الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية في العصر الأندلسي بقلم:حسين علي الهنداوي

تاريخ النشر : 2013-12-10
الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية في العصر الأندلسي بقلم:حسين علي الهنداوي
الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية
في العصر الأندلسي


المجلد السادس


حسين علي الهنداوي


يرصد ريع هذه الموسوعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بدرعا

الموسوعة مسجلة في
مكتبة الأسد الوطنية // دمشق
في مكتبة الفهد الوطنية //الرياض
في مكتبة الإسكندرية // مصر العربية





حسين علي الهنداوي (صاحب الموسوعة)


ـ أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
نشر في العديد من الصحف العربية
- مدرس في جامعة دمشق ـ كلية التربية - فرع درعا
- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
- حائز على إجازة في اللغة العربية
ـ حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسي قسم اللغة العربية في مدينة درعا
- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
- عضو اتحاد الصحفيين العرب
- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
- عضو تجمع القصة السورية
- عضو النادي الأدبي بتبوك
الصحف الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- الكويت ( الرأي العام – الهدف – الوطن )
2- الإمارات العربية ( الخليج )
3- السعودية ( الرياض – المدينة – البلاد – عكاظ )
4- سوريا ( تشرين – الثورة – البعث – الأسبوع الأدبي )
المجلات الورقية التي نشر فيها أعماله :
1- مجلة المنتدى الإماراتية
2- مجلة الفيصــل السعودية
3- المجلة العربية السعودية
4- مجلة المنهـــل السعودية
5- مجلة الفرسان السعودية
6- مجلة أفنــــان السعودية
7- مجلة الســــفير المصريــــة
8- مجلة إلى الأمام الفلسطينية

مؤلفاته :
أ‌- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح ايلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط

ب‌- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4ـ أسلمة الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات بالإشراك / جمع و تبويب
5 _ هل أنجز الله وعده ؟
الصحف الالكترونية التي نشر بها :
1ـ قناديل الفكر والأدب
2ـ أنهار الأدب
3ـ شروق
4ـ دنبا الوطن
5ـ ملتقى الواحة الثقافي
6ـ تجمع القصة السورية
7ـ روض القصيد
8ـ منابع الدهشة
9ـ أقلام
10ـ نور الأدب





الأدب والنقد والحكمة العربية والإسلامية
في العصر الأندلسي






بسم الله الرحمن الرحيم





بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المجلد السادس
الأدب في العصر الأموي في المغرب والأندلس
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين , ومن اتبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين . . . وبعد :
ما إن سقطت الخلافة الأموية تحت ضغط العناصر غير العربية وعلى رأسها العنصر الفارسي وأن كان تحت راية العباسيين حتى وجد بعض الأمويين منفذا ً لهم إلى الأندلس بعصاميه ( صقر قريش ) الذي استكمل مسيرة الأمويين في المشرق وأسس دولة ذات صبغة عربية في الأندلس وإن تسمت باسم ( بني أمية ) وقدر لهذه الدولة التي عاشت حوالي ثمانية قرون في أرض غير عربية حيث نقلت هناك حضارة إنسانية تحت راية الإسلام وبفعل عناصر عربية اختلفت في نهاية المطاف ما بين سند إخوتهم حتى سقطت المدن الأندلسية واحدة تلو الأخرى بيد أصحابها ولكن هذه الدولة الأموية العربية الإسلامية استطاعت أن تؤسس لحضارة علمية أدبية عمرانية شهد لها العالم بأسره وما تزال آثارها العمرانية حتى يومنا هذا ماثلة في ( حديقة الزهراء وقصر الحمراء ) وغيرها من المعالم الأثرية فقد كان الأدب يشغل الأمويين في المشرق لما له من أهمية في حياة الناس عامة والخلفاء خاصة والولاة ثانيا ً أما الأدب في الأندلس فقد شغل العرب هناك لوجودهم في بيئة غير عربية ولكونهم يريدون أن يثبتوا عروبتهم وإسلاميتهم أمام الشعوب ذات التوجهات المخالفة لهم ومشاكسة في الثقافة إضافة إلى النزعة الأسرية الأموية قد ذابت في التوجه العروبي للأدب انتماء ومنافسة للأدب العباسي في المشرق بعد أن أسس العباسيون دولتهم التي ارتقت بالأدب إلى ابعد من الثريا .
وهكذا اندمج العرب الأندلسيون في بيئة خضراء جذابة ذات هواء عليل وماء سلسبيل وأشجار مثمرة بعكس بيئة الرمال والصحراء والحر والقر حتى قال شاعرهم :
يا أهل أندلس لله دركم ماء وظل وانهار وأشجار
ما جنة الخلد إلا في دياركم ولو تخيرت هذا كنت اختار
وصارت مجالس الإنس في الطبيعة سمة الشعر وأصبح للشاعر المنزلة المميزة بين أصحاب الأجناس الأدبية الأخرى وبرزت ظاهرة المرأة الشاعرة في الأندلس والمثقف الأندلسي واستحدث الأندلسيون نوعا ً جديدا ً من الشعر هو شعر الموشحات الذي يعتبر الثورة الأولى للشعر على منهج القدماء شكلا ً ومضمونا ً ولشد ما يبهرك في الأدب الأندلسي نوعان من الشعر : شعر الطبيعة وشعر رثاء المدن الساقطة , فقد خلد الشعراء العرب أسماءهم مع كل رابية وحديقة ونهر وقصر على أرض الأندلس كما خلدوا أشعارهم الحزينة مع كل مملكة ومدينة سقطت هناك :
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يفر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول ٌ من سره زمن ساءته أزمان
وأن أهم ما يلفت انتباه في الثقافة الأندلسية والأدب الأندلسي هذا الفيض من العلم والاهتمام به من خلال منافسة العباسيين في بناء حضارة إسلامية واعدة تعتمد المشروع الإسلامي في نشر الثقافة ولم يكن للأدب وحدة مضمار السبق فقد كان للفلسفة مضمار ارتقى به الأندلسيون إلى أعلى من المريخ فقد أنتج العرب المسلمون في الأندلس فلسفة جديدة للحياة أعادت صياغة فلسفة اليونان بوجه جديد وكذلك أنتج العرب المسلمون مشروعا ثقافيا ً نثريا إسلاميا ً على يد ابن حزم الأندلسي حيث تألقت النظرة الإنسانية للحياة من خلال منظور مثقف فقيه ينظر إلى الحياة نظرة واعدة وهكذا فقد خطا الأدب الأندلسي خطوة خامسة رفعت من مكانة القيم في عالم يبحث عن المنفعة والمتعة دون إخلال بالقيم النابضة بالحياة .




الباب الأول
الحياة العامة في العصر الأندلسي




الباب الأول

الفصل الأول
الحياة السياسية
الدولة الأموية في الأندلس
-1-
الفتح العربي للأندلس
إسبانيا في العصور القديمة:
تشكل شبه جزيرة إيبريا الزاوية الجنوبية الغربية من أوربا ويفصلها عن الشمال الإفريقي مضيق جبل طارق . وهي تضم دولتين هما إسبانيا والبرتغال . سكنت شبه الجزيرة هذه قديما القبائل الإيبيرية والكلتية . وقد أنشأ الفينيقين فيها مستعمرات ومحطات تجارية من أشهرها قرطاجة ( قرطاجة الجديدة ) وفي أواخر القرن الثالث قبل الميلاد فرض الرومان سيطرتهم عليها بعد انتصارهم على هانيبال في الحروب البونية . ثم هاجمتها قبائل الفاندال في القرن الخامس الميلادي واستقرت في القسم الجنوبي منها وأطلقوا عليه اسم ( فاند لوسيا ) أي بلاد الفاندال , وأسماها العرب فيما بعد الأندلس . وفي القرن السادس الميلادي تعرضت فاندلوسيا لغزو القوط الغربيين الذين انحدروا من الجنوب غالية ( فرنسا ) ودفعوا بالفاندال إلى شمال إفريقيا وسيطروا على البلاد
إسبانيا قبيل الفتح العربي :
قسم القوط البلاد إلى إقطاعات كبيرة جعلوها تحت سلطة أمرائهم الذين استغلوا جهود الفلاحين وصادوا أملاكهم , وفرضوا على السكان ضرائب باهظة , مما أثار النقمة عليهم والرغبة في الخلاص منهم , وبخاصة بعد أن طرد ملك البلاد وأصبح لذريق أمير قرطبة بدلا عنه . أخذ لذريق يضطهد أنصار الملك الأول مما اضطرهم للهروب إلى سبته الواقعة على الشاطئ الشمالي لبلاد المغرب في مواجهة الشاطئ الإسباني حيث يحكم يوليان الإسباني الذي كان من أنصار الملك المطرود .
مقدمات الفتح :
كانت ولاية إفريقيا تابعة لوالي مصر وعندما تولى الوليد بن عبد الملك الخلافة عين عليها موسى بن نصير واليا , وجعل مركزه مدينة القيروان استطاع موسى توطيد أمور ولايته وعين طارق بن زياد حاكما على طنجة بعد تحريرها . وأخذ يتوق للوصول إلى البر الإسباني لتأديب سكانه الذين كانوا يغيرون على السواحل العربية في إفريقيا . وقد لقي موسى كل تشجيع على غزو إسبانيا من يوليان حاكم سبته الذين وعده بتقديم السفن المطلوبة لنقل الجنود هادفا من ذلك إسقاط حكم لذريق استشار موسى الخليفة في دمشق في أمر الغزو , فوافق مشترطا إرسال حملة استطلاعية لمعرفة صدق يوليان حاكم سبته , وفعلا نزلت حملة بقيادة طريف بن مالك في جزيرة مقابل البر الإسباني ولم تجد أية صعوبة وعادت محملة بالغنائم , وقد شجع ذلك موسى في المضي على خطته
الفتح العربي للأندلس :
عهد موسى إلى طارق بن زياد حاكم طنجة بمهمة الفتح ورافق يوليان الحملة ونقل جنود طارق على سفنه عبر طارق المضيق الذي عرف فيما بعد باسمه ومعه سبعة آلاف مقاتل , ثم أنجده موسى بخمسة آلاف . وقد لقي كل ترحيب وتشجيع من السكان الذين كانوا مستائين من حكامهم مما شجعه على متابعة الفتح . وعندما علم لذريق ملك الإسبان بنزول العرب تخلى عن عملياته ضد خصومه في الشمال واتجه لمحاربة العرب , والتقى بجيش طارق في وادي لكة الجزيرة الخضراء وحدثت المعركة سنة 92 هـ 711 م , ولم يكد يبدأ القتال حتى هربت فئة من جيش لذريق وتراجع الباقي فلاحقهم العرب ملحقين بهم خسارة كبيرة , ومات لذريق منتحرا وقد تابع طارق الفتح واحتل قرطبة وطليطلة .
وصول موسى بن نصير وابنه إلى الأندلس :
سارع موسى بن نصير إلى الأندلس للإسهام بشرف الفتح مع طارق واحتل بعض المدن , ومنها إشبيلية , والتقى بطارق . وفي تلك الأثناء قدم عبد العزيز بن موسى بناء على أوامر والده وتوغل في أراضي البرتغال , وتابع القادة الثلاثة الفتح ووصلوا إلى جبال البرانس التي تفصل فرنسا عن إسبانيا . وأصبحت إسبانيا بيد العرب عدا بعض المناطق الشمالية التي تأسست فيها إمارات إسبانية مستقلة . وفي أواخر 95 هـ 714 م توجه موسى وطارق إلى المشرق بناء على أوامر الخليفة الأموي وعهد إلى عبد العزيز بولاية الأندلس .
*-ور الحكم العربي في الأندلس :
قسم المؤرخون الحكم العربي في الأندلس إلى أربعة عصور هي :
1 – عصر الولادة 97 – 138 هـ 716 – 756 م
2- عصر الإمارة 138 – 316 هـ 756 – 928 م
3 – عصر الخلافة 316 – 422 هـ 928 – 1031 م
4 – عصر ملوك الطوائف 422 – 897 هـ 1031 – 1492 م
عصر الولادة 97 – 138 هـ :
امتدت هذه الفترة نحو أربعين عاما انتهت بوصول الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية إلى الإمارة . ساد الأندلس خلالها الاضطراب وعدم الاستقرار وتولى حكم الأندلس عدد من الولاة كانوا تابعين لوالي إفريقيا ومن أبرزهم السمح بن مالك الخولاني الذي استشهد في إحدى حملاته ضد الفرنجة قرب تولوز في فرنسا , وعبد الرحمن الغافقي الذي وصل إلى بوردو والتقى بجيش شارل مارتل في معركة بلاط الشهداء قرب بواتييه 114هـ 730 م واستشهد فيها . وكان آخر الولاة يوسف الفهري الذي استمر في حكم الأندلس حتى استخلصها منه عبد الرحمن الداخل . أما بقية العصور فستبحث فيما بعد .

-2-
عصر الإمارة الأموية في الأندلس
138 – 316 هـ 756 – 928 م
عبد الرحمن الداخل :
بعد انتصار العباسيين على الأمويين في معركة الزاب 132 هـ , وأخذوا يتعقبون أفراد البيت الأموي وقد استطاع أحدهم وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام أن يفلت من أيديهم ويسرع بالفرار إلى شمال إفريقيا لبعدها عن مركز الخلافة العباسية وكان يرافقه أحد أتباعه ويدعى ( بدر ) , واستقر بهما المطاف في سبتة .
وهناك أخذ عبد الرحمن يدرس أوضاع الأندلس , ويتصل بمختلف الزعماء والقادة العسكريين فيه , ثم أرسل بدرا إلى داخل البلاد ليدعو له بين أنصار بني أمية وحلفائهم الذين ما لبثوا أن طلبوا إليه المجيء إلى الأندلس وتعهدوا بمساعدته .
تأسيس الإمارة :
سارع عبد الرحمن إلى دخول الأندلس عام 138 هـ , فاستقبله أتباعه استقبالا حافلا واجتمع حوله أنصار الأمويين من كل جهات الأندلس . وقد استولى بمساعدتهم على المناطق الجنوبية من البلاد ثم اشتبك مع والي الأندلس يوسف الفهري وحلفائه الذين احتجوا على وصوله إلى الأندلس , وجرت المعركة الفاصلة بينهما , في المصارة قرب نهر الوادي الكبير , والتي انتهت بانتصار عبد الرحمن الذي أخذ يتابع زحفه إلى قرطبة , فدخلها ظافرا بعد أن قضى على أعدائه . ولقب بالداخل لدخوله الأندلس ونجاحه في الوصول إلى الإمارة . كما لقبه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بصقر قريش اعترافا بشجاعته وإعجابا بقدرته على تأسيس دولة للأمويين في الأندلس
أعمال عبد الرحمن :
أعلن عبد الرحمن انفصاله عن الدولة العباسية : وقطع الخطبة للخليفة العباسي ، واخذ يعمل على توطيد حكمة ، وإخماد الفتن وملاحقة الثائرين وكان من ابرز أعماله العسكرية في هذه المرحلة :
القضاء على محاولة عسكرية لبسط النفوذ العباسي على البلاد وقتل قائدها مع عدد كبير من جنوده .
القضاء على ثورة والي سرقسطة الذي شعر بخطر عبد الرحمن على ولايته واستنجد بشارلمان ملك الفرنجة الذي أرسل حملة عبر البرانس باءت بالإخفاق ذلك لان سكان سرقسطة أغلقوا أبواب مدينتهم في وجهها ، فاضطرب للانسحاب مما أعطى العرب فرصة ثمينة لمهاجمتها وضم سرقسطة إلى الإمارة .
اتخذ عبد الرحمن قرطبة مركزا لإمارته ، واهتم بالحركة العمرانية ، وتنظيم أمور الدولة وإدارتها . وقد كسب محبة رعاياه وتقديرهم لتحقيقه العدالة وإنصافه المظلومين

الإمارة بعد عبد الرحمن :
يمكن أن نقسم تاريخ الإمارة الأموية في الأندلس إلى ثلاث فترات وهي :
فترة توطيد الإمارة 172 – 206 هـ : وفيها تم توطيد الإمارة ، وبدأت معالم الثقافة الأندلسية بالظهر وابرز أمراء هذه الفترة هشام الأول الذي عرف بثقافته وعلمه وتقواه ، فقد قرب إليه العلماء و الفقهاء ، وأقاموا العدل بين أفراد رعيته وقاد الجيوش للجهاد ضد الفرنجة .
فترة الاستقرار والازدهار 206 – 273 هـ :
امتدت هذه الفترة حتى أواسط القرن الثالث الهجري وتمثلت بأمارة عبد الرحمن بن الحكم بن هاشم الملقب بالأوسط أو الثاني . والذي عمل على إصلاح البلاد ، وتحميل مركز إمارته قرطبة فبنى فيها القصور والمساجد والحدائق وقد استطاع التخلص من المشكلات الداخلية ، واكتسب شهرة كبيرة حتى أصبح له أتباع بين أمراء شمال إفريقيا . كما تمت . اتصالات مع بيزنطة التي تريد الاستعانة بالأندلس ضد العباسيين فجاء إلى قرطبة وفد من بيزنطة محملا بالهدايا عارضا على أمير عقد معاهدة صداقة بينهما
الحروب الأهلية : وقد استمرت حتى آخر القرن الثالث الهجري . وابرز أمراء هذه الفترة محمد بن عبد الرحمن . تميزت بانتشار الفوضى والاضطراب والقتال بسبب حركات المولدين والمستعربين ، والتي جرت أشهرها في مدينة طليطلة .
-3-
العصر الذهبي للدولة الأموية في الأندلس
أ ـ عصر الخلافة
316 – 422 هـ 928 – 1031 م
عبد الرحمن الثالث وتوطيد الإمارة:
ظفر عبد الرحمن بن محمد ( الثالث ) بأمارة الأندلس سنة 300هـ والبلاد غارقة في الفوضى والحروب الأهلية . وقد تعلقت آمال الناس بهذا الشاب الذي سعى لإعادة الاستقرار إلى البلاد .
وجد الأمير البلاد تعج بالثائرين ، فركز السلطة في يده ، وأرسل إلى الولاة يطلب الطاعة واخذ البيعة ، واعد الحملات للقضاء على المتمردين ، فضم إليه جميع المدن وقضى على جميع العصاة وخصوصا ثورة عمر بن حفصون ، واستطاع أن يجمع شمل عرب الأندلس تحت لوائه .
أعمال عبد الرحمن الخارجية :
وما كاد الأمير يوطد سلطته في الداخل حتى وجه أنظاره إلى أعدائه في الخارج ، فاعد أسطولا قويا لتأديب النور مانديين القادمين من شمال غربي فرنسا والذين تكررت غاراتهم على البلاد ، واستطاع الاستيلاء على سبته ومليلة ثم اتجه لتأديب الممالك الاسبانية في الشمال . وقد أذعن له أعداؤه بالطاعة وهادنوه وبعثوا إليه الهدايا طالبين الصلح . ولم يبق سوى خطر الفاطميين المقيمين في بلاد المغرب فبنى أسطولا قويا لينازعهم السيادة على غربي المتوسط .
إعلان الخلافة :
وفي سنة 316 هـ تلقب عبد الرحمن بألقاب الخلافة وأصبح يدعى الحليفة الناصر لدين الله وأمر أن يخاطب باسم أمير المؤمنين وبذلك صار في العالم الإسلامي ثلاثة خلفاء : عباسي في بغداد ، وفاطمي في المغرب ، وأموي في الأندلس
أعمال الخليفة الناصر :
لم تحل مهام السياسة والحرب دون قيام الناصر بأعمال العمران العظيمة ، فقد ساهم في زيادة إعمار قرطبة ، والتي شهدت في زمنه ازدهارا لم تشهده من قبل ، فقد تسابق ملوك أوربا وحكامها لكسب وده وصداقته ، وفي مقدمتهم وفود فرنسا والإمبراطورية البيزنطية والممالك التي كانت بالأمس تناصبه العداء وتغير على أراضيه
الحكم الثاني :
توفي الخليفة الناصر بعد حكم دام خمسين عاما ، فخلفه ابنه الحكم الثاني ( المستنصر بالله ) الذي وجد البلاد مستقرة ، وحدودها أمنة . ولم يكن حدثا في مزاولة الحكم بل مارسه في حياة أبيه .
صفاته : عرف الحكم بصفات كثير أبرزها حبه للعلم والعلماء ، فازدهرت العلوم في عهده ، وزهت الأندلس بمجالس العلم والمكتبات و كان هو نفسه عالما كبيرا جلب الكتب من البلاد الإسلامية كافة و بذل فيها الأموال الكثيرة ، وأسس مكتبة ضخمة .
أعماله : قاد الحكم جيشا لتأديب الحكام الأسبان الذين أغاروا على الأندلس وامن حدود بلاده ، واجبر أعداءه على هدم حصونهم القريبة من حدود المسلمين ولما توفي الحكم كان ابنه الوحيد هشام ( المؤيد بالله ) صغر السن ، غير قادر على النهوض بأمور البلاد ، ورعاية شؤون الدولة ، فتولى الحكم نيابة عنه الحاجب محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور والذي استأثر بالحكم ، وخطب له على المنابر وضرب اسمه على النقود إلى جانب اسم الخليفة
الحاجب المنصور :
كان منصب الحاجب في الأندلس بمثابة رئيس الوزراء في عصرنا هذا ، وقد وصل محمد بن أبي عامر إلى الحجابة بما عرف عنه من ذكاء وطموح . استمر في حكمه نحو سبعة وعشرين عاما استطاع خلالها نشر الأمن وتحقيق الرفاه للبلاد .
أعماله :
غزواته المستمرة على الممالك الاسبانية والتي قدرت بخمسين غزوة أحرز فيها انتصارات رائعة ، واحتل العديد من المدن ووصل إلى أقصى معاقل أعدائه في الزاوية الجنوبية الغربية من اسبانيا
اهتمامه بالعمران والذي تجلى في بنائه لمدينة الزاهرة على نهر الوادي الكبير قرب قرطبة ، واتخذها عاصمة له . كما زاد في جامع قرطبة .
توفي المنصور في أحدى غزواته ضد الممالك الاسبانية ، فخلفه ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر . وكان قد ورث كثيرا من صفات أبيه وعرف بعدله ونصرته للمظلومين وجهاده في سبيل الدين ، وواصل سياسة أبيه في الغزو و الإغارة على الممالك الاسبانية . ولم يدم حكمه أكثر من ست سنوات غرقت الأندلس بعدها في الفوضى والاضطراب والنزاعات حول العرش .
واخذ الطامعون في الحكم يستعينون بخصومهم الأسبان للتخلص من منافسيهم وأخذت المدن تعلن استقلالها وانفصالها عن قرطبة وبذلك بدأت مرحلة ملوك الطوائف .
-4-
العصر الذهبي للدولة الأموية في الأندلس
( ب ) قرطبة حاضرة الخلافة
ازدهار قرطبة :
شهدت قرطبة في عصر الخلافة ازدهار عظيما ، واكتسبت شهرة عالمية كبيرة ، فقد بلغ عدد سكانها حوالي نصف مليون نسمة ، وذاع اسمها في العصور الوسطى وأصبح مقرونا بالقسطنطينية ، كما نافست مدن بغداد والقاهرة وغيرها .
وقد بلغت حاضرة الخلافة تطورا عمرانيا لا مثيل له في دول الغرب المعاصرة ، حتى إن شوارعها كانت تضاء ليلا بالأسرجة في وقت كانت فيه جميع مدن أوربا تعيش ليلها ظلاماً دامساً .كما ازداد عدد البيوت فيها ، وحوت عدداً كبيراً من الحمامات والمساجد ، و اشتهرت بقصورها التي كان أبرزها قصر الإمارة الذي أصبح فيما بعد قصرا للخلافة .
الرخاء والثروة :
نتج عن الاستقرار السياسي في عصر الخلافة نمو الثروة ، وارتفاع مستوى الحياة لدى السكان . ومال الناس إلى حياة الترف والرخاء، وانتشرت مجالس الطرب والغناء . وسارع الفنانون والعلماء إلى قرطبة لإظهار مواهبهم وإمكاناتهم من مختلف أنحاء الدولة العربية .
التقدم العلمي في قرطبة :
أصبحت قرطبة مركزا حضاريا هاما يقصده الطلاب والمثقفون . من أوربا وأخذت تشع تأثيراتها داخل الأندلس وخارجها . ولبيان ذلك يكفي أن نشير إلى أن تقدم أهل الأندلس في العلوم المختلفة تجاوز كل تقدير .
وكانت قرطبة أكثر بلاد الأندلس كتبا . وأهلها اشد الناس ولعا واعتناء بجمع الكتب ، وغدت هادة جمع الكتب في عصر الخلافة ظاهرة عامة عند جميع السكانحتى قيل إذا مات عالم في اشبيلية و أريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة . وإذا مات موسيقى في قرطبة وأريد بيع آلاته الموسيقية حملت إلى اشبيلية .
ومن أشهر المكتبات العامة مكتبة الخليفة الحكم المستنصر ومكتبة المنصور .
ويعود الفضل في تقدم قرطبة العلمي إلى تشجيع الخلفاء ، إذ كان منهم من يهتم بالعلم بنفسه كالحكم ومنهم من يشجع العلماء . وقد وصفت قرطبة بأنها سوق رائجة للعلم ، جذبت مساجدها الأوربيين الذين كانوا يفدون لأخذ العلم عن علمائها .
السفارات السياسية :
أصبحت قرطبة مركزا سياسيا متألقا ، إذ اخذ ملوك أوربا وعلى الأخص إمبراطور بيزنطة وأمراء الممالك الاسبانية يتوددون إلى أمراء بني أمية وخلفائها في الأندلس محاولين إنشاء علاقات سياسية ودية معهم . فكثيرا ما استعان أمراء اسبانيا بحكام قرطبة لإعادتهم إلى عروشهم بعد إن أقصوا عنها أو لتجديد معاهدات صلح وعقدها معهم .
وأما سفارات بيزنطة فكان هدفها عقد تحالف مع خلفاء قرطبة ضد العباسيين في بغداد وكانت هذه السفارات تحمل معها هدايا من الكتب الثمينة إلى خليفة قرطبة لمعرفتهم بولعة بالعلم . كما نقلت بعض هذه السفارات كهدية آثارا فنية قيمة استخدمت في بناء مدينة الزهراء .
-5-
عصر ملوك الطوائف
422 – 897 هـ 1031 – 1492 هـ
إلغاء الخلافة :
توالى عرش الأندلس بعد سقوط بني عامر عدد من الخلفاء الضعفاء كانوا ألعوبة بيد الجند الذين كانت بيدهم السلطة الحقيقة ولم يقو أي خليفة على امتلاك ناصية الأمور ، فعم الاضطراب ، وسئم أهل قرطبة الفتن ، واجمعوا على خلع الخليفة هشام الثالث ، ودعوا إلى إلغاء الخلافة .
ظهور ملوك الطوائف :
منذ القرن الخامس الهجري لم تعد القوى المتصارعة على السيادة في قرطبة تعتمد على قواها الموجودة داخل المدينة ، وإنما تمركزت كل قوة في منطقة معينة من مناطق الأندلس . وأسست لنفسها فيها دولة مستقلة . دعيت هذه الدول بدول الطوائف وأطلق المؤرخون على هذه الفترة من تاريخ الأندلس اسم عصر ملوك الطوائف . ومن ابرز هذه الدول :
بنو جهور في قرطبة وبنو عباد في إشبيلية :



بنو جمهور في قرطبة
422 – 463 هـ 1031 – 1070 م
نسبتهم :
ينتمي بنو جهور إلى عائلة عربية عريقة ، إذ أن جدهم دخل الأندلس في فترة عصر الولاة . وفي ظل الدولة العامرية أصبح احد أفرادها وهو أبو الوليد محمد بن جهور وزيرا للمنصور . وأما ابنه أبو الحزم جهور ( 422هـ - 435هـ ) فقد تولى الكتابة وبقي فيها حتى انهيار الدولة وقد شهد كل الحوادث والانقلابات العاصفة التي شهدتها عاصمة الدولة وعمل مع أتباعه على إسقاط بني أمية وإلغاء الخلافة .
تأسيس الدولة :
اجمع سكان قرطبة بعد القضاء على الخلافة على اختيار أبي الحزم جهور رئيسا للحكومة ، فقبل مشترطا إن لا ينتقل إلى احد القصور الملكية ا وان يخاطب بلقب ملك أو خليفة ، وان يكون تسلمه للأمر مؤقتا ريثما يجمع الناس على شخص آخر .
عمل أبو الحزم جهور على أبعاد مثيري الفتن من قرطبة مما اكسبه محبة أهلها . وطرد الأطباء المزيفين الجهلة ، واهتم بالأمن والسهر على راحة الناس الذين اخذوا يمارسون أعمالهم التجارية بحرية تامة ، فامتلأت الأسواق بالبضائع وعم الرخاء المدينة .
امتد سلطان بني جهور على منطقة تقع وسط الأندلس تضم مجموعة من المدن أهمها قرطبة .
نهاية دولة بني جهور :
توفي أبو الحزم جهور 435 هـ فخلفه ابنه أبو الوليد محمد بن جهور ( 435 – 456 هـ ) وقد سار على سياسة والده . إلا انه مرض وعجز عن الإشراف على شؤون الدولة فتنافس ولداه عبد الملك وعبد الرحمن . وقد استطاع عبد الملك ( 456 هـ - 492 هـ ) الذي انتصر على أخيه الانفراد بالسلطة ، وأمر بان يدعي له على المنابر ، وأقصى كبار موظفيه عن مناصبهم فانقطعت الصلة بينه وبين رعيته . ولم يتمكن من مواجهة الطامعين في دولته . فسقطت بيد بني عباد حكام أشبيليا بعد إن دامت حوالي أربعين عاما .
بنو عباد في إشبيلية
414 – 484 هـ 1023 – 1091 هـ
نسبتهم :
ينتسب بنو عباد إلى قبيلة لخم اليمانية التي ينتمي إليها المناذرة أصحاب الحيرة . وقد دخل جدهم الأندلس مع جند حمص الذين قطعوا أراضي في منطقة إشبيلية في فترة عصر الولاة .


تأسيس مملكتهم :
ظهر نجم هذه الأسرة عقب سقوط الخلافة . وكان مؤسس دولتهم القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد الذي قضى على نفوذ حكام إشبيلية فأجمعت كلمة أهلها على تنصيبه زعيما ، فقبل بشرط أن يختاروا له من بينهم رجالا يكونون له أعوانا ومستشارين .
كون القاضي محمد بن إسماعيل جيشا وشجع الناس على الانخراط فيه ، واشترى عددا من المماليك ودربهم على القتال ، وقضى على الدويلات الصغيرة المجاورة لإشبيلية .
فترة التوسع والمعتضد بالله :
بعد وفاة محمد بن إسماعيل خلفه ابنه أبو عمر بن عباد الذي لقب نفسه بفخر الدولة المعتضد بالله وفي عهده تعاظمت قوة الدولة و اتسعت رقعتها وازدادت مواردها ، وبسطت سلطانها على الدويلات الواقعة غربي إشبيلية فوصلت حدودها إلى شواطئ الأطلسي . وتوسع المعتضد بالله نحو الشرق حتى أصبح على أبواب قرطبة واحتل الجزيرة الخضراء . واهتم بالعمران فبنى عددا من القصور اشتهر منها القصر المبارك ( قصر إشبيلية اليوم ).
المعتمد بن عباد :
خلف المعتضد بعد وفاته ولده محمد الملقب بالمعتمد على الله الذي سار على سياسة والده التوسعية . وقد تمكن من ضم قرطبة وانتزع قسما من أملاك طليطلة . وكان شاعرا محبا للأدب يدعو إلى عقد ندوات أدبية في قصره .
ضعف الدولة وسقوطها :
تعرضت دولة بني عباد لغارات الأسبان الذين وحدوا قواهم واخذوا يتقطعون بعض أراضيها . وقد أرسل ابن عباد إلى يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين في مراكش طالبا منه النجدة للوقوف في وجه الأسبان ، فأتى وخلص إشبيلية من الخطر الاسباني وقضى على دولة بني عباد . وجعل مملكتهم ولاية تابعة للمرابطين .
-6-
المرابطون
نشأتهم – توسعهم
430 – 542 هـ 1046 – 1158 م
نشأة المرابطين :
نشأت حركة المرابطين في المنطقة التي نطلق عليها اليوم اسم موريتانيا ، حيث تستقر قبائل الملثمين ( بسبب اتخاذ رجالهم اللثام في أزيائهم ) وكان يتزعمهم يحيى بن إبراهيم اللمتوني الذي استعان بالفقيه عبد الله بن ياسين لجزولي لتعليم قومه أمور دينهم والنهوض بهم .
لم يتردد عبد الله عن القيام بهذه المهمة ، واستقر بين قبائل الملثمين ، واخذ في تعليم الناس وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتجمع طلبه العلم حوله
تسمية الحركة :
لاقت دعوة عبد الله قبولا لدى قبائل الصحراء ، واتخذه الملثمون زعيما لهم ، وقد انشأ مركزا قرب نهر السنغال دعي باسم (( رباط )) وأطلق على أتباعه بعد ذلك اسم المرابطين .
مالبث الرباط الذي أنشاه عبد الله أن أصبح مركز إشعاع سياسي ، إذ إن عبد الله بعد إن كثر أتباعه وانس فيهم الاستعداد للجهات شكل منهم جيشا قام بتسليحه وعقد قيادته ليحيى بن إبراهيم الذي خرج به من مركزهم الرباط واتجه نحو الشمال فأخذت تتجمع حوله القبائل معلنة تأييدها له ممازاد في عدد جيشه وقوته .
توسيع المرابطين:
في المغرب :
استطاع جيش المرابطين بقيادة يحيى من إخضاع عدد من الإمارات القبلية في الصحراء . كما غزا بعض الإمارات في المغرب الأقصى . وقد استشهد يحيى في أثناء حروبه في جنوبي المغرب فتسلم قيادة الجيش أبو بكر بن عمر الذي غدا زعيما للمرابطين بعد وفاة الفقيه عبد الله . وبقي كذلك حتى وقعت حرب بين بعض القبائل في الصحراء فاضطر إلى مغادرة المغرب الأقصى بعد إن استحلف عليه ابن عمه يوسف بن تاشفين ، وعاد إلى الصحراء لإصلاح شان القبائل المتحاربة .
واصل يوسف بن تاشفين زحفه إلى الشمال المغربي ، ولما اثبت جدارته بقيادة الجيش تنازل له ابن عمه عن إمارة المغرب ، فاخذ البيعة من أهلها وأصبح أميرهم ولقب بأمير المسلمين .
أسس ابن تاشفين مدينة مراكش 454هـ و يجعلها عاصمة ومعسكرا لجيشه ، ثم فتح مدينة فاس وواصل الزحف إلى طنجة وبذلك أصبح سيد المغرب .
في الجزائر :
كان يوسف بن تاشفين يسعى لتوحيد المغرب تحت سلطة المرابطين فأرسل جيوشا تمكنت من فتح جميع مدن الجزائر وعلى رأسها مدينة الجزائر العاصمة . ثم نظم إدارة المناطق المفتوحة وجعل مدينة تلمسان عاصمة لولاية الجزائر ومركزا لجيوش المرابطين تخرج منها لفتح المناطق الباقية .
-7-
المرابطون في الأندلس
أسباب دخول المرابطين الأندلس :
بعد أن أتم المرابطون احتلال المغرب ، ووطدوا الأمن في الجنوب أصبحوا على تماس مع الأندلس ، لا يفصلهم عنها سوى المضيق كانت الأندلس في تلك الفترة تعاني من التمزق والصراع بين ملوك الطوائف . بينما كان أعداؤهم الأسباب يتقدمون لاحتلال مدنهم والقضاء على إماراتهم ، وقد وجد المرابطون أن ما يجري في الأندلس يهمهم من ناحيتين
الأولى : دفاعية إذ أنهم كانوا يخشون وقوع الأندلس تحت سيطرة أعدائهم الأسبان الذين يسعون لإخراج العرب منها .
والثانية: دينية لان في دخولهم لشبه الجزيرة و دفاعهم عن عرب الأندلس تحقيقا لمبادئهم في الجهاد المرابطون وملوك الطوائف :
كان الفقهاء في الأندلس أكثر الناس شعورا بالخطر المدق ببلادهم وإدراكا لمداه ، فقامت عدة دعوات لتوحيد دول الطوائف ونبذ الخلاف لصد العدو المشترك . إلا إن هذه الدعوات لم تفلح فتداعى ملوك الطوائف لعقد اجتماع في قرطبة وقرروا دعوة المرابطين لنجدتهم وتخليص بلادهم من الأخطار التي تحيق بهم . فلاقت الدعوة استجابة من يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين .
معركة الزلاقة 12 رجب 479هـ - 23 تشرين الأول 1086م
دخل جيش المرابطين الأندلس ، واخذ ملوك الطوائف يخرجون بجندهم للانضمام إليه ومن هؤلاء المعتمد بن عباد وأمير غرناطة وغيرهم . ولما اكتمل تجمع الجيوش قرب إشبيلية قسمها ابن تاشفين إلى قسمين بغية عدم دفعها جميعها في المعركة .
تقدم الملك الاسباني الفونسو إلى حيث يعسكر المرابطون ، وانضمت إليه قوات من معظم الممالك الاسبانية ومتطوعون من الفرنجة .
أما ابن تاشفين فقد نظم جنده وسعي لمراقبة العدو واستطلاع حركاته واخذ يعد للمعركة فبقي ليلتها متيقظا ، وأعاد ترتيب جنده ليخدع أعداءه .
وفي صباح يوم المعركة ركز الأسبان هجومهم على الأندلسيين فتراجعوا فقام ابن تاشفين الذي كان يراقب العملية بهدوء بإرسال جيش على دفعات إلى سهل الزلاقة .
هزيمة الأسبان :
شعر الأسبان بالنصر فتركت قواتهم أماكنها ، فسارع لا يوسف بجيشه واستولى على معسكر الأسبان وأضرم فيه النار . وانقلب المرابطون من الدفاع إلى الهجوم ، وانقضت فرقة من السودان كالصاعقة على صفوف الأسبان وشقت طريقها إلى الفونسو الذي جرح وفر في جنح الظلام بعد إن حاقت الهزيمة بجنده .
جرت هذه المعركة في رجب 479هـ وسميت معركة الزلاقة نسبة إلى المكان الذي نشبت فيه وهو سهل الزلاقة .
تلقى يوسف بن تاشفين عقب فوزه بالزلاقة نبا وفاة ولده الذي خلفه على حكومة مراكش فعجل بالعودة إلى المغرب .
القضاء على ملوك الطوائف :
بعد هزيمة الأسبان في الزلاقة تداعى الأوربيون استجابة لنداء الفرنسو وأرسلوا جيوشا لمساعدته . عاد ملوك الطوائف بعد الانتصار وعودة ابن تاشفين إلى التخاصم والتنافس ، وتقاعسوا عن تلبية داعي الجهاد ، فأفتى فقهاء الإسلام لابن تاشفين بخلعهم فجاء ابن تاشفين ثانية إلى الأندلس واحتل بعض المدن منها غرناطة واشبيلية وقرطبة وادخل الأندلس تحت حكم المرابطين .




-8-
الموحدون
نشأتهم – توسعهم
515 – 640 هـ 1120 – 1244 م
حركة الموحدين :
قامت حركة الموحدين على أسس دينية وسياسية ، وهي تشبه في مبادئها وأهدافها حركة المرابطين . قام بها رجل من قبيلة مصمودة يدعي محمد بن تومرت اتخذ لنفسه لقب المهدي . تلقي علومه في قرطبة والقاهرة وبغداد ، ثم عاد إلى بلاده ليبث تعاليمه منددا بمثالب الحكام والمتنفذين وخصوصا ما يعيشون فيه من ترف وبذخ .
كان ابن تومرت من اشد الناس حبا للعلم وانصرافا للعبادة ، دعا أبناء قبيلته والقبائل الأخرى من أهالي جبل أطلس في مراكش إلى مذهب التوحيد انتصارا لعقائد السلف فسمي أتباعه بالموحدين
تأسيس الدولة وتوسعها :
خلف ابن تومرت بعد وفاته عام 524 هـ صديقه وقائد جيوشه عبد المؤمن بن علي من قبيلة زناته . ويعد عبد المؤمن مؤسس دولة الموحدين والخليفة الأول لأعظم دولة شهدتها مراكش وإفريقيا . وقد تغلب خليفتهم على المرابطين بالقرب من تلمسان واستولى على تلمسان وفأس وسبته وغيرها واحتل مدينة مراكش 542هـ ولتخذها عاصمة للموحدين وبذلك أنهى ملك المرابطين ليتفرغ للإغارة على الأندلس .
دانت لعبد المؤمن مراكش والأندلس ، وضم إلى دولته الجزائر وتونس وطرابلس وبذلك توحد لأول مرة في تاريخ العرب والإسلام الساحل الإفريقي قاطبة ، من المحيط الأطلسي إلى حدود مصر ومعها الأندلس .
وخطب له على المنابر في أرجاء هذه الدولة الواسعة خليفة عوضا عن الخليفة العباسي .
خلفاء عبد المؤمن :
بعد ولاية طويلة حافلة بالأمجاد توفي عبد المؤمن 558 هـ ومن أعظم خلفائه وأشهرهم حفيده أبو يوسف يعقوب المنصور ، وهو الذي استنفره صلاح الدين وأرسل إليه وفدا يحمل له الهدايا ويستنجده على الفرنجة الصليبيين الذين كانوا يحاولون غزو مصر وسواحل بلاد الشام . واهتم المنصور بالناحية العمرانية ، وتعد الأبنية التي أنشاها في مقدمة الآثار القائمة حاليا في مراكش واسبانيا ، ومنها البرج المعروف باسم ( جرالدا ) الذي بناه عقب انتقاله إلى اشبيلية التي كان الموحدون قد اتخذوها عاصمة لهم سنة 565هـ . وفي المغرب لأقصى بنى المنصور مدينة عظيمة سميت رباط الفتح مقلدا الإسكندرية في الاتساع وحسن التقسيم وإتقان البناء . وقد اختصر اسمها فيما بعد وأصبح الرباط . كما بنى في مدينة مراكش بيمترستانا فريدا من نوعه
سقوط دولة الموحدين :خلف المنصور بعد وفاته ابنه محمد الناصر الذي قاد جيوش الموحدين ضد الأسبان ثم خلفه عدد من الخلفاء الضعفاء من ذرية عبد المؤمن استمروا حتى سقوط مراكش بيد بني مرين المتفرعين عن قبيلة زناته .
دولة الموحدين :
كانت دولة الموحدين تحد من الجنوب بالصحراء الكبرى ، ومن الغرب بالمحيط الأطلسي ومن الشرق بالصحراء العربية التي تفصلها عن مصر . وأما من الشمال فكان يحدها البحر المتوسط . وفيما وراء المضيق في شبه الجزيرة الاسبانية كان الموحدون يملكون جميع الأراضي التي يطبق عليها اسم الأندلس . وكانت الحدود الشمالية الغربية نهر وادي انه الذي ملك الموحدون صفته اليسرى وملكوا من ضفته اليمنى عدة مناطق مثل ولاية الغرب ، وعدة تمتد إلى مقربه من نهر التاجة ( تاجو)
عن تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين – يوسف أشباخ ص 301 ترجمة محمد عبد الله عنان .

-9-
الموحدون في الأندلس
دخول الموحدين الأندلس :
ورث الموحدون دولة المرابطين في المغرب والأندلس ، إذ إن ضعف المرابطين دفع بوفود أندلسية للطلب من عبد المؤمن إنقاذ الأندلس من أعدائه الأسبان . وكان من بين هذه الوفود التي بايعت عبد المؤمن وفد علماء اشبيلية .
أرسل الموحدون أول جيش إلى الأندلس 541 هـ ، ولما استقر الأمر لهم في المغرب عبر عبد المؤمن البحر ليشارك بنفسه في ترتيب الأمور في شبه الجزيرة ، وأمر ببناء مدينة في جبل طارق فكان له ذلك .
دور الموحدين في إيقاف المد الاسباني :
قام عبد المؤمن باستعدادات دفاعية كبيرة ، وجهز حامية قوية من الموحدين
والأندلسيين ، وجعل غرناطة مركزا دفاعيا قويا ، ونقل العاصمة من اشبيلية إلى
قرطبة 557 هـ و التي عدت مقرا لجيوش الموحدين ، وبدا زعيم الموحدين يتجهز لرد عدوان الممالك الاسبانية الشمالية .
وفي 560 هـ عبرت حملة عسكرية إلى الأندلس لتعزيز دفاعات بعض المناطق الأندلسية ضد الممالك الاسبانية الشمالية . وقد حدث صدام مع أمير مرسية الذي كانت له علاقات ودية مع الأسبان . وتم النصر للموحدين الذين اخذوا ينظمون أحوال الأندلس ويهتمون بأمور أهلها .
وسرعان ما تصدت جيوش الموحدين في الأندلس لعدوان ملك البرتغال الذي استولى على بعض المدن . وعقدت معاهدة صلح مع ملك ليون الذي مالبث إن خرقها وهاجم الأراضي الأندلسية ، وأصيب أبو يعقوب في معركة مع العدو كانت سببا في وفاته ، فخلفه ابنه أبو يوسف يعقوب الملقب بالمنصور .
لم تتوقف هجمات الأسبان والبرتغاليين على الأندلس . وقد ساعدهم على ذلك انشغال الخليفة الموحدي المنصور بتوطيد الأمور في المغرب ووصول إمدادات صليبية قادمة من المشرق منهزمة بعد إن خسرت مواقعها وسقطت إماراتها بيد المسلمين بقيادة البطل صلاح الدين الأيوبي 583هـ واسترداد المسلمين لبيت المقدس فجاءت هذه الإمدادات تحمل روح الحقد والكراهية على العرب والمسلمين .
نشاط المنصور ضد الأسبان :
وصل جيش موحدي جديد إلى الأندلس بقيادة خليفة الموحدين المنصور لرد المعتدين ، وقام بنشاط عسكري واستعاد بعض المدن ،ة وبعدها توجه إلى مراكش ، وعقدت معاهدة مع ملك قشتاله نصت على قيام هدنة مدتها خمس سنوات .
وما إن انتهت مدة الهدنة المتفق عليها حتى بدا ملك قشتاله بمهاجمة الأندلس والعبث فيها فسادا ، فاعد الموحدين حملة توجهت إلى الأندلس بقيادة الخليفة الموحدي المنصور نفسه ووصلت إلى اشبيلية ثم اتجهت للقاء جيش الفرنسو الثامن تحصن في مرتفع يشرف على سهل الأرك الذي يعسكر فيه المسلمون قرب حصن يحمل الاسم نفسه .
موقعه الأرك 9 شعبان 591 هـ :
التحم الطرفان في قتال عنيف وكثر القتل في جيش القشتاليين ثم التحمت بقية الجيوش فاضطر الجيش القشتالي إلى التقهقر و الفرار ، وفر ملك قشتالة إلى طليطلة . استمرت المعركة يوما واحدا 9 شعبان 591 هـ غنم المسلمون فيها مغانم كثيرة ، وافتتحوا حصن الأرك . ويعد هذا من أعظم انتصارات الموحدين .
موقعة العقاب وهزيمة الموحدين :
توفي المنصور بعد عودته إلى مراكش فخلفه ابنه أبو عبد الله الملقب بالناصر لدين الله ، الذي تجهز بجيش وعبر الأندلس بعد أن سمع بعدوان ملك قشتالة المنهزم في الأرك بعد إن انضمت إليه جيوش صليبية من أوربا . التقى جيش الناصر بجيش الفرنسو عند حصن العقاب 609هـ وانتهت المعركة بهزيمة جيش الناصر الذي مات بعد إن عاد إلى مراكش .
وبعد هزيمة الموحدين في موقعه العقاب أصبحت الأندلس لقمة سائغة تقاسما الأمراء الأسبان ، وصغار أمراء المسلمين . ومن هؤلاء بنو نصير الذين أقاموا دولتهم في غرناطة وامتدت إلى اشبيلية ، وأعادت إليها أمجادها الغابرة لفترة من الزمن ، وقد عرفت بدولة بني الأحمر .
-10-
سقوط الحكم العربي في الأندلس
الأندلس بعد سقوط الموحدين :
بعد موقعه العقاب التي انتهت بانتصار الأسبان على الموحدين والأندلسيين خبت شعلة الجهاد ضد الأسبان الطامعين . فسقطت دولة الموحدين ، وبدا الحكم العربي يتداعى ، والمدن تسقط بيد الأسبان واحدة بعد أخرى . والأمراء الصغار مازالوا يتنافسون ويتصارعون ويستعينون بأعدائهم لنصرتهم .
سقوط مدن الأندلس :
قرطبة :
حوصرت قرطبة من قبل جيوش ملك قشتالة . وبذلت المدينة المحاصرة جهودا كبيرة للوقوف ضد المعتدين . وعندما اضطرت للتسليم كان غلاة الأسبان يرون رفض التسليم واقتحام المدينة وقتل كل أهلها . لكن ملك قشتالة مع بعض مستشاريه رأوا هذا الإجراء سوف يدفع أهلها لليأس وتخريبها . دخلها الأسبان 633هـ ، واخرجوا أهلها العرب المسلمين منها . وحولوا مسجدها الذي كان شعلة وضاءة إلى كنيسة .
بلنسية :
وكانت تعد من كبرى مراكز العلم والآداب ، وقد جاهدت الطامعين حوصرت من قبل جيش ملك أراغون ، فاستنجد أهلها بالفحصيين في تونس الذين أرسلوا إليها المؤمن والسلاح . إلا إن هذه الإمدادات لم تصل إلى السكان لشدة الحصار . وسقطت المدينة الباسلة 636 هـ ، وحولت مساجدها إلى كنائس أيضا .
وتبع ذلك سقوط عدد من المدن أهمها اشبيلية 646 هـ ، ولم يبق من ممالك العرب في الأندلس سوى مملكة غرناطة أو الأندلس الصغرى كما كان يطلق عليها .
دولة غرناطة
635 – 897 هـ 1238 – 1492 هـ
تأسيسها :
كان مؤسسها أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر .
وقد استمرت رغم ظروف الأندلس ما يزيد على قرنين ونصف ، وتوالى على حكمها ما يزيد على عشرين حاكما . تمتع كثير من هؤلاء الحكام بصفات ممتازة . وظهر في غرناطة شخصيات ذات كفاءات عالية وقدرات كبيرة أدت واجبها نحو البناء والعلم .
ضمنت غرناطة الطرف الجنوبي من الجزيرة الأندلسية ، وشملت ثلاث ولايات كبيرة هي غرناطة والمرية ومالقة . وقد ثبت في مواجهة أعدائها الأسبان بسبب موقعها ، واحتوائها للعرب المسلمين المهاجرين من ديارهم ، واستعداد أهلها للجهاد والبذل ، وكذلك وقوف بني مرين في لمغرب معهم .
وكان آخر ملوك غرناطة أبو عبد الله الذي يعرف بالصغير 887هـ الذي خاض معركة ضد جيش قشتالة انتصر فيها ثم اتجه نحو قرطبة ، لكن اسر في جنوب شرقي قرطبة وتولى حكم غرناطة بعده عمه محمد بن سعد المسمى بابي عبد الله الزغل .
سقوط غرناطة :
أطبق سراح أبي عبد الله الصغير بعد توقيع اتفاقية فقي صاح قشتالة . وحدث صدام بين العم الذي يتمسك بالسلطة وابن أخيه انتهى بتقسيم غرناطة . والعدو القشتالي المتربص بهم ما برح يهاجم الحصون ويهرب ما حول المدينة . فعقد الزغل معاهدة مع ملك قشتالة واضطر إلى ترك الأندلس إلى تلمسان بالجزائر .
توحدت مملكتا اراغون وقشتالة بسبب زواج ملكيها فرناند وايزابيلا ، وعادا للتحرش بأراضي غرناطة وإيقاع الفتنة بين المسلمين ثم حاصراها .
وبعد حصار شديد لهذه المدينة اضطرت إلى عقد معاهدة استسلام عام 897هـ تضمنت هذه المعاهدة تامين المسلمين على النفس والأهل والمال والسماح بإقامة شريعتهم على ما كانت . وغادرها آخر ملوكها أبو عبد الله الصغير ومعه والدته وزوجته وأولاده 897 هـ - 1492 م بكى أبو عبد الله الصغير عندما ألقى آخر نظرة على قصره أسى وحزنا ، فقالت له أمه : (( ابك كالنساء ملكا لم تستطع إن تدافع عنه كالرجال )) وانتقل إلى المغرب ونزل بمليلة ثم ارتحل إلى فاس .
وبذلك سقطت آخر دولة عربية في الأندلس بيد الأسبان .

-11-
عوامل ضعف الحكم العربي في الأندلس وسقوطه
عوامل الضعف
تعرضت الأندلس منذ الأيام الأولى للفتح العربي لمجموعة من المشكلات والعوامل ساهمت في إضعاف الحكم وتجزئة الدولة وسقوطها . ولم تتمتع البلاد بالاستقرار والازدهار إلا إبان حكم أمراء وخلفاء أقوياء أمثال الأمير عبد الرحمن الداخل والخليفة عبد الرحمن الناصر . ومن هذه العوامل :
العصبية القبلية : إن القبائل عند دخولها الأندلس انفصلت عن بعضها في السكنى والاستقرار و في الجيش أيضا وعاد الصراع بين القيسية واليمانية ، وحصلت حروب بينها ، انتصرت فيها القيسية التي حكمت الأندلس حتى دخول صقر قريش إليها .
وكانت تخبو جذوة العصبية القبلية في عهد الحكام الأقوياء الذين يعدون أنفسهم أسيادا للقبائل ويتبعون سياسة التوازن بينها .
الصراع المستمر مع الممالك الاسبانية والفرنجة في الشمال : وقد ظهر ذلك جليا مع إمارة استورية ( جليقية ) في عهد عبد الرحمن الداخل ، وفي الحملة التي قادها شارلمان على سرقسطة والتي استمرت حتى زمن الخليفة الناصر والمنصور بن أبي عامر وقد اتخذ هذا الصراع فيما بعد شكلا جديدا ، إذا إن الأسبان وحدوا قواهم لإخراج العرب من الأندلس ، وعدوا قتال المسلمين جهادا بالنسبة إليهم .
وصول أمراء وخلفاء إلى الحكم لا أهلية لهم : لم يستطيعوا المحافظة على تماسك الأوضاع الداخلية في الأندلس . وكانت عهودهم تسودها الفوضى و الاضطراب أمثال محمد بن عبد الرحمن الأوسط والخلفاء الذين حكموا في أواخر عصر الخلافة .
الثورات الداخلية التي قامت بها مختلف الفئات : وخصوصا حركات المولدين والمستعربين ، والتي قامت في الثغور وهي المراكز العسكرية القريبة من خط الحدود مع اسبانيي الشمال . ومعظم هذه الحركات كانت نتيجة نحو التحالف مع دويلات الشمال الاسبانية مثل ثورة الضراب في طليلطة وثورة ابن حفصون في جنوبي الأندلس .
ازدياد نفوذ الصقالبة والبربر في الدولة : في أواخر عصر الخلافة . فالصقالبة هم العبيد الذين تم شراؤهم في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر وسلمهم الوظائف العليا في الدولة . وأما البربر فأولئك الذين استقدمهم المنصور بن أبي عامر للتقليل من نفوذ الصقالبة . وقد أدى ذلك إلى إضعاف السيادة العربية . وفي سنوات الفتنة كان لكل فريق منهما دوره بالانفراد بالسلطة ، فأحيانا يسود الصقالبة في قرطبة ، وأحيانا أخرى تعود إليها السيادة البربرية .
انقسام الأندلس إلى عدة ممالك مما مزق شمل وحدة البلاد ، وسهل على الأسبان تحقيق إغراضهم بتحريض مملكة على أخرى وتزويدها بالمال والسلاح .
عدم توافر وحدة الهدف والمصير بين عناصر المجتمع العربي في الأندلس : فهناك العرب وهناك اليهود والمولدون والمستعربون والصقالبة .. الخ وانصرافهم إلى الرفاهية ومنع الحياة . كل ذلك افقد المجتمع التماسك والمقدرة على مجابهة المشكلات ورد المعتدين .
الصراع بين أمراء الطوائف الذي تجاوز كل الحدود ،ووصل إلى حد الاستعانة بخصوم العرب من أمراء دويلات الشمال الاسبانية فقد اخذ كل فريق يستعين على جاره بالأعداء نظير إعطائهم بعض الحصون . وكان ذلك كله على حساب العرب ودولتهم في الأندلس .
التفاهم والاتحاد بين دويلات الأسبان لتحقيق الهدف المشترك: وهوا خراج العرب من الأندلس
النجدات الأوربية للإسبان وبخاصة العائدون من الشرق اثر الحروب الصليبية وحقدهم على العرب والمسلمين .

الباب الأول

الفصل الثاني
الحياة الاقتصادية
مظاهر التفوق الحضاري العربي في الأندلس
آـ العلوم الزراعية والطيبة
أولا – العلوم الزراعية :
عوامل تطور الزراعة : دخل العرب الأندلس وهم يحملون خبرات المشرق الزراعية مما ساعد في تطوير الزراعة وإدخال أساليب لم تكن معروفة ، وأصبحت علما قائما بذاته له علماؤه وخبراؤه الذين قاموا بتجارب ووضعوا مؤلفات انعكست في المجال العملي ، ومن العوامل التي ساعدت العرب في ذلك :
جودة مناخ الأندلس و ملاءمته للزراعة .
خصوبة الأرض وتنوع التربة مما ساعد على تنوع المحصولات .
وفرة المياه .
اشتغال عدد كبير من الناس بالزراعة بعد أن وزعت عليهم الأراضي .
فضل العرب في مجال الزراعة :
يتضح فضل العرب فيما يلي :
استصلاح الأراضي وإدخال نظام المدرجات الجبلية .
الاهتمام بالري وحفر الأقنية والسواقي وخزن المياه المتساقطة من الجبال في سدود .
الاهتمام بتخطيط الحدائق والبستنة وإدخال زراعات وأغراس جاؤوا بها من المشرق
ظهور علماء ومؤلفات في مجال الزراعة .
وبفضل تلك الجهود أصبحت أراضي الأندلس تنتج ثلاثة أو أربعة مواسم كل عام . وقد وضع العرب تقويما زراعيا عرف بالتقويم القرطبي أصبح دليلا لزراعة النباتات وأصنافها ومواعيدها استفادت منه معظم الأمم .
أشهر المزروعات : اشتهرت الأندلس بزراعة الحبوب والأشجار المثمرة كالتين والعنب والتفاح والكمثرى والبرتقال والرمان والتوت والكستناء و الموز والنخيل والبطيخ وهناك زراعة الزيتون والتوت والقطن وقصب السكر والأرز . وقد دخل الكثير من تسميات النبات ووسائل الزراعة العربية إلى اللغات الأوربية
علماء الزراعة : اشتهر عدد من علماء الزراعة العرب في الأندلس من أبرزهم :
رشيد الدين الصوري : من أهل قرطبة ألف كتابا سماه الأدوية المفردة المستخرجة من العقاقير والأعشاب .
يحيى بن محمد بن العوام : من اشبيلية وضع رسالة في الزراعة سماها
(( كتاب الفلاحة )) ويعد هذا الكتاب من أهم ما كتب عن الزارعة العربية في الأندلس .
ثانيا – الطب :
اعتمد الطب عند العرب على كتب اليونان ، لكنهم لم يتوقفوا عند حدود ما أخذوه ، بل أضافوا إليه ملاحظاتهم ، ووصفوا العديد من الأمراض التي لم يعرفها اليونانيون . وكان أطباء الأندلس في عصر الخلافة يذهبون إلى بغداد في المشرق لينهلوا من علومها ، ويستفيدوا من مكتباتها .
فضل عرب الأندلس في الطب والصيدلة :
وصل الطب إلى أوجه في عهد الخليفة الناصر بفضل اعتماد العلماء العرب المنهج العلمي في البحث القائم على الملاحظة والتجربة . وقد ظهر فضل العرب في الطب في عدة جوانب أهمها :
تشخيص الأمراض ووصف أعراضها .
إجراء عمليات جراحية مثل خياطة الأمعاء وتفتيت الحصى في المكلى .
صناعة الكثير من الآلات والأدوات المستخدمة في الجراحة .
دراسة النباتات الطبيعية لاستخلاص الأدوية منها .
مشاهير الأطباء والصيادلة العرب في الأندلس :
أبو القاسم الزهراوي : ولد في مدينة الزهراء ، وكان طبيبا للحكم الثاني وضع كتابا في الطب اسمه (( التصريف لمن عجز عن التأليف ))
ابن زهر : ولد في اشبيلية ، من أسرة اشتهرت بالطب ، أصبح طبيبا لزعيم المرابطين يوسف بن تاشفين : ومن أشهر كتبه (( التيسير في المداواة والتدبير )) وصف فيه بعض الأمراض الباطنية والجراحية .
ابن البيطار : من مالقة جنوبي الأندلس ، ويعد من أشهر الصيادلة . انكب على دراسة النباتات الطبية ليستخلص منها الأدوية . وأشهر كتبه (( الجامع في مفردات الأدوية والأغذية ) .







الباب الأول

الفصل الثالث
الحياة الفنية
التفوق الحضاري العربي في الأندلس
البناء والهندسة
ازدهار البناء في الأندلس :
رافق فترات الهدوء الداخلي واستقرار السلطة في الأندلس نشاط عمراني كبير ، بلغ أوجه في عصر الخلافة بسبب قوة الدولة ، ووفرة الأموال في خزينتها . ونشاهد مظاهر هذا النشاط في :
أ ـ بناء المدن :
ساهم العرب في بناء العديد من المدن في الأندلس أشهرها :
قرطبة : تحتل قرطبة سهلا فسيحا يقع بالقرب من نهر الوادي الكبير . وأصبحت منذ إن استقر بها العرب دارا للإمارة . ثم اتخذها الخليفة الناصر حاضرة له . وقد بنيت فيها الدور الجملية والقصور الفخمة واشتهرت بقصورها وجامعها .
الزهراء : بناها الخليفة الناصر . تم اختيار موقعها على السفح الجنوبي لجبل العروس . احتوت على قصور ملكية ، ودار للسكة وكذلك على حدائق ومسجد ومن روائع الزهراء إن الناصر وضع في البيت المخصص لنومه حوضا منقوشا عليه اثنا عشر تمثالا لحيوانات من الذهب الأحمر المرصع بالدر النفيس .
كانت الزهراء تمثل قمة الفخامة والترف . عمل في بنائها وتزيينها ألوف العمال ، وانفق عليها الملايين من الدنانير .
الزاهرة : أمر ببنائها المنصور بن أب عامر 368هـ واستغرق بناؤها تسع سنوات ، اتخذها مقرا شخصيا له ومركزا لإدارته وجيشه . تنافس الناس على النزول بها . وزاد بناؤها حتى اتصلت بأرباض قرطبة واشتهر من أبنيتها المسجد
ب ـ بناء المساجد :
كان من ابرز المساجد التي بناها العرب في الأندلس :
مسجد قرطبة : بناه عبد الرحمن الداخل على غرار المسجد النبوي ، وقد امتاز بكثرة أعمدته الرخامية وأقواسه . كما زينت واجهته القبلية بالفسيفساء التي يخالطها قطع صدفية صغيرة كتب عليها آيات قرآنية وكسيت جدران المصلى بزخارف دقيقة .
أما المنبر فكان مؤلفا من قطع خشبية مطعمة بالعاج ، جمعت مع بعضها بمسامير من الذهب والفضة ، وللمسجد واحد وعشرون بابا . ويقوم على إضاءته ليلا والعناية به عدد كبير من الأشخاص .
ج ـ بناء القصور :
اشتهر من قصور الأندلس :
قصر الخلافة بقرطبة : يعكس تطور الفنون المعمارية وفنون الزخرفة خلال الحقب المتوالية ، وبلغ أوجه في عصر الخلافة وكان يضم عدة قاعات أطلق عليها أسماء مختلفة .
قصر الحمراء : بناه الأمير محمد بن يوسف الملقب بابن الأحمر صاحب غرناطة ويعد من أجمل القصور العربية في الأندلس . وهو يتألف من باحة واسعة يقوم في وسطها حوض ماء حوله اثنا عشر سبعا من الرخام يتدفق من كل منها فوارة ماء . يمتاز بزخارفه الجصية ونقوشه الذهبية وكتاباته الكوفية التي تحوي شعار عرب الأندلس (( لا غالب إلا لله )) واهم أجنحته قاعة الملوك وقاعة الشعراء .


فن الزخرفة في الأندلس :
أبدع عرب الأندلس في فني النقش والزخرفة ، وقد استخدموا الفسيفساء والقيشاني . ورسموا مشاهد الطبيعة وأشكال الحيوانات في زخارفهم . وزينوا نقوشهم بالخطوط العربية وكتابة الآيات القرآنية ويظهر ذلك على جدران المساجد والقصور .
أطلق الأوربيون على فن الزخرفة العربية (( ارابسك ) أي الفن العربي وقلدوا هذه الفنون في صناعاتهم وزخرفة مبانيهم .






الباب الأول

الفصل الرابع
الحياة الفكرية
التفوق الحضاري العربي في الأندلس
المكتبات والأدب
ازدهار الثقافة العربية في الأندلس :
ازدهرت الثقافة العربية في الأندلس ، فكانت الجامعات الكثيرة والمكتبات الضخمة ، وكان العلماء والأدباء الذين برزوا في شتى مجالات العلم والأدب ، ولم يقتصر ازدهار الثقافة على فترات الاستقرار بل استمر في فترات الضعف وبخاصة في فترة حكم ملوك الطوائف .
المكتبات :
زاد عدد المكتبات في الأندلس على السبعين وكانت أهمها :
مكتبة الحكم المستنصر . بلغ ما فيها من الكتب حوالي أربعمائة ألف مجلد . وكانت متنوعة منها العلمية والفلسفية وعلوم الحديث والفقه والشعر ... الخ كما كانت ترد إليها الكتب من المشرق والمغرب المؤلفة منها والمترجمة .
ولشدة اهتمام الحكم بالكتب كان له وراقون في عدد من الأقطار يختارون له غرائب الكتب ونفائسها . ولم يكتف بجمع الكتب بل كان عالما وأديبا يقرا الكتب ويضع ملاحظاته على حواشيها
ومن المكتبات الشهيرة في الأندلس مكتبة المنصور بن عامر التي زخرت بالكتب النفسية
الآداب :
ازدهرت حرفة الأدب في الأندلس وبرز ذلك في مبادين الشعر والنثر والنحو .
آ ـ الشعر : أثرت طبيعة الأندلس الجميلة في قرائح الشعراء فتفتحت وأبدعت ، اشتهر من الشعراء ابن هانئ الأشبيلي وابن حزم القرطبي وابن زيدون وأبو البقاء الرندي الذي شاعت قصيدته المشهورة التي يندب فيها سقوط بعض المدن بيد الأسبان .كما ظهر في الأندلس شعر لطيف الوزن رقيق المعنى دعي بالموشحات .
ب ـ النثر : ظهر في الأندلس بعض الأدباء شاعت مؤلفاتهم منهم :
ابن عبد ربه الذي ألف كتاب (( العقد الفريد )) ويتألف هذا الكتاب من خمسة عشر جزءا تتحدث عن السياسة والحرب وعلاقة السلطان بالرعية ...الخ
ابن حزم وقد مر ذكره كشاعر وله كتاب (( طوق الحمامة في الألفة والآلاف))
ج ـ النحو : كان الناس أول الأمر يدرسون اللغة عن طريق قراءة النصوص الأدبية دون استعمال كتب خاصة بالنحو ولكن تطور الأمر عندما ظهر نحاة كثرت مؤلفاتهم في هذا الميدان ومن أشهرهم :
أبو علي القالي : وهو من وفدوا من أهل الأدب المشارقة على الأندلس ، ونال فيها حظوة عظيمة في عصري الخليفة الناصر وابنه الحكم المستنصر . أتقن علوم اللغة والشعر والنحو على طريقة البصريين . عهد إليه الخليفة الناصر تأديب ولده الحكم . وقد أهدى كتابه الأمالي إلى الخليفة الناصر ، ومن مؤلفاته رسالة عن المقصور والممدود كتاب ( (البارعة في اللغة ))
ابن سيدة : صاحب المعجم وكتاب (( العالم والمتعلم ))
ابن مالك : صاحب الألفية المعروفة باسك ألفية ابن مالك وله كتاب (( الكافية الشافعية))
واشتهر أيضا أبو حيان الغرناطي الذي لقب بشيخ النحاة .



التاريخ :
ألف مؤرخون الأندلس كتبا تبحث في أخبار المشاهير والإعلام وكتبا في الأنساب ، واهتموا بالتواريخ العامة . وقد تأثروا بمؤلفات الطبري وغيره من مؤرخي المشرق . ومن أشهر مؤرخي الأندلس :
عائلة الرازي ظهر منها :
احمد بن محمد بن موسى الرازي : وله مؤلف اسماه ( انساب مشاهير أهل الأندلس )
عيسى بن احمد : وله تاريخ الأندلس وله تاريخ حجاب الخلفاء في الأندلس
ابن الفرضي : اشتهر من مؤلفاته (( تاريخ العلماء والرواة للعلم في الأندلس ))
الجغرافية :
كان الدافع للاهتمام بالجغرافية الازدهار التجاري والنشاط البحري اللذين ساعدا على ظهور كتب الرحلات . واشتهر من الجغرافيين :
احمد الرازي : وقد سبق ذكره كمؤرخ ويعد أول كاتب لجغرافية البلدان في الأندلس
محمد بن يوسف الوراق : وضع أول كتاب في المغرب الإسلامي يبحث في المسالك والممالك .
الموسيقا والغناء :
رأينا إن صورا أخرى من الشعر ظهرت في الأندلس مثل الموشحات والزجل والتي ارتبطت بالموسيقا والغناء فعرفت بالموشحات الأندلسية كانت الموسيقا محاربة من قبل رجال الدين الذين كانوا يأمرون بكسر آلات الموسيقا . وأشهر من احترف الموسيقا والغناء في الأندلس زرياب الذي قدم من المشرق ، وأصبح موسيقي الأمير عبد الرحمن الأوسط . من مآثره انه أضاف وترا خامسا على العود . وقد لاق تشجيعا كبيرا من سكان قرطبة ، وكان ازدهار الموسيقى والغناء مواكبا لرفاه المجتمع وثراء السكان .





الباب الأول

الفصل الخامس
التأثر الأسباني والأوربي بالحضارة العربية
الإسلامية
تجلت حضارة الأندلس الزاهرة في مختلف نواحي العلم والمعرفة فقد كانت مساجدها وجامعاتها قبلة يحج إليها طلبة العلم من كل مكان كل ذلك يجري وأوربا تعيش في انحطاط وركود فكري
حالة أوربا في العصور الوسطى :
منذ بداية العصور الوسطى وأوربا تشكو الفقر والفاقة ، تعيش على حساب الشرق الذي يزودها بالسلع الغذائية والمنتجات الصناعية وكانت الثقافة محدودة وقاصرة على رجال الدين وأبناء الأغنياء ، إما الجماهير فكانت غارقة في الجهل والأمية . قل فيها من كان يعرف القراءة والكتابة ولم تشجع الكنيسة على انتشار الثقافة وأبقت المخطوطات القديمة محفوظة في مكتبات الأديرة لا يطلع عليها إلا الرهبان بالإضافة إلى إن الإنسان مكبل بكثير من الأوهام والعادات التي لا تدع له مجالا لنمو تفكيره وتفتح عقله .
أثر الحضارة العربية في الأندلس في أوربا :
تعد الأندلس أهم طرق انتقال الحضارة العربية إلى أوربا فإليها يفد الطلاب الأوربيون للتعليم في جامعاتها ومنها تحصل أوربا على المؤلفات الضخمة في شتى نواحي المعرفة لتترجم إلى للاتينية واللغات الأوربية الأخرى للإفادة منها معاهدتهم العلمية ومن ابرز من تتلمذ على أيدي العلماء العرب البابا سلفستر الثاني . وقد وضح اثر الحضارة العربية في أوربا في النواحي التالية :
آ ـ في مجال الفلسفة : أعجب الأوربيون بعمق الفلسفة العربية وتأثروا بها وظهر ذلك جليا في العديد من كتاباتهم . كما ترجموا مؤلفات ابن طفيل و ابن رشد إلى اللاتينية .
ب ـ في المجال العلمي : تركت بحوث العلماء العرب في الطب والفلك ، والرياضيات أثرا عميقا لدى الأوربيين . وبقيت كتب الزهراوي وابن زهر وكتاب القانون في الطب لابن سينا تدرس في جامعات أوربا حتى وقت متأخر . واطلعوا على مؤلفات العرب في الفلك والرياضيات والميكانيك وعلم الطبيعة و استخدموا الأرقام العربية ، والنظام العشري في الحساب بدلا من الأرقام اللاتينية المعقدة مما ساعد على تطور المعارف الأوربية في جميع مجالات العلوم .
ج ـ في مجال الأدب : كانت الطبقة الغنية في اسبانيا وأوربا ترسل أولادها إلى الأندلس ليتعلموا اللغة العربية ، ويتذوقوا الأدب العربي . وقد اخذوا عن العرب نظام المكتبات وفنون القصص والشعر والموشحات والزجل وصاغوا في أدبهم على شاكلتها .
د ـ في مجال العمران والزخرفة : اخذ الأوربيون أيضا عن العرب فن العمارة الأندلسي بما فيه من رشاقة الأعمدة والأقواس و القناطر والزخارف من رسوم نباتية أو خطوط عربية .ويتضح ذلك من بعض القصور قرب مدريد وفي إشبيلية التي بناها الإسبان بعد خروج العرب وقد انتقل فن البناء العربي إلى أوربا جميعها
إسبانيا بعد خروج العرب منها :
خرج العرب من إسبانيا و خبت شعلة الحضارة التي أضاءت فيها نحو ثمانية قرون وأنارت الدرب لأوربا ، وكانت الأساس الذي بنت عليه نهضتها انحطت الثقافة في شتى الميادين و تناقص السكان وافتقرت دور العلم إلى مدرسين يعلمون فيها وطلاب يؤمونها .
وكان على العرب الذين لم يخرجوا من الأندلس أن يتحدوا الفناء ويدافعوا عن عقيدتهم وحضارتهم لأن الإسباسن لم يفوا بوعودهم ولم يحفظوا عهودهم . فكانت محاكم التفتيش التي ينال عقابها كل من تبدو عليه صلة بالعروبة والإسلام . وأجبر المسلمون على التنصر وفرضت عليهم المغارم الثقيلة ، مما دفع الكثيرين منهم إلى ترك أموالهم وديارهم نازحين إلى المغرب العربي .
الباب الأول
الفصل السادس
الحياة الاجتماعية و الشخصية الأندلسية
فرضت الطبيعة سلطانها في تكوين هذه الشخصية و لعب الاختلاف العنصري دوره في تكوين هذه الشخصية ، إذ سواء أكان الأندلسي عربيا أم بربريا أم صقلبيا أم اسبانيا محافظا على دينه – كنت تراه يتميز بصفات لا تجدها عند هذه العناصر التي بقيت خارجة عن محيط الأندلسي ولكن هذه الشخصية لم تكن لتستدعي أن تمحو كل الصفات الأخرى التي تميز العربي عن البربري وعن الصقلي وعن الاسباني . فالشخصية الأندلسية موجودة ضمن هذا الاختلاف العنصري ومما لاشك فيه إن ظواهر هذا الاختلاف تقل عندما تنظر إلى الشعر الأندلسي من خلال الطبقات التي يتألف منها فالطبقة الارستقراطية مثلا أو طبقة الحكام قد تجمعها صفات واحدة على رغم اختلاف العناصر الجنسية التي تتألف منها . وكذلك الطبقات الأخرى المتوسطة أو الدنيا التي تشمل سائر الناس .
فابن غالب يصف لنا الأندلسي رجلا مهتما بلباسه وهندامه وطعامه محبا للهو والغناء والموسيقى ، ونجده أيضا، إلى جانب هذه الحياة اللاهية ، حسن التدبير محبا للعلوم والفلسفة وليس عجيبا أن نراه محبا للفن شاعرا ولاهيا عابثا ثم بعد هذا منصرفا إلى التفقه في العلوم والتشريع والدين والفلسفة بتأثير الدافع الإسلامي وحب التأمل وفهم أسرار الحياة . وقد عد ابن غالب من فضائل الأندلسيين اختراعهم للموشحات التي استحسنها أهل المشرق وصاروا ينزهون منزها .
هذا وابن غالب لا يكتفي بذلك بل يحاول أن يجد بين الأندلسيين والشعوب الأخرى بعض المشابهات فأهل الأندلس عرب في الأنساب والعزوة والأنفة وعلو الهمم وفصاحة الألسن وطيب النفوس وإباء الضيم وقلة احتمال الذل ، والسماحة بما في أيديهم ، والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية ، هنديون في إفراط عنايهم بالعلوم وحبهم فيها وضبطهم لها وروايتهم ، بغداديون في نظافتهم وظرفهم ورقة أخلاقهم ونباهتهم وذكائهم وحسن نظرتهم وجودة قرائحهم ولطاقة أذهانهم وحدة أفكارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر فهم احكم الناس لأسباب الفلاحة
مما لاشك فيه أن هذه الأقوال تصف الأندلسي تميزه بأمور لا نجدها عند عربي البادية ولاشك في أن للطبيعة الأندلسية أثرها في صقل هذه الشخصية وجعلها تتلاءم مع الأرض و المحيط ، ولكن وبقي الأندلسي ينظر إلى عبارة الشرق وأسلوب المشارقة وحياتهم الفكرية نظرة مثالية فيها كثير من الشوق وكثير من العز وكثير من الرغبة في عدن الابتعاد عن تقاليدهم المرسومة كما سنرى
هذا.








الباب الأول

الفصل السابع
سمات العصر الأندلسي
في السياسة والاجتماع والفكر

يتصف العصر الاندلسى بصفتين متناقضتين هما التعصب والاستبداد من ناحية ، والتساهل والحرية من ناحية أخرى .
أما التعصب فلم يكن على درجة واحدة وقوة في مختلف الأدوار التي مر بها هذا العصر , ولقد كان لوجود المسلمين في بقعة تتاخمها النصرانية ويناصبهم أهلها العداء أثر كبير في إذكاء الشعور الديني في نفوسهم ، وقد ساعد الفقهاء في دعم هذا الشعور وتقويته لما لهم من نفوذ ديني
ولكن هذا التعصب الذي كان خيرا في سبيل دعم القوة الإسلامية ضد أعدائها ، كان في الوقت ذاته شرا على الحرية الفكرية عند المسلمين أنفسهم . وذلك أن الفقهاء ، حرصا منهم على سيادتهم ، كانوا يثيرون العامة في كثير من الأوقات على المفكرين والفلاسفة ومن نظروا في أمور الدين والشرع والسنة ، ولا يحجمون عن إن يطلبوا من الخلفاء أنفسهم إن يمنعوا في التضييق على رجال الفكر . ولهذا كنت ترى عامة الشعب ، تحت تأثير دعوة الفقهاء ، ساخطين على الفلاسفة الذين كان ينتظر إليهم أحيانا كزنادقة وملحدين . وكان من الطبيعي أن أروج الدسائس والسعايات في مثل هذا الجو ، وان يلقي المفكرون والعنت والشر فيعمد الخلفاء أحيانا في سبيل التودد إلى الفقهاء والعامة إلى حرق كتبهم واضطهادهم فقد نكب ابن رشد وأصحابه ونفى ابن هانئ عن الأندلس ، وامتدت النقمة إلى الوزراء والقضاة فنالهم السجن والاضطهاد كابن زيدون وابن الخطيب وابن زمرك وغيرهم .
ولئن كانت الصفة الغالبة هي التعصب ، لقد كانت تمر فترات يأتي فيها ملوك عادلون ينتصرون لحرية الفكر دون أن يثيروا الفقهاء كما كان الشأن زمن الموحدين حيث انتعشت الفلسفة وقلت الوشايات ذات الصبغة الدينية .
إلى جانب هذا التعصب الديني الذي كان يكم الأفواه ، كنت ترى حياة الدعة والتساهل منتشرة ، فقد كانت الحياة الخاصة متعة متصلة الحلقات ، وهنا تبدو الحرية مادامت لا تتصل بأمور السياسة والدين والحكم ولا تتصدى للمصالح الذاتية ، ولهذا كنت ترى الاندلسى يهتك دون وازع ، وقد انغمس الشعراء والكتاب في حماة الدعوة ونطقت ألسنتهم بأفحش الأقوال ، وامتدت هذه الحرية إلى الملوك فرايتهم يرخون العنان للهوهم وطربهم و للهو الناس وطربهم ، ما دام هذا اللهو وهذا الطرب لا يمسان الدين له حرمته في النفوس . فانتشرت الخلاعة وعمت مجالس اللهو وساءت الأخلاق وكان ضرر هذا التسامح ابلغ أثرا من ضرر التعصب ، إذ قد افسد النفوس فاستسلمت لراحة والدعة وهان عليها إن تقبل الصدمات والذل ولا تثور لكرمها فبقيت خانعة باكية معولة تحن إلى مجد آفل وعز سليب
ومن أمثلة هذه المجالس اللاهية ما يرويه لنا ابن خاقان في المطمح عن مجلس مزج فيه الجد بالهزل قد أقامه الوزير أبو عامر بن شهيد في ليلة سبع وعشرين من رمضان في هذه الليلة المباركة التي يجب إن ينقطع فيها الإنسان إلى الهجد والعبادة :
قال الفتح بن خاقان : ( واخبرني الوزير أبو الحسين بن سراج هو بمنزل الوزير أبى عامر بن شيهد ، وكان من البلاغة في مدى غاية البيان ، ومن الفصاحة في اعل مراتب التبيان ، وكنا نحضر مجلس شرابه ، ولا نغيب عن بابه ، وكان له بباب الصومعة من الجامع موضع لا يفارقه أكثر نهاره ، ولا يخيله عن نثر درره وأزهاره فقعد فيه ليلة سبع وعشرين من رمضان في لمة من أخوانه ، وآثمة سلوانه ، وقد حفوا به ليقتطفوا نخب أدبه ، وهو يخلط لهم الجد بهزل ، ولا يفرط من انبسا مشهر ولا انقباض جزل ، إذا بجارية من أعيان أهل قرطبة معها من جواريها ، من يسترها ويواريها ، هي ترتاد موضعا لمناجاة ربها وتبتغي منزلا لاستغفار ذنبها ، وهي منقبة خائفة وممن يرقبها مترقبة ، وأمامها طفل لها كأنه غصن آس ، أو ظبى يمرح في كناس ، فلما وقعت عليها على أبي عامر ولت سريعة ،
من الشعراء الدولة العامرية ، ولد سنة 382 هـ وتوفى بقرطبة سنة 426هـ
وتولت مروعة ، خفية أن يشبب بها ، أو يشهرها باسمها ، فلما نظرها قال قولا فضحها به وشهرها :
وناظرة تحت طى القناع دعاها إلى الله للخير داع
سعت خفية تبتغى منزلا لو صل التبتل والانقطاع
وجالت بموضعنا جولة فحل الربيع بتلك البقاع
أتتنا تبختر في مشيها فحلت بواد كثير السباع
وريعت حذارا على طفلها فناديت يا هذه لا تراعى
غزالك تفرق منه الليوث وتنصاع منه كماة المصاع
فولت وللمسك من ذيلها على الأرض خط ، كظهر الشجاع
وهذا أبو القاسم بن العطار احد أدباء اشبيلية ونحلها ، كان رجلا مستلما إلى الصبابة ، كما يقول الفتح بن خاقان في قائلاه ، لا يحفل بملام ولا ينتقل عن المدام ، فلنسمعه يتغزل بهذه الأبيات الرقيقة :
هب النسيم مع العشى فشاقنى إذ كان من جهة الحبيب هبوبه
قد كنت ودعت الصبا بوداعه واخو الصبابة لا تفيق ندوبه
فدعا الهوى لى دعوة لم اعصها والصب راحة قلبه تعذيبه
لو لم اجب داعى الهوى وعصيته لغدت جفونى بالدموع تجيبه
ومن مظاهر هذه الحياة للاهية أيضا علاقة الشعراء وغير الشعراء بالمسيحيين والمسيحيات من سكان الأندلس ، وعندما يحدثنا الشعراء عن هذه العلاقات
لا يكتفون بتصوير الجانب اللاهى من الحياة الأندلسية وإنما يقدمون لنا معلومات ذات قيمة عن حياة هؤلاء المستعربين وعن لباسهم وأزيائهم ،عن الحرية التي كانوا يتمتعون بها في قيامهم بشعاثرهم الدينية وعن اختلاط المسلمين الأندلسيين بهم اختلاطا كبيرا ،
فقد ذكر ابن خاقان في المطمح (أ ن ابا عامر بن شهيد قد بات ليلة بإحدى كنائس قرطبة وقد فرشت بأضغاث آس ، وعرشت بسرور واستئناس وقرع النواقيس يهيج سمعه وبرق الحميا يسرح لمعه ، والقس قد برز في عبدة المسيح متوشحا بالزنابير أبدع توشيح ، قد هجروا الأفراح ، واطرحوا النعم كل اطراح :
لا يعمدون إلى ماء بانية إلا اغترافا من الغدران بالراح
وأقام بينهم يرشف حميا ، كأنما يرشف من شفة لمياه وهى تنفح له بأطيب عرف ، كلما رشف أعذب رشف ، ثم ارتجل بعدما ارتحل ، فقال
ولرب حان قد شممت بديره خمر الصبا مزجت بصرف عصيره
في فتية جعلوا السرور شعارهم متصاغرين تخشعا لكبيره
والقس مما شاء طول مقامنا يدعو بعود حولنا بزبوره
يهدي لنا بالراح كل مصفر كالخشف خفره التماح خفيره
يتناول الظرفاء فيه وشربهم أسلافهم والأكل من خنزيرة
هذه الأبيات الصريحة التي لا يستبعد أن تكون صراحتها مقصودة تشير إلى أكثر مما أشار إليه المستشرفون عندما ذكروها في مؤلفاتهم . ورسالة ابن عبدون
تثبت لنا أن هناك امتزاجا شديدا بين الأندلسيين والمسيحيين المستعربين مما يؤيد أن الصورة التي يقدمها أبو عامر بن شهيد في الأبيات السابقة ليست على صراحتها كثيرة المبالغة .
هذا عدا مشاهد الحب التي كان يصورها الشعراء والتي كانت ترسم لنا علاقات الأندلسيين بالمسيحيات والمستعربات ، وهي علاقات ما كانت لتقصير على الطبقات العليا بل نجدها في مختلف طبقات الشعب الاندلسى ولا سيما الطبقات الوسطى والدنيا فالشاعر الرمادى يشير إلى نوع من العلاقات الماجنة بشيء من الصراحة أحيانا ، فيقول مخاطبا الساقى النصرانى :
أدرها مثل ريقك ثم صلب كعادتكم على وهمى وكاسى
فقضى ما أمرت به اجتلابا لمسرورى وزاد خنوع واسى (2)
ويقول في مكان آخر :
قبلته قدام قسيسه شربت كاسات بتقديسه
يقرع قلبي عند ذكرى له من فرط شوقي قرع ناقوسه
وإذا كان الشعراء قد تعيهراو في حبهم وذكر علاقاتهم بالأوساط المسيحية فهناك آخرون قد اظهروا لنا وجها عفيفا محببا لها الاختلاط ، كما فعل أبو عبد الله بن
الحداد ( 4) احد شعراء بلاطك المرية زمن المعتصم بن صمادح ؟، وإذا ما تلونا أشعاره التي نجدها في الذخيرة والتي تصور لنا حبه لأولئك النصرانيات كحبه لنويرة اقو لاذا تلونا هذه الأشعار شعرنا بنفحته عذرية بدا مثلها فيما بعد على أشعار التروبادور . وأشعار ابن الحداد لها فائدة أخرى فهي تمنحنا صورة واضحة عن طريقة إحياء المسيحيين والمسيحيات لشعائرهم الدينية كما كانت معروفة عندهم . ولعلنا ، ونحن نرغب أن نعرض وجها من وجوه حياة الأندلس اللاهية التي امتاز بها العصر ، قد استطعنا أن نبين لكم مدى الاختلاط الذي نشا بين الأندلسيين المسلمين والاسبانيات اللواتي حافظن على دينهن ، ولا شك أن الأثر الذي تركه هذا الاختلاط في الشعر والأدب لا يمكن نكرانه

إدارة المجتمع الاندلسى :
تركزت السلطة العليا في الأندلس بيد الأمير أو الخليفة . يساعده في الأمور المالية والأعمال الخارجية ورفع المظالم (القضاء) والإدارة الحربية أربعة وزراء ، وكان له مستشاران يسميان بالوزيرين وكثيرا ما كان يطلق على كل منهما اسم ذى الوزارتين وكان لكل مصلحة في الدولة كتاب مختصون بها ، ككتاب الرسائل وكتاب الذمام الذين ينظرون نفي شئون أهل الذمة وكان يتوسط نقل الأوامر بين الخليفة والوزارة رجل يسمى بالحاجب صارت وظيفته فيما بعد أعظم من وظيفته الوزير ، وقد استبد بعض الحجاب بالخلفاء كما فعل الحاجب المنصور ، وكثيرا ما كان يتسابق ملوك الطوائف إلى أخذ هذا اللقب وكان في كل مدينة قاض وكان قاضى الجماعة أي قاضى القضاة يقيم في قرطبة ، ولا يشغل مناصب القضاة سوى أكابر العلماء والفقهاء .
وكان إلى جانب وظيفة القضاء وظيفة العدالة ويقوم صاحبها بتسجيل العقود والاتفاقات وكان يعهد بحفظ النظام والأمن إلى رئيس الشرطى ويعتبر منصبه من أعظم المناصب القضائية والإدارية . ويقوم المحتسب
على شئون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومراقبة الأسواق ،
مطاردة المنكرات والتأديب
العمل على احترام الأحكام الشرعية
قمع الغش والاختلاس في المعاملات .
وكان للأندلس في عهدها الزاهر أسطول قوى كان يسمى قائده بأمير الماء ،
ووضعت أنظمة للجيش. وكان إلى جانب الطبقة الحاكمة طبقة الفقهاء التي كان لها نفوذ واسع حاولت كثيرا أن تستغله في السياسة وتدبير الملك ، وفي القضاء على الروح العلمية والثقافية بل كثيرا ما دبرت الثورات لقلب الحكم
وقد ساعدت تنحيه العرب عن الجيش في زمن عبد الرحمن الداخل على وجود طبقة الجنود المتطوعة من بربر وصقلبيين ، فقامت بنصيبها الكبير من الفتن ، بل إن طبقة الخصيان والموالى أصبحت في عهود ضعف الدولة تتصرف في شئون الخلافة والملك كما ذكرنا وقد ضعفت الروح الحربية عند العرب كما ضعف الروح الاجماعي ، وتدهورت الأخلاق ، وساعد الغنى وخصب البلاد على انصراف الناس إلى اللهو والملذات ، وظهر فيهم شعور الأثرة حتى استنجد المسلمون بالفرنجة أعدائهم . ونشأ من بين العرب أنفسهم طبقة الزراع والتجارة والصناع الذين قاموا بنصيبهم في رقى الأندلس وحضارتها أضف إليهم طبقة الموالى المؤلفة من الأسبانيين وغيرهم الذين دخلوا في الإسلام ، وطبقة اليهود الذين كانوا منتشرين في أسبانيا. ويجب ألا ننسى عاملا اجتماعيا هاما ساعد على تقويض الأندلس وضعف الروح الحربية في الأندلسيين وميلهم إلى الترف وهو تزوجهم أو تسريهم بالقوطيات (الأسبانيات ) اللاتي أضعفن روح العروبة فب أبنائهن ، وقد انتشرت في الأندلس روح الفتوة التي سادت في الوقت نفسه لدى الأسبانيين والغربيين قاطبة وكانت لها قوانين متبعة وأصول مقررة إذا خالفها الفارس أخل بشرفه .
وقد بقيت الفروسية الأندلسية عصورا تجذب الأنظار إليها ، إلا أنها لم تستطع أن تذكى في نفوس أكثر العرب روح الحرب لانصرافهم عنها إلى اللهو والرخاء ، وظلت على الأكثر مظهرا من مظاهر المباهج والتسامح ، وقد كثر الشغف بالفروسية في حكم دولة بنى الأحمر وكانت مبارياتها وحفلاتها من أجمل المباهج العامة التي تجرى في غرناطة وكثيرا ما اجتمع فيها الفرسان المسلمون والنصارى يتبادلون الزيارات ويسوون منازعتهم ، وكان نساء غرناطة ، البارعات في الحسن والأناقة ، يشهدن هذه الحفلات وغيرها من المحافل ، ويخلعن عليها جوا من السحر والروعة ينم عما كن يتمتعن به من الحرية




الباب الأول

الفصل الثامن
الحضارة الأندلسية والحياة الفكرية

وصلت الحضارة الأندلسية إلى ذروة القوة في عهد الخلافة الأموية ، أيام حكم عبد الرحمن الناصر وولده الحكم ، ولكنها لم تصل إلى ذروة نضجها الفكري ، ولما انهارت الحلافة الأموية وسادت الفوضى أرجاء الأندلس في عهد الفتنة ذوت هذه الحضارة ، وخبت مظاهرها العمرانية والفكرية حتى جاءت دول الطوائف ، فاستطاعت على رغم تطاحنها أن تعيد بهاء الحضارة الأندلسية في قصورها ومنشآتها ومجتمعاتها ، وسطعت شمس الأدب والفكر ، وغرفت الأندلس في هذه الحقبة المضطربة من تاريخها طائفة من أعظم مفكريها وأدبائها وشعرائها أمثال الفيلسوف ابن حزم المتوفى سنة 456هـ والمؤرخ ابن حيان المتوفى سنة 469هـ والشاعر ابن زيدون المتوفى سنة 462هـ والشاعر الأديب ابن عبدون المتوفى سنة 520هـ وغيرهم من المفكرين والأدباء والشعراء ذكرهم ابن خاقان في (( قلائد الذين القيان)) والمقرى في (( نفح الطيب ) بل إن ملوك الطوائف أنفسهم كانوا – كما قدمنا – في طليعة الأدباء والشعراء ، كالعالم عمر بن الأفطس صاحب بطليوس ، والمعتضد والمعتمد صاحبي أشبيلية والمعتصم بن صمادح صاحب المرية .
ولكن هذه النهضة الفكرية والأدبية الزاهرة ما عتمت أن توقفت عقب تضعضع دول الطوائف واستيلاء المرابطين على الأندلس سنة 484هـ / 1091م ، فقد كان هؤلاء المرابطون ، كما ذكرنا ، شديدى التعصب ، قساة غلاظا ، ألفوا الحرب والخشونة فلم تجد دول الفكر والأدب في ظلهم مرتعا خصبا . ولقد تألقت في عهدهم القصير بعض الأسماء للامعة أمثال الطبيب أبى القاسم خلف بن عباس القرطبي والفيلسوف ابن بأجه والفتح بن خاقان وابن بسام صاحب كتاب الذخيرة ابن قزمان صاحب الأزجال الشهيرة ، ولكن ظهورهم وإضرابهم في هذه الفترة لم يكن إلا امتدادا للنهضة الفكرية التي ازدهرت في عهد ملوك الطوائف .
ثم جاءت دولة الموحدين ، فانتعشت الحضارة الأندلسية ونشطت حركة التفكير . لقد نشا الموحدون كالمرابطين في مهاد الخشونة والتقشف ولكنهم كانوا أوسع أفقا ، وكان مؤسس دولتهم المهدي بن تومرت من أئمة التفكير الديني وأظهر خلفاؤه عبد المؤمن وبنوه اهتماما بالعلوم والفنون ، وأطلقت حرية التفكير والبحث بعد أن قيدت في عهد المرابطين وأفرج عن كتب الغزالي وغيره من مفكري المشرق ، وكانت قد كوفحت ومنعت في أيامهم بالمغرب والأندلس. وفي هذه الفترة ، أي في أواخر القرن السادس أوائل القرن السابع الهجري ، بلغت النهضة الفكرية في الأندلس ذروة نضجهاوظهرت طائفة من أقطاب العلم والأدب ، وفي طليعتهم أبو جعفر بن الطفيل الاشبيلي صاحب رسالة حى بن يقظان المتوفى سنة 571 والفيلسوف ابن رشد القرطبي المتوفى سنة 594هـ ، والرئيس موسى بن ميمون القرطبي المتوفى سنة 602هـ وكان يهوديا وهو من أشهر الأطباء والفلاسفة في عصره .
وقد كان ابن رشد أعظم فلاسفة الإسلام ومفكريه في ذلك العصر ، ومن أهم أثاره شروحه لفلسفة أرسطو في المنطق وما وراء الطبيعة ، وقد ترجمت إلى اللاتينية منذ القرن الثالث عشر وكانت مفتاح الدراسات الارسطوطالية في العصور الوسطى . وغدت شروح ابن رشد أساسا لكثير من المباحث الفلسفية التي ازدهرت أيام حركة الإحياء الأوربي . وكانت الأندلس بفضل ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة والعلماء العرب عاملا هاما في رقي أوربا ، فعن طريق الأندلس بالدرجة الأولى اطلع أوربيون على الفلسفة والعلوم اليونانية القديمة ، وظهر في تلك الفترة ، إلى جانب هؤلاء العلماء ، عدد من أعلام الشعر والأدب مثل أبى القاسم خلف بن بشكوال القرطبي المتوفى سنة 578هـ وهو مؤلف كتاب الصلة ، وابن بدرون الإشبيلي المتوفى في فاتحة القرن السابع ، وهو شارح قصيدة ابن عبدون الشهيرة في رثاء بنى الأفطس . وازدهرت المعاهد العلمية أيام الموحدين بالمغرب والأندلس ، وكانت المعاهد الأندلسية في أشبيلية وقرطبة وغرناطة وبلنسية ومرسية يومئذ مجمع العلوم والمعارف ، ومقصد الطلاب من كل فج ، وفيها المكتبات التي تضم الكتب النفيسة والتأليف النادرة في مختلف العلوم و الفنون . وعني الموحدون أيضا برعاية الفنون وأقيمت في عهدهم طائفة من المساجد والأبنية الفخمة التي تمتاز بجمالها الفني .
ولما اضمحل شان الموحدين ، وضعف أمرهم بالمغرب والأندلس ، في أوائل القرن السابع الهجري ، واجتاحت الفتنة معظم البلاد والثغور الأندلسية ، قام المتغلبون يتنافسون في اجتناء أسلاب الدولة الذاهبة ، وبدأت قواعد الأندلس تسقط تباعا في يد النصارى ، وشغلت الأندلس بمحنها ، وانصرفت إلى متابعة الجهاد ومدافعة المغيرين ، فانكمشت فنون السلم ، واضطربت دولة التفكير والأدب ، ومع ذلك فقد ظلت تمتاز بكثير من نواحي القوة والنضج ، وقد أثرت المحنة في نفوس الشعراء فأذكت عواطفهم بشعر اللوعة وبعثت إلينا بطائفة من المرائى التي ما زالت تحتفظ إلى يومنا بكثير من قوتها وروعتها.
وغادر الأندلس في تلك الفترة كثير من الكتاب والعلماء الذين توقعوا سوء المصير ، وآثروا العمل في جو أكثرا استقرار وطمأنينة ، مثل الشيخ محي الدين بن العربي شيخ المتصوفين الشهير، وابن البيطار المالقى وابن الآبار القضاعى، وانجلت الفتن الداخلية ، وانجلى الصراع بين أسبانيا المسلمة وأسبانيا النصرانية بعد نحو ثلث قرن من سقوط معظم القواعد الأندلسية في يد النصارى ، وانكمشت رقعة الأندلس تباعا ، وانحصرت في الركن الجنوبي الغربي للمملكة الإسلامية القديمة ، في مملكة غرناطة الصغيرة ، التي برزت من غمر الفوضى وتأسست على بيد محمد بن الأحمر زعيم بنى نصر كما تقدم ذكره واليها هرعت معظم الأسر الأندلسية القديمة وغدت ، خلال مدة تزيد على القرنين ، مستودع تراث الأندلس القوى والسياسي ومستودع الحضارة الأندلسية والتفكير الاندلسى .
وفي ظل مملكة غرناطة أخذت الحركة الفكرية في الاستقرار وبدأت الأندلس حياتها الجديدة وأنست جوا من الطمأنينة والهدوء . وكان ملوك غرناطة من حماة الآداب والعلوم ، وسطع بلاط دولة بنى الأحمر بتقاليده الأدبية الزاهرة على غرار قصور ملوك الطوائف .
ويجب إن نلاحظ إن الحركة الفكرية الأندلسية في عصر بنى الأحمر تكاد تنحصر في النواحي الأدبية ، فقد ازدهرت الأدب والشعر وحفلت غرناطة بجمهرة من أكابر الأدباء والشعراء ، ولكن العلوم العقلية أصابها الركود ، وقلما نجد في هذه الفترة أحدا من أقطاب الطب والفلسفة أو غيرها من العلوم المحضة التي ازدهرت من قبل بالأندلس
هذا عرض تاريخي لأهم مظاهر الحياة العقلية في بلاد الأندلس ، والناظر إليها يرى إن العقلية العربية في الأندلس قد اثر فيها الاختلاط العنصري تأثيرا كبيرا إذ قد صنع الأمويون في الغرب الإسلامي صنع العباسيين مع الفرس وقربوا القوط إليهم كما ذكرنا فكان من اثر هذا الاختلاط امتزاج العقلية الآرية بالعقلية السامية فنضجت العقلية العربية وزهت الآداب وازدهرت الحضارة واقتبس الإسبانيون ثقافة العرب لأنهم كانوا دونهم ثقافة ، ودخلوا في دينهم وتعلموا لغهم وأدبهم وهجروا اللاتينية واعرضوا عن كتب المسيحية ، حتى أصبح رجال الدين الأسبان يشكون من انصراف الأسبان المسيحيين عن اللاتينية إلى اللغة العربية ، ويأسفون على حماسهم الشديدة للغة العرب وعلى ضياع اللاتينية بين المسيحيين الذين يقبلون على العربية والشعر العربي ويدرسون كتابات متكلمى الإسلام وفقهائه لا ليفندوها بل لكي يكتبوا العربية في صحة وإتقان (
وقد رأينا كيف شيد الأندلسيون المدارس حتى أصبح أكثر الناس متعلمين وكيف ازدهرت الآداب والفنون ازدهارا يقوي وينخفض بحسب الظروف السياسية والعهود المختلفة التي مرت بها الأندلس ، وكيف إن روح التعصب قد حدت أحيانا من نشاط الفلسفة والعلوم العقلية .
ويحسن إن نشير في النهاية إلى أن الأندلسيين كانوا في آدابهم مقلدين للمشارقة لأنهم كانوا يرون فيهم المثل الأعلى لشعرهم وأدبهم ، ويجدونهم منبع علومهم وآدابهم وفنونهم ، وقد ظلت معاني الشعر الاندلسى سطحية ليس فيها إكثار من الحكم وطرق المعاني الفلسفية وذلك لعدم إقبال الشعراء و الأدباء على الفلسفة العقلية ولانصرافهم إلى اللهو والحياة السهلة .
وقد كان من نتيجة انتشار الكتابة فيهم وقلة الأمية إن كان عدد الشعراء والأدباء كبيرا فقد كان أكثر الخلفاء والفقهاء والوزراء ينظمون الشعر ،بل نجد روايات أدبية تذكرإن بعض السوقة ينظمون الشعر باللغة العربية الفصحى ، وعلى رغم كثرة عدد الشعراء ووجود طائفة من النابغين فقد قصروا عن اللحاق بفحول الشعراء المشرقيين وذلك لإقبالهم على اللهو وانصرافهم عن كل ما يكد الذهن من دراسات عقلية ، ولنظرتهم المثلى لكل ما كان يرد من الشرق من فكر وأدب وفلسفة والنسج على منواله دون إن يعمدوا ، على الغالب ، إلى إبداع أصيل .









الباب الثاني
شخصية المبدع الشعري الأندلسي




الباب الثاني

الفصل الأول
ثقافة المبدع الشاعر الأندلسى
وطرق التعليم

تهيأت لأهل الأندلس أسباب الشعر ، وتوافرت لديهم دواعيه ، فطبعوا على الشغف به وانبسطت ألسنتهم بقوله ، حتى قل أن تجد منهم من ألم بطرف من الآداب ولم يقل شعرا .
وقد كان لطبيعة الأندلس الزاخرة بالمفاتن أثر كبير في طبعهم على هذه الشيمة ، حتى لم تخل مدينة من مدنها من شاعر حاذق ، أو كاتب بليغ كما يقول ابن بسام في مقدمة ذخيرته .
ولم تقتصر الرغبة في الشعر والارتياض بنظمه على الرجال ، بل عدتهم إلى النساء ، فنبع منهن شواعر يكن يضاهين الشعراء عددا ، وكان منهن طبقة من المحسنات البارعات ، كولادة بنت المستكفى ، وتلميذتها مهجة القرطبية وحمدة بنت زياد المؤدب المعروفة بخنساء المغرب وحفصة بنت الحاج الركونية ، وعائشة بنت احمد القرطبية ، ونزهون القلاعية الغرناطية ، وكن جميعا موصوفات بالجمال والظرف ، إلا عائشة فقد استغنت بالفهم والأدب والفصاحة ( 1)
وقد كان للشعر حظوة لدى الملوك ، فنبع منهم شعراء ، ودرجوا على استيزاز الشعراء فكان الوزير نديم الملك وشاعره ومدبر مملكته بآن . فاعتز الشعراء بذلك وسمت مكانهم ، وحفلت بهم دور الأمراء ودر عليهم الرزق ، فنعموا ، وترفوا ولهوا وعبثوا إلا أنهم كانوا أبدا مهددين بزوال النعمة ، لوشاية حاسد ، أو مكيدة مبغض ، أو خشية ملك أن يستقبل الوزير بالأمر دونه ، كما اتفق لابن زيدون عند بنى جهور ، ولابن الخطيب عند بنى الأحمر ،... وقد تحدث الوزير نفسه بالملك ، فيظهر ملكه على رغبته ، فيوقع به ، كما صنع المعتمد بن عباد بوزيرة الشاعر ابن عمار .
إلا أن هذا لم يكن شأن جميع الشعراء ، فقد عجز فريق منهم عن التقرب من السلطان أو الوصول إلى الوزارة فظلوا ، على نباههم ، مغمورين خاملين .
ولم تخل حياة الشعراء من مضايقات ، وأعنفها ما كان يلقاه بعضهم من لفيف من الفقهاء ، كانت تدفعهم غيرتهم الدينية إلى أن يوقعوا ببعض من عرفوا بزيغ أو جون أو خلاعة ، كما جرى لابن هانئ ، فقد نفاه أمير إشبيلية خوفا من الفقهاء والعامة ، لما بدا في شعره من آثار الخلاعة ، والمجاهرة بما يمس العقيدة .
على أن شعراء الأندلس وأدباءها ، على ما أوتوا من طبع صقلته الطبيعة ونمته المرانة ، لم يكن لهم بد من ثقافة تعينهم وترفد طبعهم ، وعرضنا من هذا الفصل أن نتحدث عن طرق انتشار الثقافة في ذلك الصقع ، ومادة هذه الثقافة ، وعن الآثار الهامة التي كان الشعراء يتدارسونها ، لنضع أيدينا على ينابيع ثقافة الشاعر .
كانت العربية لغة الأندلس الرسمية ، بها تجرى المكاتبات والمراسلات رغم جنوح لغة التخاطب إلى العامية ، واستعمال بعض الفئات اللغة البربرية أو الرومانية ، .. وكان الخلفاء ورجال الدولة يقربون من يحسن العربية ، ويتنافسون هم أنفسهم في دراستها وإجادتها ، ويعملون على استجلاب الكتاب والشعراء إليهم ، ولم يكن التنافس بين الأمراء والحكام مقصورا على الجانب السياسي ، بل كان يشمل الناحية الأدبية أيضا ، وكان كل أمير يعمل على أن يكون في كنفه من الكتاب والشعراء ما يفوق ما لدى منافسة عددا ومكانة ، بل كانت المنافسة في هذا الباب تدفع الواحد منهم أن يقتنص من لدى منافسة من أدباء أو شعراء كبار ، كما فعل المعتمد بن عباد ملك إشبيلية بابن الأرقم وزير المعتصم بن صمادح صاحب المرية وكاتبه الخاص ، وإن كان لم يوفق في مسعاه .
والمقرى في نفخ الطيب يروى من الأخبار ما يدل بصراحة على مدى اهتمام الحكام بالكتاب النابهين المالكين زمام العربية ، والمقتدرين عليها ، كما يدلنا على احتقارهم لمن قل نصيبه منها ، ومن هنا كان تعلم العربية والتمكن منها ضرورة لمن يريد أن يصل إلى ديوان الإنشاء .
ولما كان الشاعر يتولى في كثير من الأوقات وظيفة كتابية بوصفه وزيراً ، كان عليه أيضا أن يكون واقفا على أصول الإنشاء مجودا للكتابة ، وإذا كان اهتمام الشعراء بالكتابة وفن إنشاء الرسائل ضرورة تقضيها مهنهم ككتاب في دواوين الإنشاء ، فقد كانت الكتابة أيضا نتيجة لميل أدبى متأصل فيهم ، وقد رأينا كيف أدى العطف الذي أبداه الخلفاء والأمراء نحو الأدب و المتأدبين إلى كثرة الكتاب والشعراء و إلى ازدهار الأدب ولاسيما في زمن ملوك الطوائف ، ولكن هذا العطف لم يكن السبب الوحيد في هذا الازدهار بل إن أسلوب تعلم اللغة العربية والتثقيف بالثقافة الأدبية العامة كان لهما أيضا أثر كبير في نهضة الأدب وازدهاره في بلاد الأندلس .
فما هي طرق هذا التعليم ؟
لدينا كثير من الأخبار التي تشير إلى طرق التعليم والثقافة الأدبية في البلاد الأندلسية . ويكفى أن نجمع ما يكتبه بعض المترجمين والمؤرخين لحياة كاتب أو شاعر أو عالم عاش في الأندلس لنعلم ما كان يدرسه هذا الكاتب أو ذاك الشاعر ولنعلم الطريق التي كان يتبعها في شبابه وفي باقي أيام حياته .
ويحسن أن نضيف إلى هذه الأخبار ما كتبه ابن خلدون في مقدمته في الفصل الواحد والثلاثين عن (( تعليم الوالدين واختلاف أمصار المذاهب الإسلامية في طرقه )) فهو فصل قيم أشار فيه إلى طرق التعليم في بلاد المغرب وفي بلاد الأندلس وقارن بين مختلف هذه الطرق . ويتبين من قراءة المقطع الخاص بالأندلسيين ( 1) أنهم كانوا يعنون بتعليم العربية والشعر قبل العلوم الأخرى والى جانب القرآن الكريم أيضا ليتفهموه ، على خلاف أهل المغرب والمشارقة الذين كانوا يبدءون بتعليم القرآن الكريم دون سائر العلوم،وقد فضل القاضي أبو بكر بن العربي ( 468 – 543هـ )
((.... و أما أهل الأندلس فذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو وهذا هو الذي يراعونه في التعليم ، إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلا في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب ولا تختص عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق باذيال العلم على الجملة )) .

طريقة أهل الأندلس ونصحها للمشارقة (( لان الشعر – كما قال أبو بكر ابن العربي – ديوان العرب ويدعو على تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فانه يتيسر عليك بهذه المقدمة (1) .
فنلاحظ إن الثقافة الشعرية واللغوية كانت أول ما يتعلمه الطالب في الأندلس فهنا إذا طريقة أندلسية في التعليم ، هي إن العلوم الإنسانية لها مكان خاص إلى جانب العلوم الدينية . نعم قد يكون أهل المغرب ( أي أهل أقصى شمالي افريقية ) قد قصروا أحيانا همهم على تعلم القران ولم يرغبوا بان يمزجوا مع تعلمه علما آخر ، إلا أن المشارفة قد لجئوا أيضا إلى مثل ما لجا إليه أهل الأندلس واهتموا أيضا بالعلوم الإنسانية ، ولا يهمنا كثيرا أن يبدءوا بالقران أو بالشعر واللغة ، فقد كانت هاتان الدراستان متصلتين ومن الصعب أن نفصل تعلم القران عن تعلم اللغة والشعر القديم لما بينهما من وشائج وثيقة ، وقد يكون من المستحسن لفهم القران أن نبدأ بدراسة اللغة ، كما شاء الأندلسيون وكما قال أبو بكر بن العربي ، فهي طريقة منطقية .
ويتساءل هنري به رس عما إذا كان هذا المفهوم المنطقي للتعليم في الأندلس ليس ناتجا عن تأثير العرق الاسباني الروماني الذي كان احد العناصر الهامة التي كونت شخصية الاندلسى ، ثم يضيف قائلا : أن الاهتمام ، في الدرجة الأولى ، كان منصرفا في باقي البلاد الإسلامية إلى الأمور الدينية وقد تركت العلوم العقلية في درجة ثانوية ، بينما كان الأمر في اسبانيا على العكس ، إذ أخذت العلوم العقلية تحتل المكان الأول ، دون أن تهمل مع هذا العلوم الأخرى المشتقة من القران والحديث ، وعلى هذا فقد اخذ الاندلسى يفكر في الإنسان قبل الدين واخذ التعليم يرمى إلى تنمية جميع مواهب هذا الإنسان بشكل متناسق ..
هذه الملاحظات صائبة ، أما أن نستنتج منها أن المشارقة لم يهتموا بالإنسان لمجرد أنهم بدءوا بتدريس القران قبل الشعر واللغة ، فهذا أمر لا نوافق المستشرق عليه ، لا القران الكريم دستور أنساني يطل على أمور الإنسان وحياته ويشرحها إلى جانب ما له من صفة دينية ، ولا نستطيع أن نقر أيضا إن الأندلسيين قد تخلوا عن دراسة الأمور الدينية تماما عندما بدءوا بدراسته الشعر والأدب . نعم لقد اهتم الأندلسيون بالإنسان ولكن هذا الاهتمام لم يمنعهم من الاشتغال بالقضايا الدينية ، وكذلك فعل المشارقة فقد بدءوا بالدين ولكن الذين لم ينسهم الاهتمام بالإنسان .
ومن دلائل النهضات الإنسانية في شعب ما ، أن يهم هذا الشعب بدراسة الإنسانيات القديمة وآثارها . فالنهضة الإنسانية الفرنسية في القرن السادس عشر تتمثل في اهتمام الشعراء والمفكرين بدراسات الإنسانيات الإغريقية والرومانية ولولا هذا العود إلى آثار الإغريق وتفهم عبقريتهم وتقليدهم في الموضوعات والأساليب لما كانت النهضة الأدبية الفرنسية التي ظهرت منذ القرن السادس عشر وشعت في القرن السابع عشر .
وكذلك نحن ، فعودتنا إلى آثارنا القديمة ، إلى الشعر الجاهلي والأموي والعباسي ، إلى هذا الأدب الإنساني الواسع ، دليل على رغبتنا في المحافظة على إنسانيتنا الأدبية . والأدب الاندلسى ، كأدب أنساني ، اخذ يتطلع إلى هذا التراث القديم ويغذي فكره الإنساني ، كأدب أنساني ، اخذ يتطلع إلى هذا التراث القديم ويغذى فكره الإنساني بالشعر القديم وشعر صدر الإسلام وشعر المحدثين وآدابهم ، وإذا فهمنا الإنسانية بمعناها الفني هذا ، حق لنا أن نقول أن كل أديب عربي ، سواء أكان شرقيا أم أندلسيا كان يرمى إلى هذه النزعة الإنسانية في آثاره ودراساته وقراءاته إذا ما أراد لإنتاجه ولفنه النجاح . بل إن الأندلسيين لم يكونوا اقل حرصا على علوم الدين من المشارقة أن لم يزيدوا عليهم في هذا الباب ، ومصداق ذلك آثار علمائهم وفقائهم ، بل أن الفقيه كان عندهم معظما كما يقول المقرى : (( وسمة الفقيه عندهم جليلة حتى إن المسلمين كانوا يسمون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه ، وقد يقولون للكاتب والنحوى واللغوي : فقيه ، لأنها ارفع السمات )) فالتعليم الذي يتلقاه الشاعر الاندلسى إذن لا يختلف في شئ كبير عن التعليم الذي يتلقاه الشاعر المشرقى ، وهو قبل كل شئ عودة إلى الآثار القديمة وحفظها وتفهمها وأحيانا تقليدها
وقد أراد الاندلسى أن يكون تعلمه للشعر واللغة سابقا لتعليم القران الكريم وسائرا معه كما أراد المشرقى أن يسبق تعلم القران دراسة الشعر والأدب ، ولا أظن أن الاندلسى والمشرقى استطاعا إن يجدا حدودا فارقة بين هذا وذاك أثناء تلقيهما العلوم والمعارف الأولى .
وقد كان التعليم الخاص الذي لا تشرف عليه الدولة منتشرا في كل مكان في أندلس ، فكنت ترى في القرى الصغيرة ، كما في المدن الكبيرة ، ما يشبه المدارس الابتدائية اليوم ، أما في المراكز الهامة كقرطبة وإشبيلية وطيلطلة وسرقطة فكنت ترى حلقات التعليم على مختلف درجاته منتشرة في المساجد . وكان هناك مدارس يشرف عليها أساتذه قديرون إلا انه لم يكن في الأندلس مدرسة جامعية على نمط المدرسة النظامية التي أسست ببغداد سنة 457هـ 1065م هذا وقد خسرت قرطبة مركزها الثقافي بعد زوال الخلافة عنها ، وأصبحت المراكز الثقافية موزعة بين طوائف الملوك ، فكان لكل بلاط مركز من مراكز الثقافة .
وجل هذه الثقافة كانت ترمى لجعل الاندلسى أدبيا ، شاعرا أو كاتبا وإذا ما نظرنا إلى المؤلفات التي كان بتداولها الأندلسيون تحقق لنا هذا القول .
فما هي هذه المؤلفات التي كان يقرؤها الأندلسيون ؟ سيجيبنا عن هذا السؤال أبو بكر محمد بن خير ، الأديب الذي توفى سنة 575هـ وترك مؤلفا هاما عنوانه ((الفهرسة)) يبين لنا فيه الدراسات والمؤلفات الشائعة في عصره ، عصر ازدهار الأدب في الأندلس ، ويمكن أن نعتبر هذه المؤلفات مقروءة في مختلف العصور الأندلسية مع بعض الزيادة والنقص .
لقد خصص مؤلف هذه الفهرسة مكانا كبيرا لكتب الحديث التي كان يتأولها الناس وكانت شائعة في عصره . وقد كان اهتمام الأندلسيين بالحديث كبيرا منذ بادئ أمرهم ، ولا أدل على ذلك من كثرة من ترحل منهم إلى المشرق في طلب الحديث والوقوف على أمهات دواوينه وتلقيها عن جامعيها أو من رووا عنهم . ولذلك ليس غريبا أن نرى ابن خير يهتم بها في فهرسته .
إلا أن القسم الذي خصصه اذكر المؤلفات الأدبية هو الذي يهمنا وهو الذي يطلعنا على ثقافة الشاعر والأديب ويعبر عن ميولهما . ونلاحظ أن احدث كتاب يذكره المؤلف في هذا القسم هو كتاب سقط الزند وللزوميات للمعرى ، وهذان الكتابان لا يبعد أن يكونا قد وصلا إلى الأندلس في حياة المعرى أو بعيد وفاته .
يمكننا أن نصنف هذه الآثار الأدبية التي يذكرها ابن خير في عدة زمر :
زمرة المختارات والدواوين ، وزمرة طبقات الشعراء ، وزمرة كتب الأدب ، وزمرة كتب اللغة والنوادر ، وزمرة كتب النحو .
فمن كتب المختارات المعروفة نشير إلى المعلقات مع شرح ابن النحاس النحوي المتوفى سنة 337 هـ ثم إلى المفضليات، والاصمعيات ، وكتاب الحماسة لأبي تمام ، وأشعار الهذليين ، والنقائض بين جرير والفرزدق ، وكتاب اليتيمة للثعالبى
أما الدواوين الشائعة فهي : ديوان ذي الرمة ، ويذكر المقرى أن أبا بكر بن زهر كان يحفظ هذا الديوان ويقول انه يحوى ثلث مفردات اللغة العربية ، ودواوين الأعشى وأبى تمام والمتنبي والصنوبرى ( المتوفى سنة 334هـ). وسقط الزند واللزوميات للمعرى ، وديوان أبى العتاهية . والى جانب هذه الدواوين يجب أن نشير أيضا إلى الدواوين التي جلبها أبو على القالى من الشرق عندما رحل إلى الأندلس وهي تشمل معظم الشعراء الشرقين المعروفين لعصره ( وقد أشار إليها ابن خبر ).
أما كتب (( طبقات الشعراء )) التي تضم عادة مختارا من القصائد مع نقد موجز ، فلم تكن عديدة ، ويذكر ابن خير منها كتاب الطبقات لابن قتيبة ( المتوفى 276هـ ) وكتاب الطبقات لابن النحاس ( المتوفى 337هـ )
ومن كتب اللغة لا يذكر ابن خير سوى كتاب الميسر والقداح لابن قتيبة والكامل للمبرد .
أما كتب النوادر فيذكر منها كتاب النوادر لعلى بن حزم الليحاني والنوادر لأبي زيادة الكلابى والنوادر للحصرى .
ويذكر من كتب الأدب كتاب زهر الآداب للحصرى وكتاب الآداب لابن المعتز
**********
لاشك أن قائمة ابن خير هذه بعيدة عن أن تكون تامة . فهي لا تشير إلا إلى عدد ضئيل من الكتب المعروفة والمقروءة في عصره ، وإذا كانت جميع الكتب التي ضمها مكتبة الحكم الفخمة ، قليلة عدد النسخ ، بعيدة عن أن تكون في متناول عامة الناس ، فإننا نزعم أن عددا منها كان يتداوله الأدباء المقربون من البلاط الأموي ، وان هذا التراث الأدبي ، عندما سقطت خلافة قرطبة لم يفقد بأجمعه ، وقد أدى التوزع السياسى الذي عقب هذا السقوط توزعا أدبيا ، وتبعثر مابقى من مكتبة الحكم في مكتبات ملوك الطوائف وفي المكتبات الخاصة لبعض متذوقي الأدب .
ويمكننا أن نعتقد بان كتاب الأغاني الذي كان الحكم قد اشترى نسخة من نسخة الأولى كان يقرا في حلقات بعض مدرسي الأدب . الم يزعم بعض المؤرخين وهو عبد الوهاب المراكشى في كتابه ( المعجب في تلخيص تاريخ المغرب ) أن ابن عبدون كان في شيخوخته يتلو الأغاني عن ظهر قلب ؟ ومهما يكن من أمر فإن الذي يبدو لنا هو أن كتاب الأغاني قد لاءم – وهذا شئ طبيعي – ذوق الأندلسيين وميلهم للشعر والموسيقى ، وعلى رغم قلة النسخ التي كانت قيد التداول فقد اثر تأثيرا كبيرا في الأوساط الأدبية وحلقات السمر المرهفة التي كانت منتشرة في الأندلس وهناك إشارات كبيرا في الأوساط الأدبية وحلقات السمر المرهفة التي كانت منتشرة في الأندلس وهناك إشارات في نفح الطيب تفيد أن هذا الكتاب قد قلده بعض الأندلسيين ، فقد ألف يحيى الحدج أديب مرسية كتابا على نمطه يدعى كتاب الأغاني الأندلسية ، وان أبا الربيع احد أمراء دولة الموحدين وحاكم سجلماسه قد وضع له موجزا
وهناك مؤلفات أخرى هامة لدراسة اللغة العربية وآدابها لم يشر إليها ابن خير في ((فهرسته)) ولكن لدينا وثائق تؤيد انتشارها في الأندلس ، من هذه الوثائق رسالة ابن حزم والحكايات الكثيرة التي يرويها المقرى في نفح الطيب . وأننا ذاكرون الآن أهم هذه المؤلفات وهى : النوادر لأبي علي القالى وأماليه وقد أملاهما في الأندلس نفسها ، الكتاب لسيبويه وقد اهتم به أهل الأندلس وتدارسوه وشرحه شارحا مطولا ابن المناصف (1) وكذلك فصيح ثعلب كان له قارئوه من الأندلسيين أما كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت فلم يكن له قراء عديدون ومع هذا فقد كان ابن سيده يحفظه . وهناك كتاب نال حظوة كبيرة لدى الأندلسيين هو كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام الهروى ( وفاته سنة 223هـ ) المسمى (( الغريب المصنف )) فقد قراه أبو علي القالى وحفظه ابن سيده وقرظه ابن حزم فقال انه أكمل كتاب لمعرفة اللغة العربية .وقد حدث مرة أن استعصت على الشاعر الأبيض قضية لغوية فاقسم أن يقيد نفسه ، كما فعل الفرزدق ، حتى يحفظ هذا الكتاب قضية لغوية فاقسم أن يقيد نفسه ، كما فعل الفرزدق ، حتى يحفظ هذا الكتاب ولما رأته والدته على هذه الحال تساءلت عما إذا كان أصاب ابنها مس من الجنون .
وهناك كتاب آخر لابن قتيبة ذكره ابن خير في فهرسته وكان شائعا أيضا هو ((أدب الكاتب )) وقد شرحه ابن السيد البطلوسي احد نحاة بجاية في القرن الحادي عشر الميلادي ، أما الكامل للمبرد فقد اقبل الأندلسيون على دراسته بكثير من الشغف والاهتمام ، وقد جاء به ابن أبي علاقة من الشرق في زمن الحكم المستنصر ، فنال شهرة كبيرة وطفق أدباء الأندلس يتدارسونه ويشرحونه ، وحفظه عدد كبير منهم نساء ورجالا . وقد حملت هذه الشهرة بعض اللغويين في الأندلس أو من القادمين إليها على تقليده فألف صاعد اللغوي ، وهو نحوي شهير قدم الأندلس زمن طوائف الملوك كتابا اسماه (( كتاب الفصوص )) حذا فيه حذو المبرد في الكامل .

ومن البديهي أن ابن خير لم يسجل في فهرسته جميع المؤلفات الأدبية التي كانت تدرس في عصره وفي العصر الذي سبقه مباشرة ، ولذا كانت الإشارات التي يذكرها في هذا الصدد اللغويون وعلماء البلاغة والأدباء كانت ذات قيمة هامة ولا سيما إشارات ابن رشيق صاحب كتاب العمدة .
أما أبو نواس فهو في طليعة الشعراء الذين اهتم الأندلسيون بهم واستساغوا شعرهم وأحبوهم . أما ابن الرومي فكانوا ينظرون إليه نظرتهم لشاعر هجاء ، ويعجبون بوصفه للطبيعة ويحفظون له أشعاره في تفضيل النرجس على الورد ، وقد نظم في هذا المعنى كثير من شعراء الأندلس أشعارا تعارض ابن الرومي .
وكذلك البحتري فقد كان محط إعجاب الأندلسيون ، وقد لجئوا إلى طريقته في النظم ، حتى أن ابن بسام عندما وصف شعراء الأندلس لم يجد لمدحهم غير تشبيههم بالبحتري فقال ما معناه :
(( وكانت طريقهم في النظم مثالية فهى طريقة البحتري في رقته وجزالته وعذوبته وشدته))
أما المتنبي ، وقد ملأ الدنيا كما يقول ابن رشيق ، قد وصل تأثيره إلى المغرب الإسلامي وبخاصة الأندلس . وإذا كان لم يستطع أن يطمس اثر البحتري وابن المعتز فقد استطاع أن يشغل أذهان الناس وأضاف إلى قوة النظم فكرة الفيلسوف ، حتى أصبح ديوانه موضع اهتمام ودراسة ، فشرحه الإفليل المتوفى سنة 441هـ وابن سيده المتوقي سنة 458هـ .وذكر ابن بسام عددا من أشعاره التي نسج على منولها كثير من شعراء الأندلس . ويظهر أن المعتمد هو أول ملك من ملوك الطوائف اهتم اهتماما كبيرا بالمتنبي ، حتى أن إعجابه بشاعرنا العربي الكبير قد أزعج الشعراء المحيطين به .
ولم تقف اسبانيا المسلمة عند المتنبي فقط في إعجابها ، بل هناك شعراء شرقيون آخرون قد جلبوا انتباهها ، فابن خفاجة الذي يعد شاعر الطبيعة الأول في الأندلس والذي لم يكن سوى مقلد عبقري ، يعرف بأنه مدين في أكثر وحيه إلى شعراء مشارقة كالشريف الرضى الموسوى ( وفاته 428هـ ) .

وعبد المحسن الصورى ( وفاته 419هـ ) ومهيار الديلمى ( وفاته 428هـ ) . ولا يصعب علينا أن نبين ما أخذه عن البحتري والصنوبرى(2) من معان وأخليه تتعلق بوصف الطبيعة ، حتى انه كان يلقب بصنوبرى الأندلس .
ويدهشنا إلا يذكر ابن خير للمعرى غير سقط الزند و اللزوميات بينما نلاحظ أن رسالة من رسائل أبي العلاء المسماة (( الصاهل والشاجح )) قد قلدها احد أولاد الاندلسى ابن عبد الغفور تحت عنوان (( الساجعة )) وهذا الأمر ذكره ابن خافان في المطمح والمقرى في نفح الطب ، ونص هذه الرسالة لا يوجد إلا في الذخيرة ولهذا نستبعد ألا تكون هناك مؤلفات أخرى لأبي العلاء قد عرفها الأندلس (3) . هذه هي أهم المؤلفات التي كان يدرسها الشاعر والأديب ورجل الفكر في الأندلس ، وكان من جراء تأثير اختلاط الأندلسيين بالبيئات الأجنبية المحيطة بهم أن انتقل إليهم كثير من النزعات الإنسانية فجعلت لهم تفكيرا خاصا تميز بنزعة إنسانية جديدة ظهرت فيهم تحت تأثير اطلاعهم على الآثار اليونانية التي انتقلت إليهم من الشرق أحيانا وعن طريق الغرب والاسبانيين أحيانا آخر . فائتلف حبهم للعلم مع حبهم للآداب ، وأرهفت الفنون ذوقهم الشعرى ، وأخذت الصفات الحربية تضعف فيهم وشرعوا ينظرون إليها كشئ يمكن إهماله بجانب المشاغل الفكرية . فلا تعجب بعد هذا إذا رأينا الشاعر الاندلسى يحي الفكرية القديمة ويطبعها بطابع أنساني كنتيجة للأثر المسيحي الروماني الذي أحاط به وسنرى أن الأدب الاندلسى قد استطاع أن يتلون بهذا اللون الجديد دون أن تمحى تقاليده الشرقية .
يشير المؤرخون إلى ان ابا عامر بن شهيد ( 382 – 426هـ ) كان مولعا بآثار المعرى حاذيا حذوه .ويقال انه عارض ( رسالة الغفران ) للمعرى برسالته( التوابع والزوابع ) التي أورد ابن بسام في الذخيرة أقساما كثيرة منها وقد افردها بالنشر بطرس البستاني عام 1951 في بيروت معتمدا على ما جاء منها في الذخيرة . ويزعم المستشرق بروكلمان أنها صنف قبل رسالة الغفران بعشرين سنة إلا أن بطرس البستاني يرى أنها لم تتقدم رسالة الغفران بأكثر من تسع سنوات ،و ليس لدينا ما يثبت ا نابا العلاء قد اطلع عليها .






الباب الثاني
الفصل الثاني
طبقات الشعراء
حياة الشاعر وشروطه الاجتماعية
أن الكتب التي ذكرناها بينت لنا مدى ثقافة الشاعر الاندلسى بشكل عام وبينت لنا أيضا لون هذه الثقافة . وقد رأينا كيف كان الشعر الدعامة الأولى لهذه الثقافة يتدارسونه مع القران الكريم أن لم نقل قبله ، وكيف كان الناس في الأندلس مطبوعين على قول الشعر مشغوفين به فهل كان الشعر ملكا لطبقة خاصة من الناس ؟
إننا إذا القينا نظرة على الشعب الاندلسى رأينا أن الشعر قد استطاع التغلغل في مختلف طبقاته ، فلم يقتصر على الأمراء وعليه القوم الذين اخذوا يدرسونه وينشدونه منذ شبابهم مستفيدين من ثقافهم التي جاءتهم عن طريق التعليم ، بل كنا نرى أناسا من عامة الشعب لا يعرفون القراءة والكتابة محرومين من الثقافة ينظمون الشعر ويتذوقونه , ولعل هؤلاء قد اكتسبوا هذه القدرة على النظم بعد أن تقدمت بهم السن ، وبعد أن اختلفوا إلى بعض الحلقات العلمية واستمعوا بدافع ميل شخصي عفوي إلى ما يقوله المتأدبون والعلماء في دروسهم فما فيهم ذوقهم الفطري فقد كان المدرسون يقبلون في حلقاتهم أي شخص كان على أن يكون لدبه الاستعداد الفطري لتذوق ما يسمع ، ومن هؤلاء الشعراء الأميين ابن لبال الامى أستاذ ابن عبدون .
ويمكننا أن نحشر العميان في زمرة الشعراء الذين لا يعرفون القراءة والكتابة وكثيرون في الأندلس الشعراء الذين يحملون لقب الأعمى أو الضرير أو المكفوف ويشير الصفدى في كتابه ( نكت الهيمان ) إلى عدد كبير منهم ، فمن امتازوا بالعلم والأدب ، كالنحوى ابن سيده الذي عاش في مرسية ، والشاعر الوشاح الأعمى التطيلى الذي عاش في تطيلة .
وهناك شعراء من أصل متواضع ، أو من أرباب المهن ، كانوا على جانب بسيط من الثقافة ، ويحدثنا ابن شاعر المعتمد ، وهو من أسرة متواضعة عن الفائدة التي يمكن أن يجنيها المرء من مخالطته هذه الجماعات الكادحة التي تسعى جاهدة في سبيل نبل قوتها اليومي ، وقد كان ابن عمار قبل أن يصبح شاعر المعتمد يخالط هذه الأوساط باحثا فيها عن موضوعاته الأدبية مدركا ما يمكن أن يستفيده الشاعر من صور جديدة وتشابيه مستمدة من واقع الحياة . وابن عمار هو الذي اكتشف الشاعر ابن جامع وقد كان صباغا في مدينة بطليوس . أما أبو تمام غالب بن رباح وهو حجام في قلعة الرباح فقد اشتهر بشعره الواقعى ونظم شعرا يصف الجروح و القروح وافتراس الطيور الجارحة لأحشاء القتلى وصفا واقعيا تشمئز منه النفس أحيانا .
ومن بين الشعراء الذين ابنثقوا في طبقات متواضعة ، يمكننا أن نشير إلى هؤلاء الذين كانوا يعيشون في الحقول وكانت مهنهم الزراعة ، ولا شك أن نشاطهم الأدبي كان ذا قيمة . فالحياة في الحقول ليست دائما عملا مرهقا ، أنها تترك فسحات للأحلام ، ولا نكون مغالين إذا قلنا أن الشعر الشخصي هو ما كان منبعثا عن أولئك الذين عرفوا الطبيعة وتحسسوا بجمالها . والميزة التي امتاز بها بعض شعراء الأندلس الذين تأثروا بالطبيعة كابن خفاجة مثلا هى أنهم لم ينظروا إليها كشئ خارج عن كيانهم بل وصفوها من خلال عواطفهم وأشركوها إحساسهم فجسموها وشخصوها ، وهذا ما فطن إليه الرومانتيكيون بعدهم ، ولاشك أن هذا الوصف العاطفي للطبيعة الأندلسية قليل إلى جانب الوصف المادي إلا انه موجود كما سنرى ويجب أم يشار إليه عندما يبحث عن خصائص شعر الطبيعة في الأندلس . ونلاحظ أن جمال الطبيعة وقساوتها قد انتقلت إلى أشعار هؤلاء النفر من الشعراء الذين مارسوا حياة الحقل ، وهم هؤلاء الذين استطاعوا بعد أن انتقلوا إلى حياة المدن الناعمة أن يعبروا عن أفكار قوية بصور جديدة ملونة وهم الذين منحوا الشعر الاندلسى هذا اللون الحقلى ، لون الشعر الرعوى (1)القريب من أشعار بعض اليونانيين و الرومانيين . وهو شعر يصف الطبيعة والحياة القلية في رقة ظاهرة تذكرنا برقة أشعار الشاعر الغنائي اليوناني وهو ينشد نعيم الأرض وسعادة الطبيعة في كثير من الانطلاق والجمال . وعديدون الشعراء الأندلسيون الذين تفتحت عبقريتهم في أحضان الطبيعة ، فابن عمار نشا في الريف وقال فيه أول شعره ، وابن شرف أحس بشاعريته وهو في قريته برجة ، ومنهم من غادر قريته إلى المدينة ولكنه لم يستطع الابتعاد عنها نهائيا فعادوه الحنين إليها وفضل أن يقضى آخر أيامه فيها كما فعل الشاعر ابن مقانة الذي يتحدث عنه عبد الواحد المراكشى في تاريخه عن الموحدين .
وكذلك كنا نلمس ذوقا شعريا وشغفا كبيرا بالنظم في الطبقات العالية والارستقراطية فها هو ذا المظفر بن المنصور كان مشغوفا بالأشعار التي تصف الأزهار والمسماة بالنوريات وكان يقترح على الشعراء إن ينظموا في وصف الحدائق والحقول كما يقول المقرى . ولم تكن السياسة والحروب لتشغل الأندلسيين عن الاهتمام بالأدب ، فها نحن أولاء نرى المستظهر بالله ، وكانت خلافته زمن الفتنة ( توفى سنة 414هـ) يعقد مجالس أدبية يشترك فيها أدباء مشهود لهم بالمقدرة كابي عامر بن شهيد وأبى محمد بن حزم على رغم اضطراب الأمور من جراء العراك الشديد القائم ضد البرابرة وكذلك المعتضد فقد قرض الشعر ، ويحدثنا ابن بسام في دخيرته أن قصائده قد جمعت في ديوان ، أما ابنه المعتمد ، فقد كان صورة صادقة للشاعر الاندلسى ، وفي عهده أصبحت اشبيلية قطب الحركة الأدبية والشعرية ، واستطاع بنو عباد إن يجمعوا في دولتهم الزعامة السياسية والزعامة الأدبية . وكذلك بلاط المرية أصبح ملتقى الشعراء في عهد المعتصم بن صمادح أما بقية ملوك الطوائف فقد كان حبهم للشعر والأدب ظاهرة من ظواهر التباهى والتفاخر ، وأكثر من إن يكون حبا خالصا وذوقا شعريا مجردا ، ولهذا لا تعجب إن ترى المظفر ملك بطليوس يقول انه لا يقبل في بلاطه شاعرا يقل عن المتنبي أو المعرى ، وكان من جراء ذلك إن ابتعد الشعراء عنه أما الذين جاءوه فقد دفعوا الثمن وأراقوا ماء وجههم في مدحه والتملق له .
أما في غرناطة ، فيظهر إن الشعراء ، في بادئ أمرهم ، قد عاشوا في خوف دائم لا سيما في عهد الأمير باديس بن حبوس ، وإذا كان هذا الأمير قد أكرم الأدباء كغائم المخزومى فذلك انه كان يعتبرهم كفقهاء ، وقد ابعد كل من كان حرا فغي رأيه . ولكن الأمراء الذين خلفوا باديس كانوا على عكس ذلك فقد إكرام الشعراء والأدباء الين كانوا يتوافدون على غرناطة ، وكان من بينهم من ينظم شعرا ، حتى إن الأمراء البربرة ، كعلى بن حمود الناصر ، كان يلذ لهم إن يسمعوا الشعر ويحضوا الشعراء على نظمه ونحن نعلم ما تمت به غرناطة في أيامها الأخيرة من شهرة عظيمة وكيف كانت آخر نواة لقى فيها الشعر رواجا ومتعة ورخاء .
ولنقل إن الاهتمام بالشعر والأدب كان على نفس الشدة في بقية المراكز التي قام بها بلاط لطائفة من طوائف الملوك ، وإذا كان أمراء سرقسطة وطيلطلة قد امتازوا بحبهم للفلك وللعلوم الرياضية فما نحسب أنهم نوا على الأدباء أو قصروا في تشجيع الشعر والعطف على الشعراء .
أفلا يدهشنا إذا هذا الرواج للشعر في مختلف الطبقات الأندلسية ولا سيما في زمن ملوك الطوائف ؟ إن مثل هذا الرواج قد لا نجده في الشرق الإسلامي . فهو ظاهرة وطنية ساعدتها ظروف المحيط السياسية والاجتماعية والطبيعة ، حتى أصبح على فم كل إنسان فهو في نظر العامل والفلاح الاندلسى أنشودة تنسيه إتعابه ، وهو في نظر الوزير والأمير هرب من مشاغل السياسة والإدارة ، وهو في تنظر الشاعر الرسمي أو شاعر البلاط سبب للرزق ، ولكن على رغم هذا الطمع المادي الذي أبداه شاعر البلاط فإنه ما كان لينسى النواحي الفنية ، بل لعله كان يجبر الفن على الانطلاق لينال إعجاب الممدوح . ويمكننا إن تقول إن الشعر كان في نظر الاندلسى على الإطلاق رمزا للفخر ، وما كان الأمير ليجد في ممارسته غضاضة أو نقصا بل على العكس فخارا ومجدا ، ولهذا فالاندلسى رغب بالشعر للشعر ، لهذا التناسق الموسيقى الذي تختل عبه الشفاه والقلوب ، ولأنه كلام مجنح وموسيقى قبل إن يكون ألفاظا ، فهم يغنونه ولا يلقونه إلقاء .
والآن كيف يمكننا إن نختصر حياة الشاعر الاندلسى الذي نراه على الغالب منبعثا من أوساط متواضعة ؟ وما هي الطريق التي يجب عليه إن يشقها ؟ لاشك أننا نبعد أثناء الجواب عن هذا السؤال الشعراء والأمراء الذين لهم نمط خاص في حياتهم إنسانيتهم وأشواقهم التي لم يستطيعوا التخلى عنها أو تناسيها .
فالشاعر الاندلسى ، وهو على الغالب من منبت متواضع ، يمكن إن تختصر حياته بالكلمات الآتية : دراسة في قرية متواضعة ثم في مدينة كبيرة ، بعدئذ حياة هائمة قريبة من التشرد إلى إن يقترب من محسن أو أمير فيواتيه الحظ وينعم بالجاه والمكانة والمال وينغمس في حماة الدسائس .
ونرى أم أكثر الشعراء قد نشأوا في الأرياف وقد لقنهم بعض النحويين النظاميين علوم العربية والشعر ثم يقصدون المدينة . والحكايات في هذا الصدد كثيرو مبعثرة في المقرى وغيره من كتب الأدب ، فابن عمار عندما غادر قريته كان لا يملك إلا بلغته التي كان يمتطيها ، ومع هذا فقد أصبح وزيرا للمعتمد
والشاعر ابن فضل بن شرف عندما قدم على بلاط المعتصم بن صمادح في المرية كان في ثياب رثة أثارت ضحك رجال البلاط حتى تساءلوا من أية صحراء هو قادم
وهكذا فقد كان على الشاعر إن يجاهد للبحث عن المجد والمادة ، ولا سيما إذا كان من طبقة متواضعة . ولكن حياة المجد التي كانت تنتظر الشاعر الناجح هي التي كانت تحثه على العمل ومواصلة السعى ، وهو رغم سعيه ما كان ليخفى المصاعب التي تعرض سبيله ، فالشعراء كثيرون والنقاد متهيئون ومن الصعب لمن لا يتحلى بالعبقرية والثبات إن يفرع له طريقا في هذا المضمار الوعر . وكانت حياة الشعراء حياة تنقل ، فالشاعر يحمل إنتاجه الشعرى ويطرق أبواب الأغنياء والأمراء طلبا للجائزة وسعيا وراء المادة . حتى ولو استقر به المقام عند أمير من الأمراء فقد لا يكون هذا المقام طويلا ، ويضطر الشاعر ، وقد شعر إن ممدوحه قد مل معانيه وشعره ، إن يغادر بلاط هذا الممدوح إلى بلاط ممدوح آخر ، وهو يظهر تذمره وشكواه مما لاقاه ويتألم من ممدوحه الذي لم يستطع إدراك مزايا وهذا التنقل سنراه شائعا أيضا عند شعراء التروبادور . وشكوى الشعراء من سوء الطالع ومن سوء الناس وقلة فهمهم لهم ازدادت في زمن المرابطين . حتى رأينا ابن بقى يتهم اتهاما قويا المجتمع الذي لم يعد يقدر العبقريات ورجال الشعر ، ولا شك إن ابن بقى قد نظر هذه النظرة الشديدة لمجتمعه عندما شعر ببعض الإخفاق ، وكان إخفاقه طعنة آلمت شعوره وأثارت سخطه حتى وصف أفراد مجتمعه بالجهلة والقساة . ومهما يكن من أمر فحياة الشعراء لم تكن دائما حياة ضاحكة . بل هي كحياة أولئك التروبادور الذين كان عليهم إن ينشدوا ليعيشوا .
ولكن مهما اتصفت حياة الشاعر بالتنقل والتشرد ، فقد كان يعرف كيف يخضع نفسه الشروط معينة ولطاعة مذعنة عندما يصل إلى مدينة يحكم فيها أمير يرغب في الدخول تحت زعامته . وهكذا يطرق باب قصر الأمير ويخصص له صاحب الإنزال ( وهو موظف مخصص لإسكان الشعراء واستقبال ضيوف الأمير )
مكانا في ملحقات القصر ، وأحيانا في القصر ذاته عندما ينال الحظوة اللائقة التي تستدعى هذا الإكرام . وهنا تبدى حياة الشاعر مرتبطة بحياة الأمير ، لا يترك مناسبة تمر دون إن يوجه له مديحا يعدد فيه مناقبه وشجاعته وكرمه على طريقة الشعراء المشارقة مرددا معاني المدح التقليدية
وحياة شاعر البلاط في الأندلس لا تختلف في شي كثير عن حياة شاعر البلاط في الشرق ، ولا بد للشاعر بعد إن يدخل القصر ، إن يمثل بين يدي الأمير ليسمعه بعض شهره ، ويكون ذلك بمثابة امتحان له فإذا ما لاقى الشاعر استحسانا تمكن من البقاء . ومن الشعراء من استطاعوا إن ينالوا مرتبة عظيمة ويتقبلوا في المناصب العالية وتغدق عليهم الأموال بعد إن اخضعوا شيطانهم للمدح والاستجداء .
الباب الثاني
الفصل الثالث
الآثار الأدبية الأولى
وذكر لأشهر الأدباء والشعراء
ما إن تم للعرب فتح الأندلس حتى أخذت القبائل العربية تتقاطر عليها من أنحاء المشرق ، و لاسيما ديار الشام ، مستوطنة وكان بين هؤلاء النازحين من عرف بالشعر وارتاض بنظمه ، إلا إن من الطبيعي إلا نعتبر ما اثر عن هؤلاء الطارئين شعرا أندلسيا يحمل طابع الأندلس الخاص و ملامح الشخصية الأندلسية المتميزة ، إذ لا يعدو هؤلاء إن يكونوا جيلا مشرقيا تظهر في آثارهم مسحة المشرق ولا بد من تصرم حقبة من الزمن غير قصيرة لينشا جيل اندلسى طبعه الجو الجديد بطابعه وظهرت في تكوينه أثار طبيعية الأندلس ومناخها على نحو مستقل .
على إن هذه الاجذام العربية النازحة ، وما انحدر منها من سلالة أندلسية كانوا ، في واقع الأمر ، وأول تاريخ الأدب في الأندلس (( وقلما تجد في الأندلسيين شاعرا مفلقا أو كاتبا بليغا أو عالما ضليعا إلا ونسبه في قبيلة من تلك القبائل العربية
هذا ، وقد حفظت لنا كتب الأدب طائفة مما اثر من شعر هؤلاء النازحين وفي طليعة هؤلاء عبد الرحمن الداخل الذي وطد الملك لبنى مروان في الأندلس فالمقرى يذكر له خطبا ورسائل تشبه في أسلوبها خطب الأمويين ورسائلهم في آخر أيامك دولتهم بالمشرق ، ويذكر له فوق ذلك شعرا يتمتع برقة الشعر الأموي وجزالته . زمنه ما بعث به إلى أخت له بالشام يصف فيه شوقه إليها وحنينه إلى بلده ووطنه الذي فارقه موجع القلب فارا من سيوف العباسيين ، قال :
أيها الراكب الميمم أرضى إقر بعض السلام عنى لبعض
انج سمى كما تراه بأرض وفؤادي ومالكيه بأرض
فالشاعر الرسمى عبد لصنعته وسيده ، وكلما خضع لدواعي مهنته كشاعر بلاطك تضاءلت شخصيته ، ولكن هناك شعراء استطاعوا إن يلائموا بين مهنهم ووحيهم الشخصى ، ومنهم من استطاعوا أحيانا إن يفروا من دواعي المهنة ويتزكوا لطبعهم فرصة التحليق في أجواء الخيال والتعبير عن هواجس النفس دون قيد أو أكراه .
ولا تنتظر من شاعر البلاط إن يقدم لنا صورا جديدة أو شعرا ينحدر إلى أعماق القلوب ما دان خاضعا لسلطان المهنة ودواعيها ، بل لنبحث عنها في الشاعر الشخصى الذاتي الذي لم يخضع شيطانه للمال بل جعله طوع قلبه وعاطفته وهواجسه ويمكننا إن نخم هذا البحث قائلين إن الشاعر الاندلسى في صفتيه الرسمية والذاتية قد استطاع إن يرضى ممدوحه ونفسه وفنه .
قدر البـين بيننـا فـافترقنا وطوى البين عن حفوني غمضى
قـد قـضى الله بالـفراق فعسى باجماعنا سوف يقضى (1)
ومنه أيضا هذه الأبيات التي نفيض بالحنين والشوق والتي قالها في نخلة فريدة في حديقة قصره بالرصافة الذي بناه على نسق رصافة الشام ، فهاجت شجنه وأثارت كوامن عاطفته :
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت : شبيهى في التغرب والنوى وطول التنائ عن بنى وعن اهلى
نشأت بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتائ مثلى
سقتك غوادى المزن في المنتاى الذي يصح ويستمرى المساكين بالويل
وقد كان ابن عنه الأمير عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي من الذين فروا من الشام خوفا من المسودة ، وقد مضى إلى الأندلس فولاه عبد الرحمن على اشبيلية ، وكان يقول الشعر ، وقد رووا له أيضا أبياتا قالها في نخلة فريدة رآها بحديقة باشبيلية فتذكر وطنه وحن إلى أهله ، قال :
يا نخل أنت فريدة مثلى في الأرض نائبه عن الأهل
تبكى ، وهل تبكى مكممة عجماء لم تجبل على جبلى
ولو أنها عقلت إذا لبكت ماء الفرات ومنبت النخل
لكنها حرمت وأخرجنى بغضى بنى العباس عن اهلى
وهذه الأبيات تنسب أيضا لعبد الرحمن ، وهى كما ترى تم عن قوة ورقة كانت طابع الاندلسى في جميع أطواره .
وقد أصبحت قرطبة في زمن عبد الرحمن ومن عقبه من الأمراء مركز الحركة العلمية والأدبية في الأندلس ، فتواعد إليها الكثيرون من المشرق يعرضون إنتاجهم وشعرهم وحدث اتصال ادبى ، شرقي غربي ، ولكن قرطبة كانت تترسم خطى بغداد في نهضها وكان المشرق قبلة الأندلس ، وقد رأينا كيف كان الأندلسيون يعيشون على الثقافة الشرقية فلا يكاد يعرف كتاب في المشرق حتى يطلب إلى المغرب ورأينا كييف كان الأندلسيون يرتحل والى المشرق في طلب العلم والأدب والرواية ثم يعودون فينشرون هذا العلم والأدب في الأندلس
وهكذا كان الأدب حتى أواخر الدور الأموي وسقوط الخلافة أدبا وافدا على الأندلس يتذوقه الأندلسيون ويقلدونه ، وكانت خطبهم ورسائلهم لا تختلف كثيرا عن خطب المشرق ورسائله أواخر العصر الأموي وصدر العصر العباسي . ولم يكن هناك جدة في إشعارهم إلا ما تقتضيه طبيعة إقليمهم من وصف للرياض والبساتين والنشآت التي استحدثها ملوكهم ، وبقيت أكثر الأغراض الشعرية التقليدية تحتذى نماذج مشرقية ، وكثرت فيما بعد الألقاب التي تشير إلى إن هم شعراء الأندلس إن يجاروا الفحول من شعراء المشرق
زرياب والنهضة الغنائية :
يستدل من الأخبار التي يرويها المقرى إن عبد الرحمن الداخل قيد استقدم إلى الأندلس الجاريات المحسنات للغناء ، منهن فضل المدنية ، وبذلك يكون أول من شجع رحلة الغناء إلى الأندلس.
ويعد زرياب المغنى رأس النهضة الغنائية الأندلسية ، وهو اثر من أثار الحضارة الشرقية التي وفدت إلى الأندلس عن طريق من جاءها من المشارقة . وزرياب هذا ظهر في بغداد واخذ الغناء عن اسحق الموصلى حتى برع فيه ، وقد رأى اسحق إن يسمع الرشيد غناءه فسمعه وأعجب به وأوصى إن يعتنى بشأنه فما كان من اسحق إلا إن لحقته غيره منه وخاف من منافسته فأوعز إليه إن يترك العراق وفي ذلك يقول المقرى : ( فسقط في يد اسحق وهاج به من داء الحسد ما غلب على صبره فخلا بزرياب وقال يا علي إن الحسد أقدم الأدوار واحدواها ، والدنيا فتانة ظ، والشركة في الصناعة عداوة ولا حلية في حسمها ، وقد مكرت بي فيما انطويت عليه من أجادتك وعلو طبقتك ، وقصدت منفعتك ، فإذا أنا أتيت نفسى من مأمنها بإدنائك ، وعن قليل تسقطك منزلى وترتقي أنت فوق وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو انك ولدى ، ولولا رعي لذمة تربيتك لما قدمت شيئا على إن اذهب نفسك يكون في ذلك ما كان ، فتخير في ثنتين لا بد لك منهما : أما إن تذهب عنى في الأرض العريضة لا اسمع لك خبرا بعد إن تعطني على ذلك الأيمان الموثقة ، وأنهضك لذلك بما أردت من مال وغيره ، وإما إن تقيم على كرهى ورغمى مسهدفا إلى فخذ الآن حذرك منى فلست والله أبقى عليك ولا ادع اغتيالك باذلا في ذلك بدنى ومالى ، فاقض قضاءك . فخرج زرياب لوقته وعلم قدرته على ما قال واختار الفرار قدامه ، فأعانه اسحق على ذلك سريعا ، وراش جناحه ، فرحل عنه ومضى يبغي مغرب الشمس
ويترك زرياب بغداد ويقصد الأندلس فيصل إليها في أول إمارة عبد الرحمن الثاني سنة 206هـ / 822م فيستقبله الأمير استقبالا فخما ، وينزله في قصر من أحسن القصور ، ويكومه ويقدمه على جميع المغنين .
إن النهضة الغنائية التي أحدثها قدوم زرياب إلى الأندلس دامت طويلا وكان لها أثر كبير في الشعر الأندلسي وفي اختراع الموشحات والزجل . وزرياب هو الذي زاد في الأندلس على أوتار العود وتراً خامساً وكانت أربعة قبل عهده , وهو الذي اخترع مضراب العود من قوادم النسر , وهو الذي سن لأهل الأندلس سنناً في آداب الاجتماع أخذت عنه ونسبت إليه , فقد روى أنه علم الأندلسيين طريقة جديدة لتصفيف الشعر وترتيبه شاعت عنه , وعرفهم ألواناً جديدة من الطعام , وهو أول من اجتنى بقلة الهليون المسماة بلسانهم الأسفراج , ولم يكن أهل الأندلس يعرفونها قبله , وهو الذي دلهم على فنون جديدة في الطعام وفي ترتيب المائدة , وأرشدهم إلى اتخاذ آنية الذهب والفضة ,ونقل إليهم أزياء من اللباس وغير ذلك من الأمور التي تدل على ذوقه المرهف وتعكس أثر الحضارة المشرقية .
وقد استطاع زرياب أن ينقل غناءه إلى أكثر بقاع الأندلس , بفضل أبنائه وجواريه الذين وفدوا معه وتلقوا على يده صناعته وحفظوها ونشروها وقد كان لهذه النهضة الغنائية فيما بعد أثرها في موسيقى الغرب أيضاً وفي شعره الغنائي .
وجاء بعد زرياب أبو بكر بن باجة الغرناطى مؤلف الألحان فكان أن ارتقى على يده علم الموسيقى وأتم نهضة زرياب الغنائية .
هذه النهضة الغنائية التي وفدت من الشرق وتطورت بتأثير الحياة الجديدة , كانت تجارتها نهضة أدبية استقت أصولها من الشرق ثم أخذت تتطور رويداً وبتأثير الاتصال الذي جرى بين العناصر المختلفة .
وقد رانيا كيف اقل الاسبانيون على حضارة العرب يغترفون منها ، وعكفوا على اللغة العربية يتدارسونها ولاسيما بقرطبة عاصمة الملك حتى هال أسقفها الفارو Alvaro هذا الأمر ، فكتب يشكو انه لا يجد بين الألوف من أبناء طائفته من يستطيع أن يكتب رسالة باللاتينية المقبولة بينما يتقن الكثيرون العربية وينظمون الأشعار فيها بمهارة لا تقاربها العرب أنفسهم (1) ولا شك في إن التساهل











الباب الثالث
الشعر الأندلسي
الباب الثالث
الفصل الأول
سمات الشعر الأندلسي
دخول العرب إلى الأندلس:
يا أهل اندلس لله دركم ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجار
ما جنة الخلد إلاّ في دياركم ولو تخيرتُ هذا كنت أختار
ما إن انتهى موسى بن نصير من فتح بلاد المغرب العربي حتى كلّف أحد قادة الجيوش طارق بن زياد بالعبور إلى مضيق الجبل المسمى باسمه والانطلاق إلى بلادٍ جديدة تتميز بالسحر والجمال والخير الوفير.
ذلك أن ملوك القوط وعلى رأسهم الملك (لذريق) كانوا قد سيطروا على البلاد سيطرة ظلم وحاولوا إجبار اليهود المقيميين في تلك البلاد على التنصر، فما جعل هؤلاء اليهود يتعاونون مع الفاتح الجديد ويقدمون له الخدمات ويقودون الجيوش الجديدة إلى مدن الأندلس إضافة إلى أن (يوليان) أحد ملوك مدن المغرب الساحلية قد اراد الانتقام لابنته التي كانت تعمل وصيفة في بلاط الملك (لذريق) والذي انتزع هذا الملك عفتها بحيث جعل (يوليان) يقدم السفن للعرب الفاتحيين ناهيك عن أنّ العرب أنفسهم كانوا يحملون رسالة القرآن إلى البلاد الجديدة التي يريدون فتحها ولم يمض عام (592هـ) حتى أصبح الأندلس إمارةً عربية كرّست بناء الدولة إذ أنه أعاد الخلافة الأموية إلى الأرض الأندلسية بعد غيابها من الأندلس.
وهكذا استقر العرب المسلمون في تلك البلاد وسموا مدنها باسم مدن المشرن، ونهضوا بعمرانها نهضة قوية وحاولوا مطاولة الخلفاء العباسيين من حيث مقاومة الافرنج والوصول إلى مشارف مدينة (باريس) في معركة (بلاط الشهداء) .
ومن حيث بناء المدن والقصور التي ما تزال شامخة إلى يومها هذا كقصر الحمراء.
ومن حيث الاتقاء الثقافي المعرفي والأدبي حيث تشكلت نهضة كبيرة في الأدب والدين والفلسفة والغناء والموسيقا.
العوامل المؤثرة في تكوين الأدب الأندلسي:
اتكاء العرب في الأندلس على الأصول الموروثة لديهم بحيث اقتدى أدباء الأندلس بأدباء المشرق بكل كبيرة وصغيرة.
تأثير الطبيعة الأندلسية والعقلية في هؤلاء الفاتحين بحيث جعلت عروقهم تجري دماءً جديدة .
سمات الشعر العربي في الأندلس:
باعتبار أن أعراب الأندلس قد حاولوا مجاراة المشارقة في أدبهم العربي، فقد استم شعرهم بسمات قريبة من سمات الأدب العربي في العصر العباسي وعلى رأس هذه السمات:
1-الغنائية العربية البعيدة عن الشعر التمثيلي والملحمي وما نجده م نزعات قصصية أو حوارية أو تعليمية في هذا الأدب على يد ابن حمديس وابن عبد ربه، ليست إلاّ محاولات عارضة غير مبنية على أسس فنية.
2-الكتابة في أغراض المديح والرثاء والهجاء والوصوف والحكمة والغزل واللهو والمجون والزهد والتصوف على غرار الأدب العباسي.
3-تقليد المشارقة في المعاني والأساليب حتى أوائل القرن الخامس الهجري كما في شعر ابن عبد ربه وابن شهيد وابن درّاج القسطلي.
4-تمثل البيئة الجديدة، والأخذ التجديد منذ أوائل القرن الخامس الهجري حيث أخذ الشعر يصور الحياة الجديدة كما عند ابن زيدون والمعتمد بن عباد وابن حمديس و ابن خفاجة ولسان الدين بن الخطيب.
5-تطرف الأندلسيين في وصف الرياض والأزهار ومجالس المجون وقصور الخلفاء وفي شعر الزهد والتصوف والعزوف عن الدنيا.
6-ظهور فنون جديدة كرثاء الممالك والمدن الزائلة .. والشكوى والموشحات.
7-جاءت المعاني عندهم بسيطة، بعيدة عن الإغراب في الفكر أو معالج الفلسفة والكلام.
8-اتسمت الصورة الفنية باللطف والاتكاء على الثقافة العربية والشعر الجاهلي والإسلامي.
9-اتخاذ نهج القصيدة العربية أسلوباً له مع استبدال المقدمة الطلبة بوصف الطبيعة.
10- بقي للبيت عندهم وحدة مستقلة بمعناه.
11- أكثر الشعراء من الصنعة والزخرف وفنون البديع و البيان.
12- اتسمت اللغة بالرشاقة والسهولة ، وبقيت أضعف من لغة المشارقة وأكثر دقة ورقة منها.
13- أثرت الموسيقا والغناء في الشعر الأندلسي، وأكثر الشعراء من النظم على البحور القصيرة والمجزوءة والصالحة للغناء والرقص ونظموا (المزدوج – المخمس – الموشحات- الأزجال).
ملاحظة:
كثرت الشاعرات في هذا العصر بسبب الحياة الناعمة والحرية والانطلاق، فبرزت شواعر مثل (ولادة بنت المستكفي- عائشة القرطبية- نزهون الغرناطية – هند جارية الشاطي و... الشاعرة الشلبية .

الباب الثالث

الفصل الثاني
أغراض الشعر الأندلسي
كتب الأندلسيون في موضوعات شتى نقلوا بعضها معهم من المشرق واستحدثوا بعضها الآخر في الأندلس، فكان بعضها تقليداً وكان الآخر مستجداً، وأهم هذه الأغراض:
1 ـ المديح:
نظراً لمطاولة الشعراء الأندلسيين للشعراء المشارقة، فقد وفدوا على ملوكهم وأمرائهم يمدحون طالبين الكسب و باعتبار أن الصفات التي يمتدح بها الملوك انتقلت معهم من المشرق فقدحافظ شعراء المدح على الأسلوب القديم وعني هؤلاء.
وربما بدأوا بالغزل أو وصف الطبيعة أو وصف الخمرة ومن أشهر شعراء المديح – ابن زيدون – ابن شهيد – لسان الدين بن الخطيب – ابن هانئ الأندلسي.
الذي كان يقلد المتنبي، ويغالي في مدحه للخلفاء كما في قوله مخاطباً المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأن الواحد القهار
هذا الذي ترجى النجاة بحبه وبه يحطّ الاصر والأوزارُ
فكأنما أنت النبي محمدً وكأنما أنصارك الأنصارُ
2 ـ- الفخر والحماسة:
بقي شعر الفخر والحماسة قليلاً في الأدب الأندلسي بسبب ظروف الحياة الجديدة والتي لا يتناسب معها وجود الفرسان والبطولة، إذ أن رخاء العيش قد دفع الشعراء إلى اتجاهات أخرى، ولا نعثر على الفخر والحماسة إلا ما كانت في قصائد مدح الملوك ووصف المعادل، وقد يفتخر الشاعر بشعره، أو قد يفتخر بصبره على نوائب الأيام.
يقول ابن حمديس مفتخراً بشعره:
إني امرؤ ابني القريض ولا أرى زمناً يحاول هدم ما أنا باني
ويقول ابن زيدون مفتخراً بصبره:
فإن يجدب من الدنيا جنابٌ طالما أمرع
فما إن غاض لي صبر وما إن فاض لي دمع
3 ـ الرثاء:
وقد رثى الشعراء الأندلسيون الملوك والأمراء والقادة و أمهات الملوك وزوجاتهم وبناتهم وأصدقائهم مترسمين خطى المشارقة في طريقة الرثاء مع الإكثار من الحديث عن الأمم البائدة واستهلال المراثي بالحكم والتفجع على الموتى.
يقول ابن زيدون راثياً ابن المعتضد:
عمرت حيناً وماء المزن شكلين سواء
ثم ولت فوجدنا أوج المسك ثناء
جمعت تقوى إحساناً وفضلاً وزعاء
وتميز الأندلسيون برثاء الممالك الزائلة، فقد كانت بلدانهم تتساقط في أيدي الأعداء واحدة واحدة، وقد بكى أبو البقاء الرندي الأندلسي بأسرها.
يقول ابن اللبانة في سقوط اشبيلة:
نسيتِ إلا غداة التهز كونهم في المنسآت كأموات بألحاد
ساءت سفائنهم والنّوح يصحبها كأنّها إبل يحدو بها الحادي
ويقول أبو البقاء الرندي:
وهي الجزيرة أمرٌ لا عزاء له هوى له أحد وانهد ثهلان
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطبةٌ أم أين جيّان
ثم يدعو إلى القتال لاستعادة الأندلس:
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة كأنّها في مجال السبّ عقبان
أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ فقد سرى بحديث القوم ركبان
ثم يستنجد الشاعر ابن الأباء القضاعي بصاحب تونس لحماية تونس:
أدرك بخيلك خيل الله أندلساً إن السبيل إلى منجاتها درسا
واضرب لها موعداً بالفتح ترقبه لعلّ يوم الأعادي قد أتى وعسى
وقد تميز هذا اللون من الرثاء بالسمات التالية:
1- صدق العاطفة 3- الابتعاد عن التكلف
2- مرارة الوجدان 4- الواقعية في الوصف

4 ـ الهجاء :
لم ينقطع الشعراء الأندلسيون عن كتابة الشعر الهجائي بصورة عامة ، ولكن الهجاء يوجهه السياسي لم يكن رائجاً في الأندلس نظراً لقلة الأحزاب السياسية ، ولم يسجل المؤرخون هجاءً مصرياً أو يمنياً والسبب في ذلك مواجهة العرب الأندلسيين للفرنجة ، كما وأن الشعر الهجائي قد تحول إلى مواجهة الأعداء وبقي متجهاً إلى التكسب والتندر كما صنع ابن حزمون في هجاء نفسه عندما نظر إلى صورة وجهه في المرآة :
تأمّلت في المرآة وجهي فخلته كوجه عجوز قد أشارت إلى اللهو.
إذا شئت أن تهجو تأمل خليقتي فإن بها ما قد أردت من الهجو .
5 ـ الحكمة :
لم تكن الحكمة في الشعر الأندلسي تعتمد على التأمل ، بسبب عدم وجود ثقافات أخرى كالهندية والفارسية والسريانية عند الشعراء الأندلسيين وخاصة في القرون الأربعة الأولى إذ كانت الحكمة في شعرهم ساذجة وسطحية ومقلدة للحكمة المشرقية ، وأكثر الشعراء اهتماماً بالحكمة في الأندلس : ابن هانئ الذي قلّد المتنبي وقصر عنه ، وبقيت حكمته تدور حول الشكوى من الدهر والتحذير من الدنيا والاتسام بالابتذال والبعد عن النضج . يقول ابن هانئ :
إنّا وفي آمال أنفسنا طول وفي أعمارنا قصرُ
لنرى بأعيننا مصارعنا لو كانت الألباب تعتبرّ
6 ـ الغزل واللهو والمجون:
انتشر شعر الغزل واللهو والمجون في الحياة الأندلسية بسبب وجود أموال كثيرة، وطبيعة رائعة ومجالس خمر وغناء وقيان وقد كتب الشعراء الأندلسيون في ذلك ولكنهم ظلوا مقلدين للشعراء المشارقة ، يحنون إلى الأسلوب البدوي ، كما صنع ابن شهيد مقلداً لعمر بن أبي ربيعة:
وأخرى اعتلقنا دونهنّ ودونها قصورٌ وحُجّابٌ ووالٍ ومعشرً
يزينّها ماءُ النعيم ، وحقّها من العيش فينان الأراكة أخضرُ
وقد اعتمد شعراء الأندلس في وصفهم للمرأة على الأوصاف الجسدية (سهام الألحاظ – نرجس العيون – وصف الخد والجبين والقامة وأغرقوا في وصف أحلامهم وذكرياتهم واشتكوا من لوعة الشوق وعذاب الفراق ، وذموا العواذل ، واقتبسوا صورهم الشعرية من الطبيعة بحيث اتحدت الطبيعة مع المرأة في الوصف . يقول ابن زيدون واصفاً محبوبته بأنها راحته وعذابه
متى أبثك ما بي ؟ يا راحتي وعذابي
الله يعلم أنّي أصبحت فيك لما بي
فلا يطيب منامي ولا يسوغ شرابي.
وقد يخرج الغزل الأندلسي عن حدود الحياء أحياناً وينأى عن الوقار والحشمة كما في شعر ابن حمديس ، يقول ابن حمديس داعياً هند جارية الشاطبي إلى مجلس خمر وعزف عود:
يا هند هل لك في زيارة فتية نبذوا المحارم غير شرب السلسل
سمعوا البلابل قد شدوا فتذكروا نغمات عودك في الثقيل الأول.
ويقول ابن خفاجة في وصف مجلس خمر:
وجاء بها حمراء أما زجاجها فنور ، وأما موجها فكثيب
وغازلنا جفن هناك كنرجس ومبتسم كالأقحوان مشنبُ
7 ـ الزهد – التصوف:
كردِّ فعلٍ على ظهور شعر المجون والترف اندفع بعض الشعراء الأندلسيين إلى توجيه الناس إلى الزهد بدافع ديني ينطلق من وجود تيار الفقهاء في الأندلس، وبدافع تقليدي لتصوف وزهد المشارقة إضافة إلى ماوقع لأهل الأندلس من مصائب في بلدانهم جعلتهم يميلون إلى الطعن بغدر الأيام وذم الدنيا والابتعاد عن المعاصي، وترك زخارف هذه الدنيا وكبح جماح النفس.
يقول ابن عبد ربه ذاماً الدنيا:
هي الدار ما الآمال إلا فجائعٌ عليها ولا اللذات إلاّ مصائب
فلا تكتمل عيناك منها بعبرةٍ على ذاهب منها فإنك ذاهب
ويقول ابن حمديس ناصحاً نفسه في الكف من المعاصي:
وعظت للمتك الشائبة وفقد شبيبتك الذاهبة
وسبعين عاماً ترى شمسها بعينيك طالعة غاربة
فويحك هل عبرت ساعة ونفسك عن زلةٍ راغبة
ويقول محي الدين بن عربي متحدثاً عن الحب الإلهي:
سرائر الأعيان، لاحت علي الأكوان – للناظرين
والعاشق الغيران، من ذاك في حرّان ، بيدي الأنين.
8 ـ الوصف:
لم يخصص الشعراء الأندلسيون الوصف بقصائد مستقلة، وإنّما ظهر هذا الوصف في الأغراض الشعرية الأخرى، وأكثر ما وصف الأندلسيون الطبيعة المحيطة بهم ، ومظاهر العمران وقصور الخلفاء والجيوش والأسلحة والسفن يقول ابن هانئ في وصفه لأسطول المعز لدين الله :
أقاد الجواري المنشآت التي جرت لقد ظاهرتها عدّةٌ وعديد
قبابٌ كما تزجي القباب على المها ولكنّ من ضمَّت عليه أسودُ
عليها غمام مكفهرٌ صبره له بارقاتٌ جمةٌ ورعودُ
9 ـ الطبيعة:
انبهر العرب بجمال الطبيعة الأندلسية، ووقفوا مشدوهين أمام سحرها الذين بدا كأنه قطعة من الجنة، فوصفوها قائلين: (ابن خفاجه).
يا أهل أندلسٍ لله درّكم ماءٌ وظلٌّ وأنهارٌ وأشجارُ
ما جنة الخلد إلاّ في دياركم ولو تيخيَّرت هذا كنت أختارُ
لا تختشوا بعدها أن تدخلوا سقراً فليس تدخل بعد الجنّة النارُ
كما بوصف الأندلسيون الطبيعة المصطنعة من قبل الملوك والزعماء كقصر المنّصور، وحديقة القصر والأسود التي أقعت على أدبارها. (ابن حمديس)
وضراغم سكنت عرين رئاسةٍ تركت خرير الماء فيه زئيراً
وتخالها والشمس يجلو لونها ناراً وألسنها اللواحس نورا
فكأنما سلَّت سيوف جداولٍ ذابت بلا نار فعدن غديرا
ومن ذلك وصف الغروب لابن سهل الأندلسي الذي يذكرنا بوصف الغروب عند ابن الرومي:
انظر إلى لون الأصيل كأنه لا شك كون مودّع الفراق
والشمس تنظر فوه مصفرة قد خمَّشت خداً من الإشفاق
لا قت بخمرتها الخليج فألّفا خجل الصبا ومدامع العشاق
سقطت أوان غروبها محمره كالخمر خرّت من أنامل ساقٍ
ومن ذلك ما صنعه ابن زيدون في مزج الطبيعة بالغزل قائلاً:
يا نسيم الصبا بلّغ تحيتنا من لو على القرب حياً كان يحيينا
10- الشكوى والاستعطاف :
وهو الشعر الذي زفر به أصحاب المحن من الملوك والوزراء ممن أنزلهم الدهر على حكمه، وجعلهم في المكانة الحضيضة كما حصل مع المعتمد بن عبّاد الذي خلعه يوسف بن تاشفين واقتاده إلى سجن أعماق فقال شاكياً:
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءك العيد في أغمات مأسوراً
كرى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس لا يمكن قطميراً
يطأن في الطين والأقدام حامية كأنها لم تطأ مسكاً وكافوراً
11- الشعر التعليمي:
وقد كتب هذا الشعر لتعليم العلوم وتسهيل حفظها ومن ذلك أرجوزات من العروض والتاريخ لابن عبد ربه، والرائية للشاطبي في القرآن ورسم المصاحف.
12- شعر الحنين والشوق:
وقد استغرق هذا النوع كثيراً من طاقات الأندلسيين وخاصة في الرحلة الأولى لهم، فهذا عبد الرحمن الداخل يحن إلى المشرق قائلاً:
يا أيّها الراكب الميمم أرضي أقر من بعضي السلام لبعضي
إنّ جسمي ومالكيه بأرضٍ وفؤادي وساكنيه بأرض
قدّر البين بيننا فافترقنا وطوئ البين عن جفوني فمضي
كما وأنّ الأندلسيين حنوا إلى أطفالهم كما صنع ابن حمديس حاناً إلى أطفاله في المغرب:
وفرحٍ صغيرك لا نهوض كمثله يراطن أشكالاً ملاقطها صفرُ
يظنّ أباه واقعاً ماذا أبى وقوعاً عليه شبَّ في قلبه جمرٌ
من ذلك الحنين على الديار، وكما في قول لسان الدين بن الخطيب متذكراً زمان الأحبة في الأندلس بعد أن نفي إلى المغرب :
جادك الغيث إذا الغيث همي يا زمان الوصـل بالأندلـس
لم ينكن بوصـلك إلاّ حلمـا في الكرى أو خلسة المختلس
ومن ذلكما كتبه ابن زمرك حاناً إلى غرناطة:
الله حسبي لكم أقاسي من وحشة الصّحب والبنين






الباب الثالث
الفصل الثالث
شعر البحرية الإسلامية
لعل إفراد باب للحديث عن الأدب الأندلسي ملتحما بالبحرية من جانب , ومنشغلا ببكاء الإمارات ثم رثاء الأندلس كلها من جانب آخر أمر لا محيص من الاهتمام به أو الالتفات إليه , ذلك أن هذين الموضوعين معتبران من الميادين التي أثبت الشعر من خلالهما وجوده وأصل من منطلق الإبداع فيهما جذوره , إنهما موضوعان برزا في سماء الشعر الأندلسي ولمعا على صفحته , تماما كبروز شعر المرأة ولمعان وصف الطبيعة وشهرة إنشاء الموشحات , وإن أحد الموضوعين ممتع للنفس مبهج للقلب مؤنس للخاطر , وأما ثانيهما فهو على النقيض من ذلك تماما , إنه حزين كسيف , يدفع إلى الألم ويبعث على الأسى وينبش الأحزان التي حاول التاريخ أن يسدل عليها – وهما وتصورا – ستائر النسيان .
فأما الموضوع الأول الممتع المبهج المؤنس فهو وصف البحرية الإسلامية العربية في الأندلس , ومرافقة الأساطيل الفخمة الضخمة الظاهرة المتأبية في غزواتها وهي تذرع البحر الأبيض والمحيط الأطلنطي جيئة وذهابا تؤمن الثغور البحرية وتطارد الأعداء وتردع المغامرين . صحيح أن البحرية الأندلسية نمت وترعرعت بعد أن كانت البحرية الإسلامية قد استوى عودها في المشرق بحيث جعلت من البحر الأبيض المتوسط كله بحيرة إسلامية , وبحيث انتصر الأسطول الفاطمي المظفر في وقعة (( المجاز )) على الأسطول البيزنطي التابع لقيادة أقوى العسكريين البيزنطيين وأكثرهم عتوا , ونعني به نيسيفور فوكاس أو نقفور بن الفقاص كما ينطقه ويكتبه المؤرخون العرب . وصحيح أيضا أن شعرا بليغا قيل وفي وصف الأساطيل في المشرق , شأن كسل فنون الشعر الأندلسية – فهي كلها مسبوقة في المشرق – ولكن الذي يدعونا إلى الوقوف عند شعر البحرية الأندلسية هو ذلك الطعم الجديد الذي خرج به علينا الفنان الشاعر في الأندلس في نطاق الصيغ العديدة ومن خلال الوفرة في القول والبركة في الحصاد
وأما الموضوع الثاني الحزين الكسيف فهو موضوع رثاء المدن والبكاء على الدول , وهل هناك أغلى على العربي والمسلم من الأندلس , الجنة الأدبية الفكرية الثقافية , والقلعة العسكرية الاقتصادية المتأبية على الهزيمة الممتنعة على الأعداء التي نشأ في ربوعها أعز وأطول وأغنى مملكة عربية عرفها العرب , لقد كانت الجنة الفكرية والثقافية والعلمية التي منها انطلق شعاع الحضارة وانبثق نور التمدن إلى أوروبا ثم بقية عالم ذلك الزمان , وكانت قلعة حصينة بلغت من الامتناع على الأعداء شأوا بعيدا أثبته المؤرخون من خلال حديثهم عن الولاة الذين وصلوا بجيوشهم إلى أواسط أوروبا , وعن الحكم الربضي وعبد الرحمن الأوسط وعبد الرحمن الناصر , وبني صمادح وبني زيري وغيرهم من سلاطين المرابطين والموحدين وقوادهم وجنودهم .
هذه القلعة الفكرية الثقافية – بل القلاع – بدأت تسقط مدينة تلو مدينة وإمارة إثر إمارة , ومنطقة بعد منطقة حتى سقطت الأندلس كلها وأخرج منها العرب في صورة بشعة من أحلك صور التاريخ الذي مر بالعرب في عصورهم المتعاقبة , فقد حرق الرجال وذبح الأطفال وسبيت الحرائر , فكانت مواكب حزينة لم يجد الشعر مفرا – على كره منه أو رضا – أن يرافقها ويتأثر بها ويسطرها بأقلام مدادها الآلام والدموع ومددها الحسرة و الأحزان .
لقد عرف الشعر العربي في المشرق موضوع رثاء المدن وبكاء الدول , ولكن كانت الدولة تسقط لتحل محلها – على الأغلب – دولة عربية أخرى , أو على الأقل إسلامية , وكان نشاط الشعر في هذا النطاق محدودا , وأما في الأندلس فإن الصورة مختلفة لأن الشعب العربي الإسلامي كان يزاح من منطقة إلى أخرى حتى انتهى الأمر بنهاية الأندلس , أوفر كما وأعمق حزنا وأكثر أسى وأشد حماسا وأسرع استنهاضا وأنفذ تعبيرا عن المحنة منه في الشرق .
إن شعر البحرية , وشعر رثاء الأندلس ومدنها موضوعان جديران بأن يحتفل بهما ويخصص لكل منهما فصل من فصلي هذا الباب لأنهما ظاهرتان مرموقتان في مسيرة الشعر الأندلس
( 1 )
البحرية الإسلامية في الأندلس
سلف القول قبل قليل أن البحرية الأندلسية نشأت بعد أن كانت أختها في المشرق وبخاصة في شرق البحر المتوسط قد بلغت حدا من القوة الضاربة بحيث أخضعت جميع جزر ذلك البحر , ومقدارا من الكفاءة بحيث أضحى الأسطول العربي السيد المتحكم في البحر الأبيض المتوسط دون منازع , ولقد تم ذلك في عهد مبكر .
فلما دانت الأندلس للعرب وخضعت للمسلمين اقتضت طبيعتها الجغرافية ألا يقتصر أمر حمايتها على الجيوش وحدها , وإنما بات من الضرورة أن يكون لها أسطول بحري منيع يحمي شواطئها البالغة الطول المتوزعة بين البحر الأبيض المتوسط شرقا وجنوب شرق , وبين المحيط الأطلنطي – أو بحر الظلمات كما كان يسمى آنذاك – غربا وجنوب غرب .
لقد كانت هذه الشواطئ المترامية الأطراف من الاتساع بحيث تسمح لأعداء العرب من الفرنجة – بل ومن المشارقة أنفسهم فيما بعد – أن يشنوا هجمات بحرية ضارية على هذه الأرض الطيبة , ولقد فعلوا ذلك مرات عديدة , فكان إنشاء أسطول بحري على جانب من الدرجة والمناعة والكفاءة أمر لا مفر منه ولا محيص عنه .
إنه نتيجه لذلك بدأت البحرية الأندلسية تظهر على صفحة مياه البحر المتوسط في عهد الحكم الربضي , فلما كان عهد عبد الرحمن الأوسط , وهو الأمير الشجاع المثقف الفنان الحصيف قام بإنشاء دار الصناعة بإشبيلية , وبنى المراكب الكبيرة بأعداد وفيرة , وجند رجال البحر من أبناء السواحل الأندلسية وأمدهم بآلات الحرب البحرية والنفط ووسع عليهم وأجزل رواتبهم ( ) .
إن عبد الرحمن الأوسط – والأمر كذلك – يمكن أن يعتبر منشئ البحرية الأندلسية , أما مؤسسها ومدعمها فهو عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر من بعده فقد بلغ عدد سفن الأسطول في عهد عبد الرحمن الناصر ثلاثمائة قطعة بحرية وزاد في عهد ابنه المستنصر إلى ستمائة قطعة , وكانت قيادته في عهد كل من الملكين الكبيرين معقودا لواؤها على القائد المظفر أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس .
وأخذت شوكة الأسطول الأندلسي تمتد وسواعده تشتد عصرا بعد عصر , فلقد استطاع الأسطول على عهد المرابطين أن يبسط سلطانه على البحر الأبيض والمحيط الأطلنطي واحتل جزر البليار وشل نشاط الفرنسيين والإيطاليين والقطلانين , بل إن الأسطول الأندلسي أصبح من الخطر بحيث يقول عنه ابن خلدون إن البحر الأبيض غربا كله للبحرية الإسلامية .
على أنه لا بد من فترات انحسار ولو قصيرة تمر بها كل قوة من القوى بل كل دولة من الدول , فلقد مرت بالأسطول الأندلسي فترة خمول في عهد بني عباد – وإن لم تستمر طويلا – كان البحر فيها للروم دون العرب بحيث كان يتعذر على العربي الذي يسكن صقلية أن يبحر إلى الأندلس , وآية ذلك أن المعتمد بن عباد أراد أن يستدعي الشاعر الصقلي مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي من صقلية إلى بلاطه في الأندلس وبعث إليه بخمسمائة دينار يتجهز بها الطريق , فلم يجرؤ على الإبحار خشية أن يتعرض لأذى أسطول الروم , وكتب للمعتمد قائلا :
لا تعجبن لرأسي كيف شاب أسى واعجب لأسود عيني كيف لم يشب
البحر للروم لا يجري السفين به إلا على غرر والبر للعرب ( )
هذا وما دمنا بصدد ذكر البحرية الأندلسية فقد يكون من الفائدة بمكان أن نشير إلى بعض القادة البحريين المحنكين من أمراء البحر الأندلسيين وقادة الأساطيل .
إن أحد قواد الأساطيل التي غزت صقلية وفتحتها كان من البحارة الأندلسيين واسمه أصبغ بن وكيل الهواري , وكان يعرف بفرغلوش وكان الأسطول الذي قاده يتألف من ثلاثمائة سفينة ( ).
وإن فاتح جزيرة أقريطش ( كريت حاليا ) بحار أندلسي مغامر اسمه أبو حفص عمر بن شعيب البلوطي , وكان قبل ذلك احتل مع بعض المغامرين من البحارة الأندلسيين مدينة الإسكندرية , فلما اضطروا للجلاء عنها اتجهوا إلى كريت بقيادة أبي حفص وانتزعوها من الإمبراطورية البيزنطية .
وعندما أراد مجاهد العامري صاحب دانية فتح سردينية بعث إليها بالقائد البحري أبي خروب على رأس أسطول عدته مائة وعشرون سفينة عليها ثمانية آلاف فارس ومن أمراء البحر المظفرين أبو عبد الله بن ميمون الذي قهر الفرنجة في كل موقعة التحم معهم فيها وأعجب به أهل المرية وإعجابا شديدا – رغم أنه من أهل دانية – وأرادوه واليا عليهم بعد أن طردوا المرابطين ولكن الرجل كان حكيما عاقلا يعرف أن الحكم فن وصناعة واستعداد وسياسة , وليس كل من خاض معركة عسكرية أو بحرية وانتصر فيها يصبح بين عشية وضحاها مؤهلا لتولي الحكم , فإن الذي لا دراية له بفن الحكم ويتصدى له لا يكون .
وبالا على نفسه وحسب , بل يكون وبالا على نفسه وكارثة على قومه , ولذلك فأن أبا عبد الله – وقد عرف قدر نفسه – أجاب أهل المرية قائلا : إنما أنا رجل منكم ووظيفتي البحر وبه عرفت فكل عدو جاءكم من جهة البحر فأنا لكم به فقدموا على أنفسكم من شئتم غيري( ) والحديث عن الأسطول الأندلسي الحربي وانتصاراته وأمجاده حديث طويل ربما كان التفصيل فيه من شأن المؤرخ السياسي أكثر مما هو من اختصاص المؤرخ الأدبي , ولكننا نذكر هذه الأطراف من أخباره لكي نستأنس بها ونحن نعرض للشعر الذي قيل في البحرية وأساطيلها , غير أنه من الضروري بمكان قبل أن ننتقل إلى حديث الشعر أن نشير إلى بعض الإنجازات الإنسانية العظيمة التي قام بها الأسطول الأندلسي , أو بالاحرى البحارة الأندلسيون فمن ذلك على سبيل المثال قصة الفتية المغررين ورحلتهم المثيرة في بحر الظلمات وكان هؤلاء الفتية ثمانية فتيان تجمعهم القرابة , فهم أبناء عم وظلوا يضربون في غمار بحر الظلمات منطلقين من لشبونة منساحين على موجه لبضعة أشهر . إن هذه الرحلة المثيرة , بل القصة الممتعة , قد شكلت لونا من الأدب الجغرافي الممتع المثير , وتركت بصماتها على صفحات أكثر كتب الرحلات بشكل مباشر حينا وغير مباشر حينا آخر.
ومن ذلك أيضا ترجيح وصول البحار العربي الأندلسي خشخاش في ابن سعيد في القرن الرابع الهجري ( العاشر الميلادي ) . إلى إحدى جزر البحر الكاريبي المتاخمة للساحل الأمريكي هذا فضلا عن أنه من المؤكد أن البحار العربي الأندلسي المسلم محمد الجاوي قد وصل إلى البحر الكاريبي والساحل الأمريكي في القرن الرابع عشر الميلادي. وهنا نحب أن نثبت .أن كولومبس ليس المكتشف الحقيقي لأمريكا وإنما قد سبقه العرب إلى ذلك على يد البحار الأندلسي محمد الجاوي .
( 2 )
وصف السفن والأساطيل :
إن المتتبع لمسيرة الشعر العربي وتطور موضوعاته في الشرق لابد له من أن يكون قد قرأ أبياتا لأبي نواس في وصف سفن الأمين التي كانت تذرع صفحة دجلة على مقربة من بغداد جيئة وذهابا مزدانة بهيجة تحمل شكل أسد حينا وشكل عقاب حينا آخر وهيئة دلفين حينا ثالثا( ) ولكن سفن الحرب أو سفن الأسطول فقد كان أول من وصفها من الشارقة الشاعر المبدع مسلم ابن الوليد الذي نعتبره أستاذا لكثير من مدارس الشعر الأندلسي , وقلما نجد شاعرا مرموقا أو شاعرة مشهورة في الأندلس لم تتأثر بشعر مسلم بن الوليد . إن مسلم بن الوليد أول من وصف السفينة الحربية وهي تخوض المعارك البحرية وذلك في قوله :
كشفت أهاويل الدجى عن مهولة بجارية محمولة حامل بكر
لطمت بخديها الحباب فأصبحت موقفة الدايات مرتومة النحر
إذا أقبلت راعت بقنة راهب وإن أدبرت راقت بقاد متي نسر
تجافى بها النوتي حتى كأنما يسير من الإشفاق في جبل وعر
تخلج عن وجه الحباب كما انثنت مخبأة من كسر ستر إلى ستر
أطلت بمجدافين يعتورانها وقومها كبح اللجام من الدبر
فحامت قليلا ثم مرت كأنها عقاب تدلت من هواء على وكر
ويمضي مسلم في وصف البحار وبراعته في قيادة السفينة قائلا :
أناف بهاديها ومد زمامها شديد علاج الكف معتمل الظهر
إذا ما عصت أرخى الجرير لرأسها فملكها عصيانها وهي لا تدري ( )
إن قصيدة مسلم في وصف السفينة الحربية بارعة ممتعة وهي على شيء من الطول وكثير من الإمتاع الشعري والإبداع الأدبي , وتمر فترة زمنية طويلة لا تكاد تقع أعيننا على شعر جدي يصف الأساطيل الحربية والمعارك البحرية حتى نصل إلى ابن هانئ الأندلسي المتوفى سنة 362 هـ وقد وصف أسطول المعز لدين الله الفاطمي في نطاق مدحه ومنازلته الروم والانتصار عليهم .
وكان الأسطول المعز الفاطمي أكثر أساطيل البحر الأبيض المتوسط مناعة وقوة وعددا , ولها معارك مشهودة في البحر ضد الروم حينا , وضد الأندلسين .
حينا آخر , فلقد كانت العداوة بين تقليدية متصلة بين الفاطمين الشيعة الإسماعيلية , وبين الخلافة الأندلسية ذات الأصل الأموي حسبما معروف . وفي واحد من هذه المعارك اقتحم الأسطول الفاطمي المرية حيث يربض أسطول عبد الرحمن الناصر , ودمر المدينة وأحرق الأسطول الأندلسي واستولى على أكبر قطعة في الأسطول الناصري , وكانت في نفس الوقت أكبر سفينة في البحر المتوسط على الإطلاق كان عبد الرحمن الناصر قد أمر ببنائها لقد كانت المعارك سجالا بكل أسف بين الأسطولين الكبيرين , ولكن يبدو أن أسطول الفاطمين كان دائم التجدد كثير التدريب والهجوم , وقد سلف القول أنه انتصر على أسطول الروم في موقعة بحرية هائلة هي موقعة (( المجاز )) وظل يطارد الأسطول البيزنطي التابع لنقفور فوقاس سنة 315 هـ وكان البحارة المسلمون يرمون بأنفسهم في الماء لكي يحرقوا سفن البيزنطيين . وكان هذا الأسطول نفسه قد هاجم جنوه وفتحها قبل ذلك ببضعة وعشرين عاما وعلى وجه التحديد سنة 323 هـ بقيادة أمير البحر يعقوب بن إسحاق إن الشاعر ابن هانئ يصف هذا الأسطول غازيا محاربا يمخر العباب ويبث الرعب ويرمي بالشرر ويزفر بالجحيم مع مدح للمعز ألف أن يبالغ فيه حين لا يكون الموقف شبيها بهذا الذي يصفه فيقول :
لك البر والبحر العظيم عبابه فسيان أغمار تخاض وبيد
أما والجواري المنشآت التي سرت لقد ظاهرتها عدة وعديد
قباب كما تزجي القباب على المها ولكن من ضمت عليه أسود
ولله مما لا يرون كتائب مسومة تحدو بها وجنود
وما راع ملك الروم إلا اطلاعها فتنشر تحدو بها وبنود
عليها غمام مكفهر صبره له بارقات جمة ورعود
مواخر في طامي العباب كأنه لعزمك بأس أو لكفك جود
أنافت بها أعلامها وسمالها بناء على غير العراء مشيد
إذا زفرت غيظا ترامت بمارج كما شب من نار الجحيم وقود
فأنفاسهن الحاميات صواعق وأفواههن الزافرات حديد
ومن المشرق البعيد حيث مسلم ومن إفريقية حيث ابن هانئ – قبل أن يرحل مع المعز إلى مصر – يطل على دنيا الشعر في الأندلس الشاعر الكبير ابن دراج القسطلي الذي لقبه البعض بمتنبي الأندلس على الرغم من القرن الذي يفرق بين تاريخ وفاة الشاعرين , على أن فارق البيئة المكانية والزمنية قد أجرى فرقا كبيرا بين عدد من الموضوعات التي كان يتناولها كل من الشاعرين وابن دراج هنا يصف الأسطول البحري في أكثر من مناسبة . يصفه وقد جعل منه وسيلة انتقال إلى ممدوحه خيران العامري , فيجعل من الفلك بديلا عن الناقة ويصف صعوبة الرحلة وما اعتورها من مشقة وخطورة على صفحة الماء تعلو على لجة كأنها ثبيروتهوي كأنها غربان , مكثرا من الصور البحرية والتشبيهات المائية , وإن غلبت روح المديح على طبيعة القصيدة وذلك في قوله( ):
لك الخير , قد أوفى بعهدك خيران وبشراك , قد آواك عز وسلطان
هو النجح , لا يدعى إلى الصبح شاهد هو الفوز , لا يبغى على الشمس برهان
إليك شحنا الفلك تهوي كأنها - وقد ذعرت عن مغرب الشمس – غربان
على لجج إذا هبت الصبا ترامى بنا فيها ثبير وثهلان
موائل ترعى في ذراها مواثلا كما عبدت في الجاهلية أوثان
وفي طي أسمال الغريب غرائب سكن شغاف القلب شيب وولدان
يرددن في الأحشاء حر مصائب تزيد ظلاما ليلها وهي نيران
إذا غيض ماء البحر منها مددنه بدمع عيون يمت ربهن أشجان
وإن سكنت عنا الرياح جرى بنا زفير إلى ذكر الأحبة حنان
يقلن – وموج البحر والهم والدجى تموج بنا فيهاعيون و آذان :
ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا سوى قبر أو سوى الماء أكفان
وهبنا رأينا معلم الأرض لنا من الأرض مأوى أو من الإنس عرفان
... ظعائن عمران المعاهد مقفر بهن , وقفر الأرض منهن عمران
هوت أمهم ماذا هوت برحالهم إلى نازح الآفاق سفن وأظعان
كواكب إلا أن أفلاك سيرها زمام ورحل , أو شراع وسكان
غير أنه لا ينبغي أن يذهب بنا الاعتقاد إلى أن ابن دراج لم يعمد إلى وصف البحر والسفينة إلا في نطاق كونها مركبا تحمله إلى ممدوحه وحسب , إن للشاعر الكبير مشاركة في وصف السفن الحربية والمعارك البرية أيضا , ولقد كان مجيدا في تناول هذا الطراز من موضوعات الشعر , ولعل ذلك واحد من الأسباب التي جعلت بعض النقاد يربطون بينه وبين المتنبي . لقد أنشأ ابن دراج قصيدة طويلة لامية القافية على طراز قصيدة المتنبي في سيف الدولة :
ليالي بعد الظاعنين شكول طول وليل العاشقين طويل
غير أن قصيدة ابن دراج كانت في مديح المنصور بن أبي عامر يمدحه ويصف الأسطول الذي حمله من الأندلس إلى إفريقيه عابرا إلى حيث يشن حربا على زيري بن عطية منشء دولة بني زيري مطلعها ( ) :
لك الله بالنصر العزيز كفيل أجد مقام أم أجد رحيل
هو الفتح , أما يومه فمعجل إليك , وأما صنعه فجزيل
ويمضي ابن دراج في وصف سفن الأسطول متأثرا تأثيرا بينا بوصف المعارك البرية , إذ لا تزال الخيول والجياد والهوادج والأراقم في خاطره يستعملها في صوره وتشبيهاته وصنعته التي تبدو واضحة من خلال الأبيات , ولا عليه في ذلك فلقد كان وصف الأساطيل في المياه الأندلسية لا يزال ميدانا جديدا للشعر والشعراء إن ابن دارج يمضي في هذا الجزء من قصيدته على هذا النحو :
تحمل منه البحر بحرا من القنا يروع بها أمواجه ويهول
بكل ذ معالاة الشراع كأنها - وقد حملت أسد الحقائق – غيل
إذا سابقت شأو الرياح تخيلت خيولا مدى فرسانهن خيول
سحائب تزجيها الرياح , فإن وفت أنافت بأجياد النعام فيول
ظباء سمام ما لهن مفاحص وزرق حمام ما لهن هديل
سواكن في أوطانهن , كأن سما بها الموج حيث الراسيات تزول
كما رفع الآل الهوادج بالضحى غداة استقلت بالخيط حمول
أراقم تقري ناقع السم , ما لها بما حملت دون الغواة مقيل
إذا نفثت في زور (( زيري )) حماتها فويل لها من نكزها وأليل
أما بقية القصيدة فهي على طولها مزيج من المديح ووصف المعارك البرية التي نبه شأن شاعرنا في وصفها والتي كثر قول الشعراء الأندلسين فيها نظرا لكثرة الحروب التي كان ملوك الأندلس وأمراؤه يخوضونها . وشعر الحرب في الأندلس من الكثرة والجودة بمكان , ولكنه لم يخرج عن كونه امتداد لهذا اللون من الشعر الذي وضع لبناته الأولى في المشرق مسلم بن الوليد وأبو تمام ثم استوى على عوده على يد المتنبي في مدائحه في سيف الدولة .



( 3 )
وصف المعارك البحرية
من طبيعة المعارك البحرية أن يخوضها الأسطول مجتمعا بكل سفنه أو متفرقا تبعا لطبيعة المعركة , وأحيانا كانت السفينة بمفردها تخوض معركة بحرية ضد سفينة أو أكثر من سفن الأعداء وتحقق نصرا مؤزرا . لقد كان بن صمادح أسطول بحري كبيري قام بدور كبير في تاريخ البحرية الإسلامية الأندلسية , وإن واحدة من سفن هذا الأسطول الصمادحي قد خاضت معركة بحرية ضارية وحققت فيها عددا من الانتصارات الأمر الذي أعلى شأنها ورفع ذكرها فوصفها الشاعر ابن الحداد هذا الوصف الذي جمع فيه بين رهبة الحرب ومتعة الشعر , رهبة الحرب في وصفها وهي تهاجم الأعداء وتقذف الحمم فتحيل كل شيء إلى الرماد , ومتعة الشعر حين يجعل الشاعر من مجاديفها هدبا ومن رشاش الماء حولها دمعا , وحين يجعل رشاقة حركتها على صفحة الماء وهي تحاور وتداور وتناور بين رسم حرف الألف وشكل حرف الصاد . يقول ابن حداد في حركة هذه السفينة – ولعلها كانت من الحراقات التي تقذف اللهب – وهي تخوض معركتها البحرية المظفرة ( ) :
هام صرف الردى بهام الأعادي إن سمت نحوهم لها أجياد
وتراءت بشرعها كعيون دأبها مثل خائفيها سهاد
ذات هدب من المجاذيف حاك هدب باك لدمعه إسعاد
حمم فوقها من البيض نار كل من أرسلت عليه رماد
ومن الخط يدي كل در ألف خطها على البحر صاد
ويعبر الأمير أبو محمد عبد المؤمن بن علي سلطان الموحدين من الشاطئ الإفريقي إلى الشاطئ الأندلسي فيسارع الشعراء إلى تحيته ومدحه وذكر فضائله وأمجاده , ويتقدم الشاعر الكاتب أبو الحسن عبد الملك بن عياش القرطبي ليدلي بدلوه في الحلبة , ويخلد استبسال أسطول الموحدين تجاه أسطول الروم وإيقاع الهزيمة بهم وبث روح الفزع بينهم في أبيات من قصيدته الطويلة يقول فيها ( ):
حدث عن الروم في أقطار أندلس والبحر قد ملأ العبرين بالعرب
من كل من يترك الهيجاء في حالك جمر إذا اخضرت الغبراء بالعشب
مقلب بين مشتاة وهاجرة تقلب السيف بين الماء واللهب
يرمي بهم ظهر طرف بطن سابحة فالبر في شغل والبحر في صخب
وتعبر الماء منهم نار عادية يصلى بها عابد الأوثان والصلب
وطود طارق قد حل الإمام به كالطور كان لموسى أيمن الرتب
لو يعرف الطود ما غشاه من كرم لم يبسط الغور فيه الكف للسحب
ولو تيقن بأسا حل ذروته لعاد كالعهن من خوف ومن رهب
منه يعاود هذا الفتح ثانية أصناف ما حدثوا في سالف الحقب
... ملك إذا ما دعته الحرب من بعد طار السفين أمام الجحفل اللجب
مابين مخضرة الأقطار نازحة وأخضر في غمار الريح مضطرب
ولم يختلف الوزير الشاعر الوشاح الكاتب المؤلف المؤرخ لسان الدين بن الخطيب عن وصف معارك الأسطول الأندلسي على زمانه . والحق أن لسان الدين عاش مرحلة الاحتضار السياسي والانحسار الحضاري الإسلامي عن الأندلس , وعلى الرغم من المحاولات اليائسة التي بذلها المسلمون للإبقاء على حكمهم ووطنهم الأندلسي , فإن شيئا مما فعلوا في هذا الصدد لم يجد فتيلا فلقد كان الخرق اتسع على الراقع , وكان قد سبق السيف العذل حسبما يرددون في الأمثال , ولكن لسان الدين ينشد الأمير أبي عبد الله إبراهيم بن نصر قصيدة بلغت مائي بيت مديح يخصص بعضا من أبياتها في وصف الأسطول الأندلسي وخوضه المعارك البحرية , وإنه لولا شاعرية ابن الخطيب المعطاءة الحصيبة لفسدت القصيدة لكثرة ما حشاها به من محسنات بديعية حوت ألوانا من الطباق والجناس ومراعاة النظير والمقابلة , وسوف نلاحظ أن البيت الأخير يشكل بمصراعيه طرفي مقابلة بديعية . ويبدو أن القصيدة – على طولها – قد وقعت من نفس الأمير موقعا كريما مما جعله يأمر بكتابتها على قصر الحمراء .
إن ابن الخطيب يستفتح القصيدة بقوله ( ) :
الحق يعلو و الأباطيل تسفل والله عن أحكامه لا يسأل
والأمر فيما كان أو هو كائن كالعلة القصوى فكيف يعلل
وفي سفن الأسطول يقول لسان الدين :
.... واستقبلتك السابحات مواخرا تهوي إلى ما تنبغي وتؤمل
تبدي جوانبها العبوس وإن تكن بالنصر منك وجوهها تتهلل
هن الجواري المنشآت قد اغتدت تختال في برد الشباب وترفل
من كل طائرة كأن جناحها وهو الشراع به الفراخ تظلل
جوفاء يحملها ومن حملت به من يعلم الأنثى وماذا تحمل
أطلعن صبحا من جبينك مسفرا يجلو الظلام وهن ليل أليل
وطلعن منك على البلاد بطارق للفتح والنصر الذي يستقبل
وبقية من قوم عاد أهلكوا ببقية الريح العقيم وجدلوا
بالباطل البحت الصراح تعززوا فالأن للحق المبين تذللوا

( 4 )
وصف سفن الأسطول الأندلسي
من المعروف أن الأسطول الحربي في زماننا الذي نعيشه يتكون من مجموعات من القطع البحرية , لكل قطعة منه اسم معين وحجم معين ووظيفة معينة , فنحن نقرأ – وإن لم نكن على كبير علم بالبحر – عن البارجة , والمدمرة , والنسافة , والفرقاطة , وقوارب الطوربيد , وكاسحة الألغام البحرية , وحاملة الطائرات إلى غير ذلك مما يعرفه المشتغلون بالشئون العسكرية البحرية .
لقد كان الأمر كذلك في البحرية الأندلسية ومن قبلها البحرية الإسلامية في المشرق . فمن قطع الأسطول الأندلسي ما كان يعرف بالشواني , ومفردها شونة وشينية وشيني , وكانت ضخمة الحجم لها قلوع بيضاء , ومجاديف يبلغ عددها مائة وأربعة وأربعين , ولها أبراج عالية وقلاع تستخدم للهجوم والدفاع , وينقسم رجالها إلى مجدفين ومقاتلين , وكانت هذه السفن تطلى بالقار , وهي من أجل ذلك عرفت بالأغربة أو الغربان , ومن ثم فإن الشواني هي نفسها – على الأغلب – الغربان , و الواحد منها غراب .
ومن سفن الأسطول الأندلسي الحرابي أو الحربيات , ومفردها حربية , وهي من نوع الشواني ولكنها أصغر حجما , وأحف حركة , وأسرع لحاقا بالعدو وكانت الحرابي من أهم قطع الأسطول الأندلسي على عهد أمية الأندلسيين .
ومن سفن الأسطول الأندلسي الحراريق , ومفردها حراقة ولها من اسمها نصيب , فهي مراكب حربية خصصة لإحراق سفن العدو تقذفه باللهب والنفط فتحرقه وعدد مجاديفها يقارب المائة مجداف ولقد صنعها في أول الأمر الأغالبة حكام صقلية الإسلامية .
وهناك أيضا الطرائد , وواحدتها طريدة وهي مخصصة لحمل الخيل وتتسع لأربعين فرسا وهي لذلك تفتح من الخلف , كما أنها تحمل المقاتلين والذخائر والمؤن , ويستعملها عامة الناس في أيام السلم .
ومن قطع الأسطول الأندلسي الشلنديات , ومفردها شلندي وخففت فصارت صندل , وهذا الاسم يعرفه المصريون لكثرة استعماله في النيل غير أن شلنديات الأسطول الأندلسي كانت كبيرة الحجم شديدة الاتساع مسطحة من أعلى وكانت تعمل في نقل المؤن والذخائر , ويرجح بعض الباحثين أنها كانت تسمى أيضا بالأجفاف الغزوية أو الغزناوية . وهناك أيضا المراكب الحمالة وهي سفن ضخمة مسطحة معدة لحمل الأسلحة كما كان هناك ناقلات الجنود وكانت تعرف بالبطس , ومفردها بطسة وهذه البطس كانت تتكون من عدة طوابق ولها أربعون قلعا وتتسع لسبعمائة مقاتل ( ) .
لقد كان الأسطول الأندلسي إذا ما أدخلنا في الاعتبار الفوارق الزمنية جديرا بالنصر في كل ما يخوض من معارك في زمن الحرب قمينا بالوصول إلى مجاهل لم تستكشفها أساطيل قبله , الأمر الذي يجعلنا نردد الحقيقة التي آمنا بها منذ زمن بعيد وفحواها وصول البحارة العرب إلى الشاطئ الأمريكي عبر بحر الظلمات قبل أن يعبره كولومبس بزمن بعيد .
لنعد إذن بعد هذه الجولة في نطاق التعريف بالأسطول الأندلسي إلى الشعر يصف قطع هذا الأسطول . إن ابن حمديس الصقلي الشاعر الوصاف يمدح الأمير الحسن بن علي من أمراء بني زيري ويخاطبه مثنيا عليه لبنائه أسطولا ضخما , ويصف الشواني التي تشبه المدن ضخامة وبروجها الشاهقة التي يحسبها المرء قمم الجبال , ترمي العدو بالنفط فتحرقه وعتاده ولا تبقي على شيء . إن وصف ابن حمديس للشواني , يكاد يكون تعريفا واقعيا لها أكثر منه تصوير شعري , وذلك في حد ذاته أمر من الأهمية بمكان فهو وإن لم يكن إمتاعا شعريا فإنا نجد فيه تسجيلا حضاريا . يقولب ابن حمديس :
أنشا شواني طائرة وبنيت على ماء مدنا
ببروج قتال تحسبها في شم شواهقها قننا
ترمي ببروج إن ظهرت لعدو محرقة بطنا
وبنفط أبيض تحسبه ماء وبه تذكي السكنا
ويقول القاضي أبو عبد الله محمد بن يحيى بن غالب من شعراء المائة الثامنة يمدح السلطان أبا فارس عبد العزيز ويصف الأسطول ويبدي اهتماما خاصا بالشواني التي يستعمل لها أيضا اسم أو وصف غربان , وقد سبق القول أن الشواني كانت تسنى أيضا غربانا , ومن الطريف أن الشاعر إذ يؤكد أنها غربان ويتحمس لهذه التسمية يرفض أن يختار لها اسم عقبان على الرغم مما بين العقاب والغراب من فارق في الشكل والقدرة والرتبة ولما كان المرء صورة لزمانه فإننا نلاحظ في يسر ازدحام أشكال البديع التي حشا بها الشاعر قصيدته وهذا البديع من جناس وطباق من الكثرة والوضوح بحيث لا يحتاج القارئ إلى كبير عناء كي يستبينه وتقع عينه عليه هذا فضلا عن صيغ الجدل وأسلوب السؤال والجواب الذي عمد إليه الشاعر حتى أوشك أن يفسد حلاوة أبياته ولكنه معذور في ذلك فقد سبقت الإشارة إلى أن المرء صورة لزمانه وثقافته , ولقد كان الرجل قاضيا فقيها ومن ثم فإننا نلمس روح جدل الفقهاء في طريقة تناوله للشعر . يقول القاضي أبو عبد الله مخاطبا السلطان مادحا إياه واصفا الشواني:
بعثت لتأمين البحور جنودها بها أمنت كالبر منها بحورها
شواني تحكيها انقضاضا شواهن وإن صرصرت يوما حكاها صريرها
وإن قيل غربان فمن أجل أنها نواعب أرواح العدا إذ تغيرها
وإن قيل عقبان فغير حقيقة وإلا على التحقيق فهي وكورها
تخطف إذ تنقض كالنجم يرتجي بغاث العدا عقبانها وصقورها
تجاذبها أجناحها شبها كما نواظرها زرق العيون وحورها
لها صفحات الماء مثل صحائف وتلك الجواري المنشآت سطورها
وبجيد أحمد بن محمد بن الأبار أحد شعراء المعتضد بن عباد وصف الشواني – وهو غير محمد بن عبد الله بن الأبار المؤرخ , فإن هذا الأخير من رجال المائة السابقة – إن ابن الأبار يعمد إلى لغة الشعر وخياله وموسيقاه وهو يصف الشواني , ويستعمل لها اسمها الآخر وهو الغربان , ولكنه في نطاق تغلب الروح الشاعرة عليه يطرح عديدا من الصور للمركب الغراب , ويستنكر سواده وطلاء القار على أديمه لأنه جواد أدهم أصيل ولا يكون القار طلاء إلا للأجرب من الحيوان , إلى غير ذلك من الصور الشاعرة التي تبدو جلية في هذه الأبيات الطريفة ( ):
يا حبذا من بنات الماء سابحة تطفو لما شب أهل النار تطفئه
تطيرها الريح غربانا بأجنحة ال حمائم البيض للأشواك ترزؤه
من كل أدهم لا يلفى به جرب فما لراكبه بالقار يهنؤه
يدعى غرابا وللفتخاء سرعته وهو ابن ماء وللشاهين جؤجؤه
ويصف أبو عمر بن حربون الشاعر سفينة من نوع الغراب ولكنه يصفها من خلال مدحه السيد الأعلى أبا محمد عبد الله بن أبي حفص وكان رجلا فاضلا , عمل واليا على إشبيلية لعبد المؤمن , واستشهد في موقعة مرج الرقاد سنة 557 هـ ( ) .
وسوف نلاحظ فرقا في الأسلوب من حيث الصناعة اللفظية والمحسنات البديعية التي عمد أبو عمر إلى اصطناعها هنا على عكس ما صنع ابن الأبار , فابن الأبار عاش في فترة روح الشعر وأبو عمر عاش في فترة صنعة الشعر إنه يكاد يكون قريبا من الفرق بين ابن حمديس والقاضي ابن غالب في طريقة كل منهما وأسلوبه في وصف الشواني في الأبيات التي مر ذكرها قبل قليل .
يقول ابن حربون:
يا من رأى الفلك فوق الموج طافية كما كفأت قبابا وسطها العمد
ينساب منهن في أعلى غواربه أساور سكنت أجوافها أسد
بحر كأن أبا حفص بصهوته لقمان والمركب الجاري به لبد
تعجبوا من غراب فوق غاربة نهلان ذو الهضبات الشم أو أحد
وعاين البحر منه فوق لجته بحرا خضما له من فضة زبد
فالآن قل لذوي الإلحاد شانكم فما لكم دون هذا الأمر ملتحد
وابن حمديس – وهو واحد من أرق شعراء الوصف الأندلس – يغرم بوصف السفن الحربية , ولقد سبق أن تمثلنا له بشعر في وصف الشواني , وهو هنا يصف (( حربية )) وصفا دقيقا يظهرها على حقيقتها بحيث يبعث الخوف في نفس من يتصورها وهي تؤدي وظيفتها على النحو الذي قدمه لها ابن حمديس من خلال هذه الأبيات ذات السبك الشعري المتين , مع جودة التصوير وبراعة التشبيه . لقد شاهد ابن حمديس هذه (( الحربية )) وهي تخوض معركة بحرية ضارية سنة 512 هـ تقذف الحمم وترمي اللهيب وكأنها بركان ينفث جحيما .
يقول ابن حمديس في أبياته هذه ( ):
رأوا (( حربية )) ترمي بنفط لإخماد النفوس له استعمار
كأن المهل في الأنبوب منه إلى شيء الوجوه له ابتدار
كأن منافس البركان فيها لأهوال الجحيم بها اعتبار
نحاس ينبري منه شواظ لأرواح العلوج به بوار
ويبدو ابن حمديس أمامنا وكأنه مغرم كل الغرام بهذا النوع من (( الحربيات )) قاذفات اللهب , ويجود في تصوير عملها الباطش , ويتأنى في صوغ عبارات تبعث الفزع في قلوب الأعداء , إن الرجل وقد أجبر على الخروج من وطنه (( صقلية )) وهي تسقط تحت سنابك خيل الغزاة الأوربيين يحس بشيء من التعويض النفسي وهو يرى أهله الجدد في الأندلس ينزلون الهزائم بأعدائه الذين استولوا على وطنه , فيطرب لنصر قومه ويسر لهزيمة أعدائه , ومن ثم فإنه يمجد كل نصر يحرزه الأندلسيون ويسجله بكلمات من مزاج روحه وعطاء شاعريته , وها هي صورة أخرى (( الحربية )) أخرى في معركة بحرية ( ):
و (( حربية )) ترمي بمحرق نفطها فيغشى سعوط الموت فيها المعاطسا
تراهن في حمر اللبود وصفرها كمثل بنات الزنج زفت عرائسا
إذا عثنت فيها التنانير خلتها تفتح للبركان عنها منافسا

( 5 )
وصف البحارة والأساطيل
لم يقتصر الشعراء على وصف الأساطيل وسماتها , ولم يكتفوا بوصفها وهي تخوض المعارك , وإنما ولعوا بوصفها أيام السلم ولعهم بذلك أيام الحرب , وفي أيام السلام كان قواد الأساطيل ينظمون مهرجانات كبيرة تستعرض سفنهم خلالها حركات الكر والفر , ويقوم الملاحون بحركات خفيفة سريعة في أعالي المراكب وأسافلها , وكانت السفن في أيام المهرجانات تبدو في أكمل زينة , كما كان البحارة يلبسون أجمل الثياب وأبهى الحلل .
ومن الشعراء الذين أجادوا وصف المهرجان أبو بكر محمد بن عيسى الداني – نسبة إلى الدانية – وشهرته ابن اللبانة , وكان مختصا بالمعتمد بن عباد , وهو أشهر من مدح بني عباد وأجود من قال شعرا في رثائهم وألف عنهم كتابين أحدهما
(( السلوك في وعظ الملوك )) أكثر ه قصائد في البكاء على أيامهم ورثاء دولتهم , وثانيهما (( سقيط الدرر ولقيط الزهر )) فلما خلع المعتمد عن ملكه رحل ابن اللبانة من إشبيلية ولحق بمبشر العامري صاحب جزيرة ميورقة وأصبح واحدا من شعرائه المجيدين وظل بالجزيرة حتى توفي عام 507 هـ .
رأى ابن اللبانة أسطول مبشر في يوم مهرجان الذي يجمع بين الترفيه والتدريب فوصفه وصفا بارعا وتأنق في وصف حركات السفن وهي تغدو وتروح على صفحة ماء البحر , واستغل شاعريته الخصبة في خلق عديد من التشبيهات , فالسفن على صفخة الماء كأنها نوق في سراب – وهو تشبيه صحراوي – والجنود أسود , و المجاديف تارة أهداب عين , وتارة أخرى أقلام وصفحة الماء قرطاس . يقول ابن اللبانة في قصيدته هذه يصف فيها المهرجان ( ) :
بشرى بيوم المهرجان فإنه يوم عليه من احتفائك رونق
طارت بنات الماء فيه وريشها ريش الغراب وغير ذلك شوذق *
وعلى الخليج كتيبة جرارة مثل الخليج كلاهما يتدفق
وبنو الحروب على الجواري التي تجري كما تجري الجياد السبق
ملأ الكماة ظهورها وبطونها فأتت كما تأتي السحاب المغدق
خاضت غدر الماء سابحة به فكأنما هي في سراب أينق
عجبا لها ! ما خلت قبل عيانها أن يحمل الأسد الضواري زورق
هزت مجاديفا إليك كأنها أهداب عين للرقيب تحدق
وكأنها أقلام كاتب دولة في عرض قرطاس تخط وتمشق
ومن الشعر الطريف الذي قيل في مثل هذه المناسبة – أعني مناسبة المهرجان – بائية علي بن محمد الإيادي التي استهلها بقوله :
أعجب بأسطول الإمام محمد وبحسنه وزمانه المستغرب
لبست به الأمواج أحسن منظر يبدو لعين الناظر المتعجب
من كل مشرفة على ما قابلت إشراف صدر الأجدل المنتصب
جوفاء تحمل موكبا في جوفها يوم الرهان وتستقل بموكب
ويمضي الإيادي في قصيدته عامدا إلى التأنق في القول والإطراف في الوصف والإغراب في في خلق التشابيه , مع العناية بالبحارة وملابسهم الزاهية الألوان وخفة حركاتهم وسرعة تسلقهم الصواري وبراعتهم في استعمال أدوات الحريق وعدة الدمار, يقدم الشاعر كل هذه الصور في رشاقة الشاعر وتأنق الفنان قائلا :
شرعوا جوانبها مجادف أتعبت شادي الرياح لها ولما تتعب
تنصاع من كثب كما نفر القطا طورا وتجتمع اجتماع الربرب
والبحر يجمع بينها فكأنه ليل يقرب عقربا من عقرب
وعلى جوانبها أسود خلافة تختال في عدد السلاح المذهب
وكأنما البحر استعار بزيهم ثوب الجمال من الربيع المعجب
ولها جناح يستعار يطيرها طوع الرياح وراحة المتطرب
يعلو بها حدب العباب مطاره في كل لج زاخر مغلولب
يسمو بآخر في الهواء منصب عريان منسرح الذؤابة شوذب
يتنزل الملاح منه ذؤابة لو رام يركبها القطا لم يركب
وكأنما رام استراقة مقعد للسمع إلا أنه لم يشهد
وكأنما جن ابن داوود هم ركبوا جوانبها بأعنف مركب
سجروا جواهم بينهم فتقاذفوا منها بألسن مارج متلهب
من كل مسجون الحريق إذا انبرى من سجنه انصلت انصلات الكوكب
عريان يقدمه الدخان كأنه صبح يكر على الظلام غيهب
وإذا كان الإيادي في قصيدته هذه قد حاول في نطاق من التوفيق أن يصف حركة البحار وخفته في التسلق والصمود والنزول , فإن لسان الدين ابن الخطيب يفوقه إبداعا في وصف ملاح في أسطول في هذه الصورة البارعة المتحركة الرشيقة التي تدعو إلى الإعجاب عندما يقول :
ومجري تلاعب في شريط رضي الفعل متصل الصموت
تدلى وارتقى وسما وأهوى وأعجب في التماسك والثبوت
وقلنا إن يكن بشرا سويا ففيه غريزة من عنكبوت
إن هذه الأبيات بما حوت من دقة الوصف , وبراعة الحركة , وتتابع الصور , تشكل لوحة شعرية متحركة من أجمل ما قدم الشعراء الأندلسيون في مثل هذا الموقف , ومن ثم فقد جعلناها ختاما لهذا الوصف من الشعر البحري الأندلسي الذي يعتبر إنجازا شعريا أثبت الشعراء الأندلسيون من خلاله مقدرتهم الفنية وموهبتهم الشعرية .
( 6 )
وإذا كان لنا أن نلخص مسيرة الشعر الأندلسي في موضوع وصف الأساطيل فسوف نلاحظ أنه نشأ أول الأمر في خدمة قصيدة المديح حيث كان طريق الشاعر إلى ممدوحه عبر البحر وليس عن طريق الصحراء , ومن ثم فلم يكن من سبيل إلى وصف الناقة وقطع المفازة وصعود النجود ونزول السهول , وإنما كان على الشاعر أن يصف السفينة التي ركبها والبحر الذي عبره بأمواجه ولججة وتياره وزبده .
والخطوة الثانية التي سلكها في هذا السبيل كانت وصف الأساطيل بصفة يغلب عليها العموم دون التخصص , وكانت غالبا وسيلة لمدح صاحب الأسطول أو قائده , وهي مع ذلك خطوة موفقة , بل قفزة رائعة وكانت الخطوة الثالثة – وهي أخطر وأنفس ما في الموضوع – تتمثل في وصف المعارك البحرية نفسها , إنه الشعر الحربي البحري الذي ينافس الشعر الحربي البري مع اختلاف الوسيلة والأداة اللتين لا مفر للشاعر الحصيف من أن يحسن استغلالهما , ومن ثم فقد كان الشعر هنا يترجح بين القوة والضعف والإجادة والإخفاق .
فإذا ما تابعنا المسيرة إلى الموضوع الرابع في نطاق شعر البحرية الأندلسية وجدناه من الطرافة بمكان , لأنه قد أصبح من الدربة وحسن الإدراك والتخصص , أو بالأحرى أصبح الشاعر من المواهب بحيث يصف أنواع القطع البحرية مميزا بين كل واحد منها , فهو يصف الشواني تارة , ويصف الغربان تارة أخرى – على الرغم مما ذهب إليه بعض الباحثين من أن الشواني هي نفسها الغربان – ويصف الحربيات قاذفات اللهب تارة أخرى بحيث عاش الشاعر زمانه حربيا وبحريا كما عاشه متعة وشرابا ومديحا ومنادمة .وكانت الخطوة الرائعة الواضحة المعالم في شعر الأساطيل هي براعة الشاعر ودقته في وصف الملاحين وحركاتهم وخفتهم وجرأتهم وبسالتهم , وصف السفينة نفسها بأجزائها المختلفة صدرا وشراعا وعرضا ومجدافا وبرجا ومدفعا .وبهذه المناسبة قد تكون هذه الأبيات التي قالها أبو زكريا بن هذيل في وصف المدفع شيئا جديدا في الشعر الأندلسي , لأن الأندلسيين استعملوا المدفع لأول مرة سنة 744 هـ استعمله الغرناطيون في حربهم مع قشتالة , استعملوا في الحروب البرية أولا ثم ما لبثوا أن ركبوه على سفنهم واستعملوا في المعارك البحرية . يقول ابن هذيل في وصف المدفع ( ):
وظنوا بأن الرعد والصعق في السما فحاق بهم من دونها الصعق والرعد
غرائب أشكال سما هرم سبها مهندمة تأتي الجبال فتنهد
ألا إنها الدنيا تريك عجائبا وما في القوى منها فلا بد أن يبدو
هذا ولا نستطيع أن نحدد لشعر الأساطيل ملامح أسلوبية متميزة فإن الشعر الذي قيل في هذا الموضوع كان ملتحما بالشاعر مقدرة وزمانا , فالشعراء المعروفون بالإجادة أبدعوا وأمتعوا , ومن كان منهم دون مستوى الإبداع كان شعره صورة لمقدار موهبته , تلك واحدة , والملاحظة الثانية أن الشعر كلما تأخر زمانا كانت بصمات الصنعة البديعية في ثنايا عباراته أكثر وضوحا وأوفر احتفالا , ومن ثم الجدة في شعر البحرية الأندلسية تكمن في الموضوع نفسه وتصرف الشعراء في وصف السفين في أيام الحرب والسلم , وحسن التمييز في وصف هذه وتلك كل حسب نوعها ووظيفتها , ووصف الملاح الأندلسي وجرأته وحركته ورشاقته وبراعته وبسالته , وكان ذلك كله يدفع بالشاعر دفعا إلى خلق اللوحة البارعة , والصورة المتحركة والتشبيه المعجب المثير .
ولا يفوتنا في هذا المقام أن ننبه إلى أن هذا الضرب من الشعر الذي أوردناه في هذا الفصل إنما يتعلق بسفن الحرب دون غيرها , وهو لهذا السبب شعر جاد حاد لا تلاعب فيه ولاعوج . وأما الشعر في سفن التنزه وإزجاء أوقات الفراغ , وسباق القوارب على صفحة النهر فذلك موضوع آخر مكانه هناك في فصل المائيات من باب شعر الطبيعة .







الباب الثالث
الفصل الرابع
الشعر يرثي الأندلس
( 1 ) ـ ـ الأندلس من المجد إلى الطرد
إن قصة رثاء الشعر الأندلسي للوطن الإسلامي الأندلسي فريدة من نوعها في مسيرة شعر أية أمة من الأمم , فقد أسلفنا القول في مستهل هذا الباب من كتابنا وعلى مدى الصفحات العديدة السابقة أمجاد العرب في الأندلس ومنجزاتهم , بحيث جعلوا منها قلعة لا تسقط , وجنة لا تذوي , ودوحة لا تصوح , خلقوا ذلك الذي نسطره في نطاق المفهوم المادي والمعنوي , والحربي والمدني , العلمي والأدبي , والفني والثقافي , النفسي والعقلي , العمراني والزخرفي , البري والبحري . إن كل هذه المفاهيم والإنجازات كانت ناضجة مثمرة في كل بقعة من بقاع الأندلس العربية الإسلامية , فإذا ما اندك ذلك الحصن , وصوح ذلك المجد , وانهدم ذلك الصرح , وتداعى ذلك البناء بالتفكك فالانحلال فالتداعي فالزوال فالفناء كانت المصيبة أكبر من أن تحتمل والخسارة أعظم من أن تعوض .
ثمانية قرون مجيدة عاشها العرب المسلمون في الأندلس تحت رايات التمدن وبنود التسامح وأعلام الحضارة , وانسحب تمدنهم على جيرانهم الأوربيين وانساحت حضارتهم إلى ساحاتهم , وتغلغلت صنوف معارفهم إلى قلوبهم وعقولهم وألبابهم إلى المدى الذي جعل لغة الحديث في مجتمعات الثقافية الراقية في أوروبا اللغة العربية , والكتاب الذي تزدان به مكتبات المنازل والقصور هو الكتاب العربي بشكله الأنيق وجلده البهيج ومحتواه النفيس يمدن العقل ويهذب النفس ويثقف الإنسان .
لقد بدأ مجتمع المجد والعلم والشعر والسحر والعمران والجمال الموهوب والمصنوع والمحسن والمبتكر يذوي وينهدم , فكان أمرا طبيعيا أن يرافق الشعر هذه المراحل كلها , ومراحل الحسن والجمال والثقافة والبناء , ومراحل الهدم والانحسار والهزيمة والتحلل والفناء , ولكن شتان الفرق بين الشعر في الحالين , لقد كان في الأولى سعيدا بهيجا أنيقا صاخبا , وكان في الثانية – بطبيعة الحال – بائسا حزينا كسيفا مستصرخا باكيا .
إن مجد المسلمين في الأندلس بلغ الذروة على أواخر عهد بني أمية الأندلسيين , و بخاصة في عصر الناصر وولده المستنصر , وما أن زالت دولة الأمويين وانقسمت الجزيرة المنيعة إلى دويلات صغيرة , وطوائف متنافرة فيما يسمى بعصر ملوك الطوائف حتى بدأ المد ينحسر , والقوة تشيخ , ولألاء النور يخفت ويخبو . إن في التماسك والوحدة والالتحام قوة وعزة , سنة الله في الأرض ولن تجد لسنة الله تبديلا , ما اجتمع قوم وتعاطفوا واتحدوا إلا عزوا وامتنعوا على أقوى الأعداء , وما تفرق قوم وتخالفوا إلا ذلوا وهانوا على أحقر الأعداء , إن تاريخنا العربي مليء بهذه الصور والتجارب , ضاعت الأندلس بسبب التخالف والتفرق والتخاصم والسعي إلى الأمجاد الشخصية الفردية فضاع المجتمع وسط الفرد الذي وسوس له الشيطان أن يسعى إلى مجد على حساب جريمة التفرقة بين فئات الناس وأبناء أقطار الأمة الواحدة .
كان التفريق في شكل ما أسمي تاريخيا بملوك الطوائف الصدع الأول في هز الهيكل الأندلسي المنيع هزا فسخ مابين لبناته المتراصة , لقد أنهكوا أنفسهم من الحرب , ليس حرب الأعداء ولكن حرب أنفسهم , كل يريد أن يستولي على إمارة جاره , بل على غنيمة جاره , فكل منهم أخذ الإمارة التي يتولى أمرها غنيمة من الدولة الكبرى , يستوي بذلك بنو عباد في إشبيلية وبنو صمادح في المرية وبنو هود في الثغر الأعلى سرقسطة , وبنو نوح في موردن وبنو الأفطس في الغرب , في بطليوس وشنرين وإشبونة .
لقد كان في بعض هؤلاء فضل كبير , وكان بعضهم من ذوي العلم والأدب والفروسية , ولكن جريمة التفرقة تجب كل مأثرة وتقبح كل صنيع حسن . ثم بزغ في الأفق نذير رهيب تمثل في محاولات للفرنجة بشن الحرب على الأطراف الأندلسية الإسلامية فإذا نجحوا في إحراز بعض الانتصارات كان ذلك بداية لتحقيق أمل غريز عليهم طالما راود خيالهم لطرد المسلمين منذ أن وطئت أقدامهم أرض الأندلس لأول مرة على نهاية حافة القرن الأول الهجري .
لقد أهمل العرب الفاتحون الظافرون الإستيلاء على منطقة شمالي غربي الجزيرة
(( جلبيقية )) وهي ناحية خيراتها – إن وجدت – لا تغري على الاستيلاء أو الفتح , فظلت منطقة نصرانية منعزلة الأمر الذي شجع بعض الطامحين من أبنائها أن ينشء حركة للمقاومة ضد العرب الوافدين ثم ضد المسلمين من عرب وأندلسين , وبمرور الزمان بدت الدائرة تتسع إلى أن استطاع ألفونسو الأول أن يسيطر على المنطقة ويحيطها بسلسلة من القلاع والحصون فلما كان القرن الرابع الهجري كانت الفكرة التي خامرت بلاي Pelayo الزعيم الأول لخطة المقاومة قد نضجت , ونشأت إمارة على حدود الدولة الأندلسية الإسلامية عرفت باسم قشتالة وهي نفسها الكلمة الإسبانية أي القلاع
كانت هذه الإمارة دائمة التسلل إلى الأراضي الأندلسية الإسلامية الأمر الذي جعل الأمراء الأندلسيين يخوضون غمار حروب طاحنة ضدهم , وبخاصة عبد الرحمن الناصر الذي ردهم إلى صوابهم بكثرة ما أوفد إليهم من غزوات وما أوقع بهم من هزائم .
ولكن لا يكاد القرن الخامس ينتصف حتى ينجح النورمان في الاستيلاء على بربشتر من أعمال الثغر الأعلى , وكان ذلك سنة 456 هـ وقيل أن يمضي ربع قرن من الزمان تسقط طليطلة في أيديهم سنة 479 هـ .
إن مدنا إسلامية تسقط وتحتل وتنفصل نهائيا بأرضها وسكانها – كلهم أو بعضهم – عن الجسم الإسلامي هنا يتحرك الشعر فيبدأ يبكي المدن الذاهبة .
ويستنجد ملوك الطوائف – وبصفة خاصة المعتمد بن عباد – بالمرابطين في إفريقية الذين يلبون النداء ويعبرون البحر إلى الأندلس ويلتحمون هم وحليفهم المعتمد بن عباد الملك الفارس الشاعر بجيوش النصارى بقيادة ألفونسو السادس في معركة سهول الزلاقة بعد عام واحد من سقوط طليطلة أي سنة 479 هـ ويحقق المسلمون المتحالفون نصرا حاسما على جيوش ألفونسو , ويخلد التاريخ معركة الزلاقة وبطلها الحقيقي المعتمد بن عباد الذي صمد فيها صمود أبطال الأساطير رغم ما ناله من بعض الجراح .
ولكن الأصدقاء القادمين من شمال إفريقية لتقديم العون إلى حلفائهم في الأندلس لا يلبثون أن يطمعوا في هذه البلاد لسحرها وجمالها فيقوضون ملك بني عباد ويأسرون المعتمد سنة 484 هـ أي بعد الزلاقة بخمس سنين , ويقضون على إمارة بني المظفر – أو بني الأفطس – سنة 485 أي بعد عام من القضاء على بني عباد . وهكذا يكون الثمن غاليا ويهم الشعر حزينا لرثاء إمارتين من أرقى إماراة الطوائف لأن كلا من ملكيهما كان أديبا فارسا شاعرا و ينشأ شعر رثاء الإمارات بعد شعر رثاء المدن أو معه في وقت واحد .
ويتوالى سقوط المدن الأندلسية في أيدي الفرنجة في نطاق ما أطلق عليه حركة الاستراد فتسقط سرقسطة سنة 512 هـ ثم طرطوسة سنة 543 ويتجه النشاط المعادي للمسلمين إلى الغرب فتسقط إشبونة وشنترين سنة 542 وماجة سنة 556 ويابرة سنة 516 إنهما سلسلة من الهزائم بل قافلة من النكبات تحل بالأندلس المسلمة لا يوقفها إلا نهاية دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين على أنقاضهم في إفريقية والأندلس , وكانت من القوة بحيث أوقفت سقوط المدن الإسلامية وعاد المجد إلى الأندلس لمدة تقارب قرنا من الزمان , وحاربوا وفتحوا وأحرزوا انتصارات حاسمة على الفرنجة في عديد من المعارك التي أهمها معركة الأرك سنة 593 هـ بقيادة الخليفة يعقوب بن منصور الموحدي , وقدر عدد القتلى من النصارى الأسبان فيها بما يقارب المائة وخمسين ألفا , والأسرى بما يناهز الثلاثين ألفا , وقد بلغ ما استوى عليه المسلمون من الخيول وحدها ثمانين ألفا ومن البغال التي كانت تحمل المؤن والعتاد للأسبان مائة ألف بغل.
كانت معركة الأرك المجيدة شبيهة بمعركة الزلاقة الشهيرة من حيث ضخامة حجم الانتصار الذي أحرزه المسلمون ومن حيث شراسة الهزيمة التي لحقت بنصارى الأندلس , ولكن لا يكاد ينقضي على هذه الموقعة بضعة عشر عاما حتى ينتكس جيش المسلمين حينما أخذ على غرة في معركة العقاب الشهيرة , سنة 609 هـ . وليست كلمة العقاب هنا بمعناها اللغوي وإنما هي اسم للمكان الذي جرت على أرضه المعركة على مقربة من جيان حيث تحطم معظم جيش الموحدين في الأندلس وقد اعتبرت هذه المعركة – من الناحية السياسية والحربية – ذروة ما أطلق عليه حركة الاسترداد النصرانية , فبعد العقاب بسنوات قلائل أخذت المدن الإسلامية الهامة في الأندلس تتهاوى الواحدة بعد الأخرى شرقا وغربا , ففي شرق الأندلس سقطت ميورقة سنة 627 , وبياسة سنة 623 , وقرطبة ذات الأمجاد سنة 633 , وبلنسية سنة 636 , ودانية سنة 641 , وشاطبة سنة 644 , ومرسية سنة 640 وجيان سنة 643 , وإشبيلية سنة 646 هـ - 1248 م .
وكانت الكارثة تسرع في نهش مدن الأندلس الغربية إسراعها في التهام مدن الشرق , سقطت بطليوس سنة 627 , وماردة سنة 628 , وشلب سنة 640 ولبلة سنة 655 , وقادس سنة 659 , وشريش سنة 702 هـ - 1264 م .
إنها سلسلة من الهزائم , بل من الكوارث , بل من الإهانة والذل والفناء لحق بمسلمي إسبانيا بأسرع ما يتوقع عقل العاقل , لقد أسقطوا أنفسهم بأيديهم وليس بأيدي أعدائهم , لأن الذي يعطي عدوه وسائل الغلبة , ويسلمه أدوات الانتصار , بتصميمه على بث التفرقة , وإنماء التباعد , وتوسيع شقة الخصام ومحاربة أخيه وابن عمه والاعتداء على بني قومه في عقر دارهم والتوسع على حسابهم فتحا وأرضا عوضا عن أن يبسط يده للاتحاد , ويفتح قلبه للحب , ويشد أزر أخيه , ويؤلف قلبه , وينطلق الجميع صفا واحدا لحرب العدو ,أقول إن الذي يصنع ذلك بإشعال نار الفرقة وإشاعة روح البغضاء وإثارة الحرب بين الأهل والانصراف عن مد جسور المودة والمحبة بينهم فضلا عن إيقاع الظلم والكبت بمواطنيه وفرض الجور والطغيان على محكوميه ومصادرة حرياتهم وسلب أموالهم وفرض الحرمان والفقر عليهم فرضا نقول إن مثل هذا الحاكم يكون هو نفسه صانع الهزيمة لقومه , ويكون هو نفسه مقدم النصر هدية لأعدائه وأعداء قومه . ولقد فعل بعض زعماء المسلمين ذلك في الأندلس , فضاعت الأندلس بمجدها , وباء المتقاعسون أو الطامعون من زعمائها بعار الهزيمة ولعنة التاريخ .
لقد كان عدد من حكام الأندلس موسومين بهذه الصفات , وكان الناس يستنكرون فعلهم ولا يجرؤون على المجاهرة بآرائهم فيهم , وكانوا يسطرون خواطرهم ضد حاكميهم ثم يخفونها حتى لا يقع عليها الحاكم الظالم الذي يسير بقومه في طريق الهزيمة والفناء . إن الكاتب الأديب الشاعر أبا عبد الله محمدا الفازازي يكتب بعض خواطره شعرا ويخفيها , ولقد وجدت هذه الأبيات في جيبه بعد وفاته :
الروم تضرب في البلاد وتغنم والجور يأخذ ما بقى والمغرم
والمال يورد كله قشتالة والجند تسقط والرعية تظلم
وذوو التعين ليس فيهم مسلم إلا معين في الفساد مسلم
أسفي على تلك البلاد وأهلها الله يلطف بالجميع ويرحم
إن الذي يدعو إلى مزيد من الأسى أن هذه الأبيات رفعت سلطات بلده فلما وقف عليها بكى على ما اشتملت عليه من حقائق ولكنه استنكر أن يجرؤ مواطن على قول مثل هذا النقد , وعلق قائلا : لو كان حيا ضربت عنقه ( ) .
ونتيجة لذلك كله – وأمر تفصيله طويل – ما إن انتصف القرن السابع الهجري حتى كانت كل ولايات شرق ووسط وغرب الأندلس في يد إسبانيا النصرانية ولم تصمد إلا ولاية غرناطة في الجنوب وظلت تكافح من أجل البقاء غير ناسية رسالة الحضارة والتمدن زهاء قرنين ونصف قرن من الزمان في بطولة واستبسال قل أن يجد التاريخ له مثيلا , وكانت هذه الإمارة بحجمها الصغير قد كثفت على مساحتها الكثير من أمجاد الأندلس العقيدة كل أسباب التقدم في العلوم والفنون وبخاصة العمارة الإسلامية وزخرفها التي لا زالت تعتبر واحدة من معجزات الفن الإسلامي بخاصة والفن الإسلامي بعامة إلى يومنا هذا والتي تشكل حتى الآن أكبر مورد مالي لخزانة إسبانيا المعاصرة .
وإن مملكة غرناطة الصغيرة على ما حولها من عداوة ضارية وأعداء يتربصون بها للانقضاض عليها لم تتقاعد عن الدفاع عن نفسها وشن الحرب على جيرانها الأقوياء متى فرضت الحرب نفسها عليها .
ولكن هيهات أن يستمر الضعيف في مقاومة العدو العملاق الضاري المتربص به رغم استبسال هذا الضعيف وقوة إرادته , لقد سقطت مملك
غرناطة آخر معقل للإسلام في إسبانيا , ورحل آخر ملك مسلم عن قصر الحمراء في قصة فريدة في التاريخ هما وحزنا وحسرة وألما وندما في اليوم الثاني من ربيع الأول سنة 897 هـ الموافق الثاني من يناير ( كانون الثاني ) سنة 1492 م .
فسلام على الأندلس ولا سلام على من قصر وطمح وخان فأضاع الأندلس . فلنترك هذه المحنة , ومن يريد المزيد من تفاصيل المأساة فليرجع إلى كتب التاريخ , ولنعد إلى الشعر في رثاء الأندلس وبكاء جانب رائع من مجدنا الغابر.
( 2 )
رثاء المدن الأندلسية الذاهبة
ربما كان من الصعوبة بمكان تصنيف شعر رثاء الوطن الإسلامي الأندلسي إلى موضوعات جانبية بعينها لأنه قيل متابعا الأحداث , ملاحقا المصائب مرافقا الكوارث , ومن ثم فقد كانت مسيرة هذا الشعر الحزين مسيرة تاريخية يسجل كل حادثة في زمانها , ويبكي كل كارثة في وقتها , فقد تسقط مدينة كبرى , ثم تنمحي بعدها إمارة مرموقة , ثم تداس مدينة أخرى بعد الإمارة ثم تحدث معركة كبرى في مرج أو جبل , ثم تسقط مجموعات من المدن وتتهاوى بعض الإمارات في وقت واحد وهكذا سار الأمر حتى سقطت الأندلس كلها .
ولكننا في محاولة لتنسيق شعر الكارثة موضوعيا سنعمد – تيسيرا على الباحث والدارس والقارئ على حد سواء – إلى تقديم هذا الشعر تحت عناوين ثلاثة هي : رثاء المدن ثم رثاء الإمارات , ثم رثاء الديار كلها بغض النظر عن أنه قد يكون الفارق الزمني بين سقوط مدينة وأخرى ما يناهز قرنا ونصف قرن من الزمان كما هو الحال في سقوط كل من طليطلة وسقوط بلنسية الأخير لأنها سقطت ثم استعيدت لفترة من الزمن غير قصيرة , ثم سقطت نهائيا .
كانت أولى المدن الأندلسية الإسلامية الكبيرة التي سقطت هي طليطلة وهي واحدة من أكبر القواعد الإسلامية في الأندلس وكان سقوطها في وقت مبكر في سنة 478 هـ ولكن أسباب سقوط الدول لا تخضع للزمان بقدر ما تخضع لصالح الحاكم أو فساده وسلامة السكان أو فسادهم لقد كان من المخجل وطليطلة تسقط أن يرى الناس من غزاة ومقيمين حاكمها القادر بالله ابن يحيى بن ذوي النور وبيده اضطراب ينظر فيه ليحدد الوقت الذي يرحل فيه.
لقد كان سقوط طليطلة صدمة كبرى أصابت المسلمين في الأندلس بالذهول الذي ما لبث أن ترجم إلى الحقيقة المريرة التي عبرعنها الشاعر عبد الله بن فرج اليحصبي المشهور بابن الغسال تعبيرا مثقلا بالشؤم متنبئا بغروب شمس الأندلس , ومنطقة يكمن في هذه الأبيات المخفية أو بالأحرى التي كانت مخفية لمن سمعها من معاصريه ( ) :
يا أهل أندلس شدوا رحالكم فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى سلك الجزيرة منثورا من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عوافبه كيف الحياة مع الحيات في سفط

ويروى البيت الثاني بشكل آخر – ولكنه لا يغير هدف المعنى – على هذا الشكل :
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ثوب الجزيرة منسولا من الوسط
وهذا شاعر آخر أكثر تشاؤما بل إنه داعية إلى الخراب , متطوع لبث روح الهزيمة يستعمل اصطلاحات لاعبي الشطرنج في قوله :
يا أهل أندلس ردوا المعار فما في العرف عارية إلا مردات
ألم تروا بيدق الكفار فرزنه وشاهنا أخر الأبيات شهمات
ويورد المقري قي رثاء طليطلة قصيدة من عيون الشعر لم يذكر قائلها تزيد على سبعين بيتا ضمنها الشاعر كل أحاسيسه بالحسرة ومدها بكل ما رفدت هبه شاعريته , فضمن أبياتها الدعوة إلى الاستغفار والنخوة والتقريع والتركيز على وضع الكارثة في حجمها الحقيقي الكبير وإظهار المهانة التي لحقت بالمسلمين لسقوطها فقد كانت من المنعة والتحصن بحيث يستحيل سقوطها الأمر الذي اضطر العدو إلى حصارها سبع سنين طوال .
يقول الشاعر المجهول الموهوب الحزين الذي لم يمنعه حزنه من أن يعمد
في بعض الأبيات إلى محسنات بديعية من جناس وتورية وطباق لم تكن طبيعة الموضوع لتدعو إليه :
لثكلك كيف تبتسم الثغور سرورا بعدما بئست ثغور
أما وأبي مصاب هد منه ثبير الدين فاتصل الثبور
لقد قصمت ظهور حين قالوا : أمير الكافرين له ظهور
ترى في الدهر مسرورا بعيش ؟ مضى عنا لطيته السرور
أليس بنا أبي النفس شهم يدير على الدوائر إذ تدر
لقد خضعت رقاب كن غلبا وزال عتوها ومضى النفور
وهان على عزيز القوم ذل وسامح في الحريم فتى غيور
طليطلة أباح الكفر منها حماها ! إن ذا نبأ كبير
فليس مثالها إيوان كسرى ولا منها الخورنق والسدير
محصنة محسنة بعيد تناولها , ومطلبها عسير
ويمضي الشاعر مستنكرا سقوط المدينة الحصينة منعطفا على المشاعر الدينية مظهرا ما أصاب المدينة من تحول ديني , فبعد أن كانت دار إسلام تحولت إلى دار نصرانية , وأما مساجدها فقد صارت كنائس بين عشية وضحاها وأما أهلها فقد صاروا بلا مأوى مشردين :
ألم تك معقلا للدين صعبا فذلله كما شاء القدير
وأخرج أهلها منها جميعا فصاروا حيث شاء بهم مصير
وكانت دار إيمان وعلم معالمها التي طمست تنير
فعادت دار كفر مصطفاة قد اضطرت بأهليها الأمور
مساجدها كنائس , أي قلب على هذا يقر ولا يطير
وفي صراحة صادقة مريرة يعمد الشاعر إلى التقريع والتوبيخ ذاكرا أسباب السقوط , وأسباب سقوط أي أمة واحدة على الدوام , إن لم تكن متطابقة على التمام فهي متشابهة متقاربة , إن من أسباب سقوط طليطلة حسبما ذكر الشاعر في قصيدته : فساد الحكم , وانتشار الظلم والجور والمصادرات , وذيوع الفاحشة بين الناس , وتعفن المجتمع بالانحلال والإقبال على الشهوات واقتراف المعاصي , وخور الحكام وتفرقهم وجبنهم , والاستهانة بأخطار العدو , إما كبرا وغرورا , وإما غفلة وغباء . إن الشاعر يعدد كل ذلك ويفصله عامدا إلى التوبيخ هادفا إلى التقريع غير بعيد عن النغمة الشعرية وحسن الإيقاع حتى تؤدي القصيدة دورها في إنقاذ ما يمكن إنقاذه فيقول :
... وكان بنا وبالقينات أولى لو انضمت على الكل القبور
لقد سخنت بحالتهن عين وكيف يصح مغلوب قرير
لئن غبنا عن الإخوان إنا بأحزان وأشجان حضور
نذير كان للأيام فيهم بملكهم فقد وفت النذور
فإن قلنا العقوبة أدركتهم وجاءهم من الله النكير
فإنا مثلهم وأشد منهم نجور , وكيف يسلم من يجور
أنأمل أن يحل بنا انتقام وفينا الفسق أجمع والفجور ؟
وأكل للحرام ولا اضطرار إليه ؟ فيسهل الأمر العسير
... أصبرا بعد سبي وامتحان يلام عليهما القلب الصبور
فأم الصبر مذكار ولود وأم الصقر مقلات نزور
نخور إذا دهينا بالرزايا وليس بمعجب بقر يخور
ونجبن ليس نزأر , لو شجعنا ولم نجبن لكان لنا زئير
لقد ساءت بنا الأخبار حتى أمات المخبرين بها الخبير
أتتنا الكتب فيها كل شر وبشرنا بأنحسنا البشير
وقيل تجمعوا لفراق شمل طليطلة تملكها الكفور
ويقع الشاعر في حيرة شديدة وهو يذكر طليطلة الجميلة الأسيرة المحتلة وحين يذكر الأهل والحقل والبستان والديار , ويرثي الحال المقيم ويبكي لمصير النازح , وتتمثل له كل المعاني السحر والجمال في وطنه , وكل وطن عزيز جميل على أهله ولو كان مفازة قاتله أو صحراء قاحلة , فما بالك وهذا الوطن هو الأندلس , وتلك الديار هي طليطلة بعمرانها ومائها وخضرتها وظلالها , إن الشاعر وأهله بين أمرين أحلاهما مر , فإما بقاء مع ذل الرق وذهاب الدين وإما تشرد وذهاب الدنيا , فليس أمامه إذن إلا البكاء :
كفى حزنا بأن الناس قالوا إلى أين التحول والمسير
أنترك دورنا ونفر عنها وليس لنا وراء البحر دور
ولا ثم الضياع تروق حسنا نباكرها فيعجبنا البكور
وظل وارف وخرير ماء فلا قر هناك , ولا حرور
ويؤكل من فواكهها طري ويشرب من جداولها نمير
يؤدى مغرم في كل شهر ويوخذ كل صائفة عشور
فهم أحمى لحوزتنا وأولى بنا , وهم الموالي والعشير
... لقد ذهب اليقين فلا يقين وغر القوم بالله الغرور
فلا دين ولا دنيا ولكن غرور بالمعيشة ما غرور
رضوا بالرق يا لله ! ماذا رآه وما أشار به مشير
مضى الإسلام فابك دما عليه فما ينفي الجوى الدمع الغزير
ويفيض بالشاعر حي التعلق بمدينته الضائعة , ويحس من جانبه بالضياع فيستنهض الهمم ويستنفر المتقاعس ويبحث عن قائد زعيم شجاع غيور باسل يخوض معركة التحرير , فإما حياة للجميع وإما موت للجميع , ويسبغ على أبياته هذه صفة حربية حتى نكاد نظنها فيما لو قرأناها مستقلة أنها مقطوعة من شعر الحرب , لولا البيتين الأخيرين في القصيدة اللذين يسبغان على المرء مسحة من حزن ولمحة من يأس . يقول الشاعر الموهوب المجهول مختتما قصيدته في رثاء طليطلة أول مدينة إسلامية كبيرة استشهدت في الأندلس :
ألا رجل له رأي أصيل به مما نحاذر نستجير ؟
يكر إذا السيف تناوله وأين بنا إذا ولت كرور
وطعن بالقنا الخطار حتى يقول الرمح : ما هذا الخطير ؟
عظيم أن يكون الناس طرا بأندلس : قتيل أو أسير
أذكر بالقراع الليث حرصا على أن يقرع البيض الذكور
يوسع للذي يلقاه صدرا فقد ضاقت بما تلقى الصدور
تنغصت الحياة فلا حياة وودع جيرة إذ لا مجير
فليل فيه هم مستكن ويوم فيه شر مستطير
ومن مراثي المدن الأندلسية أيضا ما كتبه الشعراء في رثاء مدينة بلنسية , وهي من أجمل المدن وأرقاها , ومنها عدد من الشعراء المرموقين من أمثال ابن خفاجة وابن أخته ابن الزقاق البلنسي , والرصافي الرفاء البلنسي وغيرهم كثيرين .
ولقد سقطت بلنسية في أيدي نصارى الأندلس مرتين , المرة الأولى سنة 488 هـ وظلت محتلة حتى سنة 495 هـ أي سبعة عشر عاما حتى حررتها جيوش يوسف ابن تاشفين , وكانت يومئذ بقيادة الأمير محمد مزدلي ( ) , وأما السقطة الثانية والأخيرة فكانت في فترة الانهيار الطاغي في النصف الأول من القرن السابع الهجري , وعلى وجه التحديد سنة 635 وقيل سنة 640 هـ بعد أن ظل الأعداء يحاصرونها ويضيقون الخناق عليها عددا من السنين .
لقد رثى الشعراء بلنسية مرتين كما لو كانت إنسانا مرموقا مات مرتين ويبدو أن أهل بلنسية كانوا على شيء من الإهمال والغفلة , وكانوا جاهلين بشؤون الحرب مقبلين على الملذات والأكل والشراب , ذلك أن مدينة بطرنه وهي غير بعيدة عن بلنسية كانت قد سقطت قبل ذلك بحوالي ثلاثين سنة فكان على البلنسين أن يعيشوا حياة استعداد وحذر ولكنهم ما برحوا يقيمون الاحتفالات متجمعين خارج مدينتهم في ثيابهم الأنيقة المترفة ومعهم أميرهم عبد العزيز بن أبي عامر يأكلون ويشربون فكمن لهم الفرنجة وأعملوا فيهم القتل والأسر الأمر الذي جعل أحد الشعراء يصف هذه الحادثة الأسيفة مشيرا إلى احتلال بطرنة وسقوطها قبل زمن قصير قائلا ( ) :
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم حلل الحرير عليكم ألوانا
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها لو لم يكن ببطرنة ما كانا
وحين تم للفرنجة إخضاعها والاستيلاء عليها سنة 488 هـ وقتلوا أهلها , وأحرقوا دورها وعاثوا فيها الفساد , وشوهوا نضرتها , بكاها شاعرها وابنها ابن خفاجة قائلا :
عاثت بساحتك الظبا يا دار ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر طال اعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها لا أنت أنت ولا الديار ديار
إن ابن خفاجة الرقيق المترف حسا , الأنيق شعرا , سيد من وصف جمال الطبيعة في الأندلس حتى لقب بالجنان , لم يطق أن يرى جنته بلنسية تخرب وتنقلب إلى جحيم وخراب فكانت هذه النفثة الساحرة التي تعطي عبرة وتذرف عبرة .
ثم كانت الهجمة الثانية للفرنجة على بلنسية , وكانت هجماتهم ضارية وحشية , يعملون الحرق والقتل والسبي , بدون تفريق بين شيخ كبير أو ولد صغير أو طفل رضيع أو امرأة عزلاء , مما يذكرنا بما يصنعه اليهود الذين يحتلون أرض فلسطين في أيامنا هذه في اعتداءاتهم الغادرة على العرب , سواء منهم من كانوا داخل فلسطين أو حولها من البلاد العربية .
والحق أنه منذ معركة العقاب سنة 609 هـ التي سبقت الإشارة إليها , وأمر الأندلس بات سائرا على درب الفناء , فإن المسلمين لم يهزموا في الأندلس على مدى عيشهم فيها بمثل هذه الهزيمة , فقد قدر المؤرخون قتلى المسلمين بعدد .
تراوح بين مائة ألف عند البعض ومائة وخمسين ألفا عند البعض الآخر , فكانت نذير شؤم وزوال( ) فزلزلت أفكار الناس وبلبلت أحوالهم وأدخلت اليأس إلى قلوبهم كما عبر عنها أبي إسحاق بن إبراهيم الدباغ في أبياته المفزعة ( ):
وقائلة أراك تطيل فكرا كأنك قد وقفت لدى الحساب
فقلت لها أفكر في عقاب غدا سببا لمعركة العقاب
فما في أرض الأندلس مقام وقد دخل البلا من كل باب
كان على المسلمين الأندلسين والأمر كذلك أن يستنجدوا بالمسلمين من ملوك إفريقية , وكانوا على حال من القوة والمنعة , فكان أن استصرخ زيان ابن مردنيش أمير بلنسية بأبي زكريا عبد الواحد بن حفص صاحب افريقية وأرسل إليه الكاتب البارع والشاعر المبدع والعالم المثقف المؤرخ أبا عبد الله ابن الأبار القضاعي البلنسي المتوفى سنة 658 هـ الذي أنشد بين يديه القصيدة السينية المشهورة :

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درسا ( )
وكأنما كان ابن الأبار يكتب التاريخ آنذاك فإن المدينة سقطت قبل أن يدركها أي من جيوش المسلمين .
إن ابن الأبار يقصد إلى هدفه في قصيدته العصماء الفريدة قصدا مباشرا دون مقدمات ودون استهلال بالمديح الذي جعله خاتم القصيدة بل الثلثين الأخيرين
من القصيدة , إنه يستصرخ الأمير الأفريقي ويستنجد به بصوت مرتفع مسموع , وإيقاع نحس بصدوره من قلبه رغم الصنعة البديعية الوافرة الفاشية في القصيدة , إنه يبدي الحزن ويظهر الأسى على ما حل بالمدينة الجميلة وما حولها , ويثير حميته الملكية وعاطفته الدينية فقد انقلبت المساجد إلى كنائس , وانهدمت مدارس القرآن فصارت خرائب , وذوت حضارة المدينة وخبا نورها . يقول ابن الأبار :
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ! إن السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
وحاش مما تعانيه حشاشتها فطالما ذاقت البلوى صباح مسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا للحادثات وأمسى جدها تعسا
في كل شارقة إلمام بائقة يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكل غاربة إجحاف نائبة تثني الأمان حذارا والسرور أسى
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم إلا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي سنة منها وقرطبة ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا
مدائن حلها الإشراك مبتسما جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا
وصيرتها العوادي العابئات بها يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا
فمن دساكر كانت دونها حرسا ومن كنائس كانت قبلها كنسا
يا للمساجد عادت للعدا بيعا وللنداء غدا أثناء جرسا
لهفي عليها إلى استرجاع فائتها مدارسا للمثاني أصبحت درسا
وأربعا نمنمت أيدي الربيع لها ما شئت من خلع موشية وكسا
كانت حدائق للأحداق مونقة فصوح النضر من أدواحها وعسا
وحال ما حولها من منظر عجب يستجلس الركب أو يستركب الجلسا
سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا عيث الدبى في مغانيها التي كبسا
وابتز بزتها مما تحيفها تحيف الأسد الضاري لما افترسا
يمضي الشاعر في استصراخه الأمير مبديا حسرة على ما أنهدم من محاسن المدينة فهز الجبال ونكس أعلام في غيبة المدافعين البواسل من حملة راية التوحيد لمجابهة ذلك المنفرد في الميدان الداعي إلى التثليث يقول ابن الآبار ماضيا في إنشاده :
فأين عيش جنيناه بها خضرا وأين عصر جلينا بها سلسا
محا محاسنها طاغ أتيح لها ما نام عن هضمها حينا ولا نعسا
ورج أرجاءها لما أحاط بها فغادر الشم من أعلامها خنسا
خلا له الجو فامتدت يداه إلى إدراك ما لم تطأ رجلاه مختلسا
وأكثر الزعم بالتثليث منفردا ولو رأى راية التوحيد ما نبسا
ويستعين ابن الأبار ببيانه في مدح الأمير الأفريقي وإلقاء صيغ التوسل بين يديه مورطا إياه بما خلعه عليه من ألقاب الإمامة وصفات البسالة وسمات البطولة , و يمضي في ذلك طويلا في أبيات تزيد على الأربعين نجتزئ منها هذه الأبيات :
صل حبلها أيها المولى الرحيم فما أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا
وأحي ما طمست منها العداة كما أحييت من دعوة المهدي ما طمسا
أيام صرت لنصر الحق مستبقا وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا
وقمت فيها بأمر الله منتصرا كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا
تمحو الذي كشف التجسيم من ظلم والصبح ماحية أنواره الغلسا
وتقتضي الملك الجبار مهجته يوم الوغى جهرة لا ترقب الخلسا
هذي رسائلها تدعوك من كثب وأنت أفضل مرجو لمن يئسا
وافتك جارية بالنجح راجية منك الأمير الرضا والسيد الندسا *
والحق أن بلنسية بما لحقها من محن وما حل بها من ضياع قد نالت الكثير من اهتمام الشعراء والحزن عليها والبكاء على نضرتها والتحمس لرثائها كما يكثر الشعراء من رثاء عظيم قوم طواه الموت , إن صاحب نفح الطيب يورد قصيدة أخرى في رثاء بلنسية بلغت من الطول تسعين بيتا , موجهة إلى نفس الأمير الإفريقي أبي زكريا بن حفص دون أن يذكر اسم الشاعر , وعلى الرغم من رقة القصيدة وسمات الحزن التي ترافق أبياتها ومشاعر التحسر التي توشيها من أولها إلى آخرها فإن معانيها لا تخرج عن معاني سينية ابن الأبار يقول ذلك الشاعر المجهول في بعض أبيات قصيدته ( ) :
إيه بلنسية وفي ذكراك ما يمري الشؤون دماءها لا ماءها
كيف السبيل إلى احتلال معاهد شب الأعاجم دونها هيجاءها
وإلى ربى وأباطح لم تعر من حلل الربيع مصيفها وشتاءها
طاب المعرس والمقيل خلالها وتطلعت غرر المنى أثناءها
بأبي مدارس كالطلول دوارس نسخت نواقيس الصليب نداءها
ومصانع كسف الضلال صباحها فيخاله الرائي إليه مساءها
ناحت بها الورقاء تسمع شدوها وغدت ترجع نوحها وبكاءها
عجبا لأهل النار !َ حلوا جنة منها تمد عليهم أفياءها
أملت لهم فتعجلوا ما أملوا أيامهم , لا سوغوا إملاءها
بعدا لنفس أبصرت إسلامها فتوكفت عن حزبها إسلاءها
أما العلوج فقد أحالوا حالها فمن المطيق علاجها وشفاءها
أهدى إليها بالمكاره جارح للكفر كره ماءها وهواءها
وكفى أسى أن الفواجع جمة فمى يقاوم أسوها أسواءها
ولعل بلنسية قد استحوزت على النصيب الأوفى من استنفار الشعر للمسلمين بصددها والدفاع عنها والبكاء عليها , فإن عديدا من شعراء الأندلس قالوا في رثائها درر القصائد وغرر الأشعار . ومن المدن التي كافحت غزو النصارى ببسالة وضراوة وعزم وإيمان وتصميم , إشبيلية العتيدة قلعة المعتضد بن عباد وعرين ابنه المعتمد .
لقد جمع فرناندو قوات هائلة جندها من كل أطراف اسبانيا النصرانية , ووسم المعركة بميسم صليبي صريح حين جمع الأمراء والمطارنة والقساوسة وبثهم بين جيشه البري , ثم جلب أسطولا بحريا عسكر به في نهر الوادي الكبير ليشدد النكير على المدينة المتأبية على سقوط , وكان من المخجل حقا أن يشترك (( أمير )) مسلم هو ابن الأحمر في مساعدة النصارى بالمدد والعدد انتقاما من أهل اشبيلية لرفضهم الخضوع لطاعته ( ) . ولم يكن ابن الأحمر الوحيد من بين أمراء المسلمين الذين ساعدوا ملوك الحروب الصليبية الأندلسية وإنما وجد بين الحكام المسلمين عدد من الخونة كانوا على شاكلة ابن الأحمر , كانوا يفعلون ذلك انتقاما من خصومهم السياسيين بغض النظر عن أخوتهم جميعا في العروبة والدين .
لقد استعصت المدينة على جموع الجيوش والأساطيل الاسبانية النصرانية وامتنعت عليهم رغم خيانة ابن الأحمر , ومن صفحات الشرف الخالدة لهذه المدينة أن الذين دافعوا عنها هم أهلها من أبناء الشعب دون قيادة ملك أو أمير , وظلت تقاوم في ضراوة مدة ثمانية عشر شهرا رغم الحصار الرهيب فلما نفذ الزاد والطعام والسلاح , لم تجد المدينة بدا من الاستسلام في جمادى الأولى سنة 645 هـ مقابل حقن دماء أهليها وحفظ أموالهم وأن يمهلوا شهرا لتسوية أمورهم وإخلاء دورهم . خلال تلك المقاومة الباسلة كتب شاعر اشبيلية إبراهيم بن سهل الإسرائيلي قصيدة رائية يستنهض همم المسلمين في إفريقية ويستصرخ نخوتهم في أسلوب قوي فحل رصين لم نألفه لديه من قبل , لقد ألفنا عنده رقة الغزل وسحر الأسلوب وفتنة التوشيح وبهرجة الصنعة , ولكنه هنا يرتفع إلى مقام القول المجاهد والشعر المحارب والدعوة إلى القتال ابتغاء النصر أو بلوغ الشهادة مستغلا إيقاظ العاطفة الدينية وتنبيه النخوة الإسلامية:
وردا ! فمضمون نجاح المصدر هي عزة الدنيا وفوز المحشر
نادى الجهاد بكم بنصر مضمر يبدو لكم بين القنا والضمر
خلوا الديار لدار عز واركبوا عبر العجاج إلى النعيم الأخضر
وتسوغوا كدر المناهل في السرى ترووا بماء الحوض غير مكدر
يا معشر العرب الذين توارثوا شيم الحمية كابرا عن أكبر
إن الإله قد اشترى أرواحكم بيعوا ويهنئكم وفاء المشتري
أنتم أحق بنصر دين نبيكم ولكم تمهد في قديم الأعصر
أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا ذاك البناء بكل لدن أسمر
إن امتناع اشبيلية على الغزاة فترة طويلة جعلت فرناندو الثالث الذي حشد الحشود للاستيلاء عليها يرتب موكبا فخما لدخولها , وكان أول عمل أقدم عليه هو تحويل مسجدها الجامع إلى كنيسه وإزالة كل معالم الإسلام فيها , وكان سقوط المدينة التليدة نذيرا بسقوط مدن أخرى كبيرة وزوال حصون إسلامية حصينة , شريش وشذونة وقادس وشلوقة وروضة وأركش وشنتمريه.
إن هذا الاكتساح الرهيب والهدم والحرق والتخريب , والقتل والسبي والانتقام جعل الشعراء يبعثون بالعديد من قصائد الاسترحام وطلب النجدة من مسلمي افريقية حتى إن أبا الحكم بن المرحل كتب قصيدة ميمية بعث بها إلى الغرب فقرئت على منبر جامع القرويين في فاس في يوم جمعة من سنة 662 هـ فلما سمعها الناس انهمرت دموعهم وعلا نشيجهم وانفجر بكاؤهم , وكان لمثل هذا الشعر نتائجه في تحريك النفوس نحو الجهاد , ولكن يبدو أن الفساد في الأندلس كان من العمق بحيث لم يكن للنجدة جدوى أو أثر ملحوظ أما قصيدة ابن المرحل سالف الذكر فيقول في بعض أبياتها :
استنصر الدين بكم فاستقدموا فإنكم إن تسلموه يسلم
لاذت بكم أندلس ناشرة برحم الدين ونعم الرحم
فاسترحمتكم فارحموها إنه لا يرحم الرحمن من لا يرحم
ما هي إلا قطعة من أرضكم وأهلها منكم وأنتم منهم
( 3 )
الشعر يرثي الأمارات الغاربة:
إذا كان الشعر قد رثى المدن وبكاها وهي تسقط في ربوع الأندلس العريضة الواحدة بعد الأخرى فإن هذه المدن كانت تنتمي إلى ممالك وإمارات غير أن أكثر هذه الإمارات لم تسقط تحت وطأة جيوش الفرنجة وإنما سقطت تحت وطأة جيوش مسلمة وافدة من افريقية حينا ومنطلقة من بقاع الأندلس نفسها حينا آخر والإمارات الغاربة والملوك الآفلون من الكثرة بمكان فإن ملك بني أمية الكبير قد ذهب وان ملوك الطوائف على ما في الكثير منهم من فضل وأدب وعلم وفروسية قد دالت دولهم وان المرابطين قد هلكوا والموحدين قد سقطوا وهكذا رافق التاريخ في الأندلس سقوط الدول واحدة بعد واحدة وأحيانا مجموعة بعد مجموعة يسقط العديد من الأمارات في جيل واحد بل في سنة واحدة أحيانا
وإذا كان من غير الميسور أن نقدم الشعر باكيا في جنازات هذه الأمارات أو الدول جميعا فقد فضلنا أن نقدم دولتين غاربتين شارك الشعر في مأتميهما وقد العزاء والدموع في رثاء كل منهما أنهما دولتا بني عباد في إشبيلية وبني المظفر في بطليوس وماردة
إن الدولة البادية دولة فروسية ونخوة وشجاعة وحرب وشعر وأدب والدولة الثانية من نفس الطراز: فروسية ونخوة وأدب وشعر وتزيد على بني عباد في العلم والتأليف يسهر عليه الملك وتتعب عليه الرعية ومن المؤسف أن هاتين الدولتين اللتين كانتا ترصعان جبن الأندلس بتاج من الغار في السلم والحرب قد لقيتا مصرعهما على يد ملك المرابطين يوسف بن تاشفين الأفريقي الذي قابل الإحسان وكرم الوفادة وحسن الضيافة بالغدر والطمع والحسد والقتل
قامت دولة بني عباد كما هو معروف في اشبيلية سنة 426هـ ورسخت أركانها واشتد بنيانها وامتد سلطانها في عهد عباد بن محمد بن عباد المعروف بالمعتضد واستولى على غرب الأندلس وكان سياسيا محنكا ومحاربا جبارا ثم خلفه ابنه الملك الشاعر الفارس بل ملك شعراء الأندلس وشاعر ملوكها محمد المكني بأبي القاسم الملقب بالمعتمد على الله وقد امتد ملكه حتى شمل قرطبة وجزءا كبيرا من الأندلس وهو بطل موقعة الزلاقة المشهورة وكان حوله من الشعراء نوابغ شعراء الأندلس مثل ابن زيدون وابن حمديس وابن عبد الصمد وابن اللبانة وابن عمار الذي اتخذه أخا ووزيرا ثم قتله ،وغيرهم حتى إنه لم يجتمع بباب ملك من ملوك الأندلس من الشعراء ما اجتمع بباب المعتمد وانتهت دولة بني عباد على يد ابن ابن تاشفين حسما ذكرنا قبل قليل وحمل أسيرا إلى أغمات في المغرب سنة 484ثم مات في سجنه 488هـ وبموته انقضت دولة جديرة بالبكاء عليها حرية بالرثاء
لقد كان المعتمد أول من رثى نفسه ، وهو لم يصنع هذا الرثاء على طريقة من يئسوا من حياتهم لمرض عضال أو أمل ضائع مثلما صنع ابن شهيد وغيره ،وإنما كان يرثي ملكه ويبكي دولته حين أمر أن يكتب على قبره وقد أحس باقتراب منيته في الأسر هذه الأبيات :
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي حقا ظفرت بأشلاء ابن عباد ؟ !
بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا بالخصب إن أجد بوا بالري للصادي ؟
نعم !هو الحق وافاني به قدر من السماء ووافاني لميعادي
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه أن الجبال تهادى فوق أطواد
فلا تزل صلوات الله دائمة على دفينك لا تحصى بتعداد
لقد نشط الشعر أسيفا في رثاء المعتمد ، أعني في رثاء مملكة بني عباد ، بل إن كتبا ألفت في رثائهم ،فإن الشاعر أبا بكر الداني المشهور بابن اللبانة قد ألف فيهم كتابين ، أحدهما ((السلوك في وعظ الملوك )) ضمنه ما قيل فيهم من شعر في رثائهم والبكاء على مملكتهم والكتاب الثاني ((الاعتماد في أخبار بني عباد ))وهو كتاب يهتم بتاريخهم وأخبارهم .هذا فضلا عن مراثيه الكثيرة فيهم وفي المعتمد بصفة خاصة ،فمن القصائد الجيدة في رثاء المعتمد قول ابن اللبانة جامعا بين المعنى الرصين الحزين والصنعة اللفظية البديعية:
لكل شيء من الأشياء ميقات وللمنى من مناياهن غايات
والدهر في صبغة الحرباء منعمس ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشطرنج في يده وربما قمرت بالبيدق الشاة
فانفض يديك من الدنيا وساكنها فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها الأرضي قد كتمت سريرة العالم العلوي أغمات
طوت مظلتها، لا بل مذلتها من لم تزل فوقه للعز رايات
من كان بين الندى والبأس أنصله هندية وعطاياه هنيدات
أنكرت إلا التواء للقيود به وكيف تنكر في الروضات حيات
وقلت :هن ذؤابات فلم عكست من رأسه نحو رجليه الذؤابات؟
رأوه ليثا فخافوا منه عادية عذرتهم ،فلعدوى الليث عادات
ومن مراثي ابن اللبانة أبي بكر الداني هذا في دولة بني عباد والمعتمد قصيدة دالية جيدة يستهلها بهذه الأبيات ( ):
تبكي السماء بدمع رائح غادي على البهاليل من أبناء عباد
على الجبال التي هدت قواعدها وكانت الأرض منهم ذات أوتاد
والرابيات عليها اليانعات ذوت أنوارها فغدت في خفض أوهاد
عريسة دخلتها النائبات على أساور لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها فاليوم لا عاكف فيها ولا باد
وفيها يقول وقد لون معانيه بصبغة داكنة من الحزن والأسى مصورا حزن الناس حين رأوا بني عباد مأسورين في الطريق إلى المنفى:
نسيت إلا غداة النهر كونهم في المنشآت كأموات بالحاد
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا من لؤلؤ طافيات فوق أزباد
تفرقوا جيرة من بعد ما نشئوا أهلا بأهل وأولادا بأولاد
حان الوداع فضجت كل صارخة وصارخ من مفداة ومن فادي
سارت سفائنهم والنوح يتبعها كأنها ابل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت تلك القطائع من قطعات أكباد
من لي بكم يا بني ماء السماء إذا ماء السماء أبى سقيا حشا الصادي
وللشاعر الداني شعر كثير في رثاء بني عباد ولم يكن رثاؤه لهم بعد موت المعتمد فقط حسبما هو واضح من أبياته السالفة الذكر،وإنما رثى الدولة والمعتمد على قيد الحياة بعيدا عن الملك مقيدا في سلاسل الأسر في أغمات في المغرب ،لقد كان ابن اللبانة من الوفاء بحيث عبر البحر إلى المغرب وقصد اغمات سنة 486 هــ أي قبل وفاة المعتمد بعامين وأنشد قصيدة ميمية من أجود ما قيل في رثاء هؤلاء الملوك اللخميين مطلعها:
تنشق بريحان السلام فإنما أفض به مسكا عليك مختما
وقل لي مجازا إن عدمت حقيقة لعلك في نعمى فقد كنت منعما
ومنها:
بكى آل عباد ولا كمحمد وأولاده صوب الغمام إذا همى
حبيب إلى قلبي حبيب لقوله عسى طلل يدنو بهم ولعلما
صباحهم كنا به نحمد السرى فلما عد مناهم سرينا على عمى
وكنا رعينا العز حول حماهم فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى
والقصيدة تسير على هذا النهج المفعم بالأسى المترع بمعاني الوفاء.
ومن الشعراء الأوفياء لبني عباد الذين أجادوا رثاءهم ابن عبد الصمد شاعر المعتمد الذي سعى إلى قبره في أول عيد مر على وفاته وكان جمع من الناس سعوا لزيارة القبر وقف ابن عبد الصمد على القبر وانشد قصيدة دالية من عيون الشعر استهلها قائلا( ) :
ملك الملوك أسامع فأنادي أم قد عد تلث السماع عواد
لما خلت منك القصور فلم تكن فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا وتخذت قبرك موضع الإنشاد
وهنا خر الشاعر على الأرض يبكي ويعفر وجهه في تراب القبر فبكى الناس من حوله حتى أخضلت ملابسهم وارتفع نشيجهم وعويلهم
مضى ابن عبد الصمد بعد أن استعاد أنفاسه في إنشاد قصيدته الطويلة الجيدة الحزينة التي تزيد كثيرا على مائة بيت وكل بيت عين من عيون الشعر يتمول في بعضها مشيرا إلى سعة ملكة :
عهدي بملكك وهو طلق ضاحك متهلل الصفحات للقصاد
أيام تخفق حولك الرايات فو ق كتائب الرؤساء والأجناد
والأمر أمرك والزمان مبشر بممالك قد أذعنت وبلاد
والخيل تمرح والفوارس تنحني بين الصوارم والقنا المياد
إذ تحسب الهيجاء روضا يانعا وترى الأزاهر من ضياء صعاد
وتخال بيض المرهفات على الطلى ورق الحمام على الغصون شواد
ومنها قوله في شجاعة المعتمد وسماحته وثقافته :
من يفتح الأمصار بعد محمد من يعقد الرايات للقواد
من يطعن النجلاء في المراق أو من يضرب الأخدود في المراد
من يترك الأسطار في الأوراق مثـ ـل الحلي في اللبات والأجياد
من يفهم المعنى الخفي ومن له صدق الحديث وصحة الإيراد
من يبذل الآلاف للزوار والـــ مداح والقصاد والرواد
وكانت زوجة المعتمد قد ماتت قبله ،فلما مات دفن معها في قبر واحد،الأمر الذي يوحي إلى الشاعر أن يوجه إليها في قبرها هذا القول الأسيف الحزين:
أم الملوك أما علمت بزائر لك ذي وفاء مخلص ووداد
أبكى العلا والمجد فقد كما الذي لبست له الدنيا ثياب حداد
لهفي على تلك السجايا إنها زهر الربى موشية الإيراد
والحق أن القصيدة جديرة بكل احتفاء وخليفة بالقراءة والاستقراء ولعلها من القصائد القلائل التي لم يؤثر طولها في قيمتها الفنية ولم يتعرض الشاعر فيها لعثرات القول التي يتعرض لها في أحيان كثيرة أصحاب المطولات من القصائد
هذا ما كان من أمر رثاء بني عباد ولعلنا لاحضنا أن رثاء الدولة كان دون رثاء شخص المعتمد، وليس ذلك بغريب فلقد كان المعتمد ملكا شاعرا، وكان هو نفسه عصب الدولة وعنوان مجدها ،وكان سخيا كريما مع الشعراء وغير الشعراء، وكان صاحب شمائل وأمجاد، فلا غرو أن يكون حجر الزاوية في رثاء الشعر لدولته ولبني قومه. وربما كانت هناك حقيقة أخرى ضاعفت من حزن الناس بعامة والشعراء بخاصة على بني عباد فقد رأى الناس أبناء الملك العظيم وقد تحولوا إلى حرفيين يكتسبون قوت يومهم بعرق جبينهم( ) بل أن بعض بناته قد راهن الناس يلبسن الأسمال البالية ويمشين حافيات الأقدام لأنهن لا يملكن ثمن ما تحتذي أقدامهن.
أما الدولة الثانية التي اخترناها في مجال رثاء الدول الغاربة فهي حسبما اشرنا في سالف الحديث دولة بني المظفر التي انشاناها محمد بن المنصور بن الأفطس التجيبي في بطليوس وماردة ويابرة وسنرين واشبونة وما حولها أي انه كان ملكا على البرتغال الحالية وجزء غير صغير من اسبانيا وكان يلقب بالمظفر وكان فارسا أديبا عالما مؤرخا وهو معاصر للمعتمد وكانا على خلاف بعض الوقت وإذا كان المعتمد كبير الملوك الشعراء فقد كان المظفر كبير الملوك الأدباء فعلى الرغم من اهتمامه بشئون الحرب والملك ألف كتابا على نمط عيون الأخبار لابن قتيبة واسماه ((المظفري )) أو ((التذكير المظفري)) وجعله في خمسين جزءا كما كتب تفسير للقران الكريم ولما مات المظفر سنة 460 هـــ تولى الملك من بعده ابنه المنصور يحيى ولم يكن ذا شأن كبير مثل أبيه فلما توفي المنصور سنة 473 تولى الملك بعد أخاه عمر الذي تلقب بالمتوكل وكان أديبا شاعرا فارسا سياسيا محنكا وقد مارس الفروسية والشعر منذ فجر شبابه ومن شعره العذب ما قاله حين بلغه انه ذكر أفي مجلس أخيه المنصور ـــ وكان ملكا بعد أبيه ـــ بسوء لقد كتب إلى أخيه آنذاك
فما بالهم لا انعم الله بالهم ينيطون بي ذما وقد علموا فضلي
يسيئون بي القول جهلا وضلة واني لأرجو أن يسوءهم فعلي
لئن كان حقا ما إذا عوا فلا مشت إلى غاية العلياء من بعدها رجلي
ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة ولم أمنح العافين في زمن المحل
إنها روح أديب ونفس وشاعر أصيل .وبقية القصيدة أحلى من مستهلها . إن الذي يدعو إلى الأسى أن المتوكل هذا وابنيه الفضل والعباس ـــوكانا فارسين عظيمين ــــ قد قتلوا تحت سنابك خيل ابن تاشفين سنة 489هـ أي بعد عزل المعتمد بخمس سنوات وبعد وفاته بسنة واحدة وقد حزن الناس عليهم لفضلهم، وفيهم وفي دولتهم أنشأ الوزير أبو محمد ابن عبدون قصيدته الرائية التي تعتبر من أشهر قصائد الشعر الأندلسي وبخاصة في رثاء الدول ومطلعها
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور
إن الشاعر الوزير المثقف الحكيم ابن عبدون يسلك نهجا جديدا في بناء قصيدته من حيث استيحاء تجاريب الحياة واستقراء أحداث التاريخ والاستفادة من دروسه وأخذ الحكمة من غيره . ولكن ابن عبدون لا ينسى صيغ التفجع يتبع الواحدة منها الأخرى ،وأنات التوجع يوردها متتالية متوالية متهما الدهر بالختل والليالي بالخديعة ،والدنيا بالغرور والناس بالشرور : أبيضهم كالسيف في الإقبال على إراقة الدم وأسمرم كالرمح في إزهاق النفوس .
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة والبيض والسمر مثل البيض والسمر
وقد تعودنا فما سبق من شواهدنا وقصائد أن نتقبل الصنعة البديعية في أكثر ما قيل من شعر في هذا الموضوع الذي لا تتقبل طبيعتها الصنعة البديعية في يسر أو ترحيب ،ومع ذلك فهذا البيت على حكمته مشحون بأكثر من لون من ألوان البديع . المهم أن الشاعر يستخدم معاني الحكمة والحذر من الدهر والليالي والناس ، وينبه إلى غدرهما وبعدها عن الوفاء ووضع الأحداث التاريخية الهامة في زوايا النسيان فلنقرأ بعضا من أبيات القصيدة ولنستعرضها في ضوء هذه المقاييس :
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة عن نومة بين ناب الليث والظفر
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة والبيض والسمر مثل البيض والسمر
ولا هوادة بين الرأس تأخذه يد الضراب وبين الصارم الذكر
فلا تغرنك من دنياك نومتها فما صناعة عينيها سوى السهر
ما لليالي ـــ أقال الله عثرتناـ من الليالي وخانتها يد الغير
في كل حين لها في كل جارحة منا جراح وإن زاغت عن النظر
تسر بالشيء لكن كي تغر به كالأيم ( ) ثار إلى الجاني من الزهر
كم دولة وليت بالنصر خدمتها لم تبق منها ـ وسل ذكراك ـ من خبر
هوت بـ ((دارا)) وفلت غرب قاتله وكان غضبا على الأملاك ذا أثر
واسترجعت من بني ساسان ما وهبت ولم تدع لبني يونان من أثر
وألحقت أختها طسما ، وعاد على عاد ، وجرهم منها ناقص المرر
ويمضي ابن عبدون في مرثيته النفسية الحكيمة آخذا العبر من التاريخ الذي يستعرض أحداثه الجسام التي أودت بدول كان نجمها ملتمعا في ذرى المجد مثل الأكاسرة وبني ساسان واليونان ، ويستقرىء صفحاته التي قضت على قبائل عظيمة من بائدة وعاربة مثل طسم وعاد وجرهم وسبأ ومثل يمن ومضر وعبس وذبيان ، ويذكر من أعلام فرسان الجاهلية كليبا ومهلهلا ، ويضرب المثل بالشهداء والقتلى من الصحابة والخلفاء الراشيدين والأئمة المطهرين:
يذكر استشهاد جعفر وحمزة عمي الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومقتل الراشدين عمر وعثمان وعلي ، ومصرع الزبير واستشهاد الإمام الحسين.
يسوق ابن عبدون كل هذه العبر وقار الحكيم وأمانة المؤرخ ورشاقة الشاعر ولمسة الفنان إنه يقدم لونا من غدر الأيام في نطاق الأمثال التي يسوقها قائلا:
وخضبت شيب عثمان دما وخطت إلى الزبير ولم تستحي من عمر
وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن وأمكنت من حسين راحتي شمر
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة فدت عليا بمن شاءت من البشر*
ويستمر ابن عبدون ينسج على هذا المنوال ، منوال غدر الدهر وخيانة الأيام ضاربا المزيد من المزيد من الأمثال متعرضا لقضية اتهام معاوية بدس السم للإمام الحسن ،وعبيد الله بن زياد والحسين ،والأخوين مصعب وعبد الله ابني الزبير حيث قتل الأول على فرط شجاعته وحسن بلائه ولم تشفع للثاني عياذعته بالكعبة واحتماؤه بالبيت العتيق ،ويمضي ذاكرا قتل الوليد بن يزيد من ملوك بني أمية وشعرائها وخلفائها ، وسيوف السفاح تسفح بني أمية ، ونكبة البرامكة على يد الرشيد رغم فضلهم عليه ، وسوء مصائر بعض ملوك بني العباس من أمثال المقتدر والمستعين والمعتز .
إن الشاعر يسوق خمسة وثلاثين بيتا مصدرها أحداث التاريخ ومادتها الحكمة وهدفها العبرة لكي ينتهي من ذلك كله إلى غدر الدنيا ببني المظفر ، وهو إذ يصل إلى هذه المرحلة من مرثيته يعتمد إلى طرح القضية الأبدية التي تتمثل في أن الحياة الدنيا مراحل والإنسان فيها ومنها على سفر ، ثم لا يكاد يصمد الشاعر قليلا أمام هذا المعنى الجليل ، لأنه يسارع إلى إبداء اللوعة والارتماء في خضم الحسرة على بني المظفر دهاة الحكم والسياسة ،وقمة الفصاحة والسماحة ، وسادة الفرسان ورؤوس الحرب والفتح والطعان .
إن الشاعر يخلع على القوم جليل الصفات التي تتساوق مع جليل الرزء وجسامة المصاب ، ويخاطبهم على هذا النسق الجليل من فن القول :
.... بني المظفر والأيام ما برحت مراحلا والورى منها على سفر
سحقا ليومكم يوما ، ولا حملت بمثله ليلة في غابر العمر
من للأسرة أو من للأعنة أو من للأسنة يهديها إلى الثغر
من للظبى وعوالي الخط قد عقدت أطراف ألسنها بالعي والحصر
وطوقت بالمنايا السود بيضهم فأعجب لذاك وما منها سوى ذكر
من لليراعة أو من للبراعة أو من للسماحة أو للنفع والضرر
أو دفع كارثة أو ردع آزفة أو قمع حادثة تعيا على القدر
وفي المرحلة الأخيرة من قصيدته يبكي ابن عبدون الدولة المظفرية ممثلة في الملك بالمتوكل الأديب الفارس الشاعر وفي ولديه الفضل والعباس وكانوا قد استشهدوا دفاعا عن ملكهم أمام جحافل المرابطين ،ويشيد بالمعاني الجليلة التي كانت كامنة فيهم والقيم العليا التي كانوا يستمسكون بها من مهابة ووفاء ،وجلال وإباء، ويفتقد الشاعر مواقف الاستقرار في الحكم ،فقد كانوا موازين للاستقرار وصمامات للامان ، فذهب الاستقرار وغاب الأمان.
يقول الشاعر في هذا القسم من مرثيته :
ويح السماح وويح البأس لو سلما وحسرة الدين والدنيا على عمر
سقت ثرى الفضل والعباس هامية تعزى إليهم سماحا لا إلى المطر
ثلاثة ما رأى السعدان متثلهم واخبر ولو عززوا بالشمس والقمر
ثلاثة ما ارتقى النسران حيث رقوا وكل ما طار من نسر ولم يطر
ثلاثة كذوات الدهر منذ نأوا عني مضى الدهر لم يربع ولم يحر
ومر من كل شيء فيه أطيبه حتى التمتع بالآصال والبكر
أين الجلال الذي غضت مهابته قلوبنا وعيون الأنجم الزهر
أين الإباء الذي أرسوا قواعده على دعائم من عز ومن ظفر
أين الوفاء الذي أصفوا شرائعه فلم يرد أحد منها على كدر
كانوا رواسي أرض الله ، منذ مضوا عنها استطارت بمن فيها ولم تقر
لا عجب أن يفتقد الأندلسيون بني عباد فيبكيهم الشعر ويرثيهم الشعراء ولا عجب أن يحزن الأندلسيون على بني المظفر فيخلدهم الشعر ويؤبنهم الشعراء ، فقد كانت الدولتان درتين نفيستين في عقد ملوك الطوائف الذي انتثرت حباته ،لأن هذه الحبات على نفاستها كانت نثارا من الجوهرة الكبيرة الثمينة المنيعة ــ حكومة الأندلس الواحدة ــ وكان هؤلاء الملوك أنفسهم محطمي تلك الجوهرة النفيسة الكبيرة .

(4)
رثاء الأندلس الضائعة:
بدأنا الحديث عن المدن التي كانت تسقط واستعرضنا رثاء الشعراء لها مفردة أو مجتمعة ، فقد كانت تسقط أحيانا عدة مدن دفعة واحدة ، ثم ثنينا بالحديث عن دور الشعر في رثاء الدول الغاربة ، وها نحن نعرض للمرحلة الأخيرة من هذه السلسلة الحزينة وهي مرحلة رثاء الأندلس كلها دفعة واحدة بعدما أضاعها أهلها بتخاذلهم وانحلالهم ، وأصبحت غريبة عن الجسم الإسلامي .
إن أشهر قصيدة قيلت في رثاء الأندلس الضائعة هي نونية أبي الطيب صالح بن شريف الرندي التي مطلعها .
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
نقول إنها أشهر قصيدة في هذا الموقف التاريخي ومن ثم يحق لنا أن نقول إنها ليست أحسن ما قيل فإن ما قيل في هذه المحنة كثير وما عهدنا بسينية ابن الأبار أو برائية ابن عبدون ببعيد .
تلك واحدة ، وأما الثانية فإن هذه القصيدة الشهيرة لم تكتب بعد خروج المسلمين من الأندلس وإنما كتبت إبان محنة سقوط المدن والثغور بالجملة ،وعلى وجه التحديد ـــ فما يرجع الأستاذ محمد عبد الله عنان ــ سنة 655 هـ حين نزل ابن الأحمر لنصارى الأندلس عن عدد كبير من القواعد الأندلسية هذا ولقد توفي ابن الرندي سنة 684هـ أي قبل سقوط الأندلس نهائيا وخروج المسلمين منها بحوالي قرنين من الزمان .
من أجل ذلك فإن مكان هذه القصيدة من هذا الكتاب هو فضل رثاء المدن وليس هذا الفصل ولكن لا بأس من أن تأخذ مكانها هنا ما دامت الكثرة الوافرة من الدارسين قد اعتبرتها مرثية للأندلس كلها ، غير أن واجب البحث العلمي يقتضي أن نشير إلى هذه الحقيقة ولتأخذ القصيدة ـــ بعد ذلك ـــ المكان الذي يحلو للدارسين أن يضعوها فيه .
وقصيدة ابن الرندي على جودتها لا تخرج عن كونها تقليدا ومزيجا من قصيدة ابن عبدون الرائية في رثاء بني المظفر سنة 489 هـ وقصيدة ابن الأبار السينية في البكاء على بلنسية سنة 635هـ أي قبل أن ينظم ابن الرندي قصيدته بعشرين عاما فقط ولا شك أنه قرأ القصيدتين بل حفظها ،فكلاهما جديرة بأن يحفظها العامة آنذاك فضلا عن الخاصة ،ولمكانة الشاعرين في المجتمع الأدبي في تلك البقعة من العالم الإسلامي .
هذا وتمتاز قصيدة ابن الرندي بأنها مخططة ممنهجة ، فقد جعل قسما منها وهو الأول ،في شكوى الدهر وغدره وضرب المثل بالدول التي سقطت والملوك الذين قتلوا أو قالتلوا على رغم عظم سطوتهم وسعة ملكهم واقتبس من ذلك إلى عظم الفجيعة في الأندلس وجسامة الحطب في فقدها وهو أمر نجل عن العزاء ويستعصي على السلوان يقول ابن الرئدى في هذا القسم من القصيدة:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقى على احد ولا يدوم على حال لها شان
يمزق الدهر حتما كل سابغة إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضى كل سيف للفناء ولو كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوي التيجان من يمن وأين منهم أكاليل وتيجان
و أين ما شاده شداد في أرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان
و أين ما حازه قارون من ذهب وأين عاد وشداد وقحطان
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصارما كان من ملك ومن ملك كما حكى عن خيال الطيف وسنان
دار الزمان على ((دارا))وقاتله وأم كسرى فما آواه إيوان
كأنما الصعب لم يسهل له سبب يوما ولا ملك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسرات وأحزان
وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حل بالإسلام سلوان
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له هوى له أحد وانهد ثهلان
أصابها العين في الإسلام فارتزأت حتى خلت منه أقطار وبلدان
والمرحلة الثانية من قصيدة ابن الرندي تحسر على المدن الجميلة العظيمة العزيزة التي سقطت ،وكانت تتلو الواحدة منها الأخرى وكأنها في سباق إلى الهاوية ، والطريف في الشاعر أنه يذكر كل مدينة بأجل صفاتها وأشهر معالمها ، يبكيها جميعها ويرثيها رثاء ينتهي به إلى اليأس أو إلى ما يشبه اليأس :
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطبة أم أين جيان
وأين قرطبة دار العلوم فكم من عالم قد سما فيها له شان
وأين حمص *وما تحويه من نزه ونهرها العذب فياض وملآن
قواعد كن أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان
والمرحلة الثالثة من القصيدة هي مرحلة العاطفة الدينية وإظهارها وتجسيمها حتى تبدو المصيبة صارخة تغبر الوجوه وتعكر النفوس وتصم الآذان ،وتلك وسيلة استعمالها كل شعراء البكاء على الأندلس ، فلقد كانت صفتها الأولى والأخيرة الصفة الإسلامية ،فإذا صارت المساجد كنائس واستبدلت النواقيس والصلبان بالقبلة ، وبكت الحاريب وشكت المنابر ،فإن ذكر هذه الرزايا تثير نخوة المسلم لينطلق إلى الجهاد إذا كان به بقية من نخوة إسلامية :
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
يا غافلا وله في الدهر موعظة إن كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشيا مرحا يلهيه موطنه أبعد حمص تغر المرء أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمها وما لها مع طول الدهر نسيان
والمرحلة التالية من نونية ابن الرندي حسب المنهج الذي وضعه لقصيدته هي مرحلة استنفار المسلمين الذين يقيمون في شمال افريقية ، وإذا كان ابن الرندي قد سلك سبيل ابن الأبار في الفكر و الاستهلال وبكاء المدن ومس العواطف الدينية ،فإنه في مرحلة الاستنفار لا عند مجرد الاستغاثة وإثارة الحماس ،وإنما يستغضب القوم ويكاد يسخر من تقاعسهم ، بل إنه يذهب إلى مدى أبعد وهو تقريعهم وتوبيخهم باسم الأخوة الإسلامية والرابطة الدينية فيقول :
ياراكبين عتاق الخيل ضامرة كأنها في مجال السبق عقبان
وحاملين سيوف الهند مرهفة كأنها في ظلام النقع نيران
وراتعين وراء البحر في دعة لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان
ثم ينطلق الشاعر إلى المرحلة الأخيرة من قصيدتة ويحاول مخاطبة إنسانية المسلم بعد أن أثار نخوته الدينية ، ويصف حال القوم وما قد انحدروا إليه من ذل بعد عز ، وعبودية بعد سيادة ،وضياع بعد منعة ،حيارى بعد استقرار غرباء بعد حلة ،يباعون في الأسواق كما تباع الماشية ، يفرق بين الولد وأبيه وبين الرضيع وأمه ، ويهتك عرض الصبية الطاهرة البكر وتغتصب الزوجة الحصان الحرة ، إن ابن الرندي يقدم هذه الصورة الحزينة في إطار من جيد الكلم وحسن القول ومتين الشعر بحيث خلدت هذه الصور قصيدته كما أسهم منهجها في إنجاحها ، وها هي المرحلة الأخيرة من القصيدة:
ألا نفوس أبيات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان
يا من لذلة قوم بعد عزهم أحال حالهم كفر وطغيان
بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة والعين باكية والقلب حيران
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
وبين يدينا قصيدة راثية أخرى لشاعر لا نزال نجهل اسمه وإن كنا نعلم من خلال أبياته أن منازل آبائه كانت في الرية ، ومن الثابت لا أن القصيدة كتبت في شعبان سنة 897 هــ وذلك من واقع الخطوطة التي تضمنتها ، وهي قصيدة طويلة بلغت أكثر من مائة بيت.
لقد أصبح لهذا اللون من شعر محنة الأندلس طابعا مميزا وخصائص مشتركة بل يمكن القول أنه منهج موحد وإن حدث اختلاف في التقديم أو التأخير لمجموعة الأفكار التي تتضمنها القصيدة .
والقصيدة التي بين يدينا تبدأ مباشرا بالبكاء والتحسر وتذكر الوطن السليب والأرض المفتقدة وما حل بها من خراب وتدمير ، ودعاء لمن بقي من سكان الأرض إن كانوا قد نجوا من القتل والأسر . لقد انتهى زمان اصطناع الحكمة وطلب الصبر فقد وقعت الواقعة وأزفت الآزفة :
أحقا خبا من جو رندة نورها وقد كسفت بعد الشموس بدورها
وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت منازلها ذات العلا وقصورها
فيا ساكني تلك الديار كريمة سقى عهدكم مزن يصوب نميرها
أحقا أخلائي القضاء أبادكم؟ ودارت عليكم بالصروف دهورها ؟
فقتل وأسر لا يفادى وفرقة لدي عرصات الحشر يأتي سفيرها
ويجنح الشاعر بعد ذلك مباشرة إلى اللمسة العاطفية الدينية ، وهي أساسية في كل قصيدة لأن المهددين في أرضهم مسلمون ، وهم يحاربون لصفتهم الدينية ،ولو لم يكونوا كذلك لما حوربوا ، ومن تنصر منهم نجا من القتل والعذاب ، وإحياء الجانب الديني في القصيدة ينبه المؤمنين إلى الجهاد ، وهو تعليل سبق أن كررناه ، إن الشاعر يتحسر على المساجد التي حولت إلى كنائس ،ويبكي على المآذن التي عطل الأذان من أعاليها ، والمحراب يشكو أمره للمنبر ، والسور والآيات القرآنية تشكو فراق القارئين والمقرئين :
فوا حسرتا كم من مساجد حولت وكانت إلى البيت الحرام شطورها
وواأسفا كم من صوامع أوحشت وقد كان معتاد الأذان يزورها
فمحرابها يشكو لمنبرها الجوى وآياتها تشكو الفراق وسورها
ويطرق الشاعر جانبا آخر مؤلما ألما ممضا هو هتك ستور الحرائر المسلمات ، واغتصاب الصغيرات الغريرات البريئات ، وقتل الأطفال الصغار أو تنصيرهم ، إن الشاعر يصف حيرة الطفلة المسلمة ، وقد ترقرقت الدموع في عينيها حيرة وأسى ، ويصور الصغير المسلم يموت في حجر .أمه أو بالأحرى يصف الأم المسلمة يموت صغيرها في حجرها إنها ذروة المأساة ،لأنها تتعلق بالإنسان ، وما الوطن والبيت والأرض والبستان بذي قيمة إلا بالإنسان ، الإنسان من رجل وامرأة وصبي وفتاة وكهل وشيخ وغلام ووليد. من هنا كانت ذروة مواقف القصيدة وفيها يقول :
وكم طفلة حسناء فيها مصونة إذا أسفرت يسبي العقول سفورها
فأضحت بأيدي الكافرين رهينة وقد هتكت بالرغم منها ستورها
وكم فيهم من مهجة ذات عفة تود لو انضمت عليها قبورها
لها روعة من وقعة البين ، دائم أساها ، وعين لا يكف هديرها
وكم من صغير بدل الدهر دينه وهل يتبع الشيطان إلا صغيرها
أما وقد صور الشاعر موقف الإنسان الأندلسي المغلوب على أمره ، فإنه ينتقل للحديث عن الفجيعة في الأندلس كله أو بعضه ، مجملة ومفصلة ، إنه حديث المنازل والديار والبطائح والمدائن ، حداد وأسى وحزن ،بعد أفراح وانبساط ثكلى لكثرة من ذبحوا من أبنائها ، ويتحدث عن ((بلش ))ويحن إلى ((المنكب)) ، ويبكي ((غرناطة ))المنكسة الأعلام ذات المنبر والسرير الذارفين العبرات ، ويذكر ((بسطة)) ولا ينسى ((المرية))موطن آبائه وديار أهله . كل هذه الصور الحزينة الحقيقة غير المتخيلة جاء بها الشاعر ليكون أمينا في فنه ، صادقا أمام أجيال المستقبل :
لأندلس ارتحت لها وتضعضعت وحق لديها محوها ودثورها
منازلها مصدوعة وبطاحها مدائنها موتورة وثغورها
تهائمها مفجوعة ونجودها وأحجارها مصدومة وصخوره
وقد لبست ثوب الحداد ومزقت ملابس حسن كان يزهو حبورها
فأحياؤها تبدي الأسى وجمادها يكاد لفرط الحزن يبدو ضميرها
فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة قد استفرغت ذبحا وقتلا حجورها
وجزت نواصيها وشلت يمينها وبدل بالويل المبين سرورها
وقد كانت الغريبة الجنن التي ومن خف ناديها وجف نضيرها
ألا ولتقف ركب الأسى بمعالم قد ارتج باديها وضج حضورها
بدار العلا حيث الصفات كأنها من الخلد والمأوى غدت تستطيرها
محل قرار الملك غرناطة التي هي الحضرة العليا زهتها زهورها
ترى بالأسى أعلامها وهي خشع ومنبرها مستعبر وسريرها
ومأمومها ساهي الحجى وإمامها وزائرها في مأتم ومزورها
وبسطة ذات البسط ما شعرت بما دهاها وأنى يستقيم شعورها
وما أنس لا أنس المرية إنها قتيلة أو جال أديل عذارها
منازل آبائي الكرام ومنشئي وأول أوطان غذاني خيرها
وتنتهي قصيدة الشاعر كما تنتهي أكثر قصائد رثاء الأندلس بطلب النجدة واستنفار المسلمين لتقديم العون والمساعدة لإخوانهم المقهورين في الأندلس ، ونهج شاعرنا في الاستنفار نهج إسلامي محض فهو يدعو إلى الجهاد في سبيل الله حيث الطريق إلى النصر أو الطريق إلى الجنة من تحت ظلال السيوف :
معاشر أهل الدين هبوا لصقعة وصاعقة وارى الجسوم ظهورها
أصابت منار الدين فانهد ركنه وزعزع من أكنافه مستطيرها
ألا واستعدوا للجهاد عزائما يلوح على ليل الوغى مستنيرها
بأنفس صدق موقنات بأنها إلى الله من تحت السيوف مصيرها
تروم إلى دار السلام عرائسا على الله في ذاك النعيم مهورها
هذا ما اخترناه من مراثي الوطن الإسلامي الأندلسي ، فإذا كانت ثمة كلمة أخيرة فإنه يمكن أن نرسم لهذا اللون من الشعر ملامح بعينها وسمات بذاتها وخصائص ربما تميز الكثير منها عن موضوعات الشعر الأخرى .
فالسمة الأولى تتمثل في أن أكثر الشعراء يكونون صادقين مع أنفسهم حين يفصحون في صراحة تامة عن أسباب سقوط الأندلس ، بعضه أولا ،وكله ثانيا ، إنهم يعزون ذلك في قصائدهم إلى الترف الشديد الذي انغمس فيه الأندلسيون في حياتهم وعدم انتباههم أو اهتمامهم لما يجري حولهم من استعداد وتصيد الفرصة للانقضاض عليهم ، ولقد كانت الغزوة الأولى التي تعرضت لها بلنسية سنة 488هــــ واحدة من الشواهد الكثيرة على ذلك هذا فضلا عن التحلل الحلقي الشديد وتفشي المعاصي .
ومن الناحية الأخرى كان فساد الحكم وظلم الناس والجور على الرعية والاستبداد ومصادرة أموال المحكومين من قبل الحكام، ويضاف إلى ذلك طمع حكام الأقاليم وأنانيتهم وتناحرهم ونشوب الحروب بينهم ونسيان العدو المتربص بهم ، بل إن الأمر بلغ مبلغا يدعو إلى الاستنكار حين كان الأمير المسلم يستعين في حربه على خصمه المسلم بجيوش النصارى الأسبان المتربصين بهذا وذاك من الحكام .
ومن سمات هذا الشعر أيضا الحنين الشديد الذي كان يتمشى في أردان قصائده ووصف المدن ومعالمها والديار ومغانيها في خلاب يدعو بالنفس إلى الحسرة والأسى والألم ، ويزداد الشعر حزنا إذا ذكر الشاعر ما حل بتلك المدن أو هاتيك الديار من هدم ودمار وخراب وحريق .
سمة أخرى ثالثة لازمت هذا اللون من الشعر وهي تنبيه العاطفة الدينية ممزوجة بالناحية الإنسانية ، فالمساجد تهدم أو تحول إلى كنائس ، والمآذن تحول إلى لأجراس الكنائس
والمنابر تشكو ، والمحاريب تبكي ،وأبناء المسلمين يباعون في الأسواق كالسلع ، وبناتهم يؤسرن ونساؤهم يغتصبن ، وأطفالهم يقتلون أو ينصرون والرضع يفصلون عن أمهاتهم إلى غير ذلك من تلك الأحداث الأليمة التي تعرض لها مسلمو الأندلس في لون فريد من الشراسة لم تتكرر في التاريخ .
والسمة الرابعة هي استصراخ الشاعر وطلبه النجدة من المسلمين في ديار الإسلام الأخرى واستنفار الفرسان بداعي النخوة أو بدافع الجهاد الديني الذي يدفع بالمجاهد إلى النصر أو إلى الجنة ، وكان الاستنجاد يأخذ إشكالا شي ، يكون أحيانا بالمديح والتوريط ، وأحيانا أخرى بالتعنيف والتقريع ، وأحيانا ثالثة بالدعوة إلى الجهاد الديني حسبما ذكرنا قبل قليل ، وكان الشعراء يتخذون أساليب شتى في تنبيه المسلمين إلى ما يجري على أخوانهم في الأندلس وكانت أهم وسيلة تفصيل الأحداث التي كانت من البشاعة بحيث تدعو إلى الاحتقار والاستنكار .
بقيت سمتان أخريان ولكنهما لم تكونا موضعا للالتزام عند كل الشعراء، واحدة منهما تتمثل في اصطناع الحكمة والحديث عن مصائب الدهر وأحداث التاريخ القديم ولعل أوضح مثال لذلك رائية ابن عبدون ونونية ابن الرندي ، والأخرى تتمثل في رثاء الدول من خلال رثاء ملوكها الذاهبين حسبما هو واضح في القصائد التي قيلت في بنى عباد .
فإذا ما انتقلنا من السمات الموضوعية إلى المميزات الأسلوبية فسوف نلاحظ أن جميع الشعراء الذين كتبوا مراثي الوطن الأندلسي عمدوا إلى المحسنات البديعية ، وأسرف بعضهم في تضمينها شعرهم ، وليس من شك في أنه من المسلمات أن قصائد الرثاء لوجوب ظهورها بمظهر الوقار لا ينبغي أن يتحرى فيها الزينات اللفظية إلا ما يجيء عرضا ، ولكن الأمر لم يكن كذلك في المراثي الأندلسية ، والسبب في ذلك أن هذا اللون من المراثي لم يظهر إلا في أواخر القرن الخامس الهجري ، وهو قرن الصناعة البديعية المسرفة الغالية في المشرق ، ولما كان الأندلس يجري دائما في مضمار المشرق فقد انتقلت الصناعة البديعية إليه تلقائيا ، ولكن الطريف في الأمر أن القصائد الرثائية الأندلسية التي وقعت تحت أيدينا لم نجد للصنعة حيالها ذلك الأثر السيء الذي يصح توقعه إلا في حالات قليلة ، وفيما عدا ذلك فالمعنى دائما هو الذي يشد القارىء إليه رغم وفرة المحسنات وكثرة البديعية التي لا يكاد يخلو منها بيت شعر واحد .
وبعد ذلك كله فقد ضاعت الأندلس جنة العرب ومشعل ثقافة المسلمين ، الأندلس التي ألهمت فتنة جمالها ابن مرج الكحل فحلق قائلا :
الورق تشدوا والأراكة تنثني والشمس ترفل في قميص أصفر
والروض بين مفضض ومذهب والزهر بين مدرهم ومدنر
والنهر مرقوم الأباطح والربى بمصندل من زهره ومعصفر
وكأنه وكأن خضرة شطه سيف يسل على بساط أخضر
نهر يهم بحسنه من لم يهم ويجيد فيه الشعر من لم يشعر
ما اصفر وجه الشمس عند غروبها إلا لفرقة حسن ذاك المنظر
أرأت جفونك مثله من منظر ظل وشمس مثل خد معذر
وجداول كأرقام حصباؤها كبطونها وحبابها كالأظهر
الأندلس الجنة التي وصفها ابن خفاجة البلنسي في هذه الكلمات :
إن للجنة بالأندلس مجتلى حسن وريا نفس
فسنا صبحتها من شنب ودجى ليلتها من لعس
وإذا ما هبت الريح صبا صحت : واشوقي إلى الأندلس
لقد جف ذلك الشوق ، وذهبت الأندلس ، ولكن إلى غير عودة ؟ لست أدري .





الباب الخامس
رموز الشعر الأندلسي
الفصل الأول
شاعرات الأندلس
(1) وتمر الحقب الأولى على الأدب العربي في الأندلس وجذوره تضرب في باطن الأرض رويدا رويدا ويكثر الشعراء عددا ولكن في غير ما تضخم ، وتسير معهم قافلة الشاعرات قليلة العدد بطيئة السير والسرى فلا نكاد نقع في القرنين الثالث والرابع إلا على عدد قليل من الشاعرات هن قمر ، وعائشة بنت احمد القرطبية وحفصة بنت حمدن الحجارية ، وإذا كانت الشاعرتان : حسانة والجارية العجفاء قد التزمتا جانب المحافظة في القول معاني وصياغة ، فان الأمر عند شاعراتنا الثلاث هؤلاء اللائي ذكرنا يتراوح بين الجد والمحافظة وبين الانطلاق والتحرر كمرحلة وسطى تكتشف الشاعرة فيها مراسي قدميها وتتحسس الأرض التي تقف عليها و تختبر رد الفعل من قبل المجتمع الذي سوف تواجهه بفنها .
لقد ازدانت البيئة الأندلسية بعدد غير قليل من النساء الشاعرات اللائي أسهمن في إثراء الأدب الأندلسي بألوان طريفة من موضوعات الشعر ومقطوعات رخية جذابة من فن القصيد ، فكان إثراؤهن للشعر أمرا بينا في مجتمع كاد كله أن يقول شعرا ، ومن هنا يكون جهد الشاعرات واضح الأثر رائع البهاء صافي النقاء ، وليس أدل على ذلك من أنهن فرضهن وجودهن فرضا على موكب الشعر في الأندلس ، فكن فيه كأزهار الشقائق بلونها الزاهي الأرجواني تشرئب متميزة مختالة وسط بساط الأقاح الذي يغطي السهول ويوشي السفوح مع إطلالة الربيع .حقا لقد عرف المشرق العربي عددا من الشاعرات على فترات متقاربة حينا ومتباعدة أحيانا ، أمثال الخنساء وليلي الأخيلية ، وفضل ، وعلية بنت المهدي ونيران بنت جعفر بن موسى الهادي وسلمى بنت القماطيسي والشاعرة المهزمية وعريب المأمونية ، ولكن عدد هؤلاء قليل إذا ما قيس بعدد الشاعرات في الأندلس ، وقصائدهن محدودة الكم فضلا عن خضوعهن إلى حد ما لتقاليد بعينها لم يستطعن أن يتعدينها في نطاق مجتمع المشرق العربي الذي مهما قيل في تبذله وانحلاله في فترات بعينها ، فإنه ظل يحاسب المرأة بكامل حريتها في ظل بيئة المشرق ، ومن هنا شاركت المرأة الشاعرة في كل فنون الشعر وأكثر أبوابه ، فكانت تتغزل في الرجل تماما كما يتغزل الرجل فيها , وكانت تلح في إغرائه وتصف محاسنها ,وتذهب إليه زائرة تطرق بابه وتنادمه،كما كانت تمدح ، وتفتخر ، ولكن في ظل أنوثتها ، وتهجو ، ولا تتورع عن استعمال أساليب الذين أسفوا في الهجاء من المشارقة مثل بشار وابن حجاج وابن سكرة فلم تتحرج من ذكر العورات ولم تستح من تريد بعض الألفاظ غير النظيفة التي يتحرج المحتشمون من الرجال عن ذكرها , وكانت في نفس الوقت تساجل الرجل قصيدة بقصيدة وقافية بقافية , جادة حينا وهازلة أحيانا . المهم أن عدد الشاعرات في الأندلس كان من الوفرة والنضوج بحيث شكل ملمحا بارزا من ملامح الشعر الأندلسي , وكان فنهن من ناحية القول والصوغ والجرس والإشراق والجرأة والرصانة والجزالة والإطراف مما يدفع بالدارس إلى ضرورة الوقوف في ساحته بعض الوقت فاحصا متأملا مستبينا ما فيه من أسباب الجدة ومظاهر الإمتاع .
هذا ونستطيع أن نقرر أن المرأة الشاعرة كلما كانت قريبة العهد بزمان الفتح كانت أقرب إلى عروبتها , وبالتالي إلى حشمتها والارتباط بأسباب التحرز في القول والتردد في الجرأة والابتعاد عن الإسفاف وتجنب الإفحاش , وكلما بعد العهد بها وانغمست في صلب
(( الأندلسية )) كانت أقرب إلى التحرر الذي هو في حقيقته – من ناحية القول على أضعف الإيمان – تحلل أكثر منه تحررا , وأصبحنا نقرأ للمرأة في موضوعات الشعر وأساليبه من خلال جرأة القول والهجوم على معاني الفحش ما قد قرأناه عند بعض الشعراء المشارقة المتحللين بحيث لا نكاد نحس فارقا بينهما .
( 2 )
وأول شاعرة ظهرت على الأرض الأندلسية لم تكن في اعتقادنا – إلا أن تظهر الأبحاث في المستقبل غير ذلك – أندلسية المولد أو المنشأة , وإنما كانت واحدة من الجواري الوافدات من المشرق المدربات على الإنشاء الأدبي والعزف والغناء , وقد سبق القول أن الحكام الأندلسيين من أمراء بني أمية كانوا يستوردون الجواري الأديبات المدربات على حفظ الشعر وإنشائه وإنشاده لحنا جميلا معزوفا على عود أو قيثارة من أمثال (( فضل )) و ((علم )) و (( قلم )) وغيرهن وكلهن قيان جميلات أديبات عازفات وقد ازداد عددهن شيئا فشيئا حتى أنشئت لهن دار ملحقة بقصر الأمير عرفت بدار المدنيات
ويطلع القرن الخامس الهجري على بلاد الأندلس فإذا بالحضارة الإسلامية بكل أسبابها ومقوماتها قد كستها أنوار المعرفة وإذ الأدب من شعر ونثر قد جرى على الألسنة إنشادا من فيض القرائح ساعد على ذلك تعدد الملوك والعواصم فقد كانت هذه الفترة فترة ملوك الطوائف وحرص كل ملك على أن يجمع حوله اكبر عدد من الأدباء والشعراء فكانت الوفرة الهائلة من نوابغ الشعر الأندلسي الذين عاشوا في عصر واحد كابن زيدون وابن الحداد وابن دراج القسطلي وابن عبادة القزاز والمعتمد بن عباد وفي أخره عاش الشاعران الكبيران ابن حمديس وابن خفاجة وغيرهم من الشعراء الذين تركوا آثارا نفيسة لشعر عربي رقيق أنيق بارع خالد
لقد واكبت نهضة الشعر في هذا القرن نهضة أخرى من الشاعرات تمثلت في وفرة عددهن واختلاف بلادهن ونفاسة إنشائهن وتجديد فنونهن فكان في مدينة المرية من الشاعرات المجيدات الشاعرة الغسانية البجانية وزينب المرية وغاية المنى وأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح التي لم تكتف بإنشاد القصيد وإنما أسهمت في إنشاء الموشحات وفي غرناطة تزدان ندواتها وضواحيها بنزهون القلاعية وحمدونة بنت زياد التي لقبت بخنساء الأندلس وأختها زينب وكانتا ترددان بين مدينة غرناطة ومقرهما الساحر في وادي آش الذي يكاد يتوسط المسافة بين المدينين الشهيرتين غرناطة والمرية
وفي اشبيلية يقع نظرنا على الشاعرة مريم بنت يعقوب الأنصاري وعلى الأميرة الجميلة بثينة بنت كبير ملوك الطوائف وكبير الملوك الشعراء في الأندلس المعتمد بن عباد فإذا ما انطلق بنا البصر بعيدا قليلا إلى مجريط ( مدريد الحالية ) ا والى مدينة طليطلة التي كانت تفوق مجريط قدرا وتسمو عليها مكانة آنذاك وقع نظرنا على واد شهير خرج منه كثير من الشعراء والعلماء ونسبوا إليه على ما مر بنا القول قبل صفحات انه وادي الحجارة الذي تزين رحابه الشاعرة أم العلاء بنت يوسف الحجارية
وإذا ما عدنا إلى العاصمة العتيدة قرطبة وجدنا فيها كبيرة شاعرات الأندلس الأميرة ولادة بنت المستكفي ووقع نظرنا أيضا على رفيقتها إلى حين مهجة بنت التيان القرطبية
كل هذه الكوكبة الناعمة من الشاعرات عاشت في قرن واحد هو القرن الخامس الهجري بعد قرنين مضيا كان وجود المرأة الشاعرة خلالهما نادرا في الأندلس ندرة الزهرة اليانعة في الصحراء البلقع
لعله من الأيسر لنا ولمتابع هذا البحث أن نتناول الشاعرات حسب مواطنهن وليس حسب فنونهن ذلك انه غالبا ما يكون للبيئة اثر في إنتاج الشاعرة بحيث تختلف شاعرات المدن الصغيرة عن شاعرات العواصم هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فان أكثر ما خلف هؤلاء الشاعرات كان فن الغزل وأما نتاجهن من الفنون الأخرى فإما انه كان من القلة والندرة بمكان وأما أنه جريا على عادة النقاد القدماء ومؤرخي الأدب الذين لم يكونوا يهتمون إلا بتقديم المثير المنتقى من شعر الشعراء والشاعرات لم يقدموا إلا هذه النماذج القليلة انه قد يكون من الخير والأمر كذلك أن نقدم الشاعرات حسب مواطنهم لا حسب فنونهن
( 2 )الجارية العجفاء :
نقول إن أول شاعرة بأرض الأندلس كانت من الجواري الوافدات من المشرق ولا نعرفها باسمها فذلك شيء غاب عن مؤرخي الأدب الأندلسي وإنما بصفتها التي بها عرفت وذاع صيتها وأصبحت تعرف بالجارية العجفاء لقد كانت بالفعل عجفاء هزيلة ضعيفة نحيلة , ربما لأن سيدها كان رجلا فقيرا اسمه مسلم بن يحيى مولى بني زهرة ,و كان يسكن معها في بيت صغير حقير لا يكاد يضم من الأثاث – على رواية الأرقمي الذي أخذ عنه صاحب نفح الطيب – سوى نمرقتين قد ذهب عنهما اللحمة وبقي السدى ، حشيتا بالليف ، وكرسيين قد تفككا من قدمهما .
لقد كانت الجارية العجفاء تتقن من قول الشعر والغناء ما قد تعودت على قوله القيان ، أي الشعر الوجداني الغنائي الذي يخاطب العاطفة ويهز المشاعر ، ومثل هذا الشعر يكون عادة من الغزل المهتاج الذي ترفده الشكوى بمعاني آسرة ويوشيه الحرمان بأنغام حزينة ، وهذا بطبيعته الحال يختلف اختلافا واضحا عن شعر الحرائر الذي إن التزم الموضوع فليس عليه بالضرورة إن يلتزم المعاني ويلح على خلق جو الحزن الوجداني والكآبة النفسية في نطاق معاني الحب المقرون بالحرمان والغزل الموغل في الشكوى الحزينة ، كانت الجارية العجفاء الدميمة شكلا الساحرة فنا تنشد وتغني .
يقول الأرقمي في اتفف وقد دعاه صديقه أبو السائب لسماعها في بيت سيدها : بابي أنت ! ما هذه ؟ فقال له : اسكت ، ثم تناولت العود وغنت :
برح الخفاء فأيما بك تكتم ولسوف يظهر ما تسر فيعلم
مما تضمن من عزيز قلبه يا قلب انك بالحسان لمغرم
يا ليت انك يا حسام بأرضنا تلقي المراسي طائعا وتخيم
فتذوق لذة عيشنـا ونعيمه ونكون إخوانا ، فمـاذا تنقم
يقول الارقمي انه بعد سماعة هذه الأبيات زحف مع أبي السائب على الأرض متجها إلى العجفاء ، وربت في عينه كما يربو السويق بماء مزنة .
ثم انتقلت العجفاء على عودها إلى آخر وشعر آخر جعل كلا من الارقمي وأبي السائب على الأرض متجها إلى العجفاء ، وربت في عينه كما يربو السوق بماء مزنة .
ثم انتقلت العجفاء على عودها إلى لحن آخر وشعر آخر جعل كلا من الارقمي وأبي السائب يفقدان صوابهما ويجولان في البيت وحمل أبو السائب ما وقع علية بصره من قوارير الزيت والدهن على رأسه فاصطكت وتكسرت وسال الدهن عليه ، واخذ صاحب البيت يصيح وكان ألثغ : قوانيني أي قواريري قواريري ، أما اللحن والشعر الذي أنشدته العجفاء وتسبب في هذه اللوثة فهو قولها :
يا طول ليلي أعالج السقما ادخل كل الأحبة الحرما
ما كنت أخشى فراقكم أبدا فاليوم أمسى فراقكم عزما( )
ومن الطريف أن عبد الرحمن الداخل عندما سمع بأدبها وفنها بعث إلى صاحبها فاشتراها وحملت إليه ، ومن المعروف أن عبد الرحمن بن معاوية ((الداخل)) توفي عام 172 هـ .
(3)
حسانة التميمية :
وأما الشاعرة الثانية على الأرض الأندلسية فهي حسانة التميمية ، ولكننا إذا أردنا الدقة ما ترددنا في آت نجعل منها أول شاعرة ظهرت على ارض الأندلس ، ذلك أنها مولودة في الأندلس في إلبيرة وليست وافدة ، فضلا عن كونها من الحرائر وليست من القيان ، هذا فضلا عن أم ملكه الشعر عندها موروثة عن أبيها أبي الحسين الشاعر احد من مدحوا الحكم الربضي .
وفي مسار نظرتنا إلى الشعر الأندلسي الباكر لا نكاد نحس فارقا ذا شأن ، بينه وبين شعر المشرق ، هذا من ناحية مطلق الشعر ، وأما من ناحية كونه شعرا نسائيا فبنفس المقاييس التي وضعناها في مستهل هذا الفصل نستطيع أن نحكم بتماسكه انبعاثا من تماسك المرأة الأندلسية في العهود الأولى من الفتح ، ذلك أنها لم تكن قد انغمست بعد في الترف المادي والتردي الاجتماعي الذي تردت فيه المرأة الأندلسية ، ولو كانت عربية النجار ، فيما تلا ذلك من قرون .
وإذا كنا لا نعلم على وجه التحديد شيئا عن ميلاد حسانه ووفاتها فإننا نعرف أنها عاشت في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث فقد مدحت الحكم بن هشام مسترفدة إياه بعد موت أبيها فوقع شعرها منه موقعا حسنا ، وكان الحكم رغم قسوته شاعرا يطرب للشعر الحسن ، فوصلها وأجرى عليها راتبا ، فلما مات – وكان ذلك سنة 206هـ - أوقع عامل البيرة عليها بعض الحيف فشكته إلى وارث ملكه عبد الرحمن بن الحكم ((الأوسط )) وألقت بين يديه أبياتا جمعت بين المديح والاستنجاد فرق لها وأجازها وعزل الوالي الذي أوقع الغبن عليها ، وظلت بعد ذلك تبعث إليه بالمدائح .
فإذا كانت حسانة قد مدحت كلا من الحكم وعبد الرحمن فمن اليسير إن نستنتج أنها عاشت في العقد الأخير من القرن الثاني ومطلع القرن الثالث .
فأما قصيدتها في مدح الحكم فعمودية الشعر مشرقية السمات ولكنها متسمة بعمق الشكوى التي تمس شغاف القلب خاصة تلك التي تصدر عن امرأة كسيرة الجناح حديثة فقد العائل وهي بعد ذلك قد غلقت شكواها بغلالة رقيقة من نسيج المديح في قولها :
أني إليك أبا العاصي موجعة أبا الحسين ، سقته الواكف الديم
قد كنت ارتع في نعماه ، عاكفة فاليوم آوى إلى نعماك يا حكم
أنت الإمام الذي انقاد الأنام له وملكته مقاليد النهي الأمم
لا شي أخشى إذا ما كنت لي كنفا آوي إليه ولا يعرو لي العدم
لا زلت بالعزة القعساء مرتديا حتى تذل إليك العرب والعجم( )
إن حسانة محسنة ولا شك في عرض شكايتها وفي غزو مقام العدالة من الحكم فقد جعلت منه ماوى لها وعائلا بعد أن فقدت الراعي ، والعائل ، أن في بيتها الثاني مسحة من قول الحطيئة حين غزا قلب عمر بن الخطاب في مصراعه المشهور :
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
وفي بيتها الثالث سمة شعر أموية مشرقية حركت في قلبه حنينا إلى مواطن المجد في حلقات أجداده في رحاب الملك المرواني في المشرق ، لا شك أنها ذكرته بقول جرير في عم جده سليمان بن عبد الملك :
الله أعطاكم من علمه بكم حكما وما حكم الله تعقيب
أنت الخليفة للرحمن يعرفه أهل الزبور وفي التوراة مكتوب
ولا شك أيضا أنها ذكرته بقوله نفس الشاعر في جده الأكبر عبد الملك ابن مروان :
أنت الأمين أمين الله لا سرف فيما وليت ولا هيابة ورع
أنت المبارك يهدي الله شيعته إذا تفرقت الأهواء والشيع
فكل أمر على يمن أمرت به فينا مطاع ومهما قلت يتبع
يا آل مروان إن الله فضلكم فضلا عظيما على من دينه البدع
لقد كانت حسانة من الفطنة بحيث صاغت قصيدتها على نفس بحر هذه الروائع التي قيلت في أجداده ذوي الملك العظيم فحركت في نفسه نخوة المروانية وعزة الملك حين طرقت هذه المعاني التي كان لاشك يحفظ نصوصها حفظها إياها في قولها المماثل لقول سابقيها :
أنت الإمام الذي انقاد الأنام له وملكه مقاليد النهى الأمم
ثم استطردت في ذكاء حين اتخذت منه أبا وكنفا أوى إليه ولا يعرو لي العدم
ثم تمضي في دعاء لا يدعي به إلا للملوك بقولها
لازلت بالعزة القعساء مرتديا حتى تذل إليك العرب والعجم
القصيدة إذن جيدة وهي أموية في صوغها ونهجها وأسلوبها وهي أنثوية من حيث طريقة التغير التي تنبه القلب وتنفيذ إليه للأخذ بيد الضعيف وهي بعد ذلك فيها الأندلسية شيء لان الوقت له معنى وموضوعا وأسلوبا ويموت أبو العاصي الحكم ويقع على حسانة من حيف قبل الوالي الذي ربما انتهز فرصة موت الحكم فحجب عنها راتبها وضيق عليها حصاد جائزتها وبذكاء وفطنة باهرتين تتحرك حسانة نحو الأمير الجديد تشكو عامل بلدتها وتستنجد بمروءته وتخلق أسبابا تربطها به فقد كانت تحت رعاية أبيه وحمايته فهل يكون موته سببا لوقوع الظلم عليها وتصوغ شكواها في ضراعة لإقالة عثرتها وتنسج قصيدتها من حبات الدموع المترقرقة ترحما على حاميها الذي هو والد الملك الجديد وتدعو له بالغفران والرضوان أنها بذكاء المرأة العربية وطنتها تنشد أبياتها بين يدي عبد الرحمن في نفس الإطار الفني المشرقي وبغير قليل من الروح الخطابية التي تأخذ طريقها إلى القلب في يسر وسهولة
إلى ذي الندى والمجد سارت ركائبي على شحط تصلى بنار الهواجر
ليجبر صدعي انه خير جابر ويمنعني من ذي الظلامة جابر
فاني وأيتامي بقبضة كفة كذي ريش أضحى في مخالب كاسر
جدير لمثلي إن يقال مروءة لوت أبي العاصي الذي كان ناصري
سقاء الحيا لو كان حيا لما اعتدى على زمان باطش بطش قادر
لعلنا نلاحظ هنا إن الشاعرة قد عمدت إلى الصنعة بعض الشيء حين جانست بين جابر العامل الذي ظلمها وبين صيغة جابر الذي يجبر ما حل بها من ظلم وهو الأمير وبين حيا وحيا هذا فضلا عن الصورة التي رسمتها في البيت الثالث بتشبيهها وأولادها بطائر بريء وقع بين براثن وحش كاسر ليس من في إن حسانة شاعرة مجدة وهي أولى الشاعرات الحرائر المولودات على ارض الأندلس ولو قد وصلت إلى أيدينا رائيتها هذه كامل باستهلالها ورحلتها إلى الممدوح لكانت ألقت مزيدا من الضوء على شخصيتها الشاعرة وأما حيث مدرستها فهي أموية مشرقية شان العجفاء الجارية وكلتاهما تمثل باكورة الشعر النشوى الأندلسي
قمر :
لعل اسم الشاعرة هكذا يدل على أنها قينة أكثر مما يدل على أنها من الحرائر ، فلقد كان لأسماء القيان ، والغلمان أيضا ، سمات خفة ورنين ، على خلاف أسماء الحرائر من فاطمة وزينب وعائشة وحفصة وهند وكذلك كانت أسماء الرجال على عهد البداوة الأولى حجر وضب وكلب وأسد وصقر وفهد وثعبان وحباب وثعلبة وعنبسة وعبهلة ثم ما لبثت أسماء كل من الأحرار والحرائر أن لانت ورقت بعض الشيء على مسيرة الزمان .إن(( قمرا )) واحدة من الشاعرات العازفات المغنيات اللائي كن لا يزلن يجلبن من المشرق من المدينة والبصرة وبغداد ، وكانت (( قمر )) جارية جلبت من بغداد لإبراهيم بن الحجاج الذي خرج على الأمير عبدالله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط واستقل بأشبيلية في نفس الوقت الذي كان ابن حفصون خارجا على الدولة الأموية محتميا بحصونة محتلا ضواحي قرطبة والبيرة ومناطق أخرى من الأندلس . وكان ابن حجاج يتصرف كما لو كان ملكا يستقبل الشعراء يمدحونه فيجزل لهم العطاء ، ومن الذين مدحوه أحمد بن عبد ربه صاحب العقد الفريد ، وقد توفي إبراهيم هذا عام 288 هـ
إن قمرا إذن شاغرة عاشت في اشبيلية في القرن الثالث ومن الطريف إن تكون على قدر علمنا ثالثة شعراء الأندلس من حيث الترتيب الزمني وكانت قمر قينة جميلة الظرف إلى الأدب والحفظ مع الرواية مع فهم بارع وفصاحة وبيان وكان الشعر يجري على سجيتها مطواعا رائقا فيه نعومة وإيقاع أنها تمدح مولاها إبراهيم بن حجاج فتقول
ما في المغارب من كريم يرتجى إلا حليف الجود إبراهي
إني حللت إيه منزل نعمة كل المنازل ما عداء سقيم
أنها تحية بارعة من قينة ذكية مدربة على حسن القول ورقة فقد كان يحتفل بالشعراء الذين يقصدونه من الخارج فمن كان تحت سقفه ممن يقول الشعر أولى بالاحتفال وأجدر بالتكريم
غير أن الغربة مرة كما يقولون لا يقلل من مرارتها مقام مريح ولا يحد من حرارة لوعتها احتفال أو تكريم لقد كان عبد الرحمن الداخل ملكا عظيما في جنة جديدة ومع ذلك فان وقوع نظرة على نخلة قريبة رصافته رقرقت الدمع في عينية فأحسن انه غريب مع كونه ملكا وتذكر موطنة الأصيل وارضي آبائه وأجداده فاهتاجت شاعريته وتدافعت عواطفه عبرته وانشد
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شيهى في التغرب والنوى وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
انه ملك يبكي الغربة ويتشوق إلى مواطن أهلة على مرارة ما حدث لهم فيها من انتزاع ملك وقتل وتشريد فليس على قمر من باس إذا ما تشوقت إلى بغداد مدينة السحر والجمال وعاصمة الدنيا آنذاك وتحسرت لوعة على فراق العراق وتمزقت نفسها من الحنين إليهما فلنستمع إلى رقة قمر وتشوقها وحنينها ( )
آها على بغدادها وعراقها وظبائها والسحر في أحداقها
ومجالها عند الفرات بأوجه تبدو أهلتها على أطواقها
متبخترات في النعيم كأنما خلق الهوى العذري من أخلاقها
نفسي الفداء لها فأي محاسن في الدهر تشرق من سنا إشراقها
أنه حنين عميق صيغ في شعر رقيق لا نخطىء فيه الصدق ولا ننكر علية العمق لقد حملت قمر معها من بغداد بعض صنعة شعرائها من جناس بين خلق وأخلاق ومن صور ناعمة اللون في الجمع بين الظباء وسحر الأحداق والوجود كالأهلة فوق الأطواق منساحة على صفحة على صفحة الفرات
عائشة بنت أحمد القرطبية:
ينقل المقري عن الأجزاء المخطوطة من المقتبس أنه لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها وفهما وأدبا وشعر وفصاحة والذي يتابع صفاتها لا يملك إلا الإعجاب بها شاعرة قديرة عفة جريئة أديبة خطاطة دينه كانت حسنة الخط تكتب المصاحف وكانت تمدح
الملوك في غير ما خنوع أو مذلة وكانت ترتجل الشعر ارتجالا وماتت عذراء لم تتزوج بعد أن عاشت حياتها كلها في الطرف الآخر من القرن الرابع لأنها توفيت سنة أربعمائة وكانت رغم أنوثتها ذات إباء وهمة وترفع خطبها بعض الشعراء فلم تر أنه كفء لها ويبدو أنه كانت ملحا في رغبته فكتبت إليه
أنا لبوة لكنني لا ارتضي نفسي مناخا طول دهري من احد
ولو أنني اختار ذلك لم اجب كلبا وكم غلقت سمعي عن أسد
إن بها إباء المرأة العربية وكبرياءها قبل أن تفسدها الحضارة المستوردة لقد كانت عائشة ذات مقدرة فذة في ارتجال الشعر فقد دخلت على المظفر ابن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ابن له فخطر لها أن تحييه وتجعلها مناسبة لمدحه فقالت ارتجالا
أراك الله فيه ما تريد ولا برحت معاليه تزيد
فقد دلت مخايلة على ما تؤمله وطالعة السعيد
تشوقت الجياد له وهز الحسام هوى وأشرقت البنود
وكيف يخيب شبل قد نمته إلى العليا ضراغمه اسود
فسوف تراه بدرا في سماء من العليا كواكبه الجنود
فانتم آل عامر خير آل زكا الأنباء منكم والجدود
وليدكم لدى رأى كشيخ وشيخكم لدى حرب وليد
ومن الطريف أن هذه المعاني التي جاءت ارتجالا ومن وحي الساعة على لسان الشاعر قد أخذها شاعر أندلسي كبير على عهد المرابطين هو أبو بكر الأبيض الذي عرف بالهجاء وانشأ منها قصيدة سبق أن عرضنا لبعض أبياتها صاغها صوغا فيه مرح ودعابة وفكاهة ولكنة جرى فيها في حلبة
عائشة فقال في مولود
يا خير معن وأولاها بعارفة لله نعماء عنها الدهر قد نعسا
ليهنك الفارس الميمون طائره لله أنت لقد أذكيته قبسا
أصاخت الخيل آذانا لصرخته وارتاع كل هزبر عندما عطسا
تعلم الركض أيام المخاض به فما امتطى الخيل إلا وهو قد فرسا
تعشق الدرع إذ شدت لفائفه وأنكر المهد لما عاين الفرسا
بشر قبائل معن أن سيدها قد أثل الملك بالمجد الذي غرسا
والأبيات على ما فيها من طرافة ودعابة تأخذ شكل الجد وهي أيضا على جزالتها وجرسها أخذة محور فكرتها بغير شك من أبيات عائشة في مولود المظفر ابن المنصور بن أبي عامر
ولم يؤثر أي من شعر الغزل عن عائشة وهذا يسير الاستنتاج من سيرتها واستقامتها إلى الحد الذي بها إلى العزف من مخالطة الرجال والامتناع عن الزواج وأما من الناحية الفنية فلا نكاد نخطئ سمات القوة وملامح عن شاعريتها في نطاق المحافظة الكاملة على النمط الشعري البكر الذي لا يصدر إلا عفو الخاطر ودفن البديهة دون ما تزيين أو تحوير مثله في ذلك مثل ناي الصحراء يكاد يسحر وهو لا يزيد عن قصبة ذات ثقوب ولكن مصدر السحر هو ما يصدر عن هذه القصبة في بساطته وبساطتها


حفصة بنت حمدون الحجارية
أول أندلسية تقول الغزل
وحفصة هذه كما نسبتها عاشت في وادي الحجارة وهو واد نبغ منه عدد من الشعراء والأدباء لا نخطئهم بمجرد أن نقرا كلمة الحجاري بكسر الحاء لقبا لهم ووادي الحجارة قريب من مجرد مدريد وكانت اقرب المدن إليه آنذاك طليطلة
أما حفصة فهي شاعرة مكثرة ويذكر ابن سعيد عن المسهب أن بلدها يفخر بها وسبب الفخر مفهوم بطبيعة الحال وهو شاريتها الخصبة وملكتها المعطاءة وفنها الرفيع كما يذكر أيضا أنها من أهل المائة الرابعة أي من أهل القرن الرابع وبذلك تكون معاصرة لعائشة القرطبية على رغم الفروق الأخرى البينة بينهما فحفصة حجارية وعائشة قرطبية وحفصة منطلقة عن نطاق العقال نافضة عن كاهلها تقاليد الحرائر أما عائشة فقابضة على تقاليدها مستمسكة بكل ما يدفع عن المرأة غبة الظنة وظلال الشبهة
ويبدو أن حفصة كانت من بيت غني وثراء وأنها كانت ذات مال وعبيد فهي تقول شاكية من سلوكهم
يا رب إني من عبيدي على جمر الغضا ما فيهم من نجيب
أما جهول إبله متعب أو فطن من كيده لا يجيب ( )
والبيتان على بساطتهما لا يخلوان من صنعة بديعية : طباق وجناس
على أن ما نهتم له حفصة كل الاهتمام هو أنها رائدة شعر الغزل عند المرأة الشاعرة الأندلسية أنها تمدح العظماء واسعة ابن جميل ويبدو أن عاطفة ما كانت بها تجاهه فتتحايل من خلال مديح إياه وتلقي عليه بغلالة خفيفة من نسيج الغزل صنعتها في براعة تشهد لها بالفطنة والمهارة والأناقة فقالت :( )
رأى ابن جميل أن يرى الدهر مجملا فكل الورى قد عمهم سيب نعمته
له خلق كالخمر بعد امتزاجها وحسن فما أحلاه من حين خلقته
بوجه كمثل يدعو ببشره عيونا ويعشيها بإفراط هيبته
ومن طريف ما أنشأت في مقام الغزل إظهار شخصيتها كامرأة وإبداء الدلال والتيه على من يدل عليها أو يتيه مستمسكة كل الاستمساك بكبرياء المرأة ذات الجمال تقول حفصة:
لي حبيب لا ينثني بعتاب وإذا ما تركته زاد تيها
قال لي : هل رأيت لي من شيبه قلت أيضا وهل ترى شيبها
أنها معادلة طريفة في دنيا الحب بين حبيبين متأب كلاهما على الآخر فأبت حفصة أن تنزل له كبريائها فكانت هذه المخالصة" الأولى من نوعها تصدر شعرا من قريحة شاعرة محبة .
أن حفصة الحجارية شاعرة رقيقة بارعة ما في ذلك شك وهي محسنة في نسج شعرها وانتقاء ألفاظها واختيار معانيها وتحسس قوافيها إلا أن الأهم من ذلك كله أنها طرقت
للمرأة الأندلسية بابا لم تكن قد جرت على طرقة بعد أنه باب الغزل طرقته بخفة وتردد وتحفظ وان صح التعبير قلنا وبخيلاء وكبرياء ولكنها دقت علية بصوت مسموع على حال فهيأت السبيل للشاعرات بعدها أن يفتحنه ويدلفن من خلاله إلى ساحة الغزل بكل ما حوت من فنون وأساليب على سعتها وأعماقها.
الشاعرة الشلبية التي كتبت إلى السلطان يعقوب المنصور تتظلم من ولاة بلده :
نادِ الأمير إذا وقفت ببابه يا راعياً إنّ الرعية فانية
أرسلتَها هملاً ولا مرعى لها نهبَ الشِّباع العادية
وهي تذكرنا بشكوى أبي العتاهية والراعي النخيري.
حفصة الركوتية وهي من ذوات الحسب والجمال والأدب والشعر، كانت منافسة لولادة بنت المستكفي ولها من الشعر اللطيف والرقيق ما يذهل ، ومن الشعر الفاحش ما يخجل من ذلك قولها:
أزوركَ أم تزورُ فإنّ قلبي إلى ما تشتهي أبداً يميل
معجّل بالجواب فما جميلٌ إباؤك عن بثينة يا جميل
مريم الأنصارية وهي اشبيلية محتشمة تعتز بدينها وفضلها وتعلم الناس الأدب ، ومن شعرها تشكو الشيخوخة :
وما يرتجى من بنت سبعين حجةً وسبع كنسج العنكبوت المهلهل
تدبُّ دبيب الطفل تسعى إلى العصا وتمشي بها مشي الأسير المكبَّلِ

حفصة بنت حمدون الحجارية




(2)
شاعرات المرية
ليست المرية مدينة جميلة ولكنها مدينة جليلة لأنها كانت مقر أسطول المسلمين الذي خاض المعارك البحرية ببسالة أمام الفرنجة الذين كانوا اعرق من المسلمين في التعامل مع البحار ومع ذلك فقد كانت البحرية الإسلامية التي ترتبط أكثر ما ترتبط بالمرية تحرز النصر وتوقع بالمعتدين بعد الهزيمة
وكان في أهل المرية غني ولهم متاجر وذخائر ومصانع النسيج الفاخر ،وكان بها من الحمامات والفنادق نحو الألف ( ) ،ولكن المدينة نفسها تقع في منطقة جرداء وواد بلقع ((أكثره منابت شيح ومهامه فيح ))( ) ولذلك اختلفت أمزجة الشعراء إزاءها فواحد يقول( ):
بئس المرية اليوم دارا ليس فيها لساكن ما يحب
بلدة لا تمار إلا بريح ربما قد تهب أو لا تهب
وشاعر آخر يقول( ):
يا وافدي شرق البلاد وغربها أكرمتما خير الوفادة فاربطا
ورأيتما خير البرية قاطبا ووردتما ارض المرية فاحططا
على أن شاعراتنا المريات اللاتي نحن بصدد الحديث عنهن قد عشن في المرية النعمة المثرية المليئة بحيث تشد إليها الرحال وتحط فيها الأحمال ويكرم فيها النساء والرجال ، لقد عشن في عصر المرية الذهبي في ظل بني صمادح ( ) ولذلك فقد سعى الشعر إليها نشطا وعاش فيها فينان ممرعا فكان الأمراء الحكام من بني صمادح شعراء وكانت نساؤهم شاعرات وكان وزراؤهم أيضا شعراء ، وفي ظلال هذه اليقظة الأدبية والنهضة الشعرية عاشت شاعراتنا .
الغسانية البجانية :
عاشت الغسانية – وهذا هو اسمها وليس لقبها – في منطقة بجابة من أقاليم المرية ، وقد ذكر المقري عن طريق الخطأ أنها عاشت في القرن الرابع( ) والواقع أنها من شاعرات القرن الخامس حسبما ذكر ابن سعيد( ) وشعرها فيما يبدو من النصوص القليلة التي وصلت ألينا يتسم بالأصالة والعمق ولها على القول تمرس وسلطان ، وأبياتها التي بين أيدينا قيلت في الغزل وشكوى الفراق ، غير أنها تجري بها في مسارب الحكمة متأرجحة بين الجزع والتصبر فتقول : ( )
أتجزع أن قالوا سترحل إظعان وكيف تطيق الصبر ويحك إذ بانوا
فما بعد إلا الموت عند رحليهم وإلا فصبر مثل صبر
عهدتم والعيش في ظل وصلهم أنيق وروض الوصل اخضر فينان
فيا ليت شعري والفراق يكون ، هل يكونون من بعد الفراق كما كانوا ؟
انه شعر جميل فيه كبرياء وحب ، وفيه تصبر ولوعة ، وفيه استسلام وجزع على قلة عدد الأبيات ، وهو إلى ذلك فيه قوة وفحولة وتمكن ، وهو لولا المسحة الأندلسية الرقيقة في البيتين الثالث والرابع لكانت المعاني مشرقية محافظة .
زينب المرية :
وإذا كانت الغسانية البجانية قد غلفت شكواها وأحاطت الإفاضة بحبها في ثوب من ضمائر الجمع الغائبة تحرجا منها وكبرياء ، فان معاصرتها زينب المرية تخفف من تحرجها قليلا حتى تبث شكواها وتتحدى عن صاحبها بضمير المفرد الغائب ، ولكنها في نفس الوقت تقدم شعرا ناضجا كل النضوج نابضا بالحياة صافي الأسلوب في غير عسر ، صادق الحس في غير خفاء . أن هذه الأبيات الثلاثة تنبئ عن الطاقة الشعرية الكامنة في جوانح زينب ، وكم تمنينا لو وقعنا لها على مزيد من الأبيات.
يا أيها الراكب الغادي لطيته عرج أنبئك عن بعض الذي أجد
ما عالج الناس من وجد تضمنهم إلا ووجدي بهم فوق الذي وجدوا
حسبي رضاه واني في مسرته ووده آخر الأيام اجتهد
يا أيها الراكب الغادي لطيته عرج أنبئك عن بعض الذي أجد
ما عالج الناس من وجد تضمنهم إلا ووجدي بهم فوق الذي وجدوا
حسبي رضاه وأني في مسرته ووده آخر الأيام اجتهد
غاية المنى:
وهي كما يبدو من اسمها جارية فاقد مر بنا قبل أن شيئا من التأنق كان يراعي في اختيار أسماء الجواري والقيان وهم لم يولدن بهذه الأسماء بطبيعة الحال فكثير منهن روميات الأصيل أو صقلبيات وأحيانا صربيات أو تركيات أو حبشيات فلقد ولدن قبل حياة الأسرة والرق بأسماء اختيرت لهن منسجمة مع طبيعة لغاتهن وأجناسهن ولكن القيانين إذا استعملنا اللفظ هذه الأسماء ذات الجرس والرنين لكي تسهم في تحسين ثمن الجارية حين عرضها للبيع بعد تدريبها على المهنة أو الفن الذي اختاره لها تاجر الرقيق ولذلك فان أسماء القيان جميعا فيها مسحة رقة ورنة من أبقاع.
لقد قدم قيان هذه الجارية إلى المعتصم بن صمادح صاحب المرية واحد ملوك الطوائف لكي يختبرها قبل أن يشتريها فسألها ما اسمك؟ فقالت : غاية المنى ابن صمادح يريد قينة شاعرة وقد مر بنا في مستها هذا الفصل قينتان شاعرتان هما العجفاء , وقمر فقال لها الأمير: أجيزي:
اسألوا غاية المنى
فقالت في سرعة بديهة ورقة خاطر
من كسا جسمي الضنا
وأراني مولها سيقول الهوى أنا
وفي رواية أخرى لابن الآبار صاحب التكملة أن المعتصم بن صمادح لمس في هذه القينة الذكاء وقول الشعر وحسن المحاضرة أمر أن تحمل إلى الأستاذ ابن الفراء الخطيب ليختبرها وكان مكفوفا فلما وصلته سألها : ما اسمك ؟ فقالت : غاية المنى , فقالت: أجيزي
سل هوى غاية المن من كسا جسمي الضنا
فقال تجيزه:
واراني متيما سيقول الهوى أنا
وسواء صحت هذه الرواية أو تلك فان غاية المنى كانت واحدة من الشاعرات القيان ارتبط
ذكرها بالمرية لصلتها بابن صمادح ولكن ليس هناك ما يمنع من أن تكون قد جلبت من بلدة أخرى لتعرض على الأمير وأما آثار أخرى من شعرها فلم تقع بين أيدينا على أنها أية حال واحد من هؤلاء الكثيرات الشاعرات من حرائر وقيان اللائي كن يسحرن القلوب ويطربن الأسماع بأشعارهن الأنثوية العذبة الرقيقة .
أم الكرم بنت المعتصم بن صمادح:
وإذا كانت غاية المنى واحد من القيان وزينب المرية والغسانية البجانية بنتين من بنات الشعب فان أم الكرم أميرة من بيت الملك وكان من عادة ملوك الأندلس أن يعهدوا ببناتهن ونسائهن لمعلمات يتعهدنهن بالتعليم والتهذيب وقراءة الشعر وحفظة فاعتنى المعتصم بتأديب ابنته لما ابنته لما رآه فيها من ذكاء حتى نظمت الشعر الجميل وأسهمت في إنشاء الموشحات ولكن شعرها القليل الذي وصل إلى أيدينا موضوعية الغزل وذا كان غزل زينب المرية والغسانية لطيف البجانية قد اتسم بالعمق مع الوقار والرقة مع الكبرياء فان أميرة المرية لم تكن في وقارهما ولا كبريائهما وإنما كانت تشهر بحبها وتصرخ طالبة خلوة بحبيبها ولم يكن هذا الحبيب الذي اخرج الأميرة أم الكرم عما ينبغي أن تلوذ من أناة وكتمان واحتشام سوى فتى من فتيان قصر أبيها عرف بالسمار تماما كما فعلت علية بنت " الخليفة" المهدي , وأخت "الخليفة" الرشيد مع فتاها طل( ) وصرخت بأعلى صوتها تردد تتغزل به فيه رددته أولا ردهات قصور الخلافة, ثم ما لبث أن ردده التاريخ بعدها لعل قلوب "الأميرات" اقل تحملا وارق رهافة من قلوب بنات الشعب لقد فعلت ذلك علية بنت المهدي مع "طل" وكذلك فعلت أم الكرم بنت المعتصم ابن صمادح ملك المرية مع " السمار" أنها تنادي على الناس تطلب إليهم إن يعجبوا معها على ما سببه الحب من لوعة وتتغزل في فتاها بمعان وصيغ هي أكثر ما وصل إلى إسماعنا في مجال هذا البحث حتى ألان من صراحة في إعلان العشق مطرحة كل معنى الكبرياء هي من مستلزمات طبيعة المرأة. تقول أم الكرم( )
يا معشر الناس إلا فاعجبوا مما جنته لوعة الحب
لولاه لم ينزل ببدر الدجى من أفقه العلوي للترب
حسبي بمن أهواه لو أنه فارقني تابعه قلبي
هذا غزل رقيق وشعر لطيف ، ولكنه جريء من أنثى تقوله في فتى ولكنها أكثر جرأة وأعلى صوتا وان كانت نسجت على منوال كثير من المشارقة الغشاق في قولها( )
هل سبيل لخلوة ينزه عنها سمع كل مراقب
ويا عجبا أشتاق خلوة من غدا ومثواه ما بين الحشا والترائب
إن أم الكرم شاعرة رقيقة بارعة الغزل حسنة التعبير وبينها الأخير من أجود الشعر وارقه وأعذبه ,وهي فنانة صناعة بغير شك فقد أثر أنها كانت تصنع التوشيح , ولا يستطيع ذلك إلا الشاعر ذو القدرة والفنان ذو الصبر والصنعة لما تخضع له الموشحة من نسق بعينة يتكرر بين أقفال وأغصان وادوار وتشطير الأمر الذي يجعل من الصمادحية الشاعرة فنانة بارعة وأديبة بارزة.
(3)
شاعرات غرناطة:
إن غرناطة ليست كالمرية مدينة محرومة من جمال الطبيعة وسحرها, أرضها أحجار وصخور خالية من أسباب جمال الطبيعة , أ ما غرناطة فإنها كما سماها أكثر من زائر لها دمشق الأندلس لأنها أشبة شي بدمشق يخرقها نهر شنيل وحولها بساتين ورياض ومنتزهات وقصور , ويطل عليها جبل يغطيه الثلج وعلى سفوحه تنبت الأزاهير ولقد افتن بها ابن بطوطة فوصفها بأنها " قاعدة بلادة الأندلس وعروس مدنها وخارجها لا نظير له في الدنيا
أما وهذه صفتها من جمال الطبيعة ورواء المنظر فإننا نتوقع لونا جديدا من الشعر لم يجر على السنة شاعرات المرية إذ ليس في المرية من جمال الطبيعة ما يوحي بوصفها أما في غرناطة فالأمر يختلف طبيعة خلابة ومناظر جذابة وانهار وأزهار وخضرة وغدران.
لقد حظيت غرناطة والأمر كذلك بعدد من شهيرات الشاعرات البارعات , منهن حمدونة بنت زياد بن تقي الدين العوفي ، ومنعهن أختها زينب بنت زياد ومنهن نزهون القلعية ومنهن الشاعرة اللامعة الجريئة حديثا وشعرا حفصة الركونية التي سوف يجيء ذكرها في مكان الصدارة من
حمدونة بنت زياد:
لقد نشأت حمدونة في واد جميل غير بعيد عن غرناطة , وغرناطة وما حولها مسافة تقارب الأربعين ميلا تغطيها الحضرة والأشجار وتتخللها السواقي والجداول والأنهار وما يستتبع ذلك من طيور وظلال وأفياء ونسائم وأنداء مما يبعث الشعر رقيقا أخاذا به إلى رحاب الأسماع دفعا لقد عاشت حمدونة في وادي آش وهي مدينة أجميلة ساحرة تعرف أيضا بوادي الأشات في بيت فيه علم وآداب فقد كان أبوها زياد الوادي أشي يعرف بزياد المؤدب وقد نشأ ابنتيه حمدونة التي تسمى أيضا ربما على سبيل التمليح حمدة وأختها زينب على الأدب والعلم فكانتا شاعرتين من شهيرات شاعرات الأندلس إلا إن حظ زينب في التاريخ لم كحظ أختها حمدونة ففي الوقت الذي حفلت فيه كتب الأدب بنماذج من شعر حمدونة وإشادة باسمها حتى لقبت بخنساء المغرب وشاعرة الأندلس كان نصيب زينب من الشهرة لا يزيد عن ذكر اسمها مرتبطا باسم أختها فيقال حمدونة بنت زياد وأختها زينب الشاعرتان وفي بعض الأحيان كان يقال زينب بنت الوادي أشي وأختها حمدة ( ) وليس من شك في ا نادبنا الأندلس قد خسر كثير بضياع شعر زينب كله خسارته بضياع شعر حمدونة الذي لم يصل إلينا منه إلا تلك النماذج القليلة التي ذكرها لها صاحي نفخ الطبيب والتي استكثرها عليها بعض المشوهين من مؤرخي الأدب فحاول إن يحرمها وينسبها لغيرها من شعراء المشرق قلنا إن مدينة وادي آش بسحرها , وجمالها , وغرناطة برياحينها ونضرتها , كل ذلك خليق بـأن يوحي شعرا رائعا في وصف الطبيعة وهذا الذي توقعناه والتمسناه قد أمدتنا به حمدونة , وغير حمدونة من تفجير الطبيعة الساحرة طاقات شاعريتهم فهذا أبو الحسن بن نزار يصف وادي أشي أو وادي الأشات فيقول ( ):
وادي الأشات يهيج وجدي كلما أذكرت ما أفضت بك النعماء
لله ظلك والهجير مسلط قد يردت لفحاته الأنداء والشمس ترغب إن تفوز بلطخة منه فتطرف طرفها الأفياء
والنهر يبسم بالحباب كأنه سلخ نضمه حية رقشاء
فلذاك تحذره فميلها أبدا على جنباته إيماء
إن هذا الوادي الجميل الندى الظليل هو نفسه الوادي الذي وصفته حمدونة وخلعت علية من شاعريتها السخية الندية النضيرة ما خلده بين أودية الأندلس من أمثال وادي الطلح ووادي الحجارة وان كان وادي أشي وظله وخضرته وأنسامه للشعر اسخى إيحاء وأوفر عطاء.
انح مدونة تصف واديها بأجمل يوصف به واد فرسمت له صورا وفتقت حوله معاني من ابرع مارسم من صور وارق ما فتق من معان الأمر الذي جعل بعض المؤرخين المشارقة مثل ابن العديم صاحب " بغية الطلب في تاريخ حلب" يضن بها على صاحبتها وينحلها لشاعر مشرقي اسمه المنازي ولكن هذا الانتحال لم يل ثان ووجه بالقرائن التي ردت الأبيات إلى صاحبتها ومبدعتها تقول حمدونة في وصف الوادي :
وقانا لفحة الرمضاء واد سقاه مضاعف الغيث العميم
حللنا دوحه فحنا علينا حنو المرضعات على الفطيم
وارشفنا أنى واجهتنا فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى فتلمس جانب العقد النظيم
لقد رسمت حمدونة أكثر من صورة متحركة بهيجة الألوان والظلال الجميل الذي يشبه حصاه حبات اللؤلؤ فيروع العذارى الحاليات خشية أن تكون عقودهن قد انفرط نظمها فيسارعن في ذعر إلى تلمس مكان العقود من لباتهن هذا فظلا عن التشبيه الرائق في البيت الثاني وحركة الأغصان في البيت الثالث.
وفي رحاب الطبيعة تعيش حمدونة , وتمرح على ضفاف نهر واديها فتستهويها مياهه الصافية فتنضو ثيابها عن جسدها ومعها صديقة لها أو صديقات حسب اختلاف الروايات والصبايا دائما يحببن السباحة معا وتلقي بجسدها البض إلى أحضان الماء آمنة على نفسها كل الأمان فهي ابنة الوادي وعاشقته ثم لا تلبث حمدونة أن تغني للوادي الوارف وللطبيعة الفينانة وللنهر الجاري السلسال ولنفسها الصافية ولجمال الأنوثة والصبا ممثلا في قوامها المياد والوجه الصبيح فوق صفحة النهر وترسم حمدونة صورا وتخلق تشبيهات وتعقد مقارنة بين بياض الوجه وسواد الذوائب وتقدم لنا هذه الأبيات المتقنة صناعة البارعة صياغة من خلال سمات البيان والبديع فتقول :
أباح الدمع أسراري بوادي له للحسن آثار بوادي
فمن نهر يطوف بكل روض ومن روض يرف بكل وادي
ومن بين الظباء مهاة انس سبت لبي وقد ملكت فؤادي
لها لحظ ترقده لأمر وذاك الأمر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها رأيت البدر في أفق السواد
كأن الصبح مات له شقيق فمن حزن تسربل بالحداد
أن التشبيه في البيت الأخير بارع كل متقن كل الإتقان غير أننا نقف أمامه قليلا من مدلوله وارتباطه بأهل الأندلس لقد عرف عن الحداد أنهم يلبسون البياض في أيام الحداد وتشبيه حمدونة هنا يفيد أن الحداد بلبس السواد فالصبح الأبيض هو الوجه نكب في شقيق له فتسربل بالحداد وهو الذائب السوداء
أنه لو قام طاعن في نسبة هذه الأبيات إلى حمدونة لكان لطعنه قرينة إلا إذا لم يكن الحداد بلبس البياض عادة عند جميع الأندلسيين في مختلف بقاع سكناهم ومدنهم ولكن الطعن كان في القصيدة الميمية التي وجدت من يدفع عنها ظلم الانتحال إن الأبيات استهلا بصنعة بديعة في شكل جناس كامل واختتمت بصنعة بيانية في نطاق تشبيه بادي جهد الصنعة فيه ولم يقف الأمر بحمدونة عند وصف الطبيعة وحسب ولكنها جعلت لقلبها الذي كان يخفق لاشك لإحساس ما نصيبا من شعرها فقالت أبياتا غزلية لمتخل من عاطفة ولكنها مفعمة بالصنعة فغلبت الصنعة صدق التعبير وحجبت وجيب قلبها وخفقان صدرها حين قالت:( )
ولما أبى الواشون إلا فراقنا وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارة وقل حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وادمعي ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
إن البيت الأخير رغم رقته ورشاقة معانيه موغل في الصناعة البديعة كل الإيغال انه منسوج بأناقة مسبوك برشاقة وهو من تلك الصيغ المصنوعة التي اصطلح البديعين على تسميتها باللف والنشر أو الطي والنشر فاللف ألفاظ ((مقلتيك)) و ادمعي و نفسي والنشر وهو الكلمات المقابلة وهي " السيف" للمقلتين و"السيل" للأدمع و" النفس" للنار أن مدونة شاعرة الطبيعة بين نساء الأندلس , ولو أحسن اقتباس صفة مشرقية لها لقيل أنها "صنوبرية" لان تشبيها بالخنساء رغم خصوبة شاعرية كل منهما ليس تشبيها صحيحا
هذا ولم يعرف عن حمدونة أي لون من ألوان الانحراف أو الميل عن الجادة بل كانت عفة رغم غزلها متصوفة رغم إسهامها في قول التشبيب وقد وصفها صاحب فوات الوفيات بأنها من المتأدبات المتصوفات المتغزلات المتعففات كما خلع عليها ابن الأبار نفس الصفات وذكر اسمها كاملا وهو حمدة بنت زياد بن بقي العوفي المؤدب
نزهون الغرناطية:
سوف نرى فرقا واضحا بين حمدونة التي مر حديثها وبين نزهون الغرناطية فحمدونة ابنة الوادي أي ابنة الريف والقرية بتعبير زماننا المعاصر ومن ثم فهي ابنة أصيلة للطبيعة وصدى أمين للبيئة المستمسكة ببعض المعاني الكريمة غير المتدنية أو ما نزهون فعلى العكس من ذلك تماما أنها تراسل الرجال شعرا وتساجلهم نظما وتهاجيهم قولا فاحشا في نطاق في نطاق ما يسمى بالأدب المكشوف, تسمع شعرا يقال فيها يخدش حياء الحرائر وينال من مشاعر العفة عندهن , وترد يشعر أكثر جرأة وأفحش معنى غير متحرجة من استعمال ألفاظ العورات استعمالا ساقطا ومجمل وبحمل الرأي أنها ابنة للمدينة وصدى لقيمها تماما كما انح مدونة ابنة للريف وصدى لمحافظته وسوف نستعرض بعد قليل نماذج من شعرها يصور هذه الملابسات التي ذكرنا أدق تصوير وأصدقه من مساجلات دقيقة ومناقضات فاحشة وغزل رقيق.
واسم نزهون كاملا هو نزهون بنت القلاعي وتنسب إلى غرناطة فيقال نزهونا لغرناطة ويكتب اسم أبيها بالباء أحيانا فيقال القليعي وتعليل ذلك إن الأندلسيين كانوا ينطقون الألف اللينة بالإمالة القليعي وتعليل ذلك إن الأندلسيين كانوا ينطقون الألف اللينة بالإمالة فتكتب ياء طبقا لسماعها,تماما كما تكتب كلمة الدراق في أيامنا هذه في لبنان تارة بالألف اللينة وتارة بالياء استجابة لتطق الإمالة فتكتب "دريق" وهناك من يسميها نزهون أندلسي خالص
فقد عمد الأندلسيون التي التسمية على هذا الوزن لأبنائهم من ذكور وإناث فسموا " نزهون" بين النساء وسموا زيدون و((عبدون)) و((وهبون)) بين الرجال على ما مر بنا في باب الحياة الاجتماعية من هذا الكتاب .
ومهما كان الأمر من نزهون فهي شاعرة " المدينة" " الأندلسية" في القرن الخامس الهجري , وصورة دقيقة لجوانب عديدة من شعر ذلك القرن يستوي في ذلك شعر الرجال وشعر النساء واختلف مؤرخو الأدب في صفة نزهون وان لم يختلفوا على شاعريتها فبينما يذكر ابن سعيد أنها شاعرة ماجنة كثيرة النوادر( ) يصفها الحجاري في المسهب بخفة الروح والانطباع الزائد والحلاوة وحفظ الشعر والمعرفة بضرب الأمثال مع جمال فائق وحسن رائق ( ) والحق أن نزهون قد غمست نفسها في الحياة الأدبية في غرناطة غمسنا كاملا حتى لقب بشاعرة غرناطة.
ولشعر نزهون جانبان: جانب مشرق نظيف, وجانب جريء عنيف غير عفيف , وهي في كل ذلك صاحبة مطارحات ومشاغبات مع أعيان قرطبة وشعراء الأندلس المشاهير مثل الوزير ابن قزمان الشاعر الزجال المشهور,لقد التحمت معهم جميعا لحمة المودة حينا والتحام التهاجي حينا آخر ورجحت كفتها عليهم ولولا أنها امرأة لصرعتهم كلا في ميدانه ولكن المفحشين منهم كانوا يضايقونها بما يذكرون من ألفاظ السوقة وكلمات الساقطين في شعورهم الأمر الذي دفع بها اختيار أو اضطرارا إلى مواجهتهم حينا شعر بشعر ومناقضتهم حينا آخر عهرا بعهر
فمن جوانب الإشراق واللبن في حياة نزهون الشعري ما جرى من مساجلات بينها وبين الوزير أبي بكر بن سعيد الذي أولع بأدبها ومحاضراتها ومذكراتها فقد كان كل بني سعيد شعراء أدباء وكثرة وافرة منهم تولت الوزارة لفترات زمنية متعاقبة في أكثر من إمارة ومنهم ابن سعيد الأديب المؤلف المشهور صاحب كتاب المغرب في حلى المغرب الذي لا يستغني عنة باحث من الباحثين في ميدان الدراسات الأدبية والتاريخية الأندلسية والمغربية إن الوزير أبا بكر بن سعيد إعجابا منة ينزهون وتعبيرا عن شعبيتها بين جمهور المتأدبين وكان الأندلسيون جميعا متأدبين وغيرة منه من كثرة المعجبين بها يكتب إليها هذين البيتين الطريفين( ):
يا من له ألف خل من عاشق وصديق
أراك خليت للناس منزلا في الطريق
ولكنها تطمئنه على مكانته من قلبها وكان بينهما روابط عشق وتؤكد له انه الحبيب المقدم الذي يحتل مكان الصدارة من ودها وتجيبة:
حللت أبا بكر محلا منعته سواك وهل عير الحبيب له صدري
وان كان لي من حبيب فإنما يقدم أهل الحق حب أبي بكر
وفي الشطر الأخير من البيت الثاني تورية معنوية طريفة ولفظ " أبي بكر" ينصرف إلى صديق الرسول كما ينصرف إلى أبي بكر بن سعيد لقد صدق من وصفها بالظرف والزراعة
ونزهون وهذه بديهتها وحسن تصرفها في المعاني يراها ثقيل فيأخذه جمالها وتقع في عينه موقع الفتنة فيقول لها ما على من أكل معك خمسمائة سوط أي أنه يرحب بكل ألوان العذاب مادام في صحبتها ولكنة لثقله لا يحسن التعبير عما جال في خاطره ، فخرجت خاطرته كرجمة حجر فتجيبه نزهون بأسلوب فكاهة الشاعر ومشاعر الأنثى
وذي شقوة لما راني رأى له تمنية أن يصلي جاحم الضرب
فقلن له كلها هنيئا فإنما خلقت إلى لبس المطارف والشرب
ونزهون جريئة في غزلها جرأة أم الكرم الصمادحية بل أكثر على أن الفرق بين غزليهما هو الفرق بين خشونة المرية ونعومة غرناطة هكذا يكون الفرق في وسيلة طرق المعاني وانتقاء الأسلوب والتأنق في اختيار ألفاظ الحضر والإقبال على الصنعة البديعية بل أن هناك فرقا أهم واخطر ذلك إن غزل الكرم يدخل في باب الرغبة والتمني وأما غزل نزهون فيندرج تحت باب التقرير والحكاية عن انحراف حادث متكرر أنها تصف ليلة من ليالي مباذلها عن انحراف حجب إعجابنا عنه:
لله در الليالي ما أحيسنها وما احيسن منها ليلة الأحد
لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت عين الرقيب فلم تنظر إلى احد
أبصرت شمس الضحى في ساعدي قمر بل ريم خازمة في ساعدي أسد
ما من شك في أن هذا الجانب الذي نعتبره مضطرين مشرقا في شعر نزهون يدل على أصالة فنية وموهبة خصبة أمدتها بالشعر الرائق الذي اختارت قولة في محط نشأتها والمجتمع الذي وضعت نفسها فيه فجمعت إلى المناظرة والمحاضرة والمذاكرة والمراسلة القول الفني الذي اختارت له قوالب المعاني وأبعادها وأنماط الأساليب وألفاظها.
لنترك ذلك الجانب الذي اعتبرناه الجانب الهادي في حياة نزهون الفنية ولنطرق جانبا أكثر حركة عندما شاء لها القدر أو ساءت هي أن تختار لنفسها أن تصطدم بالعتاة الكبار من شعراء زمانها من أمثال الأعمى المخزومي الهجا أو ابن قزمان الشاعر الزجال
وكانت نزهون من الجرأة وروح المجازفة بحيث تصطدم في الندوات كانت تحضرها بكبار الشعراء من الحضور وكانت على رقة شعرها صاحبة طبع عدواني ففي أحدى مجالس الوزير أبي بكر بن سعيد في غرناطة دخل الشاعر أبو بكر المخزومي الأعمى يقوده غلام صغير وكان المخزومي فيما بصفة لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة: أعمى شديد الشر معروفا بالهجاء والأزهار وهزت عطفه الأوتار قاوحت إليه قريحته الثرة المنسابة هذه الأبيات الجميلة التي كانت تأتي عفو خاطر كبار الشعراء في مثل هذه المنتديات الأندلسية:
دار السعيدي ذي أم دار رضوان ما تشتهي النفس فيها حاضر داني
سقت أباريقها للند سحب ندى نحن برعد لأوتار وعيدان
والبرق من كل دن ساكب مطر يحيا به ميت أفكار وإشجان
هذا النعيم الذي كنا نحدثه ولا سبيل له إلا بأذان
والى هنا والأبيات تشتمل على تحية رقيقة للمجلس وصاحبة والشاعر في تحيته يعلن عن عماه في المصراع الثاني من بيته الأخير ولكن الوزير يعلق على هذا المصراع قائلا : وإلى الآن لا سبيل له لا بالآذان ، وفي ذلك تعريض بالشاعر لكونه أعمى ، وهنا تغلب المخزومي طبيعته الحادة فيلجم الوزير قائلا :حتى يبعث الله ولد زنى كلما أنشدت هذه الأبيات قال أنها لأعمى , ويحس الوزير بالحرج فيقول في تراجع : أما أنا فلا انطق بحرف فيعلق الشاعر الأعمى ولا يزال في مزاجه بقية من حدة واحتجاج قائلا : من صمت نجا .
و إلى هنا كان من الممكن أن يصفو المنتدي ويستمر بهاؤه ويستأنف رائق القول وريق الحديث فيه ، ولكن نزهون صاحبة الروح العدوانية لم تأخذ عبرة من ذلك الحوار الخشن في أدب الذي جري بين الوزير الأديب المضيف والشاعر الضيف العنيف ، فتتلقف الحديث من طرفه الذي لان بعض الشيء وربما رق بعض الرقة وتلقي في وجه الشاعر الضرير العنيد السليط اللسان بهذا القول : وتراك يا أستاذ قديم النعمة بمجمر ند وغناء وشراب فتعجب من تأتيه وتشبهه بنعيم الجنة وتقول : ما كان تعلم إلا بالسماح ولا يبلغ إليه بالعيان ، ولكن من يجيء من حصن المدور ـــ بلد المخزومي ــــوينشا بين تيوس وبقر ،من أين له معرفة بمجالس النعيم ؟ فيطرق هذا الهجوم الشديد أسماع الشاعر الضرير فيتنحنح ، فتجعل نزهون من نحنحته سبيلا آخر لاستمرار التهجم عليه والسخرية به ، فتقول له : ذبحة؟ فيقول الشاعر متسائلا عن هذه السليطة في مجالس الأدب ، وكأنما رمت الأقدار بكل منهما في طريق الآخر : من هذه الفاضلة ؟ فتقول : عجوز في مقام أمك ، وهنا يفيض الكيل بالشاعر الهجاء الذي ظل مهذبا رغم اتهامها إياه ((بالجلفية )) ونشأته بين التيوس والبقر في حصن المدور ،أما وقد بدأت تسخر من آفة العمى عنده ـ وذلك اشد وأقسى ما يثير المكفوف ـــ وقولها ((عجوز )) وهو يعلم من صوتها أنها صبية , وقولها ((مثل أمك)) وهو لون من الخطاب غير كريم لا يصدر عن سيدة تحترم نفسها وفيه مسحة من تعريض بالشاعر وبأمه, أما وقد جرى كل ذلك فان المخزومي السليط اللسان الهجاء ينطلق على سجيته قائلا : كذبت , ما هذا صوت عجوز , وإنما هذه نغمة .....( ) محترفة تشم روائح ها هنا على فراسخ , وهنا يتدخل الوزير الأديب صاحب المنتدي لينفذ شاعرته وأثيرته من براثن الشيخ الهجاء المعتدى عليه قائلا :هذه نزهون بنت القلاعي الشاعرة الأديبة , فيجيبه المخزومي والغضب ملء عطفيه: سمعت بها لا اسمعها الله خيرا ولا أراها إلا .....( ) . فقالت له نزهون : يا شيخ سوء تناقصت , وأي خير للمرأة مثل ما ذكرت , ففكر المخزومي قليلا ثم قال بيتين مستوحيا معناهما من بيت لذي الرمة في هجاء ((مي ))وبيت للمتنبي معرضا بسيف الدولة ولكن فيهما تصرف بارع :
على وجه نزهون من الحسن مسحة وان كان قد أمسى من الضوء عاريا
قواصد نزهون توارك غيرها ومن قصد البحر استقل السواقيا
ولكن نزهون تصارع الشاعر بشعر أكثر بذاءة وتعمل فكرها ثم تنشد على الفور :
قل للوضيع مقالا يتلى إلى حين يحشر
من المدور أنشئـــ ــت والــ ... منه أعطر
حيث البداوة أمست في مشيها تتبختر
لذاك أمست صبا بكل شيء مدور
خلقت أعمى ولكن تهيم في كل ......
جاوبت هجوا بهجو فقل لعنت من اشعر
إن كنت في الخلق أنثى فإن شعري مذكر( )
ويذكر صاحب نفح الطيب أبياتا أخرى رواها ابن سعيد عن الحجاري في ((المسهب )) قالتها نزهون ردا على بيتي المخزومي ، وهي في جملتها على ما بها من سمات الهجاء ليست بذيئة ، وفيها تقول نزهون :
إن كان ما قلت حقا من بعض عهد كريم
فصار ذكري ذميما يعزى إلى كل لـوم
وصرت أقبح شيء من صورة المخزومي
وهنا يقول المخزومي لنزهون اسمعي . ويصب في أذنيها بيتين من أفحش ما يمكن لمرأة أن تسمع من حديث فضلا عن شعر( ).
حينئذ يتدخل الوزير ويحلف ألا يزيد احدهما على الآخر في كلمة هجاء ، ولكن المخزومي يجيبه قائلا : أكون هجاء الأندلس واكف عنها دون شيء فيقول الوزير : أنا اشتري منك عرضها فاطلب ، فيطلب المخزمي ثمنا لذلك : الغلام الذي كان قاده إلى منتدى الوزير
هذه صورة شعرية لما كان يجري تلك المجتمعات الأدبية وصورة أخرى لوجه آخر من أوجه شعر نزهون وهو الهجاء المفحش الذي يذكرنا بهجاء بشار في ذكر العورات وهجاء ابن سكرة وابن الحجاج في ذكر القاذورات والصورة المجملة تنبئ عن جانب من مجتمع مبتذل منحل عهر في القول وبذاءة في الخطاب وخمر ومجون وفحش وغلمان ويبد أن هذه الخصومة التي بدأت ضارية بين المخزومي ما لبثت إن هدأت وحل بينهما جو من الود والمصاحبة وصارت واحدة من تلاميذه ولكن من هؤلاء الصنف من التلاميذ الذين يبرزون أساتذهم فقد دخل الكتندي مرة على المخزومي بينما نزهو تقرا علية شيئا فقال
الكتندي للمخزومي أجز:
لو كنت تبصر من تكلمه
فـأفحم وأطال فكرة ولكنة لم يستطع أن يحير جوابا فقالت نزهون :
لغدوت اخرس من خلاخله
البدر يطلع من أزرته والغصن يمرح في غلائله ( )
وهكذا كانت نزهون أسرع بديهة من الشاعر الكبير وكانت في إجابتها صافية الشعر مشرقته بارعة رسم الصورة في رشاقة وحسن استغلال للمناسبة فخلعت على حلة من الجمال والفتنة ولم تنسى أنوثتها وسحر منها لفحشه ووصف نزهون بما تستحي الأذن من سماعة دلالها هذا ما كان نزهون حيال الشاعر الهجاء أبي بكر المخزومي بدأته بالعداوة والشحناء وجلبت لنفسها منه قبيح القول ومر الهجاء ثم انتهيا صديقين وأما قصتها مع ابن قزمان فقد كادت تنتهي بضربها تأديبا فقد كان ابن قزمان لأبي بكر والجماعة من الأدباء بينهم نزهون بعض شعرة الجميل ارتجالا وكان حينذاك يلبس غفارة صفراء على زي الفقهاء وإذ بنزهون بدلا من أن تلقى إليه بكلمة إعجاب ومجاملة تقول له ساخرة أحسنت يا بقرة بني إسرائيل وهو آنذاك شاعر ذو مكانة مرموقة ويقول لها إن لم اسر الناظرين فانا اسر السامعين وإنما يطلب سرور الناظرين منك يا فاعلة يا صانعة وتمكن السكر من ابن قزمان وأراد أن يوقع بها نوعا من الأذى ولكن القوم تدافعوا علية حتى رموه في البركة ولم يخرج منها إلا وهو قد شرب ماء كثير وثيابه تهطل من البلل ولم يجد ما يفرج به عن ذات نفسه إلا قوله اسمع يا وزير وانشد أبياتا ثلاثة سوف نسقط الأوسط منها لفحشه ووصف نزهون بما تستحي الأذن من سماعة
إيه أبا بكر ولا حول لي بدفع أعيان وأنذال
غرقتني في الماء يا سيدي كفرة بالتغريق في المال
وكما حمى أبو بكر عرضها من المخزومي الحادثة السابقة بالمال فقد فعل نفس الشيء هذه المرة مع ابن قزمان ودفع ضرة عن نزهون بالعطاء والإحسان ومجمل القول أن نزهون كانت شاعرة بارعة إلى الحد الذي تواجه فيه كبار الشعراء وتهاجيهم ولكن يبدو أنها لم تكن سوية التكوين لان ما قبل في مواجهتها مرات عديدة من وصف لها بالفحش وهجاء يتأذى منه الحياء لم يضع لمسلكها حدا ، أنها من ناحية الشعر من شاعرات الأندلس الكثيرات الأقله لا تكاد تعد على أصابع يد واحدة وهكذا تقدم غرناطة في هذا القرن الخامس شاعرتين بارعتين ولكنهما مختلفان مسلكا وأسلوب شعر فالأولى وهي حمدونة بنت زياد كانت مستقيمة الخلق سوية السلون من ناحية حياتها الشخصية صانعة متانفة من الناحية الشعرية وأما الثانية وهي نزهون فكانت على النقيض من زميلتها تماما سلوكا في الحياة وإنشاء في الشعر وشعرها إذا خلا من الفحش مطبوع عذب بعيد عن التصنيع قريب إلى البديهة والخاطر هذا ولنا لقاء مع شاعرة غرناطية قريبة الشبة بنزهون عند الحديث على شاعرات القرن السادس .
(4) شاعرات اشبيلية:
ومدينة اشبيلية من أجمل مدن الأندلس وتقع على النهر الكبير الذي تقع علية قرطبة وهي معتدلة الهواء وكانت جميلة المباني محاطة بمساحات شاسعة من خضرة أشجار الزيتون والتين وقد سئل واحد ممن زاروا مصر والشام أيهما رايتا حسن هذان أم اشبيلية ففضل اشبيلية وقال: شرفها( ) غابة بلا أسد ونهرها نيل بلا تمساح والنهر عندها ساحر جذاب كثير ما أوحى إلى الشعراء رائق القول وبارع الشعر فهذا ابن سفر يقول فيه :
شق النسيم علية جيب قميصه فانساب من شطية يطلب ثارة
فتضاحكت ورق الحمام بدوحها هزءا فضم من الحياء إزاره
إنها صورة بارعة لحالة المد والجزر الذي يتعرض لها النهر عند اشبيليةإلى الحد الذي يصل فيه إلى اثنين وسبعين ميلا مدا وانحسارا وينقل المقرى عن صاحب منهاج الفكر في وصفة اشبيلية (( أنها من أحسن مدن الدنيا ويأهلها يضرب المثل في الخلاعة وانتهاز فرصة الزمان الساعة بعد الساعة ويعينهم على ذلك واديها الفرح وناديها البهج ))
فهل انسحبت صفات أهلها على سلوك شاعراتها إن عدد الشاعرات الاشبيليات في القرن الخامس الذي نحن بصدد الحديث عن شاعراته لم يتعد الاثنتين وهما مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري وبثينة بنت المعتمد بن عباد وكلاهما متسمة بالرزانة والخلق الجميل وفي القرن السادس لا نجد فيها إلا شاعرة واحدة هي أسماء العامرية التي كاد شعرها كاد إن ينحصر في الشكوى من ظلم الولاة .

مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري:
كانت أديبة شاعرة وكانت تعلم النساء الأدب على طريقة أهل الأندلس في ندب نساء أديبات بناتهم وكانت مريم محتشمة متدين على خلاف ما نتوقع من شاعرة عاشت في مدينة الخلاعة حسبما سبق وصفها من بعض المؤرخين ولكن لعل السبب في نجول من الخلاعة أنها في الأصل من مدينة شلب في غرب الأندلس وإذن فهي غريبة عن اشبيلية وان سكنتها وتثبت الروايات أنها كانت تمدح عبيد الله بن محمد المهدي الأموي وكان يجيزها من ماله ويساجلها شعراء وتساجله وكان في مساجلاته معها يبدي لها الكثير من الاحترام والإجلال ويشبهها بمريم العذراء في ورعها وبالخنساء في شعرها.
ويبدو أنها كانت أرسلت في إحدى المرات قصيدة تمدح المهدي الذي مر ذكره فبعث إليها بردة عددا من الدنانير وعددا آخر من أبيات الشعر قال منها :( )
ما لي بشكر الذي أوليت من قبل أو أنني حزت نطق اللسن في الحلل
يا فذة الظرف في هذا الزمان ويا وحيدة العصر في الإخلاص والعمل
أشبهت مريما العذراء في ورع وقفت خنساء في الأشعار والمثل
وشعر المهدي يدل على تلطف وأريحية إزاء شاعرة أديبة حسنة السيرة وان كان يدل أيضا على تواضع شاعريته ومحدوديتها . وأما مريم فإنها تنشئ قصيدة من نفس البحر والقافية لكي تمدح الأمير الذي بعث إليها من ماله وخلع عليها من أدبه قائلة :
من ذا يجاريك في قول وفي عمل وقد بدرت إلى فضل ولم تسل
ما لي بشكر الذي نظمت في عنقي من اللآلي وما أوليت من قبلي
حليتني بحلى أصبحت زاهية بها على كل أنثى من حلى عطل
لله أخلاقك الغر التي سقيت ماء الفرات فرقت رقة الغزل
أشبهت مروان من غارت بدائعه وأنجدت وغدت من أحسن المثل
من كان والده العضب المهند لم يلد من النسل غير البيض والأسل
هذا الشعر وان يكن مصطنعا لرد تحية وعرفان بجميل ، فهو إن لم يكن من الحسن الجيد فما ينزل إلى الغث الرديء ، وطبيعة المرأة واضحة فيه ، وجميل من الشاعر أو الشاعرة أن يفصح عن ذاته في يسر فيما ينشئ من فن .
على أن شاعرية الشاعر تبدو على سجيتها حينما يغني لنفسه محبا أو فخورا أو شاكيا ، إن الحكم على شعره حينئذ يكون اقرب إلى الصحة وأدنى إلى العدل . لقد عمرت مريم طويلا فيما يروي مؤرخون الأدب ، وبلغت سبعا وسبعين سنة فيما تروي هي عن نفسها ، واصطدمت بهموم الكبر وارق الشيخوخة وذيول الشيب ، وافتقاد العافية ، فشكت زمانها ، والشكوى الصادقة لون من ألوان غناء النفس ، فماذا قالت مريم ؟ قالت :
وما ترتجي من بنت سبعين حجة وسبع كنسج العنكبوت المهلهل
تدب دبيب الطفل تسعى إلى العصا وتمشي بها مشي الأسير المكبل
إنهما بيتان يرجحان قصيدة بأكملها ثقلا ووزنا ، فلقد بلغت مريم الذروة في التعبير عن آلام الشيخوخة وهمومها تعبيرا لم يستطع كثير من الشعراء الرجال المعمرين أن يصلوا إلى مقامه دقة تصوير وبراعة تعبير .
بثينة بنت المعتمد بن عباد :
إنها الأميرة التي شهدت مباهج ملك أبيها المعتمد بن عباد كبير ملوك الطوائف وكبير الشعراء الملوك وبطل الأبطال في معركة الزلاقة ، والأسير بأغمات كما يؤشر علوج الروم ، أن المعتمد يشكل صفحات من المجد والترف والبطولة والإباء والشعر ، ولقد ابنته بثينة روحه الشاعرة فهو شاعر الملوك وملك الشعراء ، وورثت الشعر أيضا والجمال عن أمها الرميكية .
إن لبثينة شعرا كثيرا كان مشهورا بالمغرب ولم يبق منه إلا هذه القصيدة الرقيقة التي بين أيدينا انه لما دلت النكبة بالمعتمد واسر وحمل وزوجته إلى أغمات في المغرب وتعرض قصره للنهب والسلب كانت بثينة في جملة من سبي من نساء القصر وصباياه فاشتراها احد تجار اشبيلية وهو لا يعلم من أمرها شيئا ظانا أنها واحدة من الجواري وأهداها لابنه فلما أراد البن الدخول بها امتنعت امتناع الحرائر وأظهرت له نسبها وقالت لا احل ل كالا بعقد الزواج إن رضي أبي بذلك وأشارت عليه وعلى أبيه بتوجيه كتاب منها إلى أبيها وانتظار جوابه وكان هم أبويها لفقدها أسوا وقعا عليهما من زوال الملك فقد كانا متعلقين بها تعلقا شديدا لقد وافق الشاب ووالده على رأي بثينة فكتبت خطابا فريدا في بابه بين الخطابات التي كتبت في التاريخ لقد ضمنت خطابها قصتها كاملة في نطاق من الفطنة وإطار من السداد وجعلت منه قصيدة موشاة بحكمة الشيوخ وكانت في عمر أزهار الربيع مرنقة بالفخر الرائق وهي الأسيرة المغلوبة على أمرها مفعمة بالصدق الذي كان ثمرة لعناية أبويها بتنشئتها عليه أبان الملك السليب فلنردد ما كتبته بثينة من قصتها إلى أبيها في سجنه وما حفظه أهل المغرب ورووه لسنوات عديدة متتابعة :( )
اسمع كلامي واستمع لمقالتي فهي السلوك بدت من الأجياد
لا تنكروا أني سبيت وأنني بنت لملك من بني عباد
ملك عظيم قد تولى عصره وكذا الزمان يؤول للإفساد
لما أراد الله فرقة شمانا وأذاقنا طعم الأسى من زاد
قام النفاق على أبي في ملكه فدنا الفراق ولم يكن بمراد
فخرجت هاربة فحازني امرؤ لم يأت في إعجاله بسداد
إذ باعني بيع العبيد فضمني من صانني إلا من الأنكاد
وأرادني لزواج نجل طاهر حسن الخلائق من بني الإنجاد
ومضى إليك يسوم رأيك في الرضا ولانت تنظر في طريق رشادي
فعساك يا أبتي تعرفني به إن كان ممن يرتجى لوداد
وعسى رميكية الملوك بفضلها تدعو لنا باليمن والإسعاد
إن الأميرة الصغيرة الغريرة كانت من الفطنة بحيث أقنعت الفتى وأباه بالانتظار وكانت من الاعتراف بالجميل بحيث حسنت لأبيها الموافقة على الزواج وكانت من الكبرياء بحيث لم تنس أنها أميرة وابنة ملك وكانت من الواقعية بحيث ارتضت حكم القدر في مصيرها وكانت أخيرا من الشاعرية والصفاء بحيث دبجت بيراعها الرقيق قصة واقعية من أكثر القصص في التاريخ أسى وأخذا بمجامع الأحاسيس والخواطر فكانت هذه القصة الشاعرة في إطارها المؤثر العميق وأسلوبها المهذب الرقيق .
لقد تهلل وجه أبويها مرة في سجنها بعيدا في شمال افريقية ووانق أبوها على زواجها ، واعتبرها هدية القدر الثمينة إلى هذا الفتى الرشيد وأبيه الماجد وكتب لها موافقة استهلها بما يستهل به الأب العاقل نصائحه لابنته الأميرة الأثيرة المقبلة على الزواج
بنيتي كوني به برة فقد قضى الدهر بإسعافه
إن اشبيلية التي توقعنا من شاعراتها شعرا خليعا , لان المؤرخين وصموا أهلها بصفات الخلاعة لم تقدم لنا إلا شعرا جادا يتسم بالحكمة والجودة عند مريم , ويزدان بالرقة والأسى عند بثينة . وهو عند الاثنين صادق عميق , متاب على الانحراف مبتعد عن التصنع والاحتراف , ترديد لأصداء نفسية الشاعرتين وتصوير لواقع حالهما , الأولى في شيخوختها والثانية في محنتها .

(5)
شاعرة أخرى من وادي الحجارة :
أم العلاء بنت يوسف
إن اسم الوادي نفسه لا يوحي بالشعر , ذلك الوادي القريب من مجريط غير البعيد كثيرا عن طليطلة , الذي قدم لنا شاعرة ساحرة قبل قرن قرننا الخامس هذا نؤرخ لشاعراته , لقد قدم وادي الحجارة الشاعرة حفصة بنت حمدون الحجارية التي مر ذكرها عند الحديث عن شاعرات القرن الرابع وهو في هذا القرن الخامس يقدم لنا شاعرة مجيدة هي أم العلاء بنت يوسف الحجارية التي يذكر صاحب المسهب ــ وهو من نفس بلدها ــ أنها ممن تفخر به بلدها وقبيلها إن وادي الحجارة هذا إن لم يكن خصيب إنتاج الأرض فهو لاشك خصيب إنتاج الشعر والعلم لقد قدم للأدب شاعرتين بارعتين هما حفصة وأم العلاء وقدم من الشعراء الحسن بن حسان السناط ومن الأطباء الشعراء الخطباء الفرسان الطبيب أبا حاتم الحجاري ومن العلماء المؤرخ الأديب أما محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري الذي لقب لأدبه وعلمه وعمقه وتأليفه بجاحظ المغرب انه صاحب " المسهب في فضائل المغرب " قدمه لعبد الملك بن سعيد
عجيب أمر هذه المسميات اشبيلية بلد المجون تقدم لنا شاعرتين جادتين , ووادي الحجارة يقدم خصب الشعر ورحيق العلم والمرية البلد القفر أرضه المترامي بعيد موقعه يقدم لنا أم الكرم بنت صمادح الغزلة الرقيقة وزينب المرية الغزلة الغنائية العذبة والغسانية الجانية الشاعرة العفة الجزلة الأسلوب الأنيقة العبارة وأخيرا غاية المنى التي اجتازت امتحان المعتصم بن صمادح حينما أجازت في رقة ويسر ما اقترحه عليها من شطر بيت
وإذا عدنا إلى أم العلاء فسوف نجد أنها في رقة شعرها وبراعة غزلها امتداد طبيعي لحفصة ذلك أن حفصة فيما قدمنا وروينا كانت رائدة لشعر الغزل بين شاعرات الأندلس دقت بابه ودلفت إليه برفق دون ما جلبة ولا ضوضاء كتلك الجلبة التي صنعتها أم الكرم أو نزهون أو الغسانية أو زينب المرية قد يكون تقدم الزمن لمن أراد إن يبحث لهن عذر مبررا لارتفاع أصواتهن وصراخهن في معمعان الصبابة ولكن أم العلاء شاعرتنا هذه هي أيضا بنت القرن الخامس فلنستمع إلى ضرب من أقوالها في الغزل:
كل ما يصدر منكم حسن وبعلياكم تحلى الزمن
تعطف العين على منظركم وبذاكراكم تلد الأذن
من يعش دونكم في عمره فهو في نيل الأماني يغبن
أي استحياء هذا الذي يتمسى في أردان هذا الغزل الرقيق انه من رقته يكاد يكون شيئا أرقي من الغزل انه عطف وحنان وإعجاب وإطراء ومديح لقد جمعت الأبيات الثلاثاء كل هذه المعاني , ومن خلال هذه المعاني مجتمعة يطل الغزل برأسه مرتجفا مستحييا بل متواضعا ولكنه تواضع لا ينال من عمقه ولا يقلل من شأن أبعاده وهل هناك غزل أرق وأدب من هذا القول وبخاصة البيت الأوسط:
تعطف العين على منظركم وبذكراكم تلذ الأذن
والعاشقون كما يتغزلون وينعمون بقول الغزل من حقهم إن يشكوا أيضا وكذلك تفعل العاشقات من الشاعرات ا نام العلاء أكثر استحياء من غيرها وهي أم الكرم في المرية ولم تصح صياح علية في بغداد وإنما بصوت خافت رهيف لذلك الذي ألح على قلبها فانعطف إليه :
افهم مطارح أحوالي وما حكمت به الشواهد واعذرني ولا تلم
ولا تكلني إلى عذر أبينه شر المعاذير ما يحتاج للكلم
وكل ما جئته من ذلة فبما أصبحت في ثقة من ذلك الكرم
وأم العلاء فيها تأب وتحرز وكبرياء أنها تريد أن تستمع كما أباح غيرها لأنفسهن إن يستمتعن ويشربن ويطربن ، ولكنها تختلف عن هؤلاء جميعهن ، إن لفظ ((لولا)) في طؤيقها يكشف لها سوء ما تفكر في ان تقدم عليه مما يتنافى مع مروءتها ومن ثم تحجم وتمتنع :
لولا منافرة المـــدا مة للصبابة والغنا
لعكفت بين كؤوسها وجمعت أسباب المنى ( )
المعنى لا شك رائق ، ولكن الإطار الذي وضع داخله المعنى رقيق رائق أيضا ، أنها لا شك قرىت رأي الفضل البرمكي حينما رفض ان يشرب النبيذ مع احد الخلفاء فلامه البعض في ذلك ، فقال قولته الرائعة : والله لو كان شرب الماء ينال من مروءتي ما شربته
ولم تخل ام العلاء من ظرف ودعابه ، ولكنها حتى في دعابتها تحرص على إن تقدمها مغلفة بنسيج ناعم من الحكمة ، وانه لشيء طريف أن تجتمع الدعابة والحكمة فتكونا مزاجا طريفا من فكر وقول ، إن رجلا أشيب يقع في حب أم العلاء يحاول أن يلفت نظرها إليه بطرق شتى ، ولكنها تبعث إليه بيتين ناعمين مشتملين بالحكمة متلفعين بالدعابة ، وكأنها تربت على كتفه في نعومة وبسمة قائله: ( )
الشيب لا يخدع فيـه الصبا بحيلـة فاسمع إلى نصحي
فلا تكن اجهل من في الورى يبيت في الجهل كما يضحي
إن أم العلاء لا تكتفي بهذه الألوان الزاهية الرائعة من فنون الشعر ، ولكنها تطرق فنا أندلسيا أصيلا اشتقنا إليه منذ تركنا حمدونة ، ولكن حمدونة كانت تعيش في وادي آش الغض الأخضر الكاسي الظليل ذي المياه والأنهر والغدران ، وأم العلاء تعيش في وادي الحجارة ، وفرق كبير بين وادي آش ووادي الحجارة ، ولكن إذا كان : على قدر من أهل العزم تأتي العزائم !! فان أم العلاء من أصحاب الهمم ذوات العزائم ، غير انه إذا كان بوادي حمدونة أدواح وأمواه وخضرة وأزاهير ، فان كل الذي عند أم العلاء في واديها هو القصب ، ولا باس في ذلك ، أنها مدبرة في دنيا الشعر تدبير ربة الأسرة العاقلة في بيتها تتفنن فتجعل من القليل كثيرا ، ومن البسيط جميلا ، وكذلك فعلت أم العلاء فرسمت هذه الصورة الجذابة الخلابة لقصب واديها ، لقد جعلته يهفو نديا في كف الرياح فبدا كالبنود ترفرف على خفقات النسيم وقد ارتكزت قوائمها الواحد يتلو الأخر ، تقول أم العلاء كأنما ارادت أن تلفت انتباهنا إلى أنها صاحبة قدرات ، ليس في المعاني الناعمة العذبة التي ساقتها بوفرة وكرم من أبياتها السابقة وحسب وإنما هي أيضا صاحبة قدرة في التلاعب بالألفاظ ، تطوعها في يسر للمعنى الذي تنشد وتجعل منها ألوانا بهيجة في يدها تزين بها الصورة التي تزيد وتقدم هذا التشبيه البارع من خلال وصف الطبيعة في واديها المتواضع :
لله بستاني إذا يهفو به القصب المندى
فكأنما كــف الرياح قد أسندت بندا فبندا

حفصة بنت الحاج :
و تعرف أيضا بحفصة الركونية ، وهي شاعرة غرناطة في القرن السادس ، يذكر المقري أنها كانت جميلة ذات حسب ومال ، ويذكر ابن دحية أنها كانت من أشراف بلدتها
غرناطة .
وحفصة في غرناطة على زمانها مثل ولادة في قرطبة على زمانها أيضا ، بل إن حفصة اشعر ، وهي في غزلها أكثر جرأة في الهجوم على معاني العشق والإثارة والغيرة ، وإذا كانت ولادة قد ارتبطت بالوزير الشاعر الكاتب أبي جعفر احمد بن سعيد وزير بني عبد المؤمن ، وإذا كان ابن زيدون قد لقي منافسا في حبه ولادة فان ابن سعيد قد صادف هو الآخر منافسا أقوى في حبه حفصة ، لقد كان المنافس لابن زيدون وزيرا مثله هو أبو عامر بن عبدوس ، أما منافس ابن سعيد فهو الملك نفسه أبو سعيد عثمان بن عبد المؤمن بن علي الذي كان يلقب بأمير المؤمنين ، وإذا كان الدهر قد قلب ظهر مجنه لابن زيدون فان ذلك كان في حرمانه من ولادة وانقلابها عليه واغترابه منفيا من بلده ، وإما أبو جعفر فقد كان حظه من حفصة أوفر من حظ ابن زيدون من ولادة فقد ظل معشوقا طول عمره إلا في فترات الدلال وهي قصيرة ، بل لعله كان أكثر وقته مطلوبا وليس طالبا ، ولكنه لسوء الحظ وقع في حبه لحفصة في منافسة كان أهلا لها من حيث الجمال والعقل والشعر ولكن لم يكن أهلا لهذه المنافسة من حيث السلطة والقوة فما زال به الملك العاشق المنافس حتى تلمس له أسبابا مفتعلة وقتله .
لقد ترعرعت حفصة في أكناف غرناطة الجميلة التي خرجت من الشاعرات قبلها نزهون القلاعية وحمدونة وزينب ابنتي زياد والتي عاش فيها بنو سعيد الذين منهم شاعرنا أبو جعفر وأبوه القائد الأديب عبدالله بن سعيد ، وكانت حفصة على أدب وفضل وحسب فاختيرت مؤدبة لنساء بني عبد المؤمن الذين تملكوا غرناطة على عهد مروان بن سعيد والد أبي جعفر .
وكانت حفصة إلى أدبها وعلمها وجمالها تستطيع إن تقول شعرا جيدا عن طريق الاتجال ، فقد صادفت عبد المؤمن بن علي في القصر حيث كانت تعمل مؤدبة لنسائه على ما ذكرنا فارتجلت بين يديه : ( )
يا سيد الناس يا من يؤمل الناس رفده
امنن علي بطرس يكون للدهر عــده
تخط يمناك فيـه ((الحمد لله وحده ))
وهي في ذلك تشير إلى شعار دولة الموحدين ، فقد كانت العلامة السلطانية إن يكتب السلطان بخط غليظ في اعلي المنشور ((الحمد لله وحده ))
ولاشك أنها بديهة حاضرة وخاطرة مجيبة تلك التي تسعف الشاعرة الذكية بهذه الأبيات التي ردد محتواها مرج الكحل الشاعر بعد ذلك بقرن من الزمان في مدحه السلطان الناصر حفيد عبد المؤمن بن علي في قولة:
ولما توالى الفتح من كل وجهة ولم تبلغ الأوهام في الوصف حده
تركنا أمير المؤمنين لشكره بما أودع السر الإلهي عنده
فلا نعمة إلا تؤدي حقوقها علامته بالحمد لله وحده
عل أننا نلاحظ الفرق الكبير في الكبير في رونق الصياغة بين الشاعرة فعلى الرغم من أ حفصة ارتجلت أبياتها فإنها تبدو أ رق وألطف من أبيات ابن مرج الكحل.
وكان في حفصة لطف وخفة روح وصفاء بديهة ,لقد كانت لشهرتها يستوقفها بعض الناس ويطلبون منها تسطير شيء من شعرها على أوراق يحملونها وذلك على سبيل التذكرة تماما يحدث في أيامنا هذه مع بعض المشهورين من ساسة وفنانين لقد أرسلت إليها سيدة من أعيان غرناطة أن تكتب لها شيئا بخطها إليها بهذين البيتين:
يا ربة الحسن بل يا ربة الكرم غضن جفونك عما خطه قلمي
تصفحيه بلحظ الود منعمة لا تحفلي برديء الخط والكلم
على أن أرق شعر حفصة وأكثر جرأة هو ما قالته غزلا في أبي جعفر بن سعيد العنسي الوزير الشاعر أو ما أنشأته في مقام المساجلة معه ولم تخرج معانيها في ذلك كله عن إطار الغزل الذي يتأرجح بين الاعتدال تارة والشطط تارات أخرى
يتولى أبو جعفر الوزراء فتكتب إليه مهنئة بأبيات من الشعر العذاب قائلة :
رأست فما زال العداة بظلمهم وعلم النامي يقولون ما رأس
وهل منكر أن ساد أهل زمانه جموح إلى العليا حرون عن الدنس

وتبدأ حفصة غزلها في الوزير أبي جعفر في ثوب من الاحتشام وقد بدت عواطفها وكأنها شيء غير مخصوص بأحد بعينه فتقول هذا اللون الخفيف من الشعر:( )
سلام يفتح في زهرة الكمام وينطق ورق الغصون
على نازح قد ثوم في الحشا وأن كان تحرم منه العيون
فلا تحسبوا العبد ينساكم فذلك والله ما لا يكون
وتكثر اللقاءات بين حفصة وأبي جعفر ويلتقيان مرة في بستان "حور مؤمل " وقت انصراف كل منهما إلى حيث يقيم ., فيوحي اللقاء إلى الوزير الشاعر بهذه الأبيات :
رعى الله ليلا لم يرح بمذمم عشية وارانا بحور مؤمل
وقد خفقت من نحو نجد أريجة إذا نفحت هبت بريا القرنفل
وغرد قمري على الدوح وانثنى قضيب من الريحان من فوق جدول
يرى الروض مسرورا بما قد بدا لنا عناق وضم وارتشاف مقبل
ويرسل أبو جعفر بهذه الأبيات الرقيقة المتفائلة المرحة إلى حفصة , فجيبه على عادتهما في التراسل شعرا, ولكن نظرتها إلى الرياض الكاسية والمياه الجارية والأطيار الصادحة والنجوم المنورة تختلف تماما نظرة الوزير العاشق المرح أنها بنظرة المرأة تغار من كل شيء وتعتبره حائلا أو راصدا أو واشيا أو حاسدا, ومن ثم فإنها ترد عليه بأبيات تحمل هذه المعاني المتشائمة, النابع تشاؤمها من الغيرة وخوف الحسد:
لعمرك ما سر الرياض بوصلنا ولكنه أبدي لنا الغل والحسد
ولا صفق النهر ارتياحا بقربنا ولا غرد القمري إلا لما وجد
فلا تحسن الظن الذي أنت أهله فما هو في كل المواطن بالرشد
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه لأمر سوى كيما يكون لنا رصد
أنها غيرة المرأة العاشقة تعبر في جرأة وتشـاؤم, وتلح على هذا المعنى في علاقتها بالوزير الوسيم فتقول ما هو أكثر إلحاحا على هذا الجانب من مشاعر العشاق :
أغار عليك من عيني رقيبي ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني وضعتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني
هذا لون جديد غزل المرأة أكثر اندفاعا من طبيعة المرأة المحبة , ولكن في حفصة جرأة على الغزل ونهم إلى الحب يدفع بها إلى الغبرة ثم ينتقل بها من مرحلة الغيرة إلى مرحلة الأثرة والأنانية ,أنها تغار من كل شيء على صاحبها ,من المرئي وغير المرئي ومن المادة والمعنى , من الزمان والمكان , إن طبيعة المرأة الشاعرة , بل لعلنا نقول إن مظهر العشق والشعر قد اجتمعا وتصارعا وتساجلا في نفس حفصة فانتصر مظهر العاشقين وتصرفهم على رهافة الشعراء وتفننهم.
ودليلنا على ذلك أن هذا المعنى نفسه قد طرقته أم الكرم بنت صمادح وكانت :
ألا ليت شعري هل سبيل لخلوة ينزه عنها سمع كل مراقب
زويا عجبا أشتاق خلة من إذا ومثواه ما بين الحشا والترائب
لقد سبق القول أن هذه معان جريئة في ميدان غزل المرأة , ولكن حفصة كانت أكثر جرأة وأوضح إفصاحا وأوسع اندفاعا.
وفي حب أبي جعفر تفقد حفصة دلال المرأة وكبرياءها فالمرأة مهما لج بها العشق ومهما صنعت بها الصبابة , فانه بجمل بها ولو من باب المراعاة لجنسها أن تخفي بعض ما تجد وأن تكون مطلوبة لا طالبة ومرغوبة لا راغبة, وأن تتظاهر بكونها معشوقة لا عاشقة , ولكن حفصة تضرب بكل ذلك عرض الحائط, ويستبد بها الشوق إلى صاحبها , وربما لم يكن مضى على فراقهما طويل وقت فتبعث إليه بهذه الأبيات:
أزورك أم تزور فان قلبي إلى تشتهي أبدا يميل
وقد أمنت أن تظمى وتضحى إذا وافى إلى بك القبول
فثغري مورد عذب زلال وفرع ذوأبتي ظل ظليل
فعجل بالجواب فما جميل أناتك عن " بثينة " يا "جميل"
هذا لعمري لون جديد كل الجدة من شعر المرأة , وسلوك جديد أيضا في دنيا الشعر , وظاهرة لا يكاد يقبلها مجمع عربي غير مجتمع الأندلس, فمجمع البصرة على انحلاله , حين كان في قمة التحرر ما توقع أن تظهر فيه المشوقة, في شعر يظهر في المجتمعات ويقرأ على الناس , ولكن ذلك استجابة لمنطق طبيعة الأندلس , وهو شعر عذب زلال إذا سمحت لنا حفصة أن نستعير الكلمات الحلوة التي وصفت بها ثغرها, أن الشاعرة العاشقة خطت خطوة أخرى أبعد :أنها تقدم ألوانا من الإغراء وأسبابا من الإثارة لتستعجل "جميلا"
ولم تقف الإثارة بها عند حد الثغر وفرع الذؤابة , وإنما عمدت الشاعرة إلى صيغة إيقاعية من الشعر وشتها بالتورية اللطيفة في مخاطبة صاحبها ب"جميل"
وتصل الأبيات إلى الوزير الشاعر المعشوق, فيقرأ ذلك الاستعجال المثير, ولكن طبيعته الهادئة وروحه الشاعرة تجيب عليها بهذين البيتين الرائعين الوقورين:
أجلكم ما دام بي نهضة عن أن تزوروا إن وجدت السبيل
ما الروض زوارا ولكنما يزوره هب النسيم العليل
أرأيت أرق جوابا أو أعذب شعرا , أو أبرع معنى من شعر أبي جعفر بن سعيد هذا الحق أنها مطارحات فاتنة لعاشقين كلاهما شاعر من قمة رأس, وتطرق بابه في جرأة وتبعث ببطاقة كتبت فيها شعرت يتفق مع سجيتها , كله أثارة وتشويق وتحريض:
زائر قد أتى بجيد الغزال مطلع تحت جنحه للهلال
بلحاظ من سحر بابل صيغت ورضاب يفوق بنت الدوالي
يفصح الورد ما حوى منه خد وكد الثغر فاصح للآلي
ما ترى في دخوله بعد إذن أوتراه لعارض في انفصال؟
أن الشاعرة العاشقة جريئة في طرق باب معشوقها والسعي إليه وهي مثيرة محرضة في أبياتها تلك التي تصف فيها نفسها مبدية مفاتنها محاسنها وهي مع ذلك كله مهذبة متذللة في طلب الإذن بالدخول.
فأي نوع من الشعراء كان هذا الوزير "المطارد" ؟ لقد كان أنسانا هادئا شاعرا متزنا , فلنستمع إليه يقص قصة ذهاب حفصة إليه وطرقها بابه وظروف انشغاله آنئذ وكيف تلقاها واستقبلها . يقول أبو جعفر :أقسم ما رأيت ولا سمعت مثل حفصة, ومن بعض ما أجعله دليلا على تصديق عزمي وبر قسمي أني كنت يوما منزلي مع من يجب أن يخلى معه من الأجواد الكرام على راحة سمحت بها غفلات الأيام , فلم نشعر إلا بالباب يضرب , فخرجت جارية تنظر من الضارب , فوجدت امرأة , فقالت لها : ما تريدين , فقالت ادفعي إلى سيدك هذه الرقعة , فجاءت برقعة فيها:
زائر قد أتى بجيد الغزال ـ الأبيات
فعلت أنها حفصة , وقمت مبادرا للباب, وقابلتها بما يقابل به من يشفع له حسنه وآدابه والغرام به وتفضله بالزيارة دون في وقت الرغبة في الأنس به "( )
لقد كان أبو جعفر على حبه الشديد لحفصة في نهاية من ا لاتزان قولا وسلوكا , وكانت هي في منتهى الرعونة قولا وسلوكا إن غزلها بالرجل قد فاق غزل الرجال بالنساء , هذا بغض النظر عن أشكال عن أشكال الإثارة التي تضمنتها رسائلها الشعرية إلى صاحبها وأي شاعرة أنثى تفوق حفصة في قولها هذا في الغزل ؟
ثنائي على تلك الثنايا لأنني أقول على علم وأنطق عن خبر
وأنصفهاـ لا أكذب الله ـ إنني رشقت بها ريقا من الخمر
إن الصورة الغزلية نفسها على جرأتها لصدورها من امرأة جمعت إلى الصراحة حسن التصوير واصطناع الدلال كما عمدت إلى صيغة الجد الساخر في تحرزها "لا أكذب الله" هذا فضلا عن الصنعة البادية المقبولة في الجناس بين ((ثناء)) و(( ثنايا)) وبين ريقو ((أرق)) والمجانسة المعنوية في المصراع : ((أقول على علم وأنطق عن خبر))
إننا نكاد نتمثل قصة ولادة وابن زيدون ونحن نستعرض صلة حفصة وأبي جعفر ولكن بصورة عكسية لقد علا صوت حفصة بحب أبي جعفر , وذاع شعرها فيه ذلك الشعر الجديد في معدنه الجرىء في نوعه الرقيق في صوغه المرصع ببديعه ولكننا إمام صنعه لم تفسد وبديع لم يعكر رائق هواما المعاني فهي غير جديدة على السنة الشعراء جديدة جريئة على ألسنة الشاعرات .
لقد كان أبو جعفر ملكا يجلس على عرش قلب حفصة , وكان هناك ملك آخر يجلس على عرش الحكم ويطمع في عرش ذلك القلب فلم يفلح في أحلامه فلم يكن يملك مؤهلات تمهر قلب الشاعرة , فاستغل سلطانه وأزاح منافسه من أمامه قتلا , وهناك بيتان لحفصة ما أخالهما صدرا عنها رثاء للوزير الشاعر الرقيق, العاشق المعشوق:
ولو لم تكن نجما لما كان ناظري وقد غبت عنه مظلما بعد نوره
سلام على تلك المحاسن من شج تناءت بنعماه وطيب سروره( )
أسماء وأم الهناء والشلبية:
لقد كانت حفصة آخر شاعرات الأندلس من حيث الشهرة والرقة والجرأة في القول والهجوم على معان طوال القرون السابقة عليها وقفا على الرجال دون النساء ,أن هناك شاعرات عاصرنها زمنا أو جئن بعدها بقليل , ولكن في غير غرناطة التي فرضت طبيعتها أن تكون عاصمة الشعر النسائي في القرنين الخامس والسادس .
فقد كان هناك في اشبيلية شاعرة اسمها أسماء العامرية , ولكن لم يصل إلينا من شعرها الأبيات قليلة بعثت بها إلى عبد المؤمن بن علي ملك الموحدين انتسبت فيها إليه وطلبت رفع ما وقع على أموالها من اعتقال , تقول في أبياتها: ( )
عرفنا النصر والفتح المبينا لسيدنا أمير المؤمنينا
إذا كان الحديث عن المعالي رأيت حديثكم فينا شجونا
وفيها تقول:
رويتم علمه فعملتموه وصنتم عهده فغدا مصونا
والأبيات تدل على أن قائلتها شاعرة من الطبقة المتوسطة, وان كان من القضايا التي يصعب الحكم فيها قلة مابين يدي القاضي من وثائق وقرائن.
وأما قرطبة التي امتلأت شعرا وحياة وغزلا في القرن الخامس فإننا لا نكاد نجد فيها هذا القرن السادس غير شاعرة واحد مقلة هي أم الهناء بنت القاضي أبي محمد بن عبد الحق بن عطية.
إن المقري يلقب أباها بالشيخ الأمام , وذلك أنه كان من العلماء الأجلاء, وهو حين يتحدث عن أم الهناء يقول إنها أباها , وكانت حاضرة النادرة , سريعة التمثل , من أهل العلم لا والفهم والعقل ولها تأليف.
والقاضي ابن عطية هو صاحب البيتين المشهورين في وصف قرطبة :
بأربع فاقت الأمصار قرطبة وهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان والزهراء ثالثة والعلم أكبر شيء وهو رابعها
وكان الشيخ ابن عطية شديد التعلق بوطنه قرطبة حتى انه لما عين قاضيا للمرية أنشد في وداع موطنه:
أستودع الله أهل قرطبة حيث وجدت الحياء والكما
والجامع الأعظم العتيق ولا زال مدى الدهر مأمنا حرما
يبلغ الشيخ ابن عطية خبر تعيينه قاضيا للمرية فيدخل داره وعيناه تذرفان الدموع وجدا لمفارقة وطنه وتلمح أم الهناء الدمع يترقرق في عين أبيها الشيخ العالم الوقور فتنشد على سبيل التأسي:
يا عين صار الدمع عندك عادة تبكي في فرح وفي أحزان
وهذا البيت الذي تمثلت به أم الهناء هو جملة أبيات غزلية عمة رقيقة بعيدة عن هجر القول وفحشه , وإنما تحمل في حواشيها حياء العذارى وبراءة الغرائر مع توشية خفيفة من زينة لفظية بديعية فتقول:
جاء الكتاب من الحبيب بأنه سيزورني فاستعبرت أجفاني
غلب السرور علي حتى أنه من عظم فرط مسرتي أبكاني
يا عين صار الدمع عندك عادة تبكي في فرح وفي أحزان
فاستقبلي بالبشر يوم لقائه ودعي الدموع لليلة الهجران
ويتداخل القرن السادس في القرن السابع وتظهر في مدينة شلب غربي لأندلس شاعرة جادة جريئة على الحكام والملوك تكشف خطاياهم وتكافح ظلم عمالهم على الأقاليم إن ابن الأبار الذي أورد نصا من شعرها يذكر أنه لم يقف على اسمها كاملا , ومن فقد اكتفى بذكر حاملة نسبتها إلى مدينتها فسماها الشلبية.
لقد استبد ظلم الحكام وصاحب الخراج في بلدتها وكان لابد أن يرتفع صوت يشكو الظلم ويكافح الفساد فكان هذا الصوت الجرىء لشاعرة رصينة جزئية حين لم تستطع أصوات أخرى أن ترتفع فقالت موجهة شعرها إلى السلطان يعقوب المنصور أحد ملوك الموحدين:
قد آن أن تبكي العيون الآبيه ولقد أرى أن الحجارة باكيه
يا قاصد المصر الذي يرجى به إن قدر الرحمن رفع كراهية
ناد الأمير إذا وقفت ببابه: يا راعيا إن الرعية فانية
أرسلتها هملا ولا مرعى لها وتركتها نهب السباع العاديه
"شلب " كلا شلب وكانت جنة فأعادها الطاغون نارا حاميه
خافوا وما خافوا عقوبة ربهم والله لا تخفى عليه خافيه
تمنينا لو وقع بين أيدينا مزيد من أخبار هذه الشاعرة ومزيد من شعرها , فإننا نلمس في شعرها السلاسة والسلامة والجزالة , ونحس أنها صاحبة شخصية جادة غير ماجنة ولا متخاذلة , فمثل هذا الشعر الذي يشرح قضايا طرقها محوط بالمكاره لأنه يمثل ثورة على طغيان لابد وأن يكون صادر عن شخصية عزيزة النفس عالية الهمة متسمة بالشجاعة والاستقامة.
على أن الأمر الذي يدعو إلى الرضا أن المنصور وقد ألقيت القصيدة على مصلاه في يوم جمعة حيث الجموع محتشدة أخذها فتصفحها وتابع القضية ووقف على حقيقتها ورفع الظلم عن المدينة وأمر للشاعرة بصلة .
ولقد هيأ جو التسامح الديني الذي بسط لواءه على الأندلس لشاعرات غير مسلمات أن يأخذن نصيبهن من الثقافة وأن يقلن شعرا رقيقا شبيها بشعر غيرهن من الشاعرات العربيات والمسلمات
لقد ظهر بين الأندلس شاعرة رقيقة أسمها بنت إسماعيل وإذا كان المقرى صاحب خبرها لم يذكر شيئا عن بلدها أو زمنها فإننا نرجح أنها القرن غرناطية عاشت في القرن السابع الغرناطيين ولان غرناطة نفسها كانت مليئة باليهود المتجمعين فيها .
وتبدأ قصة نبوغ قسمونة حينما ينشد أبوها ذات يوم بيت شعر ويقول لها : أجيزي فتجيز البيت في حذق ومهارة , فيقول أبوها كالمخيل ويضمها إلى صدره ويقبل رأسها ويقول: أنت والعشر كلمات أشعر مني , يقصد أن يقسم بالوصايا العشر التي يؤمن اليهود بها ويقسمون بها .
أما البيت الذي قاله الأب فهو:
لي صاحب ذو بهجة قد قابلت منعا بظهر واستحلت جرمها
فما لبثت قسمونة غير قليل ثم نطقت أبدا ويكسف بعد ذلك جرمها
إن قسمونة أشعر من أبيها دون ريب في هذا البيت على الأقل وتبدو الفتاة اليهودية حزينة فيما وصل ألينا من شعرها , ربما لأنها قاست من الوحدة وانعدام القرين مع جمال الشباب وربما جمال القسمات , فلقد نظرت في المرأة ذات وهي في شرخ شبابها ولم تتزوج بعد فأنشدت :
أرى روضة قد حان منها قطافها ولست أرى جان يمد لها يدا
فوا أسفا يمضي الشباب مضيعا ويبقى الذي ما ان أسميه مفردا
مونة على رسلها في الشكوى بأسلوب رشيق وعبارة غنائية وقسمات كسيفة ومعاني حزينة عندما يقع بصرها على طبيعة كانت تقتنيها فتقول مخاطبة إياها:
يا ظبية ترعى بروض دائما إني حكيتك في التوحش والحور
أمسى كلانا مفرد عن صاحب فلنصطبر أبدا على حكم القدر
(3)
وإذا كانت كلمة أخيرة لابد من تسجيلها حول شاعرات الأندلس فإننا يمكن أن نقدمهن هذه المرة من مواقع مواطنهن وليس من مواقع عصورهن الزمنية , وقد يكون الأمر ملفتا حينما نجد المدن الصغيرة أو بعبارة أوضح المدن الأقل شهرة أوفر حظا بعدد الشاعرات اللائي خرجتهن بالقياس إلى المدن الكبيرة الشهيرة. فإذا ما نظرنا إلى "وادي الحجارة " مثلا القريب من مجريط على ما ذكرنا في صفحة ماضية وجدناه يخرج لنا حفصة الحجارية الشاعرة المبكرة في الظهور فقد ظهرت في القرن الرابع , وحفصة هذه أعني الحجارية حتى لا ينصرف الذهن إلى حفصة أخرى تختلف عنها كل الاختلافات رقيقة اللفظ, بارعة الصوغ , عذبة الإيقاع, وهي في رأينا وأناة , وكأنها كانت تقدم رجلا وتؤخر أخرى فهمد فمهدت الطريق لمن جاء بعدها من شاعرات الأندلس اللائي ركب بعضهن متن الشطط في صيغ الغزل التي قدمتها.
ثم لا يلبث هذا الوادي العتيد أن يقدم بعد قرن من الزمان درة أخرى من شاعرات الأندلس هي أم العلاء بنت يوسف , وهي من بين نساء الأندلس الشاعرات أرق من استطاعت أن تتغزل في حشمة , وأن تظهر كبرياء المرأة في التمنع عما ينال من مروءتها, وشعرها يتسم بالرقة الأسرة مع زينة خفيفة وصنعة محببة غير ملحوظة ولا مفسدة.
فإذا ما انتقلنا إلى طرف آخر من أطراف الأرض الإسلامية في أقصى الشرق الجنوبي الأندلسي ووصلنا إلى المرية, وجدناها على تواضع بيئتها من حيث جمال الطبيعة والحياة العامة قد قدمت للأدب الأندلس ثلاث شاعرات أو أربع تعاصرن في قرن واحد القرن الخامس, وقد كلفت كل منهن بالغزل كلفا يختلف عند الواحد منهن عن الأخرى , فالغسانية البجانية تقول من الغزل أعفه وأرقه في ثوب جميل وأسلوب عذب, وزينب المرية تمثل مرحلة أكثر جرأة من صاحبتها الغسانية فهي وان عدت محافظة نوعا بالقياس إلى فترتها الزمنية إلا أنها كانت صراحة من الغسانية ,آثار كان غزلها كغزل الرجال تماما من شكوى وألم وحرمان ولكنها اقتفت آثار المدرسة العذرية من شعر المشارقة وأما ثالثة شاعرات المرية فهي أميرة من بيت بني صمادح إنها أم الكرم بنت المعتصم التي مزقت الغلالة الرقيقة من الحياء التي كانت زميلاتها من شعراء بلدتها يتدثرن بها ويتخفين من خلفها فقالت الغزل الصريح بلغة المولهات صبابة بصوت عال مسموع , وإذا كانت كل من الغسانية وزينب قد حجبت شخص محبوبها فان أم الكرم قد جاهرت باسم صاحبها وزاد الطين بلة أنه كان واحد من فتيان قصر أبيها اسمه السمار فكان غزلها وجرأتها في القول فيه سببا في اختفائه من مسرح الحياة كلها.
ولم تعمد شاعرات المرية إلى الصنعة البديعية فقد ببديع المعاني عن بديع الألفاظ وصناعة الأساليب.
فأما شاعرات اشبيلية فقد كانت لهن ميزة تميزن بها عن جميع شاعرات الأندلس هذه الميزة تمثلت في العفة والحياء والوقار والكبرياء صحيح إن الشاعرة قمرا قد عاشت في اشبيلية في فثر إبراهيم بن حجاج تنشد الشعر الرقيق وتغيبه في أعذب لحن وأجمل توقيع مليئا بالصنعة البديعية والصور الفنية والتشبيهات الجميلة , ولكننا ينبغي إن نلفت النظر إلى أن "قمرا" كانت تمثل أدب القيان لأدب الحرائر وهي وان عاشت في اشبيلية إلا أنها وافدة من الشرق قد استكملت عدة الفن هناك فوصلت إلى اشبيلية مكتملة أسباب النضوج الفني ممثلة لمدرسة غربية وليست صورة لبيئة الأندلس.
أما الاشبيليات الأصيلات من الشاعرات فمنهن مريم بنت أبي يعقوب التي مدحت الملوك ولكن في احتشام ، تقول الشعر سليقة وليس صناعة ، وقد عمرت وعبرت عن شيخوختها في صورة شاعرية ربما عجز عن الإتيان بمثلها كثير من الشعراء الفحول .
ومثل مريم ، الأميرة بثينة بنت المعتمد بن عباد التي أسرت وبيعت إبان نكبة أبيها وكتبت إلى أبيها وهو في سجنه من بيت شاريها – وكان رجلا كريما – قصتها شعرا تطلب رأي أبيها في الزواج بابن شاريها وتحسن له في أدب جم وحياء وخفر فكرة الموافقة على الزواج .
وكل من مريم وبثينة تقول الشعر على السليقة واستجابة لموهبة أصيلة وبديهة صافية .
وفي القرن السادس تظهر في اشبيلية شاعرة أخرى هي أسماء العامرية ، وهي من مدرسة مريم وبثينة عفة وترقعا ، ويبدو أنها كانت تمت بصلة القربى إلى عبد المؤمن بن علي ملك الموحدين فقد كتبت إليه شعرا تشكو ظلما وقع عليها وتنتسب فيه له ، ولم يصل إلينا من شعرها غير ذلك .
فإذا كان الحديث عن شاعرات قرطبة ، فإننا نجدها فقيرة من حيث عدد الشاعرات بالنسبة إلى كونها عاصمة الأندلس الكبرى ، ولكن شاعراتها على قلة عددهن تركن دويا عاليا في سمع الشعر العربي وتاريخيه ، أو بشكل أو ضح وأدق لقد تركت أحداهن وهي ((ولادة)) دويا كبيرا ولو لم تكن اشعر شاعرات الأندلس ، وإنما الفضل في شهرتها يرجع إلى الوزير الشاعر النابه أبي الوليد احمد بن زيدون الذي ملأ إسماع الدنيا صداحا وتغريدا وهديلا وترديدا ، على إن ذلك لا يمنع من وضعها – من حيث كونها شاعرة – في مكانة رفيعة بين شاعرات الأندلس ، ففي شعرها عمق وفي قولها تمكن – رقيقة شعر الغزل ، فاحشة شعر الهجاء ، وهي في واقع أمرها غزلة رقيقة وهجاءة بذيئة .
على إن شهرة ولادة لا ينبغي إن تحجب عن الأنظار شاعرة قرطبية سابقة لها بقرن من الزمان هي عائشة القرطبية التي توفيت عام 400 هـ كانت تنتمي في فنها إلى مدرسة الفحول من شعراء المشارقة رغم وجودها ونشأتها في بيئة قرطبة ، جزلة سلسة متمكنة فيها تحفظ وكبرياء ، وكانت تقول المديح ارتجالا فينساب على لسانها وكأنه الجدول الصافي الرقراق .
هذا ولا ينبغي – ونحن في قرطبة – إن ننسى مهجة القرطبية تلميذة ولادة وصديقتها التي ما لبثت إن انقلبت عليها وهجتها هجاء ينال من عفتها . على إن أهم ما تتصف به مهجة في شعرها وسلوكها أنها لم تخرج عن نطاق الخلاعة والمجون والبعد عن القيم الخلقية والتحلل من أسباب العفة والحياء .
ولكن كما بدا الشعر في قرطبة حييا عفا نظيفا منبعثا من صدق عائشة القرطبية وكبريائها ، فانه انتهى عفا نظيفا رقيقا عميقا منطلقا من شاعرية أم الهناء بنت عطية القرطبية ، لقد اثر عن أم الهناء شعر قليل ولكنه غزل بريء فيه حياء العذارى واستحياء الغرائر العفيفات مع صناعة بديعية خفيفة .
يبقى أمامنا من المدن الكبرى بعد ذلك غرناطة ، لقد قدمت غرناطة للشعر الأندلسي أربع شاعرات مرموقات عظيمات هن حمدونة بنت زياد ، وأختها زينب ، ونزهون القلاعية ، وحفصة بنت الحاج المعروفة باسم حفصة الركونية .
فأما زينب فعلى كثرة ما ذكر اسمها مقرونا بالثناء عليها كشاعرة كبيرة ، فان شيئا من شعرها لم يصل إلينا لسوء الحظ ، وكانت هي وأختها حمدونة تسكنا مكانا جميلا غير بعيد عن غرناطة هو وادي آش ، ومن ثم فأنهما تعتبران من شاعرات غرناطة
وحمدونة هي شاعرة الطبيعة الأولى بين شاعرات الأندلس ، أنها بين الشاعرات كابن خفاجة بين شعراء الرجال في الأندلس ، وكالصنوبري بين شعراء الرجال في المشرق من حيث إن كلا من الشاعرين الكبيرين يعتبر مؤسسا لمدرسة شعر الطبيعة هذا في الأندلس وذاك في المشرق .
وإذا كان شعر الطبيعة لكي ينقل صورة الطبيعة بصدق وأمانة يحتاج إلى الصنعة البيانية والزينة البديعية فقد سلكت حمدونة في وصفها للطبيعة ذلك النهج فجاء شعرها عذبا أخاذا جرى على السنة المتأدبين ترنيما وترديدا في المشرق والمغرب على حد سواء ، فإذا ما قالت حمدونة في الغزل فأنها تصنع الحب وتصوغه في شعر رقيق الحواشي عذب الإيقاع في غير ما فحش ولا خلاعة وإنما في نطاق من الأسلوب الرائق والمعاني المحتشمة .
ومن شاعرات غرناطة نزهون التي مر ذكرها وكانت شاعرة مطبوعة سريعة البديهة ترتجل الشعر وتساجل كبار الشعراء ، وهي على عكس حمدونة تماما ، فحمدونة ذات شعر مترف مصنوع وأما نزهون فشعرها على السليقة وكأنها تلقي حديثا عابرا وليس منغما ، وحمدونة عفيفة مستحيية ، وأما نزهون فخليعة ماجنة ، في قولها فحش وفي سلوكها انحراف ، وهي ذات قدرة فائقة على سماع فحش القول وبذيء الألفاظ .
هذا ما كان من أمر شاعرات غرناطة في القرن الخامس ، وجدير بالذكر انه لم يظهر فيها شاعرات قبل هذا القرن ، فإذا أهل القرن السادس ظهرت في غرناطة الشاعرة الكبيرة الشهيرة التي لقبها أكثر من مؤرخ بشاعرة زمانها أو بشاعرة الأندلس ، أنها حفصة الركونية ، وحفصة صيغة جديدة من صيغ الشعر العربي كله في ميدان الغزل ، لقد كانت مؤدبة لنساء عبد المؤمن بن علي كما مر بنا ، ولكن ابنه عثمان الذي أصبح ملكا بعد قليل يقع في حبها فلا تلتفت إليه ، وتقع هي في حب وزيرة أبي جعفر بن سعيد ، والصيغة الجديدة تكمن في جعلها من صاحبها معشوقا مطاردا ، وجعلها من نفسها – ولكن في هوس وجنون – العاشق الولهان ، تتغزل في سحر ثناياه وفي ريقه الذي هو أعذب من الخمر ، وتسجل في شعرها أنها بذلك خبيرة وتكتب إليه شعرا يحمل معاني الإثارة وتصف له في جرأة أنوثتها التي هي ري الظامئ وواحة المقيل .
فثغرى مورد عذب زلال وفرع ذوأبي ظل ظليل
و تتعجل مقدمة ، وتطرق منزلة في جرأة وترسل إليه بطاقة ملأتها شعرا غزليا مثيرا إلى غير ذلك مما مر ذكره من أمثله عند الحديث عنها ، أنها في نهاية أمرها عاشقة متلهفة مشوقة صبة مندفعة متهورة .
أنها طراز جديد من شاعرات الأندلس وصيغة جديدة من صيغ الشعر العربي ، وهي إلى ذلك شاعرة مكتملة وفنانة رقيقة ، في شعرها إشراق وفي أسلوبها صنعة وافتنان
ومجمل القول أن شاعرات الأندلس قد أفسحن لشعرهن مكانا رحيبا ، وفرضن وجودهن بصورة لم تحدث للقلة من زميلاتهن في المشرق ، على إنهن لم يسهمن في كل فنون الشعر وموضوعاته ، وأكثر ما قلن فيه من الإغراض كان الغزل والمديح ووصف الطبيعة والهجاء ، وكما اتصفت بعضهن بالعفة والتعقل في غزلهن ذهبت بعض الأخريات إلى غاية من التطرف والمجون ، هذا والمرأة الأندلسية في الهجاء بلغت أقصى مراحل الفحش التي وصل إليها الهجاءون من الشعراء سواء اكانو مشارقة أم أندلسيين ، والشاعرة الأندلسي بعد ذلك ، إذا غمدت إلى الصور البيانية والمحسنات البديعية – وكثيرا ما فعلت – فإنها تصدر عن فن رقيق وتعبر عن طبع أصيل في غير ما غلو أو إسراف .




مهجة بنت التياني القرطبية :
ولم تكن ولادة وحدها شاعرة قرطبة على عصرها ، وإنما كانت هناك شاعرة أخرى قيل أنها كانت من أجمل نساء زمانها ، ولكنها كانت تنتمي إلى طبقة غير طلقة ولادة ، فقد كانت ولادة فيما هو معروف أمير من بيت الملك الأموي الأندلسي الذي هو امتداد لملك بني مروان في المشرق ، وإما مهجة فكان أبوها فيما يذكر ابن سعيد عن صاحب المسهب بائع تين( ) ، ولذلك فقد عرفت باسم مهجة بنت التياني نسبة إلى أبيها التيان أي بائع التين ، ولكن وشيجة الأدب ورابطة العلم تستطيع إن تتخطى كل العوائق الطبقية ، ومن ثم فان ولادة قد أعجبت بظرف مهجة ، وخفة روحها ، ورقة شعرها ، وجمال محياها فعلقت بها ولزمت تأديبها ، ولكن علاقة مهجة بولادة ، ما لبثت إن ساءت فقالت فيها هجاءا فاحشا من ذلك الذي الفته بيئة الأندلس مستوردة أصوله – بكل أسف – من الشرق .
والشعر الذي بين أيدينا لمهجة قليل جدا، ولا نكاد نجد منه ما يصلح للنشر غير هذين البيتين اللذين يعتبران من أجود الشعر وأطيبه : ( )
لئن حلأت عن ثغرها كل قائم فما زال يحمي عن مطالبه الثغر
فذلك تحميه القواضب والقنا وهذا حماه من لواحظها السحر
وفي البيتين صنعه جميلة لم تفسد من المعنى الذي استهدفته الشاعرة حين عمدت إلى الجناس والتورية واللف والنشر من فنون البديع في بيتين اثنين الأمر الذي جعل بعض النقاد يقول أنها تقدمت بهذين البيتين فحول الذكران أي الفحول من الشعراء الذكور .
على إن هذه الشاعرة على جودة شعرها كانت من الخلاعة في القول والفحش في الشعر ما جعلها تذهب في تعبيراتها مذاهب تنال من عفة قائلتها وبخاصة ولعها بذكر عورات الرجال في شعرها ، وهي لا تتورع عن النيل من ولادة مستغلة طبيعة الاسم ، فمعنى لفظ ولادة المرأة الكثير الإنجاب ، ولكن الأميرة ولادة لم تتزوج في حياتها ومات بعد الثمانين من عمرها عذراء ، غير إن مهجة السليطة الشعر المبدئية اللسان تهجو ولادة مستوحية معاني الهجاء من معنى الاسم فتقول :
ولادة قد صرت ولادة من غير بعل ، فضح الكاتم
حكت لنا مريم لكنه نخلة هذي .....( ) قائم
ولابن الرومي معنى مماثل ، ولكن الذين اغرموا بقراءة هذا اللون من الهجاء قالوا : لو سمع ابن الرومي هذا لأقر لها بالتقدم
على أننا لم نصدر حكمنا على مهجة بالخلاعة والفحش إلا من واقع معاني الهجاء التي طرقتها ، فقد يجد الشاعر نفسه – رغم عفته – مسوقا سوقا إلى الإفحاش حين يهجو ، ولكن أن جار ذلك للرجل ، فانه لا يجوز للمرأة لأنها بطبيعتها ارق ، وأكثر حياء من الرجل ، ومن ثم فان صيغ الفحش في للقول أكثر جريانا – إذا كان لا بد من جريانها – على لسان الرجل منها على لسان المرأة .
غير إن فحش القول عند مهجة القرطبية لم يكن قاصرا على الهجاء بل كان يجري على لسانها سليقة وطبيعة ، وكانت في فحشها تستعمل الألفاظ البذيئة وأسماء عورات الرجال ، فقد أهدى إليها واحد من أصدقائها هدية من الخوخ ، فتوقعنا إن نسمع منها تعليقا عذبا ووصفا رقيقا لتلك الفاكهة اللذيذة الطعم الباهرة اللون الجملية المنظر ، فضلا عن كلمة شكر وتحية مودة لصاحب الهدية ، وبالفعل صح ما توقعنا في أول أبياتها فقد قالت :
يا متحفا بالخوخ أحبابه أهلا به من مثلج للصدور
فتشجعنا لرقة البيت ، وما كدنا ننتقل إلى البيت الثاني حتى لطم حياءنا وجرح مشاعرنا لفحش ألفاظه ووقاحة تشبيهه وبذاءة معانية .
ومهما يكن من أمر فقد أنجبت قرطبة في القرن الخامس ، شانها شان بقية عواصم الأندلس في عصر ملوك الطوائف شاعرتين عظم المؤرخون في شأن كل واحدة منهما ، وبخاصة ولادة ، وان بخلوا علينا بالنصوص الكافية التي تساعد على إصدار إحكام على فنونهن بحيث تكون اقرب إلى العدل وأدنى إلى النصفة .

الباب الخامس
شعراء الأندلس
أبرز أعلام الأدب الأندلسي
إذا كان الأدب الأندلسي فم يعدُ أن يكون امتداداً لأدب المشارقة فإنه قد برز فيه مجموعة من الشعراء والأدباء تركوا أثراً بارزاً في الحياة الثقافية الأندلسية والعربية وبقيت أسماؤهم أعلاماً متميزة كابن هانئ وابن شهيد وابن خفاجة والمعتمد بن عباد ولسان الدين الخطيب.
آ- ابن هانئ:
علمٌ من أعلاف الأدب الأندلسي، ولد في اشبيلية عام (326هـ) وتوفي في مخموراً مقتولاً في المغرب العربي عام (362هـ) ولم يتجاوز السادسة والثلاثين.
كان ميالاً إلى اللهو والمجون والزندقة والتمذهب بمذهب الفلاسفة، التقى بحاكم اشبيلية فأكرمه، ولكن أهلها سخطوا عليه فأشار عليه أميرها بالنزوح لينسى خبره فهاجر إلى المغرب واتصل بجوهر الصقلي قائد المنصور الفاطمي وقرّبه المعز بن المنصور وطلب منه جوهر أن يلتحق بمصر، فوجد مقتولاً في اليوم التالي.
ويعد من شعراء الطبقة الأولى، ترسم خطا المتنبي وأكثر من وصف الجيوش والمعارك واعتمد على تغليب اللفظ على المعنى مشبهه المعري(برحىً تطحن القرون) ألفاظه فيها قعقعة، تكلّف الصنعة البديعية والتوشية في شعره واستعمل الجناس، ولم يصور البيئة الأندلسية بل لجأ إلى تقليد شعراء الجزيرة من ذلك قوله:
أما والجواري المنشآت التي سرت لقد ظهرتها عدّةٌ وعديد
قبابٌ كما تزجى القباب على المها ولكنّ من ضمّت عليه اسود
ومن ذلك قوله في المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدارُ فاحكم فأنت الواحد القهار
فكأنّما أنت النبي محمد وكأنّما أنصارك الأنصار
ومن رثائه قوله:
إنا وفي آمال أنفسنا طولٌ وفي أعمارنا قصرُ
لنرى بأعيننا مصارعنا لو كانت الألبابُ تعتبرُ

ب- ابن شهيد الولادة (382هـ):
ولد أحمد بن أبي مروان بن شهيد في أسرة شريفة في مدينة قرطبة، وقد كان كاتباً وشاعراً،طريف المعشر، يهوى النكتة والدعابة، ويحب مجالس الأنس قرّبه إليه حاكم قرطبة المؤتمن، كتب في المدح والوصف والغزل، له باع طويل في النثر فقد كتب رسائل عدة في الحلواء ورسالة في وصف البرد والنار وأهم رسائله (التوابع والزوابع) كتبتها على غرار رسالة الغفران للمعري وقد امتاز شعره ونثره ببراعة الأسلوب وسعة الاطلاع والميل إلى القصص والفكاهة و شاكل في شعره الجاحظ وابن المقفع، واتسم نثره بالسجع توفي عام (426هـ).
ج- المعتمد بن عباد:
أشهر ملوك الطوائف، والده المعتضد بالله ولد عام (431هـ) وتولى ملك اشبيلية عام(461هـ)استوزر ابن عماد الشاعر وأكرم الأدباء والعلماء وبلغ مكله إلى مرسية.
استنجد بيوسف بن تاشفين بعد أن هدده ألفونس السادس فدخل ابن عاشفين الأندلس وطرد القشتاليين وضم الأندلس إلى ملكه، وسجن المعتمد في سجن (أغمات) قرب مراكش.
توفي المعتمد في السجن عام (488هـ).
اتخذ الشعر أداة للتعبير عن مشاعره، فوصف الطبيعة والخمر والملاهي، وكتب في الغزل، وأحبّ المعتمد (اعتماد الرميكية) وتزوجها وعاش أيامه الأخيرة شجيناً في أغمات كما عاش أبو فراس سجيناً في (خرشنة).
كانت أشفاره زافرات متقطعة من ذلك قوله:
غريبٌ بأرض المغربين أسير سيبكي عليه منبر وسرير
مضى زمنٌ والملك مستأنس به وأصبح منه اليوم وهو نفوز

د- ابن خفاجة:
ولد ابراهيم في جزيرة (شُقر) البلنسية عام 454هـ.
وعاش في أيام ملوك الطوائف يمكن على اللهو وكتب شعراً ونثراً في المدح والرثاء والشكوى والوصف وأولع بجمال الطبيعة الأندلسية وقد شخّص هذه الطبيعة فأحالها إلى نفوس ذات إحساس تنطق وتشكو. من ذلك قولي في وصف الجبل:
وأرعن طماح الذوابة باذخ يطاول أعنان السماء بغارب
وقورٌ على ظهر الفلاة كأنّه طوال الليالي مفكر في العواقب
أسخط إليه وهو أخرس صامتٌ ليل السرى العجائب
وقد قلّد ابن خفاجة في نثره ابن العميد وبديع الزمان الهمذاني والتزم السجع والمحسنات اللفظية:

هـ- لسان الدين الخطيب:
ولد محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني في غرناطة (713هـ) وأكبّ على العلم وصاحب العلماء والأدباء فدرس اللغة والأدب والفلسفة والطب وعمل وزيراً لأبي الحجاج يوسف ملك غرناطة ثم لابنه.
اتهمه حسّاده بالزندقة، وقتل في سجن فاس ومن مؤلفاته (الاحاطة في تاريخ غرناطة) وفي (الحلل المرموقة) وكتاب الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام، (اللمحة البدرية في الدولة النصرية) وكتاب (ريحانة الكتاب وبخعة المنتاب). وقد كتب في التصوف والموسيقا والطب وشغف بأسلوب المجاز والبديع ومال الزخرف في كلامه له ديوان إن شعر يحتوي موشحات منها:
جادك الغيث إذا الغيث هما يا زمان الوصل في الأندلس
لم يكن وصلم إلا حلماً في الكرى أو خلسة المختلس






ابن زيدون (394هـ- 463هـ)
آ- معالم شخصيته:
ولد ابن زيدون في قرطبة لوالد هو أحمد وجوه الفقهاء، فتثقف ثقافة جعلت ملكته الشعرية تستحكم .وهو في العشرين.
انحاز إلى ابن جهور في الفتنة التي دارت ضد الأمويين وأصبح وزيراً في قرطبة، ثم يقي سفيراً بينه وبين ملوك الأمويين حتى وفاته.
تردد في مقتبل شبابه على منتدى ولادة بنت المستكفي فأعجب بها وأعجبت به، وجرت بينه وبين ابن عبدوس منافسات حول ولادة فكاد له ابن عبدوس عند ابن جهور فاتهم بالخيانة وتدبير المؤامرات ونزع السلطة عنه وسجن ابن زيدون ثم فرّ من السجن، وبقي متوارياً إلى أن توفي ابن جهور، وخلفه ابنه الوليد فاستوزره ولكنه خشي انقلابه عيه فتركه وطاف في الجزيرة الأندلسية ، فاستوزره المعتضد بن عباد، ثم ابنه المعتمد، وتوفي في فتنة ثورة اشبيلية على اليهود، بعد أن مرض أثناء سفارية لإخماد هذه الثورة ودفن في اشبيلية.
ب- الأغراض الشعرية:
كتب ابن زيدون معظم شعره في المديح والرثاء والغزل والشكوى
1ً- الغزل:
كتب معظم شعره الغزلي ولادة بنت المستكفي ذلك أنه أحبها وتعلق بها تعلقاً شديداً، وأمضى أيامه مسترضياً إياها وهي التي كانت تقول:
أنا والله أصلحُ للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيهاً
وقد تلّون غزله بها بألوان الإشراق حيناً و البهجة والسرور حيناً آخر والحزن واليأس تارة ثالثة وأكثر ما أّر في نفسه القطيعة . المرة عنها والتي أورثته حزناً

بليغاً، فكان يظهر الحزن في قصائده التي يرسلها لها:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
يا ساري البرق غاد القصر واسق به من كان صرف الهوى والودِّ يسقينا
ويا نسيم الصَّبا بلّغ تحيتنا من لو على البعد حيّاً كان يحيينا
فهي المنبع لغزل ابن زيدون، فمعظم ما قاله الشاعر في هذه الدائرة، ولم يعهد من الشاعر أنه كتب غزلاًَ في غيرها .
2ً- الوصف:
فياأتي هذا الغرض عند ابن زيدون من خلال حديثه عن ولادة إذ نجد الشاعر يصور لنا صداقته مع الطبيعة، وصداقة الطبيعة له وابتهاجها لحبه أحياناً، وحزنها على فراقه لولادة أحياناً أخرى, والطبيعة الأندلسية مواتية لذلك فهي تملك عناصر الرقة والجمال والافتتان. يقول ابن زيدون متغنياً بأيام الحبّ التي قضاها مع ولادة في حدائق الزهراء الساحرة:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلالٌ في أصائله كأنّه رقّ لي فاعتلَّ إشفاقا
نلهو بما يستحيل العين من زهر جال الندى فيه حتى مال أعناقا
وردٌ تألق في ضاحي منابته فازداد منه الصخر في العين إشراقا
3ً- المديح:
وقد كتب ابن زيدون المديح كغيره من شعراء الأندلس استعطافاً وإبرازاً لعظمة ملوك الأندلس، ومن ذلك مديحه لابن بهور عندما كان سجيناً لديه:
إن طال في السجن إيداعي فلا عجبٌ قد يودع الجفن حدُّ الصارم الذّكر
وإن يثبِّط أبا أتحزم الرِّضا قدر عن كشف ضري فلا عتب على القدر
من لم أزل تأنّيه على ثقة ولم أبت من تجنبه على حذر
وزير سلم كفاه يمن طائرة شؤم الحروب وأريٌ محصد المرر
4ً- الشكوى:
هو عرض كتب فيه ابن زيدون متذمراً مما حلَّ به بالسجن واقصائه عن الوزارة وتحول قلوب الملوك عنه، وقدكان الشعر متنفساً له.
من ذلك سيتيه العروفه
ما على ظني بأس يجرم الدهر ويأسو
ج- نظرة عامة في شعر ابن زيدون:
ظهر ابن زيدون كشاعرٍ من أهم شعراء الأندلس، ولقب بـ (بحتري المغرب) ساعده على ذلك نشأته في بيت علم إذ اعتنى والده بتربيته اعتناءً كبيراً، فكانت شخصية ابن زيدون السياسية والفكرية والأدبية متألقة.
استمد شاعرنا أفكاره من موردين أساسيين.
الأول: اطلاعه على الثقافة المعاصرة له.
الثاني: التجارب المستمدة من أحداث عصره.
وقد تلونت أفكار الشاعر بألوان شخصيته فجاء شعره متصفاً بالصفات التالية:
1- عذوبة الأسلوب 2- حلاوة التعبير
3- حلاوة الموسيقا 4- رشاقة الصورة
5- التنسيق في فنون البديع (الترصيع – المقابلة)
6- ترتيب الألفاظ وتنسيق الجمل في بوح واحدة.



الباب السادس
الموشحات الأندلسية
الباب السادس
الفصل الأول
نشأة الموشحات
اختلف الدارسون في فن الموشحات، فاعتبره البعض رديفاً الترابتور، وعزاه البعض الآخر إلى أصول عربية تنطلق من النشيد الذي استقبل به أهل المدينة المنورة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في ثنية الوداع ونسبة البعض الآخر لابن المعتز العباسي.
آ- معنى الموشح:
لغة: الوشاح: الثوب أو القلادة التي تتشح به الفتاة ويكون مرصعاً بالجواهر ويشد من بين العاتق والخصر .
اصطلاحاً: كلام منظوم على أوزان مخصوصة مخالفة لبحور الخليل، وقد جمع ابن سناء الملك في كتابه (دار الطراز) حوالي مئة وثمانين وزناً.
نشوء الموشحات:
ب- نشوء الموشحات:
نظراً لوجود الطبيعة الجميلة وانتشار اللهو والغناء فقد نشأ على ألسنة العامة لون جديد من الشعر الغريب المنوع القوافي والقريب من الزجل، وقد بقي هذا الفن مسموماً لا مكتوباً حتى جاء الدارسون فأطروه في الكتب وقد اختلف الأقدمون في نسبة هذا اللون من الشعر إلى محمد بن محمود القبري الضرير، ومقدم بن معافى، ولم يذكر لهذين الرجلين شأن حتى جاء عبادة بن ماء السماء فجعل الموشحة فناً قائماً بداية له أسسه وتقاليده.
ج- البنية الفنية للموشحات:
اعتمد الموشح على مجموعة أوزان وأقفال وأغصان وأدوار وخرجه، وأوزان الموشحات إمّا على أوزان العرب و إمّا على أوزان جديدة واعتبر الدارسون أن الموشحات التي ليست على أوزان العرب هي الأفضل مثال على ذلك .
صبرت والصبر شحية العاني ........ ولم أقل للمطيل حجراني
ررررر معدّ بي كفاني .
ومما جاء على أوزان العرب قول ابن سناء الملك:
كلِّلي
يا سحب يتجان الرُّبا
بالحلي
واجعلي
سوارها منعطف
الجدول
د- أقسام الموشحات :
ويمكن تقسيم الموشحات إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: الموشح الموزون على طريقة الشعر التقليدي.
القسم الثاني: الموشح الخارج عن الوزن الخليلي بكلمة أو حركة.
القسم الثالث: الموشح المشترك في اكثر من وزن
القسم الرابع: وزن على عبر الأوزان الخليلية.
القسم الخامس: ما ليس له وزن ويدرك وزنه بالتلحين .
أما القفل فهو اللازمة التي تتكرر في المقطع ، وأما الفطين فهو الوحدة الثانية في الموشح وتتكرر عدة مرات وأما الدور فيأتي متألفاً من القفل والعضن، وأما الخرجة فهي القسم الأخير في الموشح.

الباب السادس
الفصل الثاني
أغراض الموشحات وقيمتها:
استوعب فن الموشحات قسماً من أغراض الشعر العربي كالغزل والرثاء والفخر والمجون والزهد والوصف والخمرة وتأتي قيمة هذه الموشحات من كونها ثورة على الشعر العربي تبحث عن التجديد في النقاط التالية:
التحرر من رتابة الأوزان إلى تنويعها.
استعمال اللغة العذبة والعبارات الغنائية.
الاحتفاء بالزخارف والهندسة البيانية والبديعية .
التجديد في الشكل والمضمون

الباب السادس
الفصل الثالث
الموشحات والشعر
يقسم الشعر العربي من حيث القافية إلى أجناس (قصيد ورجز ومسمط), وكلها قديمة ,
1-فالقصيدة : أبيات متوالية ومختومة بمجموعات متماثلة من الأحرف تدعى قافية وتكون هذه المجموعات كلها مبنية على حرف واحد مخصوص يسمى ( رويا ً )
2-أما الرجز فهو بحر من بحور الشعر تنظم عليه الأراجيز , والأرجوزة أشطر وتر ( مفردة ) مبنية كلها على حرف روي واحد , تجيء الأشطر شفعا ً ( مزدوجة) ويكون لكل شطرين ( الصدر والعجز ) في كل بيت من أبياتها قافية على روي واحد
3-أما المسمط : فيقوم على اختلاف القوافي والأوزان معا ً، فالتسميط هو تنوع القوافي والأوزان في المقطوعة الشعرية الواحدة . وهو أن يبتدئ الشاعر ببيت مصوغ ثم يأتي بأربعة أقسمة على غير قافيته , ثم يعيد قسما ً واحدا ً من جنس ما ابتدأ به مثل قول امرؤ القيس :
توهمت من هند معالم أطلال عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي
مرابع من هند خلت ومصائف يصيح بمغناها صدى وعوازف
وغيرها هوج الرياح العواصف وكل مسف ثم آخر رداف
بأسحم من نوء السماكين هطال

4-أما الموشح قطعة شعرية طويلة في الأغلب تتألف من مقاطع تترتب فيها الاشطر والقوافي على نسق مخصوص . فإذا اختار الوشاح نسقا ما في المقطع الأول من موشحته , وجب عليه أن يلتزم ذلك النسق بعينه في سائر مقاطع تلك الموشحة .
الموشحات تطور جديد في تاريخ الشعر العربي منذ الجاهلية وحتى انطلاقة الثورة الشعرية الثانية في الخمسينات من القرن العشرين أي – حركة شعر التفعيلة – ونجد بينهما إرهاصات ثورية فردية , لكن هذه الإرهاصات التي سبقت الموشحات أو سبقت حركة الشعر الحر لم تتجاوز الإطار الفردي لظواهر جنينية , يمكن تأطيرها في مجال المقدمات .
لقد نشأت الموشحات في القرن التاسع الميلادي في أسبانيا , نتاجا لتفاعل الثقافة العربية مع البيئة الأندلسية والثقافة الاسبانية المحلية , وقد نشأت الموشحات عن هذا التفاعل فجاءت مختلفة عن الشعر العربي القديم , رغم أنها لم تنقطع تماما عنه . لقد ولدت الموشحات أيضا من تفاعل عدة لغات ولهجات منها : (العربية الفصحى- والعامية العربية الأندلسية- ولغة الرومانثي ) الأسبانية المتفرعة عن اللاتينية والعامية الرومانثية . حيث تتفاعل أربعة مستويات لغوية لتنتج الموشحات ، وبما أن اللغة العربية كانت هي اللغة الرسمية في أسبانيا , فقد كان الموشح مطبوعا ً بطابعها , مما جعل التأثيرات اللغوية الأخرى ثانوية , ثم حين ترسخت العامية العربية الأندلسية الجديدة نشأت عن الموشحات وتفرعت منها قصائد الزجل العامية , وقد تولدت مجموعة من الإشكاليات نتجت عن ظهور – الموشحات . ويقال إن مخترع الموشحات الأول هو – مقدم بن معافي القبري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني ويقول – سيد غازي أن عدد الموشحات المحفوظة يصل إلى 447موشحة لسبعين وشاحا , ولكن المؤكد أنها أكثر من ذلك . ومن شعراء الموشحات : (أبو بكر بن ماء السماء – أبو عبادة القزاز – الأعمى التطيلي – ابن بقي – ابن اللبانة – لسان الدين بن الخطيب – ابن زمرك – ابن سهل الاشبيلي – ابن زهر – والفيلسوف ابن باجة – الخ ). ونبدأ أولا باستعراض ثلاثة آراء رئيسة حول الموشحات لنتعرف على الإشكاليات الشعرية تدريجيا )
أولا ً : ابن سناء الملك :
بدأ ابن سناء الملك – كتابه (( دار الطراز في عمل الموشحات )) بتقديم تعريف لحد الموشح هو : (( الموشح كلام منظوم على وزن مخصوص )) , (( وهو يتألف في الأكثر من ستة أقفال ويقال له التام , وفي الأقل خمسة أقفال وخمسة أبيات ويقال له الأقرع , فالتام ما ابتدئ فيه بالأقفال . والأقرع ما ابتدئ فيه بالأبيات )) . هذا هو التعريف الأول للموشح مع ذكر تركيبه الهيكلي ’ ثم ينتقل ابن سناء الملك إلى شرح أجزاء الموشح فيقول : (( والأبيات هي أجزاء مؤلفة مفردة أو مركبة يلزم في كل بيت منها أن يكون متفقا مع بقية أبيات الموشح في وزنها وعدد أجزائها لا في قوافيها , بل يحسن أن تكون قوافي كل بيت منها مخالفة لقوافي البيت الآخر والقفل يتردد في الموشح ست مرات في التام , وخمس مرات في الأقرع , ,أقل ما يتركب القفل من جزأين فصاعدا إلى ثمانية أجزاء وقد يوجد في النادر ما قفله تسعة أجزاء وعشرة أجزاء . والبيت لا بد أن يتردد في التام وفي الأقرع خمس مرات واقل ما يكون البيت ثلاثة أجزاء , وقد يكون في النادر من جزأين وقد يكون من ثلاثة أجزاء ونصف وهذا لا يكون إلا فيما أجزاؤه مركبة وأكثر ما يكون خمسة أجزاء , والجزء من القفل لا يكون إلا مفردا ً , والجزء من البيت قد يكون مفردا ً , وقد يكون مركبا ً من القفل يتركب إلا من فقرتين أو من ثلاث فقر , وقد يتركب في الأقل من أربع فقر )) وفيما يلي بعض الملاحظات التفريعية لابن سناء الملك أيضا :
1- يضع ابن سناء الملك الموشح الأندلسي والأندلس والمغاربة كمصدر وكنموذج فهناك بنية متصورة للموشح لديه هي الصورة – الأصل الأندلسي وروايات المغاربة لتحولاته , مثلا ً حين يتحدث عن الموشح الذي قفله تسعة أو عشرة أجزاء يقول : (( لم أجد للمغاربة منه ما أثق بنسبه فلهذا لم أذكر مثالا ً .)) أو كقوله:(( وموشحات أوصلت أقفالها إلى أحد عشر قفلا , وما رأيت أحدا منهم جمع لهذه العدة شملا ً وكيف ما كان , فموشحاتي تكون لتلك الموشحات كظلها وخيالها )) . إلى أن يصل إلى الحسم بقوله : (( واعذر أخاك إنه لم يولد بالأندلس ولا نشأ بالمغرب )) .
2- حين يتحدث عن المركب من سبعة أجزاء )) أو ما يطلق عليه (( العروس )) يقول : هو موشح ملحون واللحن لا يجوز استعماله في شيء من ألفاظ الموشح إلا في الخرجة )) إذن هو ضد الموشح العامي ( الزجل ) لأن النموذج السائد للموشح أن تكون خرجته فقط عامية .
3- يندر في بعض الموشحات الشاذة التي لا يعول عليها أن تكون أقفالها مختلفة أعداد الأجزاء .
4- يندرفي بعض الموشحات ما يكون بيته جزأين مركبين من فقرتين .
5- الخرجة : عبارة عن القفل الأخير من الموشح والشرط فيها أن تكون حجامية من قبل السخف , قزمانية من قبل اللحن , حارة محرقة , حادة منضجة , من ألفاظ العامة ولغات الداصة :
أ – إذا كانت الخرجة معربة الألفاظ منسوجة على منوال ما تقدمها من الأبيات والأقفال خرج الموشح من أن يكون موشحا ً , اللهم إلا أن كان موشح مدح وذكر الممدوح في الخرجة فإنه يحسن أن تكون الخرجة ( معربة . ) .
ب- قد تكون الخرجة معربة وإن لم يكن فيها اسم الممدوح ولكن بشرط أن تكون ألفاظها غزلة جدا ً , هزازة , سحارة , خلابة , بينها وبين الصبابة قرابة ( وهذا نادر قليل ) .
ج – المشروع بل المفروض في الخرجة أن يجعل الخروج إليها وثبا ً واستطرادا وقولا مستعارا على بعض الألسنة : أما السنة الناطق أو الصامت أو على الأغراض المختلفة الأجناس، وأكثر ما تجعل على السنة الصبيان والنسوان والسكرى والسكران ولا بد في البيت الذي قبل الخرجة من : قال أو قلت أو غنى أو غنيت أو غنت .
د – قد تكون الخرجة عجمية اللفظ بشرط أن يكون لفظها أيضا ً في العجمي سفسافا نفطيا ورماديا ً زطيا ً .
هـ - الخرجة من إبراز الموشح وملحه وسكره ومسكه وعنبره , وهي العاقبة وينبغي أن تكون حميدة والخاتمة بل السابقة وإن كانت الأخيرة , وقولي السابقة لأنها التي ينبغي أن يسبق الخاطر إليها , ويعملها من ينظم الموشح في الأول , وقبل أن يتقيد بوزن أو قافية , وحين يكون مسيبا مسرحا ومتبحبحا منفسحا , فكيف ما جاءه اللفظ والوزن خفيفا على القلب وعامله وعمله وبنى عليه الموشح لأنه قد وجد الأساس وامسك الذنب ونصب عليه الرأس .
و- في المتأخرين من يعجز عن الخرجة فيستعير خرجة غيره وهو أصوب رأيا ممن لا يوفق في خرجته بأن يعربها ويتعاقل ولا يلحن بتخافف بل يتثاقل .
6- طرق لتقسيم الموشحات :تنقم الموشحات إلى قسمين : الأول : ما جاء على أوزان أشعار العرب , والثاني ما لا وزن له فيها , والذي على أوزان الأشعار ينقسم إلى قسمين : احدهما : ما لا يتخلل أقفاله وأبياته كلمة تخرج به تلك الفقرة التي جاءت فيها تلك الكلمة عن الوزن الشعري وما كان من الموشحات على هذا النسيج فهو المرذول وهو بالمخمسات أشبه منه بالموشحات ولا يفعله إلا الضعفاء من الشعراء , اللهم إلا أن كانت قوافي قفله مختلفة فانه يخرج باختلاف قوافي الأقفال من المخمسات . وفي شجعان الوشاحين من يأخذ بيت شعر مشهورا ً فيجعله خرجة ويبني موشحه عليه . وفي الوشاحين من أهل الشطارة والدعارة من يأخذ بيتا من أبيات المحدثين فيجعله بألفاظه في بيت من أبيات موشحة . والقسم الآخر : ما تخللت أقفاله وأبياته كلمة أو حركة ملتزمة كسرة كانت أو ضمة أو فتحة , تخرجه عن أن يكو ن شعرا ً صرفا ً وقريضا ً محضا ً . ومثال الحركة هو أن تجعل على قافية في وزن ويتكلف شاعرها أن يعد تلك الحركة بعينها وبقافيتها . والقسم الثاني : من الموشحات هو ما لا مدخل لشيء منه في شيء من أوزان العرب , وهذا القسم منها هو الكثير . وكنت أردت أن أقيم لها عروضا يكون دفترا لحسابها عن ذلك وأعوز , لخروجها عن الحصر وانفلاتها من ذلك . وما لها من عروض إلا التلحين ولا أسباب إلا الأوتار . فبهذا العروض يعرف الموزون من المكسور . وأكثرها مبني على تأليف الأرغن والغناء بها على غير الأرغن وعلى سواه مجاز .
7- والموشحات تنقسم إلى قسمين : قسم أقفاله وزن أبياته حتى كأن أجزاء الأبيات من أجزاء الأقفال . وقسم : أقفاله مخالفة لأوزان أبياته . وهذا القسم لايجسر على عمله إلا الراسخون في العلم من أهل هذه الصناعة . فإما من كان طفيليا تظهر فضيحته فيه وقت غنائه . والمعنى يحتاج إلى أن يغير شد الأوتار عند خروجه من القفل إلى البيت وعند خروجه من البيت إلى القفل .
8- والموشحات تنقسم من جهة أخرى إلى قسمين : قسم لأبياته وزن يدركه السمع ويعرفه الذوق وقسم مضطرب الوزن , مهلهل النسج , مفكك النظم وهذا لا يعلم صالحه من فاسده إلا بميزان التلحين , فيجبر التلحين كسره .
9- والموشحات تنقسم من جهة أخرى ( رابعة ) إلى قسمين : قسم يستقل التلحين به ولا يفتقر إلى ما يعينه عليه وهو أكثرها , وقسم لا يحتمله التلحين ولا يمشي به إلا بأن يتوكأ على لفظة لا معنى لها تكون دعامة للتلحين وعكازا ً للمغني . فإن التلحين لا يستقيم إلا بأن يقول (( لا لا ) بين الجزأين الجيميين من هذا القفل .
10- ومما سنه القول في أكثر الموشحات المدحية أن يختم الموشح بالغزل ويخرج من المدح إليه وبالعكس وهذا هو الأكثر والموشحات يعمل فيها ما يعمل في أنواع الشعر من الغزل والمدح والرثاء والهجو والمجون والزهد ( المكفر ) .
هذا إذن ملخص مونتاجي لأهم ما ورد في كتاب ابن سناء الملك .
ثانيا ً : صلاح الدين الصفدي :
يقرر صلاح الدين خليل بن أيبك الصفديفي كتابه توشيع التوشيح :أن الموشح (( فن تفرد به أهل المغرب وامتازوا به على أهل المشرق )) والموشح هو (( كلام منظوم على قدر مخصوص , بقواف مختلفة )) كما يقول . ويرى أن نشأة الموشح مختلف عليها (( قيل : إنه أول من نظم الموشحات بالمغرب الأمام أحمد بن عبد ربه صاحب العقد الفريد . وقال ابن بسام في الذخيرة : أول من صنع أوزان هذه الموشحات واخترع طريقها محمد بن محمود القبري الضرير,وقيل : ابن عبد ربه , ثم نشأ يوسف بن هارون الرمادي . وقال الصفدي : إن أبا الحسن علي بن سعد الخير قال : (( ووجدنا بعض المتأخرين كمهيار الديلمي وأبي محمد القاسم الحريري قد استنبطوا من تلك الأعاريض أقساما مؤلفة على قدر مختلفة وقواف مؤتلفة وسموها : الملاعب )) واستنبط منها أيضا أهل الأندلس ضربا قسموه على أوزان مؤتلفة والحان مختلفة وسموه وجعلوا ترصيع الكلام وتنميق الأقسام توشيحا , وكانوا أول من سن هذه الطريق )) ثم ينقل الصفدي أقسام الموشح عن ابن سناء الملك .
ويورد أمثلة على الأقسام بعضها من ابن سناء الملك والبعض الآخر من الصفدي نفسه . ( خذ مثلا ً : المركب من سبعة أجزاء ) حيث يرفض ابن سناء الملك إيراد مثال له لأنه ملحون (( ولهذا لم نورد مثاله )) !! أما الصفدي فهو يورد مثالا فصيحا ً . أما عما يتحدث الصفدي عن الخرجة فهو يورد أقوال ابن سناء الملك وشروطه ثم يتعلق عليها بما يلي : (( هذه الشروط التي شرطها في الخرجة قل من يلتزمها لتعذرها عليه , فهو أما أن يتركها وإما أن يأتي بها خارجة عن هذه الشروط وقد رأيت : السراج المحار وأحمد بن حسن الموصلي , والشيخ صدر الدين بن الوكيل والشهاب العزازي , وابن دانيال , وغيرهم من المعاصرين والمتأخرين قبلهم , لم يأت أحد منهم بخرجة , وإن أتى بها كانت غير داخلة )) ويضيف الصفدي : (( ستقف في هذه الموشحات التي أوردها من كلامي ( في كتابه ) , وفي بعضها خرجات أن أنت أنصفتها عرفت أين تقع من شروط ابن سناء الملك . وأنا فقد ارتكبت فيها مزلتين , وسلكت فيها زلفين , لأنني – غالبا ما نظمته على وزن من تقدمني , واتيت فيه بخرجة غير خرجته , وهذا فهو من أصعب ما يكون , لان الوشاحين يحصلون الخرجة أولا ثم أنهم ينظمون الموشح على وزنها وقافيتها . وأنا احتاج إلى أن التزم بذلك الوزن الذي تقدمني وبقوافيه , وأجيء مع ذلك بالخرجة الداخلة , وهذان أمران مشقان )) .
ثم يقدم الصفدي قائمة بأسماء شعراء الموشحات (( ممن سبق إلى التوشيح , وسبق إلى الغاية من أهل المغرب )) وهم :
أ- شعراء الأندلس :
1- عبادة بن ماء السماء -2- أبو بكر بن عبادة القزاز -3- عبادة بن محمد بن عبادة الأقرع -4- أبو العباس التطيلي -5- أبو بكر بن بقي -6- أبو بكر الأبيض الشاعر -7- ابن عبد ربه ( صاحب العقد ) -8- أبو بكر بن اللبانة -9- أبو عبد الله محمد بن رافع رأسه -10- علي بن عبد الغني الحصري – 11- محمد بن الحسن البطليوسي الكميت -12- أبو عبد الله محمد بن شرف-13- أبو القاسم منيشي -14-أبو بكر يحيى بن الصيرفي -15- يونس بن أبي عيسى المرسي الشاعر الخباز -16- أبو بكر السرقسطي الجزار -17- ابن الفرس -18- أبو عيسى بن لبون -19- أبو بكر بن رحيم -20- أبو عامر بن ينق -21- أبو بكر محمد بن زهر الحفيد -22- احمد بن مالك السرقسطي -23- ابن حمديس -24- أبو بكر بن ملوك قرطبة -25- ابن جاخ الصباغ – علي بن الحسن بن معبد القرشي المعروف بتلل الغد – 27- ابن هاني الأصغر -28- ذو الوزارتين أبو عمار -29- ابن أبي الرحال -30- ابن الزقاق -31- أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن المرحل -32- إبراهيم بن سهل الإسرائيلي .
ب- شعراء مصر : هبة الله بن سناء الملك – نصر الله بن سلاقس الاسكندري – الأسعد بن المماتي – ابن وزير – ابن منجم – السراج الوراق – ابن سعيد بن المغربي – النصير الحمامي – مظفر الأعمى – الشهاب احمد بن عبد الملك العزازي .
ج- شعراء الشام : السراج عمر بن مسعود الكناني الحلبي – صدر الدين بن محمد الوكيل – احمد بن حسن الموصلي .
ثالثا ً: ابن خلدون :
تعرضابن خلدونفي مقدمتة للموشحات والأزجال فكتب فصلا حول النقاط التالية :
أ- يقول ابن خلدون (( وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية , استحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه بالموشح : ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا يكثرون منها ومن اعاريضها المختلفة , ويسمون المتعدد منها بيتا واحدا , ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة , وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات . ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب .
ب_ نشأة الموشح : يقول : كان المخترع للموشحات هو مقدم بن معافر القبريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني واخذ ذلك عنه أبو عبد الله احمد بن عبد ربه , صاحب العقد الفريد ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر , وكسدت موشحاتهما , فكان أول من برع في هذا الشأن – عبادة القزاز .
ج- يقول (( أما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات . ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقا وغربا (( كللي يا سحب تيجان الربى )) وكان لعامة بغداد أيضا من الشعر يسمونه ( المواليا )) وتحته فنون كثيرة منها القوما – كان وكان – دوبيت , وتبحروا في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية فجاءوا بالائب . ورأيت الصفي الحلي من كلامه أن المواليا (( من بحر البسيط وهو ذو أربعة أغصان وأربع قواف ويسمى صوتا ً . وانه من مخترعات أهل واسط وان كان وكان – فهو قافية وحدة وأوزان مختلفة في أشطاره : الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة وانه من مخترعات البغداديين .
د- لما شاع فن التوشيح بين أهل الأندلس وأخذ به الجمهور , لسلاسته وتنميقه وترصيع أجزائه , نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحصرية من غير أن يلتزموا بها إعرابا ً . واستحدثوا فنا سموه بالزجل . وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية – أبو بكر بن قزمان , وإن كانت قيلت قبله بالأندلس وهو إمام الزجالين على الإطلاق .
وقد قسم الدارسون الموشح إلى :
1- المطلع والمذهب : مطلع الموشح ويسمى مذهبه : هو المجموعة الأولى من الاقسمة واقلها اثنان . ولا يشترط أن يكون لكل موشح مطلع فإن وجد سمي الموشح تاما ً وإلا فهو اقرع .
2- القفل : تتردد قوافي المطلع بنفس العدد والنظام في الموشح بطريقة معينة وتسمى حينئذ بالأقفال , وليس لها عدد محدود , لكن ابن سناء الملك لاحظ أن اغلب الموشحات لها خمسة أقفال .
3- الخرجة : هي آخر قفل في الموشح ومع أن المطلع ليس ركنا ً أساسيا ً في الموشح إلا أن الأقفال والخرجة في غاية الأهمية وبدونها لا يستوفي الموشح اشراطه ويجوز للوشاح أن يجعل خرجته باللفظ العجمي . ولما كانت الخرجة في أغلب الأحوال قولا يورده الوشاح في صورة الحديث المباشر , فإن الدور الذي يسبق الخرجة يتضمن اللفظ (( قلت وقالت . . أو غنى وشدا )) , وهو تقليد لم ينفرد به الوشاحون لأنه موجود في الشعر العربي القديم السابق للموشحات .
4- الدور : يعقب المطلع في الموشح التام أقسمة تختلف عن قوافي المطلع والقفلة والخرجة والحد الأدنى لهذه الاقسمة ثلاثة وقد تكون أربعة وخمسة ولا تتجاوز ذلك إلا نادرا ً , ولكن ليس في شروط الوشحة ما تمنع وصولها لأي عدد , وبعد كل – دور – يأتي قفل ويختتم الموشح بالخرجة .
5- البيت : يختلف البيت في الموشح عنه في القصيدة والأرجوزة والمسمطة , في القصيدة هو – مصراعان وفي الأرجوزة قسيم واحد وفي المزدوجة قسيمان وفي المسمطة هو عدد من القوافي الفرعية مع واحدة من القوافي التي تسمى عمود القصيدة . أما في الموشح فالبيت هو الدور مع القفل الذي يليه .
6- الغصن : هو القسم الواحد من المطلع أو القفلة أو الخرجة واقل عدد الأغصان المطلع اثنان من نفس القافية .
7- السمط : يكون السمط مفردا وقد يكون مركبا من فقرتين فأكثر . وتكون قوافي الاسماط متماثلة . والبيت يشتمل على أسماط وأغصان .
و (( للموشح طريقة خاصة في التقفية هي التي تميزه عن غيره من ألوان النظم العربي )) , وزعم بعض النقاد: أن الموشح مرحلة انتقالية في طريقة النظم العربي من حيث التقفية . والمعروف أن الرجز هو أقدم ألوان النظم العربي بعد أن كانت القوافي في أول الأمر صوتية . وقد كان هذا اللون من النظم خاصا في أول الأمر ببحر الرجز ثم انتقل إلى غيره من بحور الشعر كالمتقارب والهزج والسريع . وأقدم ما نجده من الأراجيز الأندلسية أرجوزة لعبد الرحمن الداخل , ثم دخلت التقفية في مرحلة جديدة هي التي نراها في القصيدة وهي إرسال الاقسمة الفردية ( ما عدا الأول أي صدر مطلع القصيدة ) وجعل الأقسمة الزوجية من نفس القافية وشملت هذه الطريقة كل بحور الشعر حتى بحر الرجز وقد تلت هذه الخطوة , خطوة أخرى بظهور الأرجوزة المزدوجة التي لكل قسمين منها قافية خاصة . وقد استعملها الشعراء والعلماء لتيسير حفظ العلوم والمعارف كما فعل ابن إبان بن عبد الحميد اللاحقي في نظم كتاب كليلة ودمنة . ومن قدامى الأندلسيين الذين نظموا على هذه الطريقة – يحيى الغزال . وكانت الخطوة التي تلت هذه أن زاد عدد الاقسمة التي لها نفس القافية عند اثنين فأصبحت القصيدة بصورتها الجديدة : ثلاثية أو رباعية أو خماسية ،والرباعيات تطور لفن المزدوجة مثل المثلثات . أماالمسمط : فهو أن تجمع عدة سلوك في ياقوتة – ثم تنظم كل سلك منها على حدته باللؤلؤ ثم تجمع السلوك كلها في زبرجده , ثم تنظم كل سلك على حدته وتصنع به كما صنعت أولا , إلى أن يتم السمط ومن أنواع السمط : المثلث والمربع والمخمس وهو الأكثر انتشارا والشرط في الشعر المسمط أن تتكسر قافية واحدة تسمى عمود القصيدة , وللشاعر بعد ذلك الحرية في اختيار العدد الذي يروقه له من القوافي الفرعية وأقصى ما وصل إليه هو المثمن. ويرجح أن التسميط , تطوير عباسي للتسهيم وقدامة يسميه التوشيح وقد كان معروفا منذ العصر الجاهلي مثل قول امرئ القيس :
1- أفاد فساد وقاد , فزاد , وساد فجاد , وعاد فأفضل .
2- كذلك قول امرؤ القيس : كحلاء في برج , صفراء في نعج , . . كأنها فضة قد مسها ذهب .
3- أو قوله : فتور القيام * قطوع الكلام * تفتر عن ذي غروب اشر .
4- أو قول الخنساء : حمال ألوية * هباط أودية * شهاد أندية * للجيش جرار .
وقد قلده المولدون : أبو نواس – أبو تمام – ديك الجن – المتنبي . وإلى هذا الحد كان النوع من التسميط داخلا في عروض البيت وكانت الخطوة التالية هي الخروج من هذا النطاق من أجل الانطلاق من قيد القافية الواحدة .
وقد ظهر في المشرق نوع من الشعر يعمد فيه الشاعر إلى كلمات معينة داخل البيت فيجعل منها قوافي , يلتزمها في الأبيات التي تلي مثل قول – ابن قسيم الحموي : 1- قل للأمير أخي الندى * والنائل * الهطال * للشعراء * والقصاد .
2- لا زلت تنتهك العدى * بالذابل * العسال * في الأحشاء * والأكباد .
3- ووقيت من صرف الردى * والنازل * المفتال * بالأعداء * والحساد .
وقد كانت كل هذه محاولات محصورة في نطاق البيت الواحد . وكانت المحاولة الجريئة التي خرجت بهذه القوافي من نطاق البيت الواحد نقطة جبارة إلى الأمام وهي أقرب نقطة بلغتها التقفية المشرقية من تقفية الموشحات ، وأقدم نص عثر عليه هو نص علي بن عياد الاسكندري ( 526 هـ ) :
1- يا من ألوذ بظله * في كل خطب معضل * لا زلت من أصحابه
2- متمسكا بيد السلامة *آمنا من كل بأس * في الحوادث والصروف
3- وأعوذ منه بفضله * في كل أمر مشكل * ما لاح لي فجر صوابه
4- كالشمس من خلف الغمامة * لا تميل إلى شماس * دون موضعها الشريف
5- وأعده لي معقلا * أضحى عليه معولي * عند المئول ببابه
6- لما امنت من الندامة * في السماع وفي القياس * المحص والنظر الشريف
7- وأجله عن مثله * مثل الحسام الفيصل * ماض بحد ذبابه
8- في كل جمجمة وهامة * ثابت صعب المراس * على مباشرة الحتوف .
يقول : (( فعدد هذه الأبيات أربعة وكل منها مكون من ستة أقسمة تماثل قافية كل قسيم قافية الذي يقابله في الأبيات الأخرى . والقصيدة تشبه قفل موشح مكون من ستة أغصان تكررت أربع مرات أو دورا مركبا من موشحة يتكون كل سمط من أسماط الأربعة من ست فقر . ولاحظ العماد الأصفهاني شدة شبهها بالموشحات فوصفها بأنها ذات أوزان موشحة . وقد وقف تطور القافية المشرقية عند هذا الحد حتى عرف الموشحة الأندلسية في أواسط القرن السادس الهجري.
ويعمد الوشاحون إلى حيل كثيرة ليخرجوا بها موشحاتهم عن مشابهة عن مشابهة أوزان الشعر التقليدية إذا حدث مثل هذا الشبه بأن يقحموا كلمة يخرج بها الوزن عما هو مألوف . ويعمدون أيضا إلى التنويع في الأوزان الموشحة الواحدة . ومن صور التنويع في الوزن : اختلاف عدد تفعيلات البحر الواحد بين غصن وآخر وفي فقر السمط الواحد , كأن يكون في غصن أو فقرة تفعيلة واحدة وفي الغصن أو الفقرة التالية تفعيلتان . وإذا لجأ الوشاحون إلى الأوزان التقليدية لجؤوا للبحور المهملة والمجازئ مثل : مخلع البسيط والرمل والمجتث والمقتضب , والقسم الثاني هو الموشحات التي لا تنضبط على أوزان العرب وتنقسم الموشحات من حيث الوزن إلى خمسة أقسام :
الأول ما كان على الوزن الشعري التقليدي
والثاني ما أخرجته عن الوزن الخليلي حركة أو كلمة .
والثالث ما اشترك فيه أكثر من وزن واحد .
والرابع ما له وزن غير الأوزان الخليلية ويدركه السمع عند قراءته .
والخامس ما ليس له وزن واحد يدركه السمع عند قراءته ولا يوزن إلا بالتلحين وذلك بمد حرف وقصر آخر وإدغام حرف في حرف وغير ذلك من فنون التلحين
وتكاد موضوعات الموشحات ومعانيها تكون الموضوعات والمعاني نفسها التي طرقها الأقدمون إضافة إلى مواضيع جديدة لم تنقطع تماما في جدتها عن الماضي .
وقسم البعض الموشح إلى أنساق على النحو التالي :
أولا ً : النسق المؤتلف :يكون عادة في الموشحات التي على الأبحر المألوفة من الرمل في الأغلب . ويكون للموشح مطلع ثم تليه أبيات , ويكون كل بيت من أسماط وقفل ( أو قفلة ) وهناك ثلاث درجات من الموشح المؤلف :
1- الموشحة المفردة : مثل موشحة أبي بكر بن زهر الحفيد ( أيها الساقي ) , فالمطلع في الموشحة المفردة يتركب من سمطين لكل سمط منهما قافية مستقلة . أما البيت فيتركب من خمسة أسماط : ثلاثة أسماط على روي واحد , ثم سمطين : قافية كل منهما على روي السمط المقابل له في المطلع .
2- الموشحة المثناة : تكون الاسماط في مطلعها أربعة أي مضاعفة ويبنى صدرا المطلع على روي وعجزاه على روي آخر . وكذلك يكون البيت في الموشحة المثناة مضاعفا ً( ستة أسماط بروي لصدورها وروي آخر لإعجازها , ثم أربعة أسماط في القفلة تقابل بقوافيها قوافي المطلع مثل موشحة ابن سهل ( هل درى ظبي الحمى ) .
3- الوشحة المتعددة : يكون المطلع فيها مركبا من ستة أسماط مجزوءة ويكون البيت فيها بالتالي ثلاثة أضعاف البيت في الموشحة المفردة مثل موشحة ابن زهر ( ما للموله من سكره لا يفيق ) .
ثانيا ً : النسق المختلف :هي موشحات لم يتبع الوشاحون فيها قاعدة ما , بل كان كل وشاح يختار من ترتيب الاشطر ومن ترتيب القوافي ما كان يروق له أو يتفق له من اجل ذلك قل أن نجد موشحتين على نسق مختلف واحد وخصوصا ً إذا كان الوشاح قد تصرف في الأوزان فأتى ببحور الشعر مجزوءة على أقدار متفاوتة أو إذا خرج من موشحته عن أوزان العرب جملة . ومن أمثلة النسق المختلف – موشحة أبي بكر بن الأبيض : (( ما لذ لي شراب راح )) .
وأما ( الأعاريض ) فهي : الكلمة الأخيرة في كل شطر منأشطر الموشحة ( القافية ) والخرجة هي : القفل أو الأشطر الأخيرة في الموشحة وتكون في العادة باللغة الفصيحة . غير أن البعض يستعمل الخرجة باللغة العامية , وربما جعلوا هذه الألفاظ أو الاشطر باللغة الأعجمية ( لغة نصارى الأندلس , وهي لهجة رومانثية : مزيج من اللاتينية العامية ومن بقايا المحلية ) .
1- خرجة لابن بقي ( عامية ) :
قد بلينا وابتلينا ( واش ) يقول الناس فينا
قم بنا يا نور عيني نجعل الشك يقينا
2- خرجة لأبي بكر بن رحيم ( أعجمية ) :
لمرني أو كدش دبيب حسب سم بغاد رد مسيد








رموز الشعر الأندلسي
الباب السابع
النثر في الأندلس
الباب السابع
مقدمة
الفصل الأول
أنواع النثر
1-الخطابة الأندلسية :
وقد احتل هذا الفن من اللحظة الأولى التي دخل فيها العرب الأندلس مكانة مرموقة، والغرض عند الأندلسين من الخطبة كما هو عند المشارقة يتمثل في إيقاظ نار الحماسة وبث روح الجهاد ، ونشر الدين وإخضاع الأقاليم حيث تمثل الأمراء والحلفاء فصاحة اللغة وعمق البيان واتسمت هذه الخطبة بالسمات التالية:
آ- سهولة العبارة . ب- البعد عن السجع.
ج- الجريان مع الطبع. د- القدرة على التأثير.
هـ- الايجاز والبلاغة. و- وضوح المعاني.
"الوليد بن عبد الرحمن بن غانم- عبد الله الفخّار- القاضي أبو الحسن منذر بن سعيد البلوطي".
2-فن الترسل الأندلسي:
كما ترسم الأندلسيون خطا المشارقة في الخطابة، حذوا حذوهم في فن الترسل فكتبوا رسائلهم تبعاً للأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية وقد برز لديهم نوعان من الرسائل:
الأول: الرسائل الديوانية: وتختص بمكاتبات الملوك والأمراء وما يتعلق بشؤون الخلافة من عزل أو تعيين حاكم أو إصدار مرسوم.
الثاني: الرسائل الأدبية: وقد برع فيها الأندلسيون واحتوت على المناظرات والمناقشات والقصص الخيالية ، ورسائل الاستعطاف والهجاء الساخر ابن زيدون في رسالته (الجدية والهزلية).
وكتب في المناظرات بين السيف والقلم (ابن برد الأصلع، وكتب رسالة (التوابع والزوابع) لابن شهيد.
وأهم ما كتب في الفلسفة (حي ابن يقظان) لابن طفيل.
التأليف والتصحيف الأندلسي:
وقد اتسعت أبوابه عندما توفقت ينابيع العلم والثقافة عندما بدأ الأندلسيون يؤطرون للعلوم الطبيعة والفلسفة.
فكتب ابن سيده كتاب (المخصص) في معاني الألفاظ، وكتب الزهراوي في الطب والصيدلة (التنضيف) وصنف ابن حزم (طوق الحمامة) في فلسفة الحب، وكتب لسان الدين بن الخطيب (الإحاطة في تاريخ غرناطة) وكتب الأدريسي في الجغرافيا (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) وابن بسام الأندلسي (الذخيرة في محاسن الجزيرة) وكتب ابن عبد ربه في الأدب (العقد الفريد). وكتب ابن عصفور في فن الصرف.




الباب السابع

الفصل الثاني
سمات النثر وأعراضه
في العصر الأندلسي
مقدمة:
إذا كان الأندلسيون قد ترسموا خطا المشارقة في حياتهم الاجتماعية والأدبية ، فمن الطبيعي أن يكون النثر الأندلسي محاكياً لنثر المشارقة من حيث الفنون والأغراض.
إذا أن هؤلاء الأندلسيين لم يكتبوا نثراً ارتقى إلى مستوى النثر العباسي قبل القرن الرابع الهجري , كما أنهم لم يستحدثوا لأنفسهم مذهباً جديداً في الكتابة معتمدين على عدم الإكثار من المحسنات البديعية إلا في عهد ملوك الطوائف , وبقيت الأنواع الأدبية والأغراض الأدبية أسيرة لمنهج المشارقة من حيث استخدام الأمثال والاقتباس من القراءن الكريم , والعناية بالسجع .
ومن الأنواع الأدبية التي كتب بها الأندلسيون :





الباب السابع
الفصل الثالث

أعلام النثر الأندلسي

1 ـ ابن حزم الاندلسي
1- اسمه : علي بن احمد بن سعيد بن حزم بن يزيد , ويزيد هذا كان مولى ليزيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية أخي معاوية .
كنيته أبو محمد ابن حزم الأندلسي .
2- ولادته : لا يكاد الباحث المتقصي لتاريخ ولادة العلماء المسلمين يجد عالما قد عرف مولده على وجه التأكيد باستثناء بعض العلماء ومنهم صاحب موضوعنا هذا , فقد ولد في آخر يوم من رمضان سنة ثلاثمائة وأربع وثمانين للهجرة .
وكانت ولادته في حي منية المغيرة أجمل أحياء قرطبة بهذا كتب ابن حزم بخطه إلى القاضي صاعد بن احمد الأندلسي صاحب كتاب طبقات الأمم .
نشأته : نما أبو محمد وترعرع في قصر حزم حيث تولى عميد الأسرة احمد بن حزم وزارة المنصور – وما زال هذا القصر إلى يومنا هذا , واسمه سان لورنزو وتقوم مكانه كنيسة سان لورنزو – ولما كان أبو محمد من أبناء الأكابر وأصحاب الطبقة العليا في المجتمع فمن الطبيعي أن ينال قسطا ً وافرا ً من التعليم , ولم يمنع وسط البلاط الذي قضى فيه شبابه عقله الوثاب للتكمل بمختلف العلوم , ومن خلال استعراضنا لنشأة ابن حزم يتبين لنا انه كان يعيش في بحبوحة من العيش وعز من السلطان وكان يعتز بأنه طلب العلم لذات العلم يرجو به ما عند الله فلا يطلب به جاها ً ولا ثراء , قال في معرض حديثه ومناظرته للفقيه الباجي المالكي عندما فاخره بأنه طلب العلم وهو فقير وهو – أي ابن حزم يسهر بمشكاة من الذهب – فأجابه :
" انك طلبت العلم وأنت في هذه الحال رجاء تبديلها بمثل حالي . . . وانأ طلبته لم ارج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة .
وقد حدثنا عن تعليمه في طفولته وحداثته فقال : " لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري لأنني ربيت في جحورهن , ونشأة بين أيديهن ولم اعرف غيرهن , ولا جالست الرجال إلا وانأ في حد الشباب , وهن علمنني القرآن وروينني كثيرا ً من الأشعار ودربنني على الخط .
وبعد مرحلة طفولته هذه التي حدثنا عنها نتابع حديثنا عن تعليمه , فقد أرسله أبوه إلى أفاضل الشيوخ ليتم على يديهم تعليمه , ولكن الأقدار لا تسير إلا كما هو مقدر لها . وهكذا كانت حياة ابن حزم . فقد ذاق مرارة العيش منذ صغره فقد قتل سند الأسرة ومعينها الأول وابنه ما زال في بداية سن الشباب طري العود ومع ذلك فقد واجه الشاب الحياة وظروفها القاسية بجلد وصبر يذيب الحديد وبعد وفاة أبيه بفترة اضطر إلى مغادرة قرطبة التي كانت قد مزقتها الحروب الأهلية وكان سنه آنذاك – لا يتجاوز العشرين سنة .
4- سيرته وحياته : اخذ ابن حزم على عاتقه الدفاع عن الأسرة الأموية ضد البربر فرحل إلى المرية حيث راح يعمل على توحيد الصفوف من اجل استعادة العرش الأموي المفقود ولكن حاكم المرية تنبه له فسجنه ثم نفاه مع صاحبه احمد بن إسحاق فذهب الصديقان إلى ( حصن القصر ) فرحب بهما حاكمه وتركاه بعد أربعة أشهر بعد أن نودي بعبد الرحمن الرابع المرتضي خليفة في بلنسية واشترك أبو محمد مع جيش المرتضي في حرب قرناطة وكان وزيرا ً له فأسره العدو ولكنه أطلقه بعد مدة , ورجع إلى قرطبة سنة 409 هـ حيث أصبح وزيرا ً للخليفة عبد الرحمن المستظهر سنة 414 هـ ولكن ما لبث الاثنان إلا فترة وجيزة استمرت سبعة أسابيع لقي فيها الخليفة حتفه ولقي ابن حزم جدران السجن من جديد ولكن إذا رجعنا إلى الكتب نحاول الكشف عن المدة التي لبثت فيها بالسجن لما أشفت لنا عنه ولا انقشعت لنا غلة ولكن من المؤكد أنه كان في شابة سنة 418 هـ حيث انتهت حياته السياسية وبدأت حياته العلمية متفرغ للعلم والتأليف ونشر أرائه والدفاع عنها .
5- أساتذته وشيوخه : لا بد لكل إنسان من مشاعل تنير له درب الحياة وتضيء له بصرى العلم والمعرفة , وقد تتلمذ أبو محمد على يدي أكابر الشيوخ والمدرسين منهم أبي علي الحسين بن علي الفارسي وكان أستاذا في التربية واستقامة الخلق , قال عنه في طوق الحمامة , : ( ما رأيت مثله جملة علما ً ودينا ً ورؤيا , ويحدثنا الأستاذ سعيد الأفغاني عن شيخه أبي الخيار مسعود بن سليمان بن مفلت المتوفي سنة 426 هـ بالإضافة إلى الشيخ عبد الرحمن بن أبي يزيد الازري , وعليه تعلم مختلف العلوم والمعرفة , وكذلك درس النحو واللغة على يدي الشيخ احمد بن الجسور , وله غير هؤلاء شيوخ كثيرون , فقد سمع سماعا كثيرا ً وطلب الحديث على سائر الشيوخ المحدثين وهي إذ ذاك تغض بالفحول من العلماء .
ولا بد في نهاية الحديث عن شيوخه من أن نذكر أستاذه في الفلسفة والمنطق وعلم الأوائل إلا وهو أبو عبد الله محمد بن الحسن المذحجي المعروف بابن الكتاني .
6- تلامذته وطلابه : لم يجد ابن حزم بدا من أن ينأى بنفسه عن الناس ( خلا صغار المريدين من طلاب العلم ) اذكر منهم : تلميذه المخلص الذي حافظ على تراث أستاذه من الضياع إلا وهو الحميدي ابن عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله الازدي الحميدي ومن تلامذته أيضا أبو محمد عبد الله بن محمد بن احمد العربي المعافري من أهل اشبيلية , ومنهم أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد النهري الطرطوشي المتوفي سنة 520 هـ بالإضافة إلى أولاده الذين أذاعوا علم والدهم اذكر منهم أبو رافع الفضل بن علي بن سعيد بن حزم .
7- عقيدته ومذهبه : كان للحركة الدينية تأثير كبير في توجيه دراسة صاحبنا فقد بدأ بدراسة المذهب المالكي " الموطأ " واستمر ثلاثة أعوام ثم اعتنق المذهب الشافعي ثم لم يلبث أن ترك هذا المذهب واعتنق المذهب الظاهري , وقد تشدد في احكام هذا المذهب والعمل أكثر من صاحبه الأمام داوود الظاهري الأصفهاني وكان هذا المذهب يدعو إلى رفض الأخذ بالرأي في الأحكام الشرعية ولا يحاول تعديل النصوص القرآنية بل يرفض ذلك رفضا ً قاطعا ً , ولقد تشدد ابن حزم في هذا المذهب وساعده على هذا التشدد كثرة أحاطته الواسعة بالأحاديث النبوية وكان لحداثته وتعليمه في تلك الفترة اثر كبير في هذا التشدد فكان لا يتبع إلا مصادر الشرع وكان يقسو على مخالفيه في القول حتى انه يرميهم بالخروج عن الدين في بعض الأحيان .
قال يشرح وجهة نظره في المذهب الظاهري :
فقلت هل عيبهم غير إني لا أقول بالرأي إذ في رأيهم أفن
وإنني مولع بالنص لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن
لا انثني نحو آراء يقال بها في الدين بل حسبي القرآن والسنن
وليس لأصحاب مذهب الظاهر كتب تعرف منها آراءهم وأصول مذهبهم إلا ما سمح ببقائه الدهر من كتب ابن حزم حتى قيل ( من أراد الاطلاع على مذهب داوود الأصفهاني الظاهري فعليه يكتب الأمام بن حزم الظاهري ) .
8- مصنفاته وكتبه : عرف ابن حزم من جميع العلوم التي كانت في متناوله , وترك كتبا ً في المنطق والفلسفة , إلا انه قد استكثر جدا ً من العلوم الشرعية لذا كانت أكثر مؤلفاته دينية , ومع انه صنف المصنفات القيمة في كل العلوم التي تحقق بها نراه قد عني العناية كلها بأمر واحد وهو تأييد المذهب الظاهري , فقد دافع عنه وطلب له الحجج والمؤيدات إلى أن مات وترك لنا أثارا ً كثيرة تطفح بنصرته وشرح أصوله وفروعه ببيان قوي سهل محبوب يذكرنا ببلاغة الجاحظ ولا شك انه في سعة المعارف وبلاغة الأسلوب يستحق لقب حافظ الأندلس بلا منازع .
ومن المؤسف أن يضيق علماء عصره وحكامه بحرية ابن حزم وصراحته , حتى أشهروا عليه وعلى كتبه حربا ً عوانا ً لا هوادة فيها , وحتى بلغ بهم الغيظ أن احرقوا كتبه في علنا ً في اشبيلية فما كان منه إلا أن انشد أبياتا ً فيها شطواه وحزنه على كتبه واظهر تجلدا ً وصبرا ً في تحمل ذلك المصاب :
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل أن انزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رقه وكاغد وقولا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة فكم دون ما تبغوه لله من ستر
واكبر دليل على كثرة مصنفاته وتآليفه قول ابنه الفضل المكني بابي رافع : ( اجتمع عندي بخط أبي من تأليفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ وكتب الأدب والرد على المعارضين , نحو أربعمائة مجلد .تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة ) .
يقول صاعد بن احمد الأندلسي في طبقات الأمم ( وهذا شيء ما علمناه ممن كان في دولة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر بن جرير الطبري وبعد هذا حسبك ما قلت . وأعجب معي من هذه الاذخيرة التي خلفها لنا وهذه الكتب التي سأذكرها هي على سبيل التعداد لا الحصر كنقطة من بحر وكفيض من غيض لكثرة تآليفه وابدأ بأشهر كتب ابن حزم وهو :
طوق الحمامة في الألفة والآلاف : كتب أبو محمد رسالته بعد أن تخطى مرحلة الشباب وفيه يحلل العواطف النبيلة من حب ويفض من الجانب النفسي ويبين لنا اثر ذلك على نفس كل إنسان , فهو في هذا المؤلف كفقيه متدين ملتزم بالشريعة ولكنه يعالج الحب من الناحية الدينية فهو يدعو إلى الحجاب والحشمة وفصل الرجال عن النساء والعمل على سد الأبواب والذرائع التي من شأنها أن توجد الأطفال بين الرجال والنساء قال الله تعالى في كتابه العزيز : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم , وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن , ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها . ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) .
فلولا علم الله عز وجل برقة إغماضهن في السعي لإيصال حبهن إلى القلوب ولطف كيدهن في التحليل لاستجلاب الهوى , لما كشف الله عن هذا المعنى البعيد الغامض الذي ليس وراءه مرمى وهذا احد التعرض فكيف بما دونه , في هذا المصنف يبدو أبو محمد دقيق الملاحظة , شيق الأسلوب رقيق الشاعرية تناول فيه العشق وألوانه وأوضح فيه أنظاره النفسية وتمثل فيه بأشعار من نظمه وقد قسم رسالته إلى ثلاثين بابا ً , منها عشرة في أصول الحب ومنها في أغراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر بابا ً ومنها في الآفاق الداخلة على الحب بستة أبواب ومنها بابان يختم بها رسالته وهما : باب الكلام في قبح المعصية – وباب في فضل التعطف , يقول في الباب الأول في ماهية الحب – أعزك الله – أوله هزل وآخره جد – رقت معانيه لجلالتها عن أن توصف , فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة – وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة , إذ القلوب بيد الله عز وجل ويقول في الباب الأخير فضل التعفف .
ومن أفضل ما يأتيه الإنسان في حبه التعفف , وترك ركوب المعصية والفاحشة وإلا يرغب عن مجاراة خالقه له بالتعيم في دار المقامة , إلا يعصي مولاه المتفضل عليه . وان من هام قبله وشغل باله واشتد شوقه وعظم وجده ثم ظفر فرام هواه أن يغلب عقله وشهوته وان يقهر دينه ثم أقام العدل لنفسه حصنا ً واعلم بها النفس الإمارة بالسوء وذكرها بعقاب الله تعالى وحذرها من يوم المعاد والوقوف بين يدي الملك العزيز الشديد العقاب .
وينهي كتبه بقوله : ( ولا تظن بكلمة خرجت من في امرئ سلم شرا وأنت تجد لها في الخبر محملا) ولخشية أن يتهم بعد ذلك في دينه يقول : " إني اقسم بالله إني ما حللت مئزري على حرام قط " , وله رسالة في فضل الأندلس أهداها إلى صديقه أبي بكر احمد بن إسحاق وتحتوي هذه الرسالة على لمحة طريفة عن أهم تصانيف سلمى الأندلسي المتقدمين , وتعتبر هذه الرسالة بالرغم من إيجازها تاريخا ً للتفكير الأندلسي وللآداب الأندلسية حتى أوائل القرن الخامس الهجري , يقول " وبلدنا هذا على بعده عن ينبوع العلم , ونأيه عن محلة العلماء , فقد ذكرنا من تأليف أهله ما أن طلب مثلها بفارس والأهواز . أعوز وجود ذلك على قرب المسافة في هذه البلاد من العراق ."
كتبه التاريخية :
يعتبر ابن حزم من عظماء مؤرخي عصره وقد ألف في التاريخ كتبا ً منها :
جمهرة الأنساب أو انساب العرب : وقد ألفه بعد عام 450 هـ وقد اعتمد عليه ابن خلدون كثيرا ً وقد صدر به كتابه بقوله : ( الحمد لله وسيد القرون الأولى ومزيل الدول وخالق الخلق ) , ثم يذكر جملة من الأحاديث الدالة على فضل النسب ثم ذكر قبائل العرب وأنسابهم وبطونهم وأفخاذهم وما تفرع منهم .
وله كتاب " جوامع السيرة " عرض فيه عرضا ً طريفا ً للسيرة النبوية كشف لنا به عن سمة اطلاعه ودقة ضبطه للتواريخ , ووضوح منهجه في معالجة المسائل التاريخية , وله أيضا حجة الوداع .
على أن أهمية ابن حزم كمؤرخ لا تنحصر فيما خلف لنا من مصنفات وإنما تتجلى في المنهج الذي اصطنعه لدراسة أحداث التاريخ والحكم على وقائع عصره . وهو يحدثنا في رسالته " مراتب العلوم " عن مكانة التاريخ بين غيره من العلوم فيبين لنا أهمية علم الأخبار ويحدثنا عن التواريخ الصحيحة ويظهر لنا أن علم الأنساب هو جزء من علم الخبر .
ابن حزم الفقيه :
ليس من السهل أن يحيط المرء في مثل هذه العجالة القصيرة – بفقه ابن حزم , فقد بذل هذا المفكر الكبير جهدا ً هائلا ً في تنقيح مذهب أبي داوود , وجادل عن هذا المذهب جالا ً عنيفا ً , ووضع الكثير من الكتب والرسائل فيه , وتفسيره لعل من أهمها ما سأذكره : 1- رسالة في إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل , وقد دافع فيه عن رأيه الذي يبطل فيه كل قياس فقهي لا يعتمد على القرآن والحديث , يقول : " إنا لم ننكر ما نص الله ورسوله , بل ننكر ما أخرجتموه بعقولكم وما أوصيتموه بلا برهان ولا نص , وذلك اعتبارا ً عن الله بما لم يخبر به , وتقويل لرسوله بما لم يقل" .
2-وكذلك كتابه " الإحكام في فصول الأحكام " وهو دراسة في أصول الفقه على المذهب الظاهري والرد على المقلدين من المالكية .
3- ومن كتبه الهامة أيضا الإيصال في فهم الخصال : هو كتاب جامع لمحصل شرائع الإسلام في الحلال والحرام أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في مسائل الفقه ودلائله . قال الأمام أبو محمد بن العربي " كتب الأمام أبي محمد بن حزم كتاب الإيصال في أربعة وعشرين مجلدا ً بخط يده وكان في غاية الإدماج , بالإضافة إلى المحلي بالآثار في شرح المجلى بالاختصار" .
4- وله رسالة في ( مسائل أصول الفقه .
5- ومن كتبه المشهورة جدا ً كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل .
وقد نقد فيه الفرق الإسلامية المخالفة لمذهبه نقدا ً شديدا ً وهاجم فيه الاشاعرة وخاصة في رأيهم في صفات الله .
كما نقد ابن حزم في كتابه هذا القصائد غير الإسلامية " اليهودية والنصرانية " وحاول أن يجد تناقضا ً في كتبهم ليسوغ اتهامهم بتحريف النصوص .
من عناوين كتابه هذا , كتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم منها مما لا يحتمل التأويل . قال ينقض مزاعم اليهود في أمر وطنهم , ويتعرض لدعوى اليهود بأن الله تعالى قال لإبراهيم : " لنسلك أعطى هذا البلد من نهر مصر الكبير إلى نهر الفرات " يقول أبو محمد " هذا كذب لان بني إسرائيل ما مكنوا قط من نهر مصر ولا على نحو عشرة أيام منه شبرا ً فما فوقه . وذلك من موقع النيل إلى قرب بيت المقدس وفي هذه المسافة الصحارى المشهورة الممتدة ثم رفح وغزة وعسقلان وجبال الشراة التي لم تزل تحاربهم طول مدة دولتهم وتذيقهم الأمرين إلى انقضاء دولتهم وما ملكوا قط من الفرات , ولا على عشرة أيام منه . بل يبين آخر حوز لبني إسرائيل إلى اقرب مكان من الفرات إليهم نحو تسعين فرسخا ً فيها قنسرين وحمص التي لم يقربوا منها قط . ) .
ومن عناوينه أيضا ً : النصائح المنجية من الفضائح المخزية والقبائل المردية من أقوال أهل البدع , والفرق الأربع : المعتزلة والمرجئة والخوارج والشيعة .
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أبا محمد قد جعل في كتابه هذا كثيرا ً من رسائله ومنها العناوين التي ذكرناها آنفا ً ومنها أيضا ً المفاضلة بين الصحابة .
وقد بدأها بكلمة عن معنى الفضل ووجوه المفاضلة , ثم أدرج رأيه في فضل ازدواج الرسول عليه السلام ثم استعرض آراء المخالفين وشرع في الاحتجاج لرأيه وفي الباب الثاني يسرد حججه في فضل الأزواج مستمدة من الكتاب والسنة , وفي الباب الثالث يعين لنا أفضل الصحابة بعد أمهات المؤمنين , ثم يختم كتابه بكلام محكم في عدم فضل القرابة ويبين ببيان شاف أن الإسلام سوى بين الناس جميعا ً تسوية صريحة وواضحة .
يتبين لنا في هذا الكتاب عقلية ابن حزم المنطقية التي تستنتج النتائج من المقدمات ولا ترضى إلا بالدقة والصراحة , يقول : " إن الفلسفة على الحقيقة إنما هي إصلاح الناس وهذا لنفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة , هذا مما لا خلاف فيه بين احد من العلماء بالفلسفة ولا بين احد من العلماء في الشريعة , اللهم إلا لمن انتمى إلى الفلسفة بزعمه , وهو ينكر الشريعة بجهله على الحقيقة بمعاني الفلسفة وبعده عن الوقوف على غرضها ومعناها .
هذا النص يقودنا إلى شخصية ابن حزم المنطقية , فنحن إذا رجعنا إلى مفكري الإسلام من علوم الأوائل لوجدنا الكثير منهم قد ثاروا على الفلسفة عموما ً والمنطق خصوصا ً , مما جعل الكثيرين يعتبرون أن الاشتغال بالمنطق خروج عن الدين وكانت حجتهم في ذلك أن الفلسفة شر والمنطق مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر , فالمنطق إذن شر .
من كتب ابن حزم في المنطق : " التقريب إلى حد المنطق " جاء في كتاب كشف الظنون " تقريب في المنطق لابن حزم الظاهري وهو مختصر جعله مدخلا ً وأورد الأمثلة الفقهية بألفاظ عامية بحيث أزال سوء الظن عنه .
جاء في مقدمة التقريب حيث يخلص ابن حزم إلى إظهار علم المنطق وضرورته وكذلك هذا العلم , فإن جهله يخفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وجاء عليه من الشغب جوازا ً لا يفرق بينه وبين الحق ولم يعلم دينه إلا تقليدا ً والتقليد مذموم . ويقول : " ينبغي لكل طالب حقيقة أن يقر بما أوجبه العقل ويقر بما شاهد وأحس وبما قام عليه برهان وان لا يسكن إلى الاستقراء أصلا ً , إلا أن يحيط علما بجميع الجزئيات التي تحت الكل الذي يحكم فيه , فإن لم يقدر , فلا يقطع في الحكم على ما لم يشاهد ولا يحكم إلا على ما أدركه دون ما لم يدرك
يعتبر ابن حزم من أوائل المؤرخين والفلاسفة الأندلسيين الذين ارجوا بمجتمع الطوائف وذلك في كتباه التلخيص لوجوه التخليص .
وهو عبارة عن ردود على بعض الأسئلة في الشؤون الدينية والفقهية وجهت إليه من بعض أصدقائه قال جوابا ً عن سؤال يتعلق بأمر الفتنة التي وقعت في الأندلس .
وأما إذا سألتم من أمر هذه الفتنة فهذا أمر امتحنا به وهي فتنة سوء , أهلكت الأديان إلا من وقى الله من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب , وعمد ذلك أن كل مدبر يدينه في أندلسنا هذه أولها عن آخرها محارب لله تعالى ورسوله وساع في الأرض بفساد . . فلا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه اللابسو جلود الضأن على قلوب السباع , المزينون لأهل الشر شرهم – الناصرون لهم على فسقهم , واختتم حديثي عن كتبه بكتاب الأخلاق والسير في مداواة النفوس .
وهذا الكتاب هو ثمرة سني نضوجه الفكري . وخلاصة تجاربه القاسية وهي رسالة أخلاقية في الورع والحض على التقوى وقد اشتملت على وصايا رائعة ابتدأها بالكلام في مقياس الخير والشر وقد مزج فيها بين نظرية أرسطو في المنطق , وهي أن الفضيلة هي وسط بين الرذ1يلتين ويقول أن الفضائل ترجع إلى أربعة أصول هي : العدل - العقل – الشجاعة – السخاء , ويقارب بذلك أفلاطون , ثم يتجه إلى القرآن والسنة ويستقي منهما , ثم يتجه إلى تجاربه , فيقول :
" إني جمعت بكتابي هذا معاني كثيرة أفاد فيها واهب التمييز تعالى بمرور الأيام وتعاقب الأحوال , وفيه يقول : ثق بالمتدين وإن كان على غير دينك ولا تثق بالمستخف وإن أظهر انه على دينك , من استخف بحرمات الله تعالى فلا تأمنه على شيء تشفق عليه .
ومن طريف ما نظمه في الأخلاق :
إنما العقل أساس فوقه الأخلاق سور
فحل العقل بالعلم وإلا فهو بور
وتمام العلم بالعدل وإلا فهو زور
وتمام العدل بالجود وإلا فهو فيجور
وتمام الجود بالنجدة والجبن غرور
وهناك عدد كبير من المؤلفات أوردها الأستاذ سعيد الأفغاني في تحقيقه لكتاب المفاضلة بين الصحابة لابن حزم في القسم الأول من تحقيقه .
9- شعره : بالإضافة إلى اهتمام ابن حزم بالعلوم الدينية والفقهية إلا انه كان ذا نفس واسع في الشعر وباع طويل في إنشاده وقال ابن بشكوال : " ما رأيت أحدا يقول الشعر على البديهة أسرع منه " وقد جمع له ابن بشكوال ديوانا ً شعريا ً وله في جذوة المقتبس للحميدي ديوانا ً شعريا ً على حروف المعجم وقد عرف أبو محمد الشعر وهو صغير وقال قبل بلوغ الحلم وأكثر نظمه آنذاك كان تغزلا ً ثم رثاء لجاريته التي فقدها وربما كان حبه لها سببا ً من الأسباب التي دعته إلى تأليف كتابه طوق الحمامة وقد تحدث فيه عن جميع ألوان الحب وأورد المقطوعات الطريفة على شاكلة قوله يتحدث عن مرارة المنع عن اللقاء والحظر على المحبوب من أن يراه محبه :
أرى دارها في كل حين وساعة ولكن من في الدار عني مغيب
وهل نافعي قرب الدار وأهلها على وصلهم مني رقيب مراقب
وهناك اثر للنزعة الصوفية في شعره ولنستمع إليه يحدثنا عن نوع عجيب من الحب في عالم المغيبات :
يا ليت شعري من كانت وكيف سرت أطلعه الشمس كانت أم هي القمر
أظنه العقل أبداه تدبره أو صورة الروح أبدتها لي الفكر
أو صورة مثلت في النفس من أملي فقد تخيل في إدراكها البصر
وله أيضا قصيدة يفخر بها بالعلم ويذكر أصناف علمه :
أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع لجد علي ما ضاع من ذكرى النهب
وتمتلئ بعض قصائده بالحكمة وتسبيح الله وتمجيده كالقصيدة التي مطلعها :
لك الحمد يا رب والشكر ثم لك الحمد ما باح بالشكر فم
والغريب أن صاحبنا يلذ له أن يحاكي أرباب الصفى البلاغية ولكنه سبقهم في تشبيه ثلاثة أشياء في بيت واحد :
كأن الحيا والحزن والروض عاطرا ً دموع واجفان وخد مورد
بل شبه خمسة بخمسة في بيت واحد فأتى ابعد ما يكون من التكلف واقرب ما يكون إلى الطبع :
كأني وهي والكأس والخمر والدجى ترى وحيا ً والدر والتبر والسسبج
ولا بد أن أشير في نهاية الحديث إلى قصيدته الطويلة التي بلغت 140 بيتا ً قالها ردا ً على ملك الروم نقفور وهذه القصيدة تزخر بالقوة والفخر اظهر فيها اطلاعه الواسع على التاريخ والجغرافية وختمها بمدح الرسول عليه الصلاة والسلام وتقريع من يسميهم " عبدة عيسى " .
من كل ذلك يتضح لنا أن أسلوب ابن حزم في شعره سهل رقيق ممتنع لا يكاد يستعمل لفظة غير مأنوسة وهو ابعد عن الحوشي والتعقيد ولذلك فإن شعره قريب المتناول سلس الأسلوب .
10- أخلاقه ومزاجه :
آتى الله ابن حزم حافظة واعية وجلدا ً في طلب العلم جعله يستوعب اكبر قدر ممكن في علم السنة والآثار واختلاف الفقهاء وأخبار التاريخ وكان حاضر البديهة تأتي إليه المعاني أوقات الحاجة إليها , وقد أتاه الله من هذه المزايا إيمانا ً قويا ً وإخلاصا ً في طلب الحقيقة لايهمه في بيان ما يصل إليه رضا احد أو غضبا ً من احد , وكان عالي الهمة لا ينماع في غيره تزيده قوة خصمه علوا ً ولا يتبع إلا مصادر الشرعي علو على الشديد ولا يستسلم , ويعلو في المقاومة ولا يهن ولا يضعف , وكان مع كل ذلك ذا طبع حاد وشديد , فكان إذا رد قولا ً رماه بالشفاعة ورمى صاحبه بالخروج على الدين وكان قلم أبا محمد في رضاء سيف الحجاج ولكنه كان متوخي أنصاف خصومه ولم يكن من طبعه أن يعتمد اختلاق التهم الواهية عليهم ولكنه مع ذلك يصك معارضيه صك الجندك وكان يسرف في تحقير رجال كانوا في موضع إجلال السواد – الأعظم من المسلمين .
ولهذا قيل عنه : لقد أوتي العلم ولم يؤت سياسته , وسياسة العلم على ما قالوا أعوص من إتقانه , ولكن لماذا كان هذه الحدة في أسلوبه وكتبه ؟ وهل لازمته في كل ادوار حياته ؟
والجواب عن ذلك انه يبدو من خلال كتابيه طوق الحمامة ومداواة النفوس هادئ النفس مشرق القلب حتى بعد أن نزلت النكبات بأسرته ولكن اعترته الحدة لمرض أصابه ويقول في تبدل حاله بسبب المرض لقد أصابتني علة شديدة ولدت في ربو الطحال الشديد , فولد ذلك علي من الضجر وضيق الحال , وقلة الصبر والنزق أمرا ً جاشت نفسي به إذا فكرت تبدل خلقي واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي . وصح عندي أن الطحال موضع الفرح وإذا فسد تولد ضده .
وفاته : استقرت النوى بهذا المجاهد العظيم بعد أن طوف مدن الأندلس يلفظه بلد إلى بلد وتقذفه بادية إلى بادية حتى أراد الله له الطمأنينة فاستراح إلى الأبد في قريته بالبادية من غرب الأندلس مطاردا ً خفيا ً استأثر الله بروحه سنة ست وخمسين وأربعمائة هجرية لليلتين بقيتا من شهر شعبان ودفن في قرية متلجم التي هي ملكه وملك أبائه من قبله , ولقد نعى نفسه – رحمه الله بأبيات :
كأنك بالزوار لي قد تنادروا وقيل لهم أودي علي ابن احمد
فيارب محزون هناك وضاحك وكم ادمع تذرى وخد مخدد
عفا الله عني يوم ارحل طاعنا ً عن الأهل محمولا إلى بطن لحد
واترك ما قد كنت مغتبطا ً به والقي الذي أنسيت دهرا ً بمرصد
فوارا حتى أن كان زادي مقدما ً ويا نصيبي إن كنت لم أتزود
وبوفاته بدأت مؤلفاته تشق له طريقه إلى الخلود وطفقت حسرة الناس تعظم لفقده لأنه المنهل الغزير والنبع الذي ينهل منه طلاب العلم والمعرفة .






2 ـ ابن رشد فيلسوف الأندلس
520- 595 هجرية – 1126 – 1198 ميلادية
1- حياة ابن رشد
أبو الوليد محمد بن احمد بن محمد بن احمد بن اخمد بن رشد هو الفيلسوف الوحيد في أسرة من الفقهاء , والقضاة , كان أبوه قاضيا ً وكان جده قاضي القضاة بالأندلس , وله فتاوى مخطوطة لا تزال محفوظة في مكتبة باريس , تدل على ملكة النظر التي ورثها عنه حفيده , وقد كانت تعهد إليه مع القضاء مهام سياسية بين الأندلس ومراكش فكان يضطلع بها على الوجه الأمثل , وتوفي سنة 520 للهجرة قبل مولد حفيده بشهر واحد .
وقد وردت ترجمة الحفيد الحكيم في مراجع متفرقة من كتب الأدب والتاريخ وترجم له ابن أبي اصبيعة في كتابه " طبقات الأطباء " وهو مطبوع . وترجم له الذهبي والأنصاري وابن الابار في كتب مخطوطة , نشرت منها مقتبسات كافية ينصها العربي في ذيل كتاب لرينان عن ابن رشد والرشدية , طبع بباريس الطبعة الثالثة سنة 1866 واطلعنا عليها في تلك الطبعة , وعليها جميعا ً نعتمد في تلخيص ترجمة الفيلسوف .
نشأ بقرطبة وتعلم الفقه والرياضة والطب , وتولى القضاء باشبيلية قبل قرطبة , واستدعاه الخليفة المنصور أبو يعقوب وهو متوجه إلى غزو الفونس ملك أرجوان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فأكرمه واحتفى به وجاوز به قدر مؤسسي الدولة , دولة الموحدين , وهم عشرة من أجلاء العلماء , فأجلسه في مكان فوق مكان الشيخ أبو محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص الهنتاني وهو صهر الخليفة ( زوج بنته ) , ويظهر أن شهرة القاضي بالفلسفة قد جعلته موضع النظر مع الحذر فلما استدعاه المنصور ظن اهله وصحبه انه عازله ومنكل به , فلما خرج من عنده بعد تلك الحفاوة اقبل عليه صحبه يهنئونه فقال لهم قولة حكيم , (( والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء به , فإن أمير المؤمنين قربني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمل فيه أو يصل رجائي إليه )) .
وكلمة كهذه تكشف عن بصيرة الرجل وصدق رأيه , كما تكشف عن سليقة العلم فيه , فإنه لو كان من أهل المنفعة بالمناصب لسره أن يؤمن الناس بزلفاه عند الخليفة , ولكنه علم الحقيقة فآثر الإرشاد بتعليمها على الانتفاع بما اعتقده الناس من وجاهته , وايقنوه من عظم منزلته عند ذوي السلطان .
قال ابن الأبار : (( تأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة لم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال , إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة ومنافع أهل الأندلس عامة . )) .
وقد صدقت فراسة ابن رشد , فإن الخليفة لم يلبث أن نكبه وأقصاه – كما سيأتي في الفصل الثاني -0 وأمره بملازمة " اليشانة " وهي قرية كانت قبل ذلك مأوى لليهود . قيل إنه نفي إليها لان هكان مجهول النسب بأرض الأندلس وكان المظنون به انه من سلالة بني إسرائيل , وهو ظن لا سند له من الواقع على الإطلاق , وقد شهد ابن جبير لجده بالتقوى والصلاح وصحة الدين حين هجاه في نكبته فقال :
لم تلزم الرشد يا ابن رشد لما علا في الزمان جدك
وكنت في الدين ذا رياء ما هكذا كان فيه جدك
والمتواتر من جملة أخباره أنه كان شديد الاكباب على البحث والمذاكرة , لم يصرف ليلة من عمره بلا درس أو تصنيف إلا ليلة عرسه وليلة وفاة أبيه , وربما شغله ذلك عن العناية ببزته , أو ادخار المال لأيام عوزة . فكان يبذل العطاء لقصادة ويلام أحيانا على البذل لمن لا يحبونه ولا يكفون عن اتهامه فيقول : إن إعطاء العدو هو الفضيلة , أما إعطاء الصديق فلا فضل فيه , وقد أعطى مرة رجلا أهانه وحذره من فعل ذلك بغيره , لأنه لا يأمن بوادر غضبه .
على انه كان يسامح في أمر نفسه ولا يسامح في أمر غيره , ومن ذاك قصته مع الشاعر ابن خروف حين هجا أبا جعفر الحميري العالم المؤدب , فقد أوجع الشاعر ضربا ً وانذره إلا يعود لمثلها , ولو كان عفوه عن المسيئين إليه من قبيل المداراة لكانت مداراة الشعراء الذين يهجون غيره اقرب واحجى .
واثر عنه في قضائه انه كان يتحرج من الحكم بالموت , فإذا وجب الحكم أحاله إلى نوابه ليراجعوه , وقد اجتمع له قضاة الأندلس والمغرب وهو دون الخامسة والثلاثين .
ولم يذكر قط عن القاضي الفيلسوف خبر من أخبار التبسط لمجالس اللهو والطرب مما استباحه جملة أبناء عصره , ومنهم طائفة من العلماء والحكماء , بل كان يتعفف من حضور هذه المجالس , وبلغ من تعففه عما لا يراه خليقا ً , بعلمه ومكانه من القضاء انه احرق شعره الذي نظمه في الغزل أيام شبابه , وعلى هذا كان يحفظ الجيد من الشعر ويرويه في مواطن الحكمة وشواهد المثل , وحكى عنه أبو القاسم بن الطليسان انه كان يحفظ شعري حبيب والمتنبي ويكثر التمثل في مجلسه ويورد ذلك أحسن إيراد .
قال ابن الأبار : (( كان على شرفه اشد الناس تواضعا ً واخفضهم جناحا ً )) .
وكان هذا الخلق منه مطمع الطامعين في تواضعه وفي كرمه , دخل إليه أبو محمد الطائي القرطبي فتلقاه قائما ً كعادته في لقاء زائريه فقال الشاعر :
قد قال لي السيد الهمام قاضي قضاة الورى الإمام
فقلت قم بي ولا تقم لي فقلما يؤكل القيام
وظاهر أن هذه الخلائق الطيبة قد تعني المعلم أو الفيلسوف أو القاضي في صناعته , ولكنها لا تغني جليس الملوك في صناعة المنادمة والملازمة , بل لعلها تحرجه عندهم وتعرضه لإعراضهم ومقتهم لان هذا التواضع فيه لم يكن عن ضعة ولا عن استكانة بل كان عن كرم وكرامة وشعور بالمساواة بين الناس في المجاملة وحسن المعاملة , فكان يخاطب الخليفة فيقول له : يا أخي ! وكانت أمانة التعبير العلمي أحق بالرعاية من زخرفة القول في ألقاب الملوك والأمراء حيث لا محل لها بين تقريرات العلماء والفلاسفة , فلما شرح كتاب الحيوان لأرسطو زاد عليه عند ذكر الزرافة انه رآها ( عند ملك البربر ) . . . ومثل هذا اللقب هو الصدق الذي يجمل بالعالم في بحثه ودرسه , ولكنه لم يكن جميلا ً عند الرجل الذي يسمى نفسه ويسميه من حوله بأمير المؤمنين وأمير الدين ولما بلغ الأمر مسمع هذا الأمير لم يغن عن ابن رشد انه تمحل المعاذير وقال انه قد أملأها " ملك البرين " فصحفها النساخون حين نقلوها إلى ملك البربر . . .
إذ كان سم الوقيعة قد سرى مسراه ووافق ما كان في نفس الأمير من الغيظ لمناداته باسم الإخاء , فلم يدفع عنه عذر النديم ما جلبه عليه صدق العلماء .
أو لعله قد وافق في نفس الأمير غيظا ً آخر لم يكن صاحبنا الفيلسوف يلتفت إليه أو يحسبه مما يتعاقب عليه , فقد كان يصادق أخا الخليفة أبا يحيى , والى قرطبة كما كان يصادق الخليفة . . . فلم يعدم واشيا ً يقول وسامعا ً يسمع إن وراء هذه الصداقة للأخ عداوة مستترة لأخيه , يوشك أن تنكشف عن تمرد وعن ولاء للمتمردين .
ولما أراد الخليفة أن ينكبه لم يذكر في أسباب نكبته سببا ً من هذه الأسباب بطبيعة الحال , بل أحال على الدين تبعة هذه النكبة كما سيأتي بيانه , وأعلن من ذنوب الفيلسوف ما هو ذنب الأمير في باطن الأمر , لأنه تعلل عليه بإدمان النظر في كتب القدماء , وقد كان أبو الأمير هو مغريه بالنظر فيها ومعالجة شرحها وتيسيرها لطلابها .
2- نكبته وأسبابها
يحتاج المؤرخ في كل مصادرة فكرية أو دينية إلى البحث عن سببين : احدهما معلن والآخر مضمر , فقليلا ً ما كان السبب الظاهر هو سبب النكبة الصحيح وكثيرا ً ما كان للنكبة – غير سببها الظاهر- سبب آخر يدور على بواعث شخصية أو سياسية تهم ذوي السلطان , ويسري هذا على الشعراء كما يسري على الفلاسفة , ويسري على الجماعات كما يسري على الآحاد .
لقد نكب بشار ولم ينكب مطيع بن إياس , وكلاهما كان يتزندق ويهرف , في أمور الزندقة بما لا يعرف , ولكن بشارا ً هجا الخليفة ومطيع لم يقترف هذه الحماقة , فنجا مطيع وهلك بشار .
ولم يكن ابن رشد أول شارح لكتب الأقدمين , فقد سبقه ابن باجة إلى شرح بعضها وإن لم يتوسع في هذا العمل مثل توسعه , ولكن ابن باجة كان يحسن مصاحبة السلطان وابن رشد لم يكن يحسن هذه الصناعة , فنكب أبن رشد ولم ينكب ابن باجة , ولم يغن عن الفيلسوف المنكوب انه شرح الكتب كما تقدم بأمر من أبي الخليفة .
وقد كتب المؤرخون كثيرا ً عن اضطهاد اليهود في دولة الموحدين , وقيل أنهم كانوا مضطهدين تعصبا ً من رؤساء الدولة لمخالفتهم إياهم في الدين , وحقيقة الأمر أن الخليفة كان يتهم الذين تحولوا منهم إلى الإسلام كما كان يتهم الباقين على دينهم وكان يقول : لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم , ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم وجعلت أموالهم فيئا ً للمسلمين , ولكني متردد في أمرهم وقد كان بعضهم على صلة بخدمة الإفرنج وجاء في كتاب " بغية الملتمس " انه كان في صحبة جيش الادفنش تجار من اليهود وصلوا لاشتراء أسرى المسلمين .
فلم يكن اضطهاد هذه الطائفة لمخالفتها في الدين , ولكنها اضطهدت لما خامر أصحاب الدولة من الشك في مساعيها المخفية , ومنها ما يخشى ضرره على في إبان القتال , وأما في غير هذه الحالة فلم يكن ثمة اضطهاد ولا مصادرة وكان اليهود من ارتقى إلى مناصب الوزارة .
ولا نعتقد أن نكبة ابن رشد كانت شذوذا ً من هذه القاعدة في بعض أسبابها على الأقل أن لم نقل في جميعها , وقد مر بنا أن المنصور أنكر منه مخاطبته إياه بغير كلفة . وانه ذكر في كتاب الحيوان باسم ملك البربر . وانه كان وثيق الصلة بأخيه الذي كان يخشى من منافسته إياه , وبعض هذه البواعث كاف لاستهداف الفيلسوف لغضب المنصور , ولكن المعروف عن أمراء الموحدين أنهم كانوا يتحرجون من إيقاع العقاب بالناس لأمثال هذه الأسباب , فمن الراجح انه تعالى لعقاب ابن رشد بعلة ترضي ضميره وترضي جمهرة شعبه بالذريعة المقبولة في أمثال هذه الأحوال .
فمن هذه الذرائع (( أن قوما ً ممن يناوئه من أهل قرطبة ويدعي معه الكفاءة في البيت وشرف السلف سعوا به عند أبي يوسف ووجدوا إلى ذلك طريقا ً بأن اخذوا بعض تلك التلاخيص التي كانت يكتبها فوجدوا فيها بخطه حاكيا ً عن بعض قدماء الفلاسفة بعد كلام تقدم : فقد ظهر أن الزهرة احد الآلهة . . . . فأوقفوا أبا يوسف على هذه الكلمة , فاستدعاه بعد أن جمع له الرؤساء والأعيان من كل طبقة وهم بمدينة قرطبة , فلما حضر أبو الوليد رحمه الله – قال له بعد أن نبذ إليه الأوراق : أخطك هذا ؟ فأنكر . . . فقال أمير المؤمنين : لعن الله كاتب هذا الخط وأمر الحاضرين بلعنه )) .
ونحن نعلم اليوم بعد دراسة أساطير اليونان أنهم كانوا يسمون الزهرة ربة الحب وأنهم اخذوا هذا من البابليين , وان كلمة فينوس – أي الزهرة – مأخوذة من كلمة بنوت أي بنت وكانت فاءها تكتب باء في بعض الكتب اليونانية القديمة وان هذا كله لا يتعدى المجاز كما يقول القائل منهم رب البحر وربة العاب وربة الغناء وأشباه هذه الاسطورات . ولا يبعد أن الأسطورة قد رويت في كتب ابن رشد كما نقلها عن اليونان على هذا المثال . أما أن يكون ابن رشد معتقدا ً بربوبية الزهرة ربة الحب أو ربة غيره فذلك بعيد , جد بعيد .
وقيل في أسباب النكبة إن حساد ابن رشد دسوا عليه أناسا ً من تلاميذه يستملونه شرح الكتب الفلسفية فشرحها لهم ونقلوها عنه كأنها من رأيه وكلامه واشهدوا عليها مئة شاهد ثم رفعوها إلى الخليفة وطلبوا عقابه لانحلال عقيدته , فنكبه وألزمه أن ينزوي في قرية " لوسينا " بجوار قرطبة , ولا يبرحها .
فإذا صح حدوث هذا في إبان اشتغال الخليفة بحرب الإفرنج وتوجسه من أهبة الخارجين عليه في الخفاء فالأرجح هو ذريعة النكبة , لان الغضب الديني يحتدم في إبان العداوات الدينية , فلا يتحرج الخليفة من إرضاء الناس وإرضاء ضميره وإرضاء هواه في مثل هذه الحال , وقد نكبت مع ابن رشد طائفة من القضاء والفقهاء , وذوي المناصب لا يبعد أن يكون الخليفة قد ظن بهم الظنون وشك في ممالأتهم لمنافسيه ومناظريه ولم يتسع له الوقت لاستقصاء مظان التهمة , ولا كان في وسعه أن يسكت عن قضية الثائرين باسم الغيرة على الدين فلحقت به النكبة من هذا الطريق .
وجاء في ترجمة الأنصاري له (( حدثني الشيخ أبو الحسن الرعيني رحمه الله , قراءة عليه ومناولة من يده ونقلته من خطه قال : وكان قد اتصل – يعني شيخه أبا محمد عبد الكبير – بابن رشد المتفلسف أيام قضائه بقرطبة وحظى عنده فاستكتبه واستقصاه , وحدثني رحمه الله وقد جرى ذكر هذا المتفلسف وما له من الطوام في محادة الشريعة فقال : إن هذا الذي ينسب إليه ما كان يظهر عليه , ولقد كنت أراه يخرج إلى الصلاة واثر ماء الوضوء على قدميه , وما كدت اخذ عليه فلتة واحدة , وهي عظمى الفلتات , وذاك حين شاع في المشرق والأندلس على السنة المنجمة أن ريحا ً عاتية تهب في يوم كذا وكذا في تلك المدة تهلك الناس , واستفاض ذلك حتى جزع الناس منه واتخذوا الغيران والأنفاق تحت الأرض توقيا ً لهذه الريح , ولما انتشر الحديث بها وطبق البلاد واستدعى إلى قرطبة إذ ذاك طلبتها وفاوضهم في ذلك , وفيهم ابن رشد – وهو القاضي بقرطبة يومئذ – وابن بندود فلما انصرفوا من عند الوالي تكلم ابن رشد وابن بندود في شأن هذه الريح من جهة الطبيعة وتأثيرات الكوكب , قال شيخنا أبو محمد عبد الكبير – وكنت حاضرا ً – فقلت في أثناء المفاوضة : إن صح أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي اهلك الله تعالى بها قوم عاد , إذ لم تعلم ريح بعدها يعم إهلاكها . قال : فانبرى إلى ابن رشد ولم يتمالك أن قال : والله وجود قوم عاد ما كان حقا ً فكيف سبب هلاكهم ؟ فسقط في أيدي الحاضرين واكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين أيديه ولا من خلفه ))
وقصة عبد الكبير هذه لم يرد لها ذكر في سياق الاتهام والمحاكمة , وقد كان الاستناد إليها أولى من تصيد التهم واختلاس الأوراق والبحث فيها عن المعاني المتشابهة , لان الكلمة قد بدرت من ابن رشد – إذا صحت قصة عبد الكبير – على مسمع من حاضرين كثيرين .
ومن الغريب حقا ً أن تبدر تلك الكلمة من ابن رشد مع التزامه بشعائر الدين قبل النكبة وبعدها , وقد كان صاحب القصة يراه – كما قال – يخرج إلى الصلاة وعلى قدميه اثر الماء , وقد اعترف كاتب المنشور الذي أذاع حرمان ابن رشد بهذا الحرص على التزام الشعائر فقال (( أنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم ويخالفونهم بباطنهم وغيهم وبهتانهم )) . وقد ثابر على حضور الصلاة في المسجد بعد النكبة واخبر عنه أبو الحسن بن قطرال فقال (( إن أعظم ما طرأ عليه في النكبة انه دخل وولده عبد الله مسجدا ً بقرطبة – وقد حانت صلاة العصر – فثار لهما بعض سفلة العامة فأخرجوهما )) . وكان يقول في درس الطب : ( من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانا ً بالله ) .
فصدور الكلمة التي نقلها عبد الكبير عن ابن رشد غريب غاية الغرابة من رجل يظهر ذلك الورع ويلتزم الشريعة ذلك الالتزام ولو كان يفعل ذلك من باب الرياء والمداراة , فإن متعمد الرياء احرص على بدواته وسهواته من المخلص الذي يأمن الريبة ولا يتكلف الاحتراس مع الناس .
إلا أن التمحل باسم الدين لم يكن بالنادر في ذلك الزمان , وقد عرفنا شواهده المكتوبة في كلام رجل من أهل العلم كالفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان , فإنه رضي عن ابن باجة فقال عنه انه ( نور فهم ساطع وبرهان كل علم لكل حجة قاطع , تتوجت بعصره الإعصار وتأرجحت من طيب ذكره الأمصار )) .
ثم سخط عليه فقال : ( هو رمد عين الدين , ونكد النفوس المهتدين . نظر في تلك التعاليم وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم ورفض كتاب الله الحكيم العليم . ) .
فإذا جاز هذا من رجل كالفتح بن خاقان في رجل يحسن مسايرة الناس كابن باجة , فليس بالبعيد أن يصيب ابن رشد طائف من تلك التهم وهو في تزمته وصدقه ومكانته العالية عرضة لنقمة الكاذبين والحاسدين .
ولا نعني أن كتبه لم يكن فيها ما يساء فهمه أو ما يفهمه المخالف فينكره , ولكننا نعني أن سر التهمة كلها بعيد من هذه العلل , وان للنكبة باطنا ً غير ظاهرها , ليس من العسير أن نستشفه من مجمل أحواله وأحوال زمنه وأميره .
فمن مجمل أحواله انه كان رجلا ً يحسن المساجلة ولا يحسن المنادمة ولا يبالي تزييف لغة البلاط في سبيل تحقيق لغة العلم ورفع الكلفة من مجالس الباحثين فيه ولو كانوا من الملوك والأمراء , ومما يصح أن يشار إليه من لواحق هذا انه غفل عن مكانة الغزالي عند ملوك الموحدين , وهو أستاذ أستاذهم الأكبر , فرد عليه دفاعا ً عن الفلاسفة ولم يبال في هذا الدفاع أن ينسب إليه المغالطة
ومن مجمل أحوال الزمن انه كان زمن العداوات الدينية وكانت أخطار الحروب فيه بين المسلمين والإفرنج على أشدها , فكان من أصعب الأمور على الحكام أن يتعرضوا لغضب العامة إذا وقع في وهم هؤلاء أن قاضيا ً من أعظم القضاة يشتغل بالعلوم التي يرتابون بها ويحسبونها من الكفر والضلالة , وقد اشتهر عن ابن رشد انه كان مصادقا ً لأخي الخليفة , وتبين من تاريخ تلك الفترة أن المنافسة فيها على الملك كانت حربا ً ضروسا ً لا تنقطع في وقت من الأوقات , فلا يبعد أن ينكب الخليفة ابن رشد اتهاما ً له بمشايعة أخيه واتهاما ً لأخيه بمصاحبة الفلاسفة وإضمار الكفر والضلالة
أما عفو الخليفة عن ابن رشد بعد ذلك فليس تفسيره بالعسير , فانه قد عفا عنه عقب عودته من الأندلس إلى مراكش وبعد زوال الغاشية ووضوح الحقيقة في ظنونه بأخيه وجلساء أخيه , وقد قيل انه اقبل على الفلسفة التي تجنبها حينا ً فأكثر من الاطلاع على كتبها , فإذا وافق ذلك شفاعة الشافعين في الحكيم المغضوب عليه فقد وضح سر النكبة وسر العفو ولم يكن فيه غريب غير مألوف من خلائق الملوك وخلائق الدهماء , مع الحكماء والفضلاء .
جوانب ابن رشد
1- أثار ابن رشد
لا ندري ماذا احرق من تلك الشروح عند نكبة الفيلسوف وماذا أعان الزمن على ضياعه بعد موته , ولكن البقية الباقية منها تدل على شروح متعددة لا على شرح واحد لكل كتاب تناوله من كتب الفلسفة أو الطب بالتفسير والتيسير , فقد كان من دأبه على ما يظهر أن يتناول الكتاب بالشرح المطول ثم بالشرح الوسيط ثم بالإيجاز الذي لا يقترن بشرح كثير , وقد سرد ابن أبي أصبيعة أسماء هذه الشروح , ومنها تلخيص كتاب ما بعد الطبيعة وتلخيص كتاب الأخلاق وتلخيص كتاب البرهان وتلخيص كتاب السماع الطبيعي وشرح كتاب السماء والعالم وكتاب النفس وكلها من فلسفة أرسطو , ومنها في الطب تلخيص كتاب الاسطقات " أي العناصر والأصول " وكتاب المزاج وكتاب القوى الطبيعية وكتاب العلل والأعراض وكتاب التعرف وكتاب الحميات وأول كتاب الأدوية والنصف الثاني من كتاب حيلة البرء , وكلها لجالينوس .
ولم يكن ابن رشد يعرف اليونانية ولكنه اعتمد على المترجمات التي نقلت من الشرق إلى الأندلس , وعلى أستاذه أبي جعفر هرون الطبيب المشارك في الحكمة وعلم الكلام .
ومن تآليفه في الطب غير هذه الشروح كتاب الكليات , وقصد أن يجمع فيه الأصول الكلية وان يعهد إلى صديقه ابن زهر أن يتممه بكتاب في الأمور الجزئية " لتكون جملة كتابيهما كتابا ً كاملا ً في صناعة الطب " وقد أشار إلى ذلك في ختام كتابه فوعد بإيفاء الجزئيات في " وقت نكون فيه اشد فراغا ً لعنايتنا في هذا الوقت بما يهم من غير ذلك , فمن وقع له هذا الكتاب دون هذا الجزء وجب أن ينظر بعد ذلك في الكنايش – أي الكناشات والتعليقات – وأوفق الكنايش له الكتاب الملقب بالتيسير الذي ألفه في زماننا هذا مروان بن زهر , وهذا الكتاب سألته أنا إياه وانتسخته فكان ذلك سبيلا ً إلى خروجه .
ولابن رشد شرح على ارجوزة لابن سينا في الطب , وتعليقات من قبيل المذكرات توجد منها أوراق متناثرة في بعض المكتبات الأوروبية .
وله من التواليف – عدا الشروح – رد على تهافت الفلاسفة للغزالي سماه " تهافت التهافت " ورسالة في التوفيق بين الحكمة والشريعة سماها ( فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ) ورسالة في نقد براهين المتكلمين والمتصوفة سماها الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة ) وكتاب( في الفحص هل يمكن العقل الذي فينا – وهو المسمى بالهيولاني – أن يعقل الصور المفارقة أو لا يمكن ذلك , وهو المطلوب الذي كان ارسطوطاليس وعدنا بالفحص عنه في كتاب النفس ) ومقالة في أن ما يعتقده المشاؤون وما يعتقده المتكلمون من أهل ملتنا في كنيته وجود العالم متقارب في المعنى , ومقالة في المقابلة بين آراء أرسطو وآراء الفارابي , وغير ذلك تعليقات وردود على ابن سينا وابن باجة وابن الطفيل في مسائل النفس والعقل والاتصال بالفعل وما قيل عن قدم العالم وحدوثه هي اقرب إلى المقالات القصار منها إلى المطولات .
وهناك قوائم بأسماء مؤلفاته التي لا تزال محفوظة في مكتبة الاسكوريال باسبانيا لا حاجة إلى إثباتها هنا , لان موضوعاتها الفلسفية جميعا ً داخلة في هذه الموضوعات التي اشتهر الفيلسوف بشرحها أو الكتابة فيها .
أما كتبه في الفقه فالمعروف منها كتاب ( بداية المجتهد ونهاية المقتصد ) وهو مرجع لم يزل معتمدا ً بعد نكبة مؤلفه يضرب به المثل في الشعر للإجادة والطموح , كما قال ابن زمرك بعد وفاة ابن رشد بأكثر من مائتي سنة :
أمولاي قد أنجحت رأيا ً وراية ولم يبق في سبق المكارم غاية
فهدى سجاياك ابن رشد نهاية وإن كان هذا السعد منك بداية
سيبقى على مر الزمان مخلدا ً
وترجم أكثر المؤلفات الطبية والفلسفية إلى اللاتينية والعبرية , وضاعت أصول الكثير منها وبقيت ترجماتها , ومنها ما هو محفوظ إلى اليوم في مكتبات سويسرة وباريس بنصه العربي مكتوبا ً بحروف عبرية . أما الكتب الميسرة للقارئ العربي بمصر وما جاورها فهي في الفقه كتاب " بداية المجتهد , وهو مطبوع , وفي الفلسفة كتاب " تفسير ما بعد الطبيعة " وتلخيص كتاب " المقولات " و " تهافت التهافت " وكلها مطبوع .
وله رسالة لطيفة في تلخيص كتاب الخطابة لأرسطو مطبوعة بالقاهرة وتوجد من مؤلفاته بدار الكتب المصرية مخطوطة لشرحه على أرجوزة الطب لابن سينا , ومخطوطة لجوامع كتاب النفس لأرسطو .
وقد طبع معهد فرانكو بالمغرب الأقصى كتابه " الكليات " في الطب منقولا ً بالمصورة الشمسية , مشفوعا ً بوصف العقاقير والأدوية التي وردت فيه إشارة إليها .
وهذه المجموعة الميسرة للقارئ العربي بمصر تجزئه في الإلمام بجوهر " الرشدية " في جوانبها المختلفة . لأنها تشمل أقوالا ً له في الطب والفقه والفلسفة , كما تشمل طرائفه في التأليف والشرح والتلخيص .
ومن المحقق أن آثاره الباقية اقل من آثاره التي انتشرت في أيام حياته فقد احرق منها في حياته شيء . وحرم بعد مماته شيء . وعجل الكمد بأجله فلم ينفع العفو عنه والرجوع به إلى سابق مكانته . ومرض بعد استدعائه إلى مراكش والعفو عنه مرضه الذي مات به ( ليلة الخميس التاسعة من صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة , بموافقة عاشر دجنبر ) ودفن بجبانة باب تاغزوت ثم نقل رفاته إلى قرطبة حسب وصيته , فدفن بها في روضة سلفة بمقبرة ابن عباس .
واختلفوا في تاريخ وفاته فقال ابن الأبار : (( وامتحن بأخرة من عمره فاعتقله السلطان وأهانه , ثم عاد فيه إلى أجمل رأيه واستدعاه إلى حضرة مراكش فتوفي بها يوم الخميس التاسع من صفر سنة خمسمائة خمس وتسعين , قبل وفاة المنصور الذي نكبه بشهر أو نحوه , ودفن بخارجها , ثم سيق إلى قرطبة فدفن بها مع سلفه رحمه الله وذكر ابن فرقد انه توفي بحضرة مراكش بعد النكبة الحادثة عليه المشهرة الذكر في شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وخمسمائة , وغلط ابن عمر فجعل وفاته تاسع صفر سنة ست وتسعين ومولده سنة عشرين وخمسمائة قبل وفاة جده القاضي أبي الوليد بأشهر )) .
والأصح على أرجح الروايات , ومع مضاهاة التقويم الهجري على التقويم الميلادي , انه توفي في التاريخ الذي ذكره الأنصاري آنفا ً , وقد أعقب ذرية لم يشتهر منهم غير ولده عبد الله الذي تعلم الطب كأبيه وعمل في بلاط الخلفاء .
2- فلسفة ابن رشد
أو على الأصح إنهما فلسفتان لا فلسفة واحدة :
فلسفة ابن رشد كما يفهمها الأوربيون في القرون الوسطى , وفلسفة ابن رشد كما كتبها هو واعتقدها ودلت عليها أقواله المحفوظة لدينا .
وفلسفة ابن رشد كما فهمها الأوربيون في القرون الوسطى يلاحظ عليها ثلاثة أمور :
أولها أنهم اعتمدوا في فهم فلسفته على شروحه لأرسطو وتلخيصاتها لبعض كتبه , ومهما يكن من إعجاب ابن رشد بأرسطو فآراء الفيلسوف العربي لا تطابق آراء الفيلسوف الإغريقي في كل شيء وثانيها أنهم اعتمدوا على تلك الشروح والتلخيصات مترجمة إلى اللغة اللاتينية أو العبرية , ولا تخلو الترجمة من اختلاف .
وثالثها أن فلسفة ابن رشد ذاعت بين الأوروبيين في إبان سلطان محكمة التفتيش التي كانت تتعقب الفلسفة العربية الأندلسية , على الخصوص , وتحرم الاشتغال بالعلوم التي تخالف أصول الدين في تقديرها , فمن الطبيعي أن تنسب إلى ابن رشد كل معنى يسوغ ذلك التحريم ويقيم الحجة على صوابه , وان تؤكد كل فكرة تلوح عليها المخالفة , وإن جاز تأويلها على عدة وجوه .
أما فلسفة ابن رشد كما كان يعتقدها فالمعول فيها على كتبه " كمنهاج الأدلة " و " فصل المقال " وعلى أرائه التي يبديها في سياق مناقشاته كتلك الآراء التي قال بها في ردوده على الغزالي من كتاب تهافت التهافت , ثم على أرائه في شرحه للمقولات وتفسيره لما بعد الطبيعة , وما شابه هذه الآراء في الكتب الأخرى التي يتيسر الوصول إليها .
وبين الفلسفتين : فلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى وفلسفته كما اعتقدها – مواضع اختلاف يمس الجوهر أحيانا ً أو يسمح بتفسير آخر في غير تلك الأحيان .
لخص الأستاذ موريس دي ولف آراء ابن رشد في كتابه عن تاريخ فلسفة القرون الوسطى , , فقال : (( كانت اسبانيا في القرن العاشر ملتقى أجناس كثيرة مختلفة اشد اختلاف , فكان اليهود والمسيحيون في دول المسلمين يعيشون جنبا ً إلى جنب مع العرب . وساعد هذا على جعل اسبانيا مركزا ً لحركة فلسفية قوية إلى القرن الثالث عشر .
ويرجع أصل الفلسفة العربية الاسبانية إلى القرن التاسع حين جدد ابن مسره آراء امبدوقليس المزعومة , ونجد في القرن الحادي عشر اسمي ابن حزم القرطبي وابن باجة السرقسطي , وكان الأخير مؤلف كتب في المنطق ورسالة في النفس وشروح عدة لأرسطو وكتاب عن هداية المتوحد يصور درجات الاتصال عند المتصوفة , وتجد كذلك اسم ابن الطفيل وعنده مثل هذه الميول الصوفية.
ولكن أحدا ً من هؤلاء الفلسفة لم يبلغ ابن رشد في ذيوع الصيت . . . ولم يكن لإعجابه بأرسطو حد . ولكن لا يفهم من هذا أن فلسفته إنما هي نسخة من الفلسفة الأرسطية .
ويمكننا أن نقسم شروح أرسطو التي تركها ابن رشد إلى ثلاثة أقسام :
الشروح الكبرى والشروح الصغرى والمختصرات أو المقتبسات , فالشروح الكبرى تتابع الأصل متابعة دقيقة ثم تشفعها بالتفسير المستفيض , والشروح الأخرى أكثر تركيزا ً وتنظيما ً في معالجة الموضوعات وترتيبها , وتورد عليها مناقشات وإضافات شخصية لا يسهل استخراج الآراء المنسوبة إلى أرسطو من خلالها , وإنما يتبع ابن رشد فيلسوف استاجيرة بغاية الدقة في المنطق وحده )) .
ثم استطرد المؤلف إلى تلخيص فلسفة ابن رشد بعد بيان كتبه التي كانت متداولة بين قراءة اللاتينية فقال :
(( إن وجود الكائن الأعلى – الله – هو موضوع فلسفة ما بعد الطبيعة واثبات وجوده قائم بالبراهين الفقهية . وهو الذي تصدر عنه العقول منذ الأزل , وكل موجود غير الله لا يفسر وجوده بغير عمل الخالق , فليست العقول صادرة على التتابع واحدا ً بعد الآخر على حسب مذهب ابن سينا , بل هي من خلق الله أصلا ً . وإنما يأتي تعددها من أنها لا تتساوى في الكمال والصفاء , وهي في الخارج متصلة بالأفلاك , فالسماوات جملة من الأفلاك كل منها له صورة من احد العقول , والمحرك الأول يحرك الفلك الأول , وهذا يحرك الأفلاك الأخرى إلى القمر الذي يحركه العقل الإنساني , لأنه يتصل بمداركنا ومعقولاتنا وله عمل على اتصال بما فوق الطبيعة كما في مذاهب ابن سينا .
والمادة قديمة مع الله , لان العدم لا يتعلق به عمل خالق . وهي عاجزة عن العمل ولكنها ليست خواء تناط به الصور منا في مذهب الأفلاطونية الحديثة , بل هي قابلية عامة تشتمل على الصور المختلفة , ومع حضور هذه المادة القديمة يخرج منها الخالق قواها العاملة , وينشأ العالم المادي من أثر هذا الخلق الدائم , ولا بد من تتابع هذه الحركات بلا بداية ولا نهاية .
والعقل الإنساني – وهو آخر سلسلة الأفلاك – هو صورة غير مادية , أبدية , منفصل من الآحاد متحد في جملته , وهذا العقل هو العقل الفعال والعقل الهيولاني أو العقل الممكن معا ً . والعقل الإنساني في أفراد النوع البشري جميعا ً واحد لا ينفصل بانفصال الأشخاص ولا يتغير بتغير الذات , وهو النور الذي يضيء النفوس البشرية ويفكل للبشر مشاركة لا تتبدل في الحقائق الأبدية .
والمعرفة العقلية في الإنسان الفرد تجري على النحو الآتي : فالعقل بتأثيره في أشكال الحواس التي تخص كل إنسان يتصل بذلك الإنسان حسب استعداده من غير أن يلحقه نقص بهذه الصلات المتعددة , وأول درجة من درجات هذا التعقل تحدث في الإنسان ما يسمى بالعقل المكتسب وبه يشترك العقل الخاص المنفصل في مدركات العقل التام المتحد , وهناك اتصالات أخرى بين عقل الإنسان العام وهي الاتصالات التي تأتي من إدراك الماهيات المفارقة , وأعلاها وارفعها ما يأتي من المعرفة اللدنية ووحي النبوة .
ويستتبع هذا القول أن الحياة بعد الموت عامة غير شخصية , ويعني كل شيء في الإنسان إلا عقله الذي ليس هو بجوهر مستقل بل هو عقل النوع البشري كله عام في جميع آحاده .
وكثير من آراء ابن رشد يخالف المعتقدات الإسلامية , والواقع انه نبذ لان الخليفة اتهمه بانحلال العقيدة . على انه لم يكن جاحدا ً منكرا ً للدين , بل عنده أن الدين يصور الحقائق الفلسفية على أسلوب المجاز , وهو يميز بين التفسير الحرفي لنصوص القرآن وبين معانيها التي يدركها الحكماء ويرتفعون بها وحدهم إلى الحقائق العليا , ومن واجب الفلسفة أن تنظر فيما هو من تقليد الدين وما هو من القضايا التي تحتمل التفسير وعلى أي وجه يكون تفسيرها , وقد تسنى لابن رشد على هذه القاعدة أن يوافق بين القول بحدوث العالم على مذهب الغزالي والقول بقدمه على مذهب المشائين , وله رسالة خاصة يحاول بها هذا التوفيق . وفيها أول إيحاء بمذهب الحقيقة المزدوجة الذي توسع فيه الرشديون اللاتين فأفرطوا في تطبيقه )) .
وهذا تلخيص أمين لفلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى لخصه عالم بالمصادر من المخطوطات والمطبوعات , جاء فيه بما شغل القوم من تلك الفلسفة عدة قرون , ولم يهمل فيه إلا مسألتين هما مسألة علم الله بالجزئيات , ومسألة صفات الله , أما مسألة علم الله بالجزئيات فلعله أهملها لأنها لم تكن أصيلة في فلسفة ابن رشد , وإما مسألة صفات الله فلعل الأوروبيون في القرون الوسطى أهملوها لان إيمان العالم المسحي بالأقاليم الثلاثة في اله واحد لم يجعل تعدد الصفات مشكلة لاهوتية لها من الشأن ما كان لهذه المسألة عند المتكلمين والمعتزلة من المسلمين , وابن رشد لم يطلع على كتب المعتزلة كما قال في كتابه عن منهاج الأدلة , فمن ثم لم يتوسع في هذا الموضوع .
وأصاب مؤلف تاريخ الفلسفة في القرون الوسطى حين قال إن فلسفة ابن رشد كانت تخالف في بعض مسائلها ما عليه جمهرة الفقهاء من المسلمين , وقد حصر الأمام الغزالي في آخر كتابه ( تهافت الفلاسفة ) أهم المسائل التي دار عليها الخلاف بين الفقهاء والفلاسفة وقيل فيها بتكفير هؤلاء , وهي ثلاث مسائل : أحداها مسألة قدم العالم وان الجواهر كلها قديمة , وقولهم إن الله لا يحيط علما ً بالجزئيات الحادثة من الأشخاص , والثالثة إنكارهم بعث الأجساد وحشرها .
وقبل تلخيص مذهب ابن رشد في كل مسألة من هذه المسائل الثلاث نجمل آراء الفلاسفة الإلهيين فيها , ونعني بهم الفلاسفة الذين يؤمنون بوجود الإله تمييزا ً لهم من الفلاسفة الماديين من الأقدمين والمحدثين .
فالفلاسفة الإلهيون الذين قالوا بقدم العالم – وعلى رأسهم أرسطو – لم يكن منهم احد قط يقول بقدم العالم ويعني بذلك أن وجود العالم مساو لوجود الله وإنما يقولون إن وجود العالم متعلق بإرادة الله قديمة لا تراخي لما تريده وإن العالم لم يسبقه زمان لان الزمان من حركته .
أما علم الله بالجزئيات فلم يوجد فيلسوف الهي قط ينكر إحاطة الله سبحانه وتعالى بالجزئيات أو الكليات , وإنما ينزهون علم الله أن يكون كعلم الإنسان فان علم الإنسان تابع للأشياء التي يعلمها , وهو يعلمها جزءا ً جزءا ً ثم يحكم عليها جملة ويستخرج من علم الجزئيات علمه بالكليات .
والفلاسفة ينزهون علم الله أن يكون كهذا العلم , ويقولون إن الله محيط بالجزئيات قبل وقوعها , على نحو اشرف وأكمل من العلم الذي يتاح للإنسان ويكون في كل حال تابعا ً لما يعلمه متوقفا ً عليه .
أما البعث فإن الفلاسفة الماديين لا يؤمنون ببعث الأجساد ولا ببعث النفوس , وليس من الفلاسفة الإلهيين من ينكر بعث الأجساد إنكارا ً منه لقدرة الله على بعثها , ولكنهم يقولون إن الأرواح المفارقة أشبه بالعالم الأعلى , ومن امن بالله وامن بقدرة الله وامن بالبعث فما هو من الملحدين .
وأما مسألة الصفات التي لم يذكرها الغزالي مع تلك المسائل الثلاث فلم تكن موضع بحث عند الفلاسفة الإغريق ولم يكن لها شأن كبير عند فلاسفة الأوروبيين في القرون الوسطى , ولكنها أثارت الجدل الطويل بين علماء الكلام والمعتزلة والفلاسفة من المسلمين , ومثار الجدل فيها أن بعض الفلاسفة يقولون إن صفات الله هي غير ذاته , وإن الصفات ليست بزائدة على ذات الله لان ذاته سبحانه وتعالى كاملة لا تتعدد , وغير هؤلاء الفلاسفة يردون عليهم ليوافقوا بين تعدد الصفات ووحدانية الله .
وقد كانت لابن رشد آراءه في كل مسألة من هذه المسائل , ليست مطابقة كل المطابقة لما فهمه الأوروبيين في القرون الوسطى , وليست مغايرة لها كل المغايرة , ولكنها آراء كان الفيلسوف حريصا ً جد الحرص على أن يلتزم بها حدود دينه ولا يخرج بها عما يجوز للمسلم أن يعتقده وان يعلمه للمسلمين , وسنرى مبلغ ما أصابه من التوفيق في هذا التوفيق . وهذه هي خلاصة آراءه في هذه المسائل وفي غيرها من مسائل الحكمة والعقيدة , معتمدين فيها على نصوصه العربية التي بين أيدينا , غير معولين فيها على نصدر من المصادر الأجنبية .
قدم العالم
يقول ابن رشد عن قدم العالم في كتابه ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ) : واما مسألة قدم العالم أو حدوثه فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الاشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعا ً للاختلاف في التسمية , وبخاصة عند بعض القدماء , وذلك أنهم اتفقوا على أن ها هنا ثلاثة أصناف من الموجودات : طرفان وواسطة بين الطرفين , فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة .
فأما الطرف الواحد فهو موجود من شيء غيره , وعن شيء أعنى عن سبب فاعل ومن مادة , والزمان متقدم عليه , وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك . فهذا الصنف من القدماء اتفق الجميع من القدماء والاشعريين على تسميتها محدثة ( هكذا ) .
وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شيء ولا عن شيء ولا تقدمه زمان , وهذا أيضا ً اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديما ً , وهذا الموجود يدرك بالبرهان , وهو الله تبارك وتعالى , وهو فاعل الكل وموجده والحافظ له سبحانه وتعالى قدره .
وأما الصنف من الوجود الذي بين هذين الطرفين فهو موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه زمان ولكنه موجود عن شيء أي عن فاعل , وهذا هو العالم بأسره , والكل متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم , فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه , أو يلزمهم ذلك , إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام .
وهم أيضا متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غبر متناه , وكذلك الوجود المستقبل , وإنما يختلفون في الماضي والوجود في الماضي , فالمتكلمون يرون أنه متناه وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته , وأرسطو وفرقته يرون انه غير متناه كالحال في المستقبل , فهذا الموجود الآخر الأمر فيه بين انه قد اخذ شبيها ً من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم , فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديما ً , ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثا ً .
وهو في الحقيقة ليس محدثا ً حقيقيا ً ولا قديما ً حقيقيا ً , فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة , والقديم الحقيقي ليس له علة , ومنهم من سماه محدثا ً أزليا ً وهو أفلاطون وشيعته , لكون الزمان متناهيا ً عندهم من الماضي .
فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر .
فإن الآراء التي من شانها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد . . . وإن ظاهر الشرع إذ تصفح ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة , وان نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين , اعني غير منقطع , وذلك أن قوله تعالى : ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ) , يقتضي مظاهره وجودا ً قبل هذا الوجود وهو العرش والماء , وزمانا ً قبل هذا الزمان , اعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك , وقوله تعالى ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ) يقتضي أيضا وجودا ً ثانيا ً بعد هذا الوجود وقوله تعالى :( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) . يقتضي بظاهره أن السماء خلقت من شيء .
والمتكلمون ليسوا في قولهم أيضا في العالم على ظاهر الشرع , بل متأولون , فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودا ً مع العدم المحض ولا يوجد هذا فيه نصا ً أبدا ً , فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع منعقد عليه )) .
وقد تناول الغزالي هذه المسألة في تهافت الفلاسفة فقال إن وجود الزمان قبل وجود العالم غير لازم (( ولو كان الله ولا عيسى مثلا ً , ثم كان الله وعيسى لم يتضمن اللفظ إلا وجود ذات وعدم ذات , ثم وجود ذاتين , وليس من ضرورة ذلك تقدير شيء ثالث وهو الزمان )) .
فأجابه ابن رشد فقال : (( صحيح إلا انه يجب أن يكون تأخره عنه ليس تأخرا ً زمانيا ً )) .
ونرى أن ابن رشد يقول هنا إن المسألة (( غير برهانية , ولكن فلاسفة الأوروبيين في القرون الوسطى يعيدون قول هذا القول ويحسبونه ردا ً عليه , كما فعل القديس توما الاكويني في الفصل الذي عقده على مبادئ الخليقة من كتابه ( مجمل اللاهوت , فإنه ذكر قول أرسطو في قدم العالم ثم أشار إلى كلام له في كتاب الجدل فقال : (( والوجه الثالث – أي من وجوه الرد على قدم العالم – انه قال صريحا ً إن ثمة مسائل جدلية لا يتأتى حلها بالبرهان كمسألة قدم العالم )) .
وقد ردد ابن رشد نقده لبراهين معارضيه فقال : (( إن الطرق التي سلك هؤلاء القوم في حدوث العالم قد جمعت بين هذين الوصفين معا ً اعني أن الجمهور ليس في طباعهم قبولها ولا هي مع هذا برهانية , فليست تصح لا للعلماء ولا للجمهور )) .
وتناول في كتابه منهاج الأدلة هذا المبحث من رسالة أبي المعالي الموسومة بالنظامية حيث يقول أبو المعالي : (( إن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلا اصغر مما هو عليه , واكبر مما هو , أو بشكل آخر غير الذي هو عليه , أو عدد أجسامه غير العدد الذي هو عليه , أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها , حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق , وفي النار إلى أسفل , وإن الجائز محدث وله محدث أي فاعل صيره بإحدى الحالتين )) .
فأجاب ابن رشد على هذا بما فحواه أن المصنوع لحكمة إنما يكون على الوجه الذي يحقق تلك الحكمة ولا يكون عبثا ً – تنزه الخالق عن العبث – ثم قال إن (( ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيه بما يعرض لمن ينظر في أجزاء الموضوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنائع , وذلك أن الذي هذا شأنه قد سبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات أو جلها ممكن أن يكون بخلاف ما هو عليه , ويوجد عن ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من اجله , اعني غايته , فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة , وأما الصانع الذي يشارك في شيء من علم ذلك فقد يرى أن الأمر بضد ذلك وانه ليس في المصنوع إلا شيء واجب ضروري , أو ليكون المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضروريا فيه , وهذا هو معنى الصناعة , والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع فسبحان الخلاق العظيم )) .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف