الأخبار
نتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّاتإعلام الاحتلال: نتنياهو أرجأ موعداً كان محدداً لاجتياح رفحإصابة مطار عسكري إسرائيلي بالهجوم الصاروخي الإيرانيالجيش الإسرائيلي: صفارات الانذار دوت 720 مرة جراء الهجوم الإيرانيالحرس الثوري الإيراني يحذر الولايات المتحدة
2024/4/16
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

موسم الهجوم على الإسلام والمسلمين مع "قسمة الغرماء" ليوسف القعيد - الدراسة مهداة إلى الأستاذة فتحية صرصور

تاريخ النشر : 2012-02-07
موسم الهجوم على الإسلام والمسلمين مع "قسمة الغرماء" ليوسف القعيد
(ط. دار الساقى/ لندن/ 2004م)
د. إبراهيم عوض
[email protected]

{هذه الدراسة مهداة إلى الأستاذة فتحية صرصور بنت غزة الأصيلة}

وقعتُ فى صحيفة من الصحف على مقالة تتناول بالتعليق رواية يوسف القعيد: "قسمة الغرماء" كتبها أحد النقاد، ونصها: "يوسف القعيد كاتب مصري قدير احترف الصحافة والسياسة ورفقة العظماء. جمع بتوازن مدهش بين نضارة الوعي بالريف والالتزام بأخلاقياته، مع العلم ببواطن الأمور في المدينة والقدرة على اجتياز مسالكها الوعرة. ولعل خصوصية يوسف القعيد تكمن في استمرار ولائه الناصري لطفرة الستينات من القرن العشرين من دون تحفظات أيديولوجية كبيرة.
رواية "قسمة الغرماء" تغوص في أعماق الواقع المصري، وتوظف تقنية جديدة عند مؤلفها، وهي تعدد الرواة الموزعين على الفصول بالتناوب، بما يطرح مفارقات عوالمهم المختلفة ويقدح شرر التواصل والتناقض في علائقهم المتشابكة، وإن كانوا يبدون كما لو كانوا يسكنون صناديق متجاورة غير متحاورة يتم الكشف التدريجي عن فحواها كلما تقدمت حركة السرد واحتدمت درامية المواقف. على أن بؤرة الأحداث التي تتكثف عبر يوم واحد فحسب هو زمن الرواية تجسد أزمة التدين المفتعل في المجتمع المصري الراهن وما تفرز من توترات غريبة على طبيعته المستقرة في جمعها بين الأضداد باتساق محسوب يضمن للحياة إيقاعها الباطني المفعم بالشهوة والتنسك معا.
يحكي الفتى ماجد عبود بقطر في الفصل الأول من الرواية قصة رحلته الشهرية من الفندق المتواضع الذي يقيم فيه مع أمه في حي شبرا المكتظ بسكانه والمختلط في شعائره إلى "أبلة مهرة" في المعادي. وبقدر ما يجترح القعيد شيئا من الانتهاكات اللغوية المحببة يقترب من روح العامية المصرية في أطرف تجلياتها. وأهم من ذلك ينجح في تخليق نماذج مدهشة من الشخصيات التي تعلق بالذاكرة وتستقر في الضمير الأدبي. "الجنرال عفارم"، الذي يطلع علينا من هذه الرواية، يختلف عن دراويش نجيب محفوظ بأنه صريع الجمال ومجنون غانية فريدة، وهي "مهرة"، التي تَمَثَّلها باعتبارها مليكة مصر، وهو واليها المنتظر طبقا لمبدأ تناسخ الأرواح.
العنوان الفقهي للرواية يُسْتَخْدَم بطريقة مجازية تحتمل تأويلات عدة لعل أقربها إلى الأحداث هو شراكة المواطنة عندما يتهددها الاحتقان والإفلاس، فتهرع كل طائفة لكي تحظى بنصيبها من الدَّيْن في رقبة الوطن ولو أدى ذلك إلى ذبحه. وينطلق الحدث الرئيسي للرواية من سيرة "عبود بقطر" والد ماجد، الذي كان مديرا ناجحا في إحدى الشركات في أسيوط، فطاردته رياح التعصب المقيتة وهددته في حياته لمجرد أنه قبطي يترأس مسلمين ويصبح له حق الولاية عليهم، فيفكر في الفرار من موطنه.
وعندما يأتي دور "مرام" في الحكي طبقا لتقنية تبادل الرواة تكشف عن أبعاد أخرى لقراره بالسفر: "تكرَّس الانفصال الجسدي بيننا. قال لي أن مشاركتي له جفت في منتصف الطريق لأنني عجزت عن استيعاب الخطر الذي يتهدد حياته... نجا وحده وتركنا غارقين في هذه البلاد التي لا نعرف كيف ولا متى ستكتب لنا النجاة والإفلات منها". وعندما تهاجر مرام من أسيوط للقاهرة بحثا عمن يُلْحِقها بزوجها لا تظفر في نهاية الأمر بسوى وسيط يرشدها إلى الوسيلة التي دبرها زوجها لتحصل على معونة شهرية منه تصلها عن طريق الممثلة المعتزلة "مهرة". ومع أن الشكوك تأكل صدرها من طبيعة علاقة زوجها بهذه الممثلة فإنها تنتظم في إرسال ابنها كل شهر ليقبض من يدها المعونة الشحيحة المنتظرة.
وتصب الفصول الأخيرة للرواية في مغامرة طائشة محسوبة تغوي فيها مهرة الصبي المراهق ماجد لتلهيه عن تقاضي حقه، منتهزة فرصة استعارته لأحد الأفلام الإباحية كي يراها عندها، فتعود إليها طبيعة الأنثى المولعة بفتنة العشاق وتمزيق أقنعة الطهارة المصطنعة، وتُضْحِي حُمَّى الجنس اللاهبة نقطة الختام في رواية تفجر أسئلة المستقبل وهي تحفر في ألغام الحاضر".
هذا ما قاله الناقد المذكور الذى سوف أسميه من الآن فصاعدا بـ"الناقد الانتهاكى" أو "الناقد المنتهك" لكثرة كلامه الممل عن الانتهاك. والآن جاء دورى لأتناول الرواية، وسوف أتناولها على ضوء ما قاله ناقدنا الانتهاكى. وليست هذه أول مرة أتناول رواية كان ناقدنا قد كتب رأيه فيها، إذ سبق أن كتبت عن "وليمة لأعشاب البحر"، التى اشترك فى تمجيدها والدفاع عنها والقول بأنها رواية تدافع عن الإسلام (تصوروا!) رغم كل ما تحويه من كفريات وبذاءات فى حق الله ورسوله والإسلام والمسلمين، وتزيين للفواحش بحجة تحرير الفتاة العربية من القيود التى تعوق حركتها، فبينت أن ما يقوله الأستاذ الناقد هو ورفاقه فى بيانهم الدفاعى عن الرواية المشبوهة شىء، وما تقوله الرواية المشبوهة شىء آخر مختلف تمام الاختلاف، وأن باب الكلام الفارغ والمزاعم الزائفة الكاذبة مفتوح لمن يريد، لا يستطيع أحد أن يغلقه، إذ ليس على الكلام جمرك كما يقول العامة بحق.
ونبدأ بقول الناقد الانتهاكى إن"بؤرة الأحداث التي تتكثف عبر يوم واحد فحسب هو زمن الرواية تجسد أزمة التدين المفتعل في المجتمع المصري الراهن وما تفرز من توترات غريبة على طبيعته المستقرة في جمعها بين الأضداد باتساق محسوب يضمن للحياة إيقاعها الباطني المفعم بالشهوة والتنسك معا". وواضح أن الدكتور يرمى التدين فى المجتمع المصرى الحالى بأنه تدين مفتعل، أى تدين كاذب لا يراد به وجه الله. فهل هذا حكم صحيح؟ لو أنه قال إن بعض التدين فى المجتمع، أى مجتمع، لا بد أن يكون تدينا كاذبا قائما على الرغبة فى المراءاة واكتساب حسن السمعة، مَثَلُه فى ذلك مَثَلُ أىّ اعتقاد أو اتجاه آخر لما وجد من ينكر عليه. أما أن يرمى التدين كله فى مجتمع من المجتمعات بأنه تدين مصطنع فهذا حكم متهافت لا يليق، ويدل على تحيز صاحبه وكراهيته المسبقة لمن يتحدث عنهم. لكن من أولئك الذين يتحدث عنهم الناقد المنتهك يا ترى؟ إنهم المسلمون، والمسلمون وحدهم، فهم المتدينون الكذابون لا غيرهم، إذ الرواية لا تتحدث إلا عن تدينهم المفتعل هذا ولا تتطرق ولا يمكن أن تتطرق، بل لا تجرؤ أن تتطرق، إلى التدين عند شركاء الوطن، فهؤلاء "تابو" لا يجوز، ولا حتى فى الأحلام، لأى وغد أن يتناوله ولا أن ينتقد فيه شيئا، وإلا حقت عليه اللعنة ولم يجد من ينشر له مقالا أو كتابا أو يشير إليه فى الإذاعة أو المرناء أو الصحافة مجرد إشارة أو يعينه مستشارا فى كل مجلات الوطن العربى أو يعطيه جائزة ولو "بثلاثة أبيض". ومن يا ترى يهتم بأن يشير إلى أى وغد لا يحسن الكتابة والتأليف إذا افترضنا مجرد افتراض أن يفكر هذا الوغد مجرد تفكير فى الكتابة عن تدين غير المسلمين، لا بالافتراء والمزاعم كما يصنع حين يريد الكتابة عن المسلمين، بل بالتزام ذكر الحقائق ليس إلا؟
وبالمناسبة فناقدنا الانتهاكى أزهرى صميم، لبس العمامة نحو عشر سنوات حتى تركت حزا فى جبهته كما يقول الأزهريون، ثم التحق بكلية دار العلوم، وهى حصن آخر من حصون الثقافة الإسلامية. أى أنه لا يجهل هذه الثقافة، ويعلم تمام العلم أن التدين الإسلامى فى مجمله تدين عفوى يراد به وجه الله مهما كان فيه من قصور وبعد أحيانا عن لب الدين تبعا لدرجة فهم صاحبه وطبيعة ثقافته. إلا أن الرجل قد تغير بعد ذهابه إلى أوربا خاما لا يعرف لغة أجنبية، وحصوله على الدكتورية من إحدى جامعاتها وهو كبير السن. وأنا، حين أقول إنه أزهرى خلفت العمامة على جبهته حزا واضحا، لا أقصد إلى أى شىء من الإساءة. وكيف أفكر فى الإساءة وأنا مثله أزهرى تركت العمامة حزا على جبهتى، وإن لم أمكث بالأزهر إلا سنوات أربعا لا غير لم تَدَعْ للحَزّ أن يتعمق أكثر مما هو الآن فى جبهة العبد لله غير المنتهك، تركتُه بعدها إلى المدارس، وحصلت مثل ناقدنا الانتهاكى على درجة الدكتورية من بلاد الخواجات؟ كل ما هنالك أنه من أهل التنوير والحداثة، أما أنا فرجعى ظلامى متخلف متعصب ضيق الأفق حتى لأخشى أن يطالب نقادنا الانتهاكيون بوضعى فى المتحف كى يتفرج الجمهور على حفرية من الحفريات العجيبة التى ما زالت تفتخر بدينها رغم أن أكبر دول العالم تكره هذا الدين وتعده من مخلفات الماضى، ثم أظل بالمتحف إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا وتنهزم أمريكا وتابعو أمريكا ويعود الإسلام وأتباعه المتخلفون إلى صدارة المشهد كَرَّةً أخرى فيغرق العالم وقتذاك فى مستنقع الظلام والرجعية و"القَدَامة"، التى هى عكس "الحداثة".
على أن الناقد المنتهك لا يستطيع أن يرى العيب إلا فى الورد، أما الشوك فإن ملمسه عنده كملمس الحرير، ولا يمكن أن يقول عنه إنه يَشُوك ويؤلم ويؤذى، إذ مثل هذا القول غير مسموح به، وإلا انسدت أبواب النشر والشهرة فى وجه قائله فى كثير من بلاد المسلمين حيث يقبض على أَزِمّة المؤسسات الثقافية فيها فى الغالب من يكرهون الإسلام ويحاربونه ويعملون على إقصاء أى قلم شريف يحب دينه ويعمل على نصرته فى وجه الهجمة الغاشمة الطاغية عليه مما لم يعد خافيا على أحد لأن كل شىء قد صار مكشوفا بل مفضوحا، و"على عينك يا تاجر". ولسنا نحن الذين نقول هذا، بل تقوله التقارير الأمريكية التى تتحدث عن خطط أمريكا فى الاستعانة بالعلمانيين والملاحدة ضد المتدينين المسلمين لإقصاء الإسلام والقضاء عليه تدريجيا وبطريقة منهجية طبقا لما وضع دهاقنةُ السياسة والاستخبارات وشياطينُ علماء النفس والاجتماع وثعالبُ الاستشراق من برامج وتخطيطات. واقرأوا فى هذا الموضوع التقارير التى تصدرها مؤسسة "رانْد" الأمريكية، ففيها الغَنَاء.
وبلغ من خبث هؤلاء الثعالب أنهم يجندون لخدمة المصالح الأمريكية اليساريين، ويطلبون منهم أن يستمروا فى نقد السياسة الأمريكية حتى تكون لهم مصداقية فيما يدعون إليه مما يعود فى نهاية المطاف على مصالح أمريكا بالنفع، وعلى من تريد أن تحاربه وتقضى عليه أمريكا بالخيبة والخسران. جاء فى تقرير "راند" لسنة 2007م ما ترجمته: "فى بداية الحرب الباردة واجهت الولايات المتحدة معضلة تتمثل فى المدى الذى ينبغى أن يكون عليه اتساع نطاق تحالفها الخاص بمقاومة الشيوعية. فمن جانبٍ سعت حكومة الولايات المتحدة لتشكيل تحالف واسع يشمل أطياف النطاق السياسى لإظهار محدودية الجاذبية الشيوعية. ومن جانبٍ آخَرَ أرادت أن تحد من دعمها للجماعات التى تلتزم بمجموعة من المبادئ الأساسية يمكن تلخيصها فى قبول القيم الديمقراطية الليبرالية بما فيها الحقوق الفردية والسياسية الرئيسية. وقد استنتج المنظمون لجهود بناء الشبكات الغربية أنه ما دام الأفراد والجماعات يقبلون هذه المبادئ، فمرحبا بهم في مكافحة الشيوعية مهما يكن موضعهم بين درجات الطيف السياسى. وكان من السمموح به (بل ومن المشجَّع عليه أيضا) أن تختلف مع سياسات الولايات المتحدة تلك المنظمات التي تتلقى دعما ماليا منها. وكان الكثيرون فى حكومة الولايات المتحدة يؤمنون بأن مصداقية واستقلالية هذه المنظمات، وبخاصة هؤلاء الأفراد والجماعات الموجودون على يسار الطيف السياسى، يعززهما تعبيرهم عن اختلافهم الحقيقى مع سياسات الولايات المتحدة. وكان مؤتمر الحرية الثقافية والـREFhhg والـRL جميعا يعتقدون أن أنجع نقد وُجِّه للنظام السوفييتى لم يأت من اليمين كما هو متوقع، بل من اليسار غير الشيوعى بما فيه الأفراد الذين انشقوا حديثا عن الحزب الشيوعى. وقد باح رئيس الـRL بهذه الحكمة لموظفيه قائلا: إن صنارة الكرملن اليسرى هى بمثابة أقوى اللكمات".
"The organizers of the West’s network-building effort came to the conclusion that as long as groups and individuals accepted these principles they were welcomed into the fight against Communism, no matter where they lay on the political spectrum. Organizations supported financially by the U.S. government were allowed (and even encouraged) to disagree with U.S. policies. Many in the U.S. government believed that the credibility and independence of these organizations, particularly those individuals and groups on the left of the political spectrum, were enhanced by their expression of genuine disagreement with U.S. policies. The Congress of Cultural Freedom, RFE, and RL all believed that the most effective criticism of the Soviet regime came not from the right, which was to be expected, but from the non-Communist left, including individuals who had only recently abandoned the Communist party. The head of RL imparted this wisdom to his employees, saying, “a left hook to the Kremlin is the best blow.” Communists often had extended debates about the true meaning of Marxism as it relates to economic, political, and social policy. These debates often highlighted the conflict between reformers, who wanted to make alterations to the Stalinist economic and social model, and hardliners, who opposed reform. From the Western perspective, the reformers were clearly preferable to the hardliners. However, it was unclear how much encouragement the West should provide to the reformers, who, in spite of their reform efforts, at the end of the day wanted to preserve the Communist system".
بيد أننا نحن المسلمين ندرك، رغم تقصيرنا بوجه عام فى نصرة ديننا العبقرى، أن كل مجهودات الولايات المتحدة فى هذا السبيل سوف تضيع فى الهواء كالهباء المنثور. لقد "كان غيرها أشطر". ولديها الاتحاد السوفييتى، الذى احتل أفغانستان منذ وقت غير بعيد، وكان له جمهور ضخم بين المسلمين، وكانت تتبعه كثير من دولهم، ويفتخر كثير من حكامهم بأنهم من أذنابه. فأين الاتحاد السوفييتى الآن؟ لقد تفكك وانهار وصار فى خبر "كان". وإن شاء الله سوف تلحق به الولايات المتحدة الأمريكية إلى ذات المصير عاجلا أو آجلا. لقد كان الاتحاد السوفييتى ملء السمع والبصر، ولم يكن أحد عشية انهياره ودماره يتصور، ولو فى الأحلام، أنه يمكن أن ينهار ويختفى من خريطة الدنيا. ولكن ها هو ذا قد اختفى. ولقد شرعت تباشير تفكك الولايات المتحدة ذاتها تظهر من الآن للعيان، ولسوف يندم العملاء ساعتئذ، لكنْ حين لاتَ مَنْدَم!
وفى ضوء هذا الكلام يستطيع القارئ الطيب الذى لم يكن يفهم السر فى انتشار أقلام بعينها فى عديد من الصحف من أقصى شرق العالم العربى لأقصى غربه، وبالذات فى صحف الخليج، لناس لا يقدر الواحد منهم، لضحولة ثقافته وانعدام موهبته، أن يكتب أو يقرأ جملة واحدة سليمة، ومنهم ذلك التومرجى الشيوعى الحقير مؤجّر أَسِرّة المستشفى للمومسات وزبائنهن قبل أن تنتشله بعض الجهات وتجعل منه كاتبا لامعا رغم أن أقصى ما كان مثله يحلم به، وهو عريان غير متغطٍّ بشىء، أن يشتغل مدرسا فى مدرسة ابتدائية هى كل ما يؤهله له الدبلوم البائس الذى حصل عليه بشق الأنفس. فذلك التومرجى الشيوعى المتأمرك القواد الذى يكره الإسلام لهذا السبب، إذ لا يمكن أمثاله أن يحبوا دينا نظيفا كالإسلام يأمر أتباعه بالطهارة والعفة والاستقامة، على حين أتى هو من بيئة دنسة مثله، ومن ثم فمن الطبيعى أن يقبل على القذارات والقمامات يتمرغ فيها ويَطْعَم منها ويدافع عنها ويهاجم الإسلام الكريم، أقول إن ذلك التومرجى القواد تجد له، أيها القارئ العزيز، مقالات فى الصحف العربية المختلفة من المحيط إلى الخليج، وتراه يتنطط بالطائرات فى بلاد الله بين خلق الله، وهو العارى عن الموهبة والثقافة الحقة جميعا، وكان أبعد ما يطمح إليه أن يركب عربة يجرها حمار. والبركة فى تلك الجهات التى تأمر مسؤولينا الخونة أن يصدروا بدروهم أمرهم لنشر ما يكتبه هؤلاء الحقراء الجهلة فى صحف بلادهم ومن خلال دُور نشرها فلا يملك المسؤولون الخونة إلا أن يطيعوا، وفى فم كل منهم فردة حذاء قديم، بل الفردتان كلتاهما!
وقد شاهدت ذات مرة فى مطار أبو ظبى منذ عدة سنوات ذلك التومرجى القواد الذى تَشِى سَحْنَتُه بالبَلَه الخبيث وتَنِزّ ذلةً وخنوعًا رغم ما قد يُتَصَوَّر أنه انتفاش وثقة، وكنت عائدا من مؤتمر أدبى فى سورية، وكنا أنا وزميل السفر والمؤتمر، وهو سورى ينتمى إلى نفس التوجه العقائدى للتومرجى القواد، جالسين ننتظر ميعاد إقلاع طائرتنا إلى الدوحة بعدما حطت بنا فى ذلك المطار فى طريق العودة لنحو ساعة، حين انتفض رفيقى بغتة كمن لسعته عقرب مناديا: "يا قواد!"، ثم التفت إلىَّ يقول موضحا: إنه القواد الفلانى. ألا تعرفه؟ قلت: سمعت به. فنهض من جوارى وتقدم إليه وأنا أشاهدهما يتصافحان ويتكلمان بحرارة. ثم عاد الرفيق، ومضى القواد لطِيَّته، وكانت المرة الأولى والأخيرة التى شاهدت فيها قوادا عن كَثَب.
وفى ضوء هذا الكلام أيضا يستطيع القارئ الطيب الذى لم يكن يفهم السر فى سرعة ظهور المقالات النقدية التى تتناول أعمالا بعينها فى عدد من صحف العالم العربى المختلفة، وفى وقت واحد، عازفة نفس النغمة مع بعض التلوينات هنا وهناك، وإلا فمتى أُرْسِلَتْ نُسَخ الرواية مثلا محلّ النقد إلى أولئك النقاد فى بلادهم العربية المختلفة؟ ومتى قرأها هؤلاء الـمُسَمَّوْن: نقادا؟ وكيف اتفقوا كلهم أجمعين أبصعين أكتعين (كتب الله عليهم أن يكونوا من الأكتعين!) على الإشادة بالرواية وصاحبها العبقرى؟ لكن لا تنس أيها القارئ أن هناك الشيخ ناسوخا! والشيخ ناسوخ، لمن لا يعلم، هو من أهل الخطوة، الذين يوجدون فى عدة أماكن فى وقت واحد ثم لا يبرح مع ذلك مكانه الأصلى. "بركاتك يا شيخ ناسوخ"! حاجة كذا على وزن "حلمك يا شيخ علام" للشيخ أنيس بن منصور! ومهمة الشيخ ناسوخ أن يحمل الأوامر والتوجيهات النقدية التى لا يستطيع أى واحد من هؤلاء "البنى آدم" أن يخرج عليها، وإلا خَرَج "فِلْس عينه" من محجره!
أما ما كتبه الناقد الانتهاكى عن الحياة وإيقاعها الباطنى المفعم بالشهوة والتنسك معا مما يريدنا أن نتمسك به فهو إشارة إلى أنه ينبغى ألا يحاول المتدينون دعوة الناس إلى الطريق المستقيم بل يتركونهم لما يمارسونه من زنا وعهر وخمر وسكر وشذوذ، إذ إن الأساتذة التنويريين الحداثيين المتحضرين لا يريدون أن يكون للإسلام بالذات مكان فى المجتمع، أما أى دين آخر حتى لو كان دين عبادة الخنافس والديدان فأهلا به ومرحبا. وإنك لتنظر فى الأجهزة الثقافية التى يمسك بأعنتها التنويريون منذ عهد الوزير الشاذ الذى استغرق ما لا أدرى كم من الأعوام فلا تجد مثقفا متدينا إلا على سبيل الشذوذ. طبعا "على سبيل الشذوذ"، فكل حياتنا كانت شذوذا فى شذوذ فى عهد ذلك الوزير صاحب الشذوذ حتى إن أشهر روائى فى ذلك العصر هو الروائى ذو الروايتين الممتلئتين بألوان الشذوذ! بركاتك يا شيخ شذوذ!
ومع هذا كله فَلْنُصَدِّقْ هذا الذى كتبه الناقد المنتهك، وتعالوا نَرَ ماذا هنالك. يقول ناقدنا الانتهاكى عن التدين الإسلامى من حولنا إنه تدين مفتعل، أىْ تدين لا يصح أبدا. لكن لماذا، والمتدينون فى الرواية، وهم من ذوى التدين المفتعل كما رأينا، يمارسون الشهوات مع تدينهم جنبا إلى جنب، ورغم ذلك تسخر الرواية منهم وتجعلهم مثلا للسخف والتنطع، ولسان حالها يقول: انظروا إلى نفاق هؤلاء المتدينين؟ ألم يكن المفترض، طبقا لما يقوله الناقد المنتهك وما تقوله الرواية من قَبْل الناقد المنتهك، أن يحظى هؤلاء المتدينون بالرضا السامى من الرواية وناقدها باعتبار أنهم يجمعون بين ما يتضمنه إيقاع الحياة الباطنى من شهوة ونسك؟ أرأيتم الفرق بين ما يقال من طرف اللسان وما يعتقده الجَنَان؟ أليس الرجل الملتحى صاحب شركة توظيف الأموال مثلا الذى تصوره الرواية شخصا شهوانيا غارقا فى الجنس ويمارس حياة الترف والتنعم بالنساء هو ممن ينبغى أن يقابله ناقدنا وروائينا بالأحضان على أساس أنه قد حقق المعادلة العظيمة التى وضعها لنا الناقد المنتهك، معادلة الانغماس فى الشهوة والتنسك فى ذات الوقت؟ لكن لا ينبغى أن يفوتك أيها القارئ أن ذلك الملتحى شخص مسلم، والمسلم مدان مهما صنع، ومدان حتى لو لم يصنع شيئا. إنه مدان فى كل الأحوال.
ثم تعال إلى الناحية الأخرى، ناحية شركاء الوطن. إنهم هم أيضا يظهرون تدينا، وتدينا مستفزا فى كثير من الأحيان. انظر مثلا إلى دقهم الصليب رجالا ونساء على بطون أرساغهم. انظر إلى تعليقهم الصليب رجالا ونساء فوق صدورهم على نحو زاعق. انظر إلى رفعهم الصليب فى كل تظاهرة وانهيالهم ضربا به على رؤوس من يقابلونهم من المسلمين وما يجدونه فى طريقهم من سيارات. انظر إلى زعمهم السافل بأنهم هم أصحاب البلد، بينما المسلمون، وهم يمثلون خمسة وتسعين بالمائة، أغراب، وفى أحسن الأحوال: ضيوف ينبغى ألا يطيلوا المكث فى البلاد، فيا بخت من زار وخفف، ويرحلوا عائدين إلى "جزيرة المعيز"، التى جاؤوا منها. انظر إلى دعاوى ظهور العذراء فوق أبراج الكنائس من حين لآخر وشفائها المرضى، فى حين يحرص كبيرهم على التردد على أطباء أمريكا، الذين لا علاقة لهم لا بالعذراء ولا بأية ظهورات. انظر إلى سعار بناء الكنائس فى كل مكان لصبغ المدن والقرى المصرية بما يوحى بأن البلاد تَدِين بدين الصليب مع أن عدد المؤمنين بالصليب لا يتجاوز خمسة بالمائة، ثم إذا أبدى المسلمون ضيقا بهذه الخطة التى تجرى على قدم وساق منذ نحو أربعين عاما ارتفعت الصيحات بأن المسلمين يضطهدون النصارى ويضيّقون عليهم، ثم إذا توترت الأوضاع أطلق النصارى النار على جماهير المسلمين ليعقبها تصايحات الاضطهادات وسائر التهم المجنونة التى يخيفون بها المسلمين ويوهمونهم أنها كفيلة بتهييج أمريكا ودفعها إلى احتلال البلاد دفاعا عن النصارى. انظر إلى بقاء الكنائس مفتوحة ليل نهار تسربلها الأنوار، بينما المساجد تسبح فى الظلام الدامس ويلفها الحزن والاكتئاب. ترى أهذا هو السبب فى أن المتنورين المصريين يقفون مع الكنيسة ضد الإسلام ميلا من التنويريين إلى النور المسربل للكنائس ليلا، وكراهيتهم للمساجد، التى يلفها الظلام، وهم بحمد الله يبغضون الظلام والظلاميين؟ ألا لعنة الله عليهم، فهم الذين اختلقوا هذا الوضع المزرى الذى يستحقه المسلمون عن جدارة بسبب ذلتهم وخنوعهم ورضاهم بالهوان. ولا أدرى لم لم يثوروا عليه بعد الثورة العظيمة التى قاموا بها، ولم يشاركهم فيها رفقاء الوطن نزولا على أوامر كبيرهم، الذى كان يقف بكل قواه مع المخلوع زوج الحيزبون، تلك التى انتشر فى المواقع المختلفة فى الآونة الأخيرة خبرٌ مُفَاده أنها متنصرة، لكنها كانت تخفى نصرانيتها، وأن هذا هو السبب فى مناصرتها للكنيسة ورئيسها وبغضها للإسلام ومساجده!
ومع هذه المظاهر التدينية النصرانية المتعصبة والمنافية للعقل والحكمة والوطنية، بل للإنسانية ذاتها، يذهب القارئ فيُفَلِّى الرواية التى نحن بصددها لعله أن يجد فيها لتلك المظاهر أثرا يناظر الأثر الذى تنسبه بالباطل إلى التدين الإسلامى فلا يعثر على شىء منه أبدا. ترى هل يجرؤ الكاتب أن يتخذ من سكرتيرات الأنبا فلان الحسناوات (ونكتفى بـ"الحسناوات" فلا نقول شيئا آخر) موضوعا لرواية أخرى من رواياته السخيفة، على الأقل كلون من المعادلة لما صنعه فى الرواية الحالية تجاه الإسلام والمسلمين؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن يدير عملا من أعماله القصصية المتهافتة حول اعتقال الكنيسة فى الدير لكل امرأة نصرانية تُسْلِم وتغييبها عن العالم فلا يدرى أحد أهى لا تزال على قيد الحياة أم تم قتلها ودفنها، ولا من شاف ولا من درى؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن يقول شيئا أى شىء عن فِرَق الموت التى تنطلق طبقا لفتوى القساوسة فتقتل من خلعت من النساء النصرانيات ربقةَ النصرانية واعتنقت دين التوحيد فلم تستطع الكنيسة أن تضع يدها عليها وتعتقلها فى دير من الأديرة، ثم لا تكتفى تلك الفرق الشيطانية بقتل المرأة وحدها بل تقتل معها زوجها وأطفالها بقسوة إجرامية لا تعرف حلالا ولا حراما، ولا عيبا ولا نخوة ولا إنسانية، بل كل ما تعرفه هو تنفيذ ما قاله القسيس من وجوب تطبيق الفتوى حتى لا تفكر أية امرأة أخرى فى الانتقال من النصرانية إلى الإسلام؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن يفتح "خشمه" بكلمة عن المخطط الذى يقول للمسلمين إنكم لا مكان لكم فى هذا البلد، بل لا بد لكم من المغادرة بعدما طالت إقامتكم الثقيلة أربعة عشر قرنا؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن يجعل موضوع إحدى رواياته التافهة جماعة "الأمة القبطية" وأهدافها وسجلها الحافل بالموبقات والخيانات و ألوان الأجرام، ودور كبيرهم فيها وفى تنفيذ مخططاتها وإدانة المحكمة له فى عهد السادات؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن يحوم ولو من بعيد حول الأوضاع المالية للكنيسة مما عالجه القس إبراهيم عبد السيد فى أحد كتبه فحقت عليه اللعنات وحاقت به من كل جانب دون بارقة من أمل فى الصفح والغفران من جانب الكبير القاسى الفؤاد الذى يعمل على إحراق الوطن من أقاصيه إلى أقاصيه؟ ترى هل يجرؤ الكاتب على الإشارة إلى الأوامر التى يصدرها الكبير الميت القلب فلا يجرؤ أحد على إقامة طقوس الدفن لأى إنسان توسوس له نفسه بمخالفته كائنا من كان، من العلمانيين أو الكهنوت، فتحمل أسرته نعشه وتجرى به من كنيسة إلى كنيسة فلا تجد قسيسا واحدا يوافق على القيام بهذه الطقوس؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن يسلط ولو بصيصا ضئيلا من الضوء على موقف الكنيسة الرجعى المخزى من الثورة، ومعاضدة كبيرها وجماهيرها للمخلوع الملعون، ومناصرتهم لخطة التوريث متحدّين أمانى الأمة وتطلعاتها وطموحها إلى التساوى بالأمم الكريمة والانعتاق من أوهاق الاستبداد والتجبر والغطرسة والسرقات التى لا ترضى بأقل من مئات المليارات وتضييع البلاد والتطويح بها فى هاوية العدم؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن يفكر، يفكر فقط، فى إدانة البذاءات وألوان السِّباب التى يوجهها الخونة إلى النبى الكريم ودينه العظيم؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن ينبش فى ملف استعانة شركاء الوطن بالمحتلين الصهاينة والصليبيين الأمريكان "عينى عينك" وهتافهم بهم فى الشوارع وأمام ماسبيرو وداخل الكاتدرائية ذاتها على مرأى ومسمع من جميع القساوسة بما فيهم كبيرهم أن يأتوا فيحتلوا البلاد ويذلوا المسلمين مؤكدين لهم أنهم سيكونون ذراعهم الأيمن فى ذلك الاحتلال؟ هل يجرؤ الكاتب فيتحدث عن وجوب امتثال الكنيسة لقوانين الدولة بدلا من تشكيلها دولة داخل الدولة لا يجرؤ الحاكم ذاته على مراجعتها فيما تقول أو تفعل بشأن المواطنين النصارى، وشأن من يُسْلِم منهم؟ هل يجرؤ الكاتب أن يقترب من اعتقادات الكنيسة فى الخوارق والظهورات فى القرن الحادى والعشرين، فضلا عن أن يجعل من ذلك موضوعا للمناقشة؟ ترى هل يجرؤ الكاتب فينادى بألا تكون مرجعية النصارى كلام الكنيسة بل القوانين المدنية مستعينا بالحقيقة المتمثلة فى أن الأناجيل تخلو من التشريعات والقوانين؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن يفتح قضية السعار المعمارى الذى يستولى على شركاء الوطن ويدفعهم إلى استفزاز المسلمين استفزازا شبه متواصل كلما هدأ عاد جَذَعَةً كما تقول العرب، فألفينا الكنائس تسد عليك الأفق، ورأينا الكنائس تقوم مكان البيوت والمضايف رغم أن الحالة لا تستدعى شيئا من ذلك، إذ الكنائس أكبر مما يحتاجه النصارى فى مصر بآمادٍ طبقا لمعيار الأمم المتحدة بحيث يحتاج المسلمون إلى بناء الألوف والألوف من المساجد كى يقتربوا من العدد الملاثم لنسبتهم المئوية فى مصر، لكن الرغبة فى صبغ البلاد بالصبغة النصرانية تستوجب هذا؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن ينادى بالعدل بين المسجد والكنيسة بحيث لا يُغْلَق المسجد فور الانتهاء من الصلاة فى أول الوقت، وتبقى الكنيسة على مدار اليوم والليلة مفتوحة لمن يريد أن يقصدها فى أى وقت رغم أن الصلاة فى الإسلام مستمرة طوال الأربع والعشرين ساعة فى حين أن الصلاة فى الكنيسة لا تكون إلا لساعة أو ساعتين يوما فى الأسبوع، وبحيث تُمْنَع الشرطة والمباحث من اقتحام المساجد أسوة بمنعهم من فعل ذلك بالنسبة للكنائس؟ ترى هل يجرؤ الكاتب على الاقتراب من ملف السفينة المحملة بالأسلحة التى ضبطتها الدولة قبيل الثورة الينايرية، وكانت تتبع ابن أحد كبار الكنيسة؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن يسجل فى رواية أخرى من رواياته التافهة ما سمعه ورآه العالم كله حين هدد أحد القساوسة محافظ أسوان قبيل عيد الأضحى من عام 1432هـ بالضرب بالجزمة وبالموت خلال ثمان وأربعين ساعة، وهدد فوق ذلك رئيس المجلس العسكرى بأنه، وهو جالس فى كرسيه، يعلم جيدا ماذا يمكن أن يفعله النصارى إذا لم يستجب لما يريدونه، وصولا إلى ما وقع بعد ذلك من مهاجمة النصارى حاملى الصليب لقوات الجيش التى تحرس مبنى الإذاعة والتلفاز وقتل العشرات منهم، وهو ما يُعَدّ صدًى لتهديد كبير النصارى للحكومة فى أوائل السبعينات بأنه على استعداد لإحراق البلد كله من الإسكندرية إلى أسوان؟ ترى هل يجرؤ الكاتب، الذى هو شجاع فقط فى الهجوم على الإسلام دين الأغلبية الخانعة الذليلة التى لا تهش ولا تنش وتغرى أمثاله بنهش لحمها وتشويه صورتها والتشنيع بالباطل عليها، أن يقول كلمة حق ينصر بها المسحوقين النصارى الذين يريدون معاودة الزواج بعدما استحالت العشرة بينهم وبين رفقاء حياتهم ووقع الطلاق؟ أتراه يجرؤ على أن يناقش شيئا أى شىء من ذلك الإجرام العاتى؟ أتراه يجرؤ؟ الحق الذى لا مرية فيه أنه لا الكاتب (ولا الناقد أيضا) يمكن أن يفكر فى شىء من ذلك، فضلا عن أن يجرؤ على التلميح، مجرد التلميح، إليه، وإلا راح فى شربة ماء وألفى نفسه وقد رجع إلى حجمه الصحيح.
أم هل ترى يجرو الكاتب أن يقترب من الملف التالى، الذى تحدث عن بعض أسراره الأستاذ جمال أسعد، وهو نصرانى لا مسلم؟ تقول صحيفة "الفجر": "لم يهنأ جمال أسعد السياسي والمعارض المصري، قبل أن يكون القبطي، بتعيينه نائبا في مجلس الشعب بالقرار الجمهوري رقم 253 لسنة 2010 ضمن النواب العشرة المعينين الذين كان من بينهم سبعة أقباط، فبدلا من أن يتلقى تهنئة الأقباط قابل سخطهم وغضبهم ولعنتهم. بل هناك من وصفه بأنه يهوذا العصر الحديث. كان تعيين جمال أسعد مفاجأة للجميع بالفعل. كان هناك اعتقاد أن قائمة النواب المعينين من قِبَل الرئيس إذا ضمت أقباطا فلا بد أن يوافق عليهم البابا شنودة، لكن ما جرى مع أسعد جعل الجميع يتأكد أن ما قيل كان وهما كبيرا لأن القائمة لو كانت عُرِضَتْ علي البابا لرفض رفضا قاطعا تعيين أسعد، وأسعد بالذات، في مجلس الشعب. فالبابا لا يعتبره معارضا له، بل يتعامل معه على أنه عدو. وهو ما فهمه كل رجال البابا في كل كنائس مصر. وكان طبيعيا أن يمنع جمال أسعد من دخول الكنائس رغم أنها بيوت الله لا بيوت البابا شنودة.
حالة الغضب القبطي على جمال أسعد لا يعرف جذورها الكثيرون. لا يعرفون أسباب خلافه مع البابا ولا لماذا تتخذ الكنيسة منه هذا الموقف الحاد العنيد، وهو ما جعلني أفتش في أوراق جمال أسعد القديمة. فقبل عشر سنوات تقريبا أصدر أسعد كتابه "إني أعترف- كواليس الكنيسة والأحزاب والإخوان المسلمين". سجل فيها مذكراته في السياسة والصحافة. في هذا الكتاب الذي صدر عن دار الخيال ونَفِدَتْ طبعاته الأولي كتب جمال أسعد فصلا مطولا عن علاقته بالبابا شنودة: من الصداقة الحميمية والقرب الشديد إلي الصدام والعداء المطلق. كان عنوان الفصل موحيا ودالا: "قصتي مع البابا من البداية إلى النهاية". فأسعد يقر بالفعل أن علاقته بالبابا انتهت، لكنه لا ينسى تسجيل هدفه من كتابة مذكراته. الحكاية تحكي لنا لماذا يحظى جمال أسعد بكل هذه الكراهية وكل هذا العنف في الاعتراض على تعيينه في مجلس الشعب. وهذه فصول ما جرى.
التقى جمال أسعد البابا شنودة عندما ذهب إليه في الكاتدرائية الكبرى بالعباسية بصحبة القمص ميخائيل متى، الذي كان أستاذا للبابا شنودة ولغيره من الأساقفة. يقول أسعد: "ذات مرة ذهبت مجموعة من شباب القوصية مع القمص ميخائيل، فاستقبلهم الأنبا شنودة أسقف التعليم وقتها. وكان يقدم لهم الفاكهة بنفسه ويذيب السكر في الشاي بيده حين كان يتصف في تلك المرحلة بالشخصية المتواضعة جدا التي تمارس التقشف إلى أبعد الحدود حتى أنه عندما كان يصوم كان لا يأكل الفول المدمس، حيث إنه يحب الفول. وكان يعتبر الفول الذي يحبه عندما يأكله فإنه يمارس إحدى شهوات النفس رغم أن الفول يعتبر من الأكل الصائم لأنه نباتي. ويسجل جمال أسعد سمة أخرى من سمات البابا، ففي هذه الفترة لم يكن يحب أو يَقْبَل أن يقبّل أحد يده، وهي عادة يفعلها أغلب الأقباط كنوع من التكريم للكهنة من وجهة نظرهم. فكان هو لا يقبل تلك العادات، وكان يسحب يده سريعا من يد أي شخص يريد تقبيل يده. كان الأنبا شنودة، كما يقول جمال أسعد، "في ذلك الوقت غاية في التواضع والروحانية، شديد التقشف مملوءا بالمحبة الخالصة المستعدة للبذل من أجل الآخرين. وكان بذلك النموذج المفضل للشباب حتى أنهم كانوا يلتفون حوله ويعشقونه. ويظهر هذا بشدة في لقائه الأسبوعي الذي كان يعقده كل يوم جمعة داخل البطريركية بالعباسية، وكان يقبل على هذا الاجتماع أعداد غفيرة من الشباب حتى إن البعض كانوا يطلقون على محطة الأتوبيس القريبة من البطريركية بالعباسية اسم "محطة الأنبا شنودة". ولم يكن يخطر ببال أحد أن كل هذه التصرفات من قبل الأنبا شنودة كان يخفي وراءها مقاصد أخرى.
تعددت زيارات أسعد للبابا. منها زيارته له بعد أن تصاعدت الأمور بين البابا شنودة والسادات، واعتكف البابا في دير الأنبا بيشوي. كان أسعد موفدا من حزب التجمع لتحديد موعد لمقابلة وفد من الحزب. إلا أن هذه المقابلة بين وفد الحزب والبابا لم تتم بسبب تصاعد الأمور بين السادات والبابا. وعندما عزل السادات البابا زاره أسعد، لكنْ هذه المرة بتصريح من وزارة الداخلية. يقول أسعد عن هذه الزيارة: "كان لقاؤنا مع قداسة البابا عندما تم تقديم وجبة الغداء لنا، حيث تناولنا هذه الوجبة معا. وكان ذلك في أيام الصوم، فأكلنا طعاما يتكون من فول وطعمية. لكن كان أهم ما يميز المائدة هو وجود الفاكهة ذات الأصناف الراقية التي تدعو إلى الاستفزاز".
بدأ أسعد حوارا مع البابا منذ الساعة الثالثة عصرا، ولم ينته إلا بعد منتصف الليل. لكن أهم ما دار بين الرجلين في الحوار كان المشاهد التي تحدَّث عنها أسعد في الدير الذي عُزِل فيه البابا. يقول: "جلست مع قداسة البابا أمام المقر البابوي الموجود بالدير، وكان يوجد أكثر من خمسة كلاب من سلالة راقية يقوم البابا علي تربيتها. وكنت أجلس بجواره بينما كان قداسته يستخدم أحد الكلاب القابعة بجواره للاتكاء عليه". ويقول: "لم يتوقف الحديث بيننا إلا في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل لتنتهي هذه الجلسة الممتدة، لنقوم بعد ذلك بالذهاب على ضوء كلوب بسبب انقطاع التيار الكهربائي لكي نشاهد نسناسا قدمه أحد الزوار من دولة إفريقية هدية للبابا. وكان هذا القرد موضوعا في قفص، ويقف بجوار القفص أحد الرهبان، الذي يحمل كرتونة تفاح أمريكاني مستورد، ويقوم البابا بمداعبة القرد ويلقي له بالتفاح. وقمت بالنظر في قاع القفص فوجدت أن هناك أكثر من عشرة كيلو جرامات من هذا التفاح ملقاة في القاع لأن الكميات التي كانت تقدم لهذا القرد أكبر بكثير من أن يلتهمها".
ويقول: "من المواقف الطريفة خلال هذه الزيارة كان موقف جعلني أشعر بفزع شديد، فلقد كنا جالسين بعد فترة راحة، وذلك نحو الساعة السادسة مساء، وكان هذا أمام المقر البابوي داخل الدير، حيث التقيت قداسة البابا مرة أخرى، وفوجئت بمجموعة من الكلاب الضخمة جدا تهجم علينا، فتملكني الرعب والفزع، خاصة أن أحد هذه الكلاب قام بالقفز برجليه على كتفي، وعنئذ صاح البابا في هذا الكلب قائلا: ارجع يا ولد. فتراجعت الكلاب وسارت خلف البابا وظلت مصاحبة لنا خلال هذه الجلسة التي استمرت عدة ساعات، حيث ذهبنا بعد ذلك لتناول العشاء. وكان البابا يستخدم أحد هذه الكلاب كوسادة يتكئ عليها.
في جريدة "الشعب"، التي كان يكتب فيها جمال أسعد، أجري حوارا مع الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي. اختار جمال الأنبا غريغوريوس لأنه صاحب رأي وفكر متجدد ومميز. كان جمال وقتها عضوا في اللجنة التنفيذية لحزب "العمل" الاشتراكي. نُشِر الحوار كاملا، وكان حديثا حول السياسة والكنيسة بل والعقيدة المسيحية أيضا، حتى إن وكالات الأنباء تناقلته وتناوله بعض الكتاب والسياسيين بالتعليق في مقالاتهم. غضب البابا من حوار أسعد مع غريغوريوس، ونقلت الغضب عضوة بحزب "العمل" هي بهجة الراهب. قالت لجمال إن البابا غاضب بشدة، وعنَّفت جمال، الذي قال لها: "يا سيدتي، نحن لا نعمل عند البابا. وليس من حقه أن يتدخل بالمنع أو التصريح بإجراء حديث صحفي مع هذا أو ذاك. رغم ذلك إذا كان لدى قداسة البابا تعليق على ما تم نَشْرُه عليه أن يرسل هذا التعليق، وسوف ننشره". تراجعت بهجة الراهب، وقالت لجمال إن البابا يريد مقابلتك. فقال لها: "إذا كانت المقابلة ستكون من خلال طريقتك هذه في التعامل فإنني لن أقابل البابا". وبالفعل تمت المقابلة.
يقول أسعد: "دخلت إلى البابا في مكتبه الساعة العاشرة مساء ووجدته ممسكا بملف به مجموعة من الأوراق التي اكتشفتُ أنها أوراق الحديث الصحفي الذي سبق أن أجريته مع الأنبا غريغوريوس كلمة كلمة، ويرد على كل ما جاء بهذا الحديث، ليس من أجل تفنيد ما جاء به أو الرد عليه، ولكن كانت دهشتي وصدمتي أن هذا من أجل تسفيه كل ما قاله الأنبا غريغوريوس. ولم يترك شيئا في الحديث إلا قام بنقده والحط من قدره لدرجة أن الأنبا غريغوريوس قال في معرض حديثه معي أنه يجيد التحدث بخمس لغات، فوجدت أن البابا شنودة يقول: ماذا في هذا؟ أنا أتحدث سبع لغات حية". أجرى أسعد الحوار مع البابا، لكنه فوجئ بأنه يقول له: "كيف تجري حوارا مع الأنبا غريغوريوس، وهو شخص خائن وافق على أن يكون أحد أعضاء اللجنة التي قام بتشكيلها السادات عندما قام بعزلي ووضعي تحت التحفظ؟". وكان لا بد لأسعد أن يعلق. قال: "أحسست أن هناك صراعا غير عادي لا يليق بهذه القيادات الدينية، بل لا يليق إطلاقا أو يتفق مع أبسط مبادئ المسيحية وقوانين وأعراف الكنيسة، خاصة في ظل الوضع الروحي والخاص لهذه القيادات لدى النفوس. وفي تلك اللحظات شعرت بالاكتئاب والتعب النفسي الحقيقي. لقد سبب لي البابا بهذا التصرف الذي لا يليق به كقيادة روحية صدمة كبيرة جدا لأنني كنت أتصور أن هذه القيادات الروحية أكبر بكثير جدا من مثل هذه التصرفات وأنها تترفع عن هذه الأفعال التي تتعارض مع الكتاب المقدس".
توثقت علاقة جمال أسعد بالبابا، لكن أسعد كانت له آراؤه التي أغضبت البابا منه، وكانت هذه بداية النهاية. كان يرى مثلا أن الكنيسة مسئولة مسئولية مباشرة عن الفتنة الطائفية، وهو ما اعتبره البابا شنودة نقدا شخصيا له. يفصّل جمال ما جرى، يقول: "قمت بطرح هذا الرأي من خلال مقالات في الصحف، وكانت إضافاتي الجديدة أن ممارسة القيادة الكنسية باعتبارها زعامة كاريزمية (البابا شنودة) وسيطرتها الكاملة علي الأقباط من خلال استقطاب الكنيسة لهم وهجرتهم إليها جعلها بديلا كاملا عن المجتمع. وهذا أشبع غرور البابا شنودة وجعله يشعر أنه زعيم سياسي لا يمثل الأقباط فقط دينيا، بل وسياسيا أيضا. وبالتالي اكتفى الأقباط بالتقوقع داخل أسوار الكنيسة واستغنَوْا عن المجتمع، مما تسبب في إصابتهم بداء السلبية الخطير، وأصبح الأقباط سلبيين تجاه المجتمع المصري. وهذا أدى إلي زيادة الاحتقان الطائفي اشتعالا".
وجد جمال أسعد صعوبة في نشر مقالاته في جريدة "الأهالي". ويفسر هو ذلك بأن هناك "علاقة خاصة بين البابا شنودة وحزب "التجمع" عن طريق رفعت السعيد، أمين عام الحزب. وهذه العلاقة أرى أنها غير طبيعية وغير صادقة لأن د. رفعت السعيد وحزب "التجمع" اعتبرا أنفسهما حاميي حمي الأقباط في مصر والمدافعين الأولين عنهم. بل إنهما أحيانا كانا يُعْتَبَران المتحدث الرسمي باسم الأقباط. وهذا لا يخلو من مصلحة تداخلت فيها الانتهازية السياسية مع الدين". ويفصّل أسعد ما أجمله بكلمة "المصلحة"، يقول: "هذه العلاقة المشبوهة كانت في شكل تبرعات وشيكات مالية تأتي لجريدة "الأهالي" ولحزب التجمع ولشخصيات بارزة أيضا من قِبَل أقباط المهجر، الذين كانوا يدعون كل أقباط العالم لقراءة جريدة "الأهالي" باعتبارها جريدة المسيحيين في مصر لا جريدة حزب من المفروض أنه اشتراكي تقدمي. ولم ينزعج حزب "التجمع" من هذا الوضع، لكنه كان مستريحا تماما وراضيا لأنه كان المستفيد ماديا من وراء كل ذلك".
اعتبر جمال أسعد أن هذا كان سببا في بدء المغازلة المتبادلة بين البابا شنودة ود. رفعت السعيد، الذي تحدث مع أسعد بشكل مباشر وصريح عندما كان في ذلك الوقت عضوا بالأمانة العامة لحزب "التجمع"، وقال له إنه لا يوافق على ما يكتبه وإن الحزب لا يستطيع أن ينشر مقالاته. سأله أسعد: كيف تطلبون هذا من عضو في الأمانة العامة وأحد القيادات المؤسسة للحزب؟ وإذا تم إغلاق أبواب صحيفة الحزب أمام إحدى قياداته فماذا يحدث مع من أهم أقل في المستوى التنظيمي للحزب؟ وأين كل الديمقراطية والتقدمية التي يتحدث عنها الحزب ويتشدق بها ليل نهار؟ لم يكن هذا فقط ما لاقاه جمال أسعد في حزب "التجمع"، فعندما عقد الحزب مؤتمرا في الإسكندرية تحت شعار "الوحدة الوطنية" كان مشاركا فيه خالد محيي الدين وأبو العز الحريري. وكانت المفاجأة أن الكاهن الذي حضر قال لجمال أسعد إن لديه تعليمات واضحة وصريحة من قِبَل البابا شنودة بأنه إذا حضر جمال أسعد فإنه يجب أن ينسحب من المؤتمر. شهد أبو العز الحريري على هذا الكلام، وأقنع الكاهن أن يتحدث في المؤتمر قبل جمال أسعد ثم يعتذر ويطلب الانصراف لأي سبب. وبذلك يكون قد نفذ كلام البابا. وعندما نشر جمال أسعد هذا الكلام كذبه أبو العز الحريري لأسباب انتخابية. وكانت المفاجأة أن الحزب حَوَّل جمال إلى التحقيق، وطالبه بالاعتذار للحريري، وهو ما جعله يطوي صفحة "التجمع" إلى الأبد.
هناك قضايا كثيرة اتفق فيها جمال أسعد مع البابا شنودة: منها مثلا موقف قداسته من زيارة القدس، وتحريم قيام الأقباط بزيارة الأراضي المقدسة طالما كانت تحت الاحتلال الصهيوني. ويتفق معه في موقفه من القضية الفلسطنية بشكل عام. لكن هناك قضايا أخرى اختلف فيها جمال أسعد مع البابا، وهي جميعا قضايا متعلقة بحقوق الإنسان. يقول: "على سبيل المثال قام قداسة البابا بمنع الصلاة على جثمان القس الراحل إبراهيم عبد السيد بعد وفاته، إذ أصدر قرارا بهذا الشأن وهو في أمريكا في أول سبتمبر 1999، وهو الشيء الذي جعل أهله ومحبيه يتنقلون من كنيسة إلي أخري طوال أربع وعشرين ساعة متواصلة من أجل الصلاة على جثمانه، حتى إن الكنيسة الإنجيلية بادرت من جانبها بالترحيب بالصلاة على الجثمان، وذلك في كبرى كنائس الطائفة الإنجيلية (كنيسة قصر الدوبارة بالقاهرة)، وهو الأمر الذي جعل الراهب أغاثون المقاري يقوم بالصلاة على جثمان القس الراحل في كنيسة صغيرة توجد بمقابر أرض الجولف في مصر الجديدة. وكان هذا حفظا لكرامة القس، وخوفا على تاريخ الكنيسة من أن يتحول إلى عصر تكفير وتهديد لكل من يبدي مجرد الرأي حول طريقة إدارة الكنيسة".
بحث جمال أسعد عما يؤكد وجهة نظره فوجده في تصريحات الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس، الذي صرح لمجلة "المصور" وقتها بأن الكنيسة تصر على عدم الصلاة على جثمان القس إبراهيم عبد السيد، بل ستقوم بمحاكمة الذين قاموا بالصلاة، وستنظر في أمر العلمانيين المتعاطفين مع القس الراحل. أما البابا شنودة فقد كتب في مجلة "الكرازة" أن القس ابراهيم عبد السيد قام بالكتابة معارضا إياه في الجرائد، وقام بتأليف كتاب "الإرهاب الكنسي". وبالطبع عندما يضرب البابا مثلا بهذا الكتاب فإنه يؤكد أن القس كان يختلف مع البابا في المواقف الشخصية. لكن قداسة البابا، كما يقول أسعد، اعتبر أن هذا خطأ من جانب القس الراحل ليس ضده هو، ولكن ضد الله، ومن ثم فإن هذه الخطيئة ضد الله تحتاج إلى كفارة علنية وقوية، وأن القس لم يفعل ذلك، وظل القس خاطئا، ومات خاطئا، ولم يقدم توبة توجب الصلاة على جثمانه. هنا يقول أسعد ما يوجع البابا بالفعل: "وأقول من جانبي إنه مع احترامنا وتقديرنا لشخص البابا لكن لم يحالفه الصواب في هذه القضية لأنه بهذا القرار عمل على استفزاز الرأي العام المصري والقبطي، بل الأساقفة والكهنة والخدام. الذين يؤيدون البابا في كل قراراته كانوا في هذا القرار ظهورهم إلي الحائط، ولا يملكون الدفاع عنه لأنه بمنطق الأبوة المسيحية وبالعقيدة المسيحية، التي تحض على الحب والتسامح، كان يجب أن يسامح البابا هذا القس لأنه لم يخطئ إلى الله تعالى، بل اختلف في الرأي مع قداسة البابا، الذي كان باستطاعته أن يظهر أبوته المسيحية الحقيقية التي طالما نادى بها ويقوم بإرسال مندوب عنه للصلاة على جثمان القس الراحل. وبذلك تكون القيادة الكنسية قد ضربت المثل الحقيقي للأب المسيحي المحب والمتسامح على مثال المسيح".
وعَوْدًا إلى موضوعنا نقول: هل ترى يجرؤ القعيد أن يتحدث عما فعله الراهب برسوم المحروقى مثلا فى قلب الكنيسة من معاشرته الجنسية لكثير من النساء؟ ترى هل يجرؤ الكاتب أن يتناول الطقس الخاص بغسل سيقان الجنس اللطيف، الذى يحرص عليه رجال الدين واشتكى منه بعض السيدات؟ لعل من المستحسن الاستشهاد فى سياقنا الحالى بالتقرير التالى، وهو عن دور الجنس فى حياة الرهبان الأقباط. كتب عنتر عبداللطيف فى "صوت الأمة" بتاريخ 31/ 7/ 2010م: "سؤال ظل لقرون من المسكوت عنه: كيف لراهب أن يقضي عقودا من عمره بلا رغبة جنسيه؟ حاولنا معرفة الإجابة من أصوات مختلفة كان أكثرها حدةً إجابةَ القمص هابيل توفيق راعي كنيسة بولس الرسول. قال في تصريحات خاصة لــ"صوت الأمة" إن الرهبان يمارسون العادة السرية لإفراج الكبت الجنسي، الذي يعانون منه وإفراغ هذه الطاقة الملحّة حسب وصفه، مؤكدا أن البابا شنودة أخطأ عندما حبس وفاء قسطنطين في دير وادي النطرون نظرا لأن الرهبان بشر، ووفاء قسطنطين سيدة جميلة تثير غرائزهم. وطالب هابيل بمنع زيارات الأقباط للأديرة لأن الراهب من وجهة نظره شخص مات عن العالم. وقال هابيل إن الكثير من النساء تنام علي الأرض في الأديرة، وتنكشف عوراتهن مما يثير بشدةٍ غرائزَ الرهبان، الذين يذهبون إلي قلاياتهم ويوسوس الشيطان لهم أن يفعلوا الفاحشة. إلا أن أكثرهم يكتفي بالعادة السرية.
من جانبه قال الدكتور حنين عبدالمسيح إن الرهبنة خرجت من الكنيسة الأرثوذكسية المصرية لتنتشر في بقية دول العالم. وهي بدعة لم يسلم من مبادئها الهدامة سوى الكنيسة الإنجيلية. ويرجع حنين عبدالمسيح ظهور الرهبنة إلى أنطونيوس المولود عام 251 ميلادية. ويحكي عبدالمسيح أن سبب رهبنة أنطونيوس أنه شاهد امرأة تغتسل في النهر وعاتبها لأنها تتكشف أمامه، فنهرته المرأة قائلة: إذا أردتَ العبادة فاذهب إلى الصحراء. وهو ما حدث، حيث ذهب أنطونيوس إلي الصحراء وظل بها 25 عاما متصلة، وهرب من الزواج مع أن الانجيل يقول: "ليكن الزواج مكرما عند كل أحد، والمضجع غير نجس". ويؤكد الدكتور حنين أن للرهبان سقطاتٍ جنسيةً قديما وحديثا. ففي سيرة الأنبا مكاريوس الكبير أن فتاة ذهبت إليه لتُشْفَى من شيطانٍ تلبَّسها، وتصادف أن حضر معها في نفس التوقيت راهب شاب. وعندما حل الليل رأى مكاريوس هذا الراهب يفعل الخطيئة مع الفتاة الشابة. ولم يوبخه مكاريوس على هذه الفعلة الشنعاء. وكان يقول: إذا كان أحد من الرهبان يسكن مع صبي فلا يقدر أن يحفظ أفكاره لأن للصِّبْيَة صفتين: منظر جميل مثل النساء يحرك الشهوة، وحدة الطبع. وعن العصر الحديث يؤكد الدكتور حنين عبدالمسيح أن فضيحة راهب دير المحرق بأسيوط هي أبلغ دليل علي فساد نظام الرهبنة. في حين قال المفكر القبطي كمال غبريال إن الرهبان اختاروا أن يعيشوا على الكفاف دون حياة جنسية، فهذا حقهم. إلا أن هذا يخالف قوانين الطبيعة وسنة الله. والمفترض أن الرهبان يحاولون عن طريق قيادتهم للكنيسة فرض نظرتهم للحياة، وتركوا الصحراء وجاءوا إلى العالم كي يحكموه، مما أدى إلى تدخلهم في شئون الأسرة رغم أنهم لايعرفون أهمية الأسرة للإنسان، ويحاولون فرض نظام الطاعة العمياء بأن يستعبد البابا المطارنة، والمطارنة يستعبدون الكهنة، الذين يستعبدون الشعب القبطي. وبالتالي فنظام الرهبنة يحمل خطورة على الشعب القبطي بل على الوطن كله. ومن الطبيعي أن نرى في هذا العالم تجاوزات جنسية لأنهم بشر معرضون للخطأ.
فيما قال المفكر جمال أسعد إن الرهبنة حالة ذاتية واختيار شخصي لا علاقة له بالمسيحية من قريب أو بعيد، وإلا لكان يفرض على كل المسيحيين إذا كانت الرهبة جزءا من المسيحية. ويتفق أسعد مع الدكتور حنين في أن أنطونيوس جاء بآية من الانجيل تقول: "بِعْ كل أموالك واتبعني"، وهو ما حدث حيث باع هذا الشخص كل ما يملك وذهب إلي الصحراء. وهذه حالة فردية، لكن لظروف كثيرة ولاضطهاد الرومان عزز هذه الفكرة هروب الأقباط إلى الجبال. واقتنع الاقباط بهذه الفكرة وتطورت لتتحول الرهبنة إلى واقع وإلى إنشاء أديرة لها قوانينها ولوائحها الخاصة. فهم مثل جماعة ارتضت أن يكون لهم حياة خاصة ذات قوانين معينة. ثم تطور الأمر إلى فكرة موت الرهبان عن العالم بعد أن يصلَّى عليه صلاة الموت، وتم وضع قانون الانعزالية والعفة والطاعة. ويضيف أسعد: لكن فوجئنا في عهد أثناسيوس الرسول برِسَامة أول أسقف راهب بعد أن كان الأساقفة يتزوجون. ومنذ ذلك الحين تحولت الكنيسة إلى مستعمرة رهبانية، وأصبح المجمع المقدس كله من الرهبان. ولا نعلم أي مرجعية يتبعون. والأخطر أن كثيرا من الشبان نشروا فكرة الرهبنة ونادَوْا بعدم الزواج مع أن الله خلقهم كي يتكاثروا. ولذلك لا يستبعد وجود أخطاء جنسية في هذا العالم. فيما يختلف الدكتور هاني كمال فرنسيس مع القمص هابيل في كل ما قاله مؤكدا أن الرهبنة لها احترامها، ولا يوجد بين الرهبان من يخطئ ويرتكب المعاصي، حيث إن الراهب مات عن العالم. ولكنه يؤكد أن القساوسة أشخاص عاديون لايجب أن تحمل لهم أي قداسة لأن الاقباط لا يقدسون إلا المسيح الحي. والدليل ما حدث عندما هربت زوجة كاهن دير مواس، وهي الحادثة الثانية بعد هروب وفاء قسطنطين من زوجها الكاهن أيضا".
هذه هى الصورة الحقيقية للرهبان فيما يتعلق بشهوة الجنس. ومع هذا لا يمكن القعيد أن يفتح فمه بكلمة يتيمة فى ذلك الموضوع مثلما لا يمكنه فتح فمه بكلمة عن أى من الموضوعات الأخرى التى سبقت إشارتى لها. أما التساخف بتأليف رواية ضالة موضعها الحقيقى هو صندوق القمامة لما فيها من افتراءات مجرمة على المسلمين وتشويه لصورتهم وكذب عليهم وتهيئة للفرص المجانية لأعداء الإسلام والوطن كى يقولوا تسويغا لضربهم: انظروا ماذا يقول أحد المنتسبين إلى الإسلام عن المسلمين وإرهابهم وظلمهم لشركائهم فى الوطن، أما مثل ذلك التساخف فهو من اليسر بمكان! بل إن الرواية التى بين أيدينا هى من ذلك الصنف المفصَّل حسب الطلب، وإن كان الطرزى الذى خاطها طرزيا غشيما لا يحسن الخياطة ولا التطريز، فخرجت من تحت يده ملزَّقة باردة تافهة شائهة سخيفة متنطعة حسبما سنرى فى هذه الدراسة الفاضحة. أما إن وجد القارئ أن نقاد الصحف الذين العشرة منهم بقرش تعريفة يُشِيدون بها فليعلم أنه كلام. وهل يستطيع أحد أن يمنع أحدا من الكلام؟ وكمثل القعيد لا يتجرأ ناقدنا الانتهاكى إلا على تدين المسلمين، الذى يقول عنه إن "بؤرة الأحداث التي تتكثف عبر يوم واحد فحسب هو زمن الرواية تجسد أزمة التدين المفتعل في المجتمع المصري الراهن وما تفرز من توترات غريبة على طبيعته المستقرة في جمعها بين الأضداد باتساق محسوب يضمن للحياة إيقاعها الباطني المفعم بالشهوة والتنسك معا". فتدين المسلمين هو تدين مفتعل، أما التدين النصرانى فهو التدين الحق الذى يضمن لصاحبه الفلاح فى الدنيا والسعادة فى الآخرة، تلك الآخرة التى لا يؤمن بها النقاد المنتهكون، ولكنْ من أجل عيون غير المسلمين كل شىء يهون.
والآن تعالَوْا نَرَ ماذا تقول الرواية السخيفة التافهة عن المسلمين. إن الكاتب لا يترك فرصة واحدة على طول روايته التافهة السخيفة دون أن ينال من المسلمين منالا قبيحا: ففى الصفحة السادسة مثلا، وهى الصفحة الثانية فى النص، نسمع ماجد الشاب النصرانى يقول: "اليوم العاشر من الشهر الميلادى. هذا ما أعرفه. أما الشهر الذى يقولون عنه: الهجرى، وتصفه أمى بـ"التوقيت الإسلامى"، وأسمعهم يرددونه كثيرا فى المواسم والأعياد، فلا أعرف عنه أى شىء". وكانت المناسبة هى ذهابه إلى بطلة الرواية مهرة ليتسلم منها المبلغ الشهرى الذى كان أبوه يرسله له هو وأمه عن طريق تلك المرأة. والسؤال هنا: ما الداعى لكل هذه الضجة حول التوقيت؟ إن المصريين جميعا: مسلمين ونصارى يستخدمون التوقيت الميلادى، وبخاصة فيما يخص المرتبات، فلماذا يفتح المؤلف ذلك الموضوع على لسان الولد النصرانى؟ أترى للتوقيت الهجرى علاقة بما هو فيه؟ أبدا والله العظيم. أليس يُحْمَد للمسلمين أنهم لا يجدون حرجا فى التوقيت بالسنة الميلادية؟ بلى والله العظيم. فماذا يريد المؤلف إذن من وراء هذه الضجة؟ أيريد أن نتخلص من التوقيت الإسلامى فلا نستعمله حتى فى الصيام والحج والعيدين ومولد النبى والحيض والعدة وما إلى هذا؟ أغلب الظن أنه كذلك. أما أنا فأقول: ينبغى أن يعيد المصريون، بل المسلمون جميعا، التوقيت الهجرى لأنه هو توقيتهم، مثلما فعلت المملكة العربية السعودية.
وفى الصفحتين الثامنة والتاسعة يزعم المؤلف على لسان ماجد أيضا أن جميع الأوتوبيسات كانت تحمل شعار "الإسلام هو الحل"، قائلا إن اللافتة، التى يكذب فيدعى أنها كانت معلقة بجوار رقم الحافلة وخط سيرها، كانت تجرح العين، ثم متسائلا: من صاحب هذا الإعلان؟ هل هى جهة؟ هل هى مصلحة؟ هل هو إنسان؟ ثم يمضى فى التساؤل: أى إسلام؟ وأى حل؟ بالله عليك، أيها القارئ، أهناك نصرانى يمكن أن يشغل نفسه بنوع الإسلام الذى يراد تطبيقه أو بالحل المرتجى من وراء هذا التطبيق، وكأنه يوافق من حيث المبدأ على ذلك الشعار وهذا التطبيق، وكل ما يشغله هو نوع الإسلام وأسلوب تطبيقه؟ إن مثل ذلك الولد المربَّى على البغض والكراهية لكل ما هو إسلامى لا يمكن أن يفكر إلا فى شىء واحد هو رفض هذا التطبيق جملة وتفصيلا. إذن ماذا؟ إذن فالمؤلف هو الذى يتكلم هنا ولا يترك شخصياته تتحدث بما فى قلبها. أما أن كل الأوتوبيسات كانت تحمل لافتة "الإسلام هو الحل" فكذبة بلقاء سمجة كصاحبها السخيف العقل المريض القلب المدخول الضمير الذى يحتاج إلى أن يُصْفَع على قفاه حتى تَرِمَ قفاه ويقول: أجيرونى يا خلق هُوووه! فلا يجيره أحد. ذلك أن مثل تلك اللافتة إنما تخص الإخوان المسلمين أيام الانتخابات. ولم تكن ثمة انتخابات فى اليومين اللذين دارت فيهما أحداث الرواية السخيفة المهلهلة، بل لم يرد أى ذكر لأية انتخابات فى أية صفحة من صفحات الرواية المملة المتخلفة الثقيلة الظل. فكيف تكون هناك لافتات تحمل ذلك الشعار الإخوانى الانتخابى؟ ثم هل كان مسموحا للإخوان أصلا أن يعلقوا لافتاتهم على الحافلات الحكومية؟ أوكان حسنى مبارك وزبانيته يسكتون على هذا؟ بل إن اللافتات المزعومة كانت مكتوبة بحروف بارزة تكاد أن تصل إلى "رموش" الولد النصرانى بنص كلامه. الله أكبر! ترى أين ومتى وكيف كانت أمثال تلك اللافتات تكتب بحروف بارزة؟
ليس ذلك فقط، بل هناك اللحى والجلابيب البيضاء أينما توجه الولد النصرانى. ومرة أخرى: الله أكبر! لكأننا والله فى السعودية. إن هذا كذب مقيت، فبرغم أن من المصريين من يطلقون لحاهم أو يلبسون الجلابيب البيضاء فإنهم لا يشكلون سوى أقلية هامشية. أما الأغلبية الساحقة فترتدى الملابس الأوربية حتى فى الأرياف بما فى ذلك كثير من الفلاحين أنفسهم. ولست أقصد إلى التنصل من هذه المظاهر، فقد تكون الجلاليب فى بعض الأحيان أفضل ألف مرة من البدلة أو القميص والسراويلات، بل أقرّر فقط ما هو حاصل فعلا. أما ما يقوله ماجد بتحريض من المؤلف الضحل الموهبة فكذب مريض يحتاج صاحبه أن يؤخذ إلى مصحة نفسية كى يعالج من الهلاوس البصرية التى تنغص عليه حياته! إن المؤلف لا يبالى فى تسخيم صفحات روايته بمراعاة مبدإ الواقعية أو المهلبية. إنما هى سخائم سوداء ينفثها على الورق فتفضحه فضيحة مجلجلة، إذ تُرِى القراء أىّ نوع من المؤلفين هو، وأية درجة متخلفة من الموهبة (أو قل: اللامَوْهبة) درجته.
ويمضى مؤلف الرواية، الذى يظن أنه يستطيع التخفى وراء شخصياته الكارهة للإسلام، فيُنْطِقها بكلامه هو وأفكاره هو متصورا أننا لا يمكن أن نراه، ولكن هيهات، فالصنعة الفنية متخلفة، والمؤلف الذى يحرك الشخصيات ليس بارعا خفيف اليد، بل غشيمًا فِجًّا كل ما يفعله مفضوح. ومن ثم فحين يسخر الولد النصرانى الحقود ويتهكم بملابس النساء المسلمات نعرف فى التو أنه يعكس حقد الكاتب قبل كل شىء، دون أن يصدر عنهن ما يسوغ هذا الحقد ولا ذلك التهكم، إذ لم يتعرضن له بشىء من كلام أو فعل يمكن القول بأنه السبب فى استثارة تلك المشاعر المضطغنة عليهن وعلى الدين الذى ينتمين إليه. والغريب أن يزعم الولد الكذاب الوقح أن "بعض النساء يرتدين حجابا لإبراز المفاتن التى تغطيها الملابس العادية. أنواع القماش ودرجة اللمعان تصبح أكثر من مثيرة لو ارتدتها امرأة شحيمة لحيمة، والنقاب يحول المرأة إلى خيمة من السواد. ذيل الخيمة يجرجر على الأرض وراء المنقَّبة فيثير الغبار فى الصيف، ويحرك أوراق الشجر الجافة والذابلة على الأرض فى الأمطار. لا أحب أن أربط بين الربيع والخيام السوداء. إنها ضد فكرة الربيع أصلا. الطبيعة تغير جلدها كل ثلاثة أشهر، وهؤلاء الناس وقفوا ضد فكرة التغيير. نساء يرفضن الذهب، وعندما يتزيَّنّ تكون الزينة حليا من الفضة البيضاء. أما الفضة المطفأة فعلى أشكال تمائم إسلامية: "الفاتحة" أو "التشهد" أو صور قاتل السادات، وابسامته العريضة تتسع لمساحة أوسع من الصدر المغطى الذى تتدلى فوقه الحلية. لا أعرفه ولا أحبه. تعرفت إليه من صوره المعلقة على صدور البنات، خاصة زميلاتى فى الجامعة" (ص9- 10).
والآن يا عِرّة الكذابين، وإن كنت متيقنا أنك لم تتفوه بكلمة مما هو منسوب إليك، بل وُضِع الكلام على لسانك وضعا: هل كانت هناك فى يوم من الأيام فتاة أو امرأة مسلمة تضع حلية عليها صورة قاتل السادات فوق صدرها أو فوق ظهرها يا كذابا من سلالة كذابين؟ وهل كانت الحكومة لتسكت على هذا أيها الكذاب، وقد كانت مصر أوانئذ تعيش فى رعبٍ مُشِلٍّ بحيث لا يجرؤ أى صائغ على صنع مثل تلك الحلية أو تجرؤ أية امرأة على إعلان موافقتها على مقتل السادات، فضلا عن الاحتفاء علنا على هذا النحو الفِجّ بقاتله؟ ثم هل حَدَثَ، يا وقح، أن رسم صانعو الحلى المسلمون فى مصر على مصوغاتهم صورة لأى شخص؟ ومنذ متى تحرّم النساء المسلمات على أنفسهن الذهب أيتها الدمية التى تردد دون فهمٍ ما يُلْقَى إليها من سخفٍ تافهٍ تفاهةَ عقل مُلْقِيه وسخافتَه؟ أَوَبَلَغَ بالقعيد التنطع أن يقيم من ولد نصرانى فقيها يفتى للمسلمات فى أمور الذهب والفضة فيحرّم عليهن ويبيح لهن حسب هواه؟ لم يبق إلا هذا، فهذا ما كان ينقصنا! أأنا فى علم أم فى حلم يا ربى؟ الواقع أن هذا الكلام لا يقوله إلا حشاش مسطول! ترى هل وصل الهوان بالمسلمين أن يلفق أحدهم رواية غبية ينال فيها منهم ومن نسائهم بتلك الطريقة التى لا ترعى فيهم ذمةً ولا إِلاًّ دون أن يخشاهم أو يعمل لهم حسابا؟
لكنى أعود فأقول كما أقول دائما: إن المسلمين هم الذين جلبوا هذا على رؤوسهم ببلادتهم وصمتهم ورضاهم بالهوان حتى وصل الأمر أن كتب قعيد هذه الرواية يبهدلهم فيها كل هذه البهدلة وهو مطمئن أنهم سيسكتون فلا يصنعون شيئا! والله لقد عشنا وشفنا! أوملابس نسائكم، أيها المسلمون، خيام متحركة، وذيولها تثير الغبار وأوراق الأشجار؟ أو يقال لكم إنكم متخلفون جامدون لا تتغيرون ولا تتغير ملابس نسائكم تبعا لتغير الفصول ثم تصمتون؟ طيب يا سيد ماجد، فلماذا لم تقل لنا ما الذى تلبسه أمك فى كل فصل من فصول العام؟ أتراها مثلا فى فصل الصيف تلجأ إلى الإستربتيز هربا من حر القاهرة الحارق؟ لقد فاتك هذا، فنرجو ألا يفوتك إذن فى الرواية التالية التى سوف يؤلفها لك القعيد لتستكمل فيها قلة أدبك وتنفض بقية سخائمك التى ما زالت تحيك فى صدرك!
وحين تدخل مهرة المطبخ لتصنع شيئا تقدمه لماجد أثناء زيارته لها يحاول المؤلف "أبو دم يلطش" أن يتظرف، ويا ويل من تفرض الأقدار عليه أن يتعامل مع شخص دمه يلطش لكنه مع ذلك يحاول أن يبدو ظريفا، فيصورها وقد وقعت فى حيص بيص وأخذت تستعرض ما كان يمكنها أن تقدمه له لو كان متاحا عندها، من كركديه لم تشأ تقديمه له لأنها لا تتحبه لتخفيضه ضغط الدم، وكأنها هى التى ستطفحه، أو بيرة تقول إنه لم يتبق منها لديها منذ الأيام الخوالى، أيام كانت تمشى على حل شعرها، إلا الزجاجات الفارغة، ولا أدرى لماذا تحتفظ ممثلة تائبة قطعت كل علاقاتها بالماضى بفوارغ البيرة، أو ويسكى، مع أنه لم يسبق لها فى الرواية أن أتت على ذكر الويسكى بما يدل على أنها لم تكن تشربه أو على الأقل: ليس لديها منه شىء، بالإضافة إلى أنها لا يمكن أن تفكر فى تقديمه لضيفها أبدا ما دامت قد تابت وأنابت، إلا أن أبا دم يلطش لم يجد عذرا تتعلل به أمام نفسها لعدم تقديمها الويسكى للولد النصرانى إلا أنه ينقض الوضوء. ألا ترى معى، يا صديقى القارئ العزيز، أن هذا كلام يفقع المرارة ويفقع شيئا آخر غير المرارة؟ بالله ماذا يمكن أن يقول الإنسان منا للقعيد أو يفعله لو رآه بعد هذه الرواية؟ ثم إن مهرة قد صنعت فى نهاية المطاف للولد النصرانى شايا (ص82- 83). يا حلوللى! شاى؟ وهل كان هذا يحتاج إلى كل تلك المناجاة الباردة برود البطلة ومختلقها؟
يا قعيد، إن كل الناس فى مصر يقدمون لضيوفهم الشاى دون أن يدخلوا فى تلك المتاهة التى تفوقت فى صعوبتها وتعقيدها على صنع القنبلة الهيدروجينة، ودون أى شىء من ذلك السخف والتنطع الذى فلقتنا به أنت وبطلة روايتك المتخلفة، اللهم إلا بيتى، إذ نحن لا نشترى شايا ولا قهوة، بل نقدم لمن يزورنا مشروبا باردا، ولا تجلس زوجتى فى المطبخ تضرب الودع حتى تستقر على نوع المشروب الذى ستقدمه للضيف، ممسكة بوردة تقطف أوراقها ورقة ورقة وهى تقول: كركديه؟ لا. بيرة؟ لا لا. ويسكى؟ لا لا لا. شاى؟ أعوذ برب الأرض والسماوات! بل تحسم أمرها مرة واحدة وتقدم للضيف "واحد كانز وصَلّحه"، وأنا أقول لها: ولم لا تقدمين زجاجة بيبسى بدل الكانز؟ إلا أنها تصر دائما على ما تفعل، وأنا أصر دائما على ما أقول. ولكن، كما تعرفون، ليس القول كالفعل.
وفى ص111 تدعى الكذابة بنت الكذابين، مرام أم ماجد، أن واحدا من أعضاء الجماعات الإسلامية صعد إليها يوم الجمعة عند الصلاة وسألها لماذا لا يصلى المحروس ابنها الجمعة حاضرا؟ وأنها لم تدر بماذا تجيبه، فانصرف وهو يتمتم تمتمة لم تفهم منها حرفا واحدا، بل رأت فقط لحيته الكثيفة تتحرك فى غضب، وأنها قالت لنفسها إن حيرة النصارى مع المسلمين لا حدود لها: إنْ علقوا الصليب فى مكان ظاهر غضبوا، وإن أَخْفَوْه كما تصنع هى صعدوا إليها وطلبوا من ابنها أن يصلى الجمعة حاضرا بطريقة فيها تهديد ووعيد، وأنها لم يبق أمامها بعدما باعت الصليب الذهب إلا أن تأتى بصليب خشبى وتعلقه على باب الغرفة التى ينزلون فيها من اللوكاندة حتى يفهم هؤلاء القوم الباردون أنهم نصارى!
هذا ما قالته الكذابة بنت الكذابين حسبما طلب منها المؤلف أن تفعل. ولكن فات المؤلف الفاشل أن صلاة الجمعة ليس فيها حاضر وقضاء، بل صلاة جمعة فقط. خيبة الله على كل جاهل سخيف! وهذا يذكرنى بما قاله علاء الأسوانى فى روايته الشذوذية: "عمارة يعقوبيان" حين صور المسجد يوم الجمعة والخطيب يخطب خطبة مثيرة للمشاعر فيتحمس المصلون ويضجون بالهتافات، وتلعلع المصليات بالزغاريد، ولم يبق إلا أن يقول إن إحداهن قد غلبتها الحماسة فتحزمت ورقصت عشرة بلدى! وفات القعيد أيضا، لغشمه وضحالة موهبته، أنه هو ذاته قد قال بلسان الأم ضمن تعقيبها على الموضوع إن ماجد لم يكن فى اللوكاندة آنذاك. وإذن فكيف عرف عضو الجماعة الإسلامية أن المحروس لا يصلى الجمعة؟ ألا يمكن، من الناحية النظرية، أن يكون قد ذهب لصلاتها فعلا؟ أرأيت أيها القارئ مدى الصفاقة فى التحرش بالإسلام والمسلمين؟
ولكن أين يا ترى يمكن أن نعثر على تلك الجماعة الإسلامية التى تمر على البيوت، واللوكاندات فوق البيعة، وتطلب من أصحابها وقاطنيها النزول لتأدية صلاة الجمعة، وحاضرا؟ إن السعودية ذاتها، وفيها هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، التى تتلخص مهمتها تقريبا فى التثبت عند كل أذان من أن الناس تذهب إلى المسجد وتؤدى الصلاة، لا تفعل هذا، بل تكتفى بالمرور بسياراتها فى الشوارع والنداء على المسلمين أن يصلوا، ولا تصعد أبدا إلى البيوت ولا تدخل الفنادق بتاتا، بل لا تتعرض لأى إنسان راكب سيارته فى الشارع أثناء الصلاة. ثم ما السر يا ترى فى أن أعضاء الجماعة الإسلامية لم يصعدوا إلى الفندق ليطلبوا من "المحروس" النزول لصلاة الجمعة إلا الأسبوع الفائت فقط، وهو وأمه ينزلان فى اللوكاندة منذ سنين؟ حل لنا هذه الفزورة يا عم الشيخ قعيد، الله لا يسوؤك! على أى حال نحن مدينون لقعيد بالشكر لأنه اكتفى بذلك ولم يقل إن أعضاء الجماعة الإسلامية قد أحرقوا الغرفة التى تنزل فيها المرأة وابنها. الواقع أن هذا كرم حاتمى لا ينبغى أن يمر دون شكر وثناء!
وعجيب أن يقول المؤلف ذلك، وكثير جدا من الناس فى مصر لا يصلى الجمعة، بل يَبْقَوْن جالسين على المقاهى أو سائرين على غير هدى فى الشوارع أو راكبين سياراتهم ساعة الصلاة دون أن يتعرض لهم أحد بشىء، فما بالنا بمن فى المنازل والفنادق؟ بل إن كثيرا من الباعة الذين يفرشون بضاعاتهم يوم الجمعة حول المساجد لا يصلون. بل إن بعضهم نصارى، ولا يفكر أحد أبدا أن يتدخل فى شؤونهم. يا للكذابين السفهاء! أليس هناك بعض من الخجل؟ ولنفترض أن ذلك قد حدث رغم كل ما قلته، فلم يا ترى اكتفت الجماعة الإسلامية بدعوة ابن مرام النصرانى للصلاة وتركت صاحب اللوكاندة وعمالها المسلمين فلم تطلب منهم ترك اللوكاندة والذهاب للصلاة حتى يعودوا من الجامع بعدها فلا يجدوا لا اللوكاندة ولا الزبائن، كى ينبسط الشيخ قعيد؟
والله إننى لأضحك، وأنا أكتب الآن، من ذلك السخف الساخف! نعم أضحك من هذه البليّة التى رُمِينا بها على آخر الزمن، وشَرُّ البلية ما يُضْحِك. لقد كانت جدتى، يرحمها الله، تقول فى مثل هذا السياق: هَمّ يُضْحِك، وهَمّ يُبْكِى! وهذا هو الهم الذى يضحك! والبركة فى سيدنا المنتهك! فهكذا يكون الانتهاك، وإلا فلا! ثم ما حكاية اللحية الكثيفة هذه؟ أليس للقساوسة لحى كثيفة وشعثاء أيضا، ولا يفكر الواحد منهم فى تشذيبها طوال حياته؟ فلماذا لا تعاب إلا لحى المسلمين؟ لكن العيب ليس عيب المرأة النصرانية. إنها عبدة المأمور، فالعيب إذن فى المأمور! وأخيرا متى اضطر المسلمون النصارى إلى خلع الصليب من حول أعناقهم؟ ألا إن هذه لفرية كبرى، فها هى ذى الصلبان مدقوقة على أرساغهم، ومعلقة فى رقابهم، ومرفوعة فوق كنائسهم، ومحمولة فى أيديهم ينطلقون بها هائجين يقطعون بها الطريق ويروّعون المارة ويقتلون من ينصحهم بالتعقل ويحطمون بها السيارات وواجهات الإذاعة والتلفاز، وينهالون بها على الرؤوس، ثم يتنادَوْن رغم ذلك بأن المسلمين يضطهدونهم ويضيّقون عليهم ولا يعطونهم الفرصة كاملة لزرع الكنائس التى لا لزوم لها فى كل مكان وتطفيشهم من بلادهم والقضاء على إسلامهم. حَقًّا إن المسلمين ليستأهلون الحرق بزيتٍ وَسِخ! اليس خنوعهم وسكوتهم هو السبب فى أن الأمور بلغت هذا المدى؟ فليشربوا إذن من كيعانهم!
وتزعم الرواية أن زوج مرام، وهو مهندس يشتغل فى شركة يملكها نصارى، قد تلقى من مرؤوسيه المسلمين تهديدات بالقتل أدت به فى نهاية المطاف إلى الهجرة وترك الديار (ص119 وما بعدها). لكن متى بالله قتل المسلمون فى مصر نصرانيا على هذا النحو؟ الحق أن الذى يحدث هو العكس من ذلك تماما، فالنصارى هم الذين يقتلون من تُسْلِم من نسائهم تطبيقا لفتوى توجب قتل المرتد عن النصرانية إذا لم يقدروا على خطفها وإيداعها الدير، ثم لا يكتفون بقتلها بل يقتلون زوجها المسلم وأولادها، على حين لم يحدث أن قتل المسلمون أى متنصر منهم رغم أن المتنصرين لا يكتفون بالتنصر والعيش فى دينهم الجديد فى هدوء بل ينطلقون فيشتمون الإسلام ويشتمون أتباعه ورسوله وكتابه، لا فى الدائرة الضيقة التى يعيشون فيها بل فى أجهزة الإعلام فى سمع الدنيا كلها وبصرها. وكل هذا مسجل بالصوت والصورة. وما محمد حجازى وزوجته ومحمد رحومة ونجلاء الإمام وريهام عبد العزيز مثلا بالحالات التى يجهلها أحد. وذلك على العكس التام مما يسلكه من يعتنق الإسلام من النصارى، إذ يحاول العيش فى هدوء، وبخاصة فى ظل ما كان سائدا من قهر للمسلمين وبطش بهم فى عهد المخلوع، الذى كان يناصر الكنيسة وكبيرها على حساب الدين الذى ينتسب رسميا إليه، إذ كان يسلم من تتنصر إلى الكنيسة فتحبسها فى الدير وتسومها سوء العذاب ولا يعرف الجن الأحمر ذاته شيئا عن مصيرها. وعبثا يحاول المسلمون وبعض النصارى الشرفاء الاستعانة بالقانون على معرفة أى خبر عن النساء اللاتى من هذا النوع، ولكن لا حياة لمن يستغيثون بهم من حكام ومسؤولين وقانونيين. وسلم لى على الدولة المدنية التى يصدعون أدمغتنا بالرغبة فى إقامتها، إذ الدولة المدنية التى يريدونها لا تعنى سوى محو الإسلام وسَبّ رسوله وإلهه وكتابه وترك الحبل على الغارب لبناء الكنائس فى كل شبر من أرض مصر وفى الأماكن البارزة منها وتمكين المنصرين من فتنة المسلمات والمسلمين عن دينهم وإلغاء النصوص القرآنية والحديثية التى لا توافق الهوى السامى وحذف المادة الثانية من الدستور بمعاونة العلمانيين والملاحدة ممن لا يكرهون من الأديان إلا دين محمد لا غير، مع الدفاع فى ذات الوقت عن حق كبير النصارى بفرض فهمه هو للنصوص الإنجيلية على جميع الأرثوذكس، وهو ما يعنى إلغاء الإسلام لحساب الكنيسة!
ولكن لماذا تلقَّى عبود بقطر تهديدات القتل المزعومة؟ أتريد الجواب أيها القارئ؟ إذن فاسمع واعجب: تقول الرواية الكاذبة الخاطئة إن المسلمين الذين يعملون تحت إمرته فى الشركة النصرانية لم يطيقوا أن يترأسهم بعدما رقاه أصحاب الشركة إلى رتبة المدير، إذ قال المسلمون الأغبياء المتعصبون طبقا لما صوّرتهم به الرواية إنهم لا يقبلون أن يكون لنصرانى ولاية على مسلم، وكأننا لسنا بصدد مدير فى شركة صغيرة، بل بإزاء رئاسة الأمة الإسلامية كلها من المحيط إلى المحيط. كل هذا، والشركة كما قلنا، شركة نصرانية. وهو ما يعنى أن صاحب الشركة حر فى شركته يُؤَمِّر فيها من يشاء على من يشاء، فهى قطاع خاص، وأصحاب القطاع الخاص يعملون فيه ما يحلو لهم. فهل يمكن أن يصدق عاقل هذا الهراء الذى تقوله الرواية المدلسة؟
لقد تربيتُ أنا مثلا أثناء المرحلة الثانوية فى مدرسة من مدارس طنطا، وكان يدرّس لنا مواد الرياضيات والجيولوجيا والتاريخ والجغرافيا أساتذة نصارى، وكنت آتيا طازجا من معهد طنطا الأحمدى، وحَزّ العمامة لا يزال ناصعا على جبهتى، ولم أجد أية غضاضة فى ذلك. بل كان وكيل المدرسة أيضا نصرانيا، وكان شديدا صارما، ويضربنا بالخيزرانة إذا ما قَصَّر أى منا أو خرج على النظام فلا يستطيع أحد من الطلاب أو من أولياء أمورهم أن يقول له: ثلث الثلاثة كم؟ ومرة أخرى لم نكن نشعر بأية غضاضة من جراء هذا. كما اشتغلتُ فى مقتبل حياتى الوظيفية فى بعض المدارس النصرانية، وكان أصحابها ومديروها والمسؤولون فيها جميعا نصارى، ولم نشعر هنا أيضا بأية غضاضة من أى نوع. وهناك المديرون النصارى فى المؤسسات والشركات المختلفة، وهناك رؤساء الأقسام النصارى فى هذه الكلية أو تلك، وهناك المحافظون النصارى، وهناك وكلاء النيابة والقضاة والمستشارون النصارى، وهناك الضباط النصارى فى الشرطة والجيش على السواء، وتحت إمرة كل واحد من هؤلاء كثير من المسلمين، ولم يحدث أن سمعنا إنكارا أو استنكارا من جانبهم.
والعجيب الغريب أن تكذب مرام دون حياءٍ منكرةً أن يكون فى مصر بطولها وعرضها ضابط نصرانى يوحّد الله، أو يثلّثه بالأحرى، إذ تتساءل باستغراب شديد قائلة: "هل هناك ضابط منا؟" (ص125- 126). وبطبيعة الحال لا مرام استنكرت ولا مرام دهشت ولا مرام فتحت فمها بكلمة، بل لا يوجد شىء اسمه مرام البتة، إذ القعيد هو الذى اختلقها ونسب إليها هذا كله ليسوّد وجه المسلمين والإسلام مثلما زعم أن المسلمين الذين كانوا يشتغلون فى تلك الشركة المذكورة قد أخذوا منذ ذلك الحين يصلّون فى وقت العمل جماعة أمام مكتب عبود نفسه وداخله أيضا، ثم يعلنون أنهم سيبنون مصلى فى الشركة حتى لا يجتاح الغضب الإلهى البر كله، وكل ذلك تعبيرا عن تمردهم على ترقية عبود.
ولا يفوت الكاتبَ أن يسخر من المسلمين فيقول على لسان عبود إنهم كانوا يصلّون على قطع من البلاستيك الرخيص، ويؤمهم أكبرهم سنا، وأغزرهم ذقنا، وأكبرهم ذبيبة (بالذال طبعا كما ينبغى أن يكتبها عبقرى منتهك!)، وأطولهم سبحة، ويختار من آيات كتابهم كل ما يؤذى شعوره، إذ يقرأ الآيات التى تتكلم عن السيدة العذراء وعن السيد المسيح (ص144). يقصد أنه يتعمد اختيار الآيات التى تتحدث عن المسيح عليه السلام بوصفه نبيا لا إلها، وعن أمه بوصفها صِدِّيقة مباركة لا أما للإله. أى أن المسلمين لا يصلّون عبادةً لربهم بل كراهيةً منهم لشركائهم فى الوطن. و هذا كله كذب وقلة أدب، إذ إن المسلمين لا يصلون فى العمل إلا صلاة الظهر، ويمكن أن نضيف إليها صلاة العصر أيضا فوق البيعة كنوع من الأوكازيون، إذ نحن فى موسم انتخابات، ويهمنا التوسعة على المواطنين. وما دام ليس عندنا لحم نوزعه فلنوزع عليهم الصلاة. وعليهم أن يحمدوا ربهم لأننا لن نوقفهم فى طوابير كطوابير فراخ الجمعية أيام خالد الذِّكْر (آسف: أقصد خامد الذِّكْر)، بل سنقذفها فى الهواء، ومن يحب النبى ينط! لَكِنْ معروفٌ لكل حمار أن صلاة الظهر والعصر سرية لا يسمع أحد شيئا مما يتلوه المصلى فيها من قرآن، فكيف عرف الخنزير عبود أن الإمام إنما يختار عن عمد وسبق إصرار ما يؤذى مشاعره؟ بل كيف يجرؤ هذا الكذاب الوقح فيقول رغم ذلك إن أصحاب الشركة نصحوه بأن يسد أذنيه ويجعل واحدة من طين، والأخرى من عجين (جاءك هَمّ ثخين!) حتى لا يسمع ما يتلوه الإمام؟ لكن نعود فنقول إنه لا عبود سمع شيئا مما يتلوه الإمام ولا كانت هناك صلاة فى مكتبه أصلا، بل ليس لعبود هذا نفسه وجود، إذ المسألة كلها من بُنَيّات الخيال القعيدى الكسيح. ترى هل هذا كلام رجل مسلم؟ إنها والله لفضيحة! فضيحة له، وفضيحة للناقد الأزهرى الدرعمى الواقع فى غرامه المولَّه بعبقريته العديمة المثيل. لكن ماذا نقول فى الزمن الوغد؟
والواقع أننا عشنا طول عمرنا ونحن نرى فى كل وزارة من الوزارات المصرية المتعاقبة عددا من الوزراء النصارى، ونجد ذلك أمرا عاديا لا يضيرنا فى شىء. وما بطرس غالى، الذى كان يسوم الشعب المصرى سوء العذاب، ثم اتضح أنه قد بدد الأموال الضخام من الخزينة التى اؤتمن عليها، ببعيد. وقد صرح شيخ الأزهر الحالى ذات مرة قبل خلع حسنى مبارك بأن الأزهر نفسه يخضع فى ماليته لذلك الوزير النصرانى وأن رجال الأزهر لا يجدون فى ذلك ما يمكن أن يغضبهم. بل عندنا الآن الوزير منير فخرى عبد النور، ولم يعترض أحد عليه رغم أنه ما يسترو تسليم وفاء سلطان إلى الكنيسة لحبسها فى الدير، ومن يومها لم يسمع أحد خبرا عنها حتى لقد قيل إنها قُتِلت فى التعذيب حين لم يستطيعوا أن يحملوها على الارتداد عن دينها الجديد، ولم تستطع قوة فى الدولة، التى كانت تفتك بالمسلمين وتعتقل منهم عشرات الآلاف ظلما وعدوانا وتقتل منهم من تشاء دون حسيب أو رقيب، أن تصنع شيئا لها أو للمسلمين، الذين يَرَوْن فى هذا إهانة وأية إهانة لهم، إذ يجدون أنفسهم عاجزين عن إنقاذ واحدة منهم من المصير الأسود الذى انتهت إليه. وسلم لى على الدولة المدنية، التى هَبَّ من ينادون بها ويصرخون من أجلها من العلمانيين والملاحدة هائجين مائجين لأن الوزير الذى تولى الثقافة بعد الثورة افتتح كلامه ذات مرة بالبسملة، ولم يشفع له أنه هو ذاته قد صرح أثناء أزمة المآذن فى سويسرا بأنه لا يصح أن تكون هناك مآذن فى تلك البلاد لمخالفتها المنظر المعمارى العام، متناسيًا ذلك "المبسملُ" أن منظر الكنائس التى تشبه القلاع والحصون بصلبانها وأبراجها لا يتمشى مع المنظر المعمارى العام فى مصر ولا فى أى بلد إسلامى آخر، ومتناسيا أيضا أن فتواه الهندسية هذه ليس لها من معنى إلا أن أهل كل دين يختلف عن دين الأغلبية فى أى بلد من البلاد لا يصح لهم أن يبنوا لأنفسهم دارا للعبادة لأنها سوف تخالف المنظر المعمارى العام، ومتناسيا للمرة الثالثة أن من السهل استيحاء تصميم للمئذنة يتماشى مع المنظر المعمارى العام فى سويسرا وغير سويسرا، وما ذلك على المهندسين المعماريين بصعيب، إذ من المعروف أن تصميم المئذنة، بل تصميم المسجد كله، كثيرا ما يختلف من بلد إلى آخر طبقا لاختلاف الذوق المعمارى، ومتناسيا للمرة الرابعة أن المآذن موجودة فى كل بلاد العالم بما فيها كثير من الدول الأوربية وأمريكا ذاتها، ولم تؤذ أحدا بمخالفتها للمنظر المعمارى العام، ومتناسيا خامسا أن الغربيين قد فلقونا ليل نهار، ونهار ليل بتشدقهم بالحرص على التنوع الثقافى فى بلادهم. أم ترى التنوع الثقافى يتسع فى نظرهم لكل الثقافات والأديان ما عدا الإسلام وثقافة الإسلام؟
المهم أن عبود بقطر، رغم ذلك كله، لم ير مفرا من الهرب خارج الديار، وهو تصرف اصطنعه المؤلف اصطناعًا ليتهم المسلمين بالتعصب الكريه ويعطى النصارى الفرصة لتعضيد دعاواهم ضدنا فتشتعل البلاد بفتنة طائفية أخرى ويحرز بُنْطًا على قفانا نحن المسلمين المساكين الذين لا حول لنا ولا طول، ولا عم لنا فى الحكومة ولا خال. ووجه التكلف السخيف هو أنه فى الوقت الذى لا يرى المسلمون فى مصر غضاضةً فى أن يكون المديرون فى شركاتهم الحكومية العامة نصارى، يريد القعيد أن يوهمنا بأنهم يرفضون أن يكون رئيسهم فى شركة نصرانية خاصة مديرا نصرانيا، أى مديرا ينتمى إلى دين صاحب الشركة. طيب، فلماذا قبلوا رئاسة صاحب الشركة عليهم وهو نصرانى، ورئاسته بلا شك أقوى وأمعن فى الاستفزاز من رئاسة المدير لأنه يجمع إلى جانب الرئاسة سلطة المال؟ بل إن القعيد يمضى فى الهَلْس إلى المدى الذى يحاول فيه أن يقنعنا بأن صاحب الشركة ذاته قد نزل على رغبة أولئك الوحوش المتعطشين للدماء النصرانية، فطلب من المدير ابن ملته أن يتوارى عن الأنظار ولو مؤقتا ريثما ينجلى الموقف. والمصيبة الكبرى أن الرواية الكذابة تزعم أن المسلمين فى تلك الشركة النصرانية لم يكونوا يخاطبون صاحب الشركة ولا المدير المرفوض بما يريدون، بل لم يرفعوا خطابات إليهما بهذا المعنى، مكتفين بأن يضعوا خفيةً فى مكتب المدير تهديداتهم الغُفْل من التوقيع. ومعنى هذا أنهم ليسوا من القوة التى تُصَوِّرها الرواية زورا وبهتانا، وإلا لجابهوا الرجلين بما يريدون. أفيريد قعيد منا أن نصدق تُرّهاته الفِجَّة هذه؟ كلا والله، فَدُونَ ذلك خَرْط القَتَاد كما كان أجدادنا العرب يقولون!
والعجيب أن الرواية التى تَدَّعِى هذا الكذب الإجرامى على المسلمين هى نفسها الرواية التى تقول إن عبود لم يفكر فى أى شخص يرسل عن طريقه المبلغ الشهرى إلى زوجته وابنه إلا امرأة مسلمة هى مهرة، الممثلة التائبة المتحجبة. فأى خبص هذا؟ ترى إذا كان الرجل قد هاجر من مصر تحت ضغط التعصب الإسلامى الظلامى الحاقد، فكيف لم يثق فى أحد يرسل عن طريقه المال لزوجته وابنه إلا امرأة من نفس طائفة أولئك المتعصبين الهمجيين، بل من أشدهم تعصبا، إذ هى امرأة متحجبة متخلفة؟ بل كيف أَمِن على زوجته وابنه فتركهما بين هؤلاء المتوحشين أكلة لحوم النصارى، الذين هددوه بقتله وخطف ابنه وتشويه وجه زوجته بماء النار، ثم أتبعوا التهديد بإعطائه علقة سريعة كعَيِّنة لما ينتظره من متاعب لو أصر على موقفه ولم يترك العمل (ص46، 148- 149)؟ ودعنا الآن من الخبص الآخر المتمثل فى أن عبود بقطر، حين قرر الهجرة من البلاد، قد اتبع أساليب غاية فى السرية والتعقيد وعاش طوال الوقت فى رعب قاتل، وكأن الإنتربول والسى آى إيه والموساد والسافاك جميعا، ولا أدرى ماذا أيضا من أجهزة المخابرات الأخرى، يطاردونه ويعملون على منعه من السفر، مع أن هجرته سوف تكون لصالح المسلمين المتعصبين الحاقدين أعداء الحياة والنجاح، ومن ثم لن يعرقلوها بل سوف يبتهجون بها. فلماذا يخفيها عبود؟ ألا إنه لغبى مبين! إلا أن عبود مظلوم، فليس هو الذى فعل هذا من تلقاء نفسه، بل المؤلف هو الذى وسوس له به وأكرهه عليه. فأية عبقرية هذه؟ كذلك دعنا من الخبص الثالث الذى وسوس لعبود ألا يرسل المال مباشرة لزوجته وابنه فيريح ويستريح، ومن ثم لا يجد يوسف القعيد سببا لتأليف روايته التافهة المتهافتة المفككة، والتى تقوم من أولها إلى آخرها على أن المبلغ الشهرى كان يصل إلى مستحِقَّيْه عن هذا الطريق اللولبى الذى يذكرنا بالمثل القائل: "من أين أذنك يا جحا؟". ويزيد الأمر خبصا ولبصا أننا، على طول الرواية من أولها إلى آخرها، لا نعرف طبيعة العلاقة بين عبود ومهرة، بل لم يحدث أن تقاطع طريقاهما قط، إذ كانت تعيش فى عالم لا صلة بينه وبين عالم عبود البتة. وهو ما يطعن الرواية فى الصميم، إذ يأتى إلى عمودها الأساسى فيجتثه من جذوره فتخرّ الرواية خاوية على عروشها ولا تعود تصلح بعدها لشىء أبدا. إلا أن المؤلف، ولا أدرى كيف، قد مضى فى تسخيم الصفحات بأحداث مفتعلة ملفقة، وشخصيات لا تقنع بتصرفاتها ولا بكلامها ولا بصِلاتها بعضها ببعضٍ قطة. يا لصبره العجيب! لا ريب فى أنه يستحق جائزة نوبل مكافأة له على مقدرته الفريدة فى تحمل الملل طوال مائتين وخمس وستين صفحة هى صفحات روايته السمجة التى تأخذ بأكظام النفس بسبب ما فيها من سأم يصيب الإنسان بكَرْشَة نَفَس! يا حفيظ! صدق "أمير الشعراء العرب فى النصف الثانى من القرن العشرين" طبقا لشهادة قعيد: دبيبُ فَخِذ امرأة بين إليتَىْ رَجُل سَأَم!
والعجيب كذلك أن الرواية التى تفترى كل هذا الكذب البشع على المسلمين هى نفسها الرواية التى تقول على لسان صاحب الشركة ذاته إن شركته، رغم المنافسة الهائلة التى تَلْقَاها من بعض الشركات الأخرى، تتقدم أسرع من الصاروخ لدرجة أنها توشك أن تلتهم السوق لا فى المدينة التى تقع فيها فحسب، بل فى المدن المجاورة أيضا، وإنه من المنتظر أن يصبح هدفها التالى الصعيد كله: الجوانى والوسطانى والبرانى، وذلك رغم أن الشركة كانت مدعومة بالتمويلات الأمريكية التى تأتيها بالأمر المباشر من وراء المحيطات البعيدة حتى تستطيع أن تهزم الشركات المنافسة لها حسبما قال عبود نفسه (ص145- 146). إذن فليست هناك أية مشكلة على عكس ما تزعم الرواية، وإلا فكيف تنجح شركة نصرانية تتلقى المساعدات الأمريكية لأغراض سياسية كل هذا النجاح فى وسطٍ إسلامىٍّ مُعَادٍ للنصارى كل هذا العداء؟ ومعروف أن النصارى المصريين يسيطرون من الاقتصاد المصرى على نسبة أضخم من نسبتهم بين أهل البلاد بأضعاف. ومنهم من يُعَدّ بين أغنى أغنياء العالم كآل ساويرس، الذين يحيط بثروتهم وتكوينها بسرعة غير مفهومة كثير من الكلام، ومع هذا لم يلمسهم المسلمون بأى أذى. ولو كان المسلمون كما تصفهم الرواية لقاموا إلى ساويرس وإخوته وأكلوهم أكلا. وما الساويرسيون سوى مثال يُضْرَب فى هذا المجال، وإلا فأمثالهم بين نصارى الوطن كثيرون.
على أن الرواية لم تتوقف فى الكذب والتدليس والرغبة الشيطانية الآثمة فى إشعال الوطن عند هذا الحد، بل مضت فادعت بالباطل كعادتها أن مرام كانت تتلقى هى وابنها تهديدات (ص123). ولكن متى تلقيا تلك التهديدات؟ ليس فى الرواية الكذابة شىء عن ذلك. ومن هم أولئك المهدِّدون؟ لا ندرى. إنما هى مزاعم، والسلام! ثم لماذا يهددونهما؟ لقد كانت مرام امرأة كبيرة هجرها زوجها، وكانت تعيش هى وابنها على الكفاف ويكملان عشاءهما ماء غير قراح، ويرتدى الولد ملابس مرقعة (وا حَرَّ قلباه!)، فلماذا يهددهما المهدِّدون؟ ثم ها هم أولاء ملايين النصارى الخمسة يعيشون بين ظهرانَيْنا فى أمان، ويأكلون كبدة باطمئنان، ويقرأون الفاتحة للسلطان، كل ذلك دون أن يتعرض لهم متعرض بأذى أو يخطف أحد لهم ولدا أو يزورهم زوار الفجر المجرمون المتخصصون فى ترويع المسلمين وحدهم وسوقهم إلى المعتقلات بعد تحطيم أثاثهم وفراشهم، والاعتداء على أعراض نسائهم فى غير قليل من الأحيان، وكذلك دون أن يفكر أحد فى اقتحام كنائسهم وفض من يوجدون بداخلها، على عكس المساجد، التى تغلق عقب الصلاة مباشرة، ويا ويل من يُضْبَط ملتبسا بالبقاء فيها عندئذ!
ولكن أترى القعيد قد همد بعد هذا؟ أبدا، بل استمر فى سخافاته وتدليساته المقيتة التى لا أعرف كيف كانت تواتيه نفسه على اختراعها بكل هذا البرود. تصوروا أيها القراء أنه قد وصل به الزعم البَجِح إلى أن يقول على لسان مرام عقب هجرة زوجها من البلاد إنها فكرت، ضمن ما فكرت فيه من حلول، فى إحضار مربية مسلمة لابنها ترعاه أثناء غيابها فى العمل، لكنها تراجعت لتيقنها أنها لو فعلت هذا لسكب المسلمون البنزين على بيتها وأحرقوه فى عز النهار ولامتنع الجميع عن إطفاء النيران (ص131- 132)، وكأننا فى مجاهل أفريقيا بين أكلة لحوم البشر. انظروا، بالله، إلى هذا الفجور السمج الذى يدل على أن الكاتب قد اختلق هذا اختلاقا ككل شىء آخر فى الرواية، وبالذات ما هو مسىء منها إلى المسلمين، فتراه يتحكك دائما بهم ويفترع لهم المناسبات والأحوال التى تعطيه الفرصة لتشويه صورتهم وتقبيح كل ما يتعلق بهم، وإلا فلماذا لم تفكر بوز الإخص هذه فى إحضار مربية نصرانية فتضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد: العصفور الأول أن ترعى المربية النصرانية ابنها. والعصفور الثانى أن تطمئن إلى أن المربية لن تلقنه، عمدا أو عن غير عمد، شيئا من عقيدة التوحيد. والعصفور الثالث أن تنفع بما سوف تدفعه من مالٍ امرأةً نصرانيةً لا مسلمة تنتمى إلى الهمج المتوحشين أكلة لحوم البشر. وإذن ماذا؟ وإذن فالعقيد يختلق المناسبات السخيفة اختلاقا كى يتجنى على المسلمين ويصورهم بصورة الشياطين كما أوضحنا!
ورغم أن المسلمين طوال الأربعة عشر قرنا الماضية لم يحدث بتاتا أن قالوا إن مصر هى بلدهم وحدهم، بل النصارى هم الذين يقولونه، وعلى مرأى ومسمع من الدنيا جمعاء، فإن الكاتب المنتهك ينطق مصطفى نور الدين، فى آخر لقاءٍ جمعه ومهرة، بنصيحة ينصحها فيها أن تفتعل مشاجرة بينها وبين الولد النصرانى ثم تَدَّعى أنه اعتدى عليها ليقوم هو بعمل الباقى المطلوب كيلا تدفع له المبلغ الشهرى الذى ضيعتْه آخر مرة ثم أتت إليه تستعينه على تسديده، فأجابته قائلة: "ولكنكم تشعلون الفتنة بهذه الطريقة"، فيقاطعها قائلا: "الفتنة الطائفية؟ من قال هذا؟ هذا التعبير فخ لا وجود له سوى فى الإعلام. الشيوعيون هم أصحاب التعبير. لسنا طائفتين فى البلد. إنها طائفة واحدة. هذا بلد للمسلمين فقط" (ص196- 197). ورغم أنى لم أحضر مثل هذا الحوار، بل رغم معرفتى أنه اختراع سخيف من القعيد، أستطيع أن أؤكد بكل يقين أن ما قاله مصطفى نور الدين عن مؤامرات الشيوعيين هو كلام فى محله تماما، فها هم أولاء يفترون على المسلمين الأكاذيب ويزعمون أنهم يَرَوْن أنفسهم أصحاب البلد دون منازع مع أنهم لم يقولوا ذلك يوما، بل قائلوه هم النصارى كما يعرف ذلك القعيدُ قبل غيره، إلا أنه يقلب الحقائق قلبا!
وعلى ذلك فقول الناقد الانتهاكى إن "العنوان الفقهي للرواية يُسْتَخْدَم بطريقة مجازية تحتمل تأويلات عدة لعل أقربها إلى الأحداث هو شراكة المواطنة عندما يتهددها الاحتقان والافلاس، فتهرع كل طائفة لكي تحظى بنصيبها من الدَّيْن في رقبة الوطن ولو أدى ذلك إلى ذبحه" هو قول يقوم على التدليس وإخفاء الحقائق، إذ لم يحدث بتاتا أن نادى المسلمون بوجوب مغادرة النصارى لمصر بوصفهم أغرابا عنها، وعليهم تركها لهم لأنهم هم وحدهم أصحابها، إذ إن المسلمين يحترمون أوامر دينهم، التى تأمرهم بالعدل والبر والإحسان مع غيرهم أيا كان هذا الغير، فما بالنا بالجيران شركاء الوطن؟ إن صدر الوطن الحنون وقلبه الرحيم ليتسعان لنا جميعا، ولا معنى إذن لأن نضيّع أعمارنا فى تآمر بعضنا على بعض، فالحياة قصيرة، ولن يستفيد من التناحر بين أبناء الوطن الواحد إلا أعداؤهم ومبغضوهم. أما إن استمر السفهاء السفلة على غيهم وزعمهم بأن المسلمين ضيوف فعلى المسلمين أن ينتهجوا معهم نهجا آخر. ولا أظنهم بحاجة إلى أن يدلهم أحد على هذا النهج، وإلا لكانوا لا يستحقون الحياة!
ومثل ذلك سخفا وكذبا وتدليسا أن ينسب قعيد إلى شخص مسلم قوله إن هناك حربا الآن بين محمد والمسيح، والمراد معرفة من منهما سوف ينتصر على الآخر فى النهاية. يقصد الحرب بين الدول الصليبية وبين المسلمين. وقد أجرى قعيد هذا السخف على لسان مصطفى نور الدين، الذى أصابته شوطة الانضمام إلى الجماعات الإسلامية. وكان مصطفى يوجه الكلام إلى مهرة حين قصدته تطلب منه إمدادها بثلاثمائة جنيه تدفعها للولد النصرانى بدلا من الثلاثمائة التى كان أبوه قد أرسلها له ولأمه عن طريقها والتى ضيعتها تحت ضغط الحاجة بسبب الارتفاع الجنونى فى مستوى المعيشة (ص194).
وإذا كنتُ قد وصفتُ الكلامَ الموضوعَ على لسان مصطفى نور الدين بالسخف والكذب والتدليس فذلك لسبب هام وجوهرى، وهو أن المسلمين لا يمكن أن يفكروا على هذا النحو الغريب رغم أنه يمثل جزءا من التفكير الصليبى الذى لا يؤمن بنبوة محمد عليه السلام ويرى فيه عدوا للمسيح. أما فى الإسلام فالمسيح لا يضاد محمدا، بل هو أخوه، ودينه هو دينه، إذ جاء كلاهما بالتوحيد الصافى والأخلاق الفاضلة، مع بعض التلوينات الفرعية هنا وهناك مما لا يمس العقيدة ولا الأخلاق، وإنْ مَسَّ التشريعَ فى بعض الأشياء. ومعروف أن إيمان المسلم لا يكمل ولا يُقْبَل إلا بالإيمان بالمسيح وسائر الأنبياء والمرسلين. وعلى هذا فمن المستحيل أن يتصور المسلم يوما نبيه الكريم وقد وقف ضد المسيح. أترى الشخص الواحد يمكن أن ينقسم على نفسه فيعاديها ويحاربها ويعمل على الانتصار عليها؟
قال تعالى: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" (الشورى/ 13). وقال صلى الله عليه وسلم: "إن مَثَلي ومَثَل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية. فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون: هلا وُضِعَتْ هذه اللَّبِنة؟ قال: فأنا اللَّبِنة، وأنا خاتم النبيين". وقال عليه السلام أيضا: "أنا أَوْلَى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لِعَلاَّت: أمهاتهم شتى، ودينهم واحد". فكما نرى فإن العلاقة بين محمد والمسيح ليست علاقة عداوة وتنافر، بل مودة تكامل. فكيف يتصور متصور، إلا أن يكون جاهلا حمارا أو فى قلبه مرض، أن يدور بعقل المسلم إمكان قيام حرب بين محمد والمسيح؟
وفى موضع آخر من الكتاب يتقمص المؤلف شخصية مصطفى ويروح فى نوبة هستيرية مفتريا على المساجد المفتريات: ففى المساجد، حسب مزاعمه الرخيصة، محلات كوافير للنساء، وفيها محلات لبيع الجلابيب البيضاء، وفيها محلات لبيع السُّبَح، وفيها سنترالات هاتفية، وفيها فوق البيعة بوفيهات لا تقدم سوى الحلبة والجنزبيل والقرفة والينسون. أما الشاى والقهوة فمشروبان غير مستحبين. وهناك أيضا لمن يجوع الأرز أبو لبن والمهلبية (ص215). ولست أملك إلا أن أهتف قائلا: الله على المشروبات اللذيذة، وعلى الأرز أبى لبن والمهلبية، وإن كان لى عتب صغير على قعيد أرجو أن يتقبله منى دون حساسية، إذ لم يذكر "أم على"، التى أموت فيها: طبعا "أم على" الأَكْلة، لا "أم على" الامرأة، فقد صرت شيخا عجوزا لا أرب لى فى النساء. إنما الأَرَب كُلّ الأَرَب عندى الآن فى قراءة الروايات التافهة ومسح الأرض بها. ولكنى مع هذا لا أفهم كيف تصور قعيد أن كلامه هذا سوف ينفّر الناس من المساجد وممن يَتَوَلَّوْن أمر المساجد. أهناك من يكره المهلبية والأرز أبا لبن يا أبا حجاج؟ أهناك من ينفر من الينسون والقرفة والحلبة، خاصة حين يضاف إليها اللبن، فيزيدها لذاذة على لذاذة؟ أما الجنزبيل أو (الزنجبيل: لا فرق) فلست مغرما به، فيمكنك يا أخى أن تحذفه من "المِنْيُو" فى روايتك القادمة! ويبقى الشاى والقهوة، ولا أعرف من أين لخيالك السقيم بأن المتدينين يكرهونهما؟ ترى أهناك حديث لا نعرفه يقول: من شرب الشاى أو القهوة دخل النار وفُرِض عليه أن يقرأ "قسمة الغرماء" فيتجرع الملل الفظيع سبعين خريفا كل خريف منها قدر "خريف البطريارك" سبعين مرة؟
ألا ليت كلامك عن توفر القرفة والينسون والحلبة فى البوفيه المسجدى، وأضف إلى ذلك أيضا السحلب من فضلك، يكون كلاما صحيحا رغم أنى أشك فيه كَشَكِّى فى كل ما جاء فى روايتك التافهة. إذن لواظبتُ من فورى هذا على الصلاة فى المسجد كل أذان، ولم أتكاسل وأَكْتَفِ بتأديتها فى المنزل. فهأنتذا ترى بنفسك كيف أن كلامك دائما ما ينقلب عليك! أنت تريد التهكم على المساجد والمسجديين، فإذا بك تحببنى فيهم وتجعلنى أتمنى أن أكون معهم، على الأقل: حبا فى القرفة والينسون والسحلب، ويا حبذا لو كان سحلبا محوَّجا بجوز الهند واللبن والزبيب (بالزاى يا عم قعيد والله لا بالذال كما يكتبها أشباه الأدباء ممن لا يتميزون فى شىء عن تلاميذ المدارس الذين ما زالوا يتعلمون القراءة والكتابة) والمكسرات أيضا رغم تحذير الأطباء لى من الكولسترول، ذلك السحلب الذى كنا نشترى الكوب منه فى ستينات القرن الماضى بعشرة قروش، وصار اليوم بعدة جنيهات. ونترك الخمرة للشيوعيين الذين يُؤْثِرون منقوع البراطيش على تلك المشروبات اللذيذة. هذا عن المشروبات العطرية، التى لا أصدق رغم ذلك ما تقوله روايتك عن تحول المسجد بوفيهًا يقدمها لرواده، وكأن المسجد قد صار قهوة بلدية، والإمام جرسونا فى وسطه فوطة صفراء، وبدلا من أن يقول: "سَوُّوا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة" نسمعه ينادى: "أَيْوَه جاى! واحد ينسون وصَلّحه!". أما بالنسبة إلى محلات الكوافير النسائية ودكاكين الجلاليب وما أشبه فاسمح لى، ولا مؤاخذة، أن أقول لك: إنه هَلْسٌ فارغٌ فراغَ عقل من يردده.
ثم من أين لك بالدعوى التافهة التى تزعم أن المتدينين يعتقدون بأن الشعر "ضلال مبين" كما رَدَّدْتَ على لسان مصطفى نور الدين أيضا (ص220)؟ أقول لك الحق؟ الواقع أنه لو كان شعرا سخيفا كالنثر الذى تكتبه فى رواياتك البائسة لوافقتك بالثلاثة على أنه فعلا ضلال مبين! أما الشعر الجميل الذى أدرّسه للطلاب فى الجامعة من عصور الأدب العربى المختلفة، وليس لأمير الشعراء العرب فى النصف الثانى من القرن العشرين الذى يبدو أنك لا تعرف إلا إياه ولا تحفظ له إلا الـ"كَمْ كلمة" التى أوردتَها على لسان مهرة، وهذا إن كان أميرا أو حتى خفيرا، وهو ما لا يشغلنا الآن، أقول: أما ذلك الشعر الجميل فكلا وحاشا، على الأقل: من باب أنه "سبوبة" للحصول على لقمة عيشى أنا وأولادى. أم تريد لى بعد هذا العمر الطويل أن أُفْصَل من الجامعة وأجد نفسى مرميا على الرصيف ما دام الشعر ضلالا مبينا لا يصح قوله ولا حفظه فضلا عن تدريسه حسب فتواك، وأمد يدى لمن يساوى ومن لا يساوى وأنا أصيح: "عشاء الغلابى عليك يا رب!"، وحولى زوجتى وأولادى فى الأسمال البالية يتضورون جوعا ويرتجفون من البرد؟ فأل الله ولا فألك يا شيخ!
ومُضِيًّا مع سخافات القعيد التى لا تنتهى أسوق الآن ما أَنْطَقَ به مهرة من أن العين السحرية التى فى أبواب الشقق هى من اختراعات أمريكا أرسلها لنا الصليبيون كجزء من المؤامرة (ص221). وبطبيعة الحال يريد سيدنا الانتهاكى أن يسخر من المتدينين رغم أنه لا يوجد مسلم على وجه الأرض ولا حتى فى باطنها يقول بهذا السخف الذى برع فيه القعيد ولا يمل من كتابته. ولم لا، ومن الواضح أنه فاضٍ أمامه الوقت الذى فى الدنيا كلها لا يدرى ماذا يعمل به؟ إن القعيد يصور لنا ناسا لا أدرى من أين استجلبهم ليمثلوا دور الأبطال فى روايته، وواضح أنهم أبطال معاتيه لا يأتون من الأفعال ولا ينطقون من الأقوال إلا بكل سمج مرذول. ولم يبق إلا أن يقول إنهم لم يكونوا يركبون الحافلات أو السيارات فى تنقلاتهم، وإنما يمتطون ظهور الحمير، ثم إذا ترجَّلوا عنها ربطوها من خِطَامها فى واحد من شبابيك المكان الذى يقصدونه، حتى إذا انتهَوْا من قضاء حاجاتهم وعادوا أَلْفَوْها فى مكانها لم تشرد منهم. ترى بالله عليكم ماذا فى العين السحرية مما يناقض الإسلام أو يشكل مؤامرة صليبية على المسلمين؟ ليست العبرة بالعين السحرية ولا بأى شىء آخر مما ننقله عن الغرب بل بطبيعة استعمالنا له. فالقلم والورق مثلا لا يخطر على البال عادة أن يكونا جزءا من المؤامرة لأننا لم نأخذهما عن الغربيين، ومع هذا فمن الممكن أن يكونا جزءا من المؤامرة فعلا كما هو الحال حين يكتب أحدهم مثلا ممن لا هو فى العير ولا فى النفير كتابا حسب الطلب ينال فيه من الإسلام والمسلمين ويعطونه فيه عشرات الآلاف من الجنيهات المسروقة من أموال الشعب المغيب عن وعيه والذاهل عن حقوقه، وهو كله بعضه على بعض، ومعه عاهراته اللاتى كان يؤجر لهن ولزبائنهن أَسِرّة المستشفى الذى يعمل فيه كى يمارسوا عليها الرذيلة، لا يساوى مليما أحمر!
ومثل هذا فى الكذب والتنطع الزعم على لسان مهرة بأن الجماعة الإسلامية قد أَفْتَوْا بأن نشر الغسيل فى الشرفة حرام. لماذا؟ لأنه قد تقع عليه عين رجل غريب، وكل الرجال غرباء بالنسبة لها، وقد يكون كذلك فى الغسيل بعض الملابس الداخلية (ص76). لقد كان الناس فى قريتنا يقولون لثقيل الظل إن دمه يشبه دم البق. لكن الأمر هنا قد تجاوز دم البق ذاته. ثم إن المؤلف الهمام لم يحاول أن يشرح لنا كيف تتغلب مهرة وأمثالها من المتنطسات أو المضحوك عليهن من الجماعات الإسلامية على هذه المشكلة، إذ لا بد لهن مع ذلك من نشر غسيلهن حتى يجف، فماذا يا ترى يفعلن؟ أم عليهن أن يغسلن الملابس على أجسادهن وأجساد أزواجهن وأولادهن وبناتهن ثم يتمشَّوْن بها فى الشوارع جيئة وذهابا، وذهابا وجيئة، إلى أن تجف وهى فوقهم، ولا من شاف الكلوتات والسوتيانات ولا من درى. لقد كان هناك شخص رقيع يزعم أن الإسلاميين يحرمون على النساء أكل الخيار والكوسة، وها هو ذا يوسف القعيد يدعى عليهم القول بأن نشر الغسيل فى الشرفات حرام. ليس ذلك فقط، بل لقد قالت الجماعات الإسلامية أيضا لمهرة إن المرايا باب من أبواب الفتنة. إلا أنها هذه المرة لم تنصع لفتواهم فأبقت على المرايا تتملى فيها نفسها وهى عارية كما ولدتها أمها بتعبير الكاتب الانتهاكى، فضلا عن أنها لم تكن تستطيع أن تتخيل الحياة بدون مرايا (ص242). الحمد لله أنها طلعت "عاقلة" مَرّة!
ومما تحاول الرواية أيضا أن تسىء به إلى المسلمين تسريبها، بخبث شديد على لسان مرام أم ماجد، أن عدد الأقباط هو اثنا عشر مليونا. الله أكبر! ووجه الخبث أن مرام قد ذكرت ذلك عرضا، أى فى سياق لا يوحى أبدا أنها تقصد الكذب بل تقول شيئا مفروغا منه لا يقبل نقضا ولا إبراما ولا يعتريه شك، بل الكل متفقون عليه. وفوق ذلك فهى قبطية عادية، أى ليست شحصية كنسية أو سياسية، ومن ثم لا يخطر على البال أنها إنما تقول ذلك من باب التعصب. قالت تعتب فيما بينها وبين نفسها على زوجها، الذى تركها هى وماجد وراءه فى مصر دون أن يهتم بالمجىء لأخذهما أو استقدامهما بعدما أوهمها عند رحيله أنه لن يتوانى عن ذلك حالما يرتب أوضاعه هناك: "سافر على وعد أنه سيعود إلينا ليأخذنا أو يرسل إلينا لنذهب إليه ويجتمع شملنا من جديد وأن الأمر لن يستغرق أكثر من الفترة التى يرتب فيها أموره لاستقبالنا. مرت أيام وأسابيع وشهور وسنوات، ولم ينته من ترتيب أحواله! يضحك على من؟ حتى لو كان يستعد لاستقبال أقباط مصر جميعا الاثنى عشر مليون قبطى، الذين يعيشون فى البر ما احتاج إلى كل هذا الوقت" (ص127).
إننا كثيرا ما نسمع من بعض الشخصيات النصرانية المصرية هذه الأيام، هنا وفى المهجر، أن نصارى المحروسة يبلغون عشرين مليونا أو أكثر رغم ما يعرفونه هم قبل غيرهم من أنهم لا يزيدون عن ستة بالمائة على أكثر تقدير، وهو ما تقوله كل المصادر والمراجع حتى الغربى منها ككتاب إدوارد وليم لين عن المصريين المحدثين وعاداتهم وتقاليدهم: "An Account of the Manners and Customs of the Modern Egyptians"، أو كتاب مسز بوتشر عن تاريخ الأمة القبطية، الذى ترجمه النصارى أنفسهم ونشروه فى بداية القرن الماضى، أو كتاب "Égypte depuis la conquète des Arabes jusqu'à la domination de Méhémet Aly" لعدد من المؤلفين الفرنسيين، حسبما بينتُ فى بعض دراساتى السابقة، وكذلك المؤسسة الأمريكية التى أعلنت هذه النسبة منذ وقت غير بعيد، ودعنا من إحصاءات السكان التى كانت تقوم بها دولة الاحتلال البريطانى. ومع هذا لم يَرْعَوِ من يكذبون ويبالغون فى تلك النسبة مبالغة لا تدخل العقل ولا تراعى الذوق، ويتخذون من ذلك مسوغا للتوسع غير المفهوم ولا المقبول فى بناء الكنائس التى لا يؤمها أحد لا لشىء سوى التحرش بالمسلمين واستفزازهم، فضلا عن هتافهم، جهارا نهارا ومن قلب الكاتدرائية ذاتها، بقادة الصهاينة الأوباش المجرمين أن يأتوا ويحتلوا مصر، فى الوقت الذى لا يقول المسلمون المصريون أبدا رغم الأغلبية الكاسحة الماسحة التى يتمتعون بها إنه ينبغى اقتلاع النصرانية أو ترحيل أتباعها من البلاد.
وأنقل الآن السطور التالية من مقال للهيثم زعفان بجريدة "المصريون" الضوئية يتناول فيه موضوع التعداد السكانى للأقباط: "يقول د.نبيل لوقا بباوي في كتابه: "مشاكل الأقباط قي مصر وحلولها": على مر الإحصاءات التاريخية المصرية للتعدادات السكانية كانت تقدَّر نسبة المسلمين بمتوسط 94% ونسبة المسيحيين بمتوسط 6%". وعليه فإذا كان عدد سكان مصر الآن هو 80 مليون نسمة فإن عدد النصارى سيكون 8,4 مليون نصراني في مصر. وبحسب المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية بفرنسا فإن نسبة النصارى في مصر (أرثوذكس، كاثوليك، بروتستانت) 5,6% أي حوالي 2,5 مليون نصراني. أما منتدى "بيو" للدين والحياة العامة، التابع لمركز بيو الأمريكي للأبحاث، فيوضح أن الأقليات الدينية في مصر تشكل 4,5 في المائة من الشعب المصري، أي حوالي 3,4 مليون نصراني. وهذه الأرقام تتوافق مع ما كشف عنه الفاتيكان في مطلع هذا العام من أن عدد المسيحيين في مصر لا يتعدى رقم الـ5,4 مليون مسيحي. وعلى المستوى المذهبي وبحسب الكنيسة الكاثوليكية فإن بمصر 350 ألف كاثوليكي تضمهم سبع طوائف. أما البروتستانت فقد كذَّب الدكتور القس أندريه زكى، نائب رئيس الطائفة الإنجيلية، ما ذكره القمص بواس عويضة، كاهن كنيسة العذراء بوادى حوف بحلوان، بأن عدد البروتستانت ٤٠٠ ألف، وقال: "نحن نزيد على المليون شخص، ولدينا ١٢٠٠ كنيسة بروتستانتية معترف بها ومرخصة". وذلك باعتبار التبشير الممتد للبروتستانت في صفوف الأرثوذكس، وتحول كثير من الأرثوذكس للبروتستانتية. وباعتماد الأرقام السابقة سيكون نصيب الأرثوذكس في مصر حوالي ثلاثة ملايين نصراني منتشرين في ربوع الوطن، أكثر من نصفهم من الأطفال فاقدي الأهلية، تواجه كنيستهم مشكلة تحول بعضهم للبروتستانتية لحل مشكلاتهم الأسرية التي يعقّدها صاحب البيت الزجاجي، ومن ناحية أخرى هداية الآلاف منهم ولو سرا إلى الإسلام بعدما ينور الله سبحانه وتعالى بصيرتهم للدين الحق والصراط المستقيم".
وفى ذات الموضوع يكتب فى نفس الجريدة عوض الغنام بتاريخ 26/ 12/ 2006، فيقول: "زادت الميزانية التي خصصتها الحكومة لإجراء التعداد السكاني لهذا العام عن 4 مليارات جنيه، في وقت أظهرت فيه المؤشرات الأولية زيادة في عدد المصريين بمقدار مليون نسمة كل 10 شهور، وهو ما يعني وصول عدد سكان مصر إلى ما يزيد عن 80 مليون نسمة مع حلول عام 2010م. يأتي ذلك فيما عكست نتائج إحصائية مماثلة تمت بالتنسيق بين الأجهزة والمراكز الإحصائية الرسمية وغير الرسمية دلالات خطيرة. وأظهرت الإحصائية الممنوعة من النشر أن عدد الأقباط في مصر لا يزيد عن 8,6% من تعداد الشعب المصري على عكس ادعاءات الكنيسة. وتتركز النسبة الأكبر من الأقباط في منطقة وسط الصعيد حيث أسيوط والمنيا، وبعض الأحياء القديمة في القاهرة، بينما تقل النسبة بالوجه البحري، وترتفع في بعض أحياء الإسكندرية حسب الإحصائية. ويكشف التقرير عن مفاجأة أخرى مرتبطة بمستقبل عدد السكان الأقباط في مصر، حيث تؤكد الأرقام أن الوجود القبطي في مصر معرض للاختفاء خلال نصف قرن، لافتًا النظر إلى هجرة من الأسر القبطية في مصر دون توضيح الأسباب الحقيقية".
إن رواية السيد القعيد قد أخذت على عاتقها أن تشوه المسلمين بكل سبيل، وما من مسلم إلا وعُرِضَت صورته فى أسوإ الأوضاع وأكثرها شناعة. وسوف نأخذ مثالا على هذا وَصْف مهرة لصاحب شركة توظيف الأموال الذى ذهبت تقابله للاتفاق على استثمار مالها عنده والذى كانت صديقتها الوسيطة بينهما قد رسمت له صورة الرجل الطيب والأب الحنون. لقد كان يعيش فى قصر ليس فيه زوجة ولا أولاد بل حراس ومدافع وبنادق آلية وبَخُورٌ جعل عقلها يتيه. ثم جاءت كلابه قبله فى منظر أوقف الدم فى عروق مهرة. ثم جاء هو ممسكا بمِقْوَد أكبرها، فقالت فى نفسها: ألا ينقض الكلب الوضوء؟ لتقوم بالرد على نفسها قائلة: ومن الذى قال إن مولانا يتوضأ؟ وكانت لحيته تغطى صدره وتستريح على كرشه. وكان يلبس الزى القومى الموحد: الجلباب الأبيض، والطاقية المغزولة من الصوف الملون، والبلغة البيضاء. ومن تحت الجلباب رأت الكلسون الذى يلبسه (الحمد لله أن أشعة إكس التى كانت كامنة فى عينيها لم تتغلغل إلى أبعد من ذلك! والله فيك الخير يا عم قعيد!). وحين وضعت كفها الصغيرة فى راحته الكبيرة غرقت يدها فى ثنايا لحم كفه. وكان طويلا عريضا ضخما شحيما لحيما مثل النساء اللاتى عاصرن مُرَبَّى (كتبها بسلامته: "مربة") خرز البقر، ورأسه يكاد يصل إلى السقف، فذكرها منظره براسبوتين. وقد استبقى يدها فى يده وقتا أطول من زميلتها وابنتها، ثم غمز بعينه وضغط بيده على يدها، ووضع يده اليسرى فوق يدها، التى تاهت بين اليدين. وكانت نظراته إليها غير مريحة، إذ كانت دعوة إلى علاقة أكثر منها مسألة إيداع فلوس واتفاق على عائد. وعندما قدمتها زميلتها إليه شعرت أنها ليست صديقة بل قوادة. ثم عرفت أنها زوجة عرفية له، وأنها ذهبت بها إليه بناء على إلحاح منه. و كان هناك بَخُور مخدِّر فى المكان، وصوت فائق الجمال يغنى: أسلمتُ وجهى للذى أحيانى. هو الذى من طينه سَوَّانِى (ص101- 102).
وحكاية البخور هذه مستوحاة من تجربة مر بها القعيد ذاته فى طفولته، إذ كان أبوه قد أخذه إلى شيخ فى قرية مجاورة ليصنع له حجابا يقيه من خطر الموت، الذى كان يُودِى بحياة إخوته السابقين واحدا واحدا. قال فى مقال له بعنوان "كيـف أمسكت بالقلم؟ كُتَّــــــاب سَيَّدنـَـــــا"، وهو منشور فى باب "التكوين"، الذى صار يشكل بابا ثابتا من أبواب مجلة "الهلال" المصرية يجده القارئ فى نهاية كل عدد من أعدادها الشهرية: "كل ما أذكره من رحلة قَسْطا هذه أننا فى طريق العودة كان معنا حجاب ربطه لى الشيخ المبروك تحت أبطى الأيمن بقطعة من القماش مبرومة على شكل حبل، ووضع يده على رأسى وتمتم بما لم أسمعه بعد أن أغمض عينيه. وتهت لأن كثافة وحضور رائحة البخور التى انطلقت من جو الغرفة أفقدنى القدرة على التركيز".
لكن كل ما مر فى الإساءة إلى المسلمين كوم، وما سأقوله الآن كوم آخر وحده. لقد تابت مهرة وأنابت بل تنطست وتشددت، وإن كانت صورتها غير متسقة العناصر على ما سوف نبين لاحقا. وكانت تسلم ماجد بن عبود بانتظامٍ المبلغ الذى يرسله إليه أبوه عن طريقها كل شهر دون أية مشاكل. إلا أنها فى هذه المرة لم تستطع الحفاظ على المبلغ فأنفقته على حاجاتها ولم تستطع أن تدبره مرة أخرى حين هَلَّ ميعاد حضور الابن لأخذه، فاستمهلتْه إلى الغد، ليأتى الولد دون أن تقدر على تدبير المبلغ بعدما حاولت عبثا استدانته من زوجها وطليقها وعشيقها السابق. وعندما جاء الولد فى الميعاد لقبض النقود وللفرجة على شريط الفلم الإباحى الذى كان قد سلمه لها فى اليوم السابق على أساس أن يتفرج عليه حين يأتى فى الغد، وهو أمر فى منتهى الغرابة والشذوذ، إذ لم يكن بينهما من العلاقة ما يسمح له أن يفكر فى عرض هذا الأمر عليها مجرد تفكير ولا أن تسكت هى على تلك الوقاحة غير المسوغة من طالب نصرانى فقير بائس لا يعرف من الدنيا شيئا ويرتدى ملابس مرقعة غير مكوية يذهب بها إلى الجامعة، وهى فوق ذلك تحتقره وتضيق به وتراه شيئا نجسا، أقول: لـمّا جاء الولد كانت هى قد دبرت بعقلها الباطن أمرا، إذ أخذت تغريه بشتى الإغراءات أثناء مشاهدتهما الفلم الإباحى، إلى أن كان ما لا بد أن يكون، فقضى الولد فى أحضانها ليلة لا تحسب من العمر عَلَّمَتْه أثناءها، وهو الغِرّ العبيط، من فنون الجنس ألوانا وألوانا حتى مطلع الصباح، فكَفَّا عن الفعل غير المباح. وظنت بسلامتها أن المسألة انتهت عند هذا الحد، إلا أن الولد كان له منطق آخر. لقد أصر على أن يبقى عندها إلى الأبد (ليس إلى الأبد بالضبط، بل إلى أن تموت هو أو تموت هى أو ربنا يأخذهما معا ويريحنا منهما ومن الكاتب السخيف الذى اختلقهما)، لكنها بعد أن احتارت قليلا فى هذه المشكلة التى لم تتخيلها ولم تتوقعها استطاعت بالحزم أن تدفعه إلى الخروج والعودة لأمه (تصفيق حاد وزغاريد!):
"طلبتْ منه الخروج بأقصى سرعة. كان طلبها حازما. خرج. كانت مهرة تبحث عن حجابها. وكان ماجد يبحث عن أوراقه التى ما عاد يتذكر أين وضعها. لم يبحث عن صليبه لأنه باعه فى أيام الضيق. وأى الأيام أتت من دون أن يكون ضيقها مثل خرم إبرة؟ كبس عليه ذهول عندما اكتشف أنه نسى موضوع المبلغ. حاول منع خياله من التسلل إلى تذكر أمه، وحاول أن... وحاولت هى أن... و... و...". وتوتة توتة فرغت الحدوتة. ترى هل يحتاج القارئ إلى أن أوضح له المغزى الرمزى الذى قصده الكاتب؟ إن الرواية كلها من بدايتها إلى نهايتها بكل ما فيها من تنطع وسماجة وتفكك وتكلف وتفاهة إنما صيغت من أجل الفصل الأخير الذى ينتهى بهذه الفقرة. إن الرواية تدور على أن فى مصر مواجهة بين الإسلام والنصرانية، بين الإسلام العدوانى الهمجى الباطش المنافق آكل الحقوق متمثلا فى مهرة، وبين النصرانية الوديعة المسكينة التى لا حول لها ولا طول متمثلة فى ماجد الفقير العاجز، لتنتهى المواجهة وماجد راكبٌ مهرة. أليست المهرة قد خلقت للركوب؟ ثم لا ينبغى أن ننسى غياب الصليب من هذا المشهد الفاحش (فالصليب طاهر لا ينبغى أن يظهر فى مثل تلك المواقف النجسة. وعلى كل حال فقد باعه الولد الفقير المرفوع عنه الحجاب. لقد كان يشم على ظهر يده!)، أما الحجاب فكانت مهرة تبحث عنه لترتديه مرة أخرى رغم كل ما صنعته مع الولد الغر المسكين (يا لها من منافقة! أليست مسلمة؟). ومرة أخرى اشربوا يا مسلمون من كيعانكم ما دمتم لا تفيقون من الخنوع والذل الذى أنتم فيه. إن زكريا بطرس وأمثاله ليسوا وحدهم الذين يلاعبونكم لعبتهم القذرة، بل هناك لاعبون آخرون يحملون أسماء إسلامية يكرهونكم ويكرهون دينكم رغم أسمائهم الإسلامية كراهية العمى!
أما الناقد الانتهاكى إياه فيقول عن خاتمة الرواية: "وتصب الفصول الأخيرة للرواية في مغامرة طائشة محسوبة تُغْوِي فيها مهرةُ الصبيَّ المراهقَ ماجد لتلهيه عن تقاضي حقه، منتهزة فرصة استعارته لأحد الأفلام الإباحية كي يراها عندها، فتعود إليها طبيعة الأنثى المولعة بفتنة العشاق وتمزيق أقنعة الطهارة المصطنعة، وتُضْحِي حُمَّى الجنس اللاهبة نقطة الختام في رواية تفجّر أسئلة المستقبل وهي تحفر في ألغام الحاضر". وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد تذكرتُ الآن ناقدا ذهبت إليه إحدى طالباته البريئات تعرض عليه محاولاتها الأدبية الأولى وهى تظن أنها ذاهبة للقاء أب لها آخر غير الذى تركته فى البيت، فإذا به ينصحها أن تترك الكتابة عن الموضوعات التقليدية إلى موضوعات جديدة، فسألته: مثل ماذا يا أستاذى؟ أجابها: مثل وصف مشاعرك وما يعترى جسدك من تغيرات حين يجيئك الحيض. فخرجت المسكينة من غرفة الأستاذ فزعة لا تصدق ما سمعته، ولم تعد إليها ولا إليه من يومها. وكان الأستاذ الناقد أزهرى الأصل ما زالت جبهته تحمل آثار حز العمامة، بيد أنه كان ممن سافر إلى الخارج مبتعَثا على كِبَر، ثم عاد وقد بهرته أضواء الحضارة الغربية، فكان كالذى لم ير اللبن، فحين شاف ثدى أمه انهبل!
وفى محاولة من القعيد لتسويغ هذا الانحياز إلى الكنيسة ورجالها وبغض كل ما هو إسلامى يقول إن والديه كانا يخوّفانه وهو صغير من دخول الكنيسة التى كانت فى قريتهم، وإلا خَطِفه القِسّيس وغطّسه فى البئر لينصّره. والإشارة هنا إلى عملية التعميد، وهى تتم بتغطيس الطفل فى الماء أو رَشّه به. ويعلق القعيد على ذلك بأن كل ممنوع مرغوب، ولهذا صار يحب الكنيسة ويتردد عليها. ولا أظن كلامه فى هذه النقطة صحيحا لأن القرية بطبيعتها جِدّ صغيرة، والناس يعرف بعضهم بعضا، وكانت العلاقة بين النصارى والمسلمين فى ذلك الوقت، أى قبل بداية سبعينات القرن الماضى بزمن طويل، طيبة يسودها المودة والمجاملات. كما كان النصارى يقفون عند حدودهم لا يتجاوزونها، على عكس ما صاروا ما يصنعون منذ التاريخ المذكور. فمن هنا لا يمكننى أن أفهم هذا الخوف الأبوى الذى يحاول القعيد أن يقنعنا به. كذلك لا أظن كلامه عن الممنوع المرغوب صحيحا، وإلا فلماذا لم يجر على هذه السُّنّة بالنسبة إلى الجماعات الإسلامية، التى يقول عنها الحكام المصريون من أيام عبد الناصر إلى أيام المخلوع، ومعهم الشيوعيون، إنهم إرهابيون قتلة ظلاميون يريدون تدمير البلاد وقتل العباد، وبخاصة أن الحكومات المتعاقبة كثيرا ما كانت تقبض عليهم وتضعهم فى المعتقلات؟ وإنى لأتصور أنها محاولة من القعيد لتسويغ انحيازه للكنيسة وكراهيته لكل ما هو إسلامى كما توضحه مثلا رواية "قسمة الغرماء". قال القعيد ذلك فى حوار أجراه معه أحمد طايل بعنوان "حوار مع المواطن مصرى: الكاتب الكبير يوسف القعيد"، ونشره فى موقع "منتديات السعودية تحت المجهر": "من مخاوف تلك الأيام التى لا تنسى (يقصد أيام طفولته) كان تحذير أبى وأمى لى ألا أذهب إلى الكنيسة. سيخطفنى القسيس ويغطسنى فى البئر لأخرج نصرانيا، أى كافرا. من يومها والكنيسة هى أجمل مكان فى القرية بالنسبة لى. أمامها شجرة ذقن الباشا، التى تحول المكان إلى جنة. ومن وراء الباب العالى عالم مجهول. ألم يقل أجدادنا أن كل ممنوع مرغوب؟".
* * *
هذا من ناحية المضمون، وأما من الناحية الفنية فالرواية مفككة وملزَّقة تلزيقا يبعث على القىء. ولنبدأ من حيث انتهت راجعين القهقرى إلى أن نبلغ نقطة البداية فيتضح التفكك البشع الذى يسم الرواية فى كل مفاصلها. لقد انتهت "قسمة الغرماء" بأن أسلمت مهرة نفسها للولد النصرانى الأجرب، وهو ما لا يمكن أن يقبله منطق، إذ كانت تحتقره وتنفر منه كما قلنا، وتتصور أن لمسه يفسد عليها وضوءها. فكيف تتغير مشاعرها بين عشية وضحاها كل ذلك التغير الضخم دون أى مسوغ؟ ذلك أنه كان قد تركها قبل أربع وعشرين ساعة. والإنسان لا يتحول كل هذا التحول فى هذا الوقت جِدّ القصير. ثم إنها امرأة ناضحة، وكانت مهوى أفئدة الرجال وشهواتهم يوما غير بعيد، وما زالت كلما خرجت إلى الشارع تدير الرؤوس وتبرجل العقول، أما هو فكان ولدا نيئا ليس فيه ما يغرى أية امرأة أو فتاة، فلا هو بالوسيم ولا هو بالأنيق ولا هو بالغنى ولا هو بالفحل ولا هو بالغَزِل ولا هو بالمشهور كلاعبى الكرة أو الممثلين مثلا ولا هو بصاحب التجارب فى دنيا الجنس أو العواطف، بل كان غبيا محدود الخبرة لم نره يفكر فى النساء طوال حياته مرة. صحيح أنه ذهب إلى زميل كليته إكرامى ليأخذ منه شريطا إباحيا قبل ذهابه قبل ذلك إليها بيوم، لكن هذا الأمر لا يزيد عن أن يكون تلفيقة أخرى من تلفيقات القعيد الكثيرة التى تطفح بها الرواية والتى لا تقنع أحدا. ذلك أنه لم يكن صديقا لإكرامى حتى يفكر فى الذهاب إليه وأخذ هذا الشريط منه. كما أن الفارق الاجتماعى والمادى والمسكنى بينه وبين إكرامى مما كان ينبغى أن يكون حجر عثرة يمنعه، هو نزيل اللوكاندة الشعبية البائسة الكئيبة والعاجز هو وأمه بسبب الفقر الذَّكَر عن تدبير معيشتهما إلى آخر الشهر فى يوم من الأيام، من التفكير فى زيارته. ثم إنه لم يكن لديه جهاز عرض للأشرطة المرئية بل ولا تلفاز أصلا أو حتى مذياع، بل لم تكن حالتهم المالية تسمح له بالتفكير فى ترف التطلع إلى مشاهدة فلم إباحى. قد يقول متنطع: ولكنه وضع فى ذهنه أن يشاهده عند مهرة. والرد على ذلك أبسط من البساطة، إذ لم تعامله مهرة يوما على نحو يجعله يمكن أن يفكر فى طلب هذا منها. بل إنه لم يكن يعرف أن لديها جهاز فيديو أصلا. وطبيعة علاقته بها لا تتحمل شيئا من هذا أبدا، إذ كان يذهب إلى بيتها فى كل شهر مرة ليقبض منها المبلغ الذى كان أبوه يرسله له هو وأمه عن طريقها ثم يعود ولا يمكث عندها إلا ريثما يأخذ الفلوس. ولا ننس أنه نصرانى، وهى سيدة مسلمة، وفوق ذلك سيدة متدينة متشددة فى الدين. ولم يكن يدور بينه وبينها أى حديث من أى نوع. وكله كوم، وأن يكون الشريط شريطا جنسيا إباحيا كوم آخر. إننا لو كنا فى أمريكا ما جرؤ مراهق مثله أن يطلب من أية امرأة حتى لو كانت جارته أن تسمح له بمشاهدة مثل ذلك الشريط فى بيتها. هذا كلام يدل على خلل فى العقل وفى الفن على السواء.
سيقول السخفاء من النقاد الانتهاكيين وأشباههم: ولكن لا تنس أنها كانت فى مأزق العجز عن تدبير ثلاثمائة الجنيه التى أرسلها أبوه إليها كالعادة والتى أنفقتها ثم عجزت عن تعويضها. وردى هو أنه لا أحد، عاقلا أو غير عاقل، سيصدق أن تدبير مبلغ كهذا يمكن أن يشكل مأزقا فى الوقت الحاضر، فهو من التفاهة بمكان، وبخاصة بالنسبة إلى واحدة كمهرة كانت ممثلة ومذيعة شهيرة يبلغ صيتها أبعد الآفاق، ولها اتصالات بكبار القوم من فنانين وإعلاميين ورجال أعمال، وفوق ذلك فاتنة الجمال وغاية فى الأناقة حتى إنها، حين تخرج إلى الشارع رغم ابتعادها عن الأضواء ومظاهر الترف واكتفائها فى ملابسها بالحد الأدنى، تبرجل الشارع كله وتجعله يمشى على رأسه. فهل مما يقبله عقل أن يقال إنها اضطرت إلى اللجوء إلى إغواء هذا الـجُرَذ الأجرب وتسليم نفسها إليه؟ (والجُرَذ: مفرد "جِرْذان" مع الاعتذار للقذافى يا عشاق البيان). ولسوف تجد بدل الشخص مليون شخص على استعداد تام لتوصيل المبلغ إلى منزلها مع الرغبة الشديدة فى نوال الرضا السامى من طرفها. والواقع أن هذه أول مرة أسمع فيها أن امرأة فى مثل ظروف مهرة تبيع عرضها بثلاثمائة أهيف! وذلك يذكرنى بفلم "أشرف خاطئة" لطيّبة الذكر نجوى فؤاد، وهو من الطراز ذاته الذى يفقع الـ... أم أقول لكم؟ لا داعى لإكمال الجملة، فالطيب أحسن!
أما لو افترضنا مع السخفاء أنها لم تجد غضاضة فى التفريط فى عرضها رغم ذلك كله، فضلا عن أنها كانت من التائبات المتطهرات المتنطسات، لقد كان فى تفريطها فى عرضها مع واحد من الكبار الثقال الجيوب مندوحة عن اجتراحه مع ذلك الـجُرَذ الأجرب. أليس كذلك؟ ألم يقولوا فى الأمثال: إن خطبت فاخطب قمرا، وإن سرقت فاسرق جملا؟ وعلى هذا فإن كان لا بد أن تَزِلّ مهرة فَلْتَزِلَّ مع فحل من الفحول لا مع فأر هزيل مسلوخ. والمضحك أن القعيد أَقْصَدَها قبل ذلك زوجَها وطليقَها وعشيقَها السابق مصطفى نور الدين تطلب منه المبلغ، لكنه خيب رجاءها، بل رفض أن يقرضها إياه ولو بالربا، وأدخلها بدلا من ذلك فى متاهة من التحليلات المتكلَّفة المتنطعة السمجة كأى شىء آخر فى الرواية قائلا إن من الممكن أن يكون مرسل المال الشهرى لماجد وأمه عصابة إرهابية للإيقاع بها فى حبائلها، ثم نصحها أن تبتعد عن هذا الشَّرَك. أرأيت أيها القارئ سقما فى الخيال كهذا السقم؟ عصابة إرهابية (مسلمة طبعا!) تنصب فخا لشخص بثلاثمائة جنيه ويتداخل فيها المسلم والنصرانى! لقد دخلنا فى مستنقع "الـمَعْيَلَة" إذن. والمضحك أن مصطفى نور الدين قبيل هذا كان ضابطا فى إدارة حساسة بالجيش يوشك أن يُرَقَّى إلى رتبة عالية. ترى أهذا هو مستوى هؤلاء الضباط عندنا؟ إن كان فعليكِ يا مصر السلام! لكن لم الاستغراب ما دام عصرنا هو العصر الذى يلمع فيه أمثال القعيد المحروم من الموهبة والقدرة على الإبداع الأدبى المعتبر حتى ليكتب مثل هذه الرواية ذات المستوى المنحط؟
ومع ذلك لقد كان الأمر أبسط من هذا كله، إذ كان بمكنة مهرة أن تأخذ المال من أقاربها، وهى من أسرة غنية، إلا أن سقم خيال قعيد أفندى قد ضرب عن ذكر أهلها صفحا كأنها امرأة مقطوعة من شجرة بعدما كان لها أهل وعزوة، ثم تبخر هذا كله تبعا لأوامر سيدنا المنتهك وناقدنا راعى الانتهاكيين. وعبثا تبحث عنهم سلقط فى ملقط، أو ملقط فى سلقط فلن تجد منهم أحدا، ولن تسمع لأى منهم رِكْزا، فكأنهم فص ملح وذاب. أما أين ذاب فلا ينبغى أن تشغل نفسك به، بل عليك أن تكبّر دماغك. وكم ذا فى رواية القعيد من المضحكات، ولكنه ضحك كالبكا! أما إذا كان أهل مهرة قد أخذتهم شوطة كشوطة الفراخ كما قد يقول لك القعيد ودفنوهم فى مقبرة جماعية طبقا لما يحدث فى مثل هذه الحالة بعدما رشوا عليهم مادة مطهرة حتى لا تنتقل الشوطة إلى أحد من الأحياء، فعندى حل آخر: أن تتمترس مهرة فى بيتها ولا تفتحه للفأر الأجرب حين يأتى للسؤال عن المبلغ، أو تطرده وتنهره حتى لا يريها وجهه مرة أخرى وتنكر أنها تعرفه أو أن له عندها شيئا. وهل هناك دليل على أنها كان تقبض من أبيه مبلغا شهريا لتوصيله إليه؟ ولنفترض أن الأب عاد وطالبها بالجنيهات الثلاثمائة التى لم تسلمها لابنه، فهل هناك إيصال بتوقيعها يمكنه أن يقاضيها بناء عليه؟ وهذا إن عاد، وإلا فهل نسيتم المسلمين الإرهابيين الذين يرابطون له فى صالة المطار منذ استطاعته الفرار منهم فى الخفاء؟ فليضع رجله إذن فى المطار، وأنا موقن أنهم سوف يأكلونه هَمّ يا مَمّ. ثم إنه لم تكن ثمة صلة بين مهرة وبينه، وبخاصة أنهما من عالمين مختلفين تمام الاختلاف، علاوة على أنه كان هاربا حسبما تقول الرواية من تهديدات المسلمين المتشددين، الذين مهرة واحدة منهم. فكيف اختارها للقيام بتوصيل المبلغ إلى ابنه؟ وكيف لم يكن يحول المبلغ إلى زوجته أو ابنه مباشرة؟ ألم يكن يخشى، جَرَّاء ما تلقاه من تهديدات، أن يخطف المسلمون ابنه أو يشوهوا وجه زوجته بالنار إذا ظلا مرتبطَيْن بهم على هذا النحو بسبب المبلغ الذى يرسله إليهما كل شهر عن طريقها؟ فلماذا يحرص على أن يربط مصيرهما بالمسلمين، وأمامه الطريق المستقيم، الذى عرّفونا فى الهندسة (تخصُّص ابنه ماجد بالمناسبة) أنه أقصر خط بين نقطتين يما يترتب على ذلك من أن المشى فيه يتطلب أقل جهد يمكن أن يبذله الإنسان؟ أم تراه كان من ذلك النوع النكد الذى لا يستريح إلا إذا نكّد على نفسه وأوقعها فى المشاكل ثم ذهب يشكو لمن حوله ظلم القضاء والقدر؟
ثم إذا كان عبود قد انخبط فى عقله وركب دماغه رغم ذلك كله فعرَّض ابنه بسلوكه هذا الغريب غير المفهوم إلى الخطر الإرهابى الإسلامى، فهل انخبطت زوجته هى أيضا فى عقلها فلم تتذكر أن لها أو له هو أهلا يمكن أن تلجأ إليهم ليساعدوها فى تربية الولد؟ هل أخذتهم هم أيضا شوطة كالتى أخذت أهل مهرة؟ ولنفترض أن هذا قد وقع فعلا، وهو بالتأكيد لم يقع ولا يمكن أن يقع، إذ المصادفات لا تقع فى الحياة على هذا النحو المضحك الذى يشيع فى بعض الأفلام المصرية وكل الأفلام الهندية المتخلفة، وكذلك فى روايات القعيد، التى تفوقت بحمد الله على كلا النوعين من الأفلام، فأين ذهبت الكنيسة؟ وكيف تركتها هى وابنها يقاسيان الفقر وذل الحاجة واحتمال تعرضهما لغواية التحول إلى الإسلام، لا لما فى الإسلام من حق والعياذ بالله (حتى ينبسط كل شيوعى حقير!) بل للضغوط التى يمارسها الإرهابيون ذوو اللحى المتذبذبة غضبا حين يصعدون إلى نزلاء اللوكاندات من أمثالها ويتساخفون عليهم طالبين منهم لا بسيف الحياء بل بسيف الإرهاب أن يأمروا أبناءهم المحاريس (جمع "محروس" لا جمع "محراث" كما قد يظن بعض الكتاب ممن يكتبون "الذبيب" بالذال بدلا من الزاى) بالنزول لـيصلوا الجمعة "حاضرا": لا فرق بين مسلم منهم ونصرانى أو يهودى أو حتى مجوسى أو هندوسى. والزَّنّ على الآذان أمرّ من السحر كما نعرف فى مصر، أجارك الله! والكنيسة، حسبما يعلم الجميع، قلبها رهيف على رعاياها، وبخاصة إذا كان فى الأمر شبهة احتمال التعرُّض لذلك الضرب من الغواية. وقديما قيل: الباب الذى يجىء منه الريح سُدَّه فتستريح! وبحمد الله فالكنيسة لا تشكو فقرا، والبركة فى أموال أقباط المهجر، ودعنا من أموال أقباط الداخل، الذين يسيطرون على نسبة هائلة من اقتصاديات البلد، ورغم هذا لا يكفون هم وأقباط الخارج عن الشكوى والنياحة من اضطهاد المسلمين الإرهابيين لهم. وأرجو ألا تحاسبنى على استخدام كلمة "الأقباط" للنصارى حصريا، فهم أصحاب البلد، أما نحن المسلمين فضيوف، وكيف يكون الضيف على مصر قبطيا؟ أم للسيد القعيد رأى آخر؟ من هذا كله نرى كيف تقوم حبكة الرواية على السخف الذى لا يدخل العقل أبدا ولا بالطبل البلدى، ومهما أخذ السيد القعيد مائة ألف جنيه جائزة على هذا السخف الانتهاكى حتى لو تكرر هذا الأخذ يوميا من هنا حتى مطلع الشمس من مغربها!
كذلك كان باستطاعة الأم أن تشتغل مدرّسة فى المدارس النصرانية كما كانت تفعل من قبل رغم أنها ليس عندها أية شهادات والحمد لله سوى شهادة الميلاد (أما شهادة "لا إله إلا الله" فلا تملكها بطبيعة الحال). ولا يحبّكنَّها بعض القراء فيقولوا: كيف تشتغل مدرّسة وهى إنما تفك الخط بشق الأنفس، فنحن فى روايات يوسف القعيد، وهو حر فى رواياته، ومَنْ حَكَم فى رواياته ما ظلم. وواحدٌ واضعٌ يده تحت ذقنه، فلماذا يغضب الآخرون؟ أما إذا أصر بعض القراء على تحبيك الأمور فمن الممكن أن تشتغل الأم فى مساعدة ربات البيوت فى الأعمال المنزلية، وهى تدر دخلا معقولا بدلا من سكنى اللوكاندات البائسة التى تجلب الهم والغم، وتجلب أيضا اللحى الإرهابية المتذبذبة من الغضب والغيظ لأن الابن المحروس لا ينزل لصلاة الجمعة "حاضرا". أما إذا لم ينفع شىء من هذا كله فمن الممكن أن تلجأ إلى بعض أهل الخير، ولن تضيع إن شاء الله، فالخير موجود فى الدنيا دائما أبدا رغم كل الفساد الموجود فى مصر المحروسة. بل إن كثيرا من المسلمين لعلى استعداد لمساعدة أمثالها لا يشترطون فى ذلك أن تدخل الإسلام. ألم يكن عمر بن الخطاب يعطى أهل الكتاب من الصدقات؟ أما إذا لم تنفع هذه أيضا فليس أمام الإنسان إلا أن يشق هدومه غيظا من قعيد وتحبيكات قعيد، وهو ما لا يفعله المسلم، وإذن فسوف يطقّ من أجنابه!
وهذا يذكّرنى بقريب لى كان مجندا فى القاهرة، فكان يأتى وينام عندنا فى الغرفة المفروشة التى نؤجرها فى العباسية عقب نصر رمضان المجيد على إسرائيل عام 1973م (لاحظ التاريخ الميلادى من فضلك!)، وكنت أحثه على الصلاة، فيعتذر بحذاء الجيش الذى يرتديه، فأنظر فأرى حذاء طويلا جدا يصل إلى صدره وقد ربطه برباط يبلغ عدة أمتار أنفذه من خلال عشرات الخروم، فيظن أنه قد أفلت منى. إلا أن العبد لله لا يستسلم بهذه السهولة، وكيف أستسلم وأنا قد درست الفقه فى الأزهر؟ أم ترانا كنا نلعب؟ فأقول له: بسيطة يا أبا السِّىء (حسبما كنا نناديه على سبيل المزاح بدلا من أبو السِّيد، إذ كان اسمه "سيد" كما لا أحتاج أن أقول). يمكنك أن تتوضأ ولا تخلع حذاءك الطويل هذا الذى يدفئ صدرك خوفا من إصابتك بالبرد (أقول له هذا رغم أننا كنا أيامها فى عز الصيف!)، بل تمسح عليه وتصلى. لكن أبا السىء لا يسكت بل يرد على قريبه الذى هو أنا قائلا كأنه أتى بالذئب من ذيله: وكيف أصلى بالحذاء؟ هذا لا يليق! يقول أبو السِّىء هذا وهو ينظر لى من تحت لتحت كأن الحياء يغلبه، فأقول له: ولكن يليق طبعا ألا تصلى أصلا. أليس كذلك؟ ثم أقهقه أنا وزملاء الشقة على المنطق العجيب لأبى السىء، لا ساءكم الله! نسيت فى زحمة الكلام أن أقول إن أبا السِّىء لم يكن يكتفى بالمجىء وحده إلى الغرفة التى نسكنها من الشقة المفروشة، بل كان يأتى ومعه زميل له مجند لا نعرفه (بحذاء طويل أيضا. خذوا بالكم)، ويأتى زميله هذا بأبيه (ببلغة هذه المرة. بَصْرَة!)، فكنا نخاف أن يأتى الأب بالأم، وتأتى الأم بالأولاد لأنها لا تستطيع أن تفارقهم (يا ولداه!)، ويأتى فى ذيل الأولاد بقية أقاربهم فى القرية لإرواء غلة الشوق إلى الصغار، الذين هم أحباب الله كما تعرفون... وهكذا حتى كدت أفقد عقلى ويأخذوننى إلى العباسية، وهى على بُعْد فركة كعب منا ليس إلا لأُشَرِّف إسماعيل المهدوى هناك، وبهذا يتجاور الرجعى الظلامى المتخلف مع التقدمى الاشتراكى المتنور. ولا أريد أن أمضى فأحكى بقية طرائف أبى السىء معنا، وإلا ما انتهيت!
* * *
ومن مظاهر تفكك الرواية أيضا كثرة التناقض فى سرد الأحداث ووصف الأشياء والأماكن على نحو بغيض لا يقع فيه الكاتب المبتدئ: خذ عندك مثلا المبلغ الذى كان عبود يرسله إلى زوجته وابنه كل شهر عن طريق مهرة: فهو، كما يقول ماجد، مبلغ كبير لم يعرفا مبلغا مثله (ص5) مع أن أباه كان مديرا كبيرا فى إحدى الشركات. كذلك تكرر منه القول بأن المبلغ ينفد بمجرد تسلمه تقريبا، إذ تقوم الأم بإعطاء الدائنين ما لهم فى ذمتهما من مال اشترت به حاجاتهما طوال الشهر الفائت (ص6). ورغم هذا نراه هو نفسه يقول: "فى يوم الذهاب إلى أبله مهرة يكون كل ما معى أنا وأمى من الأموال قد نفد". فهل المبلغ الذى يقبضانه من أبله مهرة ينفد فى الحال؟ أم إنهما يظلان ينفقان منه إلى آخر الشهر كما تقول عبارة ماجد الأخيرة؟ وحين ذهب إلى شارع عباس العقاد فى مدينة نصر كى يأخذ من زميله إكرامى شريط فلم إباحى نراه يصف الشارع بأنه يشكو من الزحام المجنون فى السيارات والبشر جميعا، ثم عقيب ذلك يغير رأيه قائلا إن محلات الشارع كانت مغلقة، والناس جد قليلين، وليس للسيارات أية ضجة (ص14). قد يقال إن الوصف الثانى هو وصف الشارع يوم الأحد، اليوم الذى زاره فيه. ثم يعود مرة أخرى فيتحدث فى الفقرة الثالثة من الصفحة الخامسة عشرة عن المحلات فيقول إنها كانت مفتوحة، متوقعا أن من يدخلها سواء للشراء أو لمجرد الفرجة سوف يُنْشَل. فهل كانت المحلات مفتوحة؟ أم هل كانت مغلقة؟ اُرْسُ بنا على بر يا يوسف أنت وهذا الولد اللتَّات!
ومن هذا قول ماجد إن خروجه عن خط سيره الشهرى من شبرا إلى المعادى ليمر بزميله إكرامى فى مدينة نصر يحتاج إلى تلفيق قصة لأمه لأنه يضاعف المبلغ الذى سوف ينفقه هذه المرة على المواصلات (ص7). فإذا عرفنا أن المواصلات الزائدة فى ذلك الوقت ربما لا تبلغ جنيها تبين لنا سخف المبالغة فى كلام الولد، الذى هو بالطبع ليس كلامه بل كلام القعيد. ومع هذا فإن الحكاية قد تهون لو وقفت هنا، إذ ها هو ذا ماجد، والله العظيم بشحمه ولحمه، يخبرنا أنه سوف يشترى نظارة شمسية حين يقبض فلوس هذا الشهر من أبله مهرة (ص17). أى أن إنفاق ثمن تذكرة أوتوبيس فى داخل القاهرة مسألة خطيرة ومكلفة ماديا إلى الحد الذى سوف تربك ميزانية الشهر إرباكا يستدعى تدخل القوات العسكرية لحلف الأطلسى بغية تأديب المسلمين وتحطيم الأوتوبيسات والميكروباصات التى يملكونها، وذلك كله من أجل خاطر عيون ماجد، فضلا عن ضرورة تلفيق قصة محبوكة الأطراف للضحك بها على أمه، التى لن يشفى حقد صدرها تدخل حلف الناتو وتدميره البلاد، ومن ثم كان لا بد له من تأليف القصة الكاذبة، أما شراء نظارة شمسية فلن تربكها. ولكن لماذا فكر هذا البائس (بؤس المؤلف الذى اختلقه) فى شراء نظارة شمسية؟ لقد ذكر أنه يريد أن يتجنب وهج الشمس حين يعد طوابق العمارات الشاهقة فى شارع عباس العقاد، وكأن عد الطوابق واجب مقدس سوف يعاقبه الرب إن لم ينجزه. أرأيتم سخفا كهذا السخف؟
وحين يجد نفسه منخرطا فى حديث ذاتى بسبب ما يراه من أشياء جديدة عليه كل الجدة فى شارع عباس العقاد يتنبه إلى أنه ينبغى ألا يستمر فى هذه النجوى مع نفسه حتى لا يحسبه الناس مجنونا ويأخذوه إلى مستشفى العباسية أو يحولوه إلى المحافظة التى جاء منها إلى القاهرة، مع أنه يقول فى الفقرة السابقة إن معظم الناس فى الشارع، سواء كانوا راجلين أو راكبين، كانوا يكلمون أنفسهم (ص18). وأنا أترك للقارئ العزيز الحكم على الكاتب غير العزيز أو اللذيذ الذى يقول مثل ذلك الكلام المتناقض، وفى هذا الحيز الضيق جدا من السطور. أما أنا فأرى أن أصدق وصف لهذا هو "سمك، لبن، تمر هندى"! كذلك نجد ماجد، وهو صاعد إلى شقة زميله إكرامى، مسرورا محبورا من ركوب المصعد "الشّرِح البرِح" على حد وصفه له، وبخاصة أنه كان يتضوع بعطر ذكى خلفته وراءها الراكبة الجميلة التى نزلت فى الدور الأول (ص19). وكل هذا جميل، إلا أن ما ليس جميلا هو قوله بعد سطرين اثنين فقط إنه ورث فوبيا المصاعد عن أمه. أى أنه كان يخاف من ركوبها خوفا مرضيا يمنعه من دخولها وتخطى عتبتها مهما كانت الظروف حتى لو تحلقنا حوله نصفق له ونغنى قائلين: "تاتا. خَطِّ العتبة. تاتا. حبَّة حبَّة"! فكيف إذن يا ترى ركب المصعد رغم كل تلك الأهوال، فضلا عن أن يستمتع به دون أن نعرضه على سيجموند فرويد مثلا (أقول: مثلا. وإن كان عندكم غيره فهاتوه وخَلِّصونى) فيمدده على سرير الاعتراف أمامه فى ضوء خافت حتى يعرف سب عقدة المصعد عنده وينهال ضربا عليه بما فى رجله حتى يعدّمه العافية فيُشْفَى منها ويريحنا من هذه الثرثرة البليدة؟ بل إنى لأعجب كيف ركب ماجد المصعد رغم هذا دون أن يتبول ويتبرز على نفسه؟ يا للسخف المقيِّئ! وهكذا تكون كتابة الروايات، بل هكذا ينبغى أن تكون العبقرية التى أشاد بها ناقدنا المنتهك، وإلا فلا!
وفى الشقة الفيللا التى يسكنها إكرامى شاهد السمج المسمى: ماجد، وإن لم يكن له أى يد فى هذه السماجة لأنه لا ذنب له فيها، فصانعها هو القعيد، نقول: شاهد ذلك الولد النصرانى سلما صغيرا كثيرا ما رأى مثله فى التلفاز كما قال هو بعظمة لسانه، وهو ما يفيد أنه يعرف تمام المعرفة أن هذا سلم يؤدى إلى النصف العلوى من الشقة ذاتها، لنفاجأ كعادتنا فى الرواية الوخيمة مفاجأة سخيفة كمفاجآت كل مرة، إذ أخذ يسأل نفسه، حين أخذه ماجد ليصعدا إلى بقية الشقة، إلى أين يا ترى يذهب به صديقه؟ هل سيزوران يا ترى الجيران الذين فوق؟ (ص26). أية بلاهة هذه يا ربى؟ والحمد لله أنه لم يكن يشكو من فوبيا السلالم الداخلية فلم يصبه تشنج عصبى يروح فيه فيحتاس الكاتب كيف يكمل روايته الفاشلة، وإن كنت سأكون وقتها أسعد السعداء للتخلص من الولد الكذاب صنيعة الكاتب الثرثار!
والآن إلى هذه الفزورة، إذ يقول الكاتب على لسان مهرة: "جاء ماجد متأخرا عن موعده الذى تعودت على مجيئه فيه. اليوم هو العاشر من الشهر. يحرص على المجىء فيه مع أننى قلت له أن يحضر بعده" (ص74). فكيف يا ترى يكون ماجد قد جاء فى الميعاد الذى يجىء دائما فيه، وفى ذات الوقت يقال إنه جاء متأخرا عن موعده؟ وإليك هذه الفزورة أيضا، وهى كذلك من كلام مهرة، ويجدها القارئ فى الفقرة التى تلى ذلك: "كانت أوقاتى التى أقضيها خارج البيت أطول من داخله"، "عشت بمفردى واعتكفت واعتزلت، وأصبخ بينى وبين الدنيا ستار وحجاب... مقيمة فى البيت بصفة دائمة، وخروجى نادر". فأية المهرتين نصدق؟ هل نصدق أنها كانت تخرج من البيت أكثر مما كانت تظل بداخله أو أنها كانت تقيم فى البيت بصفة دائمة، ويندر خروجها؟
وفى الفقرة الثانية من الصفحة الثالثة والثمانين نسمعها تقول إنها دخلت على الولد النصرانى بالشاى والماء البارد وإنه مد يده إلى كوب الماء المثلج فشربه كالمفجوع. وهذا يعنى أنها انتهت من صنع الشاى وتقديمه أيضا. أم هناك فهم آخر لهذا الكلام الممل الذى لا مغزى له سوى أن القعيد لا يعرف كيف يكتب رواية فيذهب يثرثر وهو يظن أننا منسجمون آخر انسجام من ثرثرته المسئمة؟ المهم أننا فى الفقرة الثالثة نسمع مهرة بآذاننا هذه التى سوف يأكلها الدود تقول إنها ظلت واقفة فى المطبخ تستمتع بوشيش البراد على النار وخروج البخار من خرطومه. وهذا يعنى أنها لـَمّا تكن قد صنعت الشاى ولا قدمته من ثم. والآن قولوا لى أيها القراء الأعزاء ماذا أفعل فى هذا "العكّ" القعيدى، فقد غُلِب حمارى، ولم يعد أمامه إلا أن يرفع عقيرته بالنهيق.
ومن هذه التناقضات الفِجَّة تأكيد مرام أم ماجد (ص115) أنها لم تحصل على أية مؤهلات، بل لم تكن تعرف سوى الكتابة والقراءة، لتستدير الكذابة النَّسَّاءة بعد ذلك (ص130) فتزعم أنها، حين بحثت عن عمل بعد هجرة زوجها من مصر، طلبوا منها الشهادات الدراسية وشهادات الخبرة. وكان كل ما علقت به على هذا الطلب هو أن الحصول على تلك الأوراق مكلف، بما يعنى أنها كان حاصلة على شهادات دراسية فعلا، إلا أنها تحتاج إلى مال كثير. وهنا أيضا نتساءل: أية المرامين نصدق؟ الواقع أننا ينبغى ألا نصدق تلك الكذابة فى شىء أبدا، بل ولا نصدق شيئا فى الرواية كلها، ونريح أنفسنا. ومن تناقضات الرواية، وما أكثرها كالهم على القلب، كلام عبود زوجها عن ذهابه إلى الكنيسة قبيل الهجرة ومعرفته هناك بما سيحدث له فى البلد الجديد الذى سوف يهاجر إليه، وهو ما يدل على أنه فاتحهم بعزمه على ترك البلاد. لكننا، بعد أسطر قليلة وقبل أن يجف الحبر الذى كُتِب به هذا الكلام، نسمعه يؤكد أنه لم يكن فى القاهرة كلها مخلوق واحد يستطيع أن يتكلم معه عن مشروع الهجرة (ص157- 158). وفى ص175 تؤكد مهرة أنها راغبة فى الاقتراب من ماجد والتعامل معه جاعلة إياه استثناءً مما كانت تحرص عليه من إقامة مسافة بينها وبين الناس، مع أنها قبيل ذلك قد أبرزت عيوبه ونتانته وملابسه المرقعة غير المكوية ونفورها من كل شىء فيه (ص77).
كذلك نسمع مصطفى نور الدين يذكر أنها أصرت على رد مفتاح شقته إليه عقب الطلاق منه وأنه لما عرض عليها إرجاع المفتاح إليها بعد أن صارت تتردد عليه لممارسة الرذيلة معه (قبل أن تفىء إلى ربها) رفضت الأمر خشية أن يعاودها الشعور بالملل من ممارسة الجنس معه فى الحرام مثلما كانت تشعر به معه فى الحلال لو أخذت المفتاح مرة أخرى كما كان الحال أيام زواجهما (ص108). فما الذى يفهمه قارئى العزيز من هذا الكلام؟ أليس أنها لم يكن معها مفتاح شقة زوجها السابق، الذى صار عشيقها؟ بلى. وليس هناك، ولا يمكن أن يكون هناك، أى معنى آخر. بَيْدَ أن مهرة ذاتها قبل هذا قد ذكرت أن مفتاح الشقة كان لا يزال معها حين قصدت زوجها وعشيقها السابق فى آخر الرواية السخيفة لتطلب منه إمدادها بثلاثمائة الجنيه التى لماجد وأمه فى رقبتها (ص175). ليس هذا فحسب، بل رغم أن الاثنين كانا يعيشان فى حى واحد (ص169)، وكانت الصلة الجنسية بينهما قائمة حتى بعد الطلاق كما تكرر القول، فإننا نسمعها تقول إنه لم يعرف بتحجبها ولم تعرف هى بالتحائه وانخراطه فى جماعة إسلامية إلا بعد أن التقيا لقاءهما هذا الأخير (ص179- 180). هل تصدق هذا أيها القارئ؟ الحق أنه ليس هناك عاقل يمكن أن يصدق حرفا من هذا الذى تقوله الرواية الفاشلة. وبالمناسبة فنحن لا نعرف على أى نحو انقطعت العلاقة بين الاثنين، وقد كانا سمنا على عسل، وإن كانا سمنا زَنِخًا، وعسلا مطيَّنا بستين ألف نيلة.
وهناك تناقض آخر يتمثل فى أن مصطفى نور الدين، بعدما أحيل إلى الاستيداع من الجيش، لم يعد يرتدى إلا الملابس المدنية، بل لم يعد من حقه أن يلبس الزى العسكرى، ومن هنا نراه يخرج ملابسه المدنية من مكمنها لأنه لم يعد أمامه من الآن فصاعدا إلا أن يستخدمها (ص213). إلا أنه، رغم ذلك، يعود فيقول إنه ذهب بعد إحالته إلى الاستيداع لشراء صحيفة بالقرب من تجمع عمال اليومية، فهجموا على سيارته وكادوا يحطمونها ويكسرونها ظنا منهم أنه قد أتى لاستئجار بعضهم "برغم البدلة الميرى التى كنت أرتديها" بنص عبارته (ص217). أى أنه كان لا يزال يلبس الزى العسكرى بعد ذلك كله. وليس أمام القارئ إلا أن يكبّر دماغه ويرمى وراء ظهره كما قال أحد المسؤولين الكبار يوما لمسؤول تحت إمرته، وإلا أصيب بالفالَج، لا قدّر الله! وأنتم تَرَوْن كيف كان ذلك المسؤول يتمتع بصحة عظيمة فلم يصبه سكر ولا ضغط ولا هُزِل جسمه، وكان يصبغ شعره غير مبال بشىء يحدث فى سلطانه الواسع مهما تكن خطورته وفظاعته. زاده الله بلادة واستنطاعا، فإن الإحساس نعمة! وهو الآن قد صار يقضى أوقاته فى العبث بإصبعه فى مناخيره على ملإ من العالم أجمع، بينما ابنه الوريث يلعّب لنا الإصبع الوسطى من يده اليمنى استعاضة عما كان ينتويه من تلعيبنا على الشناكل. وكله تلعيب!
* * *
ومن مظاهر تفكك الرواية كذلك كثرة الثرثرة بدون طائلٍ أو داعٍ فى الموضوعات التافهة التى لا تقدم ولا تؤخر. آسف: بل تؤخر وتفسد! ومنذ بداية الرواية لاحظت هذا العيب المزعج. ففى أول صفحة ينخرط ماجد راوى الفصل الأول فى خطبة عصماء عن مشاكل المواصلات فى القاهرة، وكأن ذلك شىء جديد، فنجده يمطرنا بوابل من الشروح والتوضيحات الخاصة بهذا الأمر وكأنه مسافر إلى القمر على ظهر حمار. فالأمر يحتاج إلى سيارة أجرة، لكن لأن العين بصيرة، واليد قصيرة فليس أمامه إلا أن يركب الأوتوبيس. الحمد لله، وعلى بركة الله، وهيا يا ماجد أسرع حتى لا يفوتك الأوتوبيس.
بيد أن ماجد ثرثار بليد، فلذلك شرع يمطرنا بمزيد من الشروح والتوضيحات التى تقول إن المشوار يحتاج إلى أكثر من أوتوبيس، وإن هناك أوتوبيسات كبيرة، وأخرى صغيرة محندقة، وعربات سرفيس، وإن هناك فرقا بينها يتمثل فى أنه لا يستطيع دفع أجرة السرفيس ولا الأوتوبيسات الصغيرة المحندقة. وفرق آخر هو أن الأوتوبيس، سواء كان كبيرا أو مقطقطا، يعطيك تذكرة، أما السرفيس فلا. ولكن لم يا سيد ماجد تريد الحصول على تذكرة من السرفيس ما دمت لن تركبه، ركبك عفريت وخَلَّصَنا منك؟ أما إذا كتب الله لك فى ليلة القدر (التى هى بالمناسبة مناسبة إسلامية تقع فى شهر إسلامى) أن تركب السرفيس وأردت الحصول على وثيقة تقول إنك دفعت ربع جنيه فى ذلك المشوار لتقدمها إلى جهاز المحاسبات بعد عودتك سالما غانما من رحلتك الميمونة التى سوف تغير تاريخ العالم حتى ليقال: يوم رحلة ماجد إلى المعادى، أو قبل رحلة ماجد إلى المعادى، أو بعد رحلة ماجد إلى المعادى بكذا أو كذا من الأيام أو الأسابيع أو الشهور أو الأعوام، فبمستطاعك يا ابن الحلال، ما دامت التذاكر غير متاحة فى عربات السرفيس، أن تطلب من السائق فاتورة. وبما أن سائق السرفيس بلطجى مجرم وخارج على القانون وأمى لا يفهم فى التذاكر ولا فى الفواتير ولا فى البطيخ، ولا يفهم فى الأصول، فأنا واثق أنه سوف يمد يده الطرشاء فيأخذ ما يصادفها من أشياء أعدها لمثل تلك الظروف ووضعها بين كرسيه وبين النافذة التى على شماله بحيث تكون جاهزة وفى متناول يده متى ما أراد: شومة، سكين، سنجة، زُقْلِيّة، بونيّة حديد وينهال بها على دماغك أو يطعنك بها فى صدرك أو يغرسها فى رقبتك أو يلكم بها وجه البعيد فيضع حدا لـ"سآلتك" اللعينة هذه (وأرجو من ناقدنا الانتهاكى، الذى سيأتى ذكره فيما بعد، أن يسامحنى فى تلك الانتهاكة الموجودة فى كلمة "سآلتك". من نفسى أيها المنتهكون!)، ونرتاح من شخصك البغيض، ومن الشخص الذى فرضك علينا على الصبح. والحكاية ليست ناقصة أن نصطبح بخلقة واحد مثلك أو مثله.
يا أخى، اركب. فلقتنا! أو بالأحرى (ولو تفضل القارئ فوضع نقطة على الحاء لعمل فىّ معروفا لن أنساه): دعه يا قعيد يركب، ودعك من هذا اللَّتّ والعجن، ولا تكن كأحمد الحداد حين يتقمص شخصية أم على الرغّاية، التى لا يكُفّ لسانها عن الكلام طول النهار، وكذلك طول الليل حتى وهى نائمة (كيف؟ لا أدرى)، ثم تقول رغم ذلك وبكل بجاحة: "يقولون عنى: رَغّاية! أنا رَغّاية؟ بالله عليكم هل أنا رغاية؟ رَغَّاية، قال؟ فَشَر من يقول إننى رغاية! طيب ثلاثة أيمان بالله العظيم ما أنا بالرغاية. ومن تتهمنى بأننى رغاية فسوف أثبت أنها هى لا أنا الرغاية. قل لى يا ابنى: هل تصدق ما يقولونه عنى من أننى رغاية؟ طيب احكم أنت بنفسك: هل أنا رغاية أو لا؟ والنبى ومن نبَّأ النبى نبيًّا لست رَغَّاية، بل التى تكرهنى هى الرغاية... إلخ"! ولو كان مؤلفنا العبقرى يكتب مثل تلك الروايات السخيفة أيام "ساعة لقلبك" والخواجة بيجو وأبو لمعة الأصلى والمعلم شَكَل لدخل التاريخ، لأنهم سوف يتخذون منه شخصية كاريكاتورية يجعلونها محور حلقاتهم الفكاهية ولكانوا لا يزالون يتهكمون به حتى الآن لأنه يشكل مادة فكاهية لا ينضب لها مَعِين، ولضُرِب به المثل فقيل: "أبرد من روايات قعيد" كما يقال مثلا: "شهابٌ أضرط من أخيه"!
ليس شهاب فقط، بل شِهَابَة أيضا، فهى أضرط من شهاب ذاته. ذلك أن مهرة، فى المسافة التى تفصل بين دق ماجد للجرس حين أتى ليتسلم منها المبلغ الشهرى آخر مرة وبين فتحها الباب له، لم تكف عن الكلام مع نفسها، وراحت وجاءت وتذكرت الماضى القريب والبعيد والأصدقاء والحجاب الذى تحجبته بعد توبتها والغسيل الذى لم تعد تنشره بعدما أفتاها المفتون، والعهدة عليها، فلست أصدق أحدا فى هذه القصة لأننى "ببساطة وبكل وضوح" (كما تقول سيدتنا أنغام بنت سيدنا محمد بن على بن سليمان رضى الله عنهم أجمعين من هنا إلى يوم الدين ونفعنا بفنهم وموسيقاهم وغنائهم وخلافاتهم الفنية والمالية والأسرية) لا أصدق حرفا مما يكتبه القعيد، وإلا كنت أخطل أهطل أهبل، فكله كلام معتوه وأبله ولا يدخل عقل عصفور، نعم: وتذكَّرَتِ الغسيل الذى لم تعد تنشره بعدما أفتاها المفتون، والعهدة عليها، بأن نشر الغسيل فى الشرفات حرام، وبخاصة أنه من المحتمل أن تقع عين رجل غريب على ما فيه من ملابس داخلية (طبعا ليس كل الملابس الداخلية، بل بعضها فقط كما تعرفون)، وأنها أخذت منذ ذلك الحين تنشر الغسيل على منشر داخلى، وأنها لعدم نشرها الغسيل فى الشرفة لن يستطيع الولد أن يعرف بوجودها فى المنزل فيرجع دون أن يأخذ المبلغ، الذى كانت قد صرفته وانتهى الأمر. ثم عادت وفكرت ماذا يمكنها أن تقول له إذا اتخذت خطوة فتح الباب، وأخذت تستعرض الاحتمالات التى يمكن أن تقع وردود الأفعال التى يمكنها أن ترد بها. ثم تركت هذا إلى ذكريات أمها معها ونصائحها لها فيما يتعلق بالتدبير فى إنفاق الفلوس. ثم تركت هذا أيضا وأخذت تندب حظها لأنها تورطت فى ذلك المستنقع دون داع، ولا تدرى كيف (ولا نحن والله يا سيدتى ندرى كيف الْتَمَّ المتعوس، الذى هو عبود، على خائبة الرجاء، التى هى أنت). ثم تركت هذاالموضوع كذلك وانتقلت إلى ماذا تصنع لو فتحت الباب للولد (كل هذا، وهى وراء الباب تنظر من العين السحرية، التى ابتلتنا أمريكا بها نحن المسلمين لتنقل لها أخبارنا فى البيوت بعدما اطمأنت إلى أن أسرار الدولة كلها فى أيديها، والبركة فى المخلوع ووزير ماليته ووزير فنه ووزير فنادقه و... ووزرائه كلهم بربطة المعلم، وعلى رأسهم الرجل الطويل الذى لا يوحى بالمرجلة أبدا، حتى نخلص من هذا الموضوع. أىّ عته وبطيخ هذا الذى تكتبه يا أبا حجاج؟ ألم تفكر فى أن تنظر فى المرآة يوما لترى نفسك؟)، نعود للكلام ونقول: ماذا تصنع إذا فتحت الباب ورآها الولد على حقيقتها حين يعرف أنها تصرفت فى فلوسه هو وأمه فظهرت عارية أمامه دون ورقة توت؟ آه صحيح. لقد فاتتنا هذه، ومعروف أنه من لم يرض بالتوت فليرض بشرابه.
ثم تركت هذا الموضوع كذلك وفتحت الباب دون أن يكون عندها النية فى فتحه. والله العظيم؟ ثم انفتحت البلاعة مرة أخرى وشرعت تتكلم عن رثاثة ملابس الولد وما ينتشر فيها من رُقَع (يا حول الله!)، والعرق الفائح منها ومنه، وقَبْض يدها عن مصافحته لأنه لا مصافحة فى الإسلام لرجل غريب (طبعا لا مصافحة فى الإسلام لرجل غريب، لكن لا مانع أن تنام مع ولد غريب ونصرانى أيضا، وملابسه كلها عرقٌ وصُنَانٌ، وتمارس الجنس معه للصبح وتعلمه فنون ممارسته، وكله بثوابه، ومن قدم شيئا بيداه التقاه كما يقول الشحاتون (بالتاء أو بالذال، كلتاهما صحيحة. وبالألف فى "يداه" فى كل الإعرابات على لغة بعض القبائل التى كانت، فيما يبدو، تشتغل بالشحاتة!). إلا أن مهرة لن تقدم ما ستقدمه فى هذه الظروف بيدها بل بشىء آخر! آه با بنت الأبالسة! لكن أرجع وأقول: العيب ليس فيك بل فى الذى كتب قصتك ليهاجم الإسلام والمسلمين، فاختلق حكايتك الماسخة ورَسَم شخصيتك البلهاء بحيث لا تجدين حرجا من إسلام نفسك فى الحرام لولد قذر عبيط فى سن أبنائك (أبنائك المفترضين طبعا، فأنا أعرف أن يوسف لم يرد لك أن تتزوجى بحيث يكون من السهل عليك أن تدورى على حل شعرك)، لكن ليس فى نظافة أبنائك ولا أناقتهم ولا على نفس دينهم، وأنت التى تتشددين فى الإبرة أيما تشدد ولكنك تبلعين الجمل، وكل ذلك لقاء ثلاثمائة جنيه لن تضيع على الولد وأمه إلى الأبد، بل فقط إلى حين ميسرة، "وإن كان ذو عُسْرَةٍ فنَظِرَةٌ إلى ميسرة". وبارك الله فى الجائزة أم مائة ألف جنيه!
ثم تستمر اللتاتة العجانة فتنتقل من فتوى نقض الوضوء لأن الولد ليس له دخل فى وضوئها ولا يعرف شيئا عن هذه الشعيرة الإسلامية كما تقول هى، وتتحدث عن الفراغ الكبير الذى امتلأت به حياتها وكيف تغلبت عليه بشراء ماكينة خياطة لتفصل ملابسها بنفسها، "ولكن أى ملابس يا حسرة؟". والسؤال الأخير ليس سؤالى أنا، فالكذب خيبة، بل كلامها هى. كل هذا والولد واقف على الباب (ع الباب أنا ع الباب. افتح لى يا بواب!). فإذا ما دخل أخيرا وجدنا أنفسنا أمام فاصل طويل آخر من هذه النجاوَى السمجة الثقيلة الظل والروح (جمع "نجوى") على مدى ست صفحات ونصف لا تقدم لنا شيئا نافعا بالمرة يدفع بالعمل القصصى إلى الأمام، بل مجرد ذكريات لا تتعلق بالرواية على الإطلاق... إلى أن انصرف الولد دون فلوس كما هو متوقع، إذ من أين لها بالفلوس التى أُنْفِقَتْ يا حسرة؟ وهذا السؤال، للعلم، من عندى أنا هذه المرة. لكن رغم ذلك إياكم أن تظنوا أن بالوعة الكلام القعيدية قد انسدت، بل ظلت تفيض لمدة ثمانىَ عَشْرَةَ صفحةً ونصفٍ أخرى. وبهذا، رغم أنى اكتفيت بمثالين اثنين لا غير، يتبين لكم مدى السخف الذى تمتلئ به رواية السيد قعيد بسبب ما كَظَّها به من ثرثرة غثة باردة منذ بدايتها إلى نهايتها.
* * *
هذا، وتتضمن الرواية خمس شخصيات أساسية هى ماجد وأبوه عبود وأمه مرام ومهرة وزوجها مصطفى نور الدين، فضلا عن عدد من الشخصيات الأخرى التى لم يتلبث الكاتب عند بعضها، وهؤلاء لا يهموننا، وبعضها قد أعطاه دورا وأطال الوقوف عنده وأراد أن يوهمنا أنه شىء مهم فى الرواية رغم أنه ليس كذلك على الإطلاق. ومن ثم كان المستحسن أن يُحْذَف أصلا منها أو تكون الإشارة إليه عارضة لأن هذا هو فعلا حجمه الحقيقى. ذلك أن هذه الشخصيات ليس لوجودها أى داع، وقد انتهت الرواية دون أن نعرف ماذا حدث لها، علاوة على أنها لم يعترها أى تطور، بل لم تؤد أى دور كما قلت. أقصد شخصيتى إكرامى والجنرال عفارم. فأما إكرامى فمجرد زميل عارض لماجد لا تربطه به أية صداقة أو أية صلة على الإطلاق سوى أن الكاتب أراد أن يختلق قصة الفلم الإباحى الذى جعله مدارا لسقوط مهرة مع الولد الأجرب المنتن المسمى: ماجد. وكان يمكنه أن يقول إن الولد المنتن قد حصل من أحد زملائه على شريط جنسى، والسلام ختام، ولا داعى لاستدعاء إكرامى أو أحمد شوبير فى الرواية، فنحن لسنا فى مباراة كرة قدم.
لكن الكاتب المسكين، الذى يصعب علىَّ حاله المتدنى لا فى سلم الفن بل فيما تحت السلم، قد خصص عددا طويلا من الصفحات يحكى لنا فيها المجهود الخارق الذى بذله ماجد حتى وصل إلى شارع عباس العقاد حيث يسكن إكرامى، وشاهد عجائب الدنيا السبع فى ذلك الشارع، الذى أخذ عينى الولد النصرانى بعماراته الشاهقة فانخرط فى عد الطوابق التى تتكون منها كل عمارة حتى بهر عينيه ضوء الشمس، فقرر (ويا للهول!) أن يشترى نظارة شمسية لهذا السبب، إلى جانب فصل آخر كامل يسرد لنا فيه هذا الإكرامى ما حدث بينه وبين ماجد حين زاره تلك الزيارة التى لا معنى لها، إذ لا تربط بين الولدين أية صلة كما قلنا ولا هما من نفس المستوى المادى والاجتماعى ولا من نفس الدين، علاوة على أن ملابس ماجد، حسبما تقول الرواية، كانت تظهر فيها آثار الرقع، مما من شأنه أن يدفع إكرامى إلى التفكير فى إعطائه عنوانه كى يمر عليه ويأخذ الأمانة (يقصدان الفلم الإباحى)، وبخاصة أنه كان بإمكانه أن يُحْضِر هو الفلم إلى الجامعة ويأخذه ماجد منه هناك. وهذا إن كان لا بد أن يشاهده ماجد العبيط أصلا، إذ ليس عنده فيديو لمشاهدته. أما الحل الذى قدمه لنا القعيد، وكأنه يخاطب ناسا بلهاء معتوهين، فهو أن الولد الأجرب قرر أن يشاهده لدى أبله مهرة، تلك السيدة التى كانت يوما من نجوم المجتمع والإعلام والفن، وكانت تتميز بالجمال الباهر والأناقة الساحرة، ثم تحجبت وتركت هذا كله وراءها واعتزلت الناس وتشددت وتنطست حتى إنها لم تكن تصافح الولد النصرانى مجرد مصافحة كيلا ينتقض وضوؤها.
بالله عليكم أيها القراء هل يمكن تصور هذا ولو فى الأوهام؟ ترى كيف جرؤ الولد الأجرب أن يقرر هذا الأمر وكأنه شىء مفروغ منه؟ ومهرة، كيف تقبلت منه هذا التصرف حين صارحها به وكأنه يعرض عليها عَزْمه على أن يدخل الإسلام، فلم تنهره وتضربه بالشبشب الذى فى قدمها؟ إن هذا هو ما تقتضيه الواقعية يا سيد قعيد لا ما رفدتْك به أوهامك العبيطة. وعلى كل حال فقد اختفى إكرامى من الوجود عقب ذلك، وكأنه فص ملح وذاب، أو ربما ذهب للاحتراف فى أوربا وأعجبه البقاء هناك. وبهذا نحذف ستا وعشرين صفحة، فتقل بذلك صفحات الكتاب السمج وتكون معاناتنا بسببه أقل بقدر ست وعشرين صفحة. يا قوة الله! غُمّة وانزاحت، والعُقْبَى فى الباقى. أما إذا كان بعضنا يكره الإسلام والمسلمين فليكرههما كما يشاء، لكن باب الفن والإبداع ضيق عسير، ومن يفعل ذلك فهو، بحمد الله، أبيض غشيم فى الكار!
وقد سكت الناقد الانتهاكى فى مقاله الانتهاكى عن الروائى المنتهك فلم يقل شيئا عن إكرامى، على العكس مع الجنرال عفارم، الذى مدح ناقدُنا المنتهكُ القعيد بسببه فقال يمدحه لبراعته فى "تخليق النماذج المدهشة" على حد قوله، ومنها شخصية الجنرال عفارم: "ينجح في تخليق نماذج مدهشة من الشخصيات التي تعلق بالذاكرة وتستقر في الضمير الأدبي. "الجنرال عفارم"، الذي يطلع علينا من هذه الرواية يختلف عن دراويش نجيب محفوظ بأنه صريع الجمال ومجنون غانية فريدة، وهي "مهرة"، التي تَمَثَّلها باعتبارها مليكة مصر، وهو واليها المنتظر، طبقا لمبدإ تناسخ الأرواح".
ذلك ما قاله ناقدنا المنتهك، فهل الأمر فعلا كما قال؟ لننظر ونَرَ: فأما لقب "الجنرال عفارم" فلا ندرى من أطلقه عليه ولا الظروف التى أطلقه عليه فيها، بل نجد الرجل أمامنا مباشرة بهذا اللقب خَبْط لَزْق فى عنوان الفصل الذى خصصه الكاتب له كى يمارس هو أيضا نجوى ذاته. ولم لا؟ هل هو أقل من الآخرين؟ وهذا الذى فعله الكاتب الانتهاكى عيب شديد. وكل ما هنالك أننا نستنتج مما نقرؤه فى الرواية أنه كان قاضيا ثم تعلق بمهرة فترك عمله أولا إلى المحاماة ثم تفرغ لحبيبة الفؤاد وأخذ يتبعها كظلها، بل رابَطَ تحت نافذتها. أما أين نشأ؟ وهل كان متزوجا قبل ذلك أو لا؟ وإذا كان فهل له أولاد؟ فأين هم؟ وأين كان يسكن؟ كذلك لا بد أن تكون له أسرة ينتمى إليها، أم ترى أولاد الحلال عثروا عليه فى لَفّة أمام الجامع؟ فأين تلك الأسرة؟ وما موقفها منه ومن انقلاب حاله؟ ولقد كان لمهرة أسرة، وكان لمصطفى نور الدين أسرة، وكان لماجد أب، لكن عبثا نسأل: أين ذهب كل هؤلاء؟ لقد بدت مهرة ومصطفى زوجها وعشيقها وماجد وكأنهم مقطوعون من شجرة. ومثلهم فى ذلك عفارم، الذى نجهل كل شىء عن أسرته. وهو عيب آخر فى الرواية. إن لكتابة الرواية أصولا لا بد من مراعاتها، أما الشغل الجهجهونى هذا فلا ينفع ببصلة. ليس من حق أحد أن يكتب ما يشاء دون رقيب أو حسيب من القواعد الفنية ثم يظن أنه مبدع لم تلد مثله ولادة. لا بد أن يكون كل شىء فى الرواية مبررا أو معللا، أما الانطلاق من كل قيد والتصور بأن الكاتب من حقه أن يكتب ما يشاء بغير تعليل أو تبرير فهو دليل على هشاشة موهبته، إن كانت له موهبة.
ثم ما دور عفارم فى الرواية؟ لقد وقع فى غرام مهرة. يا فرحتى! وماذا فى هذا مما يخدم العمل القصصى؟ لا شىء. فنحن نعرف أنها ساحرة الجمال، ومن الطبيعى أن يقع فى غرامها الرجال كلهم لا عفارم فقط. ولكن ماذا ترتب على غرام هذا العفارم بها؟ لا شىء. لقد كان يمكنه مثلا أن ينجدها فى أزمتها السخيفة التى اختلقها الكاتب اختلاقا ليبرر إسلامها جسدها للولد النصرانى الأجرب، فتطلب منه أن يقرضها مثلا ثلاثمائة الجنيه التى كانت للولد وأمه فى ذمتها. وكان معه فلوس كما تبين لنا الرواية، ربنا يزيد ويبارك. بل إنه أعطى للولد النصرانى عشرة جنيهات بحالها، ودون أى ضمان، وكل ذلك من أجل خاطر شجرة الدر (أقصد مهرة)، مع أن الولد النصرانى كان يريد جنيها على أقصى تقدير لأنه كان من ركاب الأوتوبيسات الرخيصة مثلنا لا الأوتوبيسات الصغيرة ا لمحندقة ولا عربات السرفيس. لكن الكاتب لم يصنع شيئا من ذلك الذى كان ينبغى أن يصنعه، فكان الجنرال عفارم عبئا على الجنرال القعيد. ولكن كيف نتوقع من الجنرال قعيد أن يترك عفارم يهب إلى نجدة مهرة، وهو إنما كتب الرواية من أجل أن تنتهى بالمشهد الجنسى المذكور؟ وهذا دليل على أنه روائى فاشل، إذ يفرض ما يريد على الرواية ولا يتركها تسير سيرها الطبيعى وتنمو نموها التلقائى الحر. كذلك تقول الرواية إن عفارم كان يتبع مهرة كظلها إذا خرجت، ويمكث فى مدخل العمارة التى تقطنها إذا كانت فى المنزل بحيث يرى كل داخل إليها أو خارج من عندها. لكنها لم تتعرض فى أى من خروجاتها إلى ما يحتاج تدخل عفارم لمعاونتها أو يتصرف هو تصرفا شاذا يضعها فى موقف حرج يكشف من شخصيتها ما كان خافيا علينا. كما أن ماجد قد دخل شقتها فى ثانى أيام الرواية وبات عندها ولم يخرج حتى الصباح، وظل يمارس الجنس معها طوال الليل ويتلقى منه على يديها "الفنون الجميلة"، ومع ذلك لم يلحظ الشيخُ عفارم شيئا من ذلك، بل نام على صماخ أذنه لا يدرى من أمرها ولا من أمر نفسه شيئا كأى "مقطف" أصيل. إِسْفُخْص عليك يا جنرال عفارم! ثم يسميه الكاتب بعد ذلك كله: "عفارم"، ويعطيه رتبة "الجنرال" فوق البيعة! قل إنه "خُرُنْج". قل إنه "شُرّابة خرج". قل إنه "خيبة الأمل راكبة جمل". أما أن تقول إنه "عفارم" و"جنرال" أيضا، فاسمح لى أن أقول لك إنك فى الفن لا جنرال و لا عفارم.
ثم إن المفترض فى شخص كهذا أن يكون مخلول العقل. لكنه، فيما عدا الادعاء بأنه المعز لدين الله، يتصرف ويفكر على نحو طبيعى جدا، وفوق ذلك يحلل الأمور ويزنها تحليلا ووزنا سديدا لا يدل أبدا على أن فى عقله خللا، بل على العكس من ذلك تماما. ومن يرجع إلى الصفحات الخمس عشرة التى شغلها بأفكاره ومناجاته لنفسه (ص55- 69) يتيقن من صحة ما قلت. وهذه من الثغرات الخطيرة فى الرواية. كذلك فهو ممن يؤمنون بتناسخ الأرواح. عظيم! فكيف إذن ينفر من مصافحة ماجد تجنبا لانتقاض الوضوء، ثم حين يفعل ذلك لا يفعله إلا مضطرا؟ إن معنى هذا أنه مسلم، بل مسلم متحمس لدينه. ويزيدنا تأكدا من ذلك أنه، حتى فى إيمانه بتناسخ الأرواح، لا يرى نفسه إلا المعز لدين الله، ولا مهرة إلا شجرة الدر، وهما حاكمان مسلمان، والأخيرة منهما قد انتصرت، كما يؤكد هو نفسه فى ابتهاج بالغ، على الصليبيين، الذين يتمنى أن تعود هذه السيدة إلى التربع على عرش مصر كرة أخرى كيلا يرفعوا رؤوسهم. ثم صار يسمى نفسه بعد ذلك: "ابن تيمية"، ومهرة "رابعة العدوية". فالإسلام إذن ضارب فيه "حتى النخاع" كما يقول الأوربيون (to the marrow; jusqu'à la moelle). وليسمح لى القراء بحتّة الحذلقة هذه ولا يقفوا عندها طويلا. ولكن كيف يجتمع إيمان عفارم بتناسخ الأرواح، وهو مما يعتقده الهنادكة والبوذيون والسِّيخ والوثنيون وأمثالهم، مع تحمسه الشديد للإسلام؟ بل كيف صار تناسخيا أصلا؟ لقد كان لا بد أن يرينا الكاتب هذا التطور العقيدى الغريب علينا وعلى بيئتنا.
ومع ذلك كله ينسى القعيد كل ما قاله عن عفارم ويصوره فى نهاية الصفحات الخمس والعشرين شيوعيا حقيرا يكره الجماعات الإسلامية ويتهمهم بما يتهمهم به الشيوعيون من أنهم يريدون توزيع "أَنْجَر الفَتَّة" على أنفسهم وأنهم إرهابيون! أى أنجر يا أخانا وأى فتة، وهم فى أغلب الأوقات نزلاء السجون؟ وهل كانوا يَتَوَلَّوْن المناصب الكبرى فى البلد ابتداء من رئيس الجمهورية، وانتهاء برئيس الجمهورية أيضا، إذ هو الكل فى الكل؟ وبدلا من أن يرينا القعيد شجاعته فى الوقوف ضد الحاكم المستبد اللص القاتل العميل لأمريكا ولإسرائيل المملوء بعقد النقص التى فى الدنيا جميعا نراه "يعمل شجاعا" على المضطهدين نزلاء المعتقلات. سمك، بل سَمَكْمَك، لبن، تمر هندى! وبالمناسبة فلقد كنت أريد من الكاتب أن يوضح لنا كم "أَنْجَرًا" من الفتة تستطيع مائة ألف جنيه أن تشترى؟ الفتة أُمّ لحمة طبعا لا الفتة القرديحى التى لا نأكل نحن الغَلابَى سواها. ولا داعى لذكر المائة ألف جنيه الأخرى. ثم انتهت الرواية دون أن نعرف إلام انتهى بعفارم أو بغير عفارم المصير. ومن هنا فإنى أرى أن الخمس عشرة صفحة التى خصصها الكاتب لجنرالنا لا بد من حذفها. يا مهوِّن! ما زال باقيا أمامنا مائتان وست وعشرون صفحة تحتاج هى أيضا إلى الحذف. الله المستعان!
ألا بالصبر تبلغ ما تريدُ * وبالتُّقْيَا يلين لك الحديدُ
وتتبقى إشارة الناقد الانتهاكى إلى نجيب محفوظ، وهذه الإشارة تذكِّرنى بما كان يفعله بعض الأقزام من التلزق بذلك العملاق متصورين أن وجودهم إلى جانبه سوف يضفى عليهم ما ليس فيهم. وهو تصور خاطئ ومغشوش، إذ كيف يتحول الأقزام الذين لايطاولون حذاء محفوظ فيطاولوه هو نفسه ويقتربوا من هامته؟ إن هذا نوع من الجنون، ربنا يشفى!
أما الشخصيات الرئيسية فى الرواية فهى شخصيات مضطربة تأتى الفعل ونقيضه، وتتصرف تصرفات غير متوقعة وغير واقعية، وتتحدث بأفكار وآراء ليست فى مستواها: وعندنا أولا ماجد، الذى ظهر فى الرواية أولا، ولهذا سآخذه أولا، ربنا يأخذه! فماجد هذا، حسبما هو واضح من كلامه عن نفسه، شاب ساذج بائس يحتاس لأقل شىء، لا يختلط هو وأمه بأحد، ولا يخرج من اللوكاندة الحقيرة الفقيرة إلا للجامعة، التى تختفى فى الظل فلم تظهر ولو فى مشهد واحد، أو لأبله مهرة مرة كل شهر. ولهذا لم يكن مثلا قد سمع قبل ذهابه إلى صديقه إكرامى، الذى يسكن مع أسرته فى شارع عباس العقاد، أن هناك شارعا فى القاهرة بهذا الاسم. تصوروا! كما أنه، حين أراد أن يذهب إلى إكرامى فى مدينة نصر خارجا بذلك على المسار الذى اعتاده كل شهر من أحمد حلمى حتى المعادى حيث تسكن مهرة، قد دون هذا فى ورقة كان ينظر فيها كل قليل حتى لا يضطرب فيضلّ سواء السبيل، وكأنه مقبل على صناعة القنبلة النووية. ومع ذلك كله نرى هذا البائس الساذج الغر المحتاس يؤكد أن حى المعادى إنما بُنِىَ ليسكنه الجواسيس وأن عدد المصريين فيه لا يكاد يُذْكَر. كيف عرف ذلك يا ترى؟ إننى، وأنا الذى نيفت على الستين بأربع سنوات وقرأت ما لا يحصى من الكتب واستمتعت إلى أطنان وأطنان من الأحاديث بكل أنواعها، لا أعرف هذا الذى يقول. وهنا نقطة ألمسها على الماشى، وهى أن هذه لم تكن المرة الأولى التى يرى فيها الولد الأجرب حى المعادى، ورغم هذا نراه يصفه وَصْفَ من يراه لأول مرة فيقف مبهورا عند البيوت المنخفضة والمساحات الخضراء المائلة إلى اللون الرصاصى حسبما يقول... إلخ، وكأنه لم ير هذا من قَبْلُ قَطّ. وهذا عيب فنى شنيع يؤاخَذ عليه الكاتب المنتهك المفتون به ناقدنا المنتهك، ولا ذنب للولد الأجرب فيه. كما نرى الولد العبيط المحدود الأفق الذى يخاف من خياله يدلى برأيه فى المجتمع وأعقد قضاياه ببساطة شديدة.
كذلك كيف تُوَاتِى هذا الأجربَ المصنّن الذى لا تسمح له مهرة بأن يصافحها، وكل ما يفعله عندها هو أن يقف ذليلا على باب الشقة حتى تعطيه المبلغ ويوقع لها على إيصال، كيف تواتيه نفسه على أخذ شريط جنسى من زميله واثقا تمام الثقة أنه سوف يشاهده عند مهرة بما يعنيه هذا من أنه سوف يدخل الشقة ويمكث هناك ثلاث ساعات هى مدة عرض الشريط طبقا لما قال هو لا أنا والله العظيم، وكأنها شقته التى ورثها عن أمه وأبيه؟ ليس هذا فقط، بل إنها عندما تسأله عن طبيعة الشريط، الذى سلمه إياها قائلا إنه سوف يأتى فى اليوم التالى لمشاهدته (طبعا: إِيزِى مِيزِى يا جدع!) يجيب بكل بساطة أنه شريط جنسى. آسف، بل قال: "فِلْم سِكْس" ناطقا كلمة "سكس" بالإنجليزية كما وضح لنا سيادته، خيبة الله على سيادته، ولعن الله سيادته، وأرانا الله عجائب قدرته فى سيادته. يا له من معتوه! ترى كيف تصور هذا الغبى الأحمق أن السيدة المتشددة كل ذلك التشدد الذى رأيناه منها فى الرواية، ورآه هو قبلنا بزمن طويل، أى قبل أن يسخّم الكاتب أوراقه بهذا القىء، ستقبل منه، وهى المسلمة، وهو النصرانى، فضلا عما يفصلهما من اعتبارات اجتماعية هائلة تقاس بالسنين الضوئية، تلك الوقاحة ولا تضربه بـ"أبو وردة" كما كان زميل لى يسمى الشبشب؟ لقد كان الولد الأجرب يخرس فى كل مرة تقبض مهرة يدها عنه فلا تصافحه، فمن أين جاءته كل هذه الجراءة؟ لكنْ مرة أخرى أقول إن العيب ليس عيبه، بل عيب من وزّه على ذلك لإهانة المسلمين. ولسوف يأتى اليوم الذى يعرف فيه كل من انحاز ضد الإسلام والمسلمين قيمته الحقيقية ويندم على ما جنت يداه فى حقهما ساعة لا يصلح الندم!
بل كيف يذهب أصلا لإكرامى، وإكرامى طالب مسلم أسرته غنية تعيش فى شقة من دورين فى عباس العقاد، بينما هو شاب فقير فقرا مدقعا ويلبس ملابس عليها آثار الترقيع، وذلك لأخذ الشريط الإباحى منه؟ بالله منذ متى يفكر مثله فى الجنس على هذا النحو؟ لا تقل لى إنه شاب، فشعوره الحاد بالشهوة وانشغاله بالنساء أمر طبيعى، إذ كان ينبغى أن يبرز الكاتب ذلك قبلا ويريناه من خلال بعض المواقف التى تبين أنه ملتهب الشهوة لا يصبر على نارها الموقدة فى جسده. لكنه بالعكس قد صوره ولدا خامدا كل همه أن يستذكر مبكرا وينام مبكرا ويهرب من الدَّيّانة جيدا، ويبتعد عن الناس بكل ما يستطيع من عزيمه، ولا يغسل يديه قبل الأكل ولا بعده ولا فى أى و قت، ومن هنا أتت رائحته المنتنة، ثم على عكس كل التوقعات المنتظرة نُباغَت به يفعل ما قلناه دون مقدمات أو تمهيدات.
ولدينا أيضا مهرة، التى من المفترض أنها تابت وأنابت وتركت الجمل بما حمل وغادرت مسارح الشهرة سواء فى التمثيل أو فى التلفاز رغم كل المغريات ورغم جمالها الذى كان يجعل منها مركز الأضواء والاهتمام فى أى مكان تحل فيه. ومع ذلك كله نراها، حين تتحدث عن توابع هذه التوبة، تسخر من الجماعات والشخصيات الإسلامية، التى تابت عن طريقها أو بتشجيعٍ أو تزيينٍ منها. بل إنها لتسخر من الحجاب وتصفه بأنه يلفها كالكفن. ثم إنها، حين شرعت تتذكر وقائع تحول حياتها نحو التدين، قالت: "لا أستطيع الإمساك باللحظة التى بدأت فيها الكارثة، وأطلَّت المصيبة" (ص97). وعندما سردت الوقائع لم تسرد إلا كل ما يثير الاشمئزاز والسخرية من الرجال الذين يمثلون التدين، والذين يمر موكب المهتدين من أمثالها بهم. تستوى فى ذلك ملابسهم وأشكالهم وملامحهم وأذواقهم وأخلاقهم. فكيف يكون هذا وذاك؟
كذلك ما دامت مهرة قد تابت وأنابت وطلقت بالثلاثة (أو بالأحرى: خَلَعَتْ) حياتها الماضية المنفلتة العيار فلم إذن ظلت تحتفظ بالجوزة وزجاجات البيرة فى شقتها؟ أتراها كانت تنوى أن تبيعها لتاجر الروبابيكيا لقاء بعض قروش تساعدها على صعوبة الحياة لأنها بعد التوبة والصلاح قد أصبحت فقيرة مسكينة (يا كبدى عليها!) تجوز عليها الحسنة؟ أيضا لماذا تحتفظ بحق السماء بصور نساء عاريات تماما فى غرفة نومها بعد التوبة والإنابة وتبدى ابتهاجها بالنظر إليها؟ ثم كيف يخطر أصلا لامرأة مثلها متنطسة التدين إمكان تقديم الويسكى كواجب ضيافة للولد حين جاءها قبل المرة الأخيرة لتسلم المبلغ؟ هل يقدم النصارى أنفسهم الويسكى عادة فى مثل تلك الظروف؟ لا شك أن الكاتب هو المسؤول عن هذا السخف المتنطع بما يترتب عليه من اضطراب فى رسم الشخصية.
بل إنها، بعد التوبة والإنابة، لتظل تتذكر بفخرٍ وفرحٍ كيف كانت تقضى الليالى فى الفراش مع زوجها السابق يمارسان الزنا بعد طلاقها منه، وكيف كانت تسمى هذا البغل الأسترالى بـ"الطلوقة"، أى الثور الذى يخصصه صاحبه للقفز على الجواميس والأبقار، وكيف كان "يطبق فيها" بنص عبارتها، وكيف كان يشير إلى اسمها: "مهرة" بوصفها دَابَّةً تُرْكَب. تتذكر كل هذا وكأنها قحبة محترفة! ترى كيف يكون ذلك، والمفترض أنها قد تابت وأنابت وصارت متدينة متشددة فى التدين؟ الغريب أنها لم تتذكر أى شىء مما كان يقع بينها وبينه فى الفراش أيام كان لا يزال زوجها. فكيف تتذكر الزنا ولا تتذكر الحلال؟ ومن ذلك أيضا سردها لنا كيف كان مصطفى نور الدين يصر، وأذان الفجر ينطلق من مكبرات الصوت المختلفة، على أن تنزل معه من شقته إلى شقتها هى ليكملا هناك ممارسة الجنس. وخذ بالك جيدا أيها القارئ من دلالة حرص الكاتب على توقيت مثل تلك الواقعة بأذان الفجر!
وأسوأ من ذلك وأضلّ سبيلا زعمها أنها، وهى واقفة على باب شقة زوجها السابق تنتظر أن يفتح لها حين ذهبت إليه فى آخر الرواية أملا فى أن تستدين منه ثلاثمائة جنيه لتعطيها الولد النصرانى، قد جال فى خاطرها أنه ربما يمارس الجنس مع امرأة بالداخل، ثم عقبت بأنها قد احمرّ وجهها من الخجل (ولا أدرى كيف عرفت أنه احمرَّ أو اصفرَّ أو ازرقَّ، وهى لم تكن تنظر إلى نفسها فى المرآة بل كانت ملطوعة على الباب، وفى الظلام بالمناسبة)، ثم تتساءل: "هل أصبحتُ مراهقة أفكر فى هذه الأمور أكثر مما ينبغى وأُقْحِمها فى جميع الخيالات؟". لا طبعا، فأنت سيدة كاملة مكمَّلة، ولا تخطر مثل تلك الخيالات على بالك إلا ألف مرة فقط فى اليوم والليلة! ووجه السوء فى ذلك أنها، كما رأينا، لا تجد أدنى حرج ولا يحمر وحهها أبدا وهى تستعيد ذكريات زناها مع نفس الرجل، موردةً كلمات تبعث على الخجل الشديد. فكيف بالله يستوى هذا وذاك؟ لا شك أن هذا اضطراب شنيع فى رسم الشخصية.
وفى حديثها عن بداية تعارفها هى وزوجها تقول إن عينيه، حين التقت بعينيها ذات مساء فى أحد الأماكن العامة، قد اصطادتهما اصطيادا، واستولت على فؤادها، ولم تستطع أن تخرجه من ذهنها أبدا لدرجة أن غيابه كان يثير قلقها. ثم إنها تقول بعد ذلك مباشرة إنها، حين اتصل بها وعرّفها أنه صاحب تلك النظرات الصامتة، استراحت إلى صوته (ماشِ رغم أن لفظة "الاستراحة" لا تكفى فى وصف مشاعرها نحوه طبقا لما قالته هى عن تلك المشاعر كما رأينا لتونا)، وإنها دخلت اللعبة معه من باب العبث. أى عبث يا هانم؟ لقد قلت إنه استولى عليك حتى إنك لم تستطيعى أن تخرجيه من عقلك ولا بالطبل البلدى، والآن تقولين: عبث؟ ومرة أخرى ليس ذلك فقط، إذ إنها فى تذكرها لعلاقاتها مع الجنس الآخر قبل الزواج قد اقتصر حديثها اقتصارا على بعض العلاقات العاطفية العارضة التى لم تتعدّ الحب من طرفها هى. وكان أقصى ما ذكرته فى هذا الباب تبادل الهمسات واللمسات، وكان الله يحب المحسنين. أى أنها، لا سمح الله، لم تقارف الفاحشة. وهذا واضح من حديثها عن تلك الفترة من حياتها وضوحا لا يقبل نقضا ولا إبراما، وبخاصة تأكيدها أنها، عندما اشتغلت بالفن، كانت تريد أن تكون فنانة وكفى، فلا تعرف أحدا من رجال الأعمال أو السياسة أو تجار المخدرات. لكنها فى موضع آخر من الرواية تذكر أنها كانت تمارس الزنا قبل الزواج بكل حرية ودون أدنى خالجة من ندم، وأن من الذين زنت معهم مصطفى نور الدين، الذى صار زوجها فطليقها فعشيقها فيما بعد. ومرة أخرى كيف يتسق هذا وذاك؟ فهذا اضطراب آخر فى رسم شخصيتها يُسْأَل عنه الكاتب الغشيم!
ولدينا أيضا مصطفى نور الدين، الذى تتحدث عنه مهرة زوجته وعشيقته السابقة فلا تذكر إلا كل ما يثبت أنه رجل اجتماعى: فهو، حين أراد خطبتها، كان يتبعها من مكان عام إلى مكان عام، وهو صياد ماهر استطاع أن يرمى شباكه حولها حتى اقتنصها وتزوجها، وأنه عند دخوله بلدته فى الصعيد قد دخلها دخول الفاتحين. كما كان معجبا بنفسه إلى درجة أنه كان مثارا للتعليقات، وكان متفائلا أبدا... إلخ (ص91- 94). لكننا نفاجأ بها تقول فى موضع آخر من الرواية إنها اجتماعية، أما هو فـ"بِرَّاوِى" ينفر من مخالطة الناس، ويؤثر الاختلاء بنفسه أطول وقت ممكن، ويحب البقاء فى البيت على النقيض منها، إذ كانت ترى أن البيت لا يصلح إلا للنوم وإعداد الطعام وغسل الملابس ثم التهيؤ للخروج مع امرأة جميلة (ص163- 164). تقصد نفسها وعشقها للحفلات. وتناقض آخر فى شخصية مصطفى هو أنه كان يضع على جدار البهو فى شقته بعد تحوله إلى الدين وإطلاقه لحيته عينا فرعونية. فهل يمكن أن يعلق متشدد فى الدين عينا فرعونية وثنية فى شقته؟ ثم هل يعقل أن زوجا وعشيقا سابقا، ودعنا من أنه صار متدينا يحب التقرب إلى الله بعمل الخير، يخيب ظن زوجته وعشيقته السابقة وزميلته حاليا فى التدين المتشدد، فلا يقرضها، ودعك من أن يهبها، ثلاثمائة الجنيه التى أتت بعد وقت طويل لم ير فيه أحدهما الآخر تلتمسها عنده، حتى لو كلفه ذلك أن يعيش طول الشهر جائعا، و هو بكل تأكيد لن يجوع لأن أهله على الأقل كانوا يسندونه ماليا كما قالت مهرة من قبل؟ وأمعن فى السخف أن يقول لها إن من الممكن أن يكون الذين يعطونها المبلغ الشهرى يفعلون ذلك من أجل توريطها فى الأعمال الإرهابية. ذلك أنه ضابط، والضابط لا يخطر له هذا التفسير العبيط ككل شىء فى الرواية.
وبالنسبة إلى مرام أم ماجد نراها مثلا تقول إن ابنها سوف يجد مشكلة لدن عودته من الخارج إلى اللوكاندة بسبب تراكم الإيجار، الذى لم يدفعاه لصاحب اللوكاندة منذ ستة شهور، ثم تقول عقب ذلك إن هذا التأخر الطويل فى الدفع هو نفسه ضمان وأى ضمان لعدم طرده لهما من اللوكاندة. إذن ما دام الأمر محلولا بهذه الطريقة السهلة فلم تَقْلَقين وتُقْلِقيننا معك من البداية؟ على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل تمضى فتقول إن الولد قد استطاع أن يتسحب بجوار الحائط فلم يره موظفو الاستقبال، ومن ثم مر الأمر على خير إذ لم تكن هناك فرصة لأن يطالبوه بدفع الإيجارات المتأخرة. تقول لنا هذا الكلام الأبله، وكأن ابنها لن يخرج غدا وبعد غد وكل يوم بعد ذلك معرضا نفسه فى كل مرة لنفس الموقف التى تصوِّره لنا مرة صعبا غاية الصعوبة، ومرة سهلا غاية السهولة كما شاهدنا، بل كأن موظفى الاستقبال يمكن ألا يَرَوْه وهو داخل، وهذا مستحيل، إذ هو نفسه قد وصفهم بأن كلا منهم يحتل نقطة فى طريقه من باب اللوكاندة إلى الغرفة مشكلين بذلك طابورا، أو كأنهم لا يعرفون كيف يصلون إلى الغرفة ليطالبوه هو وأمه بما يريدون أن يطالبوهما به. وهذا كله خبص ولبص يدل على أن الكاتب لا يحسن رسم الشخصية، بل يقول أى كلام، والسلام.
ولو قُدِّر للقارئ أن يقرأ كلام المؤلف عن تمنى ماجد انقطاع النور عن اللوكاندة حتى يستطيع التسلل إلى الغرفة لتقايأ من الثرثرة والسماجة اللتين يبدو أن نصيب فن الكاتب منهما هائل يكفى بلدا كمصر ويفيض منها للتصدير إلى بقية أرجاء العالم العربى. يا ألله على ثقل الظل ووخامة النفس! عشرون سطرا أنفقها القعيد على تتبع دبيب هذه الأمنية فى خاطر أبى الأمجاد وتلونها حالا بعد حال (ص104- 105). والمصيبة أن ماجد ليس هو الذى يحكى خواطره هذه بل أمه، ولا أظنه قد روى لها كل هذا بالتفصيل والثرثرة المسئمة اللذين لا يحتملهما أى إنسان عنده شغلة تشغله، كما لا أظنها تهتم بإيراد ما رواه لها بهذا التفصيل وتلك الثرثرة. ألا خيبة الله على الغشم الفاشلين!
كما تظهر بلاهة مرام، التى يُسْاَل عنها الكاتب الفاشل فى رسم شخصية واحدة مقنعة، فى وصفها لمهرة بأنها نداهة ندهت عبود زوجها فلم يعد منذ اللحظة التى ندهته فيها، واصفة إياها بأنها خليلته. الواقع أنْ لو كان الكاتب موهوبا ولو عُشْرَ موهبة لما جعلها تقول ما قالته عن مهرة. ذلك أن مهرة موجودة فى القاهرة، وابنها يذهب إليها فى كل شهر ليتسلم منها المبلغ، وفوق ذلك ترسل إليها مع ابنها كل مرة بسلامها وتحياتها، فكيف تكون قد أغوته وأخذته منها حتى لكأنها "ضرة" لها كما قالت؟ وتمضى هذه الملتاثة، وإن كان المؤلف، إن سميناه: "مؤلفا" من باب التجاوز، هو المسؤول عن ذلك، فتقول إن مهرة قد تكون على علم بعنوان عبود ورقم هاتفه فى الغربة وعلى اتصال به، وقد تسافر إليه يوما فتتزوجه بعد أن يغير دينه ويدخل الإسلام. طيب إذا كان الأمر كذلك فلم صَدَّعْتِنا قبل ذلك يا امرأة بقصة التهديدات التى طالما تلقاها زوجك والولاية التى رفض مرؤوسوه المسلمون أن تكون له عليهم والهجرة إلى الخارج وترتيباتها السرية، وكأنها أسرار القنبلة النووية؟ أذنك من أين يا جحا؟ ألم يكن أحرى به أن يعتنق الإسلام من البداية ويتزوج تلك السنيورة التى تشبه "لهطة القشدة" بدلا من أن يضع بُوزَه طول النهار فى وجه "بُوز الإِخْص" هذه، ويضمن فوق ذلك، وما ذلك بالقليل، ألا يتمرد عليه مرؤوسوه المسلمون الإرهابيون السفاحون بسبب رغبته، حتى لو لم تقتصر على تولى الإمامة الصغرى: منصب مدير الشركة، بل تمتد إلى منصب الإمامة العظمى ذاتها: الخلافة، فيتولاها بالهناء والشفاء، وبكل الاحترام والإكرام، وننشد له حينئذ:
أتته الخلافة منقادةً * إليه تجرِّر أذيالَها
فلم تَكُ تصلح إلا له * ولم يَكُ يصلح إلا لها
ويُطْلَق عليه لقب "المتحول إلى دين الله"، على غرار "المعتضد بالله" و"المتوكل على الله" و"المعز لدين الله" و"الحاكم بأمر الله"، وكله لله فى لله، وأخرج أنا والقراء من المولد بلا حمص، وأمرنا إلى الله؟
ومن الاضطراب فى رسم الشخصية كذلك عند القعيد ما يوحى به المشهد الذى جرى فى اللوكاندة حين كانت مرام تتمشى فى بهوها على مرأى من أحد عمالها ونزيل من النزلاء، إذ تكلما بصوت سَمِعَتْه عَرَضًا عن مدى صلاحيتها لقضاء وَطَر الرجال، فقال العامل إنها أرض لم تُرْوَ، ومهرة لم تُرْكَب. فقال له النزيل: لكن لها ابنا. فرد العامل بأنها منذ عشرين عاما لم تستحم. يقصد أنها لم تمارس الجماع كما وضح القعيد على لسان النزيل. وكلام العامل يوحى بأنها تُشْتَهَى، وهذا غير صحيح، فقد وصفت هى نفسها شكلها وجسدها وملابسها وصفا منفرا، وقالت إن لها شاربا، وإن من المكن إجراء عملية جراحية لها تتحول بعدها إلى رجل (ص107- 108، 132- 133).
* * *
ونتحول الآن إلى لغة الرواية، التى يقول عنها الناقد المنتهك: "وبقدر ما يجترح القعيد شيئا من الانتهاكات اللغوية المحببة يقترب من روح العامية المصرية في أطرف تجلياتها"، وهو ما يعطينا فرصة للكلام عن لغة الرواية لا يصح أن نضيعها. والحق أنى لا أدرى عَمَّ يتحدث ناقدنا الانتهاكى حينما يشير إلى الانتهاكات اللغوية المحببة التى يجترحها القعيد بما يدل على أن القعيد يتقن لغة الكتابة إلى الدرجة التى يقصد قصدا إلى الانتهاكات اللغوية، فضلا عن أن تكون انتهاكات لغوية محببة. أذكر أننى قرأت له منذ زمن غير قريب رواية "أخبار عزبة المنيسى"، وكانت مفعمة بالأخطاء النحوية، وهو ما يشهد على تدنى مقدرته اللغوية، هذا التدنى الذى لا يزال ساطع الحضور فى أى شىء يكتبه القعيد ولا يخضع للتصحيح اللغوى. بل إنه لا يحسن استعمال علامات الترقيم حتى الأساسى منها.
ورغم أن الرواية الحالية قد خضعت للتدقيق اللغوى من جانب المراجعين المختصين بدلائل لا تخطئها العين فإنها لا تزال تعجّ بعديد من الأخطاء المخزية. مثال ذلك كلمة "سوى"، التى يستخدمها كما لو كانت حرفا، فنراه يدخلها كثيرا على أشباه الجمل كما فى قوله مثلا: "لم يشعر سوى بالبراح" بدلا من أن يقول: "لم يشعر إلا بالبراح"، إذ إن "سوى" اسم لا حرف، وتضاف إلى ما بعدها، ومعروف أن المضاف يكون اسما لا شبه جملة. أما إذا أراد الكاتب أن يبقى على شبه الجملة فى تلك الحالة فليس أمامه سوى استعمال "إلا" عوضا عنها. لكن هذا، فيما هو واضح، مما يعلو على أفهام القعيد ومدققه اللغوى فوق البيعة، ومن ثم نرى ذلك الخطأ قد تكرر كثيرا جدا فى الرواية رغم أن المسألة من أوليات النحو العربى.
ومن الأخطاء التى لم تنجح تدقيقات المصحح اللغوى فى إخفائها كلمة "غذاء" لوجبة الظهيرة (ص36)، وصوابها "غَدَاء" بالدال وفتح الغين. ومنها "لم نعد نره" (ص128)، وصحتها: "لم نعد نراه" (أو إن أردنا الانصياع إلى ما يقوله المتشددون اللغويون: "عدنا لا نراه")، إذ لم يسبق الفعلَ: "نرى" ما يستدعى حذف حرف العلة فى آخره لأنه غير مجزوم. وهناك كلمة "مَصْيدة" بفتح الميم كما هى مشكَّلة فى النص، وصوابها كما يعرفها كل تلميذ درس أسماء الآلة: "مِصْيَدة" بكسرها. وخطأ آخر هو قول القعيد: "مَعْفِىّ"، ولست أعرف من أى واد من أودوية الجهل أتى بهذه المصيبة. ذلك أن الفعل هو "أعفى (فلانٌ فلانًا من العقوبة") لا "عفاه"، فاسم المفعول منه إذن هو "مُعْفًى". بل إن اسم المفعول من الفعل: "عفا عنه" هو "مَعْفُوّ عنه" لا "مَعْفِىّ". وإنى لأتساءل: إذا كانت هذه هى نوعية الأخطاء التى تعانى منها الرواية رغم خضوعها للتصحيح اللغوى، فماذا كانت حالها تكون لو لم يصححها المصححون؟ أليست هذه كارثة؟ كذلك تنتشر فى الرواية انتشار الجرب فى الجلد تركيب "مع بعضنا، فى مواجهة بعضنا، نتصل ببعضنا، نرى بعضنا، أفرك يدىّ ببعضهما..." بدلا من أن يقول: "بعضنا مع بعض، بعضنا فى مواجهة بعض، يتصل بعضنا ببعض، يرى بعضنا بعضا، أفرك كلتا يدىّ بالأخرى..." كما ينبغى أن يكون تركيب الكلام بدلا من هذا الاستعمال العامى الذى يدل على جهل باللغة لا يليق بمن يريد من الناس التصديق بأنه كاتب يحسن استمعال لغة ثقافته. وقريب من ذلك قوله: "يجعلنا فى أبعد مسافة عن الآخر" (ص47) عوضا عن "يجعل كلينا فى أبعد مسافة عن الآخر" مثلا.
وفى ص124 نجد الفعل "عَمَّرَ" مضبوطا على هذا النحو بمعنى "طال عمره" فى العبارة التالية: "عَمَّرْنا ألف سنة". وهو خطأ صوابه: "عُمِّرْنا" لأن الله هو الذى يُعَمِّرنا، أى يطيل عمرنا. ومن أخطائه، أو قل: "انتهاكاته"، المضحكة قوله: "درْس العقل" (ص147) بالدال كأى عامى مسكين لا يعرف الألف من كوز الذرة. ومن هذه الانتهاكات أيضا قوله: "اختارى مشروعا يناسب هواياتك تكونى قادرة على إدارته" بدلا من "تكونين" بثبوت النون فى آخر الفعل المضارع لكونه مرفوعا لا منصوبا ولا مجزوما. ولأن القعيد منتهك قرارىّ نراه، رغم التدقيق اللغوى، يقول على لسان مهرة فى حديثها عن زوجها السابق وعشيقها اللاحق مصطفى نور الدين: "ألم أجرى أمامه...؟" بإثبات الياء فى آخر الفعل المضارع رغم انجزامه.
ومن انتهاكات الكاتب كذلك، ربنا يحرسه ويحميه من العين، استخدامة كلمة "بَلْوَة" بدلا من "بلوى" مرتين فى جملة واحدة (ص188). فهكذا يكون "الانتهاك"، وإلا فلا. وإياك أن تقول إن هذا جهل، والعياذ بالله، فمثل القعيد، ببركة النقاد الانتهاكيين، ينتهكون ولا يخطئون. شىء لله يا سيدى يا منتهك! ومن انتهاكاته أيضا قوله على لسان "مهرة": "نظرت من العين السحرية، وبرغم كثافة الظلام أمام باب الشقة وتداخله مع بقايا الأضواء الخافتة القادمة من أبواب شقق الآخرين فما رأيته لم يخرج عن كتلة كثيفة من الملابس لا تفصح عن ملامح القادم أو القادمة" (ص199). فانظر، يا قارئى الكريم، كيف يكسر هذا المنتهك قوانين اللغة فيستخدم كلمة "رغم"، التى تدل على التناقض، محلّ كلمة "بسبب"، التى تدل على العِلِّية! لقد كان ينبغى أن يقول منتهكنا العبقرى: "وبسبب كثافة الظلام... إلخ". ذلك أن كثافة الظلام هى السبب فى أن مهرة لم تميز ملامح الطارق لا أنها لم تميز تلك الملامح رغم كثافة الظلام. ومع وضوح هذا للعيان فإن منتهكنا لعجزه لا يستطيع أن يراه. ومتى كان العاجزون هواة الانتهاك يَرَوْن الصواب؟
ونستمر مع الانتهاكات فنقرأ: "قالت إنها كانت تردد أبيات من شعر صلاح عبد الصبور أمير الشعراء المصريين والعرب فى النصف الثانى من القرن العشرين" (ص220) رافعة (أو خافضة) كلمة "أبيات" بدلا من نصبها بالفتحة مع التنوين الذى تُكْتَب بعده ألف: فأما سيدنا المنهتك، حماه الله وأبقاه منتهكا لا يعرف شيئا من النحو والصرف العربى أبدا، فقد كتبها هكذا والسلام لأن معرفته بقواعد العربية هى كمعرفتى بقواعد لغة الإسبرانتو بالضبط، التى عندى كتاب خاص بها وفكرت فى تعلمها حين كنت شابا إخال أننى قادر على كل شىء، فشرعت أتعلم الألمانية ومضيت فيها شوطا جيدا حتى لقد كنت أقرأ ترجمات القرآن بها وأفهمها، وكنت قبلئذ قد بدأت تعلُّم الفارسية على يد نفسى وبلغت المرحلة التى استطعت عندها أن أتحدث بها، ولكن ببطء، ثم أنسانى الشيطان الرجيم هذا كله عند سفرى معارا إلى السعودية فى بداية تسعينات القرن البائد، إذ اشتغلت بجمع المال وتكديسه فى قفف وزكائب عن مواصلة الطريق، وكذلك عن التفكير فى تعلم الإسبرانتو. يا خسارة! هذا عن سيدنا المنتهك، وأما المدقق اللغوى الذى صحح له أخطاءه الكثيرة المتلتلة فى الرواية فأغلب الظن أنه حسبها جمع مؤنث سالما فنصبها بالكسر. وهناك انتهاك آخر فى قول "مهرة" عن صلاح عبد الصبور إنه أمير الشعراء فى النصف الثانى من القرن العشرين. ومهرة، فى الحقيقة، لا علاقة لها بالأمر من قريب أو من بعيد، فممثلةٌ مغناجٌ وفلاتيةٌ مثلها لا يمكن أن تكون لها أية صلة بشعر أو بنثر، بل الكاتب هو الذى سرَّب ذلك على لسانها، يريد أن يشير من طَرْفٍ خفىٍّ أنه يتذوق الشعر رغم أنه لا يتذوق منه شيئا. لقد استشهد ذات مرة ببيت شعرى لأمير الشعراء الحقيقى ففضح نفسه، إذ رواه على النحو التالى الذى لو كان أحمد شوقى حيا للطم وصرخ بسببه من عبقرية روائينا الانتهاكى الذى يعجز عن النطق السليم لبيت من الشعر لا يخطئ فيه العامى الذى لا يكتب ولا يقرأ وليس منتهكا. قال لا فُضَّ فوه:
قم للمعلم وأوفه التبجيـــــلا * كاد المعلم أن يكون رســــــولا
والحمد لله أن اكتفى بتدشين عبد الصبور أميرا للشعراء العرب فى النصف الثانى من القرن العشرين عن تأميره على الشعر كله فى بلاد العالم أجمع، وعلى مدى العصور كافة، وقليلٌ ما ذلك عليه! وعندئذ يكون عندنا أميران: أمير الشعر الحلمنتيشى، وأمير الانتهاك البطيخى!
أما قوله على لسان ماجد: "استحضار صور الزيارات السابقة وإلصاقها بجوار صور اليوم أرهقاننى" بنونين اثنين لا نون مفردة (ص229) فحكايةٌ وحدها يستحق السيد قعيد أن يدخل موسوعة جينيس بسببها فلا يخرج منها أبدا. وكيف يمكن أن يخرج وهو ذو بدوات وانتهاكات لم يقم بها أحد من قبل ولن يقوم بها أحد من بعد ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك؟ وسبحان المعطى! والحق أنه لو لم يكن له سوى هذا الاستعمال لكفاه للخلود فى دنيا الكتابة واللغات. ومن يعترض على كلامى هذا فليدلنى على كاتب واحد فى أى عصر من عصور الأدب العربى المحترمة أو غير المحترمة قال مثله: "يرهقاننى"! شىء لله يا سِى "نِنِى"!
وخذ عندك أيها القارئ هذه الانتهاكة أيضا، إذ إن مصدر الفعل "لَوَى" عند السيد قعيد هو: "لَوْى" (262) لا "لَىّ". ومع ذلك فحين راجعت نفسى وجدت أن القعيد لا ينبغى أن يلام، فهذا هو مستوى ثقافته وإمكاناته اللغوية. لكن المصيبة كل المصيبة أن هناك نقادا انتهاكيين يثخّنون آذان أمثاله ويفهمونهم أنهم عباقرة. لكن بالله كيف يكون عبقريا من لا يعرف أن "إنّ" تنصب الاسم فيقول: "إن المهندسون يرسمون" (ص263)؟ والحمد لله أنه لم يقل: "إن المهندسون يرسمونون" مثلما قال: "أرهقاننى"! بل قد يكون قالها، لكن المصحح غيرها، وإن كان قد فاته أن يصحح أيضا "المهندسون"، التى لو وُزِّعَتْ جريرتها على أمم الأرض جميعا لعَرَّتها: عَرَّتْها من "العُرْى" ومن "الـمَعَرَّة" معا.
وهناك أيضا العَتَه التعبيرى فى قوله على لسان ماجد إنه نطق كلمة "سِكْس" بالإنجليزية (ص238)! ما كل هذه العبقرية؟ ذلك أننا لم نكن نعرف قبلا أن تلك الكلمة تتغير نطقا من لغة إلى لغة حتى أتانا مؤلفنا الهمام فأفهمنا ما لم نكن نفهمه! ترى هل تنطق الكلمة بالعربية على نحو آخر؟ فكيف ذلك يا ترى؟ إنها فى العربية والعبرية والإيطالية والفارسية والتركية والأوزبكية والأوردية والبنغالية والسواحيلية وسائر لغات العالم هى، والله وتالله وبالله وتَرَبِّ الكعبة وتالرحمن، "سِكْس"! ومثل هذا العته قوله على لسان مهرة، ويبدو أن شخصيات الرواية كلهم يتمتعون بمقدار من العته ضخم والحمد لله: "ارتداء الملابس القديمة يعطى الانطباع بالقِدَم كما لو كانت ملابس مستعملة أو لُبِسَت من قبل" (ص73). أرأيت كيف أن الملابس القديمة تبدو وكأنها لُبِسَتْ من قبل مع أنها لم يسبق أن لُبِسَت من قبل؟ ثم أرأيت كيف يستخدم كاتبنا اللوذعى الحرف: "أو" بين جملة "كأنها ملابس مستعملة" وجملة "لُبِسَتْ من قبل"، وكأن الملابس المستعملة شىء، والملابس التى لُبِسَتْ من قبل شىء آخر؟
فهذه، يا قارئى، هى الانتهاكات التى يشيد بها الناقد الانتهاكى، وهى إشادة مضحكة، إذ متى كان الجهل ميزة خليقة بمدح النقاد؟ لقد كان ينبغى أن ينصح الناقد الانتهاكى الروائى المسكين يوسف القعيد أن يذهب فيحسن لغته أولا قبل أن يتصدى للكتابة، ودعنا الآن من أن الكتابة التى تصدى لها هى رواية تافهة متهافتة كالتى بين أيدينا. عيب أن نَغُرّ الممسكين بالأقلام عن أنفسهم فنلقى فى رُوعهم أن أخطاءهم الفادحة الفاضحة هى علامة على براعة تصرفهم فى اللغة وحسن انتهاكهم لها. إن من ينتهك اللغة هو كمن ينتهك عرض فتاة، لا يصح أبدا الثناء عليه، بل تجب مؤاخذته. والقعيد ليس من الكتاب الذين وصلوا فى إحسان لغتهم إلى المدى الذى يمكنهم أن يتصرفوا فيها، بل هو من أولئك الذين يجب عليهم أن يبدأوا بتعلمها على أصولها، ويعرفوا أن هذا الأمر لا يؤخذ بالنبوت كما يقول الدكاترة زكى مبارك ولا بانتهاج سياسة الغُشْم كما يقول الدكتور الواحد فقط الذى هو العبد لله. وإذا كانت هناك أشياء يمكن أن تُؤْخَذ بالغُشْم كما فى عالم "الفَتْوَنة" مثلا فإن الغُشْم لا يصلح أبدا فى مجال العلم والأدب.
ولعل هذه أن تكون المناسبة الملائمة لتذكُّر ما دار يوما بينى وبين مدرّستى الأمريكية (مسز أَدَامِك) التى كانت تعلمنى الإنجليزية فى أوكسفورد أول وصولى إليها، إذ أحيانا ما كنت ألجأ إلى بعض الاستعمالات اللغوية الغريبة التى تعلن عدم رضاها عنها، فأسألها ضاحكا: ولم لا يكون هذا استعمالا جديدا فى لغتكم؟ فتجيبنى بأن هذا إنما يصلح لو كنت د. هـ. لورانس مثلا. فأعقب أنا على ذلك ضاحكا مرة أخرى: هَبِينى د. هـ. لورانس إذن، واقبلى منى هذا التعبير. فتضحك أخيرا من دعابتى بعدما كانت فى البداية تقابل ما أقوله بالدهشة والإنكار، ولها كل الحق طبعا فى ذلك. لكن لا بد أن أقول للقارئ إننى لم أصل أوانئذ فى تهورى وسخفى فى الكتابة بالإنجليزية، التى كنت وقتها مبتدئا فيها لأن لغتى الأجنبية الأولى كانت الفرنسية، أقول: لم أصل إلى الحد الذى وصل إليه يوسف القعيد فى العربية، ذلك الذى بلغ فى انتهاكاته العبقرية أن يقول: "كلما اشتدت المحنة كلما كان ذلك إيذانا بانفراج الأزمة" بتكرير "كلما" الشرطية غير دار أن هذا لا يجوز، إذ متى صح أن نقول مثلا: "مهما تفعل مهما لا أصدقك" أو "متى تجلس متى أجلس" أو "إنْ تبتسم إنْ أَرْضَ عنك" حتى يصح أن نقول أيضا: "كلما كان كَيْت كلما كان ذَيْت"؟
ومن الفقر اللغوى المخجل أيضا قول الكاتب عن رائحة فواحة لا يمكن إلا أن يشمها كل أحد: "يشمّها الأبكم" (ص15)، وكأن الأبكم يشم بفمه، فالبَكَم عيب فى الفم لا فى الأنف كما يعرف ذلك كل الناس إلا سيدنا المنتهك. أم ترى أحدا منكم، أيها القراء الكرام، رأى شخصا يستعمل فمه يوما من الأيام فى شم الروائح؟ فلماذا خلق الله له أنفا إذن؟ إياكم أن تقولوا إنه خلقه ليسمع به، وأذنيه ليأكل بهما... وهلم جرا! وبسبب من هذا الفقر اللغوى كذلك يقول انتهاكينا عن قطعة البلاستيك الخاصة بزر جرس الشقة: "لاحظتُ مساحة من البلاستيك..." (ص20). وبسبب من هذا الفقر اللغوى نفسه ترى القعيد يصف شارع عباس العقاد فيقول إنه كان تحت البيت بصورة عمودية (ص34). أرأيتم إلى هذه البلاهة اللغوية؟ هل هناك شارع فى القاهرة أو فى مصر كلها أو فى أى مكان آخر فى العالم يكون فوق البيت لا تحته، أو يكون تحته ولكن بصورة غير عمودية؟ أرجو تحويل هذه القضية الملحة للمفتى بسرعة ليقول لنا رأيه فيها لأن "ما لا أريد ذكرها صراحةً" سوف تنفقع. كذلك تكرر استعمال كلمة "شُرُط" فى الرواية جمعا لـ"شريط" كما فى "شُرُط الفيديو" مثلا. ولا أظن أبدا أن ذلك المنتهك يمكنه أن يفكر فى هذه الصيغة الجمعية، فهى أكبر من مستواه الثقافى اللغوى، وقد تكون من بُنَيّات المدقق، الذى لا أدرى لم ترك صيغة "أشرطة" الأكثر شيوعا، والتى نستخدمها جميعا، فى الوقت الذى لا نستخدم فيه كلمة "شُرُط"، وإن كنت لا أستطيع أبدا القول مع هذا بأنها استعمال خاطئ، بل كل ما أقول هو أنها صيغة لا أذكر أننى قابلتها فى قراءاتى أو أستعملها فى كتاباتى رغم صحتها. أما إذا فاته لأمر أو لآخر أن يستخدم صيغة "أشرطة" لقد كان يمكنه الاستعاضة عنها بكلمة "شرائط"، وهى مشهورة أيضا.
وأنا، برغم ذلك كله، أتوقع أن يقيم النقاد الانتهاكيون للسيد القعيد، عقب وفاته بعد عمر مديد يُكَاد به العُذّال من أمثالى، ضريحا يسمونه: "مقام سيدى المنتهك" يقصده الناس المغرمون بالانتهاك من كل حَدَبِ وصوب، وفى أيديهم الشموع يشعلونها كرامة له ونكاية فى اللغة وفى الأدب وفى الفن على السواء. وأَعِدُ من الآن أن أشعل أنا أيضا شمعة لا من باب الكرامة له بل لإحراق المقام كله جَرّاء كراهيتى للأولياء المنتهكين، الذين أرى أن يعاقَبوا على هذا الانتهاك لا أن يُكَرَّموا. ولَخَيْرٌ للثقافة أن نشعل النار فى أضرحتهم فنريح ونستريح من هذا الهلس والخبص من أن نشعل لهم شموعا، وهم قد عاشوا طوال حياتهم خارجين على قوانين اللغة والأدب. إلا أن هناك خطرا سوف ينشأ من إشعال النار فى مقام سيدنا المنتهك، ألا وهى اتهامنا بالإرهاب الدينى، وولولة الشيخ فلان والشيخ علان على إحراق الأضرحة رغم أنه "حتة" ضريح واحد لا راح ولا جاء. نعم سوف يولولان ويلطمان ويشقان الجبب ويرميان بالعمائم على الأرض، فى الوقت الذى يتم حرق الدين كله على مرأى ومسمع منهما دون أن يفتح الله عليهما بكلمة استنكار. ولا تَنْسَوْا أن الشيخين "المفضولين" ظلا إلى آخر نفس فى عمر نظام المخلوع يؤيدانه ويهيجان الجماهير على الثورة والثوار، لينقلبا عقب الإطاحة به ثوارا "آخر ألاجة" دون أن يطرف لهما جفن ودون أن يظهر على خدودهما شىء من حمرة الخجل. أدال الله منهما، وأرانا فيهما يوما قريبا تتخلص فيه مصر منهما ومن أشباههما.
* * *
وبهذا نكون قد بيَّنّا أن "قسمة الغرباء" مضطربة تماما فى رسم الشخصيات، متناقضة فى رواية الأحداث، وتعج بالأخطاء اللغوية، فضلا عن حملتها السمجة المجرمة على المسلمين ودينهم. أما من ناحية البناء فثم عدد من العوامل أَوْهَتْه وصَيَّرَتْه بناء مزعزعا يوشك أن ينقضّ وينهار. لكن قبل أن أذكر رأيى أوثر أن أسوق رأى ناقدنا الانتهاكى أولا. قال: "تصبّ الفصول الأخيرة للرواية في مغامرة طائشة محسوبة تغوي فيها مهرة الصبي المراهق ماجد لتلهيه عن تقاضي حقه، منتهزة فرصة استعارته لأحد الأفلام الإباحية كي يراها عندها، فتعود إليها طبيعة الأنثى المولعة بفتنة العشاق وتمزيق أقنعة الطهارة المصطنعة، وتضحي حُمَّى الجنس اللاهبة نقطة الختام في رواية تفجر أسئلة المستقبل وهي تحفر في ألغام الحاضر". وواضح أن الناقد المنتهك يرجع ما صنعته مهرة مع ماجد فى الليلة الأخيرة إلى رغبتها فى إلهائه عن مطالبته بالمبلغ الشهرى الذى كانت قد أنفقته كما شرحنا من قبل. فهل هذه نهاية مقبولة فنيا؟ طيب فلنفترض أن هذه رغبة مهرة، فهل ستسكت مرام؟ وهل سيسكت الجوع والعرى والخشية من طرد صاحب اللوكاندة لها هى وابنها إلى الشارع حيث البرد والبكاء وصرير الأسنان فلا يزعجهما ويدفعهما دفعا إلى تقاضى حقهما لدى مهرة؟ بل ليكن أن ماجد كلما جاء يطالبها بالمبلغ المتأخر أسلمته جسدها يفعل به ما يشاء، فهل يحل هذا المشكلة؟ إن المشكلة تكمن، حسب الرواية، فى أن الولد وأمه فقيران فقرا مدقعا، وليس لهما إلا هذا المبلغ من المال ليعيشا منه. فكيف يمكن أن يستمرا على قيد الحياة مجرد استمرار إذا نجحت مهرة فى خطتها التى نفترض مع المؤلف والناقد أنها صحيحة؟ الواقع أن نهاية الرواية يشوبها اللامنطق واللاواقعية، وإن كانت تعجب جمهور المناظر الجنسية التى تُسِيل لعاب المراهقين كما تسيل القنابلُ الحارقةُ الدموعَ الآن فى ميدان التحرير.
وقبل هذا وضحنا أن الجنرال عفارم وإكرامى يمثلان زائدتين دوديتين فى الرواية، ولا بد من القيام بعملية جراحية لاستئصالهما تجنبا لمزيد من الإزعاج، لأنه إذا كانت الرواية بهذا الشكل المتهافت فلست أظنها فى هذه الحالة بحاجة إلى مزيد من التهافت. وإلى جانب هذا يحق لنا أن نتساءل: كيف يا ترى عرف عبود بُقْطُر مهرة؟ ليس فى الرواية ما يمكن أن يساعدنا فى هذا السبيل، وليس فى حياة عبود أو مهرة كذلك شىء يأخذ بيدنا إلى الغاية المبتغاة. بل لم يذكر عبود اسم مهرة إلا قبيل الهجرة، وجاء ذكرها عرضا ولا معنى له. ونحن محتاجون إلى أن نعرف هل هناك صلة بينهما أو لا. وإن كانت هناك مثل تلك الصلة فما طبيعتها يا ترى؟ ولا أظنها كانت صلة جنسية، إذ لم يُعْرَف عبود بوسامة أو دونجوانية تفتن قلوب النساء أو بغِنًى يمكنه أن ينافس به الرجال الأثرياء الذين كانوا يترامَوْن عليها ويتمَنَّوْن رضاها كما يُفْهَم من كلام مهرة عن ماضيها اللعوب. ثم إنه كان مهندسا عاديا لم يقل أحد عنه إنه مبتكر فى تخصصه مثلا. ولا ننس أنه نصرانى، ولا أظن مهرة كان ينقصها المسلمون حتى تفكر فى نصرانى تعشقه. قد يقال إنها وقعت فى حبه. لكن أين ذلك الحب؟ ومتى تم؟ وما أسبابه؟ ذلك أنه لا شىء ينبغى أن يقع فى الرواية دون أن يكون هناك ما يستلزم وقوعه. أما أن يكتب الكاتب ما يعن له دون ضابط ولا رابط فالثمرة هى مثل تلك الرواية المفككة المتهافتة. وقبل ذلك كله لقد كانت مهرة تعيش فى القاهرة، أما عبود ففى الصعيد. ومعنى هذا أنه كان مستحيلا أن تقوم علاقة بينهما مهما تجاوزنا عن كل الاعتراضات التى أوردتها آنفا. أى أن كل ما فعله الروائى الانتهاكى طلع "آوت"!
ثم إن ترتيب الفصول مضطرب، فعلى سبيل المثال يحكى ماجد فى أول الرواية قصة ذهابه إلى المعادى كل شهر مرة لتسلم المبلغ الذى كان أبوه يرسله إليه هو وأمه بانتظام بعد هجرته من مصر، ثم تعود مهرة بعد فصل الجنرال عفارم، فتسرد مرة أخرى زيارة ماجد لها للسبب المذكور، تلك الزيارة التى انتهت بترك شريط الفيديو لديها والاتعاد معها على الغد لأخذ المبلغ منها ومشاهدة الفلم على جهاز الفيديو الخاص بها، ثم يلى ذلك فصل آخر تتناول السرد فيه مرام، ثم فصل آخر يتولى عملية القص أثناءه زوجها عبود بقطر. وفى كل فصل من هذين الفصلين نرى صاحبنا الانتهاكى يشرّق ويغرّب إلى أن ننسى حكاية ذهاب ماجد لتسلم المبلغ. وهو ما استغرق ستين صفحة تعود بعدها مهرة من جديد فنتذكر الموضوع الذى تدور عليه الرواية. وقد افتعل الكاتب ذكر تلك المرأة على لسان عبود، إذ قال فجأة وبلا مقدمات إن مهرة جاءت على باله وهو يرتب أموره للهجرة، ولم يكن قد جاء ذكرها على أى وضع أثناء سرده للأحداث. بغتة وجدناه يصفها بأنها أفضل من أى رجل يعرفه، إذ يمكن الاعتماد عليها فى مواجهة الأزمات، قائلا إنه حاول أن يجعلها جزءا من حياته هو وزوجته وابنه، لكن مرام كانت تنفر منها على نحو غير طبيعى كما يقول، وإنه كان يستحضرها بعين الخيال وهو يتأهب للهجرة، وإنه لو تبدل بهما الحال (يقصد لو كان هو مسلما، وهى نصرانية) لأصبح الارتباط بها ممكنا، وإنه رغم هذا كله مطمئن على مصير ماجد ما دامت موجودة فى البلاد. وهذا كل ما هنالك. أما كيف عرف مهرة، وما طبيعة علاقته بها، ومن أين له بكل هذه الثقة فيها، ولماذا وَكَلَ إليها أمر توصيل المال لماجد وأمه، فهذا ما لا نعرف عنه شيئا، إذ لم يسبق أنْ ذَكَرَ مهرة قبل ذلك ولا ذكرها بعد ذلك لأن هذا كان آخر شىء قاله تقريبا قبل انتهاء نوبة سرده الوحيدة (ص161).
على أن المسألة لم تنته هنا، إذ نرى مهرة تبدى ضيقها بتورطها فى توصيل الفلوس الشهرية لماجد وأمه، وهو ما يبين لنا أن الصلة التى يلمح إليها عبود هى صلة لا وجود لها، بالإضافة إلى أن عبود لم يَرِدْ له ذكر على أى نحو من الأنحاء فى سردها للأحداث أو فى كلامها عن الشخصيات الذين تعرفهم. وهذا عيب قاتل فى الرواية، إذ تشكل مهرة محور "قسمة الغرباء"، وبخاصة من الآن فصاعدا. ومعنى ذلك أن القارئ قد بقى طوال مائة وستين صفحة تقريبا جاهلا طبيعة العلاقة بين ماجد ومهرة، فظللنا طوال نصف الرواية لا نعرف لماذا كان على الولد النصرانى أن يذهب لتسلم مبلغ كل شهر من هذه المرأة بالذات التى كانت يوما مذيعة وممثلة مشهورة تعرفها مصر كلها ويفتتن الرجال بها، فضلا عن كونها مسلمة، أى من القوم الذين تسببوا فى تحويل حياة أبيه إلى جحيم ودفعوه بغلظة قلوبهم وضيق عقولهم وانعدام إنسانيتهم إلى ترك الجمل بما حمل والفرار فى جنح الخفاء البهيم إلى خارج الديار.
ومثل ذلك أيضا حكاية الأمانة التى ظل ماجد يتحدث عنها والتى كان فى طريقه إلى زميله إكرامى ليأخذها منه ويعيدها فى نفس اليوم، وكان يخشى افتضاح أمرها، وبقينا نحن فى عماء لا ندرى عن أية أمانة يتحدث... إلى أن بلغنا الصفحة السابعة والعشرين فسمعناه يقول إنها أمانة ملعونة فرضتْ عليه زيارةَ إكرامى فى بيته، وإنها ليست طعاما ولا ملابس ولا نقودا ولا بيتا ولا حبا ولا حنانا ولا هى فرصة للنجاح (ومن قال أيها الغبى إنها حنان أو حب أو بيت؟ ومنذ متى يقول الناس عن شىء من ذلك إنه أمانة؟ بل منذ متى يذهب الناس إلى بيوت الآخرين كى يتسلموا حبا أو حنانا أو بيتا؟)، ولكنها فراغ عقل وغرائز وأشياء من المفروض ألا يلتفت مثله إليها لأن الوقت يعنى الكثير له، إذ ليس أمامه إلا أن ينجح، وأن ينجح وَحَسْب (طيب، وهل أجبرناك نحن على أن تضيع وقتك وتنشغل، لا سمح الله، بما يضيع عليك فرصة النجاح؟ ثم من أين لك بكل هذا التعقل؟).
كل هذا، ونحن لا ندرى ما تلك الأمانة ولا لماذا كانت مهرة هى التى ستقرر متى يرجعها إلى إكرامى. أما فى الفصل التالى الخاص بسرد إكرامى للواقعة فكل ما عرفناه أنه أخطأ بذكر الأمانة أمامه فى الكلية عَرَضًا على سبيل التباهى والفخر الكاذب (وكاذبٌ لم، وعندك فعلا الأمانة، وإن كنت والله لا أعرف حتى الآن ما هى؟)، فشبط الولد النصرانى وخرج عن تحفظه بطريقة غريبة على سلوكه وألح أن يأخذ الأمانة، فلم يستطع إكرامى إلا الاستجابة له لأن منظره الجديد أعجبه كما يقول (وأضيف أنا: وخوفا على الوحدة الوطنية أن يتعكر صفوها!). ومعنى هذا أنه لم تكن ثمة علاقة بين الاثنين، فضلا عن منظر ماجد الرث وملابسه التى تبدو عليها آثار الرُّقَع... إلى آخر ما أثار أم إكرامى حين أتى إلى ابنها فى "الفيللا" كما يسمون شقتهم، ورأت أنه لا يصلح إلا بوابا أو زبالا أو مناديا على السيارات أو حارسا فى جراج. والحمد لله أنْ توقفت عند هذه المِهَن فقط فلم تمض فى استحضار مهن أخرى من ذلك النوع، وهى مهن لا آخر لها. إذن لما انتهينا من الرواية فى هذا اليوم الذى يعلم به ربنا. ولكن كيف يمكن أن يصدق القارئ استجابة إكرامى وموافقته على أن يعطى ماجد الأمانة، تلك التى لا أدرى ما هى؟ ومتى كان الناس يعطون الأمانات لمن لا يعرفونهم؟
أما الثرثرة التى صَدَّعَنا بها إكرامى ومن قبله ماجد عن الأمانة وغير الأمانة فحَدِّثْ ولا حرج! خذ عندك، كمِثَال، وَصْفَ إكرامى لحجرته وهو يحدث نفسه مشيرا إلى أن له غرفة تخصه، وسريرا له وحده، وصوانا لا يشاركه فيه أحد، ومكتبا وكرسيا ومكتبة فوق البيعة، وكذلك راديو وكاسيت وكمبيوتر يحتل نصف المكتب، وهاتف أيضا (يا حَلُولِّلى! ع النبى صَلِّ! كل هذا فى غرفتك يا إكرامى حتة واحدة؟ هاتوا يا ناس بخورا وارقوه من العين). وكل الفصل، وهو يتكون من ثمانى صفحات، من هذه العينة السمجة من الكلام الأقرع الثرثار. وإنى لأحمد الله أن لم يتوقف عند اسمه: "إكرامى" ويباهينا به أيضا. أليس هو اسم "إكرامى" حارس مرمى الأهلى، اسم النبى حارسه وصائنه؟ بِيبْ بِيبْ آهْلِى!
ومما ينبغى التلبث أمامه أيضا فى بناء الرواية أن الكاتب قد أقامها على سرد الأحداث بلسان كل واحد من أبطالها. وهى طريقة يجرى عليها بعض الروائيين، ومنهم نجيب محفوظ فى روايته: "ميرامار" حيث جعل كل بطل من أبطاله يسرد الوقائع من خلال وجهة النظر التى رآها منها، فتبين لنا كيف يختلف فهم كل منهم لها ونظرته إليها واهتمامه بها وتفسيره إياها. وقد استطاعت هذه الطريقة أن تساعدنا على رؤية الأحداث والأشخاص من كل الزوايا بحيث لم يعد هناك شىء خاف علينا من أمرها ولا من أمرهم. أما القعيد فلم يوفق فى استخدام تلك الطريقة للأسباب التالية: فمثلا نجد أن السرد الذى يقدمه إكرامى أو عفارم لا يفيدنا بشىء لأن إكرامى لم يظهر فى الرواية إلا لدقائق اختفى بعدها اختفاء تاما فلم نعد نسمع له نأمة، فضلا عن أن السرد الذى قام به لم يسلط الضوء على شىء لم يكن واضحا لنا. فالأمانة على سبيل المثال التى تكلم عنها ماجد وهو فى طريقه إليه وشغلنا بها دون أن نعرف طبيعتها لم تتبين من كلامه هو أيضا، فظللنا نجهلها بعد انتهائه من سرده كما كنا نجهلها قبله. كذلك لم يتطرق سرده إلى الجانب المجهول لنا من ماجد، وهو وضعه بين زملائه فى الجامعة وكيفية تصرفاته هناك، وكيفية معاملة الطلاب المسلمين له... إلخ. لقد كان كل هم إكرامى طوال سرده كله تقريبا هو التنفُّج أمامنا بغرفته وما تحتوى عليه من أجهزة وأثاث. لكن ماذا يفيدنا هذا؟ وما دوره فى تطور أحداث الرواية؟ لا شىء. وقل نفس الكلام عن الفصل الخاص بالجنرال عفارم.
كذلك تختلف طريقة القعيد السردية عن طريقة محفوظ فى أن كل سارد من سارديه لا يكتفى بتناول نفس الوقائع وتحليل نفس الأشخاص الذين تناولهم الساردون الآخرون، ولكن من زاوية مختلفة، بل يضيف إليها الكثير مما لا يعرفه منهم إلا هو، وقد يهمل ما يهتمون به فلا يأتى له على ذِكْر. وإلى جانب هذا هناك الثرثرة المملة التى ينتهجها الساردون بوجه عام، فيذهب الواحد منهم يمطرنا بسيل من الملاحظات السخيفة التى لا تفيدنا ولا تفيد الرواية فى شىء. وقد سبق أن ضربنا أمثلة على تلك الثرثرة البغيضة بما يغنينا عن إعادة القول فيها هنا. وبالإضافة إلى ما مر كان ينبغى أن يتغير ترتيب الساردين، فعلى سبيل المثال لو كانت مهرة أتت أولا لكان ذلك أفضل كثيرا لأنها عصب الحكاية. أما على الوضع الحالى فقد كان علينا أن ننتظر ونتجرع مرارة القلق المزعج طوال عشرات الصفحات إلى أن عرفنا مَنْ مهرة، وأى مال يأخذه منها ماجد كل شهر، وإن كنا قد فشلنا بعد ذلك كله فشلا تاما فى معرفة السبب الغريب الذى دفع عبود بقطر لاختيار مهرة لتكون متسلمةَ المبلغ الشهرى ومُسَلِّمتَه لابنه وزوجته. وهذا مجرد مثال. أما إن رد القعيد بأن هذا تشويق للقارئ فالرد على الرد هو أنه تشويق رخيص، فنحن هنا لسنا بإزاء قصة بوليسية من قصص أجاثا كريستى، التى تظل حابسة أنفاس القارئ حتى الصفحات الأخيرة منها فتكون هذه فرصة لتشغيل مخه ومحاولة معرفة هوية القاتل ودوافعه لارتكاب جريمته، فيجد عندئذ لذة النجاح فى اكتشاف السر الصعب الذى تتحداه به المؤلفة. أما هنا فلا بوليس ولا يحزنون.

* * *
هذا هو رأيى فى رواية "قسمة الغرماء"، وقد قال القعيد نفسه كلمة يمكن أن تكشف لنا السبب فى الفشل الذى يجلل هذه الرواية من ألفها إلى يائها، وإن كنت أرى أن القعيد ليس روائيا ذا قيمة أصلا لا فى هذه الرواية وحسب بل فى كل رواياته، لكن هذه مسألة أخرى. ويجد القارئ كلمة القعيد فى الحوار الذى أجراه معه أحمد طايل وأشرنا إليه من قبل، ونصها: "أرى أن التركيز على قضايا الجنس، والإغراق فى مسائل الدين، والكتابة كثيرا عن الأقليات هو مثل "التموين"، هدفه الوصول إلى العالمية من أقصر الطرق. وأى إبداع ينطلق من هذه الأرضية محكوم عليه بالفشل". والحمد لله أولا وآخرا، الذى أظهر الحق على لسان القعيد، فذلك مكسب ليس بالهين أبدا.
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف