه أمره إلا بالاطلاع على علم البيان الذي هو لهذه الصناعة بمنزلة الميزان , احتجت حين شدوت نبذة من الكلام المنثور إلى معرفة هذا العلم المذكور , فشرعت عند ذلك في تطلبه والبحث عن تصانيفه وكتبه , فلم اترك في تحصيله سبيلا ً إلا نهجته ولا غادرت في إدراكه بابا ً إلا ولجته , حتى اتضح عني باديه وخافيه , وانكشفت لي الأقوال الأئمة المشهورين فيه كأبي الحسن بن علي بن عيسى " الرماني " وأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي , وأبي عثمان الجاحظ , وقدامة بن جعفر الكاتب , وأبي هلال العسكري , وأبي العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي , وأبي محمد عبد الله بن سنان الخفاجي وغيرهم ممن له كتاب يشار إليه , ويقول تعقد الحناجر عليه )) .
كذلك قرأ لابن المعتز ونقل عن كتابه البديع والقاضي الجرجاني ونقل عن الوساطة بين المتنبي وخصومه , وأبو علي الحاتمي توفي 388 هـ وكتابه حلية المحاضرة , كما قرأ كتاب " مقدمة ابن أفلح البغدادي " التي قصرها على تفصيل أقسام البلاغة كما قرأ تذكرة ابن حمدون البغدادي .
ولم يهتم ابن الأثير بذكر شيوخه مع أن الموصل كانت حافلة بكثير من رجال العلم في هذا العصر أمثال الفقيه محمد بن يونس الموصلي ( 535 – 608 ) وقد انتهت إليه رياسة أصحاب الشافعي , وقصده الفقهاء من البلاد , ودرس بالموصل بعدة مدارس , ومن علماء اللغة ابن الدهان سعيد بن المبارك ( توفي 569 هـ ) وقد تناول ضياء الدين كتابه (( المآخذ الكندية )) بالنقد , وكان أخوه مجد الدين قد درس عليه .
جوانب ضياء الدين
1- ضياء الدين المؤلف:
نستطيع أن نقسم كتب ضياء الدين إلى ثلاثة أقسام هي : قسم المختارات والبلاغة وصناعة الإنشاء والمعارف العامة .
ويندرج تحت القسم الأول مجموعة من كتب المختارات في الحديث والشعر والأمثال . وقد اشرنا منذ قليل إلى كتابه من مختارات الأحاديث , ولم يصلننا شيء عن هذا الكتاب وربما لم يهتم ضياء الدين بعرضه على الناس أو ربما ضاع بين ما ضاع من مؤلفاته .
وله كتاب مختصر جرد فيه أمثال الميداني . قال في المثل السائر : وكنت جردت كتاب الأمثال للميداني أوراقا ً خفيفة تشتمل على الحسن من المثال الذي يدخل في باب الاستعمال .
ومن مختاراته الشعرية مجموعة من مختار شعر أبي تمام والبحتري وديك الجن والمتنبي في مجلد واحد كبير . قال ابن خلكان : " وحفظه مفيد " , وقال عنه ابن المستوفي : نقلت عنه من خطه في آخر هذا الكتاب :
تمتع به علقا ً فانه اختيار بصير بالأمور حكيم
إطاعته أنواع البلاغة فاغتدى إلى الشعر من نهج إليه قويم
ولم يصلنا هذا الكتاب فيما وصل من كتبه .
وهناك كتاب ثالث وصلنا , ولكن يشك في نسبته إليه وهو " مؤني الوحدة " مجموع يحوي طائفة من جيد الشعر لجماعة الشعراء المعروفين كالبحتري وابن الرومي وأبي تمام وآخرين من شعراء القرنين الخامس والسادس , ومرتب حسب الموضوعات فيبدأ بالمديح ثم بالهجاء , وقد جاء فيه بكثير من شعر ابن الرومي . ..
ثم موضوعات الشعر الأخرى , ووجه النظر أثناء عرضه لمقطوعات الشعر أو أبياته المختارة إلى ما فيها من المعاني والتشبيهات , وتدل على ذوق حسن في فهم الشعر ومنه نسخة خطية بدار الكتب المصرية مصورة عن الأصل المحفوظ بمكتبة كوبريللي من مخطوطات القرن السابع , وعلى الصفحة الأولى انه لابن الأثير , ولم يعينه ونسب في فهارس دار الكتب إلى ضياء الدين , ويبدوان في الأمر لبسا ً ويغلب انه لعماد الدين بن الأثير الحلبي ( توفى سنة 699 هـ ) المتأخر عن ضياء الدين .
تحفة العجائب :
وكتاب آخر ينسب إليه ولم تثبت صحة النسبة , واسمه تحفة العجائب وطرفة الغرائب , لم يشر إليه احد ممن تعرض له بالترجمة , وهو مجموعة من الشعر والنثر في مشاهد الكون المختلفة من سماء ونجوم وشمس وقمر وماء ونهر وشجر , ويقع في جزأين كبيرين , وهو من المجموعات الطريفة في موضوعها خاصة وانه سبق النويري .
ومنه نسخة أصلية بمكتبة كوبريللي مذيلة بأنها تمت كتابة في اليوم العاشر من شهر جمادى الأولى سنة اثنين وثمانين وسبعمائة (782) وهي منسوبة لضياء الدين . وكذلك ينسبها صاحب كشف الظنون إليه , وتولى ناشر الكتاب تصحيحها ونسبتها لأخيه عز الدين , وذكر كوركيس عواد أن هناك نسخة من الكتاب بجامعة برنستون بالولايات المتحدة منسوبة إلى عماد الدين بن الأثير الحلبي السابق وصاحب كنز البراعة , وذكر جورجي زيدان أن نسخة منه موجودة بالمكتبة العثمانية بحلب .
وله مجموع في معاني الشعر أشار إليه في كتاب الاستدراك وسماه ( عمود المعاني ) قال : ( وقد الفت في ذلك كتابا ً وسميته عمود المعاني , وجعلته مقصورا ً على ضروب المعاني الموجودة في النظم والنثر وما فيها من الأعمدة المطروقة , وما يخرج عنها من الشعب . وهكذا كتاب تعبت في تأليفه زمانا ً طويلا, وأنا ضنين به )
وأما كتبه في البلاغة فأشهرها كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر وهو أكبرها , ويغلب الظن أنه آخر ما ألف من الكتب , أو ربما سبق كتاب الاستدراك ولكنه ألفه على أية حال في العشرين عاما ً الأخيرة من عمره وليس بعد ذلك على الأرجح , وظل يدرسه بالموصل , ويعيد فيه ويزيد أو ينقص حسب ما يتراءى له , ونقول انه انتهى من تأليفه قبل وفاته بأكثر من خمس عشرة سنة , لأنا نجد نسخة قديمة منه بدار الكتب المصرية فرغ كاتبه منه في يوم السبت الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 622 وفي أوله إجازة بخط المؤلف كتبها بالموصل في شهر شعبان سنة 622 أجاز بها الشيخ عضد الدين أبا محمد مظفر بن محمد بن علي بن جعفر المشقي .
ويقوم موضوع الكتاب على أساس علم البلاغة بكل أبوابه , وما يتصل منها بالنثر أو الشعر جميعا ً بالإضافة إلى مجموعة من النصائح والإرشادات الموجهة إلى الشعراء والكتاب في أصول الصناعة , وبنى الكاتب على مقدمة وقسمين كبيرين احدهما خاص بالألفاظ أو الصنعة اللفظية والثاني بالصنعة المعنوية .
وتناول في المقدمة أصول صناعتي الشعر والكتابة . واهتم بالكتابة أكثر من اهتمامه بالشعر ونصح الكتاب نصائح لإجادة الصنعة فيها , وأول ما ينصح به الكاتب أن يكون له طبع وميل للكتابة , وان يتعلم العربية والنحو , وأصول اللغة , ويحفظ أمثال العرب وأشعارهم القديمة والمحدثة , ويحفظ القرآن ويتدرب على استعماله , والحديث والأخبار النبوية , ومعرفة الأحكام السلطانية والتاريخ وأيام العرب وأخبارهم والاطلاع على تأليفات من تقدم من المنظور والمنثور , ومعرفة العروض والقوافي .
ثم يتحدث في المقالة اللفظية عن خصائص الألفاظ المفردة , ويجمعها في سهولة النطق , والبعد عن الغرابة والحوشية والابتذال , مع حسن وقعها في السمع , وان يقبلها الذوق ولا ينفر منها الطبع وتكون جارية على قواعد اللغة وأصولها في البناء والإعراب .
وإما خصائص اللفظ المركب فأكثرها شبيه باللفظ المفرد , وفصاحة المركب متصلة كذلك بحس التأليف وهو أن لا يثقل على اللسان النطق به فيصير متعسرا ً في النطق أو ثقيلا ً على السمع لتعاقب الأفعال مثلا ً , وان يكون في تأليفه قريبا ً من المألوف غير شاذ كالتراكيب في الضمائر وتعاقب حروف الجر وما إليها . ويجعل من أبواب الألفاظ المؤلفة مما اعتاده الناس من أبواب البديع والبلاغة السجع في المنثور , والتصريع في المنظوم , والتجنيس , والترصيع ولزوم ما لا يلزم , والموازنة في المنثور .
والقسم الثاني الخاص بالمعاني يتحدث فيه عن أبواب المعاني المعروفة في علم البلاغة أو معاني القول أي المعاني الإجمالية والجزئية كمعاني الغزل , ومعاني المدح وما إليها والمعاني القسم الخاص والمصطلح البلاغي الذي يندرج تحته أبواب التقديم والتأخير والالتفات والإيجاز والأطناب والاستعارة والكناية وما إليها .
ثم يختم الكتاب بالكلام في السرقات باعتبار أن السرقات ضرب من المآخذ المعنوية , وتصرف الشعراء في المعاني المختلفة والمشتركة .
وفي موضوع المثل السائر نجد كتابا ً آخر منسوبا ً لابن الأثير هو " الجامع الكبير في صناعتي المنظوم والمنثور " وينسب هذا الكتاب في كل المراجع تقريبا ً إلى ابن الأثير الجزري , ومع ذلك فلم يذكره احد ممن تعرض لترجمته من كتبه , فلم يشر إليه ابن خلكان ولا صاحب مرآة الزمان , ولا مرآة الجنان , وقال عنه القلقشندي وقد عدد أهم الكتب في علم البيان : (( من الكتب المنفردة به كتاب نهاية الإيجاز للإمام فخر الدين الرازي , والجامع الكبير لابن الأثير الجزري )) , بينما ينسبه السبكي في عروس الأفراح لأخيه عز الدين , وكذلك جاراه حاجي خليفة في كشف الظنون .
وقد رأينا انه ربما كان الكتاب لضياء الدين , ولكنا نعود فنرجح انه لعز الدين وليس اشتراك الكتابين " المثل السائر " و " الجامع الكبير " في المنهج وفي بعض العبارات بدليل يكفي للتدليل على أن صاحب الكتابين واحد , بل نرى إن بهما ما يدل على أن المؤلف فيهما مختلف . ففي المثل السائر تبدو شخصية ضياء الدين في اعتداده بنفسه وأدبه وكثرة استشهاده برسائله , وسخريته بغيره من العلماء , ونرى روح مؤلف الجامع الكبير مختلفة تماما ً , فهو لا يستشهد بكتاباته إلا قليلا ً , وهو أكثر تحديدا ً لضروب البيان والبديع وأبوابهما بصورة تقرب من مناهج معاصريه , على خلاف ا لمثل السائر الذي يحفل بالتحليل وينحى عديدا ً من صور البديع ويثور عليها كثيرا ً
والكتاب الثاني الذي ثبت لضياء الدين , واتضحت فيه ملامح شخصيته هو كتاب " الاستدراك على المآخذ الكندية " وهو في السرقات أو المعاني المشتركة بين الشعراء , وجعله استدراكا ً على كتاب " المآخذ الكندية من المعاني الطائية " أو سرقات المتنبي من ابي تمام لابن الدهان .
وثبوت الكتاب لضياء الدين دون غيره من أبناء الأثير إخوته أو من بعدهم واضح فقد أشار في المثل السائر إلى انه ألف مقالا ً أورد فيه كلاما ً عن السرقات والمعاني فقال : " ولي في هذا مقالة مفردة ضمنتها الحكم على المعنيين المختلفين , وتكلمت فيه كلاما ً طويلا ً عريضا ً , وأقمت الدليل على ما نصصت عليه وما منعني من إيرادها في كتابي هذا إلا أنها سنحت لي بعد تصنيفه وشياعه في أيدي الناس , وتناقل النساخ له " .
كذلك أشار في الاستدراك إلى المثل السائر قائلا ً : (( ولو أخذت في استقصائه لا تسع المجال , ولكنه يوجد في كتابي الموسوم بالمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر , فإنه موضوع لبيان أسرار الألفاظ وتفصيل أقسامها )) .
واهم ما في الكتاب مقدمته الطويلة في المعاني المشتركة والمآخذ بين الشعراء ويبدو منها انتصاره للمتنبي وتقديمه له ولشعره وتفضيله اتجاهه واتجاه أبي تمام وأمثالهما من شعراء الحكمة وأصحاب المعاني العقلية والتجارب المستمدة من الحياة على الشعراء الوصافين المصورين كامرئ القيس وأبي نواس في بعض شعره .
ثم يظهر في الكتاب ميله إلى عدم الارتكان إلى تحكيم اللغويين وأصحاب القواعد والأصول في معاني الشعر أو المبالاة بآرائهم في جودة الشعر أو شرحه وفهمه , فإن منهم من يحسن فهم الشعر ولا تذوقه لاقتصاره منه على تتبع غريبة , وما يحتاج من لفظة إلى بيان أو تفسير . أو ربما اهتم عالم النحو بإعرابه وتوجيه بعض ألفاظه . وهذا عنده لا يجدي في صنعة الشعر فتيلا ً .
وحاول في هذا الكتاب أن يستدرك على ابن الدهان باعتباره عالما ً لغويا ً ونحويا ً مشهورا ً في بلده وعصره , مبينا ً نظريته التي قال بها وهي أن معرفة اللغة والإلمام بقواعد النحو شيء والمعرفة بأسرار علم البيان وحسن تذوق الشعر شيء آخر .
وبعد هذه المقدمة الطويلة التي يعرض فيها لجوانب مختلفة من أصول نقد الشعر مع بيان مذهبه في ذلك يأتي الكتاب أو صلب الكتاب وهو استدراكاته على ابن الدهان فيما نسبه إلى المتنبي من سرقات من أبي تمام مبينا ً أن بعض ما اتهمه فيه بالسرقة ليس كذلك لأنه مأخوذ من معاني القدماء أو مثله في ذلك مثل أبي تمام فكلاهما وارد على ما ورد عليه صاحبه , كما بين في استدراكاته خطأ ابن الدهان أحيانا ً في نسبة بعض الشعر إلى المتنبي أو إلى أبي تمام وليس لكليهما أو انه اتهم المتنبي بالسرقة في بعض المعاني ولا يمكن أن تعد كذلك لبعد ما بينهما أو لعدو وجود صلة واضحة بين المعنيين , وهكذا متتبعا ً في ذلك ما اتبعه ابن الدهان من تناول المتنبي حسب ترتيب القوافي .
وأما القسم الثالث من كتبه وهو الخاص بصناعة الإنشاء فنستطيع أن ندرج فيه كتابين احدهما " الوشي المرقوم في حل المنظوم " و " المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء " .
أما الكتاب الأول فقد طبع منذ زمن , وهو صغير الحجم ويتعرض لجانب من جوانب الصناعة وهو حل الشعر , أي نثره في أسلوب جميل مناسب , ويعرض نماذج لذلك من صنعته .
والكتاب الثاني ورد بهذا الاسم في كل من نقل ترجمته ابتداء من ابن خلكان ولكن ما عثرنا عليه كتاب منسوب إليه ويحمل اسما ً آخر وهو " مفتاح المنشأ في صناعة الإنشا " , وقد نسبه إليه بروكلمان بين كثير مما ليس له من كتب أخيه أو عماد الدين بن الأثير . والصحيح أن الكتاب ليس له فهذا الكتاب يبحث أوليات الكتابة , وطريقة عمل الرسالة , وأسلوب الكتاب مخالف إلى حد كبير لأسلوبه في المثل السائر والاستدراك ويغلب على الظن انه لعماد الدين صاحب كنز البلاغة أو لابنه , وإن كنت لا اقطع بذلك فهناك مجال كبير لإثبات الكتاب لصاحبه الحقيقي يمكن البحث فيه .
وبالإضافة إلى هذه الكتب فإن له ديوان رسائل كبير قال ابن خلكان وغيره إنه في عدة أجزاء والمختار منه في مجلد .
2- ضياء الدين الكاتب المترسل
عمل ضياء الدين بكتابة الرسائل منذ شبابه المبكر فقد التحق بالأفضل بن صلاح الدين وكتب لصلاح الدين ثم للأفضل ثم لأصحاب الموصل . وظل على ذلك إلى أن توفي .
وقال عنه اليافعي في مرآة الجنان (( وقال ابن خلكان , ولابن الأثير المذكور كل معنى بليغ في الترسل , وكان يعارض القاضي الفاضل في رسائله , فإذا أنشأ رسالة أنشأ مثلها , وكانت بينهما مكاتبات ومجاوبات , ولم يكن له في النظم شيء حسن )) .
وقد استشهد بكثير مما كتب في المثل السائر والوشي المرقوم , وأخذه ابن أبي الحديد في الفلك الدائر على ذلك . قال : (( وضرب كلامه أمثلة أكثرها جيد وفيها ما ليس بجيد مثل قوله ( فسرنا في غمامة من الكتائب , تظللها غمامة من الطيور الاشائب , فهذه يضمها بحر من حديد وهذه بحر من صعيد ) , وذلك لان الصعيد وجه الأرض , والطيور التي تظل الجيش إنما يضمنها بحر من الجو والهواء لا من الأرض )) . إلا انه مع ذلك يعجب بطريقته في حل المنظوم ويعتبر انه أقام صناعته على هذا الفن أي حل الشعر .
قال ابن الحديد : (( واعلم أن هذا الباب وهو حل المنظوم هو عين هذا الكتاب وخلاصته , ووجه جملته وطراز حلته , وكأنه لم يصنفه إلا لأجله وليظهر صناعته فيه , وعلى أن كتابته كلها إذا تأملها العارف بهذا الفن وجدها من هذا الباب , لأنها أما محلول منظوم أو ترصيع أية أو خبر أو مثل أو واقعة وهذه إحدى طرائق الكتاب عندي واليها اذهب ولها استعمل )) .
وتقول إن هذا الذي قاله ابن الحديد ليشخص أهم خصائص كتابة ضياء الدين فقد اعترف في أول المثل السائر بأنه قد حفظ القران وكثيرا ً من الحديث والسنة النبوية والأخبار والشعر وما إلى ذلك واستخدمها في كتابه عن طريق الحل والاقتباس والتضمين والاستعانة بالألفاظ والمعاني , أو المجاراة في النسق وطريقة التأليف وما إلى ذلك .
ولكنه مال أيضا إلى طريقة العصر في أن عمد إلى أسلوب السجع , ولم يكن يميل في سجعه إلى الفقرات القصار , كذلك لم يكن يستخدم السجع الطويل الفقرات بل كان يراوح بين فقراته طولا وقصرا ً . وعد هذا أحسن وادعى إلى طول نفس الكاتب وأتم لإظهار معانيه واستيعاب ألفاظه لها .
وتأثر بالقاضي الفاضل في كثير من خصائص فن الكتابة , ونعلم أن الفاضل استغل الاستعارة والتشبيه أتم استغلال كما استخدم التضمين والاقتباس من القرآن الكريم والشعر القديم أجمل استخدام , كذلك أشاع التورية في كتابه حتى عدت من دعائمها كما يقول ابن حجة الحموي , ومن ثم كانت من خصائص المدرسة المصرية في الكتابة .
وكان الفاضل نفورا ً من السجع المتكرر المتكلف , وكذلك كان ضياء الدين ولم يكن ميالا ً إلى تكرار الكلام في السجع أي تكرار المعنى الواحد في فقرتين متتاليتين وعد ذلك عيبا ً في الصناعة وعيا ً .
ولكنه بالرغم من هذا كله كان يفتقر إلى حد كبير في كتابة الرسائل إلى الرشاقة وخفة الظل التي اتسمت بها رسائل القاضي الفاضل وإن لم تسرف في الثقل إسراف رسائل العماد الاصبهاني , وأسلوبه المرسل في المثل السائر والاستدراك أجمل من أسلوب رسائله المتكلف .
3- ضياء الدين الناقد
تعود نقاد العرب تناول بعض الموضوعات في العمل الأدبي والأديب وما يحيط بها تفصيلا ً , وإغفال بعضها الآخر , أو تناولها تناولا ً هينا ً أو عارضا ً . وإذا كنا نتصور النقد تفسيرا ً للأدب , ومحاولة لتذوقه والحكم عليه أو وضعه موضعه اللائق فإن الوصول إلى ذلك يمكن السلوك إليه وفقا ً لمناهج النقد المعاصرة بعدة طرق منها : التعرض للنص نفسه واكتشافه عن طريق دراسة جوانبه المختلفة , جوانب الأسلوب والموضوع والغاية وما يمكن أن نستدل عليه أو نستشفه من شخصية صاحبه ونفسيته وما إلى ذلك , ومدى ما يمكن التوصل إليه من صدق فني أو كذب
ثم قد نعرض لجوانب خارجة على النص أثرت فيه , فنعرض للأديب نفسه وما يتصل بمكوناته الأدبية من موهبة وما ألهمه للعمل الأدبي , وإمكانياته الفنية أو قدرته , وقد يحتاج الأمر لعرض وضعه الاجتماعي ومكانته أو بيئته التاريخية أو الزمنية .
ولا نتوقع أن يلم القدماء من نقادنا بكل هذه الجوانب , ولكننا مع ذلك لا نقول أنهم تجاهلوها تماما ً أو غفلوا عنها فلم يدرسوها , أو لم يتوصلوا إلى علاقتها بالنص الأدبي وصاحبه .
وفي عرضنا لضياء الدين الناقد نتدرج في حديثه عن جوانب مختلفة من قضايا النقد العديدة التي تتعرض لتلك الأمور من زوايا قريبة أو بعيدة .
كلامه عن المؤلف شاعرا ً وكاتبا ً واثر تكوينه في عمله :
ويحدثنا ضياء الدين عن المؤلف في أول حديثه عن آلات الكتابة والنظم فيرى أن من هذه الآلات الطبع أو الاستعداد الفطري , وعن طريق هذا الطبع يهتدي الشاعر والكاتب إلى البديع المخترع من المعاني : (( إن المعاني المخترعة لم يتكلم فيها احد بالإشارة إلى طريق يسلك فيها , لان ذلك مما لا يمكن , ومن ها هنا اضرب علماء البيان عنه , ولم يتكلموا فيه كما تكلموا في غيره وكيف تتقيد المعاني المخترعة بقيد أو يفتح إليها طريق يسلك وهي تأتي من فيض الهي بغير تعليم , ولهذا اختص بها بعض الناثرين والناظمين دون بعض . والذي يختص بها يكون فذا ً واحدا ً يوجد في الزمان المتطاول )) .
ويشبه الموهبة الكامنة لدى الشاعر الموهوب أو الكاتب المبدع بالنار الكامنة في حجر الزناد تظهر وتتطاير بالاحتكاك والقدح , وانه لا يجدي التحصيل والمعرفة بالات الكتابة والشعر من حفظ أو تمرس بصناعتها دون الموهبة : (( فإنه إذا لم يكن ثم طبع فإنه لا تعني تلك الأدوات شيئا ً )) ومثل ذلك مثل النار الكامنة في الزناد والحديد الذي يقدح بها , إلا ترى انه إذا لم يكن في الزناد نار لا تفيد تلك الحديدة شيئا ً )) .
وبتفاوت درجة الموهبة لدى الأديب تتفاوت درجات ما يصدر عنه من الأدب فالأديب المطبوع تحس في أدبه روح الابتكار والصدق , وغير المطبوع الذي ليست له موهبة تلمس في أدبه روح التكلف واثر الصنعة , وتتراوح درجات الطبع والصنعة تبعا ً لدرجات الموهبة والمعرفة لدى الشاعر , والشاعر المطبوع العارف العالم يأتي شعره في الدرجة العليا وضربوا المثل في ذلك بأبي تمام والمتنبي . وقد أعجب بهما ابن الأثير وضرب المثل بأشعارهما وقارن بين شعر أبي تمام وشعر أبي العلاء المعري فقال :إن حسن هذا المطبوع وحسن ذاك مصنوع . ثم يشرح علة اتهامه لأبي العلاء وشعره في اللزوميات بالتكلف والصنعة , قال : لا شك أن صورة الخلقة غير صورة التخلق , فإن قيل ما الفرق بين المتكلف من هذه الأنواع وغير المتكلف قلت في الجواب : أما المتكلف فهو الذي يأتي بالفكرة والروية , وذلك يضني الخاطر في طلبه , ويبعث على تتبعه واقتصاص أثره , وغير المتكلف يأتي مستريحا ً من هذا كله وهو أن يكون الشاعر في نظم قصيدته أو الخطيب أو الكاتب في إنشاء خطبته أو كتابته , فينا هو كذلك , إذ سنح له نوع من هذه الأنواع بالاتفاق لا بالسعي والطلب )) .
فالقول المطبوع كالحسن المطبوع يكون خلقه , ومن صنع الفطرة وهو مقبول يقع في القلب , ولا يدعو إلى التقصي والتعب في التتبع , وللمعرفة شأنها مع الطبع لأنها تقويه وتغنيه , وتطيل من تدفقه وحيويته , فالاطلاع على الأدب القديم والحديث , وحفظ مختاره والتدرب على تقليده أمر لازم فإن في ذلك فوائد جمة لان الشاعر أو الكاتب يعلم منه أغراض الناس ونتائج أفكارهم , ويعرف به مقاصد كل فريق منهم , والى أين ترامت به صنعته في ذلك فإن هذه الأشياء مما يشحذ القريحة ويذكي الفطنة , وإذا كان صاحب هذه الصناعة عارفا ً بها تصير المعاني التي ذكر , وتعب في استخراجها كالشيء الملقى بين يديه يأخذ منه ما أراد , وأيضا فإنه إذا كان مطلعا ً على المعاني المسبوق إليها قد ينقدح له من بينها معنى غريب لم يسبق إليه , ومن المعلوم أن خواطر الناس وإن كانت متفاوتة في الجودة والرداءة فإن بعضها : (( يكون عاليا ً على بعض أو منحطا ً عنه إلا بشيء يسير , وكثيرا ً ما تتساوى القرائح والأفكار في الإتيان بالمعاني حتى إن بعض الناس قد يأتي بمعنى موضوع بلفظ , ثم يأتي الآخر بعده بذلك المعنى واللفظ بعينهما من غير علم منه ما جاء به الأول )) .
النص الأدبي :
وأما كلامه عن النص الأدبي فقد استغرق كل أرائه النقدية كغيره منعلماءالبلاغة . فتلكم عن الصياغة من جوانبها المختلفة , الألفاظ المفردة وما ينبغي أن يتوفر لها من الفصاحة التي لها شروط , ومن حيث التأليف وتركيبها بعضها إلى جانب بعض , ثم من حيث المعاني ودلالة التأليف على المعاني المختلفة دلالات تناولت باوضاع التأليف واشكاله وبالقدرة على تخيل المعاني وتصويرها ليستجيب لها الإدراك وتثبت في الذهن أو تؤثر في المشاعر بأحاسيس مما يتطلبها الموقف .
ولم يتعرض ضياء الدين لمراحل الخلق الأولى للعمل الأدبي كما حاول ابن طباطبا في عيار الشعر . ولكنه حاول الفصل بين المعنى واللفظ وليس بقصد بالمعنى " المدلول " اللفظي المحدود , ولا معنى اللفظ المفرد وإنما يقصد معنى العبارة أو المعنى البلاغي في الجملة .
ويرى أن الشاعر إذا قال شعرا ً فينبغي له أن يعيد النظر فيه لعله يتراءى له أن يثقفه أو يعدل ويبدل حتى يستقيم كما ينبغي , فكأنه ارتأى أن لا يكتفي الشاعر بالتعبير الأولى أو التعبير الشعري بل يجب التعديل أو محاولة الوصول للمرحلة الثانية وهي التعبير البلاغي بإدخال الصنعة والزخرف اللفظي والموازنة والتناسب بين المعاني وما إلى ذلك , ويرى جماعة أن أي تعديل في الصيغة إنما يعني تعديلا ً في المعنى .
ويدافع ضياء الدين عن الخصائص المنفصلة أو المستقلة لكل من الألفاظ والمعاني والتي يمكن أخذها بعين الاعتبار , أو مراعاتها في عمل الشعر والكتابة فيقول (( وإن القول بتلاؤم اللفظ والمعنى وعدم إمكان الفصل بينهما قول شبيه بالسفسطة , وهو باطل من وجهين احدهما أن المعاني إذا كانت لا تزيد عن الألفاظ فيلزم من ذلك أن الألفاظ لا تزيد أيضا على المعاني لأنهما متلازمان على قياس من يقول بعدم الانفصال , ونحن نرى معنى قد دل عليه بألفاظ , فإذا اسقط من تلك الألفاظ شيء لا ينقص ذلك المعنى بل يبقى على حاله , والوجه الآخر الإيجاز بالحذف أقوى دليل على زيادة المعاني على الألفاظ لأنا نرى لفظا ً يدل على معنى لم يتضمنه وفهم ذلك المعنى ضرورة لا بد منه , فعلمنا حينئذ أن ذلك المعنى الزائد على اللفظ مفهوم من دلالته عليه )) .
ولذلك فقد عرض لجملة من الخصائص التي تتوفر في اللفظة المفردة لتكون فصيحة . وافق فيها كثيرا ً مما ذكر ابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة من قبل وخالفه في بعض مسائل الجزئية .
فما وافقه فيه أن تكون متناسبة المخارج حتى يسهل على اللسان النطق بها وإن اختلفا في معنى هذا التناسب فقد حدده ابن سنان بالتقارب جدا ً أو التباعد جدا ً , ورأى ابن الأثير أن لهذه القاعدة شواذ , وان القياس الذي لا يخطئ هو الثقل إلى جانب تركيبها من حروف متنافرة لا تروق في السمع فتثقل على الأذن .
وينبغي أن تكون الألفاظ مألوفة سهلة , تقع معانيها قريبة من إفهام الناس ولا تكون صعبة مستغفلة . يقول : (( وقد رأيت جماعة من مدعيي هذه الصناعة يعتقدون أن الكلام الفصيح هو الذي يعز فهمه ويبعد مناله , فإذا رأوا كلاما ً وحشيا ً غامض الألفاظ يعجبون به ويصفونه بالفصاحة , وهو بالضد من ذلك لان الفصاحة الظهور والبيان لا الغموض والخفاء )) .
كذلك ينبغي للألفاظ أن تتفق معانيها مع أصواتها وتراكيبها , فالألفاظ تنقسم في الاستعمال إلى جزالة ورقيقة , ولكل منها موضع يحسن استعماله فيه , فالجزل منها في مواقف الحروب , وفي القوارع والتهديد , والتخويف وأشباه ذلك , ولست اعني بالجزل من الألفاظ أن يكون وحشيا ً متوعرا ً عليه عنجهية البداوة , بل اعني بالجزل أن يكون متينا ً على عذوبته في الفم ولذاذته في السمع , ولست اعني بالرقيق أن يكون ركيكا ً سفافا ً , وإنما هو اللطيف الرقيق الحاشية , الناعم الملمس )) .
ويرى أن بعض الألفاظ تحتفظ في بعض أبيات الشعر أو جمل النثر بخصائص معينة فتحيط نفسها بهالة من المعاني والظلال الجانبية والإيحاءات المختلفة فوق مدلولها المباشر , أو معناها اللغوي , وتبدو براعة الأديب في القدرة على استغلال هذه الخصائص في الألفاظ كما فعل الشاعر في استغلال لفظتي (( كل حاجة )) في قوله :
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح
قال ضياء الدين : (( إن في قول هذا الشاعر كل حاجة )) ما يستفيد منه أهل النسيب والرقة والأهواء والمقة ما لا يستفيده غيرهم , ولا يشاركهم فيه من ليس منهم , إلا ترى أن حوائج منى كثيرة , فمنها التلاقي , ومنها التشاكي ومنها التخلي للاجتماع . . . إلى غير ذلك مما هو تال له ومعقود الكون به )) .
وقد يسمى تلك الألفاظ ( جوامع الكلم ) ويعنى تلك التي تتضمن من المعنى ما لا تتضمنه أخواتها مم يجوز استعماله في مكانها مثل قول النبي – ص – (( بعثت في نفس الساعة )) . وقد أعجب بمثل هذه الألفاظ حتى قال : (( وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين يلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ فأجد لها نشوة كنشوة الخمر وطربا ً كطرب الألحان )) .
وأما آراؤه في تأليف العبارة , فهو يرى أن الترتيب المنطقي حسب قواعد اللغة ليس الترتيب الأمثل في التعبير الأدبي ,. وإنما المقياس فيه الذوق والإحساس الصادق بقوة المعنى وقوة التعبير عنه لا سلامته , فالسلامة العقلية التي تتوخاها قواعد اللغة , ويتوخاها المنطق لا اعتبار لها وحدها في ميزان النقد والبلاغة (( فأسرار الفصاحة لا تؤخذ من علماء العربية , وإنما تؤخذ منهم مسألة نحوية )) .
ومما ضربه للجائز لغة , القبيح بلاغة لفظة الفقود في بيت عنترة :
فإن يبرأ فلم انفث عليه وإن يفقد فحق له الفقود
فقوله الفقود جمع مصدر من قولنا فقد فقدا ً , واستعمال هذه اللفظة غير سائغ ولا لذيذ , وغن كان جائزا ً , ونحن في استعمال ما نستعمله من الألفاظ واقفون مع الحسن لا مع الجواز , وهذا كله يرجع إلى حاكم الذوق السليم , فإن صاحب هذه الصناعة يصرف الألفاظ بضروب التصريف , فما عذب في فمه منها استعمله وما لفظه فمه تركه )) .
وتختلف عنده العبارة الأدبية أو الفنية عن العبارة العلمية أو المنطقية في أن الثانية تقصد إلى المعنى مباشرة دون زيادة أو نقصان , بخلاف الأولى التي تحتمل أشياء كثيرة وقديما ً حاول اللغويون والمناطقة وبعض النقاد قياس الشعر بالمنطق ومقاييسه وحدوده فثار عليهم البحتري :
كلفتمونا حدود منطكم والشعر يغنى عن صدقه كذبه
يعني أن المنطق يبحث عن الصدق أي مطابقة الكلام لمقتضى الحال , وأما الشعر فيحتمل كثيرا ً من المجاز والتأويل .
ولهذا استخدم الأدب الأسلوب المجازي بفنونه التعبيرية المختلفة من إيجاز وإطناب ومجاز واستعارة وكناية وتورية ومبالغة وتقديم وتأخير وما إلى ذلك .
وقد عمد إلى عدم الاكتفاء بمخاطبة العقل بل إلى ضرورة التأثير على المشاعر والأحاسيس وإثارة الانفعالات المختلفة عن طريق التخيل أو مخاطبة الحواس , والإيهام , وذكر ضياء الدين أن دور المجاز في التعبير الأدبي هو " إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عيانا ً )) .
وكلما قويت الصورة المجازية في ذهن السامع قويت دلالتها , فالتشبيه المضمر ابلغ من المظهر وأوجز , أما كونه ابلغ فلجعل المشبه مشبها ً به من غير واسطة أو أداة فيكون هو إياه , فانك إذا قلت : زيد أسد كنت قد جعلته أسدا ً من غير إظهار أداة التشبيه . . . وان الغرض المقصود من قولنا زيد ٌ أسد ٌ أن نتبين حال زيد في اتصافه بشهامة النفس وقوة البطش , وجراءة الإقدام وغير ذلك مما يجري مجراه , إلا أنا لم نجد شيئا ً يدل به عليه سوى أن جعلنا شبيها ً بالأسد حيث كانت هذه الصفات مختصة به , فصار ما قصدناه من هذا القول اكشف وأبين من أن لو قلنا : زيد ٌ شهم شجاع , قوي البطش جريء الجنان وأشباه ذلك , لما قد عرف من اجتماع هذه الصفات في المشبه به اعني الأسد , وأما زيد الذي هو المشبه به فليس معروفا ً أنها كانت موجودة فيه )) .
والتصوير في التعبير الأدبي ضرب من المحاكاة , وهو عنصر أساسي في كل الفنون , فالفن في أساسه محاكاة للطبيعة , ولكنها محاكاة تتلون بلون الفنان وموضوعه ويستخدم الفنان المحاكاة للتعبير عن تجربة أو قضية فنية أو اجتماعية أو ذهنية أو تجربة ذاتية , فإذا خلت المحاكاة أو الصورة الأدبية من هذه المضامين قلت قيمتها الفنية لدى بعض النقاد ومنهم ضياء الدين بن الأثير , فهو لا يكتفي من الشاعر مثلا ً بان يصور ما يرى تصويرا ً مجسما ً أو دقيقا ً فينقله إلى السامع بحيث يتصوره وكأنه يراه ويلمسه بيده . كما فعل أبو نواس في وصفه لكأس الخمر :
تدار علينا الراح في عسجدية ٍ حبتها بانواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنابها مها ً تدريها بالقسى الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها وللماء ما دارت عليه القلانس
فهو مجرد حكاية حال مشاهدة بالبصر . والمعنى أو الصورة المخترعة على غير مثال أبدع عنده وأجمل . (( المعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصورة فإنها أصعب مثالا ً مما يستخرج بشاهد الحال , ولأمر ما كان لإبكارها سر لا يهجم على مكانه إلا جنان شهم , ولا يفوز بمحاسنه إلا من دق فهمه حتى جل عن دقة الفهم )) .
ومع ذلك فلا يصح أن يجتلب الأديب الصور من حيث وليس فتكون غريبة غير مألوفة , أو يركب بعضها إلى بعض بحيث لا تقبل عقلا ً ولا تتصور في الواقع , وإنما عليه أن يلائم ما استطاع ويوفق بين ما تقع عليه الحواس وبين ما يخترعه فيأتي بالجديد وكأنه واقع مشاهد وهو على مثال معروف أو ممكن غير مستبعد .
ويوازن ضياء الدين بين بيتين من الشعر احدهما محاكاة أو صورة , والآخر تجربة أو شعر له غاية غير مجرد التعبير عن صورة , فيفضل الثاني عن الأول وذكر قول امرؤ القيس يصف عش العقاب وما به من بقايا صيدها من الطير :
كأن قلوب الطير رطبا ً ويابسا ً لدى وكرها العناب والحشف البالي
وقول النابغة يصف تجربته مع الأصدقاء :
ولست بمستبق أخا ً لا تلمه على شعث ٍ أي الرجال المهذب
قال ضياء الدين : (( قالوا هذان البيتان لا يمكن المفاضلة بينهما لأنهما اشتملا على معنيين مختلفين , فهذا حسن في بابه وهذا حسن في بابه , وإما أن يقال هذا أفضل من هذا فلا لان التفاضل إنما يظهر بالاشتراك في صفحة واحدة وهذا المذهب عندي فاسد . والمذهب الصحيح الذي يثبت على محك النظر أن المفاضلة تقع بين الكلامين سواء كانا متفقين في المعنى أو مختلفين )) .
ويرى أن هذين البيتين قد اختلفا في المعنى (( ومعدلة الحكم تقضي بان بيت النابغة أفضل , لأنا إذا نظرنا إلى لفظيهما ومعنييهما وجدناهما من جهة اللفظ سواء . . . وأما من جهة المعنى فإن بيت النابغة أفضل وذلك لأنه تضمن حكمة تعرف عن تجربة الإخوان فيتأدب بها الغر الجاهل وينتبه لها الفطن الأريب , والناس أحوج إلى معرفته من معرفة التشبيه الذي تضمنه بيت امرؤ القيس , وغاية ما فيه انه رأى صورة فحكاها في المماثلة بينها وبين صورة أخرى , وليس ثم سوى ذلك وبيت النابغة حكمة مؤدية ٌ تستخرج بالفكر الدقيق .)) .
ولسنا مع ابن الأثير في رأيه , فالتصوير هنا يحوي مضمونا ً جماليا ً , فهو يدل أو يوحي من وراء هذه الصور المحكية بقوة العقاب وشراستها في الاغراة على صغار الطير وافتراسها . وليست المعاني المفصلة أو المقدمة دائما ً هي المعاني الأخلاقية كما في بيت النابغة المفيدة للناس والمجتمع , كما انه لا ارتباط عند كثير من علماء الجمال بين الحقيقة الأخلاقية أو الدينية والحقيقة الجمالية وإن كان بعض من يرى التلازم بينهما من النقاد يذهب إلى ضرورة أن يستهدف الأدب النفع للحياة والناس .
وصاحبنا ضياء الدين فيما ذهب إليه يرى نفع الأدب للحياة كما كان كثير من علماء العرب . وخاصة ابن قتيبة .
وليس معنى ذلك أن ضياء الدين ابتعد عن قياس الأدب بمقياس الجمال واللذة أو بمقياس الذوق , والحق أن المنفعة واللذة كانتا دعامتي مقاييس ضياء الدين في النقد والبلاغة .
ففي مجال اللفظ اهتم بما كان له وقع حسن يلذ السمع , وقد تكون لذة سرور أو نشوة البهجة أو لذة الألم . كما ينبغي أن لا تكون مما يقبح أخلاقيا ً أو مما ابتذله العامة في معان قبيحة .
وكثيرا ً ما تراه يحكم على الشعر بأنه يثير النشوة فيقول مثلا ً : (( وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين , ويلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ أجد لها نشوة كنشوة الخمر وطربا ً كطرب الألحان )) .
ويصف وقع الشعر في النفوس وقعا ً مطربا ً فيقول في أبيات الشاعر :
بأبي غزال ٌ غازلته مقلتي بين الغوير وبين شطى بارق
عاطيته والليل يسحب ذيله صهباء كالمسك الفتيق الناشق
وضممته ضم الكمى لسيفه وذوابتاه حمائل ٌ في عاتق
حتى إذا مالت به سنة الكرى زحزحته شيئا ً وكان معا نقى
أبعدته عن أضلع تشتاقه كي لا ينام على وساد ً خافق
(( وهذا من الحسن والملاحة بالمكان الأقصى ولقد خفت معانيه على القلوب حتى كادت ترقص رقصا ً , والبيت الأخير هو الموصوف بالإبداع , وبه وبأمثاله أقرت الأبصار بفضل الأسماع )) .
موقفه بين النثر والشعر :
ومع أن ضياء الدين قد ألف كتابه في أصول الصناعتين " الكتابة والنظم " إلا انه انتصر للكتابة وعلل تفضيله للكتابة بعدة أسباب رددها قبله بعض المنتصرين للكتاب على الشعراء . منها أن القرآن نص نثري وان الإعجاز متصل بالنثر , وان الكتابة أصعب طريقا ً , وان الكاتب احد دعامتي الدولة , فكل دولة تقوم على السيف والقلم (( وربما لا يفتقر الملك في ملكه إلى السيف إلا مرة أو مرتين أما القلم فانه يفتقر إليه على الأيام , وكثيرا ً ما يستغنى به عن السيف . ويلخص قول الصابي في ذلك إذ يقول إن طريق الإحسان في المنظوم يخالف طريقه في المنثور معللا ً ذلك بأن الترسل (( هو ما أعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنت ألفاظه وافخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة )) .
وان الشعر بنى على حدود مقررة وأوزان مقدرة , وفصلت أبياته فكان كل بيت منها قائما ً بذاته , وغير محتاج إلى غيره إلا ما جاء على وجه التضمين وهو عيب , فلما كان النفس لا يمتد في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه – وكلاهما قليل – احتيج إلى أن يكون الفضل في المعنى , فاعتمد أن يلطف ويدق , والترسل مبني على مخالفة هذه الطريق إذا كان كلاما ً واحدا ً لا يتجزأ .
هذا خلاصة كلام الصولي كما رواه ابن الأثير , وقد اعترض عليه في مواضع وانتقد مسألة الغموض في الشعر , قائلا ً إن الأحسن في الفنيين إنما هو الوضوح والبيان . وكذلك رأى أن القول بان سبب عمد الشعر إلى التركيز المؤدي إلى الغموض أحيانا ً مراعاة للبيت الواحد في عروضه وقافيته هذا القول فاسد . كذلك فإن موضوعات الشعر والنثر متقاربة بل هما يشتركان في كثير منها : (( وأي فرق بين الشاعر والكاتب في هذا المقام ؟ فكما يصف الشاعر الديار والآثار , ويحن إلى الأهواء والأوطان , فكذلك يكتب الكاتب في الاشتياق إلى الأوطان ومنازل الأحباب والإخوان )) .
وبذلك لا يرى فيما ذكره الصابي فروقا ً حقيقيا ً بين الكتابة والشعر , ويتلخص الفرق بينهما عنده في ثلاثة أمور هي : النظم , وجواز استخدام بعض الألفاظ في الشعر وعدم جوازها في النثر , أي أن للشعر لغة خاصة أو ما يمكن أن يعد لغة أو مستوى لغويا ً خاصا ً به , والثالث تفاوت عرض الشاعر لموضوعه بين الجودة والرداءة أو الارتفاع والهبوط لضيق مجال الوزن والقافية بعكس الكاتب الذي يستوي نفسه في الرسالة في كل أجزائها .
ويعرض ضياء الدين لمقارنة طريفة بين الشعر العربي والشعر الفارسي فيقول (( وعلى هذا فاني وجدت العجم يفضلون العجم يفضلون العرب في هذه الناحية المشار إليها , أي التقيد بالوزن والقافية – فإن شاعرهم يذكرهم كتابا ً مصنفا ً من أوله إلى آخره شعرا ً وهو شرح قصص وأحوال , ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاهنامة , وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس , وهو قران القوم , وقد اجمع فصحاؤهم انه ليس في لغتهم أفصح منه , وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها , وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر )) .
موقفه من الكتاب والشعراء :
وتعرض ضياء الدين في كتابيه " المثل السائر " و " الاستدراك " لنقد بعض الكتاب والشعراء , وأكثر من تعرض لهم من سابقيه أبو هلال الصابي , فلم تعجبه طريقته في الكتابة , وخاصة في تكرار معاني عباراته وتناسب فقراته , ويعرض حملة من رسائل الصابي ورسائله الخاصة ثم يعقب عليها بقوله : (( وكلام الصابي في هذه التقاليد الأربعة لم اقصد به الوضع من الرجل وإنما ذكرت ما ذكرته لبيان موضع السجع الذي يثبت على المحك , ولا شك أن هذا الوصف المشار إليه في فقر الاشجاع لم يكن مقصودا ً في الزمن القديم أما لمكان عزه أو انه لم ينتبه له .
وكيف أضع من الصابي وعلم الكتابة قد رفعه وهو إمام هذا الفن والواحد فيه .
وقد اعتبرت مكاتباته فوجدته قد اجاد في السلطانيات كل الإجادة وأحسن كل الإحسان ولو لم يكن له غير كتابه الذي كتبه عز الدولة بختيار بن بويه إلى سبكتكين عند خروجه عليه ومجاهرته إياه بالعصيان لاستحق به فضيلة التقدم , كيف وله من السلطانيات ما أتى فيه بكل عجيبة , ولكنه في الاخوانيات مقصر , وكذلك في كتب التعازي , وعندي فيه رأي لم يره احد غيري , ولي فيه قول لم يقله احد سواي , وذاك أن عقل الرجل في كتابته زائد على فصاحته وبلاغته )) .
ثم يحيل القارئ على ما أورده من رسائله منبها ً إلى ما فيها من وصايا وشروط واستدراكات وأوامر ما بين أصل وفرع وكل جزء , وقليل وكثير . يقول : (( ولا نرى ذلك في كلام غيره من الكتاب انه عبر عن تلك الوصايا والأوامر والشروط والاستدراكات بعبارات في بعضها ما فيه من الضعف والركة . وقد قيل إن زيادة العلم على المنطق هجنة , وزيادة المنطق على العلم خدعة , ومع هذا فاني اقر للرجل بالتقدم , واشهد له بالفضل )) .
ويتعرض من حين لآخر للقاضي الفاضل ويحاول غمزه والإقلال من شأن كتابه , وقد اخذ عليه مرة التقصير في موضوع رسائله ومرة أخرى عدم مناسبتها للمقام , ومرة ثالثة المبالغة وعدم التناسب في الصور البيانية بين تشبيه واستعارة ولكن موقفه من القاضي الفاضل مشوب بالهوى إلى حد كبير لما كان بينهما من تعاصر ولتقدم الفاضل عليه ووقوفه مع العادل والعزيز عثمان ضده
أما عن موقفه من الشعراء فقد ذكرنا انه أعجب بابي تمام والمتنبي لأنهما جمعا بين الفن والعقل , أو بين الصنعة والطبع , وثالث من يعجب بهم من الشعراء البحتري ويعرض لبعض المحدثين لبعض المحدثين فيعجب بهم أحيانا ويؤاخذهم على بعض ما سقطوا فيه أحيانا ً .
ولا يتعصب كغيره من العلماء وأكثر النقاد القدماء لتقدمهم , بل يحكم على الشعر سواء القديم أو المحدث بما له أو عليه , وإن كان أكثر ميلا ً إلى معاني المحدثين وجمال صنعتهم .










الباب السادس
النقدفي العصر العباسي
الباب السادس
الفصل الأول
مفهوم الشعر في النقد العربي القديم
طرح النقاد العرب القدامى مفاهيم عدة للشعرية كعلم موضوعة الشعر من ابن سلام الجمحي الذي يقول (( وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر الصناعات ) , بل وتم تطوير مفهوم الشعرية لاحقا ً بوضوح أكثر يكاد يقترب من المفهوم المعاصر,ولا يخفى أن النقاد العرب القدامى استخدموا الشعريةبمفاهيمها الثلاث , بما فيها شعرية الكتابة عبر مصطلحي : التأليف والنظم ومصطلح الصناعة ومصطلح الصياغة ،ويلخص إحسان عباس القضايا التي دار حولها النقد العربي القديم على النحو التالي :
1-قضية اللفظ والمعنى .
2- المطبوع والمصنوع ,
3– الوحدة والكثرة في القصيدة .
4-الصدق والكذب في الشعر .
5-المفاضلة أو الموازنة بين شاعرين أو شعرين.
6-- السرقات الشعرية .
7-عمود الشعر .
8- العلاقة بين الشعر والأخلاق أو الشعر والدين
يقول الخليل بن احمد الفراهيدي : (( رتبت البيت من الشعر ترتيب البيت من بيوت الشعر ( بفتح الشين ) فسميت الإقواء ما جاء من المرفوع والمخفوض على قافية واحدة , وإنما سميته إقواء لتخالفه , لأن العرب تقول : أقوى القائل إذا جاءت قوة من الحبل تخالف سائر القوى )) , ومرة أخرى : النص هو الأصل والشاعر يضع القوانين من خلال نصوصه , ومهمة الناقد أن يقول هذه القوانين في أنساق وبنى مستمدة من النصوص . يقول الخليل بن احمد أيضا إن الشعراء هم أمراء الكلام يصرفونه أنى شاؤوا ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومن تصريف اللفظ وتعقيده ... فيحتج بهم ولا يحتج عليهم , ويصورون الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل )) . ويطرح الخليل مسألة الصدق والكذب في الشعر كذلك طرح النقاد الأوائل مسألة العلاقة بين الشعر والدين وبين الشعر والايدولوجيا والشعر والأخلاق . خذ مثلا ً قول الأصمعي عن شعر حسان بن ثابت : (( طري الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان , ألا ترى أن حسان كان قد علا في الجاهلية والإسلام فلما دخل شعره في باب الخير , لان شعره )) . ومعنى هذا أن الليونة هنا ضعف , لأن الأصمعي نفسه يقول : (( طريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة ... من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الحمر والخيل والحروب والافتخار , فإذا أدخلته في باب الخير لان )) .
فالليونة تعادل الضعف والخير . والفحولة تعادل القوة الشعرية وناقض الخير ومن جهة أخرى فإن الشعر حين يحمل الايدولوجيا يضعف .
ولكن لماذا ؟ مع أن الجاهلية كانت تحمل أيديولوجيتها ؟ هو يرى أن الموضوع قد تغير من المديح والهجاء ووصف الخيل والتشبيب بالنساء إلى – المرائي . فلماذا يكون التشبيب بالنساء قوة وفحولة والمرائي تصبح ليونة وضعفا ً ؟ والأصمعي أيضا لا يقف عند حدود موهبة الشاعر الغامضة بل يحدد مصادر وأدوات ثقافة الشاعر الفحل بأنه : ( لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلا حتى . . يروي أشعار العرب ويسمع الأخبار ويعرف المعاني وتدور في مسامعه الألفاظ وأول ذلك أن يعلم العروض ليكون ميزانا له على قوله والنحو ليصلح به لسانه وليقيم إعرابه . والنسب وأيام الناس ليستعين بذلك على معرفة المناقب والمثالب وذكرها بمدح أو ذم . )) .
هذه هي الثقافة العامة للشاعر وهي ثقافة الشائع والسائد في الثقافة العربية آنذاك أو النموذج ولكنه نموذج آني , أي مرتبط بمرحلة . مع هذا ففي النص يفترض الخروج عن الثقافة السائدة . يقول الاصمعي : (( أجمع أبو عمرو بن العلاء وخلف الأحمر أن التشبيهات العقم التي انفرد بها أصحابها ولم يشركهم فيها غيرهم ممن تقدم أو تأخر , أبيات معدودات )) .
ونجد تعريفا للشعر قدمه الناشئ الأكبر ( توفي 293 هـ ) هو : (( أول الشعر إنما يكون بكاء على دمن . أو تأسفا على زمن , أو نزوعا لفراق أو تلوعا ً لاشتياق . أو تطلعا لتلاق ... الخ ) وهذا التحديد أضر بفهم الشعر , إذ ظل الكلام النقدي يدور غالبا حول وظيفة الشعر دون الاقتراب من ماهيته .
الباب السادس
الفصل الثاني
نقاد وكتب للنقد
1- محمد بن سلام الجمحي ( طبقات فحول الشعراء) : ( 232 هـ )
يتمركز نقده للشعر حول مفهوم الطبقات ومفهوم الفحولة . وهو في البداية يتحدث عن النقد باعتباره – علم الشعر وعن الشعر باعتباره صناعة ومعرفة ثقافية , (( وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلوم والصناعات )) .. ثم يطرح ابن سلام قضية في غاية الخطورة وهي : هل ما ورد إلينا من أشعار العرب يكفي لتمثيل واقع الشعر الجاهلي ؟ وهل كان الشعر الجاهلي منافيا ً للعفة , انطلاقا من طبيعة الحياة الجاهلية ؟؟ يجيب ابن سلام على ذلك بقوله (( ما انتهى إليكم مما قاله العرب إلا أقله , ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير , ويضيف (( فكان من الشعراء من يتأله ويتعفف في شعره ولا يستبهر بالفواحش ولا يتهكم في الهجاء ))
هنا نكتشف نقطة أخرى هي : ليس بالضرورة أن تتطابق الحياة الواقعية للشاعر مع شعره , ويواصل ابن سلام تشكيكه في واقع كمية الشعر الذي وصلنا . يقول : ( كان حماد الراوية غير موثوق به , وكان ينحل شعر الرجل غيره وينحله غير شعره , ويزيد في الأشعار )) . هذا إذا عرفنا أن حماد كان أول من جمع أشعار العرب وصنع لها قصصها للترغيب في النصوص أو التنفير منها . ومعنى هذا أن الشك في صحة نصوص الشعر الجاهلي أمر مطروح للبحث . كما أن قوانين الشعر التي صاغها النقاد العرب القدامى , بما فيها عروض الخليل وضعت لنصوص وصلتنا , ولم توضع للتجربة الشعرية الجاهلية الفعلية , إذ أن هناك شعرا ً جاهليا لم يصلنا , لأن تاريخ الجاهلية ما زال غامضا ً بالفعل حتى الآن .
ويمضي ابن سلام في كتابه , حيث يعتمد مفهوم (( طبقات الشعراء )) فالطبقة الأولى هي (( امرؤ القيس – زهير – الأعشى ) وتجد – كعب بن زهير والحطيئة مثلا في الطبقة الثانية ونجد لبيد بن ربيعة في الطبقة الثالثة وطرفة وعبيد بن الأبرص في السادسة حتى يصل إلى الطبقة العاشرة . والغريب أننا لم نجد أوس بن حجر وبشر بن أبي خازم في الطبقة الثانية وعدي بن زيد في الرابعة .. الخ . ثم يضع طبقات أخرى يسميها ( طبقات فرعية ) وهي :
أولا : شعراء المرائي مثل متمم بن نويرة والخنساء .
ثانيا ً :شعراء القرى العربية : وهي خمس : المدينة – مكة – الطائف – الطائف – البحرين (( وأشعرهن قرية المدينة : شعراؤها : الفحول خمسة : ثلاثة من الخزرج واثنين من الأوس .. وأشعرهم حسان بن ثابت )) .
ثالثا ً: شعراء اليهود : (( وفي يهود المدينة وأكنافها شعر جيد منهم : السموأل - الربيع بن الحقيق كعب بن الاشرف – شريح بن عمران – سعية بن عادياء ( شقيق السموأل ) – أبو قيس بن رفاعة – أبو الذيال – درهم بن زيد بن الأوس .
ثم يقدم عشر طبقات لـ ( فحول الإسلام ) والطبقة الأولى هي : ( جرير – الفرزدق – الأخطل – الراعي ( عبيد بن حصين ) ويضع في الطبقة الثانية – ذو الرمة مثلا ً , وابن قيس الرقيات وجميل بثينة مثلا ً في الطبقة السادسة . . . الخ .
وقد اعتمد ابن سلام على مفاهيم : الطبقة – الفحولة , معتمدا ً مبدأ التشابه بين شعراء الطبقة الواحدة , كما اعتمد المبدأ الكمي للقصائد في تحديد فحولة الشاعر واعتبر أن عيوب الشعر أربعة ( قال يونس : : الزحاف – السناد – الإقواء – الايطاء ) . ولم يعتمد ابن سلام كمية القصائد كمقياس كذلك فإن تقسيم طبقات فحول الإسلام ليس منطقيا وليس له ما يبرره والمشكل هو أن ابن سلام لم يقدم تبريرات غير مقنعة من نمط قوله (( أن أهل العلم , اجتمعوا على أنهم اشعر طبقة )) الخ . ومعنى ذلك أن ابن سلام وقع في الذي نصبه حماد الراوية .


2- ابن قتيبة الدينوري –(الشعر والشعراء ):
ج-الكتاب:
وليس من المبالغة إن تقول أن المقدمة كتابة(الشعر والشعراء) قيمة تكاد تعدل قيمة الكتاب كله إن لم تقل تفوقها ونقصد بالمقدمة هذا القسم من الكتاب الذي وقفه المصنف على حديث الشعر وطبقاته وعناصره وقواعد نقده وهذا البحث من أقدم البحوث النقدية نلمح فيه للمرة الأولى تركيزا للقواعد النقدية وصياغتها صياغة قوية كل ذلك سيجعل لها شانا كبيرا في توجيه الشعراء والنقاد فيما بعد ولهذا السبب أولاها النقاد العرب عناية كبيرة كما عني بها المستشرقون ونقلوها إلى عدد من اللغات الأجنبية ونوهوا بأثرها في النقد العربي
وقد بدأ ابن قتيبة من الصفحات الأولى في كتابه بالإشارة إلى موضوع الكتاب قائلا انه كتاب في إخبار (الشعر والشعراء) وأزمانهم وأقدارهم وأحوالهم وقبائلهم وما يستحسن من هذه الأخبار ويستجاد من تلك الأشعار ولم ينس أن يعرج على المأخذ التي أخذها العلماء على هؤلاء الشعراء من الغلط والخطاء في اللفظ والمعنى وأشار إلى السبق في المعاني أو ما يسمى في النقد باسم (السرقات الأدبية)
ولما كان موضوع (الشعر والشعراء) موضوعا واسعا عمد إلى تحديده لان الإلمام بجميع إخبار الشعراء وأحوالهم في كتاب واحد يكاد يكون مستحيلا فلذا أشار ابن قتيبة إلى انه سيقتصر من القدماء على ذكر الشعراء الذين يحتج بشعرهم في الغريب والنحو والقران والحديث كما انه سيهمل من بحثه هذا الشعراء المقلين والمغمورين والأشخاص الذين غلب عليهم فن آخر غير الفن الشعر ولم يقصر ابن قتيبة حديثه على الشعراء القدامى الذين يحتج بشعرهم فقط بل تجاوزهم إلى ذكر مجموعة من الشعراء المحدثين ثم علل الأسباب التي جعلته يخصص جزءا من كتابه للحديث عن هؤلاء المحدثين مخالفا بذلك من سبقه إلى التأليف في هذا الباب ففتح باب الحديث عن هؤلاء المحدثين مخالفا بذلك من سبقه إلى التأليف في هذا الباب ففتح باب الحديث عن هؤلاء المحدثين على مصراعيه بعد أن أوصده من تقدمه من النقاد السابقين
وأعلن مبدأ المساواة في نظر النقد بين القديم و المحدث لان القدم والحدوث أمران نسبيان لا صلة لهما بالقيمة الفنية للأثر المدروس وقد ألح على هذه الفكرة التي كثر المراء والجدل حولها في عصر ابن قتيبة وأكدها بجرأة فقال: (( فكل من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرناه له وأثنينا به عليه ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله ولان حداثة سنه كما أن الردئ إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه
ويبدو أن ابن قتيبة كان عازما على أن يضمن هذا المصنف مل ما يتصل بالأدب مع ملاحظة المفهوم الواسع لكلمة أدب فكان يتوق إلى الحديث عن قدر الشعر وعن فن المديح والهجاء وما يتطلبه هذان الغرضان من معرفة الأنساب والسير يضاف إليهما فن الحكمة وفن الوصف وبخاصة وصف الخيل والعلوم المتصلة بها والنجوم والأهواء والرياح والبروق والسحاب وغير انه وجد أن الحديث عن هذه الأشياء سيكون معادا مكرورا لأنه استوفى الحديث عنها في كتابة الذي سماه (كتاب العرب) لهذا صرف النظر عن الحديث عنها ثانية في هذا الكتاب
وانتقل بعد ذلك إلى شرح بعض مبادئ النقد الأدبي التي لا بد لكل من يتصدى لدراسة الآثار الشعرية من الإلمام بها ولذلك حلل الشعر إلى عنصريه الأساسيين:
اللفظ والمعنى وحاول أن يحدد قيمة كل من هذين العنصرين على انفراد وقاده ذلك إلى تقسيم الشعر إلى أربعة اضرب تبعا لحالات كل من العنصرين الأساسيين وهذه الاضرب هي:
-ضرب حسن اللفظ والمعنى
-ضرب حسن اللفظ وليس في معناه كبير طائل
-ضرب حسن المعنى مقصر اللفظ
-ضرب متأخر المعنى واللفظ
وقد أكثر ابن قتيبة في كلامه على هذه الاضرب من الإتيان بالشواهد وقادته بمعنى الشواهد إلى الأقاصيص والأخبار والنوادر التي يستدعيها الاستطراد لا عند ابن قتيبة فحسب بل عند أكثر المؤلفين في هذه الحقبة
وهو في تنقله بين الشواهد التي يعرضها في كل ضرب من الاضرب الأربعة ينتهز كل مناسبة تسنح له لإبداء راية في بعض القضايا النقدية كرأيه في شعر العلماء أمثال الأصمعي وابن المقفع والخليل بن احمد ومجانبة هذا الشعر للسهولة ولا سماح الخاطر كما نقد قبيح أسماء الإعلام و الكنى والألقاب التي حشدها الشعراء في أشعارهم وهم بغنى عن حشدها وابدي عجبه من اختيار الأصمعي الذي تهجم به ذوقه على اختيار ميمية المرقش(التي نعتها ابن قتيبة بأنها وأمثالها ليست بصحيحة الوزن ولا حسنة الروى ولا متخيرة اللفظ ولا لطيفة المعنى
وانتقل ابن قتيبة بعد ذلك إلى الكلام على موضوع ذي أهمية وخطر في تاريخنا النقدي نعني به أقسام القصيدة العربية أو هيكلها فشرح هذه الأقسام من وصف الأطلال إلى النسيب إلى ذكر مشاهد الترحل ووصف الراحلة ثم المدح أو غيرها من الأقسام الأخرى وتبدو لفتته البارعة وحسه النقدي في تعليله لظاهرة البدء في الوقوف على الأطلال والافتتاح بذكر النسيب والأثر النفسي لهذا في مطلع القصيدة العربية ثم أوضح تسلسل هذه الأقسام في القصيدة العربية وصرح بأنه من أنصار المحافظة على هذا المنهج التقليدي وجعل من سلوك هذا المنهج ومن العدل بين هذه الأقسام وتوزيعها توزيعا سويا شرطا من شروط الإجادة في الشعر
وعلى الرغم من أن ابن قتيبة أعار المحدثين شيئا من اهتمامه إلا انه ظل ينزع إلى القديم وظل يعجب بمذاهب القدامى في الشعر ويدعو المتأخرين إلى الاحتذاء على حذو المتقدمين في مذاهبهم ومناهجهم وتؤخذ عليه هذه النظرة التحكمية في الفن وفي وسائل التعبير عنه
ومن النظرات الأصيلة في كلام ابن قتيبة والتي أكدها في أكثر من موضع في هذه المقدمة قضية(الصنعة والطبع) فوضح الفرق بين هذين المذهبين واتى بالأمثلة الكثيرة مازجا في كثير من الأمثلة بين التكلف والتثقيف وبين الطبع والارتجال متحدثا عن مظاهر التكلف وانعكاسها في شعر الشاعر وإلجائها الناظم إلى ركوب الضرورات الشعرية ومحاولة الشاعر تلفيق الأفكار والتحاليل عليها بالوصف المقتسر بعد أن أعيته الغريزة السمحة عن اسلاس قيادها
ثم نرى المؤلف ينتقل إلى البحث في موضوعات أخرى تقع على هامش الموضوع الأساسي كالدواعي النفسية التي تسهل قول الشعر على الشاعر كالطمع والشوق والغضب والسرور والدواعي النفسية المضادة التي من شأنها أن تنضب معين الشاعر وتنزح ركية كالغم وسوء الغذاء
فإذا أضفنا إلى العامل النفسي عاملي الزمان والمكان إلفينا ابن قتيبة يفسر على ضوء هذه العوامل سر تفاوت الأبيات في القصيدة الواحدة عند بعض الشعراء
وتكلم ابن قتيبة على الأسباب المختلفة التي يختار عليها الشعر ويحفظ والتي منها بالإضافة إلى جودة اللفظ والمعنى الإصابة في التشبيه وخفة الروي أو لان الشعر من النوع العزيز الذي لم يقل قائله غيره أو لندرة معانيه وغرابتها أو لنيل قائله
ثم اختتم كلامه بذكر بعض عيوب الشعر كعيوب القافية من إقواء وأكفاء وسناد وإبطاء وإجازة وعيوب الإعراب وعلى رأس هذه العيوب التي تمت إلى النقد بصلة تلك التي يسمونها بالضرورات الشعرية
وقبل أن ينهي كلامه توجه إلى الشاعر المحدث محذرا إياه من تقليد القدامى في استعمال وحشي الكلام واستعمال اللغات (اللهجات) القليلة في كلام العرب وركوب المركب الخشن في الأساليب التي لا تصح في الوزن ولا تحلو في الإسماع ثم أحال قارئه ثانية إلى كتابة (كتاب العرب) الذي أودعه في الشعر أشياء من هذا الفن وغيره فليقراءه أن طلب مزيدا من مثل هذه النظرات وتجاوز هذه المقدمة إلى الحديث عن أوائل الشعراء تمهيدا لذكر الشعراء المشهورين فردا فردا
هذا عرض سريع وخلاصة موجزة لتلك المقدمة المشهورة ومن الجدير بالذكر أن تقول أننا إذا اعرضنا عن التفاصيل والأفكار الثانوية فلن نعثر في هذه المقدمة إلا على ثلاث فكر.
يبدأ ابن قتيبة ( 828 م – 889 م ) وهو من نقاد القرن الثالث منهجه في النظر لشعر والشعراء بهذا القول الغريب : ( كان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو وفي كتاب الله عز و جل وحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ) , فشهرة الشاعر هنا تعني استعمال شعره من اجل الشواهد النحوية مثلا ً , مع أن بعض الشعراء لا يعرف لهم من إنتاج شعري سوى تلك الشواهد , والاعتراض هو : هل نقيم نظرية أو قانونا ً من قوانين الشعر اعتمادا على بيت وحيد لشاعر استعمل كشاهد واشتهر بسببه ؟ !! إن هذا الفهم للشهرة الذي يوازي القوة محدود وخاطئ . وهذا يذكرنا حاليا بنقاد العرب في نهاية القرن العشرين يجتازون نماذج شعرية للدراسة , لأنها تصلح للدراسة وقراءة ظواهر فردية , دون أن تكون هذه الظواهر جامعة , ويقدم ابن قتيبة تصنيفا ً لمستويات الشعر على النحو التالي :
أولا ً : حسن لفظه وجاد معناه .
ثانيا:حسن لفظه وحلا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى .
ثالثا :جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه .
رابعا ً: تأخر معناه وتأخر لفظه.
إذا ً فإن ابن قتيبة يعتمد مسألة الفصل بين المعاني والألفاظ في حين نجد مصطلح الجاحظ (( الصيغة )) أكثر تقدما ً . ثم يبدأ ابن قتيبة بشرح مفهومه للشعرية :
أولا ً يقول (( سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا ً لذكر أهلها الظاعنين عنها , ثم وصل ذلك بالنسيب والتشبيب , فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام فلم يجعل واحدا ً منها اغلب على الشعر ولم يطل فيمل السامعين ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد )) .
ثانيا ً :يقول : (( ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه والى المتأخر بعين الاحتقار لتأخره , بل نظرت بعين العدل على الفريقين , فإن رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله , ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا انه قيل في زمانه أو انه رأى قائله . ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قوماً دون قوم , بل جعل كل قديم حديثا ً في عصره . وكان عمره بن العلاء يقول : لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته )) .
ثالثا ً :ليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب الأقدمين )) يقول ابن قتيبة أيضا ً
رابعا ً :يقول (( ومن الشعراء المتكلف والمطبوع , فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقافة ونقحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر بعد النظر )) .
خامسا ً :وللشعر دواع تحث البطيء وتبعث المتكلف : منها الطمع ومنها الشوق ومنها الشراب , ومنها الطرب ومنها الغضب )) .
سادسا ً :وللشعر أوقات يسرع فيها ابنه ويسمح فيها أبيه منها الليل ومنها صدر النهار قبل الغذاء ومنها يوم شرب الدواء ومنها الخلوة في الحبس والمسير .
سابعا ً :وكل علم يحتاج إلى السماع وأحوجه إلى ذلك علم الدين ثم الشعر لما فيه من الألفاظ الغريبة واللغات المختلفة والكلام الوحشي وأسماء الشجر والنبات والموضيع والمياه .
ثامنا ً :والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي واراك صدر بيته عجزه وفي فتحته قافيته . وتبنيت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة . وإذا امتحن لم يتلعثم والشعراء في الطبع مختلفون . منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء ومنهم من يتيسر له المرائي ويتعذر عليه الغزل .
تاسعا ً:عيوب الشعر : الإقواء والعيب في الإعراب .
هذه عينة مركزية من كتاب ابن قتيبة , نزعم أنها تمثل وجهة نظره في مفهوم شعرية الشعر , لقد رأى بعض النقاد في النص الأول دليلا ً على تقليدية ابن قتيبة حيث يقول : (( سمعت بعض أهل الأدب )) . إلى أن يصل إلى الاستنتاج الذي يبدأ من جملة ( فالشاعر المجيد ) وقد فهمت الجملة الثانية على أنها تؤكد وتؤيد ( بعض أهل الأدب ) ولو قال ابن قتيبة ( فالشاعر المجيد ) برأي هؤلاء ... من سلك هذه الأساليب ( القديمة ) لاستقام المعنى وفهم انه ضد التقليد ولكنه لم يفعل فبقيت الجملة تعطي معنى التأييد للقدم . وهكذا اختلط الأمر حول موقف ابن قتيبة . ثم جاء النص الثالث ليؤكد موقفه التقليدي حين يقول : (( وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب الأقدمين )) . ولكن حين نقرأ موقفه من مسألة القديم والجديد في النص الثاني نكتشف موقفا ً يناقض مواقفه الأولى , فما هي حقيقة موقف ابن قتيبة هل هو مع القديم أم مع الحديث , أم هو متناقض في موقفه ؟؟ , وهو يوحي لنا في النص الرابع أن الشعر ضد الصناعة لكنه يقف مع الصناعة في النص الثامن , لان الصفات التي يوردها للمطبوع من الشعر توحي بالجمع بين الصناعة والغريزة . كذلك حين يعد عيوب الشعر .
أما حين يتحدث عن حوافز الشعر فهو يرجعها إلى عادات إنسانية سلوكية على عكس عرب الجاهلية الذين ردوا الشعر إلى (( شيطان الشعر )) . كذلك حين يتحدث عن ( أوقات كتابة الشعر ) فهو يذكرك بالرومانتيكية الأوروبية فيما بعد , وهو أيضا في النص السابع يقرر وجود بنى معرفية في الشعر ولا بد من معرفتها من قبل القارئ ليسهل وصول الشعر إليه , وهو أيضا في النص الثاني ينفي قداسة وأسطورية الماضي المنتهي لأنه انتهى . ويرى انه إذا قبلنا بوجود حالة أسطورية شعرية في النظر إلى شعر القدماء فعلينا إلا ننفي هذه الأسطورة عن شعراء الحاضر لمجرد أننا نراهم ونعيش معهم ونكتشف ضعفهم الإنساني , لأنهم سوف يتأسطرون في المستقبل .
3- عبد الله بن المعتز : (( كتاب البديع )) :
الكتــــــاب:
على الرغم من أن كتاب ((البديع)) ليس كتابا في النقد الأدبي الخالص إلا انه يمثل مرحلة من مراحل تطور النقد في القرن الثالث وعندما نقول أن الكتاب ليس كتاب نقد خالص فأننا لا ننفي قربه من موضوع النقد لان كتاب البديع يمكن أن يقال عنه انه بحث في الأساليب التعبيرية التي أولع باستعمالها الشعراء في عصر ابن المعتز وقبل عصره وأطلقوا عليها اسم البديع
ومن المعلوم أن ابن المعتز ليس واضع هذا المصطلح (البديع) وإنما تنسب هذه اللفظة بهذا المعنى إلى مسلم من شعراء أواخر القرن الثاني(متوفي سنة 208) والذي يعتبر الأمام الأول لمذهب البديع في الشعر وكان يعرف قبل ذلك باللطيف ودرج على هذا اللقب من بعده من العلماء والأدباء وقد سبق الجاحظ ابن المعتز أيضا إلى استعمال هذه اللفظة فهناك غير ما موضع في (البيان والتبيين) ذكر فيه الجاحظ لفظة البديع وصفا للطيف من الشعر فقال:
(( فالراعي كثير البديع في شعره وبشار حسن البديع والعتابي يذهب شعره في البديع وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف ذلك من شعر المولدين كالنمرى ومسلم وأشباههما وكان العتابي يحتذى حذ وبشار في البديع ولم يكن في المولدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة)) وقال: ((والبديع مقصور على العرب)) وقال عن قول الأشهب بن رميلة ((هم ساعد الدهر...)): وهذا الذي تسميه الرواة بالبديع
ويشير ابن المعتز في كتابه إلى أن هذه اللفظة من وضع المحدثين وان كانت معروفة قبلهم فلذا قال: (( فقد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة ...من الكلام الذي سماه المحدثون((البديع))ثم قال: (( البديع اسم موضوع لفنون من الشعر يذكرها الشعراء ونقاد المتأدبين منهم فأما العلماء باللغة والشعر القديم فلا يعرفون هذا الاسم ولا يدرون ما هو))
ولابن المعتز فضل السبق إلى تأليف هذا الكتاب الذي كان أول كتاب جمعت فيه فنون البديع وقد صرح هو نفسه حين قال : ((وما جمع فنون البديع ولا سبقني إليه احد))
ولا يسعنا إلا أن نقول أن ظاهرة البديع ظاهرة قديمة ولكن حديث ابن المعتز عنها اكسبها الوضوح والتحديد ولهذا يعتبر كتابه هذا حدثا عظيم الأهمية في تاريخ النقد العربي للسبيين التاليين :
الأول: انه حدد خصائص مذهب البديع ووضح مفهومه وتعتبر محاولته هذه أول محاولة من هذا النوع قصد بها تحديد مفهوم المصطلحات البديعية التي كانت آنذاك ما تزال غائمة مضطربة في أذهان بعض الناس ولذلك بحث عن هذه الخصائص البديعية وأحصاها وعرضها والتمس لها الأمثلة والشواهد
الثاني: انه كان ينبوعا ثرا استقى منه النقاد اللاحقون وتأثروا بإحكامه وخذوا حذو مصطلحاته وقد اختلف وجهات نظر نقادنا المعاصرين في آراء ابن المعتز التي ساقها في كتاب البديع فبعضهم اعتبر هذا الكتاب وما فيه من آراء نقدية تأثرا بالثقافة اليونانية واحد ردود الفعل التي أحدثها في الدراسات البلاغية والنقدية عند العرب نقل أثار أرسطو إلى اللغة العربية على حين اعتبر بعضهم هذا الكتاب نتاجا خالصا وحجة من اخذ بهذا الرأي أن كتاب البديع من أول مؤلفات ابن المعتز(ألفة سنة 274) وهذا يعني انه ألفه قبل أن يلم بثقافة غير الثقافة العربية
وان هذا الكتاب إذا ما قورن بكتاب ككتاب (فصول الثماثيل)وهو احد المؤلفات التي الفتها في آخر حياته وجد الأول عربيا خالصا في ثقافته على حين كان الثاني مظهرا لثقافة منوعة متعددة تمتد من شتى ألوان الثقافات المعاصرة للمؤلف
وحجة الذين يزعمون أن ابن المعتز قد تأثر في كتابه هذا بثقافات غير عربية يذهبون إلى أن ابن المعتز قد تأثر بالثقافة اليونانية وبخاصة بأرسطو وبالأخص بكتابه(الخطابة) ويسوقون بين يدي ادعائهم هذا مجموعة من البراهين من بينها أن حنين بن اسحق المتوفي سنة 296 كان قد ترجم كتاب (الخطابة) لأرسطو وهذا يدل على أن العرب قد عرفوا كتاب الخطابة وما به من آراء بلاغية ونقدية في النصف الأخير من الفرن الثالث الهجري
ويذهبون أكثر من ذلك إلى أن أربعة فنون بديعية من أصل خمسة فنون سماها ابن المعتز البديع كان أرسطو قد تناولها في كتاب الخطابة وهي الاستعارة والطباق والجناس ويسميه أرسطو( المشابهة ثم رد الأعجاز على الصدور وأما الفن الخامس وهو المذهب الكلامي فيذكر ابن المعتز نفسه انه أخذه عن الجاحظ فهو فن عربي الأصل وان لم يكن من خصائص الصياغة وإنما كان منهجا عقليا ليس غير
ويلخص هؤلاء النقاد إلى إن ابن المعتز قد تأثر بأرسطو وان كان هذا التأثر لا ينقص ابن المعتز فضله ذلك لأنه لم يأخذ عن أرسطو إلا التوجيه العام وطريقة تحليل الظواهر النقدية والبلاغية التي طبقها ابن المعتز على اللغة العربية باحثا عن الأمثلة في القرآن الكريم والحديث الشريف وشعر المتقدمين والمتأخرين
وأنصف هؤلاء النقاد ابن المعتز بأنه لم يقتصر على التعريفات والتقاسيم بل تعداها إلى نقد المهيب من كل وجه من أوجه البديع التي ذكرها ولكنهم عادوا مرة أخرى إلى التماس الشبه بين ابن المعتز وأرسطو فوجدوا ابن المعتز قد حذا في هذه الظاهرة حذو أرسطو في حديثه عن نقد المهيب من الاستعارة في الفصل الثالث من (خطابته) أيضا
مضمون الكتاب ومنهجه وغايته:
تضمن كتاب البديع ثمانية عشر نوعا من الأنواع البديعية وهي:
الاستعارة والتجنيس والمطابقة ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها والمذهب الكلامي والاتفات والاعتراض والرجوع وحسن الخروج وتأكيد المدح بما يشبه الذم وتجاهل العارف والهزل الذي يراد به الجد وحسن التضمين والتحريض والكناية والإفراط في الصفقة وحسن التشبيه ولزوم ما لا يلزم وحسن الابتداء
وفي رأى ابن المعتز إن الأنواع الخمسة الأولى هي أنواع بديعية حقا وإما ما سواها فمن محاسن الكلام والشعر وما ذكرها في كتابه إلا لكيلا يرى بالتقصير في التأليف أو الجهل بما ينبغي إن يعرف فان بعض الأدباء يعتبرون كل محاسن الكلام بديعا ولهذا قال ابن المعتز في كتابه بعد إن انتهى من الكلام على الأبواب الخمسة الأولى: ((وقد قدمنا أبواب البديع الخمسة وكمل عندنا وكأني بالمعاند المغرم بالاعتراض على الفضائل قد قال: البديع أكثر من هذا أو قال: البديع باب أو بابان من الفنون الخمسة التي قدمناها...ونحن الآن نذكر بعض محاسن الكلام والشعر ومحاسنهما كثيرة لا ينبغي للعالم إن يدعي الإحاطة بها))
ومن هذا النص نفهم إن البديع وفنونه كان من الموضوعات التي تشغل في عصر ابن المعتز الأوساط الأدبية وتكثر المناقشة في أمرها فلما أحسن ابن المعتز بإقبال الناس على هذا المذهب البديعي واحتدام جداول الأدباء والنقاد حوله أحب إن يوضح هذا المذهب الأدبي لأنه من الواضح إن كل مذهب أدبي لا يستقر ولا يأخذ الأدباء في التعصب له أو عليه حتى يصاغ في قواعد أولية ويتبلور في مبادئ نظرية
هذا الصنيع هو الذي صنعه ابن المعتز ولذلك تعتبر محاولته رائدة في توضيح مفهومات الفنون البديعية وتحديدها ومحاولة إحصائها وكان صنيعه هذا فيما يبدو من اكبر الأسباب التي مكنت المخصومة بين أنصار القديم وأنصار الحديث لان مبادئ مذهب البديع أصبحت معروفة محددة ومن هنا جاء فضل ابن المعتز على أكثر النقاد والبلاغيين الذي جاؤوا بعده فوجدوا طريق الحديث في البديع لا حبة ممهدة لما وضعه ابن المعتز على جانبيها من سوى ترشيد الساري وتأخذ بيده إلى سواء السبيل
أما منهج المؤلف في دراسة كل فن من هذه الفنون التي عددها فأنه يقوم على تعريف هذا الفن أولا تم الإتيان بشواهد نثرية مختارة من القرآن والحديث ومن كلام العرب في الجاهلية والإسلام ثم يرد فيها بشواهد مختارة من الشعر القديم جاهلية وإسلامية يتبعها بالأمثلة التي يختارها من شعر المحدثين ونثرهم ثم يختم البحث في كل فن بذكر مناسبتها وهو في كل هذا يعزو القول إلى صاحبه والكلمة إلى قائلها ما وسعه ذلك والأمثلة التي أوردها بكثرتها وترتيبها وحسن اختيارها دليل على ما يتصف به المؤلف من ثقافة عربية أدبية واسعة
إما الغاية من تأليف الكتاب فقد صرح بها المؤلف في فاتحة كتابه فقال:
(( قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم انب شارا ومسلما وأبا نواس ومن تقيلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ... )) وقال أيضا: وإنما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس إن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع))
ليست غاية ابن المعتز إذا من كتابه هذا إن يقدم للأدباء والشعراء بحثا بلاغيا يرشدهم فيه إلى الفنون البديعية التي من شأنها- إذا أحسن استعمالها إن تزيد في جمال العبارة الأدبية وإنما غايته –قبل كل شيء- أن ينفي عن المحدثين ما ينسبه إليهم بعضهم أو ما ينسبونه هم إلى أنفسهم من فضل حين يدعون أن البديع فن محدث وأنهم مبتدعوه وكان مراده إن يثبت لهم عكس ذلك: إن الفنون البديعية قديمة في الكلام العربي شعره ونثره ولذلك نراه يهرع إلى الفنون القديمة من القرآن والحديث وكلام الأعراب والشعر ليستنبط من كل ذلك الأمثلة الكثيرة التي يؤيد بها رايه
والحقيقة إن الأدب العربي في شعره ونثره لا يخلو من هذه الأساليب التعبيرية التي سماها المحدثون بديعا ولكن التعبير البديعي لم يصبح متوخى لذاته ولم يغد مدرسة فنية مشهورة- أن صحت هذه التسمية – لها إعلامها وأنصارها والمدافعون عنها والرادون على خصومها إلا في العصر العباسي الأول في ظل من الحضارة الجديدة المترفة ويعترف ابن المعتز نفسه بان الذين أطلقوا اسم ((البديع)) على هذه الأساليب التعبيرية إنما هم المحدثون الذين شغفوا بالبديع وأفرطوا فيه إفراطا أخرجهم عن سواء القصد ومن المسلم به أيضا إن المحدثين هم الذين اختاروا لهذه الفنون البديعية أسماءها الكثيرة ومنهم ابن المعتز فاتفقوا في بعضها واختلفوا في بعضها
وعلى الرغم من الحظ القليل الذي أصابه المحدثون من كتاب البديع هذا ومحاولة الرجوع بالبديع إلى جذوره القديمة فان لهذا الموقف السلبي الذي وقفه ابن المعتز من المحدثين معنى لا يخفى على الباحث وهو الموقف الذي تمليه الرغبة في الدفاع عن التراث الأدبي القديم والحذر من الشعوبية التي كانت تحرص على أن ترد الفضل في كل مظاهر الحضارة الفكرية والفنية والأدبية إلى المحدثين وبالتالي إلى الأمم الأخرى التي أسهمت في الحضارة العربية ومن هنا يمكن اعتبار الكتاب من حيث غاية تأليفه ردا من ردود الفعل التي أحدثها نقل آثار البلاغة اليونانية إلى اللغة العربية آنذاك
وبعد إن اطمأن ابن المعتز إلى تحقيق الغاية التي توخاها من كتاب البديع رغب في إن يعدل موقفه من المحدثين لكيلا يغمطهم حقهم فعمد إلى تأليف كتاب قصره عليهم سماه ((طبقات الشعراء
قال عبد الله بن المعتز : ( 296 هـ ) في كتاب البديع ما يلي : (( قدمنا في أبواب كتابنا ماوجدنا في القرآن والسنة واللغة وأحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام , وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع , ليعلم بشارا ومسلما وأبو نواس ومن تقبلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم فأعرب عنه ودل عليه . ثم أن حبيب ابن اوس الطائي من بعدهم شغف به حتى غلب عليه وتفرع فيه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض وتلك عقمى الإفراط وثمرة الإسراف وإنما كان يقول الشاعر من هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة وربما قرئت من شعر احدهم قصائد من غير أن يوجد بها بيت بديع وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى نادرا ويزداد حظوة بين الكلام المرسل . وقد كان بعض العلماء يشبه الطائي في البديع بصالح بن عبد القدوس في الأمثال ويقول : لو أن صالحا ً نثر أمثاله في شعره جعل بينها فصولا من كلامه لسبق أهل زمانه وغلب على مد ميدانه وهذا اعدل كلام سمعته في هذا المعنى )) .
ثم يقدم ابن المعتز أنواع الكلام البديع :
أولا : الاستعارة : يعطي ابن المعتز الاستعارة المقام الأول , فالاستعارة هي (( استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء قد يعرف بها شيء قد عرف بها )) . مثل جناح الذل – فحمة العشاء – زيد المشركين – عقد الخوف - ... الخ , وكان هدف ابن المعتز كما يقول : (( تعريف الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع ثم يقدم أمثلة من الاستعارة في القرآن والحديث والشعر المتقدم والمحدث . ثم يقدم أمثلة من الاستعارة (( مما عيب من الشعر والكلام ليعرف فيتجنب )) . مثل : (( اقعد على أست الأرض )) – ( انقطع شريان الغمام )) – (( فضربت الشتاء في اخدعيه )) – (( ولما رأيت الدهر يقلب ظهره . على بطنه )) . . . الخ .
يرى محمد مندور أن تعريف ابن المعتز للاستعارة منقول عن تعريف أرسطو لها ويورد أرسطو للاستعارة بأنها : ( نقل اسم شيء إلى غيره )) . ويرى أرسطو أن التشبيه هو استعارة (( وذلك انه قليل الاختلاف عنها )) .
ثانيا ً : التجنيس : يعرف ابن المعتز التجنيس : هو أن تجيء الكلمة تجانس أخرى في بيت شعر وكلام ومجانستها لها أن تشبهها في تأليف حروفها على السبيل الذي ألف الأصمعي كتاب الأجناس عليها . وقال الخليل : الجنس لكل ضرب من الناس والطير والعروض والنحو , فمنه ما تكون الكلمة تجانس في تأليف حروفها ومعناها ويشتق منها )) . مثل يوم ٌ خلجت على الخليج نفوسهم – أن لوم العاشق اللوم – عصبة عصت الله – ظلمان الظلم – وسميته يحيى ليحيى – الخ .. . ) .
ومن التجنيس المعيب في الكلام والشعر – يقول ابن المعتز – قول بعض المحدثين (( هي الجآذر كلا إنها حور ٌ .. كأنها صور لكنها صور )) – (( تشكي العقوق وقد عق العقيق لها )) . – (( ذهب بمذهبه السماحة فالتوت .. . الخ .
ثالثا ً : المطابقة : يقول ابن المعتز (( قال الخليل : يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعتهما على حذو واحد وكذلك قال أبو سعيد القائل لصاحبه أتيناك لتسلك بنا سبيل التوسع فأدخلنا في ضيق الضمان قد طابق بين السعة والضيق في هذا الخطاب )) . مثل (( ولكم في القصاص حيوة يا أولي الألباب – فرد شعورهن السود بيضا . . . ورد وجوههن البيض سودا –أفاطم قد زوجت من غير خبرة . . فتى من بني العباس ليس بطائل )) . فإن قلت من آل النبي فإنه . . . وإن كان حر الأصل , عبد الشمائل )) . ومن المعيب من المطابقة قول الشعر : (( قلت المقام وناعب قال النوى . . . فعصيت أمري والمطاع غراب )) . يقول ابن المعتز : (( وهذا من غث الكلام وبارده )) .
رابعا ً : رد إعجاز الكلام على ما تقدمها : يقول ابن المعتز : ينقسم هذا الباب إلى ثلاثة أقسام: فمن هذا الباب ما يوافق آخر كلمة في نصفه الأول مثل قول الشاعر :
تلقى إذا ما الأمر كان عرمرما ً . . . في جيش رأي لا يفل عرمرم )) . ومنه ما يوافق آخر كلمة منه أول كلمة في نصفه الأول مثل (( سريع إلى ابن العم يشتم عرضه . . . وليس إلى داعي الندى سريع )) . ومنه ما يوافق كلمة فيه بعض ما فيه مثل : عميد بني سليم أقصدته . . . سهام الموت وهي له سهام . )) .
خامسا ً : المذهب الكلامي : يقول ابن المعتز (( وهو مذهب سماه أبو عمر الجاحظ المذهب الكلامي . وهذا باب ما اعلم إني وجدت في القرآن منه شيئا ً وهو ينسب إلى التكلف , تعالى الله عن ذلك علوا ً كبيرا ً )) . مثل : لكل امرئ نفسان نفس كريمة . . وأخرى يعاصيها الفتى ويطيعها )) . ونفسك من نفسيك تشفع للندى . . . إذا قل من أحرارهن شفيعها )) . ثم يختم ابن المعتز كلامه : (( قدمنا أبواب البديع الخمسة وكمل عندنا )) . فالبديع يقول ابن المعتز (( اسم موضوع لفنون من الشعر يذكرها الشعراء ونقاد المتأدبين منهم , فأما العلماء باللغة والشعر القديم فلا يعرفون هذا الاسم ولا يرون ما هو وما جمع فنون البديع , ولا سبقني إليه احد وألفته سنة أربع وسبعين ومائتين ( 274 هـ ) وأول من نسخه مني – علي بن هرون بن يحيى بن أبي المنصور المنجم )) .
لكن ابن المعتز يستدرك فيقدم أنواعا أخرى فرعية سماها – محاسن الكلام , ويرى أن فنون البديع الأساسية هي الخمسة السابقة أما محاسن الكلام فهي :
1- الالتفات : هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك ومن الالتفاف : الانصراف عن معنى يكون به إلى معنى آخر .
2- التتميم : من محاسن الكلام والشعر اعتراض كلام في كلام لم يتمم معناه ثم يعود إليه فيتممه في بيت واحد .
3- الرجوع : هو أن يقول شيئا ً ويرجع عنه .
4- حسن الخروج : هو الخروج من معنى إلى معنى .
5- تأكيد مدح بما يشبه الذم .
6- تجاهل العارف .
7- هزل يراد به الجد .
8- حسن التضمين .
9 التعريض والكناية .
10- الإفراط في الصفة .
11- حسن التشبيه .
12- حسن الابتدآت .
هذا كل ما أراد عبد الله بن المعتز قوله في كتاب ( البديع ) وبما يلي ملاحظاتنا :
أولا ً : ولد البديع في الشعر المتقدم قبل ولادته في شعر المحدثين . وولد البديع قبل أن يولد علم البديع على يدي ابن المعتز سنة 472 هـ , ويبدو أن نقاد وشعراء زمانه زعموا أنهم مخترعوا علم البديع . لهذا كان هدفه الأساسي هو إثبات وجود البديع في الشعر القديم بشكل عفوي . ويرى ابن المعتز أن بعض المحدثين تعمد استخدام البديع وأكثر منه ليستولي على ادعاء السبق .
ثانيا ً : نلاحظ نقطة ايجابية مهمة : بحث ابن المعتز في فنون البديع في أنواع مختلفة من الكتابة الشعرية والنثرية , حيث ألغى الحدود بين الشعر والنثر . وألغى الحدود بين المقدس والعادي . حيث وضع القرآن في مستوى واحد من التحليل ما عدا مرة واحدة عند حديثه عن المذهب الكلامي من زاوية تكلفه .
ثالثا ً : أعطى ابن المعتز أهمية أولى للاستعارة بشكل خاص ثم لفنون البديع الأربعة الأخرى الأساسية وهذا أمر مهم . لكننا بعد ذلك حين نقرأ أنواع المحاسن الكلام وعددها 12 وصفها بأنها اختيارية وبالتالي ثانوية . ولكننا حين ندقق في مقياسه هذا أي ثنائية الأساسي والثانوي , نجد تناقضا ً واضحا ً , لأنه أولا اعتبر بعض الفنون ثانوية مع أنها أكثر أهمية من بعض الفنون التي اعتبرها أساسية والعكس صحيح وهنا بعض الفنون البديعية يمكن وضعها في نسق واحد بدلا ً من تفريعها , وهناك فنون شكلية ومحدودة الوجود في أنواع الكتابة لكنها تصلح للاستشهاد بها . وهذا لا يعطيها أهمية . نقول : لو أعطى ابن المعتز كل اهتمامه للاستعارة لخرج بنتائج أفضل , أما أن يتم التوازي في النهاية بين الاستعارة باعتبارها أمرا جوهريا ً وبين فنون زخرفية متكلفة فهذا هو الخلل الأساسي .
4- ابن طباطبا العلوي : عيار الشعر :
كتب محمد احمد ابن طباطبا العلوي ( 322 هـ ) كتابه ( عيار الشعر ) من اجل وصف الشعر والسبب الذي يتوصل به إلى نظمه كما يقول . يرى جابر عصفور أن هناك صلة بين مصطلحي ( علم ) و ( عيار ) . (( . . . لان ثانيهما مترتب على أولهما وإذا كان ( العلم ) هو حصول صورة الشيء في العقل وإدراكه على ما هو به ) فإن العيار هو المقياس الذي يحدد القيمة على أساس من الخصائص النوعية الملازمة لصورة الشيء وكيفية إدراكه في آن ويمكن القول أن مصطلح – عيار الشعر – يرادف الوسائل أو المقاييس التي يتبنى عليها الحكم النقدي على هذا الفن )) .
يبدأ ابن طباطبا كتابه بتعريف للشعر اشتمل على عناصر الوظيفة والماهية والمصدر المعرفي , حيث يقول : (( الشعر : كلام منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم , بما يخص به من النظم الذي أن عدل عن جهته مجته الأسماع , وفسد على الذوق ونظمه معلوم محدود , فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه , ومن اضطرب عليه الذوق لم يستغن من تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به , حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذي لا تكلف معه )) .
إن هذا التعريف ينطوي على عناصر أساسية : أولا ً : النظم الذي يفرق بين الشعر والنظم , وقوانين متعارف عليها من قبل علماء العروض . ومن هنا فإن ابن طباطبا يربط بين النظم وقوانين العروض . وثانيها : صحة الطبع والذوق لدى الشاعر . وثالثها : التفرقة بين المعرفة المكتسبة التي يتم هضمها فتصبح جزءا ً من عفوية الشاعر وبين معرفة أهل العلم لأدوات الشعر , لان معرفة أهل العلم لن تنتج شعرا ً مطبوعا ً . ومعنى هذا انه يفرق بين معرفة الشاعر ومعرفة الناقد لطبيعة الشعر . فالشعر إذا عند ابن طباطبا (( منظوم بالطبع )) . وللشعر أدوات ومصادر معرفية (( يجب إعدادها قبل مراسه وتكلف نظمه )) كما يقول ابن طباطبا (( فمن تعصت عليه أداة من أدواته , لم يكمل له ما يتكلفه منه , وبان الخلل فيما ينظمه ولحقته العيوب من كل جهة )) . ثم يعدد ابن طباطبا هذه الأدوات : 1- التوسع في اللغة – 2- البراعة في فهم الإعراب – 3- الرواية لفنون الآداب – 4- المعرفة بأيام الناس وأنسابهم ومناقبهم – 5- الوقوف على مذاهب العرب في تأسيس الشعر – 6- التصرف وحكاياتها وأمثالها . . . الخ .
ثم يرسم ابن طباطبا نموذجية الشعر على النحو التالي : (( يكون – الشعر – كالسبيكة المفرغة والوشي المنمنم والعقد المنظم واللباس الرائق , وتكون قوافيه كالقوالب لمعانيه وتكون قواعد البناء يتركب عليها ويعلو فوقها فيكون ما قبلها مسوقا إليها ولا تكون مسوقة إليه , فتقلق في مواضعها , ولا توافق ما يتصل بها وتكون الألفاظ منقادة لما تراد له غير مستكرهة ولا متعبة . الخ .
ويصل ابن طباطبا إلى خلاصة لتحديد أدوات وشروط نموذجية الشعر فيقول : (( وجماع هذه الأدوات كمال العقل الذي تتميز به الأضداد , ولزوم العدل وإيثار الحسن واجتناب القبيح ووضع الأشياء في مواضعها )) . . .
هكذا يتحدث ابن طباطبا عم ماهية الشعر ونموذجية الشعر وأدوات الشاعر ومصادره المعرفية المرغوبة مؤكدا ً جانبي : (( الاكتساب والطبع )) . وهذا يقوده إلى اعتبار الشعر صنعة والقصيدة تعتمد على مجموعة من البنى والأنساق والأنظمة والجوامع فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة – يقول ابن طباطبا : (( مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا ً , واعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه , والقوافي التي توافقه , والوزن الذي يسلس له القول عليه . فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه , أثبته . واعمل فكره في شغل القوافي . الخ . . . .
ويضيف ابن طباطبا : (( فإذا كملت المعاني له وكثرت الأبيات . بينها بأبيات تكون نظاما ً لها وسلكا ً جامعا لما تشتت منها . ثم يبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية )) – (( ويكون كالنساج الحاذق وكالنقاش وكناظم الجوهر )) .
وبهذا يرى ابن طباطبا اكتمال الصنعة . ومن هنا ربط بين صناعة الشعر وكمال العقل . هنا نرى أن الشاعر يتحول بالفعل إلى صانع عقلانيي متأمل , كأنه ناقد . وهو يركز على مجموع البنى السطحية أو الأنساق التي يتم ربطها بتخطيط مسبق . فهل يتناقض ذلك كله مع الطبع والعفوية ؟ لقد رأينا أن ابن طباطبا عند تعريفه للشعر اشترط الطبع وقال بوضوح هناك فارق بين معرفة الشاعر بمصادره المعرفية العلمية وبين معرفة العلماء . فالأولى يتم هضمها حتى تتحول إلى جزء من الطبع وفي الثانية تظل المعرفة العلمية منفصلة عن النص ولكن – بالفعل كيف نفرق بين هذا الطبع المكتسب وبين الطبع – الطبع الذي يميز الشاعر عن الناقد . ما دام ابن طباطبا لا يتحدث عن ماهية الطبع الآخر الذي هو غير الطبع المكتسب , هنا يبقى الأمر غامضا ً مثل مصطلح الموهبة ) . وفيما يلي مجموعة من الأفكار الأساسية في أطروحات ابن طباطبا حول الوظيفة والماهية والمعرفة الشعرية :
أولا : إن الشاعر النموذجي (( يعتمد الصدق والوفاق في تشبيهاته وحكاياته فيخاطب الملوك بما يستحقونه من جليل المخاطبات ويتوقى حطها عن مراتبها – ويتوقى – أن يخلطها بالعامة , كما يتوقى أن يرفع العامة إلى درجة الملوك . وبعد لكل معنى ما يليق به ويضع الكلام مواضعه . فإن من كان قبلنا في الجاهلية الجهلاء وفي صدر الإسلام , من الشعراء كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها : مديحا ً وهجاءا وافتخارا وترغيبا ً وترهيبا ً , إلا ما قد احتمل الكذب فيه في حكم الشعر : من الإغراق في الوصف والإفراط في التشبيه . وكان مجرد ما يوردونه مجرى القصص الحق , والمخاطبات بالصدق , فيحابون بما يثابون ويثابون بما يحابون )) .
ثانيا ً : المحنة على شعراء زماننا في أشعارهم اشد منها على من كان قبلهم لأنهم قد سبقوا إلى كل معنى بديع ولفظة فصيحة وحيلة لطيفة وخلابة ساحرة . فإن أتوا بما يقصر عن معاني أولئك ولا يربى عليهم لم يتلق القبول .
ثالثا ً : ويسلك الشاعر منهاج أصحاب الرسائل في بلاغاتهم وتصرفهم في مكاتباتهم , فإن للشعر فصولا ً كفصول الرسائل , فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه على تصرفه في فنونه صلة لطيفة . . باللطف تخلص وأحسن حكاية . بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله بل يكون متصلا ً به وممتزجا ً معه . فإذا استقصى المعنى وأحاطه بالمراد الذي إليه يسوق بأيسر واخف لفظ لم يحتج إلى تطويله وتكريره .
رابعا ً : الشعر على تحصيل جنسه ومعرفة اسمه متشابه الجملة , متفاوت التفصيل مختلف كاختلاف الناس في صورهم وعقولهم . فمن الأشعار أشعار محكمة متقنة أنيقة اللفظ حكيمة المعاني عجيبة التأليف , إذا نفضت وجعلت نثرا ً لم تبطل جودة معانيها ومنها أشعار مموهة مزخرفة عذبة تروق الأسماع والإفهام إذا مرت صفحا فإذا حصلت وانتقدت بهرجت معانيها وزيفت ألفاظها . فبعضها كالقصور المشيدة وبعضها كالخيام التي تزعزعها الرياح )) . وللمعاني ألفاظ تشكلها فتحسن فيها وتقبح في غيرها .
خامسا ً : وستعثر في أشعار المولدين بعجائب استفادوها ممن تقدمهم , ولطفوا في تناول أصولها منهم ولبسوها على من بعدهم , وتكثروا بإبداعها فسلمت لهم عند ادعائها , للطيف سحرهم فيها وزخرفتهم لمعانيها .
سادسا ً : ينبغي للشاعر في عصرنا أن لا يظهر شعره إلا بعد ثقته بجودته . ولا يغير على معاني الشعر فيودعها ويخرجها في أوزان مخالفة لأوزان الأشعار التي يتناول منها ما يتناول . ويتوهم أن تغييره للألفاظ والأوزان مما يستر سرقته . فإذا جاش فكره بالشعر أدى إليه بنتائج ما استفاد مما نظر فيه من تلك الأشعار . فكانت النتيجة كسبيكة مفرغة من جميع الأصناف التي تخرجها المعادن . يحكى عن خالد بن عبد الله القسري انه قال : (( حفظني أبي ألف خطبة ثم قال لي : تناسها , فتناسيتها , فلم أرد بعد ذلك شيئا ً من الكلام إلا سهل علي . )) .
سابعا ً : واعلم أن العرب أودعت أشعارها من الأوصاف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها ومرت به تجاربها وأدركه عيانها . فشبهت الشيء بمثله تشبيها صادقا ً على ما ذهبت إليه في معانيها التي إرادتها فإذا تأملت أشعارها وفتشت جميع تشبيهاتها وجدتها على ضروب مختلفة تتدرج أنواعها .
ثامنا ً : إن العرب أدق طبعا من أن يلفظوا بكلام لا معنى تحته . فالكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه . كما قال بعض الحكماء : للكلام جسد وروح , فجسده النطق وروحه معناه )) .
تاسعا ً : عيار الشعر أن يورد على الفهم الثاقب , فما قبله واصطفاه فهو واف , وما مجه ونفاه فهو ناقص . فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوما ً , مصفى من كدر العي مقوما ً من أود الخطأ واللحن , سالما من جور التأليف , موزونا ً بميزان الصواب لفظا ً ومعنى وتركيبا ً اتسعت طرقه , ولطفت موالجه , فقبله الفهم وارتاح له , وانس له )) .
وللشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم لصوابه ويرد عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه فإذا اجتمع للفهم مع صحة الوزن , صحة المعنى وعذوبة اللفظ , تم قبوله , إن نقص جزء من أجزائه التي يعمل بها وهي : اعتدال الوزن , وصواب المعنى وحسن الألفاظ , كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه )) . ولحسن الشعر وقبول الفهم إي الحال التي يعد معناه لها )) .
عاشرا ً : الشعر هو من ما عري من معنى بديع لم يعر من حسن الديباجة . وما خالف هذا فليس شعرا ً , ومن أحسن المعاني والحكايات في الشعر وأشدها استفزازا ً لمن يسمعها , الابتداء بذكر ما يعلم السامع له إلى أي معنى يساق القول فيه قبل استتمامه وقبل وسط العبارة عنه , والتعريض الخفي الذي يكون بخفائه ابلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر دونه )) .
احد عشر : إذا ابرز الصائغ ما صاغه في غير الهيئة التي عهد عليها , واظهر الصباغ ما صبغه على غير اللون الذي عهد قبل , التبس الأمر في المصوغ وفي المصبوغ على رائيهما فكذلك المعاني وأخذها واستعمالها في الأشعار على اختلاف فنون القول فيها . (( فالشعر – يقول العتابي – رسائل معقودة والرسائل شعر ( محلول ) إذا فتشت أشعار الشعراء كلها وجدتها متناسبة , أما متناسبة قريبا أو بعيدا ً )) .
هذه القراءة المونتاجية للطروحات الأساسية لدى ابن طباطبا في ( عيار الشعر ) تظهر لنا ما يلي : يرى ابن طباطبا أن النموذجية النسبية موجودة فقي الشعر القديم وبالتالي فإن الشاعر المحدث يواجه ( محنة ) وهذه المحنة نابعة من عدم استخدام الشاعر المحدث لمقاييس القدماء وقد بدأ بمقياس ( الصدق والكذب ) , فوضع أساسات أخلاقية لمفهوم الصدق بينما وضع أساسا ً فنيا ً لمفهوم الكذب , فكيف تصح المقارنة بين مفهوم أخلاقي ومفهوم فني رغم اختلافهما في النوع ؟ هذا هو الاعتراض الأول على مفهوم ابن طباطبا للصدق والكذب , والاعتراض الثاني هو في تطبيقه لهذا المفهوم نفسه , حين يضع مقاييس فنية خاطئة للتفرقة بين مخاطبة الملوك ومخاطبة العامة . والاعتراض الثالث هو اعتبار القديم هو النموذج واعتبار المحدث قاصر لأنه تلاه زمنيا ً فقط . زفهم ابن طباطبا الخاطئ لنموذجية مطلقة للقديم جعلته يرى أن كل القول قد قيل قديما ولم يبق شيء يستطيع الجديد أن يوفق به . وهذا الفهم نابع من فهم قاصر لطبيعة الشعر وطبيعة اللغة الشعرية . والاعتراض الرابع هو على مفهومه للسرقات الشعرية . إذ على حد تعبير جابر عصفور (( عندما تخلى ابن طباطبا عن الصدق , لجأ إلى تعليم الشعراء كيفية السرقة )) فقد حول ابن طباطبا السرقة إلى مصدر شرعي من مصادر الشاعر المعرفية ولكنه طالبه بإخفائها جيدا ً كأنه يقول للشاعر (( لا تكن أهبل عندما تسرق )) .
كذلك فإن العقل اللفظي قد سيطر على فكر ابن طباطبا حين يفصل بين المعاني والألفاظ , لأنه ربطها بمفهومي : الحسن والقبيح وهما مفهومان أخلاقيان كما نفهم من تطبيقات ابن طباطبا . ثم نراه يعطي أهمية للتشبيه ولكنه يطلب من الشاعر المحدث أن يقلد تشبيهات القدماء . وكأنه يضع النماذج القديمة في التشبيهات أساسا مطلقا للتشبيه كعنصر من عناصر البنية السطحية . أي انه ركز على ثبات مطلق للتشبيه , وهذا يدل على تسلل الفكر المنطقي الشكلي في فهم ابن طباطبا . ثم نجد أن ابن طباطبا يستنتج قوانين جزئية محدودة من النصوص ليوهمنا أنها قوانين شاملة , مع أن استنتاجات أكثر أهمية يمكن استنباطها من النصوص , لم يتم البحث عنها , حيث وقع ابن طباطبا في إرهابية الشواهد
مع هذا كله فإن محاولة ابن طباطبا مهمة لأنها تتسم بالجدية أكثر من سابقيه وتتسم بالجهد المبذول وحسن النية حين يحاول تحديد الماهية والوظيفة وان كان يطابق مطابقة ميكانيكية بين الشاعر والشعر . وسوف نرى أن الخلل والتناقض في مفهوم ابن طباطبا للصدق والكذب وعلاقة الشعر بالايدولوجيا , يتم نقضه بعد ذلك كما نجد عند أبي بكر الصولي عندما دافع عن أبي تمام ضد متهميه بالكفر في شعره . حيث يقول : (( ما ظننت أن كفرا ً ينقص من شعر ولا أن إيمانا ً يزيد فيه )) . ويرى محمد مندور أن أبا تمام ( كان يتهم بأنه نبطي ولد الأب نصراني ولربما كان في ذلك ما يفسر اتهامه بالكفر) .ومعنى ذلك أن تهمة الكفر لأبي تمام لحقته من خارج النصوص وان أعداءه هاجموا نصوصه لأسباب تقع خارج النصوص هي الأسباب العرقية والدينية .
5- الآمدي : الموازنة :
4 ـ الموازنة
الحسـن بن بشـر الآمـــدى
فقد روى في الموازنة انه نظر في شعر أبي تمام والبحتري في سنة سبع عشرة وثلاثة مئة واختار جيدهما وتلقط محاسنهما فإذا تذكرنا انه توفي سنة 370 أدركنا طول عشرة الناقد لهذين الشاعرين هذه العشرة المستمرة التي بلغت أكثر من خمسين سنة وصفها فقال: ((ثم تصفحت شعريهما بعد ذلك على مر الأوقات)) كانت نواة لتأليف كتابه العظيم وسفره الضخم الذي يعتبر دستور النقد العربي كتاب الموازنة
ويعتبر تأليف كتاب الموازنة هذا تتويجا للحركة النقدية التي نشأت حول أبي تمام والبحتري في النصف الأول من القرن الرابع الهجري لان هذه الحركة قد بلغت أوجها في هذه الفترة وقد كان المدى خير من تصدى لها وألف فيها فالقرن الثالث الذي دفع إلى البروز شاعرين من أفحل شعراء العربية هما أبو تمام والبحتري كان وجودهما يتطلب من القرن الرابع إن يدفع إلى الوجود ناقدا فحلا يتوج بجهوده الحركة النقدية التي نشأت حول مذهبيهما فكان هذا الناقد هو المدى وكان كتابه معجزة النقد الأدبي في القرن الرابع: الموازنة بين الطائيين والمدى على الرغم من طول باعه في النقد وتصانيفه الكثيرة فيه اتخذ أبا تمام والبحتري موضوعا لكتابه لان هذين الشاعرين أغزر شعراء عصرهما إنتاجا وأكثرهم جودة شعر وأبدعهم طرائق فنية ولأنهما صاحبا مذهبين مختلفين في النظم على الرغم من جنوح بعض نقاد زمنه إلى اعتبارهما طبقة واحدة
ولهذا جاء كتاب الموازنة جامعا لأراء القدماء من نقاد القرن الثالث وقسم كبير من نقاد القرن الرابع مضافا إليها ما قاله هو ولا حظه من نظرات نقدية ترسبت لديه من ممارسته لنقد الشعر القديم والمحدث كما كان خلاصة لما كان يدور في المجالس الأدبية والمحافل النقدية التي كانت تتناول الشعر عامة وشعر أبي تمام والبحتري خاصة
إنا وان كنا قد استطعنا إن نعرف إن كتاب (تبيين غلط قدامة ابن جعفر ) قد إلفه لابن العميد فإننا لم نستطع إن نعرف لمن قدم كتابه هذا:الموازنة على الرغم من انه يخاطبه في مطالع الكتاب في أكثر من موضع داعيا له بالعز والتأييد تارة كقوله: ((هذا ما حثثت- أدام الله لك العز والتأييد والتوفيق والتسديد – على تقدمه من الموازنة بين أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وأبي عبادة الوليد بن عبيد الله البحتري في شعريهما)) والدعاء بطول البقاء تارة أخرى كقوله بعد قليل: ((ووجدت – أطال الله بقاءك – أكثر من شاهدته))
ثم الدعاء بطول السلامة ودوامها ثارة ثالثة كقوله: ((فان كنت- أدام الله سلامتك – ممن يفضل سهل الكلام))
تجزئة كتاب الموازنــــة:
إن من المسائل المحيرة التي نطالعها ونحن نتحدث عن كتاب الموازنة قضية تجزئة الكتاب فكل الكتب التي ترجمت للآمدى وتحدثت عن آثاره سكتت عن قضية عدد أجزاء الكتاب باستثناء ما نجده في معجم الأدباء من ذكر لهذه القضية فهو ينقل عن بعضهم إن كتاب الموازنة هذا في عشرة أجزاء ولما كان كتاب الموازنة في قسميه المطبوع والمخطوط غير كامل حتى الآن فإننا لم نستطع الجزم بكيفية هذه الأجزاء العشرة وقد كدنا نعتبر إن هذه التجزئة من ياقوت أو ممن نقل عنهم لأنهم وجدوا نسخة من الموازنة في عشرة أجزاء لولا إنا وجدنا الامدى نفسه يشير إلى هذه التجزئة ففي الصفحة ذات الرقم(133)من الجزء الأول قال بعد البسطة: ((قد ذكرت في الجزء الأول احتجاج كل فرقة من أصحاب أبي تمام والبحتري)) وفي الصفحة ذات الرقم(243)من الجزء نفسه قال: ((وقد ذكرت في الجزء الثاني من كتاب الوازنة بين شعر أبي تمام والبحتري خطأ أبي تمام في الألفاظ والمعاني .... وأنا اذكر في هذا الجزء الرذل من ألفاظه....الخ)
ثم في الصفحة ذات الرقم(291) يبتدئ بالبسطة والصلاة على النبي وهذه إمارة جزء جديد كما انه في الصفحة ذات الرقم(388) يقول: ((وأنا اذكر بإذن الله الآن في هذا الجزء أنواع المعاني التي يتفق فيها الطائيان))
كل هذه الشواهد تدل على إن الامدي نفسه قد قسم كتابه إلى أجزاء تناول في كل جزء ظاهرة من الظواهر النقدية التي يريد إن يتحدث عنها بدليل انه كان يبتدئ هذه الأجزاء بعبارته: ((قال أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الامدى)) كما انه كان بشير إلى انه قد ترك في نهاية كل جزء مجموعة من الأوراق البيض ليلحق بها ما قد يتحصل إليه من شواهد ومعلومات وأمثلة تندرج تحت هذا الباب أو ذاك قال: ((وبيضت آخر الجزء لا لحق به ما وجدته منها في دواوين الشعراء)) وقال مرة أخرى: ((وبيضت آخر الجزء لا لحق به ما يمر من ذلك في شعره واستدركه من بعد في قصائده)) وهاتان العبارتان تثيران في ذهن الدارس سؤالا لا يجد له جوابا وهو:هل هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو مسودة كتاب الموازنة الذي بقيت فيه صفحات بين لم تملأ بدليل هذه العبارات السابقة؟ يدعم هذا التساؤل يقيننا بان كتاب الموازنة من أواخر ما ألف الامدى إن لم يكن أخرها وربما وافته المنية قبل انجاز ما وعد به من ملء هذه الورقات البيض والاستغناء عن العبارات الباقية التي تدل عليها يقودنا هذا التساؤل إلى طرح حل لتساؤل آخر واجهنا ونحن نبحث عن كتاب عن كتاب الموازنة الكامل وهو هل عاجلت المنية الامدى قبل إن يفي بكل ما وعد به في مقدمة هذا السفر الجليل الطويل؟يرشح هذا السؤال إن القسم الأخير مما وعد به الامدى وأكد على إلحاقه بكتاب الموازنة جزءا بالاختيار المجرد من شعريهما مرتبا على حروف المعجم قسم لا وجود له فهذا الجزء لم يعثر عليه في كل النسخ المخطوطة التي عثرنا عليها من كتاب الموازنة وثمة شبهة أخرى وهي إن الامدى بعد إن عرض أقوال المتخاصمين توقف قليلا ليرسم لنا خطة كتابه الذي يقبل على تأليفه وتوقف الامدى هنا ليرسم خطة الكتاب تثير في الذهن تساؤلا يدعم وجهة نظرنا تلك وهي أن الحديث عن خطة للكتاب بعد انقضاء فصل منه استغرق ثلاثا وخمسين صفحة برفد الفكرة التي تكلمنا عنها وهي أن كتاب الموازنة الذي بين أيدينا ما هو إلا مسودة كتاب الموازنة الذي لم يتح للامدى أن يكلمه وان يعيد النظر فيه ويهذبه وينقحه لولا معالجة المنية إياه وإلا فماذا كان يمنعه من وضع خطة الكتاب كاملة في أوله وما كان يمنعه من التوفيق بين عبارات متشابهة طالما رددها في أماكن مختلفة من الكتاب؟
وإذا عدنا إلى قضية التجزئة وسوغنا لا نفسنا إن نتصور تجزئة الكتاب الكامل استنادا إلى ما بين أيدينا منه والى منهج الامدى في التجزئة التي عثرنا عليها في القسم الموجود لدينا أمكننا إن نرسم صورة ما تبقى من أجزاء فتصبح أجزاء الكتاب كما يبدو لنا- كما يلي:
الجزء الأول: ويتضمن احتجاج الفريقين وسرقات أبي تمام ويشمل الصفحات من 1-132 من الجزء الأول المطبوع
الجزء الثاني: ما غلط فيه أبو تمام من المعاني والألفاظ ويشمل الصفحات من 133-242 من الجزء الأول المطبوع
الجزء الثالث: الرذل من الألفاظ أبي تمام والساقط من معانيه ويشمل الصفحات من 243-290 من الجزء الأول المطبوع
الجزء الرابع: سرقات البحتري ويشمل الصفحات من 291-350 من الجزء الأول المطبوع
الجزء الخامس: مأخطأ فيه البحتري ويشمل الصفحات من 350-388 من الجزء الأول المطبوع
الجزء السادس: الدربة والمراس وباب في فضل أبي تمام ويشمل الصفحات من388-399 من الجزء الأول المطبوع
الجزء السابع: باب في فضل البحتري ويشمل الصفحات من 400-405 من الجزء الأول المطبوع
الجزء الثامن: الموازنة التفصيلية ويشمل الصفحات من 405- حتى آخر الجزء الأول المطبوع والجزء الثاني المطبوع بكامله والقسم المخطوط
الجزء التاسع: باب ما وقع في شعريهما من التشبيه وهو مفقود
الجزء العاشر: باب ما وقع في شعريهما من الأمثال وهو مفقود
ويلحق بذلك الاختيار المجرد من شعريهما مرتبا على حروف المعجم – كما وعد – هذه هي الصيغة التي نتصور عليها تجزئة كتاب الموازنة ولقد اطلعنا على ما كتبه الدكتور مندور عن كتاب الموازنة بهذا الصدد فوجدنا تجزئة الكتاب قد حيرته كما حيرتنا ولكنه ذهب إلى حل القضية إلى وجهة نظر غير التي ذهبنا إليها
فهو يسلم بكلمة ياقوت التي ذكر فيها إن الكتاب في عشرة أجزاء ولكنه بنى تصوره لهذه الأجزاء على عبارة وردت على غلاف المخطوط الذي يبتدئ بالموازنة التفصيلية وهذه العبارة تسمى هذا الجزء من الموازنة الجزء الثامن فانطلق الدكتور مندور يبحث عن الأجزاء السبعة التي سبقت هذا الجزء واستعان بما كان الامدى نفسه قد
اللذين سميناهما الرابع والخامس في تجزئتنا وهما: الرابع في سرقات البحتري والخامس في اخطأ البحتري وجعلهما جزءا وسماه الجزء الرابع ثم جمع الجزأين اللذين سميناهما السادس وكان في الدرية والعراس وباب في فضل أبي تمام والسابع وكان في فضل البحتري وسماها الجزء الخامس ولكي يتلافى الثغرة المتبقية بين الخامس والثامن الذي وجده على غلاف الموازنة التفصيلية تصوران هذين الجزأين ينبغي إن يكون السادس فيهما رد الامدى على القطر بلي في كتابه عن أغلاط أبي تمام وخطئه مستندا إلى إن الامدى قد صرح بأنه افرد للرد على ابن عمار جزءا خاصا وينبغي إن يكون الطابع مناقشته لـ(هل قد) وقد صرح الامدى أيضا بأنه افرد لهذه المناقشة جزءا خاصا إما الأجزاء التي تأتي بعد الثامن فارتأى الدكتور مندور إن يكون التاسع في التشبيه والعاشر في الأمثال واستوت له التجزئة على الشكل التالي:
الجزء الأول: ويشمل الخصومة وسرقات أبي تمام
الجزء الثاني: اخطأ أبي تمام
الجزء الثالث: عيوب أبي تمام
الجزء الرابع: خاص بالبحتري عن سرقاته وعيوبه
الجزء الخامس: محاسن الشاعرين
الجزء السادس: رد الامدى على القطربلي في كتابه عن أغلاط أبي تمام وخطئه
الجزء السابع: مناقشة (هل قد)
الجزء الثامن: الموازنة التفصيلية
الجزء التاسع: التشبيه
الجزء العاشر: الأمثال
واعترضنا على هذه التجزئة هو إن ياقوتا الحموى الذي أشار إلى تجزئة الكتاب وأنها عشرة ذكر من بين مؤلفات الامدى كتابه(في الرد على ابن عمار فيما خطأ ب هابا تمام) فهو كتاب قائم بنفسه وليس كما تصوره الدكتور مندور جزءا من كتاب الموازنة – وان كان الامدى قد طلب من قارئه أن يلحقه بالموازنة إن شاء- فما هو المسوغ للامدى حتى يحشد هذا الجزء والجزء الذي يليه- وهو الصق بالنحو منه بالنقد- في إثناء حديثه عن أبي تمام والبحتري والموازنة بينهما ؟ أليسد هذه الثغرة التي تصورها الدكتور مندور فقط؟
ثم إن الدكتور مندور معذور في ذلك لأنه أقام دراسته على ما كان قد طبع من الموازنة في الآستانة وفي مصر من الطبعات الناقصة ورجع إلى بعض المخطوطات المكملة لهذه الطبعات الناقصة ولكنها وآنذاك كانت لا تزال ناقصة فقد عثر الباحثون على أجزاء جديدة من القسم المفقود من الموازنة وهي إن كانت لا تتمم كتاب الموازنة إلا أنها ترممه وتعطي صورة أوضح للباحثين فيه
خطــــة الموازنة والمنهج النقــــدي فيــــها:
بعد إن رسمنا صورة تقريبية للشكل الكامل لكتاب الموازنة نريد إن نبحث في الخطة والمنهج اللذين اتبعهما الامدى في توزيع مادة كتابه وطريقة معالجة هذه المادة وأريد أعيد إلى الأذهان نقطة سبق أن اشر تاليها وهي أن الخصومة حول في البحتري وأبي تمام قد بلغت أقصاها في أواسط القرن الرابع وكان السؤال الذي يطرح نفسه ويطرحه المتخاصمون هو: إي الشاعرين اشعر؟أأبو تمام أم البحتري؟ ومن اليسير على كل واحد من أنصار احد الشاعرين إن يقول أن صاحبه اشعر من غيره وليس عسيرا عليه أن يتحمل له بعض ما يؤيد رأيه من الحجج الحقيقية أو المفتعلة ليؤكد صحة ما يقول ويدفع أقوال خصمه ولكن العالم الدقيق والناقد الذي يحترم نفسه لا يقذف بإحكامه هكذا بدون روية واتزان وهذا ما فعله الامدى فقد صرح في أماكن كثيرة من الموازنة بأنه لن يقول: إي الشاعرين اشعر وكرر هذه الفكرة في كثير من المناسبات ليس تهربا من الجواب وإنما زيادة في الدقة والاحتياط والعدل في الإحكام وأحب إن يكون عمله ضربا من الموازنة والمقارنة والترجيح والمفاضلة ثم يترك لصاحب الذوق السليم إن يقول هذه العبارة البسيطة: (إي الرجلين اشعر)
ولهذا بدأ الامدى موازنته بعرض الفريقين المتخاصمين حول أبي تمام والبحتري وعرضها كما كان يقذف بها أصحابها في المجالس وندوات المناظرة دون إن يكون هو طرفا من إطراف الخصومة أو مرجحا لرأي على آخر وإنما كان بعمله هذا راصدا فحسب للحركة النقدية التي نشأت حول هذين الشاعرين وكان مسجلا فقط لوجهات النظر النقدية فيهما هذا إذا استثنينا آخر عبارة ساقها في حجج المتخاصمين وعلى لسان صاحب البحتري تشتم منها رائحة انحيازه إلى صفوف أنصار البحتري الذين يدفعون عن البحتري إن يكون استعار بعض معاني أبي تمام كما اتهمه بذلك أبو الضياء بشر بن يحيى والامدى هو الذي بين تحامل أبي الضياء على البحتري وتحدث عن ذلك طويلا في الفصل الذي خصصه لسرقات البحتري وعلى كل حال دعنا نتجاوز هذا لنرى ما هو مضمون هذه الخطة؟
انه يعد بان خطته ستتناول أربعة عناصر:
ذكـــر المساوئ للانتهاء إلى ذكر المحاسن:
وفي حديثه عن المساوئ سيتناول سرقات أبي تمام وإحالاته وغلطه وساقط شعره وكذلك مساوئ البحتري وخاصة في اخذ ما أخذه من معاني أبي تمام وغير ذلك من غلطه في بعض معانيه وعلى الرغم من انه صرح بأنه لم يظفر بشيء من أغلاط البحتري إلا القليل فانه قد خصص لها نصيبا من كلامه
الموازنة التفصيلية بين الشـــــاعرين:
وقد وعد الامدى إن يكون منهجه في هذه الموازنة قائما على مقارنة قصيدتين من شعريهما إذا اتفقنا في الوزن والقافية وأعراب القافية أو بين معنى ومعنى فهذه الموازنة كفيلة بإبراز محاسنهما وإظهار مواطن تفوقهما وإذا تعذرت الموازنة التفصيلية بسبب انفراد كل شاعر بمعنى قوم الامدى صنيع الشاعر وسجله على ماله من رصيد من حسنات أو سيئات
ولكي يستوفي جميع عناصر النقد يعد بأنه سيفرد بابا لما وقع في شعريهما من التشبيهات وبابا آخر لما وقع في شعريهما من الأمثال:
لان مثل هذين البابين كان الحديث عنهما عنصرا من عناصر النقد الذي تقوم فيه إجادة الشاعر فتفننه في باب التشبيه دليل تملكه ناصية الأسلوب وحسن تصرفه فيه وإيراده المثل وسوقه الحكمة أية على شرف معانيه وغزراتها فالحديث عن هذين البابين حديث عن الأفكار والأساليب كما نعبر عنهما في نقدنا المعاصر ووعد بان يختم بهذين البابين رسالته على إن يلحق بها
مختارات مقتطفة من شعر الشاعرين:
مرتبة حسب حروف المعجم ليسهل على المراجع طريقة الوصول إليها
هذه هي الخطة التي وعد بها الامدى ولكن هل وفى بكل ما وعد به؟ نترك الإجابة عن كل ما سبق إن اجبنا عنه إثناء حديثنا عن تجزئة الكتاب فلا لزوم لإعادته ونحب إن نجيب عن نقطة هي أهم هذه النقاط وهي التي أعطت كتاب الموازنة طابعة الأخير واقصد بها الموازنة التفصيلية وقد سبق إن نقلنا عنه قبل قليل إن قال في هذا الصدد وهو يكتب مقدمة كتاب الموازنة: ((ولكني أقارن بين قصيدة وقصيدة من شعرهما إذا اتفقتا في الوزن والقافية وأعراب القافية وبين معنى ومعنى)) ثم كرر تأكيده لهذه الخطة بعد إن عرض أقوال المتخاصمين ورسم خطته بأنه سيوازن بين شعريهما بين قصيدة وقصيدة ((إذا اتفقنا في الوزن والقافية وأعراب القافية) ولكنه ما إن انتهى من الحديث عن مساوئ الشاعرين وكان بذلك قد تعرض للكثير الكثير من شعريهما حتى ادر كان الخطة التي وعد بها في مطلع الكتاب غير عملية ولا تصلح للموازنة الصحيحة لا إقامة الموازنة بين قصيدتين على أساس من وحدة الوزن والقافية وأعراب القافية مسألة شكلية لا مسوغ لاعتبارها ولهذا ما إن أقدم على الموازنة الحقيقية وتبين إبعاد العمل الذي ينوى القيام به حتى اسقط من خطته الموازنة بين القصيدتين المتفقتين في الوزن والقافية وأعراب القافية واقتصر على الموازنة بين معنى ومعنى لان هذا هو المرمى وهذا هو المراد وعليه تقوم الموازنة الصحيحة فلذا افتتح الجزء الذي خصصه للموازنة التفصيلية بقوله: ((وأنا اذكر بإذن الله في هذا الجزء أنواع المعاني التي يتفق فيها الطائيان وأوازن بين معنى ومعنى وأقول : أيهما اشعر بذلك المعنى بعينه)) وقد علل الامدى مسوغات هذه الخطة بأنها هي الخطة التي توقفنا على محاسن الشاعرين ومساوئهما وتضع أيدينا على نقاط التفوق عند كل واحد منهما فصرح الامدى بأنه يكتفي بالمفاضلة الجزئية بين الشاعرين والحكم على أيهما اشعر في هذا المعنى بذاته إما المفاضلة الكلية والحكم النهائي فهذا ما يتركه الامدى للقارئ الذي وضع الامدى بين يديه كل مقومات الموازنة الصحيحة قال: ((فلا تطالبني إن أتعدى هذا إلى إن أفصح لك بأيهما اشعر عندي على الإطلاق فاني غير فاعل ذلك لأنك إن قلدتني بشيء لم تحصل لك الفائدة بالتقليد وان طالبت بالعلل والأسباب التي أوجبت التفضيل فقد أخبرتك فيما تقدم بما أحاط به علمي من نعت مذهبيهما وذكر مساويهما في سرقة المعاني من الناس وانتحالها وغلطهما في المعاني والألفاظ وإساءة من أساء منهما في الطباق والتجنيس والاستعارة ورداءة النظم واضطراب الوزن وغير ذلك مما أوضحته في مواضعه وبينته وما سيعود ذكره في الموازنة من هذه الأنواع على ما يقوده القول وتقتضيه الحجة)) ثم يسترسل الامدى في الحديث عن خطته فيما يأتي من أبواب الموازنة فيقول: ((وما ستراه من محاسنهما وبدائعهما وعجيب اختراعهما فاني أوقع الكلام على جميع ذلك وعلى سائر إغراضهما ومعانيهما في الإشعار التي أرتبها في الأبواب وانص على الجيد وأفضله وعلى الردئ وأرذله واذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التلخيص وتحيط به العبارة)) هذا ما وعد الامدى بأن يصنعه في الموازنة التفصيلية ونبه إلى إن هذا وحده غير كاف بل ينبغي إن يضاف إليه الذوق الذي لا يكتسب قسم كبير منه إلا بالدرية ودائم التجربة وطول الملابسة ليستطيع الإنسان إن ينتفع بما يقدم إليه من معلومات ثم استفاض الامدى فكتب نظرات في النقد من أجمل ما تضمنه كتاب الموازنة بل تضمنته كتب النقد كلها بعض هذه النظرات شارك فيها من سبقه من النقاد كتكوين ملكة النقد وكثرة ادعاء الناس النقد وهم صفر منه وبعضها انفرد فيها الامدى كالاحتجاج بكلام من طالت دربته في الشعر وعامل الزمن في انتقال الدرية واختبار الإنسان مدى معرفته في النقد والاستعداد الفطري لتلقي أنواع العلوم وغيرها من النظرات النقدية التي لا نقع عليها في كتاب آخر غير الموازنة ولكنها خارجة عن نطاق حديثنا الآن وهو الكلام عن خطة الموازنة ومنهجها فلذا نمسك عن عرضها ونقدها
وما دمنا نتكلم عن الموازنة التفصيلية فمن الجدير بالذكر إن نقول انه عندما وضعنا وجها لوجه معاني الشاعرين المطروحة على الموازنة صرح بالعدول عن الخطة التي رسمها في أول كتاب فقال: ((وقد انتهيت الآن إلى الموازنة وكان الأحسن إن أوزان بين البيتين أو القطعتين إذا اتفقنا في الوزن والقافية وأعراب القافية ولكن هذا لابكاد يتفق مع اتفاق المعاني التي إليها المقصد وهي المرمى والغرض وبالله استعين)) فهو هنا يصرح بتعديل الخطة وقد لجأ إلى التعديل لان البحث يتطلب ذلك في أكثر من مكان مثال ذلك إن محاسن الشاعرين والتي كان يريد إن يختم بها كتابه اضطر إلى تعديلها والاكتفاء بكلمة قصيرة في فضائلها لأنه استنزف الكلام عليهما إثناء عرضة لآراء الخصوم والأنصار وكذلك اضطر إلى التعديل مرة أخرى عندما انتهى من الموازنة بين الشاعرين في وصف الخمر والرياض مما حاء في إثناء القصائد ولكنه تنبه إلى إن ثمة قصائد قالها الشاعران مقصورة على وصف الخمر والرياض فلماذا لا يجمعها إلى نظيراتها لتشكل بابا واحدا؟
فعمد إلى جمعها ورأى إن منهج التأليف يقتضي إن يضف إليهما ما يليق بهذا الباب من وصف السحاب والإمطار فضمهما معا إلى هذا الباب((ليكون كل نوع مع شكله ونظيره))
وفكرة مقارنة قصيدتين أحداهما بالأخرى على الرغم من انه تنازل عنها لعدم صلاحها كما رأينا قبل قليل إلا أنها ظلت تعسعس في رأسه فما إن وصل إلى باب الرثاء حتى قفزت الفكرة إلى ذهنه من جديد وأطلت برأسها ورغب في إن يوازن بين قصيدة رثائية لأبي تمام مع مثيلتها من رثاء البحتري لكنه شعر باستحالة ذلك على الناقد الدقيق وذلك لان القصيدة الرثائية الواحدة تتضمن عدة معان جزئية قد لا يشترك الشاعران في بعض أنواعها فلذا لا تجوز الموازنة بينهما ومع هذا فان الامدى وان فاته إن يوازن بين قصيدتين ليصل إلى نتيجة:
إي الشاعرين أفضل فانه لم يفته إن يقارن بين محصولهما في الفن الواحد ويقوم بتقويم عام لنتاجهما في هذا الفن على أساس أشبه ما تكون بالعمليات الحسابية فلأبي تمام قصيدتان في الرثاء جيدتان فإذا أضفنا إليهما مقطوعتين تساويان قصيدة واحدة جيدة مع مجموعة أبيات جيدة قليلة انتخبها من أربع عشرة قصيدة كانت هذه كلها في كفة يقابلها في كفة البحتري ثلاث عشرة قصيدة كلها جيدة إلا قصيدة واحدة فيها بيت أو بيتان رديئان ومن هذه الموازنة الدقيقة خرج بنتيجة إن كثرة ردئ أبي تمام تشين قلة جيدة وحسبك هذا الحكم .
ثم ننتقل إلى منهج الآمدي في الموازنة : حيث نقرأ ما يلي :
أولا ً : يقول عبد القادر القط في كتابه – مفهوم الشعر عند العرب كما يصوره كتاب الموازنة للآمدي : اشتهر في القرن الثالث هـ الشاعران العربيان : أبو تمام ( ت – 239 هـ تقريبا ) والبحتري ( ت – 284 هـ ) بأنهما ينظمان الشعر بأسلوبين مختلفين آثارا خلافا واسعا بين النقاد , ففي حين أفرط أبو تمام في استخدام الاستعارات والتشبيهات والطباق والجناس وغيرها من الأساليب الفنية التي أصابت أسلوبه بالغموض والتعقيد أحيانا ً , كان البحتري على النقيض منه , يتبع الأسلوب العربي التقليدي في نظم أشعاره مما اكسبها سلاسة في الأسلوب وجمالا في الصياغة وقد الفت في الخصومة حول الشاعرين كتب عدة , تتناول بعض جوانب قضية الجديد والقديم . وكان كتاب الموازنة للآمدي من الأمثلة الهامة على تلك الكتب وذلك لان الكتاب يكشف عن مفهومين مختلفين للشعر )) .
ويرى إحسان عباس أن الموازنة في رأي الآمدي تتم على هذا النحو :
1- اخذ معنيين في موضعين متشابهين .
2- تبيان الجيد والرديء مع إيراد العلة .
3- تبيان الجيد والرديء دون إيراد علة , لان بعض الجودة والرداءة لا يعلل .
4- إصدار الحكم بأن هذا اشعر من ذاك في هذا المعنى , دون إطلاق الحكم النهائي وهو ( أيما اشعر على الإطلاق ) .
ويقول عبد القادر القط : (( ينقل الآمدي الآراء التي يحتج بها كل فريق ويناقشها وهي :
1- تلمذة البحتري لأبي تمام . -2- استواء شعر البحتري واختلاف أبي تمام -3- تقييم البديع وبيان ما إذا كان أبو تمام اخترعه أو انه طور أسلوبا فنيا كان موجودا في عصره . -4- وبيان الحد الذي اتفق عليه النقاد حول جدارة كل منهما كشاعر . -5- الحديث عما إذا كان الشاعر المثقف أجدر بالثناء من الشاعر غير المثقف . -6- بعض أخطاء الشاعرين في النحو وفي التعبير عن المعنى . -7- سرقات البحتري من معاني أبي تمام خاصة . -8- سرقات الشاعرين بوجه عام . -9- أخطاؤهما في الألفاظ والمعاني أو في استخدام الصور الخيالية .
ثم يقدم – القط – ترجمة لبعض مصطلحات الآمدي المستخدمة في كتاب الموازنة :
1- التكلف : تأليف الشعر عن عمد , وهو يقابل النظم التلقائي للشعر ( الارتجال ) وقد عرف فيما بعد بالتصنع .
2- مطبوع : تلقائي وبسيط وطبيعي .
3- متكلف : يفكر في شعره قبل أن ينظمه ( المصنوع ) .
4- الصنعة : إبداع الشعر بطريقة واعية وهي مجرد استخدام المهارات الأدبية في إبداع الشعر , دون أن يدعم هذا الإبداع إحساس حقيقي .
5- التعقيد : صعوبة الفهم أو الأبنية اللغوية الغامضة .
6- وحشي : مهجور . أو لم يعد يستعمل .
7- غث : العامي .
8- ركيك : ضعيف الكلمة أو الأسلوب .
9- السبك : البناء .
10- الديباجة : الأسلوب .
11- كثير الماء : أسلوب متدفق أو متناسق .
12- كثير الرونق : متألق أو لامع أو مصقول .
13- البديع : استخدام الصور الخيالية .
14- عمود الشعر : المعيار الكلاسيكي للشعر .
هذه صورة عامة عن هيكلية الكتاب , ولكن ما هو رأي الآمدي ؟
أولا ً : يقول الآمدي : (( البحتري إعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروف , وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ وحوشي الكلام .
(( حصل للبحتري انه ما فارق عمود الشعر وطريقته المعهودة , مع ما نجده كثيرا ً في شعره من الاستعارة والتدنيس والمطابقة وانفرد بحسن العبارة وحلاوة الألفاظ وصحة المعاني وحتى وقع الإجماع على استحسان شعره واستجابته )) . أما أبو تمام (( شعره لا يشبه أشعار الأوائل ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة ))
والامدي يبدأ كتابه بإعلان طريقته في قراءة الشاعرين :
ثانيا ً : (( ودقيق المعاني موجود في كل امة وفي كل لغة , وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأني وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها وإن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله وإن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وفي غير منافرة لمعناه )) .
ثالثا ً : إذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة وكانت عبارته مقصرة عنها ولسانه غير مدرك لها حتى يعتمد دقيق المعاني من فلسفة يونان أو حكمة الهند أو أدب الفرس , ويكون أكثر ما يورده منها بألفاظ متعسفة ونسج مضطرب . وإن اتفق في تضاعيف ذلك شيء من صحيح الوصف وسليم النظر – قلنا له : قد جئت بحكمة وفلسفة ومعان لطيفة حسنة فإن شئت دعوناك حكيما ً أو سميناك فيلسوفا ً . ولكن لا نسميك شاعرا ً ولا ندعوك بليغا ً . لان طريقتك ليست على طريقة العرب ولا على مذاهبهم )) .
رابعا ً : (( وأنا لا اجمع لك معاني هذا الباب في كلمات سمعتها من شيوخ أهل العلم بالشعر : زعموا أن صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات لا تجود وتستحكم إلا بأربعة أشياء هي : جودة الآلة وإصابة الغرض المقصود وصحة التأليف والانتهاء إلى تمام الصنعة من غير نقص بها ولا زيادة عليها , وهذه الخلال الأربع ليست في الصناعات وحدها بل هي موجودة في جميع الحيوان والنبات )) .
خامسا ً : إنما استعارت العرب المعنى لما ليس هو له , إذا كان يقاربه أو يناسبه أو يشبهه في بعض أحواله أو كان سببا من أسبابه فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه , نحو قول امرئ القيس : ( فقلت له لما تمطى بصلبه . . . وأردف إعجازا وناء بكلكل ِ ) .
سادسا ً : (( وكان ينبغي إلا اذكر السرقات فيما أخرجه من مساوئ هذين الشاعرين لأنني قدمت بالقول في أن من أدركته من أهل العلم بالشعر لم يكونوا يرون سرقات المعاني من كبير مساوئ الشعراء وخاصة المتأخرين إذ كان هذا بابا ما ترى منه متقدم ولا متأخر )) .
يقول حسين نصار : عمود الشعر : (( قوام الشعر الذي لا يستقيم إلا به )) .
وأقدم استخدام نعرفه لعبارة عمود الشعر ورد في كتاب الموازنة ) للآمدي . وصاحب هذا التعبير هو البحتري ( ت – 798 م ) فالمرجح أن عبارة ( عمود الشعر ) عرفت وشاعت في القرن الرابع وسجلت للمرة الأولى في الموازنة . إضافة لذلك نجد أن منهج الموازنة بدأ يشيع بين النقاد العرب وأولهم الآمدي فهو يعرض ويرتب عناصر الموازنة ترتيبا منطقيا ً . وهو ناقد ديمقراطي يترك الفضاء مفتوحا للقارئ ليشاركه في الحكم دون أن يقرر حكما إرهابيا : من هو أفضل الشعرين . مع هذا اتهم الآمدي بالتعصب ضد أبي تمام كما تعصب له الصولي . كذلك يفرق الآمدي بين الشاعر العالم والشاعر غير العالم : (( وكان الأصمعي شاعرا عالما وكان خلف الأحمر اشعر العلماء )) . والبحتري يرى أن (( الشعر لمح تكفي إشارته )) .
6- قدامه بن جعفر : (( نقد الشعر )) :
مضـــــــمون الكتاب:
يتضمن كتاب نقد الشعر مقدمة وثلاثة فصول
إما المقدمـــــة:
فقد صاغها المؤلف صياغة موجزة مركزة تحدث فيها عن قيمة ما اسماه علم النقد وأهميته بين علوم الأدب الأخرى كعلم العروض وعلم القوافي وعلم الغريب وعلم المعاني وأطلق على هذا العلم الذي يبحث في نقد الأشعار اسم ( علم جيد الشعر ورديئه)
وتحدث في هذه المقدمة عن عناية العلماء بهذه العلوم الجانبية الأخرى واخذ عليهم أعراضهم عن التصدي للتأليف في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه لان هذا العلم أولى بالتأليف من غيره من العلوم الأخرى ولما وجد الناس يخبطون في هذا العلم وأنهم قصروا في تأليف كتاب فيه أحب إن يؤلف كتابه هذا فكانت هذه هي غايته من تصنيف هذا الكتاب
وإما الفصل الأول:
فقد تكلم فيه على حد الشعر وعرفه تعريفا حائزا له عما ليس بشعر فقال: انه قول موزون مقفى يدل على معنى وشرع في الحديث عن هذه العناصر الأربعة التي يتكون منها الشعر أخذا بعين الاعتبار إن الشعر صناعة من الصناعات وكل صناعة يتوخى من صانعها إن يبلغ بها الكمال ولكن همة الصانع قد تقصر به قليلا أو كثيرا عن بلوغ هذه الغاية وقيمة الصناعة تكمن في إتقان الصنعة التي ينبغي للشاعر أنى يحذقها لا في جودة المادة التي يتخذ منها صناعته وجعل المعاني المادة الأولية في صناعة الشعر وجعل الصورة هي الوسيلة التي يتخذها الصانع للتعبير عن هذه المادة الأولية وقاده هذا الاعتبار إلى انه لا دخل للقيم الأخلاقية في القيم الفنية كما قاده أيضا إلى انه ينبغي إن نغتفر للشاعر مناقضته في مدح الشيء وذمه وعرض الفكرة ونقيضها إذا كان مجودا في الحالتين ودافع عن وجهة نظرة هذه بمثال تطبيقي من شعر امرئ القيس في فكرتين تبدو إن متناقضتين أحداهما تدعو إلى الطموح والأخرى تدعو إلى القناعة ولكنه أجاد في عرضهما وأحسن التعبير عنهما مع إنهما على طرفي نقيض كما تحدث عن اعتزامه على وضع مصطلحات نقدية في هذا الكتاب تساعد على استيعاب الأفكار التي يعالجها متذرعا بان من سبقه من المشتغلين في حقل النقد – على قلتهم- لم ينتبهوا إلى قيمة هذه المصطلحات التي تتبلور فيها الأفكار وتتجسد المعاني ولذا اعتبر نفسه في هذا الصنيع رائدا في ميدان النقد وتعريف الشعر ومصطلحاته النقدية
وإذا عدنا إلى تعريفه السابق للشعر وجدنا انه يقصر الشعر على العناصر الأربعة التالية:
اللفظ والمعنى والوزن و القافية فهذه هي العناصر البسيطة التي يتركب منها الشعر فإذا ما أردنا تقويم الشعر فينبغي لنا إن نأخذ بعين الاعتبار تقويم هذه العناصر البسيطة ومركبة ويقصد من تقويمها مركبة إن بنظر إليها في ائتلاف كل عنصر من هذه العناصر البسيطة مؤتلفا مع عنصر آخر ولهذا تكونت لدية أربعة عناصر أخرى مركبة من هذه العناصر الأربعة البسيطة هي:
ائتلاف اللفظ مع المعنى
ائتلاف اللفظ مع الوزن
ائتلاف المعنى مع الوزن
ائتلاف المعنى مع القافية
وهكذا يجد الناقد نفسه إزاء أربعة عناصر أخرى مركبة أو مؤتلفة فلذا لا بد للناقد من النظر إلى هذه العناصر جميعا إذا أراد تقويم أي اثر من الآثار الشعرية كما لا بد له من دراسة كل هذه العناصر بسيطة ومركبة ليتعرف على (نعوتها) و(عيوبها) لتتكون لدية المقاييس التي تعينه على تقويم الأثر الشعري وتقديره حق قدره من حيث جودته أو رداءته وهذا ما تضمنه الفصلان اللاحقان في هذا الكتاب
الفـصـــل الثاني:
افرده قدامة للحديث عن نعوت هذه العناصر الثمانية وقصد بالنعوت الشروط التي يجب إن تتوفر فيها العناصر لتكون جيدة
ابتداء قدامة كلامه هذا الفصل على نعوت العناصر البسيطة فشرع في الحديث عن (نعوت اللفظ) فاشترط إن يكون اللفظ سمحا سهل مخارج الحرف عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة ومثل لذلك بنماذج من شعر الحادرة الذبياني ومحمد بن عبد الله السلاماني و الشماخ وجبها الاشجعي وغيرهم
ثم انتقل من الحديث عن نعت اللفظ إلى الحديث عن نعت الوزن واشترط فيه إن يكون سهل العروض ومثل له أيضا بنماذج من شعر القدامى والمحدثين وقاده الحديث عن نعت الوزن إلى الكلام على ( الترصيع) فعرفه وأكثر من التمثيل له وأشار إلى المواطن التي يحسن فيها الترصيع والمواطن التي يقبح فيها وعلى الرغم من انه ناقش هذه الظاهرة مناقشة النقاد إلا انه أسهم في انحراف النقد من النقد الذي يعتمد الذوق إلى النقد الذي يعتمد الشكل وبهذا اخذ يبتعد عن النقد الخالص ويقترب من البلاغة وقواعدها فاثل هذه المصطلحات البلاغية التي اخذ على نفسه تبعة تعريفها وتوضيحا والاستشهاد عليها وهكذا سار في بقية نعوت العناصر البسيطة والمركبة مفتقا ألوانا كثيرة من البلاغة لم تصل إليها يد من سبقة ممن اشتغلوا في البيان العربي وبلاغته
الفصل الثالث:
ويأتي هذا الفصل في الجهة المناظرة للفصل الثاني فإذا كان الفصل الثاني قد تضمن الحديث عن الشروط التي تجعل عناصر الشعر مقبولة مستحسنة فان الفصل الثالث قد قصر على الحديث عن العيوب التي تلحق القبح بهذه العناصر ونهج المنهج ذاته الذي اتبعه في عرض نعوت الشعر فبدأ بعرض عيوب اللفظ وثنى بعيوب الوزن ثم خلص من عيوب القوافي والمعاني إلى الحديث عن عيوب العناصر المركبة وهو لا يني يفتق ألوانا أخرى من الألوان البلاغية يعرفها ويمثل لها بالشعر القديم والمحدث أيضا
هذه صورة سريعة مقتضبة عن مضمون الكتاب ومن يمعن النظر في هذا المؤلف يجد إن قدامة قد فتح صفحة جديدة في التأليف النقدي عند العرب ذلك لان كتابة قائم على نظرة جديدة موضوعية إلى صناعة الشعر كما يجد إن المؤلف قد اعتمد على منهج صارم شامل دونه في مطلع كتابه ثم التزمه في فصول الكتاب المتعاقبة التزاما تاما ولهذا فإننا أصبحنا مع قدامة في منأى عن الكتابات النقدية السابقة التي لا تعدو إن تكون مجموعة من الخواطر المتناثرة أكثر من إن تكون كتبا نقدية منهجية شاملة
ولا غرو إذا قلنا إن كتاب نقد الشعر يطغي عليه الطابع المنطقي فكرة وتعبيرا ذلك لان قدامة كان يكتب بوحي من ثقافته المنطقية التي بينا جوانب منها قبل قليل وبينا الأثر اليوناني فيها بوجه خاص يضاف إلى ذلك ما كان قدامة يستشهد به في غير موضع من الكتاب بآراء فلاسفة اليونان
ولعل ابرز ما في الكتاب من خصائص تلك النزعة التقريرية في النقد فالذي يتصفح صفحات الكتاب من أوله إلى أخره يلمس إيمان المؤلف بالقواعد النقدية النظرية إيمانا مطلقا ولذلك هدر المؤلف بصنيعه هذا كل قيمة للذوق الفردي والشخصية الذاتية في النقد وكان كل ما يطلب من الناقد هو إن يتعلم القواعد النقدية النظرية وان يتقن تطبيقها ثم يطلق إحكامه النقدية التي لا تخطئ على الآثار الشعرية ومن اجل هذا السبب ألف قدامة كتابه لان من سبقه من النقاد وصفهم بأنهم (( كانوا يخبطون في تمييز جيد الشعر من رديئه منذ تفقهوا في العلوم فقليلا ما يصيبون)) ولكي يجنب الناس الوقوع في هذا الخبط رغب في إن يضع للناس القواعد التي يسلمون بها من الوقوع في الخطأ
وتتصف هذه النزعة التقريرية القاعدية بصفتين أساسيتين:
الجـــــدة والخطـــورة
إما الجدة فلأن قدامة لم يسبقه احد من النقاد إلى مثل هذا الاتجاه القاعدي الصارم في النظر إلى الشعر وهو في ذلك يغاير من سبقه من النقاد الذين يقيمون وزنا كبيرا للقيم الجمالية التي تدرك بالذوق السليم أو بالحس المرهف دون إن يستطيع الناقد التعبير عن هذه القيم وتحديدها بحدود وتعريفات
وإما الخطورة فهي كامنة بكون هذه النزعة تفسر الأدب المتطور بطبيعته على قوالب متحجرة وتخضعه لقواعد ثابتة فهي بهذا تقضي على الأصالة والذوق الشخصي عند كل من الأديب والناقد على حد سواء
وقد كان لكتاب (نقد الشعر) أثرا كبيرا في أوساط النقاد والبلاغيين فقد كان حافزا لبعض العلماء على محاولة تكميله أو شرحه أو توضيحه ومن هؤلاء موفق الدين عبد اللطيف البغدادي الذي ألف كتابين أولهما (تكملة الصناعة في شرح نقد قدامة) وثانيهما(كشف الظلامة عن قدامة )واحتذى أبو عبد الله محمد بن يوسف الكفر طابي حذو قدامة فألف كتابا سماه كتاب (نقد الشعر) كما احدث مصنف قدامة أثرا عكسيا عند بعض النقاد فتتبعوه وأحصوا ما به من غلط ومن هؤلاء الحسن بن بشر الآمدى صاحب كتاب الموازنة الذي ألف كتابا انتقد فيه كتاب قدامة وبين سهوه في كتاب سماه(تبيين غلط قدامة في كتاب نقد الشعر) وكذلك فعل ابن رشيق القيرواني صاحب كتاب العمدة فألف كتابا سماه(تزييف نقد قدامة)
يضاف إلى كل هذا ما نهلته كتب النقد الأخرى من كتاب نقد الشعر بعضها صرح بالأخذ منه كالمرزباني في كتابه (الموشح) فقد نهل كثيرا من كتاب قدامة وخاصة من الفصل الثالث الذي عالج فيه قدامة عيوب الشعر وبعضها الآخر لم يصرح بالأخذ منه وان كان يستمد منه كثيرا من أمثلته وتعريفاته
وإذا أردنا إن نقوم كتاب نقد الشعر ونضعه في موضعه من كتب النقد فلا يسمعنا إلا إن نقول إن الكتاب قد كان له اثر غير محمود لمزجه البلاغة بالنقد مزجا صميميا وذلك بجعله الألوان البديعية جزءا لا يتجزأ من النقد الأدبي خلال قرون طويلة فليس من المبالغة إن نقول إن جل كتب النقد التي ظهرت بعد قدامة قد امتزج فيها النقد بالبلاغة وأصبح هذا المزج أصلا من الأصول المعتمدة فيها حتى ليبدو الفصل عسيرا بين ما هو من اختصاص النقد وما هو من اختصاص البلاغة وغدت الصفة البلاغية مسيطرة على هذه المصنفات سيطرة تامة فكثير من المصطلحات التي درسها قدامة تحت عنوان النقد كالترصيع الذي هو من نعوت الوزن والتقسيم والمبالغة والمقابلة والتتعيم والتكافؤ والالتفات التي هي من نعوت المعاني والإشارة والإرداف والتمثيل وهي من نعوت ائتلاف اللفظ مع المعنى والتوشيح والإيغال وهما من نعوت ائتلاف القافية مع المعنى.... وغيرها وغيرها من مصطلحات قدامة النقدية اقو لان كثيرا منها أصبح من مصطلحات البلاغة بل دخل في باب واحد من أبواب البلاغة هو باب البديع
يقسم قدامة بن جعفر الشعرية – كعلم لموضوعة الشعر إلى عدة أقسام تشمل جميعها ما يسمى بالبنية السطحية وهذه الأقسام هي : أولا : علم العروض والوزن . ثانيا ً : علم القوافي والمقاطع . ثالثا ً : علم لغة الشعر . رابعا ً : علم معاني الشعر . خامسا ً : علم الجيد والرديء من الشعر , ويزعم قدامة – رغم أهمية زعمه – انه لم يجد أحدا قد وضع كتابا في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه قبله . وان الناس قد قصروا في وضع كتاب فيه . وبالتالي فإن قدامة كان يطمح طموحا واضحا ً ومقصودا ً لتأسيس ( علم الشعرية ) بجناحيها : النظري والتطبيقي ونلاحظ أيضا أن قدامة قدم هيكلا متكاملا لنظرية شعرية , وحدد الأجزاء وقام بتركيبها وإن لم يستطع أن يقرأ شرايين الجسد . نعني شبكة العلاقات الداخلية في النص الشعري . وسبب ذلك هو تأثره بالفكر المنطقي لأرسطو كما لاحظ عدد من النقاد , مع هذا فإن محاولته تتسم بالجدية والجهد رغم النتائج .
يبدأ قدامة كتابه بالبحث عن عناصر ومكونات الشعر أو ما سماه : (( معرفة حد الشعر الجائز عما ليس بشعر ويبدأ بتحديد الشعر بأنه (( قول موزون مقفى يدل على معنى )) ثم يشرح التعريف على النحو التالي :
1- (( فقولنا – قول ٌ – دال على أصل الكلام الذي هو بمنزلة الجنس للشعر )) .
2- (( وقولنا موزون , يفصله مما ليس بموزون من القول الموزون وغير الموزون )) .
3- (( وقولنا – مقفى : فصل بين ما له من الكلام الموزون قواف وبين ما لا قوافي له ولا مقاطع )) .
4- (( وقولنا يدل على معنى – يصل ما جرى من القول على قافية ووزن مع دلالة على معنى , مما جرى على ذلك من غير دلالة على معنى )) .
ثم ينتقل إلى الحد الثاني للشعر فيرى أن الشعر صناعة : (( للشعر صناعة والغرض في كل صناعة إجراء ما يصنع ويعمل بها على غاية التجويد والكمال )) . ثم وضع لصناعة الشعر طرفين : غاية الجودة وغاية الرداءة وما بينهما وسماها قدامة ( الوسائط ) ثم شرح فكرته بأسلوب المنطق الشكلي صفات الجودة وصفات الرداءة وصفات الوسطية . (( وما يجتمع فيه من الحالتين - الجودة والرداءة – يكون الحكم عليه – بحسب قربه من الجيد أو من الرديء أو وقوعه في الوسط )) مثلما يقال : المز هو وسط بين الحلو والحامض إلا انه لا حلو ولا حامض . ثم ينتقل إلى المعاني فيرى أن المعاني كلها معرضة للشاعر , وله أن يتكلم منها فيما أحب وآثر , من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه , إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر فيها كالصورة كما يوجد في كل صناعة من انه لا بد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور منها )) وهنا نلاحظ الفكرة الأفلاطونية وتأثره بها . ويلغي قدامة بعض تناقضات الشاعر ويصفها بأنها مشروعة (( كأن يصف الشاعر وصفا حسنا ثم يذمه بعد ذلك ذما حسنا ً )) . كذلك يرى أن (( ليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه )) وإنما طريقة الاستعمال هي التي تحدد ذلك , ويرى قدامة أيضا (( لا يوصف الشاعر بان يكون صادقا , بل إنما يراد منه إذا اخذ في معنى من المعاني كائنا ما كان أن يجيده في وقته الحاضر , لا أن ينسخ ما قاله في وقت آخر )) .
ومن هنا فإن – حد الشعر – عند قدامة يتكون من أربعة عناصر أساسية (( اللفظ – الوزن – القافية – المعنى )) . وأربعة أخرى تنشأ عن التشكيل وعلاقة الاستعمال بين هذه العناصر في حال ائتلافها : ائتلاف اللفظ بالمعنى – ائتلاف اللفظ بالوزن – ائتلاف المعنى بالوزن – ائتلاف المعنى بالقافية . وإذن يصبح لدينا ثمانية أنواع تنحصر داخلها صفات الشعر في طرفي الجودة والرداءة والوسيطة والتدرجات التي تتشكل بينها .
يقول : (( وصارت أجناس الشعر ثمانية وهي الأربعة المفردات البسائط التي يدل عليها حده , والأربعة المؤلفات منها )) . ثم يبدأ قدامة بشرح الأربعة مفردات :
أولا ً : اللفظ : أن يكون سمحا ً , سهل مخارج الحروف من مواضعها عليه رونق الفصاحة , مع الخلو من البشاعة .
ثانيا ً : الوزن : أن يكون سهل العروض من أشعار يوجد فيها وإن خلت من أكثر نعوت الشعر .
ثالثا ً : القوافي : أن تكون عذبة الحرف سلسة المخرج والتصريع .
رابعا ً : المعاني : أن يكون المعنى موجها للغرض المقصود , غير عادل عن الأمر المطلوب . (( ورأيت الناس مختلفين في مذهبين من مذاهب الشعر وهما : الغلو في المعنى إذا شعر فيه . والاقتصار على الحد الأوسط في ما يقال منه )) وأغراض الشعراء هي : (( المديح – الهجاء – النسيب – المرائي – الوصف – التشبيه )) .
ثم يبدأ قدامة في شرح تفريعات أغراض المعاني :
أولا ً : المديح : مدح الرجل بما هو فيه وبما يليق به .
ثانيا ً : الهجاء : ضد المديح (( كلما كثرت أضداد المديح في الشعر كان أهجى ))
ثالثا ً : المرائي : (( ليس بين المرئية والمدحة فصل , إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على انه لهالك , لان تأبين الميت إنما هو بمثل ما كان يمدح في حياته )) .
رابعا ً : التشبيه : انه من الأمور المعلومة أن الشيء لا يشبه بنفسه ولا بغيره من كل الجهات إذ كان الشيئان إذا تشابها من جميع الوجوه ولم يقع بينهما تغايرا ً البتة , اتحدا , فصار الاثنان واحد , فبقي أن يكون التشبيه ينفرد كل واحد منهما بصفتهما وإذ كان الأمر كذلك فأحسن التشبيه هو ما أوقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيهما حتى يدني بهما إلى حال الاتحاد .
خامسا ً : الوصف : هو ذكر الشيء كما فيه من الأحوال والهيئات . وأحسن الشعراء من أتي في شعره بأكثر من المعاني التي الموصوف مركب منها , ثم بأظهرها فيه وأولاها حتى يحيكه بشعره ويمثله للحسن بنعته .
سادسا ً : النسيب : هو ذكر خلق النساء وأخلاقهن وتصرف أحوال الهوى به معهن . أما الغزل فهو التصابي والاستهتار بمودات النساء . أما النسيب فهو ما كثرت فيه الأدلة على التهالك في الصبابة وما كان فيه من التصابي والرقة والخشوع والذلة والرخاوة والوجد واللوعة .
نعوت تعم جميع المعاني الشعرية :
1- صحة التقسيم : أن يبتدئ الشاعر فيضع أقساما فيستوقفها ولا يغادر قسما منها
2- صحة المقابلة : أن يصنع الشاعر معاني يريد التوفيق بين بعضها وبعض والمخالفة فيأتي بالموافق بما يوافق وفي المخالف بما يخالف على الصحة .
3- صحة التفسير : أن يضع الشاعر معاني يريد أن يذكر أحوالها في شعره الذي يصنفه فإذا ذكرها أتى بها من غير أن يخالف معنى ما أتى به منها ولا يزيد أو ينقص .
4- التتميم : : أن يذكر الشاعر المعنى فلا يدع من الأحوال التي تتم بها صحته وتكمل معها جودته شيئا ً إلا أتى به .
5- المبالغة : أن يذكر الشاعر حالا من الأحوال في شعر لو وقف عليها لاجزاه ذلك في الغرض الذي قصده , فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره من تلك الحال ما يكون ابلغ في ما قصد .
6- التكافؤ : أن يصف الشاعر شيئا ً أو يذمه ويتكلم فيه , أي معنى كان يأتي بمعنيين متكافئين أي متقابلين أما من جهة المصادرة أو السلب والإيجاب أو غيرهما من أقسام التقابل .
7- الالتفات : أن يكون الشاعر أخذا في معنى , فكأنه يعترضه أما شك فيه أو ظن بأن رادا ً يرد عليه قوله أو سائلا ً يسأله عن سببه فيعود راجعا ً إلى ما قدمه فإما أن يذكر سببه أو يحل الشك فيه .
نعوت عناصر الشعر الأربعة المركبات :
1- ائتلاف اللفظ مع المعنى : ومن أنواعه :
أولا ً : المساواة : هو أن يكون اللفظ مساويا ً للمعنى حتى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه , وهذه هي البلاغة التي وصف بها بعض الكتاب رجلا ً , فقال : كانت ألفاظه قوالب لمعانيه أي هي مساوية لها لا يفضل احدهما على الآخر .
ثانيا ً : الإشارة : أن يكون اللفظ القليل مشتملا ً على معان كثيرة بإيماء إليها , أو لمحة تدل عليها كما وصف احدهم البلاغة فقال : هي لمحة دالة .
ثالثا ً : الإرداف : أن يريد الشاعر دلالة على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى , بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له , فإذا دل على التابع إبان عن المتبوع .
رابعا ً : التمثيل : أن يرى الشاعر إشارة إلى معنى فيضع كلاما يدل على معنى آخر , وذلك المعنى الآخر والكلام ينبئان عما أراد أن يشير إليه .
خامسا ً : المطابق .
سادسا ً : المجانس .
2- ائتلاف اللفظ والوزن : هو أن تكون الأسماء والأفعال في الشعر تامة مستقيمة كما بنيت لم يضطر الأمر في الوزن إلى نقضها عن البنية بالزيادة عليها والنقصان منها وان تكون أوضاع الأسماء والأفعال والمؤلفة منها وهي الأقوال على ترتيب ونظم لم يضطر الوزن إلى تأخير ما يجب تقديمه ولا إلى تقديم ما يجب تأخيره . وان لا يكون الوزن قد اضطر إلى إدخال معنى ليس الغرض في لشعر محتاجا إليه حتى إذا حذف لم تنقص الدلالة .
3- ائتلاف المعنى والوزن :
أن تكون المعاني تامة مستوفاة لم تضطر بإقامة الوزن إلى نقصها عن الواجب ولا إلى الزيادة فيها عليه وان تكون المعاني أيضا مواجهة للغرض , لم تمتنع عن ذلك وتعدل عنه من اجل إقامة الوزن والطلب لصحته .
4- ائتلاف المعنى والقافية :
هو مع ما يدل عليه سائر البيت أن تكون القافية متعلقة بما تقدم من معنى البيت تعلق نظم له وملائمة لما مر فيه من أنواع الائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر معنى البيت مثل :
أولا : التوشيح : أن يكون أول البيت شاهدا بقافيته ومعناها متعلقا به حتى أن الذي يعرف قافية القصيدة التي لبيت منها إذا سمع أول البيت عرف آخره وبانت له قافيته
ثانيا ً : الإيغال : هو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاما من غير أن يكون للقافية في ذكره صنع , ثم يأتي بها لحاجة الشعر يزيد بمعناها في تجويد ما ذكره من المعنى في البيت .
عيوب الشعر : يعدد قدامة عيوب الشعر بأنها عيوب ترجع إلى العناصر الأربعة المفردة أولا : عيوب اللفظ : المعاظلة . ثانيا : عيوب الوزن . ثالثا ً عيوب القافية : التجميع الإقواء – الايطاء – إسناد . رابعا ً : عيوب المعاني وهي : 1- عيوب المديح – الهجاء – المرائي – التشبيه – الوصف – الغزل 0 والنسيب وهناك عيوب عامة في المعاني منها : 1- فساد التفسير .
4- الاستحالة والرفض . 5- إيقاع الممتنع في المعاني في حال ما يجوز وقوعه – 6 – مخالفة العرف . 7 – أن ينسب إلى الشيء ما ليس فيه وله وهناك عيوب ترجع إلى العناصر الأربعة المركبة :
أولا ً : عيوب ائتلاف اللفظ والمعنى : 1 – الإخلال -2- التطويل لغير فائدة .
ثانيا ً : عيوب ائتلاف اللفظ مع الوزن : 1- الحشو -2- التثليم -3- التذنيب . -4- التغيير -5- التعطيل .
ثالثا ً : عيوب ائتلاف المعنى والوزن : 1- المقلوب 2- المبتور .
رابعا ً : عيوب ائتلاف المعنى والقافية : 1- التكلف في طلب القافية – 2 – الايتان بالقافية من اجل السجع .
هذه قراءة مونتاجية كافية لإعطاء صورة شاملة عن محاولة قدامة بن جعفر حيث فصل الشعر عن الشاعر (( واحسب انه اختلط على كثير من الناس وصف الشعر بوصف الشاعر )) . ونرى هذا التقسيم المنطقي الصارم الذي يضع قوانين الانسجام بين أجزاء البناء , حيث يبدأ من المرتكزات إلى الهوامش . أما العيب فهو ما ناقض شروط الجودة , وحتى لا نعترض نحن نقول : ليس كل من هو ليس بأسود يقع في خانة البياض بالضرورة أن نقيض السواد . يقدم قدامة درجات للبياض ودرجات للسواد ودرجات لما بينهما في تدرج منطقي قد يلغي التشابك غير المقنن في علاقات الشبكة الشعرية . مع هذا فنحن أيضا نلاحظ أن قدامة هو ناقد يبحث عن الانسجام في النظرية الشعرية محاولا رتق الخلل هنا وهناك . نعم أنها محاولة أولى فعلية لإقامة علم الشعرية بشقيه النظري والتطبيقي .
7- الفارابي : (( رسالة في قوانين صناعة الشعراء )) :
إن كتاب الفارابي مزيج من آراء : أرسطو وثامسطيوس والفارابي نفسه :
1- الأقاويل الشعرية : إن الألفاظ لا تخلو من أن تكون : أما دالة وإما غير دالة .
والألفاظ الدالة : منها ما هي مفردة ومنها ما هي مركبة . والمركبة : منها ما هي أقاويل ومنها ما هي غير أقاويل . والأقاويل : منها ما هي جازمة ومنها ما هي غير جازمة . والجازمة : منها ما هي صادقة ومنها ما هي كاذبة . والكاذبة : منها ما يوقع في ذهن السامعين الشيء المعبر عنه بدل القول ومنها ما يوقع فيه المحاكي للشيء – وهذه هي الأقاويل الشعرية .
2- المحاكات والغلط : تختلفان في وجوه : منها أن غرض المغلط غير غرض المحاكي إذ المغلط هو الذي يغلط السامع إلى نقيض الشيء حتى يوهمه أن الموجود غير موجود وان غير الموجود موجود . فإما المحاكي للشيء , فليس يوهم النقيض , لكن التشبيه , ويوجد نظير ذلك في الحس وذلك أن الحال التي توجب إيهام الساكن انه متحرك هي الحال المغلطة للحس , فإما الحال التي تعرض للناظر في المرائي والأجسام الصقيلة فهي الحال الوهمية شبيه الشيء .
3- تقسيم الأقاويل بقسمة أخرى : القول لا يخلو من أن يكون : أما جازما وإما غير جازم . والجازم : منه ما يكون قياسا ً ومنه ما يكون غير قياس . والقياس : منه ما هو بالقوة ومنه ما هو بالفعل . وما هو بالقوة : ومنه ما هو بالفعل . وما هو بالقوة : أما أن يكون استقراء وإما أن يكون تمثيلا ً . والتمثيل أكثر ما يستعمل إنما يستعمل في صناعة الشعر . فقد تبين أن القول الشعري هو التمثيل .
4- القياسات والأقاويل بقسمة أخرى : إن الأقاويل أما أن تكون صادقة لا محالة بالكل . وإما أن تكون صادقة لا محالة بالكل . وإما أن تكون صادقة بالأكثر كاذبة بالأقل . وإما عكس ذلك , وإما أن تكون متساوية الصدق والكذب .
فالصادقة بالكل لا محالة هي البرهانية . والصادقة بالبعض على الأكثر فهي الجدلية والصادقة بالمساواة هي الخطيبة . والصادقة في البعض على الأقل فهي السوفسطائية . والكاذبة بالكل لا محالة هي الشعرية .
فالقول الشعري – هو الذي ليس بالبرهانية ولا بالجدلية ولا الخطابية ولا المغالطية , وهو مع ذلك يرجع إلى نوع من أنواع السولوجسموس ( القياس ) , أو ما يتبعه واعني بقولي ( ما يتبعه ) : الاستقراء والمثال والفراسة .
5- تنوع الأقاويل : إن الأقاويل الشعرية أما أن تنوع بأوزانها وإما أن تتنوع بمعانيها .
6- أنواع الشعر : يقدم الفارابي أنواعا من الشعر اليوناني (( على ما تناهى إلينا من العارفين بأشعارهم وعلى ما وجدناه في الأقاويل المنسوبة إلى الحكيم أرسطو في صناعة الشعر والى ثامسطيوس وغيرهما من القدماء والمفسرين لكتبهم )) . وهذه الانواه هي : طراغوذيا – ديثيرمي – قوموذيا – ايامبو – دراماطا – ايني – ديقرامي – افيقي وريطوري – فيوموتا – ساطوري – ايفيجانا ساوس – اقوستقي )) .
7- أنواع الشعر : 1- إن الشعراء أما أن يكونوا ذوي جبلة وطبيعة متهيئة لحكاية الشعر ولهم تأت جيد للتشبيه والتمثيل ولا يكونوا عارفين بصناعة الشعر على ما ينبغي بل هم مقتصرون على جودة طباعهم وتأتيهم وهؤلاء غير مسلجسين بالحقيقة لما عدموا من كمال الرؤية والتثبت في الصناعة .
2- وإما أن يكونوا عارفين بصناعة الشعر حق المعرفة وهؤلاء هم المستحقون اسم الشعراء المسلجسين ( استعمال القياس ) .
3- وإما أن يكونوا أصحاب تقليد لهاتين الطبقتين ولأفعالهما . وهؤلاء أكثرهم زللا ً .
ثم يورد الفارابي ملاحظتين :
الأولى : جودة التشبيه : أن تكون المشابهة قريبة ملائمة : مثل أن يشبهوا – أ - ب و ب- ج لأجل أن يوحد بين أ و ب مشابهة قريبة ملائمة معروفة ويوجد بين ب و ج مشابهة قريبة ملائمة معروفة فيدرجوا الكلام في ذلك حتى يخطروا ببال السامعين والمنشدين مشابهة ما بين – أ ب – ب ج وإن كانت في الأصل بعيدة .
الثانية : إن بين أهل صناعة الشعر وبين أهل صناعة التزويق مناسبة وكأنها مختلفان في مادة الصناعة ومتفقان في صورتها وفي أفعالها وأغراضها . ترى أن الفارابي يلخص آراء أرسطو ويقوم بتعديلها وتخرج ببعض الملاحظات :
أولا ً : ينطلق الفارابي من مقولات أرسطو حول تحديد أنواع الخطاب فالأقاويل كمصطلح تعادل الخطاب يعادل الخطاب الكلامي بأنواعه .
ثانيا ً : الخطاب الشعري هو أقاويل كاذبة كلها لا محالة . والخطاب الشعري يعادل الشعرية , فالشعرية جزء من الخطاب الكلامي .
ثالثا ً : الدلالة عنصر من عناصر الخطاب الشعري : كذلك المشابهة والمحاكاة , فالقول الشعري هو التمثيل .
رابعا ً : فصل الخطاب الشعري ( الشعرية ) عن الخطاب البرهاني والخطاب الجدلي والخطاب الخطابي والخطاب السوفسطائي انطلاقا من مسألة الصدق والكذب .
خامسا ً : الشعر صناعة قياسية .
8- أبو حيان التوحيدي ( 312 – 414 هـ ) الإمتاع والمؤانسة
في المقابسات يلقي أبو حيان سؤالا على – أبي سليمان حول النظم والنثر ويجيب أبو سليمان : ( النظم أدل على الطبيعة , لان النظم من حيز التركيب . والنثر أدل على العقل لان النثر من حيز البساطة ) . وحين سأل أبو حيان : ( لم لا يطرب النثر كما يطرب النظم ؟ ) يجيب : ( ( لأننا منتظمون فما لاءمنا أطربنا , وصورة الواحد فينا ضعيفة ونسبتنا إليه بعيدة ) ) .
أما في الإمتاع والمؤانسة فيورد مجموعة من الملاحظات :
أولا ً : قد يستعجم المعنى كما يستعجم اللفظ وينتثر النظم كما ينتظم النثر )) .
ثانيا ً : يستغني قارض الشعر بالطبع عن علم العروض .
ثالثا ً : صحيح الكلام من سقيمه , يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف وفاسد المعنى من صالحه , يعرف بالعقل .
رابعا ً : إذا عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن . أراك بعد معرفة الوزن فقيرا إلى معرفة جوهر الموزون . فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك .
خامسا ً : إن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها .
سادسا ً : وقدر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه , وقدر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه .
سابعا ً : النقد هو الكلام على الكلام , ومن الكلام ما هو مستقيم حسن ومنه ما هو مستقيم محال ومنه ما هو مستقيم قبيح ومنه ما هو محال كاذب ومنه ما هو خطأ .
ثامنا ً : الكلام ينبعث في أول مبادئه أما عن عفو البديهة وإما من كد الروية وإما أن يكون مركبا منهما وفيه قواهما بالأكثر والأقل .
تاسعا ً : المعاني المعقولة بسيطة في بحبوحة الناس , لا يحوم عليها شيء قبل الفكر وإذا لقيها الفكر بالذهن الوثيق والفهم الدقيق ألقى ذلك إلى العبارة . والعبارة تتركب بين وزن هو النظم للشعر وبين وزن هو سياقة الحديث .
عاشرا ً : قالت العرب : (( خير الكلام ما لم يحتج معه إلى كلام )) . وقال أعرابي للاخفش : أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا )) .
احد عشر : (( فأما بلاغة الشعر أن يكون نحوه مقبولا ً , والمعنى من كل ناحية مكشوفا ً واللفظ من الغريب بريئا والكناية لطيفة والتصريح احتجاجا ً والمؤاخاة موجودة والمواءمة ظاهرة . وإما بلاغة النثر أن يكون اللفظ متناولا والمعنى مشهورا ً والتهذيب مستعملا ً والتأليف سهلا والمراد سليما ً والرونق عاليا ً والحواشي رقيقة والصفائح مصقولة والأمثلة خفيفة المأخذ )) .
وعن مراتب النظم والنثر يورد أبو حيان التوحيدي الفوارق التالية :
أولا ً : الإنسان – في أول حالة من لدن طفولته – ينطق بالمنثور , والمنظوم : صناعي داخل في حصار العروض واسر الوزن وقيد التأليف مع توقي الكسر واحتمال أصناف الزحاف .
ثانيا ً : النظم قد سبق العروض بالذوق , والذوق طباعي , وقيل : الذوق وإن كان طباعيا ً فإنه مخدوم بالفكر , كما أن الإلهام مستخدم للفكر , والإلهام مفتاح الأمور الإلهية
ثالثا ً : (( من شرف النثر انه مبرأ من التكلف )) .
رابعا ً : قال عيسى الوزير : (( النثر من قبل العقل والنظم من قبل الحس )) .
خامسا ً : (( النثر كالحرة والنظم كالآمة )) .
سادسا ً : لشرف النثر قال تعالى : (( إذا رايتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ً )) ولم يقل لؤلؤا منظوما ً .
سابعا ً : قال احمد بن محمد : (( الكلام المنثور أشبه بالوشي والمنظوم أشبه بالمنير المخطط .
ثامنا ً : قال ابن هندو الكاتب : (( المنظوم فيه نثر من وجه , والمنثور فيه نظم من وجه , ولولا أنهما يستهمان هذا النعت لما ائتلفا ولا اختلفا )) .
تاسعا ً : قال السلامي : (( من فضائل النظم صار لنا صناعة برأسها وتكلم الناس في قوافيها وما هكذا النثر )) . وقال أيضا : (( من فضائل النظم انه لا يغني ولا يحدى إلا بجيده )) .
عاشرا ً : صورة المنظوم محفوظة وصورة المنثور ضائعة . قال بن نباتة : (( من فضل النظم أن الشواهد لا توجد إلا به والحجج لا تؤخذ إلا منه . فالشاعر هو صاحب الحجة والشعر هو الحجة )) .
فنحن إذا نستطيع أن نقدم جدولا للفوارق بين النظم والنثر انطلاقا من كلام التوحيدي هذا . وهكذا فالشعرية تشمل الكتابة وتخص الشعر . الشعرية علم للتأليف .
ونرى أن النقطة الثامنة حول التقارب بين المنظوم والمنثور قد أيدها بعد ذلك الحاتمي في (( حلية المحاضرة )) حيث قال : ( المنثور : مطلق من عقال القوافي فإذا صفا جوهره وطاب عنصره ولطفت استعارته ورشقت عبارته كاد يساوي المنظوم )) .
9- القاضي الجرجاني
(( الوساطة بين المتنبي وخصومه )) :
يبدأ الجرجاني بوضع نموذجه التصوري الأول انطلاقا مما قال القدماء : ( وما كان القدماء يتبعونه في أشعار الأوائل من لحن وغلط وإحالة وفساد معنى ) . ويعتذر القاضي الجرجاني مستدركا ً ومؤكدا ً (( وليس يجب إذ رأيتني امدح محدثا ً أو اذكر محاسن حضري أن تظن بي الانحراف عن متقدم أو تنسبني إلى الغض من بدوي , بل يجب أن تكشف عن مقصدي منه )) . هكذا يحدد منهجه في مسألة القديم والجديد والبدوي والحضري الأعرابي والمولد ويواصل قوله : (( الشعر علم من علوم العرب , يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء , ثم الدربة مادة له , وقوة لكل واحد من أسبابه . فمن اجتمعت به هذه الخصال فهو المحسن المبرز . ولست أفضل في هذه القضية بين القديم والمحدث والجاهلي والمخضرم والأعرابي والمولد , إلا أنني أرى حاجة المحدث إلى الرواية أمس واجده إلى كثرة الحفظ أفقر )) .
وهكذا يحدد موقفه بين القديم والجديد دون أن يفضل احدهما عن الآخر لذاته , ثم يدلل بالتطبيق : (( لذلك تجد شعر عدي – وهو جاهلي – أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤية وهما آهلان , لملازمة عدي الحاضرة وايطانه الريف وبعده عن جلافة البدو وجفاء الأعراب )) . ثم ينظر الجرجاني للمسألة من زاوية أخرى سيكولوجية : (( ونرى رقة الشعر أكثر ما تأتيك من قبل العاشق المتيم )) ثم يشرح الجرجاني أسباب اختلاط مقاييس الشعرية فالعرب حين انتقلوا من البداوة إلى الحضارة (( تجاوزوا في طلب التسهيل حتى تسمحوا ببعض اللحن , وحتى خالطتهم الركاكة والعجمة , وأعانهم على ذلك لين الحضارة وسهولة طباع الأخلاق . وكسوا معانيهم ما سنح من الألفاظ , فصارت إذا قيست بذلك الكلام الأول يتبين بها اللين فيظن ضعفا ً )) .
إذن فالكلام الأول – عند البعض – يعتبر من التصور النموذجي واللين يعادل الضعف ثم يتطرق إلى الموقف المعرفي في الشعر المحدث , حيث يعلق على بيت لأبي تمام (( جهمية الأوصاف إلا أنهم . . . قد لقبوها جوهر الأشياء )) يقول الجرجاني : ( هل تعرف شعرا ً أحوج إلى تفسير بقراط وتأويل أرسطو من هذا البيت )) . ولكنه يستدرك (( فلا تظن إني أريد بالسمح السهل – الضعيف الركيك )) ولا باللطيف الرشيق – الخنث المؤنث بل أريد النمط الأوسع : ما ارتفع عن الساقط السوقي وانحط عن البدوي الوحشي . ولا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحدا )) ولكن هل يتناقض عمود الشعر مع الجناس والطباق إذا صدر عن الشاعر بعفوية كما في الشعر الجاهلي ؟ الجرجاني يرى ذلك وإن كان يعني التقصد كما في الشعر المحدث : (( ولم تكن العرب تعبأ بالتجنيس حول التقارب بين المنظوم والمطابقة ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر ونظام القريض )) . ما هو إذن عمود الشعر ؟ يرى الجرجاني عمود الشعر كما يلي :
أولا ً : كانت العرب تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحته .
ثانيا ً : جزالة اللفظ واستقامته .
ثالثا ً : تسلل السبق به لمن وصف فأصاب وشبه فقارب وبده فأغزر .
رابعا ً : لمن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته .
خامسا ً: والشاعر الحاذق يجتهد في تحسين الاستهلال والتخلص وبعدهما الخاتمة فإنها المواقف التي تستعطف أسماع الحضور .
وهذه الصفات لعمود الشعر هي الصفات نفسها التي طرحها من سبقوا القاضي الجرجاني . ثم يناقش القاضي الجرجاني مسألة في غاية الخطورة والحساسية وهي – علاقة الشعر بالدين . وإذا كنا قد رأينا أن أبا بكر الصولي قد وضعها في مكانها الصحيح فإن الجرجاني وضحها أكثر والاهم من ذلك أن الجرجاني – احد القضاة المشهورين , وبالتالي فان ملاحظة محي الدين صبحي من أن شهادة الجرجاني حول علاقة الدين بالشعر هي إضافة لكونها رأيا ً نقديا ً ( هي فتوى شرعية ) ملاحظة صحيحة .
قال الجرجاني ( القاضي ) :
(( فلو كانت الديانة عارا على الشعر , وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين ويحذف ذكره , إذا عدت الطبقات ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية , ومن تشهد الأمة عليه بالذكر , ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزبعري وأحزابهما ممن تناول رسول الله ( ص ) وعاب من أصحابه بكما خرسا ً وبكاء مفحمين , ولكن الأمرين متباينان : والدين بمعزل عن الشعر )) .
هذه الفتوى الشرعية لا تعني – كما يتوهم البعض – فصل الشعر عن الايدولوجيا باعتبار الدين جزءا من الايدولوجيا , ولكنها تساوي بين الإيمان بالشيء والكفر به في المادة الشعرية كمادة خام , إذ أن العامل المقرر في المسألة الشعرية ليس الكفر والإيمان وإنما كيف يتم استخدامهما من الناحية الشعرية وليس من الناحية الأخلاقية .
ويتطرق الجرجاني لقضية أخرى مهمة هي قضية ( السرقات الشعرية ) يضعها في سياقها الصحيح بما يشبه مفهوم ( التناص ) المعاصر . يقول الجرجاني :
أولا ً : متى نظرت رأيت أن تشبيه الحسن بالشمس والبحر والجواد بالغيث والبحر , والبليد البطيء بالحجر والحمار , والشجاع بالسيف . . .الخ . أمور متقررة في النفوس متصورة للعقول ’ يشترك فيها الناطق والأبكم والفصيح والأعجم , حكمت بأن السرقة عنها منتفية )) .
ثانيا ً : قال : (( سألت الشافعي عن مسألة فقال : إني لأجد بيانها في قلبي ولكن ينطلق به لساني )) .
ثالثا ً : والسرقة داء قديم وعيب عنيف . وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر ويستمد من قريحته ويعتمد على معناه ولفظه وكان أكثره ظاهرا ً كالتوارد ثم تسبب المحدثون إلى إخفائه بالنقل والقلب وتغير المنهاج والترتيب .
إذن فالمشتركات البديهية وتوارد الخواطر ليست من السرقة , أما الإخفاء بالنقل والقلب والترتيب وتغيير المنهاج هي السرقة .
إلا أن القاضي الجرجاني يعود ليضع القديم نموذجا له (( فلكل صناعة أهل يرجع إليهم في خصائصها ويستظهر بمعرفتهم عند اشتباه أحوالها )) ولكن من زاوية أخرى يمكن النظر إلى ذلك من أن القاضي الجرجاني يرى أن الشعرية علم ذو أصول وقواعد معروفة . وفي النهاية يصف الجرجاني المعترضين على منهجه النقدي بأنهما : (( أما نحوي لغوي لا بصر له بصناعة الشعر . أو معنوي مدقق لا علم له بالإعراب ولا اتساع له في اللغة )) .
10 المرزوقي : ( عمود الشعر )) :
تحددت مفاهيم الشعر أكثر ولم يعد الكلام في البدهيات جائزا , ونقرأ تعريفات للشعر لمجموعة من الشعراء مثل : المرتضي الذي يقول :(( حظ اللفظ في الشعر أقوى من حظ المعنى )) . ونقرأ رأيا معاكسا للرضي : (( إن الألفاظ خدم للمعاني لأنها تعمل في تحسين معارضها وتنميق مطالعها )) وهكذا تبقى قضية الألفاظ والمعاني مفتوحة .
أما أبو العلاء المعري , فيرى أن الشعر (( كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط , إن زاد أو نقص إبانه الحس )) .
وقال أيضا : (( الشعر قران إبليس والرجز اخفض طبقة )) وهاجم المعري التكسب بالشعر : (( الشعر إذا كان لغير مكسب حسن في الصفات والنسب )) . و(( إذا رأيت الشاعر فلا تقل : والشعراء يتبعهم الغاوون – فإن الآية وصلت باستثناء فلا تجهلوا فضيلة الشعر )) . إلى أن نصل إلى المرزوقي ( 421 هـ ) الذي حدد مفاهيم الشعر أكثر واشتهر بأنه صاحب نظرية عمود الشعر وإن طرحها فبله البحتري والامدي والقاضي والجرجاني , إلا انه أكثرهم وضوحا ً وشرحا ً في مقدمته لديوان الحماسة . وهذه هي عناصر عمود الشعر كما حددها المرزوقي :
1- شرف المعنى وصحته -2- جزالة اللفظ واستقامته -3- الإصابة في الوصف -4- المقاربة في التشبيه -5- التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن -6- مناسبة المستعار منه للمستعار له -7- مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائها للقافية حتى لا منافرة بينهما وعيار هذه العناصر هي : 1- عيار المعنى : العقل الصحيح والفهم الثاقب . -2- عيار اللفظ : الطبع والرواية والاستعمال -3- عيار الوصف : الذكاء وحسن التمييز – 4- عيار التشبيه الفطنة وحسن التقدير -5- عيار التحام أجزاء النظم : الطبع واللسان -6- عيار الاستعارة : الذهن والفطنة -7- عيار مشاكلة اللفظ للمعنى : طول الدربة ودوام المدارسة .
هذا هو عمود الشعر كما يحدده المرزوقي . ويشرح الطاهر الحمروني نظرية المرزوقي بلغة المرزوقي :
1- قضية اللفظ والمعنى: إن أنصار اللفظ ثلاث فئات : أ- فئة تصرف اهتمامها إلى اصطفاء اللفظ واعتباره من حيث سلامة التركيب والابتعاد عن الخطأ واللحن . –ب- فئة ثانية تجاوزت ذلك إلى الإعراب وطلب جملة من المحسنات البلاغية . ج- فئة ثالثة تفضل اللفظ على المعنى وتطلب البديع والتعلق بصوره المختلفة . أما أنصار المعنى : فقد كانوا اشد حماسا ً له يقول المرزوقي : (( ومتى اعترف اللفظ والمعنى فتعانقا وتلابسا متظاهرين في الاشتراك وتوافقا )) فهذا هو الصحيح .
2- الصدق والكذب : يقول إحسان عباس أن المرزوقي أضاف لمقولتي الكذب والصدق مقولة ثالثة وهي (( الاقتصاد )) .
3- الطبع والتكلف : الشعر عند المرزوقي : وليد جيشان في النفس وحركة في القريحة تتعارض في إبراز شعب المعرفة ومكتسبات العلوم والمطبوع منه لا يأتي ارتجالا ولا عفويا ً بل لا بد له من الرواية والحفظ والسماع والمدارسة حتى يأتي على لسان الشاعر مهذبا ً شريفا عذب اللفظ لطيف المعنى .
11- عبد القاهر الجرجاني : (( نظرية النظم )) :
يمكن اعتبار عبد القاهر من خلال نظريته في النظم أول بنيوي عربي كما يؤكد أكثر من باحث معاصر . يقول مصطفى الجوزو أن النظم عند عبد القاهر هو – وضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو – والنحو هنا لا ينحصر بالإعراب بل يشمل كذلك علم المعاني والبلاغة والبيان والبديع ويدور حول الشكل , لا المعنى فيتناول الصناعة والاختيار والحسين . والشكل لا يتعلق باللفظ المفرد بل بموقعه في الجملة ولا بالجملة برأسها بل بائتلافها مع جاراتها . فالجرجاني كما يقول الجوزو ينظر إلى المجموعة أو ما يسمى في أيامنا بالبنية , لا إلى المفردات ولهذا قد يصح أن نعده بحق – أبا المدرسة البنيوية . ويقول إحسان عباس : (( كانت نظرية النظم ( أو التأليف ) عند عبد القاهر إنكارا لتلك الثنائية . أي أن يعني الناقد برؤية الصورة مجتمعة من الطرفين معا ً , دون إنكارا لتلك الثنائية . أي أن يعني الناقد برؤية الصورة مجتمعة من الطرفين معا ً , دون فصل بينهما . لقد أصبح مصطلح ( المعنى ) لديه يعني الدلالة الكلية المستمدة من الوحدة ثم انتقل من تفاوت الدلالات إلى مرحلة لم ينتبه إليها احد قبله من النقاد . إلا وهي معنى المعنى . يقول عبد القادر في أسرار البلاغة ) : وإذا عرفت هذه الجملة فها هنا عبارة مختصرة وهي أن تقول المعنى ومعنى المعنى . تعني بالمعنى بالمفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة . وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر )) . وفي كتابه (( دلائل الإعجاز )) مجموعة من الأفكار الأساسية : أولا ً : يقول : (( ينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارا وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجبا ً , وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة )) .
ثانيا ً : تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض . والكلم ثلاث : اسم وفعل وحرف . وللتعليق فيما بينها طرق معلومة , وهو لا يعدو ثلاثة أقسام : تعلق اسم باسم وتعلق فعل بفعل وتعلق حرف بهما . ولا يكون كلام من جزء واحد , وانه لا بد من مسند ومسند إليه وكذلك السبيل في كل حرف يدخل على جملة .
ثالثا ً : إن الألفاظ لا تفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة , ولا من حيث هي كلم مجردة , وان الفضيلة وخلافها , في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها . ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر والألفاظ تابعة والمعاني متبوعة .
رابعا ً : في نظم الكلم – تقتفي الحروف في نظمها – أثار المعاني وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس . فهو نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض , وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق . ولذلك كان عندهم نظيرا النسيج والتأليف والصناعة والبناء والوشي والتحبير وما أشبه ذلك , مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كل حيث وضع , علة تقتضي كونه هناك , وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح والفائدة في معرفة هذا الفرق بين الحروف المنظومة والكلم المنظومة انك إذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق , بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل
خامسا ً : النظم صنعة يستعان عليها بالفكرة . ومحال أن تفكر في شيء وأنت لا تضع فيه شيئا وإنما تضعه في غيره لو جاز لك ذلك , لجاز أن يفكر البناء في الغزل ليجعل فكره فيه وصلة إلى أن يصنع من الآجر , وهو من الإحالة المفرطة . واعلم أن ترتيب الألفاظ وتواليها على النظم الخاص , ليس هو الذي طلبته بالفكر ولكنه شيء بسبب الأول ضرورة , من حيث أن الألفاظ إذ كانت أوعية للمعاني , فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها . فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس , وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق . فإما أن تتصور في الألفاظ أن تكون مقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب وان يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه لان تجيء بالألفاظ على نسقها فباطل من الظن .
سادسا ً : إن النظم لا يكون في الكلم , حتى يعلق بعضها ببعض ويبني بعضه على بعض وتجعل هذه بسبب من تلك . ولما كانت المعاني إنما تتبين بالألفاظ وكان لا سبيل للمرتب لها والجامع شملها إلى أن يعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره , إلا بترتيب الألفاظ في نطقه , تجوزوا فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ ثم بالألفاظ بحذف الترتيب , ثم اتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما إبان الغرض وكشف المراد .
سابعا ً : النظم هو : توخي معاني النحو في معاني الكلم إن الشعر لا يختص بقائه من جهة نفس الكلم وأوضاع اللغة . فالحلي لا تختص بصائغها من حيث الفضة والذهب ولكن من جهة العمل والصنعة . فالاستعارة في أصلها مبتذلة معروفة وإنما كان ما ترى من الحسن , بالمسلك الذي سلك في النظم والتأليف . فالشعر كما قال الجاحظ : (( صياغة وضرب من التصوير )) .
ثامنا ً : لا يصلح تقدير الحكاية في النظم والترتيب : بل لن تغدو الحكاية الألفاظ وأجراس الحروف , وذاك أن الحاكي هو من يأتي بمثل ما أتى به المحي عنه , ولا بد أن تكون حكايته فعلا له وان يكون بها عاملا عملا مثل عمل المحكي عنه , نحو أن يصوغ إنسان خاتما يبدع فيه صنعة ويأتي في صناعته بخاصة تستغرب , فيعمد آخر يعمل خاتما على تلك الصورة والهيئة ويجيء بمثل صنعته فيه , ويؤديها كما هي فيقال : انه قد حكى عمل فلان وصنعة فلان .
تاسعا ً : التخييل هو : (( ما يثبت فيه الشاعر أمرا هو غير ثابت أصلا , ويدعى دعوي لا طريق إلى تحصلها ويقول قولا لا يخرج فيه نفسه ويريها ما لا ترى ( انه ) خداع للعقل وضرب من التزويق .
عاشرا ً : وراوي الشعر حاك , وليس على الحاكي عيب ولا عليه تبعة , إذا هو لم يقصد بحكايته أن ينصر باطلا ً أو يسوء مسلما وقد حكى الله تعالى كلام الكفار , فانظر إلى الغرض الذي له روي الشعر ومن اجله أريد .
هذه الأفكار الرئيسة في نظرية عبد القاهر في النظم وما حوله تدلنا على مجموعة من الملاحظات :
1- استخدم عبد القاهر المصطلحات التالية : التأليف – الصياغة – الباني – الاتحاد – الكلام – التغيير – الإبدال – التحويل – الصورة – الفكر – الحكاية – المرتب – الجامع – الترتيب – التخييل – الإحالة – المسند والمسند إليه – التوالي – النفس – العقل – المعنى – اللفظ – الصنعة – الهيئة – الدال والمدلول والدلالة – التناسق – التعليق – الجملة – الملائمة – معنى المعنى – التحسين – الواسطة – الإفضاء . . . الخ .
هذا القاموس المنحوت من الخبرة بعلم الشعر ولعم النظم يوحي لنا – بعد أن نضعه في السياق – بالتأثير الواضح لقاموس عبد القاهر النقدي في الدراسات العربية المعاصرة .
2- نظر الجرجاني إلى النص الشعري على انه مجموعة من البنى لا قيمة لإحداها دون الأخرى . والاهم من ذلك ليس التعرف على البنى وإنما تحديد ماهية العلاقة بينها .
3- انتقل من نوع الدلالات إلى تسلسل الافضاءات , أي تجاوز المرحلتين التقليديتين : المعنى الظاهري والمعنى الباطني , إلى سلسلة لا نهاية لها من المعاني
4- كسر ثنائية الألفاظ والمعاني وأقام بدلا منها بناءا ً جديدا ً شاملا ً .
5- هناك كينونة للألفاظ قبل استعمالها تختلف عن كينونتها بعد الاستعمال حيث تنتقل من الثبات إلى التحويل .
6- ربط النظم بالصنعة والحالة النفسية معا ً .
7- الفصاحة ليست في الألفاظ (( وإنما هي في تلك العملية الفكرية التي تضع تركيبا ً من عدة ألفاظ )) . كما يلاحظ إحسان عباس على أفكار الجرجاني .
8- الجملة هي الأصل الجزئي وليس اللفظ .
9- إن مفهوم الشعرية هنا يشمل الشعر والنثر وبالتالي فإن شعرية عبد القاهر هي شعرية الكتابة والتأليف والنظم . والنظم نفسه يعني صناعة وتأليف الكتابة .
12- ابن رشد : (( الأقاويل الشعرية :
يقول ابن رشد في (( تلخيص كتاب أرسطو في الشعر )) : (( الأقاويل الشعرية هي الأقاويل المخيلة )) ثم يشرح مجموعة من الأفكار منها :
أولا : أصناف ( التخيل والتشبيه ثلاثة : اثنان بسيطان وثالث مركب منهما . أما الاثنان البسيطان : فاحدهما تشبيه شيء بشيء وتمثيله به ( حروف التشبيه ) , وإما اخذ التشبيه بعينه بدل التشبيه وهو الذي يسمى الإبدال في هذه الصناعة . إلا أن الكنايات هي أبدالات من لواحق الشيء , والاستعارة هي إبدال من مناسبة وإما القسم الثاني فهو أن يبدل التشبيه , والصنف الثالث من الأقاويل هو المركب من هذين .
ثانيا ً : توجد المحاكاة بالأقاويل : بالطبع والتخييل . والمحاكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة أشياء : من قبل النغمة المتفقة , ومن قبل الوزن ومن قبل التشبيه نفسه . وليس في أشعار العرب لحن وإنما هي : أما الوزن فقط وإما الوزن والمحاكاة معا فيها , وكثيرا ً ما يوجد من الأقاويل التي تسمى أشعارا ما ليس فيها من معنى الشعرية إلا الوزن فقط . وإما تلك فهي أن تسمى أقاويل , أحرى منها أن تسمى شعرا ً .
ثالثا ً : أن النوع الذي يسمونه (( النسيب )) إنما هو حث على الفسوق . ولذلك ينبغي أن يتجنبه الولدان , ويؤدبون أشعارهم بما يحث فيه إلى الشجاعة والكرم ( العرب ) . أما اليونانيون يقولون أكثر ذلك شعرا ً إلا وهو موجه نحو الفضيلة أو الكف عن الرذيلة , أو ما يفيد أدبا من الآداب أو معرفة من المعارف .
رابعا ً : صناعة المديح ( التراجيديا ) , يكون تعلمها في الاعاريض الطويلة لا في القصيرة . وصناعة المديح هو أنها تشبيه ومحاكاة للعمل الإرادي الفاضل الكامل الذي له قوة كلية في الأمور الفاضلة . محاكاة تنفعل لها النفوس انفعالا معتدلا ً بما يولد فيها من الرحمة والخوف . وهذه المحاكاة بالقول تكمل إذ اقرن بها اللحن والوزن . فأول أجزاء صناعة المديح الشعري في العمل هو أن تحصي المعاني الشريفة التي بها يكون التخييل ثم تكسى تلك المعاني اللحن والوزن الملائمين للشيء المقول فيه , وعمل اللحن في الشعر هو انه يعد النفس لقبول خيال الشيء الذي يقصد تخييله .
قال : (( وقد يجب أن تكون أجزاء صناعة المديح ستة : الأقاويل الخرافية والعادات والوزن والاعتقادات والنظر واللحن )) .
خامسا ً : ينبغي أن تكون صناعة المديح مستوفية لغاية فعلها :
1- مما يحسن به قوام الشعر إلا يطول فيه بذكر الأشياء الكثيرة التي تعرض للشيء الواحد المقصود بالشعر . إن الشيء الواحد تعرض له أشياء كثيرة . وكذلك يوجد للشيء الواحد المشار إليه أفعال كثيرة .
2- يجب أن تكون الصناعة تشبه بالطبيعة , اعني أن تكون إنما تفعل معي ما تفعله من اجل غرض واحد وغاية واحدة .
3- المحاكاة التي تكون بالأمور المخترعة الكاذبة ليست من فعل الشاعر وأكثر ما يجب أن يتم في صناعة المديح أن تكون الأشياء المحاكيات أمورا موجودة , لا أمور لها أسماء مخترعة , فإن المديح إنما يتوجه نحو التحريك إلى الأفعال الإرادية فإذا كانت الأفعال ممكنة , كان الإقناع فيها أكثر وقوعا ً اعني التصديق الشعري الذي يحرك النفس إلى الطلب أو الهرب .
4- كثير من الأقاويل الشعرية تكون جودتها في المحاكاة البسيطة غير المتفننة .
5- يجب أن تكون خواتم الأشعار والقصائد تدل بإجمال على ما تقدم ذكره من العوائد التي وقع المدح بها .
6- يجب على الشاعر أن يلزم في تخيلاته ومحاكياته الأشياء التي جرت العادة باستعمالها في التشبيه وإلا يتعدى في ذلك طريقة الشعر .
7- من الشعراء من يجيد القول في القصائد المطولة ومنهم من يجيد الأشعار القصار والقصائد القصيرة – وهي التي تسمى عندنا المقطعات – والسبب في ذلك انه لما كان الشاعر المجيد هو الذي يصف كل شيء بخواصه وعلى كنهه وكانت هذه الأشياء تختلف بالكثرة والقلة في شيء من الأشياء الموصوفة – وجب أن يكون التخييل الفاضل هو الذي لا يتجاوز خواص الشيء ولا حقيقتها .
13- ابن سينا : (( فن الشعر )) :
في ترجمته المعدلة لكتاب (( فن الشعر )) لأرسطو , يقدم ابن سينا مجموعة من الأفكار الأساسية :
أولا : الشعر هو كلام محيل كلام مؤلف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاة . ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعي . ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها مؤلفا ً من أقوال إيقاعية . فإن عدد زمانه مساو ٍ لعدد زمان آخر . ومعنى كونها مقفاة هو أن يكون الحرف الذي يختم به كل قول منها واحدا ً . ( في إطار علم الموسيقى وعلم العروض وعلم القوافي ) .
ثانيا ً : ينظر المنطقي في الشعر من حيث هو مخيل . والمخيل هو : الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار وبالجملة تنفعل له انفعالا إنسانيا ً غير فكري , سواء أكان المقول مصدقا به أو غير مصدق , فإن كونه مخيلا ً أو غير مخيل : فإنه قد يصدق بقول من الأقوال ولا ينفعل به , فإن قيل مرة أخرى , وعلى هيئة أخرى انفعلت النفس عنه طاعة للتخييل لا للتصديق , فكثيرا ً فكثيرا ً ما يؤثر الانفعال ولا يحدث تصديقا ً , ربما كان المتيقن كذبة مخيلا . وإذا كانت محاكاة الشيء بغيره تحرك النفس وهو كاذب فلا بد أن تكون صفة الشيء على ما هو عليه تحرك النفس وهو صادق , بل ذلك اوجب , لكن الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق , وكثير منهم إذا سمع التصديقات أنكرها وهرب منها , وللمحاكاة شيء من التعجيب ليس للصدق لان الصدق المشهور كالمفروغ منه ولا طراءة له , والصدق المجهول غير ملتفت إليه , والقول الصادق إذا حرف عن العادة والحق به شيء تستأنس به النفس ربما أفاد التصديق والتخييل معا ً , وربما شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به . والتخيل إذعان والتصديق إذعان لكن التخيل إذعان للتعجب والالتذاذ بنفس القول , والتصديق إذعان لقول أن الشيء على ما قيل فيه , فالتخييل يفعل القول لما هو عليه والتصديق يفعله القول فيه عليه , أي يلتفت فيه إلى جانب حال المقول فيه .
ثالثا ً : الشعر قد يقال للتعجيب وحده وقد يقال للأغراض المدنية وعلى ذلك كانت الأشعار اليونانية . والأغراض المدنية هي احد أجناس الأمور الثلاثة اعني : المشورية والمشاجرية والمنافرية وتشترك الخطابة والشعر في ذلك . لكن الخطابة تستعمل للتصديق والشعر يستعمل للتخييل .
رابعا ً : الأمور التي تجعل القول مخيلا : 1- منها أمور تتعلق بزمان القول وعدد زمانه وهو الوزن . 2- أمور تتعلق بالمسموع من القول . – 3 – أمور تتعلق بالمفهوم من القول . -4- أمور تتردد بين المسموع والمفهوم . وكل واحد من المعجب بالمسموع أو المفهوم على وجهين : لأنه أما أن يكون من غير حيلة بل يكون نفس اللفظ فصيحا من غير صنعة فيه . أو يكون نفس المعنى غريبا ً من غير صنعة إلا غرابة المحاكاة والتخييل الذي فيه . وإما أن يكون التعجب منه صادرا ً عن حيلة في اللفظ أو المعنى : أما بسبب البساطة أو بحسب التركيب . وكل حيلة فإنما تحدث بنسبة ما بين الأجزاء : أما بمشاكلة أو مخالفة . والمشاكلة والمخالفة تامة أو ناقصة . وجميع ذلك أما بحسب اللفظ وإما بحسب المعنى والذي بحسب اللفظ : فإما في الألفاظ الناقصة الدلالات أو العديمة الدلالات كالأدوات والحروف . وإما في الألفاظ الدالة البسيطة وإما في الألفاظ المركبة . والذي بحسب المعنى فإما أن يكون بحسب بسائط المعاني وإما أن يكون بحسب مركبات المعاني .
خامسا ً :الشعر من جملة ما يخيل ويحاكي بأشياء ثلاثة : باللحن الذي يتنغم به , فإن اللحن يؤثر في النفس تأثيرا لا يرتاب به , ولكل غرض لحن يليق به , بحسب جزالته أو لينه أو توسطه , وبالكلام نفسه إذا كان مخيلا محاكيا ً . وبالوزن , فإن من الأوزان ما يطيش ومنها ما يوقر , وقد تكون أقاويل منثورة مخيلة , وقد تكون أوزان غير مخيلة لأنها ساذجة بلا قول . وإنما يوجد الشعر بأن يجتمع فيه القول المخيل والوزن .
سادسا ً : علتان تولدت منهما الشعرية : احدهما الالتذاذ بالمحاكاة فالإنسان أقوى على المحاكاة من سائر الحيوانات . وثانيهما : حب الناس للتأليف المتفق والألحان طبعا . ثم قد وجدت الأوزان مناسبة للألحان فمالت إليها الأنفس وأوجدتها .
سابعا ً : يجب أن يكون تقويم الشعر على هذه الصفة : أن يكون مرتبا ً فيه أول ووسط وآخر . وان يكون الجزء الأفضل في الوسط وان تكون المقادير معتدلة وان يكون المقصود محدود لا يتعدى ولا يخلط بغيره مما لا يليق بذلك الوزن , ويكون بحيث لو نزع منه جزء واحد فسد وانتقص .
ثامنا ً : إن الشاعر يجري مجرى المصور : فكل واحد منهما محاك , والمصور ينبغي أن يحاكي الشيء الواحد بأحد أمور ثلاثة : إما بأمور موجودة في الحقيقة وإما بأمور يقال أنها موجودة وكانت وإما بأمور يظن أنها ستوجد وتظهر فلذلك ينبغي أن تكون المحاكاة من الشاعر بمقالة تشتمل على اللغات والمنقولات من غير التفات إلى مطابقة الشعر للأقاويل السياسية التعقلية , فإن ذلك من شأن صناعة أخرى .
14- حازم القرطاجني : (( منهاج البلغاء وسراج الأدباء )) :
دون أية مبالغة : يعتبر القرطاجني ( ت – 1285 م ) مع عبد القاهر الجرجاني أهم ناقدين للشعر في التراث النقدي , لقد هضم القرطاجني كل الكتابات السابقة وأعاد هيكلتها في نظام جديد وأضاف لها الكثير ولهذا يعتبر كتابه ( منهاج البلغاء وسراج الأدباء ) أهم كتاب في نقد الشعر , وفيما يلي نقدم تلخيصا ً مونتاجيا ً لأهم ما ورد فيه من أفكار : المعاني والمباني والأسلوب .
أولا ً : المعاني : في الإبانة عن ماهيات المعاني وأنحاء وجودها ومواقعها والتعريف بضروب هيئاتها وجهات التصرف فيها : أ – معلم دال على طرق العلم بالمعاني وحقائقها وأنحاء النظر فيها وبما ينبغي أن تعتبر به أحوالها . هنالك موجودات خارج الذهن عن أمثلة لها وجود وهي الهيئات النطقية .
المنهج الثاني : في الإبانة عن طرق اجتلاب المعاني وكيفيات التئامها وبناء بعضها على بعض وما تعتبر به أحوالها في جميع ذلك , من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها أ- معلم دال على طرق العلم باقتباس المعاني وكيفية اجتلابها وتأليف بعضها إلى بعض :
أولا ً : يجب على من أراد جودة التصرف في المعاني أن يعرف أن للشعراء أغراضا ً أول ما هي الباعثة على قول الشعر . وهي أمور تحدث عنها تأثرات وانفعالات للنفوس مما يناسبها ويبسطها أو ينافرها ويقبضها .
ثانيا ً : أن المعاني صنفان : وصف أحوال الأشياء التي فيها القول ووصف أحوال القائلين أو المقول على ألسنتهم .
ثالثا ً : يشترط في النقلة من بعض هذه المعاني الذهنية إلى بعض أن يكون ذلك غير خارج عن الهيآت التي وقعت للعرب في النقلة من بعض ذلك إلى بعض .
ب- معلم دال على طرق المعرفة بأنحاء وجود المعاني : كل شيء له وجود خارج الذهن , فانه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه , فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في إفهام السامعين وأذهانهم فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ
جـ - معلم دال على طرق العلم بكيفيات مواقع المعاني في النفوس :
لما كان علم البلاغة مشتملا ً على صناعتي الشعر والخطابة , وكان الشعر والخطابة يشتركان في مادة المعاني ويفترقان بصورتي التخييل والإقناع وكانت النفس تتحرك لفعل شيء أو طلبه أو اعتقاده , وجب أن تكون اعرق المعاني في الصناعة الشعرية ما اشتدت علقته بأغراض الإنسان . أما النظر إلى حقيقة الشعر فلا فرق بين ما انفرد به الخاصة دون العامة وبين ما شاركوهم فيه , إذ المعتبر في حقيقة الشعر , إنما هو التخييل والمحاكاة .
إن الأقاويل المخيلة , لا تخلو من أن تكون المعاني المخيلة فيها مما يعرفه جمهور من يفهم لغتها ويتأثر له , أو مما يعرفه ولا يتأثر له , أو مما يتأثر له إذا عرفه أو مما لا يعرفه ولا يتأثر له لو عرفه , وأحق هذه الأشياء بان يستعمل في الأغراض المألوفة عن طرق الشعر ما عرف وتؤثر له أو كان مستعدا لان يتأثر له إذا عرف وكان في قوة كل واحد . وطرق الشعر في ثلاث جهات : أما أن تكون مفرحة وإما أن تكون مفجعة وإما أن تذكر فيها مستطابات قد انصرمت فيلتذ لتخيلها ويتألم لفقدها . والمعاني في الشعر منقسمة إلى أوائل وثوان . فالأول هي التي يكون مقصد الكلام وأسلوب الشعر يقتضيان ذكرها وبنية الكلام عليها وهي المعاني الجمهورية . والصنف الآخر وهو الذي سميناه بالدخيل , لا يأتلف منه كلام عال في البلاغة أصلا ً . إذ من شروط البلاغة والفصاحة حسن الموقع من نفوس الجمهور . وأنت لا تجد شاعرا مجيدا منهم . إلا وقد لزم شاعرا آخر المدة الطويلة , وتعلم منه قوانين النظم واستفاد عنه الدربة في أنحاء التصاريف البلاغية . وأنت تجد من ظن انه قد سامى الفحول وشاركهم , رعونة منه وجهلا من حيظ ظن انه كل كلام مقفى موزون شعر !! واعلم أن من المعاني المعروفة عند الجمهور ما لا يحسن إيراده في الشعر , وذلك نحو المعاني المتعلقة بصنائع جهل المهن لصنعتها . ومن المعاني التي ليست بمعروفة عن الجمهور ما يستحسن إيراده في الشعر . وليس الأمر في ما ذكرته كالأمر في المسائل العلمية : فإن المسائل العلمية يستبرد إيرادها في الشعر أكثر الناس . وإنما يورد المعاني العلمية في كلامه من يريد التمويه بأنه شاعر عالم , وهو فعل نقيض ما يجب في الشعر .
د – معرف دال على طرق المعرفة بكيفيات تركيب المعاني وتضاعفها :
إن المعاني قد تكون مفردة الأجزاء ومضاعفتها , وقد يكون بعض أجزائها مفردا ً وبعضها مضاعفا ً , وذلك بحسب تعدد الأفعال الواقعة الواقعة في المواطن التي عبر عما وقع فيها أو اتحادها وبحسب تعدد ما تستند إليه تلك الأفعال أو اتحاده , وبحسب تعدد ما تتوجه لطلبه من المفعولات أو اتحاده , وهذه الأفعال المشترك قد يكون وضعها على أن يصل من الشيء إلى غيره مثلما ما وصل إليه من غيره , وقد يتسلسل هذا ولا ينبغي أن يتجاوز ذلك المقدار الذي توجب مقاييس البلاغة الوقوف عنده . وقد يشترك الشيئان أيضا ً , في فعل ويكون كلاهما متوجها لفعل الآخر . وهذا إذا كان في قضية واحدة خففوا بعض ما يقع فيه من تكرار بالكناية والحذف . وتحسن للكلام أيضا بحسب نسب بعض المعاني الواقعة فيه من بعض ومن جهة مواقعها في زمان أو مكان ووضع بعضها في ذلك من تحديدات ترجع إلى ما تكون عليها في نفوسها . من كونها عامة أو خاصة , كلية أو جزئية . وتتضاعف بحسب الأحكام الواقعة في المعاني بعد تحديداتها من نفي واثبات ومساواة أو ترجيح ومن جهة كيفيات المخاطبات في المعاني . وصور المعاني ضربان صور متكررة وصور غير متكررة . والتكرار لا يجب أن يقع ي المعاني إلا بمراعاة اختلاف ما في الحيزين اللذين وقع فيهما التكرار من الكلام .
هـ - معلم دال على طرق العلم باستثارة المعاني من مكامنها واستنباطها من معادنها
إن الأصل الذي به يتوصل إلى استثارة المعاني واستنباط تركيباتها هو التملؤ من العلم بأوصاف الأشياء وما يتعلق بها من أوصاف غيرها والتنبه للهيئات التي يكون عليها إلتآم تلك الأوصاف وموصوفاتها ونسب بعضها إلى بعض أحسن موقعا في النفوس .ولاقتباس المعاني واستثارتها طريقان : احدهما نقتبس منه لمجرد الخيال وبحث الفكر والثاني نقتبس منه بسبب زائد على الخيال والفكر . وهو ما استند فيه بحث فيه الفكر إلى كلام جرى في نظم أو نثر أو تاريخ أو حديث أو مثل .
و- طرق المعرفة بما توجد المعاني معه :
لما كان الشعر لا يتأتى نظمه على أكمل ما يمكن فيه إلا بحصول ثلاثة أشياء : وهي : المهيئات والأدوات والبواعث , وكانت هذه الهيئات تحصل من جهتين :
1- النشء في بقعة معتدلة الهواء , حسنة الوضع , طيبة المطاعم , أنيقة المناظر
2- الترعرع بين فصحاء الألسنة المستعملين للأناشيد المقيمين للأوزان . ولا يكمل لشاعر قول إلا أن تكون له قوة حافظة وقوة مائزة وقوة صانعة . فالقوة الحافظة هي : أن تكون خيالات الفكر منتظمة ممتازا ً بعضها عن بعض , محفوظا ً كلها في نصابه . وكثير من خواطر الشعراء معتكرة الخيالات , فإذا أراد حجرا ً على صفة ما , تعب في تفتيشه . أما القوة المائزة هي التي يميز الإنسان بها ما يلائم الموضع والنظم والأسلوب والغرض .
أما القوة الصانعة , فهي القوى التي تتولى العمل في ضم بعض أجزاء الألفاظ والمعاني والتركيبات النظمية والمذاهب الأسلوبية إلى بعض والتدرج من بعضها إلى بعض . وبالجملة التي تتولى جميع ما تلتثم به كليات هذه الصياغة .
ز – طرق العلم بالمناسبة بين بعض المعاني وبعض والمقارنة بين ما تناظر منها : أن المعاني منها ما يتطالب بحسب الإسناد خاصة , ومنها ما يتطالب بحسب الإسناد وبحسب انتساب بعض المعاني في أنفاسها بكونها أمثالا أو أشباها أو أضداد أو متقاربات من الأمثال أو الأضداد .
المنهج الثالث : في الإبانة عما تتقوم به صنعتا الشعر والخطابة من التخييل والإقناع وما تعتبر أحوال المعاني في جميع ذلك :
أ- معلم دال على طرق العلم بما تتقوم به صناعة الشعر من التخييل وما تقوم به صناعة الخطابة من الإقناع والفرق بين الصناعتين : لما كان كل كلام يحتمل الصدق والكذب , أما أن يرد على جهة الأخبار والاقتصاص وإما أن يرد على جهة الاحتجاج والاستدلال , وكان اعتماد الصناعة الخطابية في اقاويلها على تقوية الظن لا على إيقاع اليقين واعتماد الصناعة الشعرية على تخييل الأشياء التي يعبر عنها بالأقاويل وبإقامة صورها في الذهن بحسب المحاكاة , وكأن التخييل لا ينافي اليقين كما نافاه الظن , وجب أن تكون الأقاويل الخطيبة غير صادقة ما لم يعدل بها عن الإقناع إلى التصديق . أما الصناعة الشعرية فهي تتقوم بالتخييل وهو غير مناقض للصدق أو الكذب . لذلك لا يعد شعرا ً من حيث هو صدق أو كذب, بل من حيث هو كلام مخيل , ووجب أن يكون في الكلام المخيل صدق وغير صدق . فالشعر قد تكون مقدماته يقينية ومشهورة ومظنونة . ويفارق البرهان والجدل والخطابة بما فيه من التخييل والمحاكاة . ويختص بالمقدمات المموهة الكذب . فيكون شعرا أيضا ما هذه صفته باعتبار ما فيه من المحاكاة والتخييل , هو المعتبر في صناعة الشعر .
ب – معرف دال على المعرفة بماهية الشعر وحقيقته :
الشعر كلام موزون مقفي من شانه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها ويكره إليها ما قصد تكريهه لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه , بما يتضمن من حسن تخييل له ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكلام , أو قوة صدقه أو قوة شهرته أو بمجموع ذلك , وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من أغراب . فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس , إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوى انفعالها . وأفضل الشعر : ما حسنت محاكاته وهيأته وقويت شهرته أو صدقه أو خفي كذبه وقامت غرابته .
وأردأ الشعر : ما كان قبيح المحاكاة والهيئة , واضح الكذب , خليا من الغرابة وما أجدر ما كان بهذه الصفة إلا يسمى شعرا ً وان كان موزونا ً مقفى .
ومن الأنحاء التي يترامى إليها صدق الشعر أو كذبه بما يقتضيه أهل الصناعة ويوجبه :
أولا ً : تحسين حسن لا نظير له . فهذا يجب أن تكون الأقاويل فيه صادقة وكذلك تقبيح القبيح الذي لا نظير له .
ثانيا ً : تحسين حسن له نظير . وكثيرا ً ما يقع في هذا أيضا الصدق إذا اقتصد في أوصافه .
ثالثا ً : يظن البعض أن التشبيه والمحاكاة من جملة كذب الشعر وليس كذلك . لان الشيء أشبه فتشبيهه به صادق .
رابعا ً : الوصف والمحاكاة لا في الكذب فيهما إلا بإفراط وترك الاقتصاد . وقد يقع الصدق أيضا في تحسين القبيح .
خامسا ً : ولنقسم الكلام الشعري :
1- إن الأقاويل الشعرية منها ما هو صدق محض , ومنها ما هو كذب محض . ومنها ما يجتمع فيه الصدق والكذب .
2- فالذي لا يعلم كذبه من ذات القول , وقد لا يكون طريق إلى علمه من خارج أيضا هو الاختلاف الامكاني .
3- والذي يعلم من خارج القول انه كذب ولا بد : الاختلاف الامتناعي والإفراط الامتناعي والاستحالي .
4- والإفراط هو أن يغلو في الصفة فيخرج بها عن حد الإمكان إلى الامتناع أو الاستحالة
5- وقد فرق بين الممتنع والمستحيل بان الممتنع هو : ما لا يقع في الوجود وان كان متصورا ً في الذهن , والمستحيل هو ما لا يصح وقوعه في وجود ولا تصوره في ذهن .
6- ولا يعاب الكذب الاختلافي في أغراض الشرع لان النفس قابلة له , إذ الاستدلال على كونه كذبا من جهة القول ولا العقل . فلم يبق إلا أن يعاب من جهة الدين وقد رفع الحرج عن مثل هذا الكذب أيضا في الدين , فان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان ينشد النسيب أمام المدح فيصغي إليه ويثيب عليه .
7- إن أفضل المواد المعنوية في الشعر , ما صدق وكان مشتهرا ً وأحسن الألفاظ ما عذب ولم يبتذل في الاستعمال .
ج- معلم دال على طرق العلم بالأشياء المخيلة :
الشعر كلام موزون – مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك والتئامه مع مقدمات مخيلة , صادقة كانت أو كاذبة , لا يشترط فيها غير التخييل . ويقع التخييل في أربعة أنحاء : من جهة المعنى ومن جهة الأسلوب ومن جهة اللفظ ومن جهة النظم والوزن .
والتخييل أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه .
وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصورها , أو تصور شيء آخر بها انفعالا من غير روية إلى جهة من الانبساط أو الانقباض .
د- معرف دال على طرق المعرفة بجهات مواقع التخييل :
أحسن مواقع التخييل أن يناط بالمعاني المناسبة للغرض الذي فيه القول ويحسن التخييل من النفس أن يترامى بالكلام إلى أنحاء من التعجيب . ويجب إلا يسلك بالتخييل مسلك السذاجة في الكلام .
هـ - معلم دال على أقسام المحاكاة :
المحاكاة أما محاكاة وجود أو محاكاة فرض . وينقسم التخييل بالنظر إلى متعلقاته قسمين : تخيل المقول فيه بالقول وتخيل أشياء من المقول فيه وفي القول من جهة ألفاظه ومعانيه ونظمه وأسلوبه . فالأول يجري مجرى تخطيط الصور وتشكيلها والثاني مجرى النقوش في الصور والتوشية في الأثواب .
وتنقسم المحاكاة أيضا إلى : قسم يخيل لك فيه الشيء نفسه بأوصافه التي تحاكيه وقسم يخيل لك الشيء في غيره , وللمحاكاة انقسام بحسب تنوها إلى المألوف والمستغرب ومقابلة بعضها ببعض , فيحصل ذلك ستة أقسام : 1- محاكاة حالة معتادة . 2- محاكاة حالة مستغربة . -3- محاكاة معتاد بمعتاد -4- مستغرب بمستغرب -5- معتاد بمستغرب .-6- مستغرب بمعتاد .
و- معرف دال على طرق لمعرفة بأحكام المحاكيات ووجوه التصرف في التخييلات الشعرية :
إذا حوكي الشيء جملة أو تفصيلا , فالواجب أن تؤخذ أوصافه المتناهية في الشهرة والحسن إن قصد التحسين , وفي الشهرة والقبح إن قصد التقبيح .
ز – معلم دال : أحكام المحاكاة التشبيهية :
ينبغي أن تكون المحاكاة على الوجه المختار بأمر موجود لا مفروض وليس ما سوى الأقاويل الشعرية في حسن الموقع من النفوس مماثلا ً للأقاويل الشعرية , لان الأقاويل التي ليست بشعرية ولا خطابية ينحى بها نحو الشعرية لا يحتاج فيها إلى ما يحتاج إليه في الأقاويل , إذ المقصود بما سواها من الأقاويل إثبات شيء أو إبطاله أو التعريف بماهيته وحقيقته .
المنهج الرابع :
-أحوال المعاني : كل معنى غامض وعبارة مستقلة فغموضه واستغلاقه راجعان إلى بعض الوجوه المعنوية أو العبارية أو إليهما معا ً أو إلى ما ناسبهما وجرى مجراهما . وجملة الأمر أن اشتكال المعاني وغموضها من جهة ما يرجع إليها أو إلى عباراتها يكون لأمور راجعة إلى مواد المعنى أو مواد العبارة . أو إلى ما يكون عليه إجراؤها من وضع وترتيب أو إلى مقادير ما ترتب من ذلك أو إلى أشياء مضمنة فيهما أو خارجة عنهما . وما قصد به البيان من الكناية والألغاز والتعمية هي لائقة به وصالحة له .
وملاحظات الشعراء : الأقاصيص وأخبار المستطرفة في أشعارهم ومناسباتهم , بين تلك المعاني المتقدمة والمعاني المقاربة لزمان وجودهم والكائنة فيها التي يبنون عليها أشعارهم مما يحسن في صناعة الشعر . ويجب للشاعر أن يعتمد من ذلك المشهور .
أما قديم المعاني ومخترعها :
1- القسم الأول فهو مثلما يتداوله الناس من تشبيه الشجاع بالأسد وهذا القسم لا سرقة فيه ولا حجر في اخذ معانيه , لان الناس في وجدانها ثابتة مترسخة , فإذا تساوى تأليف الشاعرين في ذلك فإنه يسمى الاشتراك , وإن فضلت فيه عبارة المتأخر عبارة المتقدم فهو الاستحقاق . وإن قصر فيه من تقدمه فذلك الانحطاط .
2- القسم الثاني : المعاني التي قلت في أنفسها , فما كان بهذه الصفة فلا تسامح فيه .
3- القسم الثالث : كل ما ندر من المعاني لم يورد له نظير وهذه هي المرتبة العليا في الشعر من جهة استنباط المعاني العقم . وإما من نقل المعنى النادر من غير زيادة فذلك من أقبح السرقات .
2- المباني :
النظم صناعة آلتها الطبع , والطبع هو استكمال للنفس في فهم أسرار الكلام .
مؤهلات الشاعر :
1- القوة على التشبيه .
2- القوة على تصور كليات الشعر .
3- القوة على تصور صورة للقصيدة تكون بها أحسن ما يمكن .
4- القوة على تخيل المعاني بالشعور بها واجتلابها من جميع جهاتها .
5- القوة على ملاحظة الوجوه التي يقع بها التناسب بين المعاني وإيقاع تلك النسب بينها.
6- القوة على التهدي إلى العبارات الحسنة .
7- القوة على التخيل في تسيير العبارات متزنة وبناء مباديها على نهاياتها ونهايتها على مباديها .
8- القوة على الالتفات من حيز إلى حيز والخروج منه إليه والتوصل به إليه .
9- القوة على تحسين وصل بعض الفصول ببعض والأبيات بعضها ببعض وإلصاق بعض الكلام .
10- القوة المائزة حسن الكلام من قبيحه .
والطبقة الأولى : من الشعراء هم الذين يقوون على تصور كليات المقولات ومقاصدها ومعانيها بالقوة قبل حصولها بالفعل , فيتأتى لهم بذلك تمكن القوافي وحين صور القصائد وجودة بناء بعضها على بعض .
وفيما يلي ملاحظات أخرى يقدمها القرطاجني :
أولا ً : وقت الشعر : نصيحة البحتري هي : (( قصدت أبا تمام فقال يا أبا عبادة , تخير الأوقات وأنت قليل الهموم , صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر , وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم . . وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام . وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب واجعل شهوتك لقول الشعر , الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين , وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضيين , فما استحسنه العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه ترشد )) . ثانيا ً : الأوزان والأغراض : للاعاريض اعتبار من جهة ما تليق به من الأغراض واعتبار ما تليق به من أنماط النغم .
ثالثا ً :المطالع : الشعراء : احدهما مذهب المعتنين بالمبادئ وهو من يجعل كلامه دالا على مقصده , ويفتح القول بما هو عمدة في غرضه .
رابعا ً : الصنعة والتسرع : حكي أن أبا العتاهية قال لشاعر كان قدم مع المأمون من خراسان : (( في كم تصنع القصيدة )) ؟ فقال له : (( قد اصنع القصيدة تبلغ الثلاثين بيتا في الشهر )) . فقال أبو العتاهية : (( أما إني لأملي على الجارية من ليلتي خمسمائة بيت )) قال له الخراساني : (( أما مثل قولك : (( إلا يا عتبة الساعة.أموت الساعة الساعة )) إني أملي منه ألف بيت إذا شئت )) فانقطع أبو العتاهية وضحك الحاضرون منه .
خامسا ً : التناسب : إن معرفة صناعة الشعراء موقوفة على معرفة جهات التناسب في تأليف بعض المسموعات إلى بعض ووضع بعضها تالية بعض أو موازية لها في الرتبة ومعرفة طرق التناسب في المسموعات والمفهومات لا يوصل إليها بشيء من علوم اللسان إلا بالعلم الكلي في ذلك وهو علم البلاغة الذي تندرج تحت تفاصيل كلياته ضروب التناسب والوضع , يعرف حال ما خفيت به طرق الاعتبارات من ذلك بحال ما وضحت فيه طرق الاعتبار وتوجد طرقهم في جميع ذلك تترامى إلى جهة واحدة من اعتماد ما يلاءم واجتناب ما ينافر .
سادسا ً : الوزن : يقول محمد الحبيب بن الخوجة في (( مقدمة المنهاج )) ما يلي :
يظهر في تحليل حازم للوزن أخذه بطريقة أرسطو , فالجزء يتألف من أرجل . والأرجل هي المقاطع الصوتية , لها عنده نفس المعنى المصطلح عليه لدى اليونان , وهي في العربية على ستة اضرب :
1- سبب خفيف : قد – في -2- سبب ثقيل : لك –به -3- سبب متوال : قال –جال – 4 – وتد مجموع : لقد – بلا -5- وتد مفروق : منه – باع -6- وتد متضاعف : مقال – مجال.
ويتضح أن حازما في تحليله لبحور الشعر العربي ارتكز مطلقا على أصول المذهب الخليلي , فهو يرى تمايز الدوائر واستقلال بعضها عن بعض . وهو لا ينكر المولد والمستحدث من الأوزان , بل يبدي إعجابه به وانظر قول حازم : (( فإما المتركب من سباعي وتساعي فهو من وضع المتأخرين من شعراء المشرق . جعلوا الجزء المفرد فيه اتساعا والمتشافعين سباعيين , فقدموا التساعي وتلوه بما يناسبه من السباعيات , وجعلوا الجزء الثاني من السباعيين في أكثر استعمال – وهو المستطاب في الذوق والأحسن في الوضع ينقص عن الأول ليكون كل واحد من الأجزاء اخف مما قبله . وتحروا في ذلك أن يكون كل جزء مناسبا لما قبله وذلك هو الوزن الذي يسمونه – الدبيتي وشطره المستعمل : مستفعلن مستفعلن مفتعلن .
هذا ولهي وقد كتمت الولها صونا لحديث من هوى النفس لها
يا آخر محبتي ويا أولها أيام عنائي فيك ما أطولها
ويمتاز حازم عن العروضيين بألفاظ اصطلاحية خاصة مثل :
1- الركن : عبارة عن الساكن الفاصل بين المتحركات في القافية وفي غيرها من أجزاء البيت .
2- الطول والقصر : أن القصائد منها : المقصرات : والقول فيها إذا كان منقسما إلى غرضين لم يتسع المجال للشاعر لان يستوفي أركان المقاصد التي بها يكمل التئام القصائد على أفضل هيئاتها . فإما المتوسطات والمطولات فالمجال متسع لما يراد من ذلك .
3- المطالع : تحسين الاستهلالات والمطالع من أحسن شيء في هذه الصناعة , إذ هي الطليعة الدالة على ما بعدها المتنزلة من القصيدة منزلة الوجه والغرة , تزيد النفس بحسنها ابتهاجا ونشاطا لتلقي ما بعدها .
4- المبادي : أن يصدر الكلام بما يكون فيه تنبيه وإيقاظ لنفس السامع أو أن يشرب ما يؤثر بها انفعالا ويثير لها حالا من تعجيب أو تهويل أو تشويق .
3- الأسلوب :
القسم الرابع في الطرق الشعرية وما تنقسم إلي وما ينحى بها نحوه من الأساليب , والتعريف بمأخذ الشعراء في جميع ذلك وما تعتبر أحوال الكلام المخيل المقفى الموزون في جميع ذلك من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها من القوانين البلاغية . والشعر ينقسم إلى طريق جد وهزل .
أولا ً : اختلف الناس في قسمة الشعر فقسمه بعضهم إلى : مدح وهجاء ونسيب ورثاء ووصف وتشبيه وقال بعضهم : أركان الشعر أربعة : الرغبة والرهبة والطرب والغضب . . وهذه التقسيمات غير صحيحة . فقد تبين أن أمهات الطرق الشعرية أربع وهي التهاني وما معها والتعازي وما معها . والمدائح وما معها , والاهاجي وما معها وان كل ذلك راجع إلى الباعث .
ثانيا : خير الشعر ما صدر عن فكر ولع بالفن والغرض الذي القول فيه ونسبة الكلام المقول – في المنحى الشعري – إلى نسبة القلادة إلى الجيد , لان الألفاظ والمعاني كالآلي والوزن كالسلك . والمنحى الذي هو مناط الكلام وبه اعتلاقه كالجيد له .
ثالثا ً : الأساليب الشعرية : الملائمة والنفور : إن أساليب الشعر تتنوع بحسب مسالك الشعراء في كل طريقة من طرق الشعر وبحسب تصعيد النفوس فيها إلى حزونة الخشونة أو تصوينها إلى سهولة الرقة أو سلوكها مذهبا ً وسطا ً بين ما لان وما خشن من ذلك .
والأسلوب : هيأة تحصل عن التأليفات المعنوية . والنظم هيأة تحصل عن التأليفات اللفظية , ولما كان الأسلوب في المعاني بإزاء النظم في الألفاظ وجب أن يلاحظ فيه حسن الاطراد والتناسب والتلطف في الانتقال .
رابعا ً : الخصوصية : المنازع ( منزع ) الهيئات الحاصلة عن كيفيات مآخذ الشعراء في أغراضهم وأنحاء اعتماداتهم فيها , وما يميلون بالكلام نحوه أبدا ً ويذهبون إليه , حتى يحصل بذلك للكلام صورة تقبلها النفس أو تمتنع من قبولها . وقد يعني بالمنزع أيضا كيفية مأخذ الشاعر في بنية نظمه وصيغة عباراته وما يتخذه أبدا كالقانون في ذلك كمأخذ المتنبي في توطئة صدور الفصول للحكم التي يوقعها في نهايتها . إن ذلك منزع اختص به .
خامسا ً : المفاضلة : أن المفاضلة بين الشعراء الذين أحاطوا بقوانين الصناعة وعرفوا مذاهبها لا يمكن تحقيقها . ولكن إنما يفاضل بينهم على سبيل التقريب , وترجيح الظنون ولان الشعر يختلف بحسب اختلاف أنماطه وطرقه , نجد شاعرا يحسن في النمط الذي يقصد فيه الجزالة والمتانة من الشعر وآخر يحسن في النمط الذي يقصد به اللطافة والرقة ولا يحسن في النمط الذي يقصد فيه الجزالة والمتانة من الشعر وآخر يحسن فيه النمط الذي يقصد به اللطافة والرقة ولا يحسن في النمط الذي يقصد نية الجزالة والمتانة . ولأن الشعر يختلف اختلاف الأزمان , نجد أهل زمان يعنون بوصف القيان والخمر وأهل زمان آخر يعنون بوصف الحروب . ولأن الشعر يختلف بحسب اختلاف الأمكنة فإن بعض الشعراء يحسن في وصف الوحش وبعضهم يحسن في وصف الروض . ولان الشعر يختلف بحسب اختلاف أحوال القائلين وبحسب اختلافهم في ما يستعملونه من اللغات : تجد واحدا يحسن في الفخر ولا يحسن في الضراعة والعكس . وآخر يحسن في النظم المصوغ من الألفاظ الحوشية والغريبة وآخر لا يحسن إلا في نظم اللغات المستعملة . فأما المفاضلة بين جماهير الشعراء الذين لم تتوفر لهم الأسباب المهيئة لقول الشعر والأسباب الباعثة على ذلك , وبين جماهير الشعراء الذين لم تتوفر لهم الأسباب والبواعث , فنحكم حكما جزما أن الذين توفرت لهم الأسباب اشعر من الذين لم تتوفر لهم . وذلك كما نفضل شعراء العراق على شعراء مصر . وان كان أكثر تلك الأسباب أيضا قد تغير في الصقع العراقي عما كان عليه في الزمان المتقدم .
15- عبد الكريم النهلشلي : (( الممتع في صنعة الشعر )) :
قد النهشلي ( النصف الأول من القرن الخامس هـ ) مجموعة من الملاحظات المتناثرة ومنها :
أولا ً : وظيفة الشعر : كم من عسير كان الشعر فرج يسره ونار حرب اطفاها وغضب برده وحقد سله وغناء اجتلبه : قتل النضر بن حارث على الشرك , فرأت قتيلة بنت النضر , الرسول (ص) يطوف بالبيت فاستوقفته وجذبت رداءه حتى انكشف وأنشدته شعرها بعد مقتل أبيها , وبعد أن سمع الرسول (ص) القصيدة , قال : (( لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته )) . وفي قصة أخرى أن عبد الله بن الزبير قد كسا من كان بمكة من الشعراء , ولم يكس الشاعر أبا العباس بن الأعمى لقربه من بني أمية واتصاله بهم .
ثانيا ً : ماهية الشعر : لما رأت العرب المنثور يند عليهم ويتفلت من أيديهم ولم يكن لهم كتاب يتضمن أفعالهم تدبروا الأوزان والاعاريض , فاخرجوا الكلام أحسن مخرج بأساليب الغناء فجاءهم مستويا ً , ورأوه باقيا على مر الأيام , فألفوا ذلك وسموه شعرا ً. والشعر عندهم فطنة . وقالوا : اللسان البليغ والشعر الجيد لا يجتمعان إلا قليلا وأعسر من ذلك أن تجتمع بلاغة القلم وبلاغة الشعر .
ثالثا ً : التكسب : الشاعر عند العرب أفضل من الخطيب , وكانت تهنأ بالشاعر إذا نبغ , إلا أن المحدثين أخرجوه عن جده , وجعلوه مكتسبا ً حتى قالوا : الشعر أدنى مروة السرى وأسرى مروة المنى . وكانت العرب تأنف عن الطلب بالشعر .
رابعا ً : أهمية الشعر : لا ينبغي لعاقل أن يتعرض الشاعر , فربما كلمة جرت على لسانه فصارت مثلا آخر الأبد وكانوا العرب إذا اسروا الشاعر اخذوا عليه المواثيق لا يهجوهم , لان أكرم العرب في أنفسها يشتد تخوفا ً من الهجاء . ولو لم تضمن ( هذه الفعالة في الشعر ) لذهبت مع ما ذهب من سائر المنثور .
ونجد أن ابن رشيق في ( العمدة ) يتبنى تعريف النهشلي للشعر كما يقول إحسان عباس , وفيما يلي بعض الآراء لابن رشيق :
أولا ً : اجتمع الناس على قبح الكذب ولكنهم وجودا الكذب في الشعر حسنا ً .
ثانيا: ليس من أتى بلفظ محصور يعرفه طائفة من الناس دون طائفة لا يخرج من بلده ولا يتصرف من مكانه , كالذي لفظه سائر في كل الأرض معروف بكل مكان .
ثالثا ً : البيت من الشعر كالبيت من الأبنية , قراره الطبع وسمكه الرواية ودعائمه العلم وبابه الدراية وسانده المعنى , ولا خير في بيت غير مسكون .
رابعا ً : إذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه : أو استظراف لفظ وابتداعه , أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني أو نص مما أطاله سواه من الألفاظ أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر كان اسم الشاعر عليه مجازا لا حقيقة . فاللفظ – كما يقول ابن طباطبا – (( جسم وروحه المعنى )) .
خامسا ً : خفاء الصنعة : إن صنعة ابن المعتز الشعرية خفية لطيفة , لا تكاد تظهر في بعض المواضع .
سادسا ً : الفقر آفة الشعر .
سابعا ً : من العرب من يختم القصيدة يقطعها والنفس بها متعلقة وفيها راغبة مشتهية . ويبقى الكلام مبتورا كأنه لم يتعمد جعله خاتمة .
ثامنا ً : المطيل من الشعراء أهيب في النفوس من الموجز .
تاسعا ً : التجربة : وصفة الإنسان ما رأى يكون لا شك أصوب من صفته ما لم ير وتشبيهه ما عاين بما عاين أفضل من تشبيهه ما أبصر بما لم يبصر .
عاشرا ً : السرقات : آخر مظهر من مظاهر السرقات هو ما سماه ( التلفيق ) كما يقول إحسان عباس : وهو أن يأخذ الشاعر المعاني المتقاربة ويستخرج منها معنى مؤكدا ً يكون له كالاختراع , وينظر به جميعها فيكون وحده مقام جماعة من الشعراء وهو مما يدل على حذق الشاعر وفطنته (( ولم أرى ذلك أكثر منه في شعر أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري فإنهما بلغا فيه كل غاية )) .
16 – ابن خلدون : (( صناعة الشعر )) :
أولا : يرى ابن خلدون أن لكل لسان أحكام في البلاغة تخصه . وهو في لسان العرب : كلام مفصل قطعا متساوية في الوزن . متحدة في الحرف الأخير الذي تتفق به رويا وقافية ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصدية وكلمة . وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه ويراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد .
ثانيا ً : الشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ : ولنذكر مدلول لفظة الأسلوب : عبارة عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب , أو القالب الذي يفرغ فيه . وهذا يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها , ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال , ثم ينتقي التراكيب الصحيحة .
ثالثا ً : إن معرفة قوانين البلاغة لا تكفي , لان قوانين البلاغة هي قواعد علمية وقياسية , تفيد جواز استعمال التراكيب على هيأتها الخاصة بالقياس .
رابعا ً : القوالب كما تكون في المنظوم , تكون في المنثور , فان العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين , ففي الشعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة واستقلال الكلام في كل قطعة , وفي المنثور يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالبا وقد يقيدونه بالأسجاع وقد يرسلونه .
( ولكن ) قول العروضيين في حدة : إنه الكلام الموزون المقفى ليس بجد لهذا الشعر وصناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته يعد المتحركات والسواكن على التوالي ومماثلة عروض الأبيات لضربها .
خامسا ً : الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف , المفصل بأجزائه متفقة في الوزن والروي , مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده , الجاري على أساليب الغريب المخصومة به .
سادسا ً : الألفاظ والمعاني : إن صناعة الكلام نظما ونثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني وإنما المعاني تبع لها . وهي أصل والمعاني موجودة عند كل واحد , فلا تحتاج إلى تكلف صناعة الشعر في تأليفها , وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة . ومن شروط صناعة الشعر : الحفظ من جنس شعر العرب ومن شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة .
سابعا ً : وقت الشعر : خير الأوقات أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر , وفي هواء الجمام , وربما قالوا : إن من بواعثه العشق والانتشاء , ذكر ذلك ابن رشيق في (( العمدة )) .


17 ـ النقد عندضياء الدين بن الأثير
تعود نقاد العرب تناول بعض الموضوعات في العمل الأدبي والأديب وما يحيط بها تفصيلا ً , وإغفال بعضها الآخر , أو تناولها تناولا ً هينا ً أو عارضا ً . وإذا كنا نتصور النقد تفسيرا ً للأدب , ومحاولة لتذوقه والحكم عليه أو وضعه موضعه اللائق فإن الوصول إلى ذلك يمكن السلوك إليه وفقا ً لمناهج النقد المعاصرة بعدة طرق منها : التعرض للنص نفسه واكتشافه عن طريق دراسة جوانبه المختلفة , جوانب الأسلوب والموضوع والغاية وما يمكن أن نستدل عليه أو نستشفه من شخصية صاحبه ونفسيته وما إلى ذلك , ومدى ما يمكن التوصل إليه من صدق فني أو كذب
ثم قد نعرض لجوانب خارجة على النص أثرت فيه , فنعرض للأديب نفسه وما يتصل بمكوناته الأدبية من موهبة وما ألهمه للعمل الأدبي , وإمكانياته الفنية أو قدرته , وقد يحتاج الأمر لعرض وضعه الاجتماعي ومكانته أو بيئته التاريخية أو الزمنية .
ولا نتوقع أن يلم القدماء من نقادنا بكل هذه الجوانب , ولكننا مع ذلك لا نقول أنهم تجاهلوها تماما ً أو غفلوا عنها فلم يدرسوها , أو لم يتوصلوا إلى علاقتها بالنص الأدبي وصاحبه .
وفي عرضنا لضياء الدين الناقد نتدرج في حديثه عن جوانب مختلفة من قضايا النقد العديدة التي تتعرض لتلك الأمور من زوايا قريبة أو بعيدة .
كلامه عن المؤلف شاعرا ً وكاتبا ً واثر تكوينه في عمله :
ويحدثنا ضياء الدين عن المؤلف في أول حديثه عن آلات الكتابة والنظم فيرى أن من هذه الآلات الطبع أو الاستعداد الفطري , وعن طريق هذا الطبع يهتدي الشاعر والكاتب إلى البديع المخترع من المعاني : (( إن المعاني المخترعة لم يتكلم فيها احد بالإشارة إلى طريق يسلك فيها , لان ذلك مما لا يمكن , ومن ها هنا اضرب علماء البيان عنه , ولم يتكلموا فيه كما تكلموا في غيره وكيف تتقيد المعاني المخترعة بقيد أو يفتح إليها طريق يسلك وهي تأتي من فيض الهي بغير تعليم , ولهذا اختص بها بعض الناثرين والناظمين دون بعض . والذي يختص بها يكون فذا ً واحدا ً يوجد في الزمان المتطاول )) .
ويشبه الموهبة الكامنة لدى الشاعر الموهوب أو الكاتب المبدع بالنار الكامنة في حجر الزناد تظهر وتتطاير بالاحتكاك والقدح , وانه لا يجدي التحصيل والمعرفة بالات الكتابة والشعر من حفظ أو تمرس بصناعتها دون الموهبة : (( فإنه إذا لم يكن ثم طبع فإنه لا تعني تلك الأدوات شيئا ً )) ومثل ذلك مثل النار الكامنة في الزناد والحديد الذي يقدح بها , إلا ترى انه إذا لم يكن في الزناد نار لا تفيد تلك الحديدة شيئا ً )) .
وبتفاوت درجة الموهبة لدى الأديب تتفاوت درجات ما يصدر عنه من الأدب فالأديب المطبوع تحس في أدبه روح الابتكار والصدق , وغير المطبوع الذي ليست له موهبة تلمس في أدبه روح التكلف واثر الصنعة , وتتراوح درجات الطبع والصنعة تبعا ً لدرجات الموهبة والمعرفة لدى الشاعر , والشاعر المطبوع العارف العالم يأتي شعره في الدرجة العليا وضربوا المثل في ذلك بأبي تمام والمتنبي . وقد أعجب بهما ابن الأثير وضرب المثل بأشعارهما وقارن بين شعر أبي تمام وشعر أبي العلاء المعري فقال :إن حسن هذا المطبوع وحسن ذاك مصنوع . ثم يشرح علة اتهامه لأبي العلاء وشعره في اللزوميات بالتكلف والصنعة , قال : لا شك أن صورة الخلقة غير صورة التخلق , فإن قيل ما الفرق بين المتكلف من هذه الأنواع وغير المتكلف قلت في الجواب : أما المتكلف فهو الذي يأتي بالفكرة والروية , وذلك يضني الخاطر في طلبه , ويبعث على تتبعه واقتصاص أثره , وغير المتكلف يأتي مستريحا ً من هذا كله وهو أن يكون الشاعر في نظم قصيدته أو الخطيب أو الكاتب في إنشاء خطبته أو كتابته , فينا هو كذلك , إذ سنح له نوع من هذه الأنواع بالاتفاق لا بالسعي والطلب )) .
فالقول المطبوع كالحسن المطبوع يكون خلقه , ومن صنع الفطرة وهو مقبول يقع في القلب , ولا يدعو إلى التقصي والتعب في التتبع , وللمعرفة شأنها مع الطبع لأنها تقويه وتغنيه , وتطيل من تدفقه وحيويته , فالاطلاع على الأدب القديم والحديث , وحفظ مختاره والتدرب على تقليده أمر لازم فإن في ذلك فوائد جمة لان الشاعر أو الكاتب يعلم منه أغراض الناس ونتائج أفكارهم , ويعرف به مقاصد كل فريق منهم , والى أين ترامت به صنعته في ذلك فإن هذه الأشياء مما يشحذ القريحة ويذكي الفطنة , وإذا كان صاحب هذه الصناعة عارفا ً بها تصير المعاني التي ذكر , وتعب في استخراجها كالشيء الملقى بين يديه يأخذ منه ما أراد , وأيضا فإنه إذا كان مطلعا ً على المعاني المسبوق إليها قد ينقدح له من بينها معنى غريب لم يسبق إليه , ومن المعلوم أن خواطر الناس وإن كانت متفاوتة في الجودة والرداءة فإن بعضها : (( يكون عاليا ً على بعض أو منحطا ً عنه إلا بشيء يسير , وكثيرا ً ما تتساوى القرائح والأفكار في الإتيان بالمعاني حتى إن بعض الناس قد يأتي بمعنى موضوع بلفظ , ثم يأتي الآخر بعده بذلك المعنى واللفظ بعينهما من غير علم منه ما جاء به الأول )) .
النص الأدبي :
وأما كلامه عن النص الأدبي فقد استغرق كل أرائه النقدية كغيره من العلماء البلاغة . فتلكم عن الصياغة من جوانبها المختلفة , الألفاظ المفردة وما ينبغي أن يتوفر لها من الفصاحة التي لها شروط , ومن حيث التأليف وتركيبها بعضها إلى جانب بعض , ثم من حيث المعاني ودلالة التأليف على المعاني المختلفة دلالات تناولت باوضاع التأليف واشكاله وبالقدرة على تخيل المعاني وتصويرها ليستجيب لها الإدراك وتثبت في الذهن أو تؤثر في المشاعر بأحاسيس مما يتطلبها الموقف .
ولم يتعرض ضياء الدين لمراحل الخلق الأولى للعمل الأدبي كما حاول ابن طباطبا في عيار الشعر . ولكنه حاول الفصل بين المعنى واللفظ وليس بقصد بالمعنى " المدلول " اللفظي المحدود , ولا معنى اللفظ المفرد وإنما يقصد معنى العبارة أو المعنى البلاغي في الجملة .
ويرى أن الشاعر إذا قال شعرا ً فينبغي له أن يعيد النظر فيه لعله يتراءى له أن يثقفه أو يعدل ويبدل حتى يستقيم كما ينبغي , فكأنه ارتأى أن لا يكتفي الشاعر بالتعبير الأولى أو التعبير الشعري بل يجب التعديل أو محاولة الوصول للمرحلة الثانية وهي التعبير البلاغي بإدخال الصنعة والزخرف اللفظي والموازنة والتناسب بين المعاني وما إلى ذلك , ويرى جماعة أن أي تعديل في الصيغة إنما يعني تعديلا ً في المعنى .
ويدافع ضياء الدين عن الخصائص المنفصلة أو المستقلة لكل من الألفاظ والمعاني والتي يمكن أخذها بعين الاعتبار , أو مراعاتها في عمل الشعر والكتابة فيقول (( وإن القول بتلاؤم اللفظ والمعنى وعدم إمكان الفصل بينهما قول شبيه بالسفسطة , وهو باطل من وجهين احدهما أن المعاني إذا كانت لا تزيد عن الألفاظ فيلزم من ذلك أن الألفاظ لا تزيد أيضا على المعاني لأنهما متلازمان على قياس من يقول بعدم الانفصال , ونحن نرى معنى قد دل عليه بألفاظ , فإذا اسقط من تلك الألفاظ شيء لا ينقص ذلك المعنى بل يبقى على حاله , والوجه الآخر الإيجاز بالحذف أقوى دليل على زيادة المعاني على الألفاظ لأنا نرى لفظا ً يدل على معنى لم يتضمنه وفهم ذلك المعنى ضرورة لا بد منه , فعلمنا حينئذ أن ذلك المعنى الزائد على اللفظ مفهوم من دلالته عليه )) .
ولذلك فقد عرض لجملة من الخصائص التي تتوفر في اللفظة المفردة لتكون فصيحة . وافق فيها كثيرا ً مما ذكر ابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة من قبل وخالفه في بعض مسائل الجزئية .
فما وافقه فيه أن تكون متناسبة المخارج حتى يسهل على اللسان النطق بها وإن اختلفا في معنى هذا التناسب فقد حدده ابن سنان بالتقارب جدا ً أو التباعد جدا ً , ورأى ابن الأثير أن لهذه القاعدة شواذ , وان القياس الذي لا يخطئ هو الثقل إلى جانب تركيبها من حروف متنافرة لا تروق في السمع فتثقل على الأذن .
وينبغي أن تكون الألفاظ مألوفة سهلة , تقع معانيها قريبة من إفهام الناس ولا تكون صعبة مستغفلة . يقول : (( وقد رأيت جماعة من مدعيي هذه الصناعة يعتقدون أن الكلام الفصيح هو الذي يعز فهمه ويبعد مناله , فإذا رأوا كلاما ً وحشيا ً غامض الألفاظ يعجبون به ويصفونه بالفصاحة , وهو بالضد من ذلك لان الفصاحة الظهور والبيان لا الغموض والخفاء )) .
كذلك ينبغي للألفاظ أن تتفق معانيها مع أصواتها وتراكيبها , فالألفاظ تنقسم في الاستعمال إلى جزالة ورقيقة , ولكل منها موضع يحسن استعماله فيه , فالجزل منها في مواقف الحروب , وفي القوارع والتهديد , والتخويف وأشباه ذلك , ولست اعني بالجزل من الألفاظ أن يكون وحشيا ً متوعرا ً عليه عنجهية البداوة , بل اعني بالجزل أن يكون متينا ً على عذوبته في الفم ولذاذته في السمع , ولست اعني بالرقيق أن يكون ركيكا ً سفافا ً , وإنما هو اللطيف الرقيق الحاشية , الناعم الملمس )) .
ويرى أن بعض الألفاظ تحتفظ في بعض أبيات الشعر أو جمل النثر بخصائص معينة فتحيط نفسها بهالة من المعاني والظلال الجانبية والإيحاءات المختلفة فوق مدلولها المباشر , أو معناها اللغوي , وتبدو براعة الأديب في القدرة على استغلال هذه الخصائص في الألفاظ كما فعل الشاعر في استغلال لفظتي (( كل حاجة )) في قوله :
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح
قال ضياء الدين : (( إن في قول هذا الشاعر كل حاجة )) ما يستفيد منه أهل النسيب والرقة والأهواء والمقة ما لا يستفيده غيرهم , ولا يشاركهم فيه من ليس منهم , إلا ترى أن حوائج منى كثيرة , فمنها التلاقي , ومنها التشاكي ومنها التخلي للاجتماع . . . إلى غير ذلك مما هو تال له ومعقود الكون به )) .
وقد يسمى تلك الألفاظ ( جوامع الكلم ) ويعنى تلك التي تتضمن من المعنى ما لا تتضمنه أخواتها مم يجوز استعماله في مكانها مثل قول النبي – ص – (( بعثت في نفس الساعة )) . وقد أعجب بمثل هذه الألفاظ حتى قال : (( وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين يلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ فأجد لها نشوة كنشوة الخمر وطربا ً كطرب الألحان )) .
وأما آراؤه في تأليف العبارة , فهو يرى أن الترتيب المنطقي حسب قواعد اللغة ليس الترتيب الأمثل في التعبير الأدبي ,. وإنما المقياس فيه الذوق والإحساس الصادق بقوة المعنى وقوة التعبير عنه لا سلامته , فالسلامة العقلية التي تتوخاها قواعد اللغة , ويتوخاها المنطق لا اعتبار لها وحدها في ميزان النقد والبلاغة (( فأسرار الفصاحة لا تؤخذ من علماء العربية , وإنما تؤخذ منهم مسألة نحوية )) .
ومما ضربه للجائز لغة , القبيح بلاغة لفظة الفقود في بيت عنترة :
فإن يبرأ فلم انفث عليه وإن يفقد فحق له الفقود
فقوله الفقود جمع مصدر من قولنا فقد فقدا ً , واستعمال هذه اللفظة غير سائغ ولا لذيذ , وغن كان جائزا ً , ونحن في استعمال ما نستعمله من الألفاظ واقفون مع الحسن لا مع الجواز , وهذا كله يرجع إلى حاكم الذوق السليم , فإن صاحب هذه الصناعة يصرف الألفاظ بضروب التصريف , فما عذب في فمه منها استعمله وما لفظه فمه تركه )) .
وتختلف عنده العبارة الأدبية أو الفنية عن العبارة العلمية أو المنطقية في أن الثانية تقصد إلى المعنى مباشرة دون زيادة أو نقصان , بخلاف الأولى التي تحتمل أشياء كثيرة وقديما ً حاول اللغويون والمناطقة وبعض النقاد قياس الشعر بالمنطق ومقاييسه وحدوده فثار عليهم البحتري :
كلفتمونا حدود منطكم والشعر يغنى عن صدقه كذبه
يعني أن المنطق يبحث عن الصدق أي مطابقة الكلام لمقتضى الحال , وأما الشعر فيحتمل كثيرا ً من المجاز والتأويل .
ولهذا استخدم الأدب الأسلوب المجازي بفنونه التعبيرية المختلفة من إيجاز وإطناب ومجاز واستعارة وكناية وتورية ومبالغة وتقديم وتأخير وما إلى ذلك .
وقد عمد إلى عدم الاكتفاء بمخاطبة العقل بل إلى ضرورة التأثير على المشاعر والأحاسيس وإثارة الانفعالات المختلفة عن طريق التخيل أو مخاطبة الحواس , والإيهام , وذكر ضياء الدين أن دور المجاز في التعبير الأدبي هو " إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عيانا ً )) .
وكلما قويت الصورة المجازية في ذهن السامع قويت دلالتها , فالتشبيه المضمر ابلغ من المظهر وأوجز , أما كونه ابلغ فلجعل المشبه مشبها ً به من غير واسطة أو أداة فيكون هو إياه , فانك إذا قلت : زيد أسد كنت قد جعلته أسدا ً من غير إظهار أداة التشبيه . . . وان الغرض المقصود من قولنا زيد ٌ أسد ٌ أن نتبين حال زيد في اتصافه بشهامة النفس وقوة البطش , وجراءة الإقدام وغير ذلك مما يجري مجراه , إلا أنا لم نجد شيئا ً يدل به عليه سوى أن جعلنا شبيها ً بالأسد حيث كانت هذه الصفات مختصة به , فصار ما قصدناه من هذا القول اكشف وأبين من أن لو قلنا : زيد ٌ شهم شجاع , قوي البطش جريء الجنان وأشباه ذلك , لما قد عرف من اجتماع هذه الصفات في المشبه به اعني الأسد , وأما زيد الذي هو المشبه به فليس معروفا ً أنها كانت موجودة فيه )) .
والتصوير في التعبير الأدبي ضرب من المحاكاة , وهو عنصر أساسي في كل الفنون , فالفن في أساسه محاكاة للطبيعة , ولكنها محاكاة تتلون بلون الفنان وموضوعه ويستخدم الفنان المحاكاة للتعبير عن تجربة أو قضية فنية أو اجتماعية أو ذهنية أو تجربة ذاتية , فإذا خلت المحاكاة أو الصورة الأدبية من هذه المضامين قلت قيمتها الفنية لدى بعض النقاد ومنهم ضياء الدين بن الأثير , فهو لا يكتفي من الشاعر مثلا ً بان يصور ما يرى تصويرا ً مجسما ً أو دقيقا ً فينقله إلى السامع بحيث يتصوره وكأنه يراه ويلمسه بيده . كما فعل أبو نواس في وصفه لكأس الخمر :
تدار علينا الراح في عسجدية ٍ حبتها بانواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنابها مها ً تدريها بالقسى الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها وللماء ما دارت عليه القلانس
فهو مجرد حكاية حال مشاهدة بالبصر . والمعنى أو الصورة المخترعة على غير مثال أبدع عنده وأجمل . (( المعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصورة فإنها أصعب مثالا ً مما يستخرج بشاهد الحال , ولأمر ما كان لإبكارها سر لا يهجم على مكانه إلا جنان شهم , ولا يفوز بمحاسنه إلا من دق فهمه حتى جل عن دقة الفهم )) .
ومع ذلك فلا يصح أن يجتلب الأديب الصور من حيث وليس فتكون غريبة غير مألوفة , أو يركب بعضها إلى بعض بحيث لا تقبل عقلا ً ولا تتصور في الواقع , وإنما عليه أن يلائم ما استطاع ويوفق بين ما تقع عليه الحواس وبين ما يخترعه فيأتي بالجديد وكأنه واقع مشاهد وهو على مثال معروف أو ممكن غير مستبعد .
ويوازن ضياء الدين بين بيتين من الشعر احدهما محاكاة أو صورة , والآخر تجربة أو شعر له غاية غير مجرد التعبير عن صورة , فيفضل الثاني عن الأول وذكر قول امرؤ القيس يصف عش العقاب وما به من بقايا صيدها من الطير :
كأن قلوب الطير رطبا ً ويابسا ً لدى وكرها العناب والحشف البالي
وقول النابغة يصف تجربته مع الأصدقاء :
ولست بمستبق أخا ً لا تلمه على شعث ٍ أي الرجال المهذب
قال ضياء الدين : (( قالوا هذان البيتان لا يمكن المفاضلة بينهما لأنهما اشتملا على معنيين مختلفين , فهذا حسن في بابه وهذا حسن في بابه , وإما أن يقال هذا أفضل من هذا فلا لان التفاضل إنما يظهر بالاشتراك في صفحة واحدة وهذا المذهب عندي فاسد . والمذهب الصحيح الذي يثبت على محك النظر أن المفاضلة تقع بين الكلامين سواء كانا متفقين في المعنى أو مختلفين )) .
ويرى أن هذين البيتين قد اختلفا في المعنى (( ومعدلة الحكم تقضي بان بيت النابغة أفضل , لأنا إذا نظرنا إلى لفظيهما ومعنييهما وجدناهما من جهة اللفظ سواء . . . وأما من جهة المعنى فإن بيت النابغة أفضل وذلك لأنه تضمن حكمة تعرف عن تجربة الإخوان فيتأدب بها الغر الجاهل وينتبه لها الفطن الأريب , والناس أحوج إلى معرفته من معرفة التشبيه الذي تضمنه بيت امرؤ القيس , وغاية ما فيه انه رأى صورة فحكاها في المماثلة بينها وبين صورة أخرى , وليس ثم سوى ذلك وبيت النابغة حكمة مؤدية ٌ تستخرج بالفكر الدقيق .)) .
ولسنا مع ابن الأثير في رأيه , فالتصوير هنا يحوي مضمونا ً جماليا ً , فهو يدل أو يوحي من وراء هذه الصور المحكية بقوة العقاب وشراستها في الاغراة على صغار الطير وافتراسها . وليست المعاني المفصلة أو المقدمة دائما ً هي المعاني الأخلاقية كما في بيت النابغة المفيدة للناس والمجتمع , كما انه لا ارتباط عند كثير من علماء الجمال بين الحقيقة الأخلاقية أو الدينية والحقيقة الجمالية وإن كان بعض من يرى التلازم بينهما من النقاد يذهب إلى ضرورة أن يستهدف الأدب النفع للحياة والناس .
وصاحبنا ضياء الدين فيما ذهب إليه يرى نفع الأدب للحياة كما كان كثير من علماء العرب . وخاصة ابن قتيبة .
وليس معنى ذلك أن ضياء الدين ابتعد عن قياس الأدب بمقياس الجمال واللذة أو بمقياس الذوق , والحق أن المنفعة واللذة كانتا دعامتي مقاييس ضياء الدين في النقد والبلاغة .
ففي مجال اللفظ اهتم بما كان له وقع حسن يلذ السمع , وقد تكون لذة سرور أو نشوة البهجة أو لذة الألم . كما ينبغي أن لا تكون مما يقبح أخلاقيا ً أو مما ابتذله العامة في معان قبيحة .
وكثيرا ً ما تراه يحكم على الشعر بأنه يثير النشوة فيقول مثلا ً : (( وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين , ويلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ أجد لها نشوة كنشوة الخمر وطربا ً كطرب الألحان )) .
ويصف وقع الشعر في النفوس وقعا ً مطربا ً فيقول في أبيات الشاعر :
بأبي غزال ٌ غازلته مقلتي بين الغوير وبين شطى بارق
عاطيته والليل يسحب ذيله صهباء كالمسك الفتيق الناشق
وضممته ضم الكمى لسيفه وذوابتاه حمائل ٌ في عاتق
حتى إذا مالت به سنة الكرى زحزحته شيئا ً وكان معا نقى
أبعدته عن أضلع تشتاقه كي لا ينام على وساد ً خافق
(( وهذا من الحسن والملاحة بالمكان الأقصى ولقد خفت معانيه على القلوب حتى كادت ترقص رقصا ً , والبيت الأخير هو الموصوف بالإبداع , وبه وبأمثاله أقرت الأبصار بفضل الأسماع )) .
موقفه بين النثر والشعر :
ومع أن ضياء الدين قد ألف كتابه في أصول الصناعتين " الكتابة والنظم " إلا انه انتصر للكتابة وعلل تفضيله للكتابة بعدة أسباب رددها قبله بعض المنتصرين للكتاب على الشعراء . منها أن القرآن نص نثري وان الإعجاز متصل بالنثر , وان الكتابة أصعب طريقا ً , وان الكاتب احد دعامتي الدولة , فكل دولة تقوم على السيف والقلم (( وربما لا يفتقر الملك في ملكه إلى السيف إلا مرة أو مرتين أما القلم فانه يفتقر إليه على الأيام , وكثيرا ً ما يستغنى به عن السيف . ويلخص قول الصابي في ذلك إذ يقول إن طريق الإحسان في المنظوم يخالف طريقه في المنثور معللا ً ذلك بأن الترسل (( هو ما أعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنت ألفاظه وافخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة )) .
وان الشعر بنى على حدود مقررة وأوزان مقدرة , وفصلت أبياته فكان كل بيت منها قائما ً بذاته , وغير محتاج إلى غيره إلا ما جاء على وجه التضمين وهو عيب , فلما كان النفس لا يمتد في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه – وكلاهما قليل – احتيج إلى أن يكون الفضل في المعنى , فاعتمد أن يلطف ويدق , والترسل مبني على مخالفة هذه الطريق إذا كان كلاما ً واحدا ً لا يتجزأ .
هذا خلاصة كلام الصولي كما رواه ابن الأثير , وقد اعترض عليه في مواضع وانتقد مسألة الغموض في الشعر , قائلا ً إن الأحسن في الفنيين إنما هو الوضوح والبيان . وكذلك رأى أن القول بان سبب عمد الشعر إلى التركيز المؤدي إلى الغموض أحيانا ً مراعاة للبيت الواحد في عروضه وقافيته هذا القول فاسد . كذلك فإن موضوعات الشعر والنثر متقاربة بل هما يشتركان في كثير منها : (( وأي فرق بين الشاعر والكاتب في هذا المقام ؟ فكما يصف الشاعر الديار والآثار , ويحن إلى الأهواء والأوطان , فكذلك يكتب الكاتب في الاشتياق إلى الأوطان ومنازل الأحباب والإخوان )) .
وبذلك لا يرى فيما ذكره الصابي فروقا ً حقيقيا ً بين الكتابة والشعر , ويتلخص الفرق بينهما عنده في ثلاثة أمور هي : النظم , وجواز استخدام بعض الألفاظ في الشعر وعدم جوازها في النثر , أي أن للشعر لغة خاصة أو ما يمكن أن يعد لغة أو مستوى لغويا ً خاصا ً به , والثالث تفاوت عرض الشاعر لموضوعه بين الجودة والرداءة أو الارتفاع والهبوط لضيق مجال الوزن والقافية بعكس الكاتب الذي يستوي نفسه في الرسالة في كل أجزائها .
ويعرض ضياء الدين لمقارنة طريفة بين الشعر العربي والشعر الفارسي فيقول (( وعلى هذا فاني وجدت العجم يفضلون العجم يفضلون العرب في هذه الناحية المشار إليها , أي التقيد بالوزن والقافية – فإن شاعرهم يذكرهم كتابا ً مصنفا ً من أوله إلى آخره شعرا ً وهو شرح قصص وأحوال , ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاهنامة , وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس , وهو قران القوم , وقد اجمع فصحاؤهم انه ليس في لغتهم أفصح منه , وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها , وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر )) .
موقفه من الكتاب والشعراء :
وتعرض ضياء الدين في كتابيه " المثل السائر " و " الاستدراك " لنقد بعض الكتاب والشعراء , وأكثر من تعرض لهم من سابقيه أبو هلال الصابي , فلم تعجبه طريقته في الكتابة , وخاصة في تكرار معاني عباراته وتناسب فقراته , ويعرض حملة من رسائل الصابي ورسائله الخاصة ثم يعقب عليها بقوله : (( وكلام الصابي في هذه التقاليد الأربعة لم اقصد به الوضع من الرجل وإنما ذكرت ما ذكرته لبيان موضع السجع الذي يثبت على المحك , ولا شك أن هذا الوصف المشار إليه في فقر الاشجاع لم يكن مقصودا ً في الزمن القديم أما لمكان عزه أو انه لم ينتبه له .
وكيف أضع من الصابي وعلم الكتابة قد رفعه وهو إمام هذا الفن والواحد فيه .
وقد اعتبرت مكاتباته فوجدته قد اجاد في السلطانيات كل الإجادة وأحسن كل الإحسان ولو لم يكن له غير كتابه الذي كتبه عز الدولة بختيار بن بويه إلى سبكتكين عند خروجه عليه ومجاهرته إياه بالعصيان لاستحق به فضيلة التقدم , كيف وله من السلطانيات ما أتى فيه بكل عجيبة , ولكنه في الاخوانيات مقصر , وكذلك في كتب التعازي , وعندي فيه رأي لم يره احد غيري , ولي فيه قول لم يقله احد سواي , وذاك أن عقل الرجل في كتابته زائد على فصاحته وبلاغته )) .
ثم يحيل القارئ على ما أورده من رسائله منبها ً إلى ما فيها من وصايا وشروط واستدراكات وأوامر ما بين أصل وفرع وكل جزء , وقليل وكثير . يقول : (( ولا نرى ذلك في كلام غيره من الكتاب انه عبر عن تلك الوصايا والأوامر والشروط والاستدراكات بعبارات في بعضها ما فيه من الضعف والركة . وقد قيل إن زيادة العلم على المنطق هجنة , وزيادة المنطق على العلم خدعة , ومع هذا فاني اقر للرجل بالتقدم , واشهد له بالفضل )) .
ويتعرض من حين لآخر للقاضي الفاضل ويحاول غمزه والإقلال من شأن كتابه , وقد اخذ عليه مرة التقصير في موضوع رسائله ومرة أخرى عدم مناسبتها للمقام , ومرة ثالثة المبالغة وعدم التناسب في الصور البيانية بين تشبيه واستعارة ولكن موقفه من القاضي الفاضل مشوب بالهوى إلى حد كبير لما كان بينهما من تعاصر ولتقدم الفاضل عليه ووقوفه مع العادل والعزيز عثمان ضده
أما عن موقفه من الشعراء فقد ذكرنا انه أعجب بابي تمام والمتنبي لأنهما جمعا بين الفن والعقل , أو بين الصنعة والطبع , وثالث من يعجب بهم من الشعراء البحتري ويعرض لبعض المحدثين لبعض المحدثين فيعجب بهم أحيانا ويؤاخذهم على بعض ما سقطوا فيه أحيانا ً .
ولا يتعصب كغيره من العلماء وأكثر النقاد القدماء لتقدمهم , بل يحكم على الشعر سواء القديم أو المحدث بما له أو عليه , وإن كان أكثر ميلا ً إلى معاني المحدثين وجمال صنعتهم .

من رموز البقد في العصر العباسي



ابن قتيبة

أ-المؤلف: هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبه الدينوري أحد العلماء الأدباء النقاد كان إماما في اللغة والأدب وأخبار الناس وأيامهم متفننا فيها صادقا فيما يرويه عالما بدقيق الشعر ومعانيه.
اختلف في مولده ، فقال بعض العلماء إنه ولد في الكوفة وقال آخرون إن مولده في بغداد سنة 213هـ وقد نشأ بها وتثقف على أحلها وأخذ العلم عن شيوخها وقد أقام بالدينور مدة ولايته القضاء فيها فنسب إليها
ب-شيوخه وتلاميذه:
أخذ ابن قتيبة العلم عن الجلة من علماء بغداد فحدث فيها عن الزيادى وعن اسحق ابن راموية وأبي حاتم السجستاني والرباشي وعبد الرحمن بن أخي الأصمعي وحرملة بن يحيى وأبي الخطاب زياد بن يحيى وغيرهم ، وممن أخذ العلم عنه ابنه أحمد بن قتيبة الفقيه الأديب وابن درستوية وعبيد الله السكري وإبراهيم الصائغ وعبيد الله التميمي وغيرهم كثير
أجمع الذين ترجموا لابن قتيبة على أنه كان أحد العلماء الأدباء والحفاظا لأذكياء وعلى انه كان رأسا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس وغريب القران ومعانيه ومعاني الشعر ونقده كثير التصنيف غزير التأليف وقد ذكر النووي أن مؤلفات ابن قتيبة تزيد على ستين في أنواع العلوم على حين ذكر غيره أنها تبلغ زهاء ثلاث مئة مصنف وصل من هذه الكتب مجموعة طبع بعضها وبعضها لا يزال مخطوطا ومنها ما يظهرانه فقد
ألف ابن قتيبة في كثير من العلوم شأن معاصره شيخه ثم خصمه الجاحظ ألف في الحديث والكلام والفقه والأخلاق والتاريخ والنحو واللغة والأدب وليس في هذا التنويع ما يستغرب لان ابن قتيبة كان في عصره يمثل الأديب الحق والأدب في مفهوم العصر هو الأخذ من كل علم وفن بطرف ولهذا قال أين قتيبة: ((من أراد أن يكون عالما فليطلب فنا واحدا ومن أراد أن يكون أديبا فليتسع في العلوم))
وقد كانت لابن قتيبة عناية شديدة بالشعر والشعراء واطلاع واسع وعميق على دقائق الشعر العربي ويبدو هذا واضحا في مصنفه المشهور المعروف بكتاب (المعاني الكبير)
وأوجز ما يقال فيه انه دراسة للأبيات الشعرية الغامضة أو الغربية وشرحها بعد أن صنفها في أبواب كثيرة وفق معانيها ومن هذا يتضح أن ابن قتيبة عندما ألف كتاب (الشعر والشعراء) وقدم له بهذه المقدمة المشهورة لم يكن غريبا عن ميدان الأدب والنقد فهو عالم بالشعر محب له قد وقف كثيرا من نشاطه العلمي على دراسة الأدب العربي القديم وتتبع خطا الأدب العربي المعاصر له وجمع كثيرا من الآراء النقدية التي قيلت في هذا الأدب
المؤلـــف:
أبو العباس عبدالله بن المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد ولد سنة 247 وقتل سنة 296
من شيوخه محمد بن عمران بن زياد واحمد بن سعيد الدمشقي ومحمد بن يزيد المبرد والحسين بن عليل العنزي ومحمد بن هبيرة الاسدي وابن أبي فنن جالس هؤلاء والتقى بغيرهم كأبي العباس احمد بن يحيى المشهور بثعلب كما كان يلقي فصحاء الأعراب ويأخذ عنهم
كان ابن المعتز بالإضافة إلى عمله شاعرا مجيدا ذكر له أبو بكر الصولي شيئا من شعره وكتب عنه كثيرا في كتابه أشعار أولاد الملوك وكان أديبا يخالط الأدباء ويناقشهم وكانت داره مغاثا لأهل الأدب أما حظه من السلطان فلم يكن إلا قليلا فقد آلت إليه مقاليد الخلافة غير انه لم يهنأ بها ولم يتمتع بلقب الخليفة إلا يوماأوبعض يوم
آثاره:
ذكر أصحاب الكتب التي ترجمت لابن المعتز أن له مجموعة من المؤلفات منها:
كتاب الزهر والرياض
كتاب البديع
كتاب مكاتبات الأخوان بالشعر
كتاب الجوارح والصيد
كتاب أشعار الملوك
كتاب الآداب
كتاب حلى الأخبار
كتاب طبقات الشعراء
كتاب الجامع في الغناء
كتاب فيه أرجوزة له ذم الصبوح
كتاب السرقات
وينسب إليه كتاب فصول التماثيل
يضاف إلى ذلك رسالة بعنوان
((محاسن شعر أبي تمام ومساويه))
ديوانه
(المؤلف)
ولد الامدى في اواخر القرن الثالث في البصرة ونشا بها وكتب للقضاة من بني عبد الواحد ثم قد بغداد واخذ على الاخفش والزجاج وابن دريد وابن السراج وسمع على نفطويه كتاب القوافي للمبرد سنة 313 وعاصر الحامض واخذ عنه وفي بغداد كتب لابي صقر هارون بن محمد الضبي وكان شاعرا له ديوان شعر يبلغ مئة ورقة ذكر ياقوت نماذج من شعره وقال:كان كثير الشعر حسن الطبع جيد الصنعة مشتهرا بالتشبيهات ووصف بانه حسن الفهم جيد الرواية والدراية سريع الادراك وبرز فيها وانتهت رواية الشعر القديم والاخبار في اخر عمره اليه ووصفه ابن النديم بانه مليح التصنيف جيد التأليف يتعاطى مذهب الجاحظ فيما يعمله من الكتب توفي سنة 370 وقيل 371 معجم الادباء8/87 والفهرست 227
الحسن بن بشر الآمدى: وبحديثنا عنه نتحدث عن ذروة نقاد الأدب العربي وأخلدهم في تاريخ النقد
وتقوم شهرة الآمدى على تركته من التصانيف الجليلة فقد اثر عنه انه ألف أكثر من أربعة عشر مؤلفا بعضها في النقد والأدب فمنها كتاب-المختلف والمؤتلف في تراجم بعض الشعراء وهو مطبوع مشهور وكتاب نثر المظلوم وكتاب في إن الشاعرين لا تتفق خواطرهما وكتاب فرق ما بين الخاص والمشترك من معاني الشعر تكلم فيه على الألفاظ والمعاني التي يشترك العرب فيها ولا ينسب مستعملها إلى السرقة وان كان قد سبق إليها وبين الخاص الذي ابتدعه الشعراء وتفردوا به ومن اتبعهم وكتاب تفضيل شعر امرئ القيس على الجاهليين
وله كتب رد فيها على بعض النقاد كابن طباطبا في (عيار الشعر) وقدامة بن جعفر في (نقد الشعر) وابن عمار في(ما خطأ فيه أبا تمام) وقد كان نصيب أبي تمام والبحتري من مؤلفاته كبيرا فقد ألف كتاب (الموازنة) وكتاب (معاني شعر البحتري) وكتاب (الرد على ابن عمار فيما خطأ فيه أبا تمام) ولم تذكر الكتب التي ترجمت للآمدى إن له كتابا سماه هو (تفسير الغامض من شعر أبي تمام) وقد صرح الآمدى نفسه بأنه ألف هذا الكتاب فقد قال في الموازنة : ((وهذه الأبيات صالحة والمذهب فيها غير مستحلى ولا مشتهي وفيها معنى غمض في الاحتجاج عليها يجوز إن يكون أراده وقد ذكرته في جزء أفردته لغامض معاني أبي تمام)) وكرر هذا القول مرة ثانية فقال: (( وقد فسرت معناه في جملة أبيات من شعره جعلت لتفسيرها جزءا مفردا)) وكذلك وقع هذا المؤلف بين يدي ابن المستوفى فنقل منه في (النظام) كثيرا وكان يسميه تارة (شرح معاني أبيات من شعر أبي تمام) وتارة (معاني أبيات أبي تمام المفردة) ويبدو انه شرح وتفسير لما غمض من شعر أبي تمام من هذا العرض السريع لهذه المؤلفات ندرك إن لآمدى عناية شديدة وكلفا أكيدا بشعر أبي تمام وقد رافق هذا الشعر فترة طويلة من عمره
المؤلـــــف:
أبو الفرج بن جعفر بن زياد الكاتب البغدادي ولا يعرف له نسب فوق هذا كان قدامة نصرانيا واسلم على يد المكتفي بالله وكان احد البلغاء الفصحاء والفلاسفة الفضلاء وممن يشار إليه في علم المنطق اشتغل قدامة كأبيه في خدمة أسرة الوزير ابن الفرات وتولى لهم الكتابة في مجلس الزمام تضاربت الآراء في جعفر بن قدامة والد قدامة هذا فبينما ينعته ابن النديم بأنه ممن لا تفكر فيه ولا علم عنده نجد الخطيب البغدادي يصفه بالعلم والأدب ويقول عنه انه احد مشايخ الكتاب وعلمائهم ولا يكتفي بنعته بوفرة الأدب وحسن المعرفة بل يذكر إن له مؤلفات في صنعه الكتابة وغيرها ويذكر انه حدث عن أكابر العلماء والأدباء كأبي العيناء وجماد ابن اسحق والمبرد ومحمد بن عبدالله بن مالك الخزلعي وغيرهم كان جعفر من أصدقاء ابن المعتز المقربين إليه روى عنه أبو الفرج الأصبهاني توفي سنة 310
ولد قدامة بن جعفر في الثلث الأخير من القرن الثالث الهجري وتوفي على الأرجح سنة 337 ونقل ياقوت الحموى عم المطرزى شارح كتاب المقامات الحريرية أن قدامة ابن جعفر كان كاتبا لبني بويه ولكن ياقوتا لم يقبل هذا القول بحجة أن قدامة كان أقدم عهدا من دولة بني بويه غير انه يرد على ياقوت بان أكثر الذين ترجموا لقدامة يجعلون وفاته في سنة 337 فإذا علمنا أن بني بويه زحفوا إلى الحكم وتسلطوا على الخلافة سنة334 أدركنا انه ربما عاصرهم وخدمهم هذه السنوات القليلة الأخيرة من عمره
شيوخــــــــــــــــه:
لقد ضنت كتب التراجم بالحديث عن شيوخ قدامة كما ضنت بالحديث عن نسبه فلم تذكر من هؤلاء وأولئك إلا النزر اليسير فمما نقله ياقوت الحموي صاحب معجم الأدباء عن أبي الفرج بن الجوزى في تاريخه أن قدامة قد سأل ثعلبا عن أشياء ثم قال ياقوت : أن قدامة أدرك زمن ثعلب والمبرد وأبي سعيد السكري وابن قتيبة وطبقتهم والأدب يومئذ طرئ فقرأ واجتهد ونقل ياقوت أيضا عن أبي حيان إن قدامة حضر مجلس الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات وقت مناظرة أبي سعيد السيرافي ومتى المنطقي في سنة عشرين وثلاث مئة
مؤلفاتـــــــــــــــــــــــه:
ذكر صاحب الفهرست إن له المؤلفات الكتب التالية:
كتاب الخراج وصفه بأنه رتبه في ثماني منازل ثم اتبعه بتاسعة واتى فيه بكل ما يحتاج الكاتب إليه وهو من الكتب الحسان
كتاب نقد الشعر
كتاب صابون الغم
كتاب صرف الهم
كتاب جلاء الحزن
كتاب درياق الفكر
كتاب السياسة
كتاب الرد على ابن المعتز فيما عاب ب هابا تمام
كتاب حشو حشاء الجليس
كتاب صناعة الجدل
كتاب الرسالة في أبي علي ابن مقلة وتعرف بالنجم الثاقب
كتاب نزهة القلوب وزاد المسافر وزاد ياقوت الحموي على ما ذكره ابن النديم كتابا سماه زهر الربيع في الأخبار وقد عد المطرزى من بين كتب قدامة كتابا سماه الألفاظ وأضاف ابن تغرى بردى كتابا آخر سماه البلدان وذكر أبو حيان التوحيدي في جملة مصادره في مقدمة كتابه(البصائر والذخائر) كتابا لقدامة سماه: الجوابان
ثقافة قدامة النقديـــــة:
بعد هذا الذي عددناه من آثار قدامة بن جعفر نجب إن نتساءل عن ثقافته النقدية التي اغترف منها مادة كتابه الذي هو موضوع البحث وفي تقرينا لأصول الثقافة عنده نعثر على المصدرين التاليين واضحين كل الوضوح:
الأول مصدر عربي: يبدو واضحا في الأفكار النقدية التي سبقه إليها النقاد ابن سلام – ابن قتيبة – ابن المعتز – ثعلب- العرب كابن سلام مثلا ففي حديث قدامة عن عيوب القوافي من إقواء وايطاء وسداد دليل واضح على احتذائه حذو ابن سلام ومن تبعه كابن قتيبة في مناقشة هذه المصطلحات كما أن جميع الأبيات التي استخدمها قدامة لتفسير الاستعارة في كتاب نقد الشعر ومعظم الأبيات التي أوردها لإيضاح التجنيس وردت في كتاب البديع لابن المعتز وعلى الرغم من إن قدامة ضنين بذكر أسماء مثل هؤلاء النقاد الذين اخذ عنهم إلا انه يكثر من ذكر اسم ثعلب فيردده في غير موضع من كتاب نقد الشعر وقد يكون مرد ذلك إلى إن كثيرا من الأمثلة الشعرية التي استعان بها قدامة على عرض نظرياته النقدية رواها عن شيخه ثعلب وربما اخذ عنه أيضا تعبير (المطابق) وهو الاصطلاح الذي اشترك ثعلب وقدامة في أطلاقه على نوع من أنواع التجنيس
ولا نريد إن نسرق كثيرا في الحديث عن ثقافة قدامة العربية النقدية لان كل صفحة من صفحات الكتاب وكل مثال من الأمثلة التي أوردها فيه ينطق بتضلع قدامة في الثقافة العربية ويشهد بتمثله لها
الثاني مصدر يوناني : إن ثقافة قدامة النقدية العامة وكتابه (نقد الشعر) خاصة ينمان عن تأثر قدامة بالثقافة المعاصرة له وخاصة بآراء فلاسفة اليونان أخلاق النفس جالينوس أفلاطون ويمكن التدليل على ذلك بشيء من آراء قدامة وأقواله وشواهد من كتابه نفسه فقد صرح المؤلف باقتباسه من كتاب (أخلاق النفس ) الجالينوس كما إن تقسيمه للفضائل التي توصف بها شخصية الأبطال الذين ورد ذكرهم في المديح والرثاء يشير فيه إلى أربع فضائل هي العقل والشجاعة والعدل والعفة وهي تتفق والفضائل الرئيسية التي ذكرها أفلاطون
ويطالع القارئ في أول كتاب نقد الشعر تعريف قدامة للشعر وهو قوله:
انه قول موزون مقفى يدل على معنى وصور الطريقة التي اتبعها قي صوغ هذا التعريف بمثال آخر وهو تعريف الإنسان بأنه: حي ناطق ميت ويقول ( برانتل) في (تاريخ المنطق) إن هذه الطريقة والمثال الثاني الذي أورده أيضا فلاسفة آخرون من العرب هما من آثار المدرسة الرواقية وقد دلل (س. أ بونيباكر) في مقدمة تحقيقه لكتاب نقد الشعر بمجموعة من الأمثلة عقد مقارنة ما أورده قدامة من أفكار في كتابه مع ما يماثلها من كتاب (المقولات لأرسطو) غير إن (بونيباكر) نفى إن يكون كتابا الخطابة والشعر لأرسطو قد تركا أثرا ملموسا في كتاب نقد الشعر وقد نقر بونيباكر على إن يكون كتاب الشعر لأرسطو لم يترك أثرا ملموسا في كتاب نقد الشعر غير أننا لا نقره على نفي اثر كتاب الخطابة في نقد قدامة ذلك لان أوجه التلاقي عند المؤلفين أكثر من إن ندلل عليها بشاهد فلقد بين أرسطو إن الفضيلة هي موضوع المدح وان الرذيلة هي موضوع الهجاء وبين إن أعظم الفضائل أكثرها نفعا للناس ولذا كانت العدالة والشجاعة والكرم والعفة فوق الفضائل الأخرى مرتبة وبين إن كل فضيلة تقابلها رذيلة فالظلم ضد العدالة والجبن ضد الشجاعة والبخل ضد الكرم .... الخ وبين إن المبالغة مقبولة في هذا الباب إذ إن الخطيب يستطيع إن يتجاوز الصفات الحقيقة إلى ما هو قريب منها فيقلب الفضائل إلى رذائل وبالعكس كان يظهر الرجل الطيب القلب بمظهر المغفل والمسرف بمظهر الكريم والشجاع بمظهر المتهور وبين أخيرا إن المدح أنما يكون في الدرجة الأولى بذكر الأعمال والأمجاد الشخصية وان المدح بذكر الأمجاد والأجداد قد يستحب أيضا بشرط إن يقترن الشرف التليد بالشريف الطريف
لنتذكر هذا ولنقارن بين هذه الآراء وبعض أقوال قدامة في ( نقد الشعر) قال قدامة في(نعت المديح): ((انه لما كانت فضائل الناس من حيث هم ناس ... إنما هي العقل والشجاعة والعدل والعفة كان القاصد لمدح الرجال بهذه الأربع الخصال مصيبا والمادح بغيرها مخطئا.... إن كل واحدة من هذه الفضائل الأربع المتقدم ذكرها وسط بين طرفين مذمومين وقد وصف شعراء مصيبون متقدمون قوما بالإفراط في هذه الفضائل حتى زال الوصف إلى الطرف المذموم وليس ذلك منهم إلا كما قدمنا القول فيه في باب الغلو في الشعر من إن الذي يراد به إنما هو المبالغة والتمثيل لا حقيقة الشيء.....))
فمن الواضح إن هناك شبها كبيرا بين أقوال أرسطو وأقوال قدامة في هذا الموضوع
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف