
رياض خليف
علالة الزيني
أو المطلوب عدد 1 في سيدي بوزيد
رواية
الإهداء :
إلى الشهداء البررة والمناضلين الأحرار وكل من بذل حرفا أو صرخة أو قطرة دم في سبيل تونس...
وإلى أصدقاء جمعتني بهم الأتعاب والأوجاع وأحاسيس الظلم والقهر
وإلى أصدقاء ظل قلمي لاجئا في الصفحات التي يشرفون عليها زمن الحصار....
و إلى زوجتي شريفة وهي تتحملني مهووسا بالورق والحبر حد الفوضى...
ظلت شخوص هذه الرواية تنام في ذهني أعواما... تضيع حينا وتهرب أحيانا أخرى.. .واليوم مات منها من مات ونسي من نسي ولم يعد لهم من مبرر للاختفاء...حان وقت خروجهم ليقابلهم القارئ...
جمعت الذاكرة المزدحمة بهم...جاء هؤلاء الشخوص الذين ستجدونهم في الرواية أما الآخرون ففيهم من رفض وفيهم من لم يعد لحضوره معنى وفيهم من يعد بأن يكون في الصفوف الأولى لعمل لاحق...
غيوم
ربيع2011
"هيلا ...هيلا يا مطر أغسلي أوراق الشجر
الحلم مثل الورد يكبر والهلال يصبح قمر....
طلي من فوق الجبل دقي على أبواب الأمل
في غيمة النصر اللي هل الخضراء تظفر في الشعر
قطرة قطرة على الدروب غني لعطش القلوب...."
"ضميني بليلي ريقي. وغطي بالخافق رفيقي
مهما عثرني طريقي المسيرة تستمر... المسيرة تستمر"
مقاطع من الأغنية الشهيرة لفرقة البحث الموسيقي المناضلة
ورقت الصحيفة ثم القيت بها على الطاولة وزفرت:
-لم يبتسم الوطن بعد... -كثيرا ما أشك أننا أمام لعبة غريبة وعجيبة...
كم أشعر في هذه الأيام بحاجتنا إلى الوطن وحاجته إلينا...آه يا وطن لماذا لم تجد في هذه اللحظات الحاسمة رجلا تحبه ويحبك بعمق ويحبه الناس؟...لماذا نضيع؟...ألم تنجبن يا نساء البلد من ينهي حيرتنا..؟؟؟
قطع عثمان تفكيري وأسئلتي:
- بورقيبة خرج من قبره مرة أخرى...
- لو كان حيا لأخذه البعض إلى قصر قرطاج...
ابتسم عثمان وأضاف:
-خالي الحاج عبد السلام يبكي كلما شاهد صورته أو سمع صوته...لقد اكترى سيارة وذهب إلى المنستير ليحضر الاحتفال بذكراه...
-…تذكرت ...يا عثمان... أين الشيخ الناصر؟
- الشيخ مبتهج إلى حد بعيد...رفع قضية لاسترداد حقه...
- وهل حضر محاضرة راشد الغنوشي في دار الثقافة؟
-...بل وحضر محاضرة حمة الهمامي...
-ما يعجبني أننا صرنا نتكلم بصوت عال وهم قد اندحروا...
فجأة لمحت صديقي البغدادي القديم -كما وصفته ذات نص سردي نشر في سنوات الجمر- قادما...انضم إلى جلستنا ......كان متوترا ومستنفرا ويهمس بكلمات قليلة بلهجة عراقية:
"ماكو"جديد...ماكو حلول ...ماكو قرارات مهمة … ليس ثمة إلا الهزء..."
مرارة شديدة...قطار الأحلام مازال بعيدا والفوضى تقتحم المكان...اختلط الحابل بالنابل...وكثر الأبطال والرجال...
اقترب منا نادل وعلى وجهه اصفرار شديد:
-صباح اليوم جاء علالة إلى المقهى...
- علالة نفسه...عجبا!
-...علالة كما تعرفونه...لم يمسسه سوء...
زفر البغدادي ثم تمتم:
-وماذا سمعتم؟؟...علالة وغيره...كلهم يرفلون أحرارا...وقد يعودون قريبا من أبواب جديدة.
...انتابنا قلق شديد وتأففنا...بحثنا في الأفق مليا عن هذا الوطن الذي خلنا أننا عثرنا عليه...بحثنا عنك يا وطني حد البكاء والكوابيس...
مازلنا نقبع جميعا في حالة انتظار...
تونس عروسنا زوجناها للحرية ولدماء الشهداء…
كثيرا ما يخيل لي أننا في نهاية عرس بدوي تقليدي في هذه الربوع حيث تشرئب الأعناق بعد صمت الموسيقى انتظارا لشيء ما لم نكن ندركه عندما كنا صغارا ...كم هي شبيهة تلك الساعات أو الأيام التي يقضيها الأهل في الانتظار بهذه الشهور ...رقصنا في الحفل...جاء المهرجون لإفساد العرس...أثاروا فينا الفزع...جرينا خلفهم بالهراوات والعصي...أدخلنا عروسنا بيت الزوجية الجديد ومكثنا ننتظر زغاريد طويلة و رقصة جديدة.
طال الانتظار ولم تخرج عروسنا بعد...مكثنا نتجادل ونتناقش بفوضى...هل نجيئها برجل دين بلحيته الطويلة فيعالجها بالقرآن والدين ويفك عقدتها أم بطبيب يعالجها بالعلم و الحداثة ؟أم نترك الأمر لمن هب ودب من هؤلاء المتصارعين على المقاعد؟
لم نتفق بعد...
لم تستطع أصواتنا أن ترتفع كما يجب...
نجول في حيرتنا...
نريد أن تخرج العروس وتبتسم لنا...
...شربنا أكثر من قهوة وقرأنا أكثر من جريدة وطفنا بأكثر من حكاية.
...فجأة شاهدنا الأعناق تشرئب والقامات تسارع وسمعنا الحناجر تهتف...ثمة اعتصام ودخان كثيف أمام مركز الولاية... راج أن الوالي غادر موقعه...سارعنا والتحقنا بالجموع الغفيرة...
القسم الأول
...دار لقمان
"سرح عيونك عبر الأحمر القاني
واسأل أذي تونس أم دار لقمان؟"
الشاعر الدكتور منصف الوهايبي
ذات" سمرقند"...
...اقترب مني عثمان طالبا مني تمكينه من الجريدة البيضاء التي تصدر أسبوعيا واعتدنا أن نقتنيها من المكتبة المجاورة للمقهى وكنا كثيرا ما نعمد لإخفائها لأن المكان مراقب لكننا في بعض الأوقات ننسى العيون المتوثبة والآذان المركزة على كل كلمة وكل حركة ونشرع في التهامها بلا خوف .
لم أكن أعرفه ...خطر لي أن يكون عونا سريا أو "سرطي"كما يشير إلى ذلك الأهل بخوف كلما لمحوا أحد هؤلاء ...هذا زمن ملغّم ورجال السلطة في كل مكان...يحدث أن يقترب منك عون أو متسول أو طالب ولاعة سجائر أو أي شخص ويحدث أن يجالسك أحدهم وينبش قلبك بكلمات فتنفجر وتبوح بالغضب لتكتشف في النهاية أنه أحدهم...
تسلم الجريدة وغاص فيها...راح يقرأ ويتأفف...بلاد تمضي نحو الجحيم...بلاد قاسية....نحن هنا لا نسمع شيئا...التلفزة تغرق في أخبار المديح أما أنباء الاعتقالات وإضرابات الجوع وتقارير منظمات حقوق الإنسان فلا تبلغنا قط...يخفونها حتى إذا كشفتها القنوات العالمية و تحدثت عنها قناة الجزيرة يسارعون بالنفي بتلك الطريقة البالية..."أعلن مصدر رسمي أنه لا أساس لما روجته بعض الأطراف وفي مقدمتها قناة الجزيرة...."ثم يردفون ذلك ببيان صادرعن الحزب الحاكم أو أحزاب أخرى يشيد بالإنجازات ويدين هذه الممارسات التضليلية التي تستهدف تونس وقيادتها..."... ونصحو صباحا على صوت قارئ الأخبار وهو يجتر نصوص البارحة التي كتبوها له وأجبروه على قراءتها...نشعر بمرارته وكابته من أجل الخبز اليومي...نعرف أنه أول من يدرك اللعبة ولكنه مكره... يحتج ويدين الاستقواء بالأجنبي والمؤامرة التي تتعرض لها البلاد حتى لا يقضون عليه...
انتهت الجلسة...لم أكن مرتاحا له فهو غريب عني وما أكثر الغرباء الذين يقتحمون مجلسك أحيانا لسبب أو لآخر...
لم يذهب بلا رجعة فقد عاد في أيام أخرى وجالسته وصرت أحتفي به كلّما جاء ...فنختلي داخل المقهى ونتبادل الحديث والهمس...
لا يرتدي عثمان كسوة وربطة عنق ولا يدخن السجائر الفخمة ولا يشرب "الكابوسان" ولا يأمل شيئا... لا زواج ولا عمل قار.يكتفي ببعض الأيام في حظائر البناء ليوفر مصروفه اليومي...يرتدي ملابس عادية...عادة ما يحب ملابس عمال المناجم...يدخن السجائر الرديئة بشراهة ويشرب القهوة السوداء...أدمنت الجلوس معه صاحيا قادما من قريته كل يوم أو محتسيا خارجا من إحدى حانات المدينة وجمعتنا طاولات اليأس والانهيار...كلما تحدثنا عن البلاد إلا ووصلنا إلى الأفق المسدود.
عثمان معدم...تائه...كلما احتسى مزق الصمت و وزمجر وبكى ..يذكر أخاه الناصر الشرقي ودياره التي صارت خرابا ويذكر خاله الحاج عبد السلام وسكينة بنت العمدة بشير....
يعيش في ريف من أرياف شرق سيدي بوزيد مع والدته محبوبة في بقايا حوش قديم... تقضي الوالدة العجوز أعوامها الأخيرة في ألم...استفحلت أمراضها وعجز الأطباء عن تقديم حلول لها حتى سئمت الذهاب إليهم...مستوصف القرية لا يقدم للمريض شيئا. فهو مغلق في أكثر الأيام وتجهيزاته قليلة وقديمة والمستشفى الجهوي بسيدي بوزيد معاناة لا تحتمل...كل سيدي بوزيد تتحدث عنه بألم...فيه يهان الفرد ويستفحل ألمه...هناك ترى الجميع يتأففون...مرضى ومرافقون وممرضون وأطباء.. وتسمع الشجار بين هذا وذاك ...
تقبع العجوز وحيدة في البيت تصارع أمراضها المزمنة..وماذا تفعل والحال كما هو عليه؟؟أرملة بلا سند...الزوج توفي منذ أعوام والإبن الوحيد الذي مازال يقطن معها بلا عمل...يعمل أياما قليلة في حظائر البناء وينفق مداخيله في جلساته وملذاته.
شقيقها الحاج عبد السلام تسرب إليه الفقر وفسد مزاجه .. يهتم بها حينا وينساها أحيانا أخرى أما العمدة فيرفض أن يسلمها شيئا...لا منحة عائلية ولا بطاقة علاج ولا مساعدة...كلما ذهبت إليه إلا وانتتر وصرخ في وجهها"أولادك....أولادك ضدي وضد السيد الرئيس..."
آه أيها العمدة كم نعاني منك ومن أسيادك...كم أود أن أصرخ فيك صرخة صدام حسين وهو يصرخ في القاضي قائلا" لولا الأمريكان أسيادك ما كان لك أن تحاكم سيدك..."كم أود أن أكرر هذه الصرخة في وجهك يوما"لولا الزمن اللعين لكنت الآن مجرد راع في إحدى القرى...لولا هذا الزمن الغادر ما اعتليت أنت وأصحابك هذه الكراسي الوثيرة لتحكمنا وتوزع لنا الفتات وقد تحرمنا منه..."
لم تكن محبوبة على كل حال الوحيدة التي حرمها العمدة بشير من المساعدة فهذا الرجل حرم الأرامل والثكالى واليتامى والمعاقين والفقراء بل حرم حتى الحيوانات العجفاء التي يملكها بعض الناس من مساعدات العلف في هذه السنوات الجافة التي تمر بالبلاد والتي يتضور منها الفلاح ويشتكي...تفاجئه الحكومة من حين لآخر بمجلس وزاري تفتتح به قناة التلفزة أخبارها البائسة... يسرد قراء الأخبار الكثير من القرارات المعلنة لدعم صغار الفلاحين...يكاد البيان يزعم أن من قرارات المجلس نزول المطر... كيف لا وقد ظلوا أعواما يشيدون بالرئيس كلما تحسن الوضع الفلاحي ونزلت الأمطار.. تنهال برقيات الشكر والامتنان من اتحاد الفلاحة وغيره...يكتب المتزلفون من الغد عن اهتمام الرئيس بالفلاحة وقراراته الرائدة والنموذجية ولكن لا شيء من هذه القرارات يظهر للمواطن فهي تذوب في جلسات العمد وزيارات المرشدين وما يفرض من إجراءات طويلة ومعقدة حتى ينساها الناس...
يترك عثمان الوالدة لوحدها...قد يزورها الخال أو بعض أفراد أسرته ...لا يكاد يغيب عن مدينة سيدي بوزيد...يذهب ليشرب عادة ...يشرب ويشرب.. وأحيانا يبدأ منذ الساعات الأولى للصباح بحثا عن لحظات ضياع ونسيان وهروبا من اليومي اللعين.
يعود إلى قريته قبيل الغروب يمر بالدكان...يشتبك مع الوشاة.. يسب العمدة وكاتبه ورئيس الشعبة والزين وأمريكا...يتحدث عن صدام حسين وحسن نصرالله وإسماعيل هنية...يتخفى الناس خوفا منه ..كلامه قد يسبب الخطر...الكل يتجنبه ويخشى حديثه... هو معارض و شقيقه معارض والاقتراب منه قد يكون مأساة بالنسبة لبدو فقراء كهؤلاء يطمعون في "كردونة"وفي تسجيل بالحظيرة أو منحة دراسية ويخشون على أولادهم أن يتم رفضهم إذا نجحوا في مناظرة وسئل عنهم العمدة ورجاله ...شباب كثير دمره هذا التحقيق الأمني ...يكفي أن يتململ العمدة أو يزم شفتيه حتى ينتهي حلم النجاح في المناظرة فما بالك إذا بدأ في سرد الملاحظات أو أنكر معرفته بهذا الشاب...حتى الحديث عن الزعماء العرب صار مخيفا...صار مخيفا أن يجاهر الفرد في تونس بمناصرة صدام أو الاعتزاز بإنجازات حزب الله في لبنان وسحقه للصهاينة ...صار من المخيف المجاهرة ببطولة حركة حماس وصمودها على أرض فلسطين .. .لم تكن هذه الأسماء تذكر...الكل يتجنب عصا النظام الذي يرفض كل ماله صلة بالإسلام والمقاومة فما بالك بحركة حماس وزعمائها الذين لا يمكن للفرد إلا أن يحييهم ولو كان شيوعيا...أن تمتدح الشهيد الحقيقي مؤسس حماس الشيخ ياسين الشيخ المقعد الذي ناضل طويلا ضد الصهيونية حتى فجرته إسرائيل يوما في جريمة بشعة فأنت إسلامي التوجه وهذا قد ينسبك من حيث لا تدري إلى حركة النهضة ويجرك إلى ما لا يحمد عقباه...
...وحده عثمان يعطر هذه القرية الصامتة التي لا تعرف غير ما تتحدث به القناة الرسمية ويحدث الناس بحماس شديد وبلا خوف عن هذه المعارك العربية...وحده عثمان يسخر من أخبار التلفزة حين تتحدث عن الموقف التونسي المشكور والمتميز من القضية الفلسطينية ومن كلمات الشكر التي يطلقها البعض من المفكرين المأجورين الذين يتم استقدامهم من أقطار عربية لشكر النظام ومدحه والإشادة بعروبته وشكر المنظمات العربية والدولية له ولدوره الريادي في خدمة القضايا العربية والإنسانية والبيئية والمعلوماتية والنسائية.
لكن أهل القرية يعتبرون ذلك تحاملا وهراء بل يسخرون منه أحيانا...كيف لا وهم لا يجادلون ولا وقت لهم ولا قوة لمجابهة الدولة التي لا ترحم...
عقولهم محشوة بنشرة الثامنة ومسلسلات محلية ومستوردة تعج بحكايات الحب والعنف وبرامج للمسابقات والحكايات الاجتماعية وبمزاعم العمدة ورجاله ممن يبشرونهم دوما بالخير العميم القادم عما قريب ووعود المسؤولين لهم وزياراتهم المنتظرة للقرية... عثمان يعلن دوما أنه لا يخشى أحدا وأن العمدة ووشاته لا يعنون له شيئا...
يقف عثمان ساخرا...يزمجر ثم يمضي متعثرا إلى البيت...يجد الوالدة محبوبة في انتظاره وقد يجد نفسه بلا عشاء فحالتها لا تسمح لها دوما بالطبخ...
مسكينة ... قلبها ممزق.. نسيت الناصر مرغمة...كلما شاهدت الزين في التلفزة إلا ولعنته ودعت عليه بالموت والعذاب ..عثمان مازال يشغلها.. تفكر في غده...تبحث له عن زوجة وعن حل لمشاكل حياته لكنه يسخر من نصائحها ويلازم الصمت...شقيقها الحاج عبد السلام أسر لها مرارا أنه على استعداد لتزويجه ابنته الصغرى التي طالت عنوستها ولن يطلب منه شيئا بل سيساعده...تعجبها الفكرة وتتمناها.. لكن عثمان حجر صلب...موقفه صامت وكأنه لا يسمع...كأنه لا يفكر في الغد...ربما مازالت نفسه تخدعه بأنه مازال قادرا على الزواج من فاتنة أو من موظفة.
حدثت عثمان مرارا في الأمر...لدي إحساس بأنه في خطر...فالخالة محبوبة مريضة والموت قريب منها ومنا لكنه يؤكد لي أنه فقد لذة الحياة وأن صدمات السنوات جعلت قلبه يتحجر...يقولها بصراحة مطلقة "لقد خربونا ولم يتركوا لنا مجالا للحياة "
وعندما يكون مخمورا يقول "انأ أبحث عن زوجة قوية جدا.....أريد أن أصاهر شهما كصدام أما هؤلاء مثل خالي عبد السلام والعمدة بشير وغيرهم فلن تنجب بناتهم أشبالا..."
نافذة
أعود من حيث انطلقت إلى سمرقند...الذكريات العالقة في الذهن وأوجاع القلب مازالت تقتحم الرواية فجأة...أود أن أترك عثمان قليلا...يحضر أمامي الآن صديقي الرمزي...صديق تلك الأزمنة...أعود إلى البغدادي القديم...أدعوه أن يهتف متغنيا "بغداد يا قلعة الأسود..."...
بحثت كثيرا عن هذه الأغنية في أكشاك ومحلات البلاد التي ملئت بأغاني المزود والحسناوات والراي الشرقي والغربي فلم أعثر عليها ولم أعثر على أي أغنية وطنية...لقد منعوا كل شيء وسرنا نعثر بصعوبة على بعض الأشرطة...
آه "بغداد يا قلعة الأسود"....
شكرا لك أيها الر احل صالح جغام...مازلت أذكر حلقتك الأخيرة التي بثثتها في حرب أم المعارك التي يسمونها عاصفة الصحراء ثم غادرت المصدح والبلاد والوطن العربي والحياة فجأة...تلك الحلقة التاريخية التي سجلتها في طفولتي وضاعت...شكرا لك يا صالح يا صوت العروبة .
أطلق صوتك الرائع يا صديقي البغدادي القديم وردد أغاني الفنان الكبير سعدون جابر
"اللي مضيع ذهب في سوق الذهب
يمكن سنة ويلقاه
واللي مضيع حبيب يمكن سنة وينساه
بس اللي مضيع وطن
وين الوطن يلقاه...
وين الوطن يلقاه...."
نحن الآن أضعنا الوطن...
...أو ربما سرقوه منا وأخذوه بعيدا مثلما سرقوا أشياء كثيرة...سرقوا هذا الوطن...نزعوا ملابسه...جردوه منا ومن أحلامنا...ضربوه...خدشوه...دفنوا فيه أجسادا بريئة قتلت تحت التعذيب...دفنوا التاريخ والأمجاد ...دفنونا أحياء...لم يعد لنا متسع للحلم...أحياء كنا وقلوبنا تخفق وتحلم بالحياة والكرامة والحب والعزة لكنهم اغتالوا فينا كل شيء وتركونا في الهوامش البعيدة...
عثمان الشرقي
ذكريات بالية
لست سوى بدوي تعيس ينزل من شاحنة نقل ريفي قديمة...يذرع شوارع سيدي بوزيد ويقبع في كل مقاهيها .لا مقهى محدد له...كل المقاهي وعمالها يعرفونه... يجالس من هب ودب ويخوض مع الخائضين في كل الأحاديث...
يقال عني كل شيء...سكير...متسول...وقد يظن البعض أني عون أمن سري.....يحدث كل ذلك في هذه المدينة وهذه الأزمنة...
آه أين أنت أيها الزمن الجميل؟
...أين أنت يا زمن السياسة...أين أنت يا أحلام الصبى حين كنا نتصور أنه بإمكاننا هزم النظام البورجوازي؟ انغلق الإعلام وغابت المناشير وغاب الرفاق...أين أنت يا مبارك صالح؟
كلما مررت بمكان المحطة القديمة للنقل البري التي نقلوها منذ أعوام إلى مكان جديد إلا واستعدت زمن الطفولة وسنواتي الأولى في مدينة سيدي بوزيد...
قد يكون البعض نسي هذه المحطة وأجواءها الصاخبة...كانت حالة من الخراب ومزيجا من المسرعين والبدو والمسافرين والمتسولين...
هنا ترددت مرارا لاقتناء قصاصات الرهان الرياضي من عبد العزيز لكن الزمن تبدل.انتقلت المحطة وانتقل عبد العزيز إلى مكان آخر وعزفت عن اللعبة وتخليت عن حلم الثروة...
كثيرون مازالوا يحلمون بالملايين ويحتشدون أمام نقاط البيع...يقتطعون القصاصات و ينتظرون أحد النصر...كان الفوز حلم طفولة كالأحلام الأخرى لكنه زال...لا أحلم الآن إلا بجلسة خمرية حاشدة تعيد الروح وتزلزل الكيان...
ذهبت الأحلام وذهبت الطفولة وسنوات الشباب...
عند المحطة القديمة أتذكر شقيقي الناصر الذي كان يرافقني قبيل العودة إلى السوق ليعد لي لوازمي وأوراقي ويأخذني إلى عبد الجبار بللعج المصور القديم بالمدينة...الصور الشمسية يطلبونها بكثافة في بداية السنة الدراسية...هذه للمبيت وتلك للقسم الخارجي وربما للأمن... لكنه شيئا فشيئا صار يرفض الذهاب معي و لا يبالي بي كثيرا وربما لم أعد أعنيه فعلاقتنا بدأ يخيم عليها التوتر...صرنا نتخاصم دوما..
.كان غاضبا مني وكنت أصطدم معه...لم يكن يروق له ما صرت مقتنعا به من أفكار جديدة...كانت تصله أخبار عن أنشطتي السياسية ونزواتي الأخرى ولم يكن يريد هذا...وصار يرفض الذهاب معي إلى المعهد بعد كل رفت فكنت ألتجئ إلى الخال عبد السلام...
الناصر شقيقي الأكبر...وهو إمام القرية...لا يقبل الجدل الكثير...يطاردني دوما .ازدادت علاقتي به توترا بعد انقطاعي عن الدراسة وانضمامي إلى عالم الخمر.صارت معركتنا يومية:
-...دعك من الخمر...دعك من الشراب
وكنت أقول له بكل حدة:
-الشراب ليس بالمحرم ..
-القرآن نهى عنه...
-لا نص في القرآن يوضح ذلك...يوجد فقط نهي عن الاقتراب من الصلاة عند حالة السكر...
ينفجر الناصر ويغضب:
-هذا فسق وكفر...
فأجيبه بوضوح:
ولكني لا أؤمن .أنا عقلاني ..أنت وأمثالك تستغلكم السلطة لتبرير مواقفها "الدين أفيون الشعوب"
وتنتهي المجادلة عند الوالدة محبوبة ويكشر الناصر عن أنيابه أياما ويقاطعني ويظل متربصا بي... علاقتنا متوترة...نكاد نقتتل...نتقاطع شهورا...ونعود أياما...
مرات عديدة كان خالي عبد السلام يأخذني إلى المعهد ليتسلم لي بطاقة دخول خفية عن أخي الناصر وبإلحاح من الوالدة التي كانت تنتظر أن أنجح يوما وأعين في وظيفة ترفع لها رأسها وتبدل حياتها التعيسة...كانت تحلم بأن تراني صاحب أموال ينسيها الخصاصة و زوجة تدللها وتسعدها وتملأ وحدتها فأخي الناصر فقير و زوجته لا تتحملها ولا تهتم بها إطلاقا ....
خالي عبد السلام
..يفتخر بأنه حارب فرنسا وشارك في معارك الجلاء وهو شديد الإخلاص لبورقيبة...لم يحصل كغيره على منحة مناضل وربما لم يسجل في قائمة المناضلين كغيره ... تصرف البعض في هذه السجلات ...سجلوا من أرادوا وأهملوا كثيرين.
...يقول كثيرون إن العديد من الأسماء التي سجلت في القوائم وصارت تصول وتجول في الجهة وتحكم كانت مجرد" صبايحية" وعملاء لفرنسا...وأن الكثيرين أهملوا مثلما أهملت هذه الجهة وأهمل تاريخها...فمن هذه الأرض انطلقت ثورة علي بن غذاهم ومن هذه الأرض انطلقت المعركة ضد الاستعمار وعلى هذه الأرض سالت دماء الشهداء ...هنا قاتل الثوار الاحتلال في الجبال والأرياف...
لم يكن خالي عبد السلام حاقدا لأجل هذا الظلم بل كان في طليعة الصفوف المساندة للمجاهد الأكبر كما كان يسمى طويلا في تونس وغرس فينا جميعا بذرة حب بورقيبة...
وكان يلهث في كل المناسبات لتمجيده ومساندته ولا يترك موعدا سياسيا في القرية أو في سيدي بوزيد إلا وكان في طليعة الحاضرين والمتكلمين والمصفقين...لكن الخال تغير يوما.
...كانت سنوات بورقيبة تقترب من النهاية وتبلغ مرحلتها الحرجة...يومها تزينت مدينة سيدي بوزيد في لمح البصر ...ردمت حفر الطرقات واختفى اصفرار الجدران المهملة والمتداعية للسقوط ومحيت الكتابات البذيئة التي خطت عليها وأصبحت المدينة كعروس عاشقة جاءها موعد الزفاف. رشوا شوارعها بالمياه وعلقوا فيها سلوسا كثيرة ثم أنبتوا فيها أشجارا عالية لا أحد يعرف من أين جاؤوا بها وكيف أنبتوها...في كل خطوة ترى المزيد من الشرائط الملونة والأعلام الصغيرة والكبيرة ولافتات الترحيب و في كل جدار يقابلك بورقيبة ووزيره و تعترضك حشود من الناس تهب من كل مكان...
فجأة تأهب الناس واستنفروا...ضربت الدفوف ودوت الأنغام ورقصت الخيول والبنادق وضاعت الأهضام في الأرجاء وتعالت الهتافات"يحيا بورقيبا...يحيا بورقيبا..."
وصل الوزير في هذه اللحظات. صافح موكب المسؤولين ثم راح يتمشى في اتجاه دار الحزب ودوى صوت مراسل إذاعي على أمواج إحدى الإذاعات"إنها زيارة خالدة لن تنساها سيدي بوزيد..هذه الولاية الفتية والمناضلة التي جددت وفاءها للمجاهد الأكبر واعترافها الدائم بالجميل لباني تونس وصانع عزتها...وقد خرجت مدينة سيدي بوزيد منذ الساعات الأولى للصباح شيبا وشبابا لاستقبال مبعوث فخامة الرئيس سيادة الوزير الأول محمد مزالي الذي أدى زيارة عمل إلى الولاية وسنوافيكم بالتفاصيل في مراسلة قادمة..."
هرع خالي الحاج عبد السلام منذ الصباح...وفي جيبه عريضة من سكان القرية...مطالب مزمنة وقديمة منذ فجر الاستقلال . كتبها الأهالي عشرات المرات وفي كل المناسبات ...سلموها لكل الوزراء الذين زاروا الجهة منذ زمن بن صالح لكن لا مطلب تحقق...
تقدم الصفوف المزدحمة وبدأ يدفع الناس بمنكبيه وهمه أن يصل إلى الوزير الأول...
يمر الوزير ومن حين لآخر يصافح الناس ويبتسم لهم فهو الموعود بالخلافة والكل يتوقع أن يكون رئيسا بعد بورقيبة...صمم الحاج على أن يستوقفه مهما كانت الطرق...تقلصت المسافة...وبدأ يهتف "بورقيبة .. بورقيبة" ...تقلصت المسافة ...لن يتركه يمر...سيقفز إليه ويحضنه ويبلغه تحيات الشعب ثم يبلغه الرسالة وربما يحدثه في أمرها... لن يتراجع لأنه يعرف أن في القرية من سخر منه وهو يجمع توقيعاتهم على العريضة و يقوم بمساع لدى المسؤولين...خطوات قليلة ويكون أمامه ...هو الآن أمامه فعلا...إنها اللحظة الحاسمة فعلا...إنها اللحظة الحاسمة ..هؤلاء يحولون دونه و يحيطون به...مسؤولون وحزبيون مقربون تأنقوا وجاؤوا كعادتهم...وهم يجندون أنفسهم للهتاف بحناجر عالية ويدفعون الناس ويفتكون الرسائل..
مد يده إلى الوزير...لمست أصابعه أطراف يديه...هم بمد الرسالة والكلام...في لمح البصر دفعه أحدهم ومر الوزير ...تأفف وزمجر
"أنا مناضل ومقاوم ...لن أصمت...آه يا جدي سيدي بوزيد...انتقم منهم .. ازأر في وجوههم.. لقد أطردوا أحفادك وسحبوا أسماءهم من كل القوائم...فلا نحن من المناضلين ولا من المقاومين ولا من المسؤولين...لقد قفز آخرون وصاروا يقودون المكان و يدفعوننا بمناكبهم دون رأفة...
لن أصمت...
مشى الحاج تائها وسط مدينة سيدي بوزيد...حاربت المستعمر وركضت بين المدن والقرى وتعرضت للبطش وفي النهاية يحصل لي هذا...كان بورقيبة يهمس في أذني ويختلي بي في زياراته أما اليوم فيدفعني هؤلاء الغرباء...آه يا سي الحبيب...ارفع عصاك والكزهم بها...كم أود أن تعزل كثيرين ممن صاروا يمثلونك هنا....هل فيهم من يستطيع منافستي في حبك والولاء لك؟؟لا أحد..."
يعلق خالي في بيته صورة لبورقيبة بالزي الطرابلسي زمن هروبه إلى ليبيا أيام النضال...و يجمع في صندوقه الخشبي عشرات الانخراطات والقصاصات والدعوات ووصول التبرعات التي تبين تاريخه الحزبي العتيق...
مر بجامع سيدي بوزيد .سلم على الحسين
فهم الحسين توتره و سأله:
- ماذا قال الوزير؟
رد بغضب:
-لم أسمعه...سيدي بوزيد باعوها والبلاد كلها للبيع...أنا يا سي الحسين يدفعني هؤلاء؟؟
تمتم الحسين:
-لا حول ولاقوه إلا بالله
عاد خالي حزينا...يراوده إحساس بأن البلاد سرقت وأن زمن بورقيبة قد ولى وأنه ترك مكانه لآخرين...
هجر السياسة والسياسيين وعزف عن الشعبة والحزب والانتخابات كأنه لم يكن من رجال الصفوف الأولى...
حين ألقى بن علي بيانه وأعلن تسلمه مهام رئاسة الجمهورية بكى الحاج عبد السلام...تذكر بورقيبة ومجده قبل أن يمرض ويحيط به بعضهم...لم يصدق حكاية استفحال المرض والعجز التام فهو شاهده البارحة يخطب والناس تصفق...لم يأكل شيئا يومها وتملكه الغضب.لم يفرح بالرجل الجديد .انتظر غضبا يوقف الحكاية لكن ذلك لم يحصل...وظل طوال السنوات يتذكر بورقيبة ويتحدث عن سياسته...
تبدلت المفاهيم ...كانت عائلتنا توصف بالمناضلة والدستورية بفضل خالي عبد السلام ولكن باختفائه من الحلبة انتهى كل شيء ولم تمض سنوات قليلة حتى صفعت العائلة كاملة ودمرت...
نافذة
... مذكرات صيف
ذات قيلولة حارة توجهت إلى بيت الأخوال كعادتي في أغلب قيلولات وأمسيات ذلك الزمن...وجدت الخال متكوما على مذياعه الكبير صاحب" الأنتان" المربع الذي اقتناه من طرابلس حيث كان يعمل منذ أعوام...
في ذلك الزمن يتحدث الجميع عن مذياع الخال فهو مذياع عملاق يسهل من خلاله الحصول على محطات الإذاعات الخارجية العتيقة ذات الصوت الخاص والأخبار الكثيرة... الخال يفاخر بهذا المذياع فهو الوحيد الذي يقدر بسهولة على العثور على إذاعة لندن وإذاعة مونتي كارلو وصوت العرب من القاهرة وغيرها من الإذاعات...
بادرني الخال بالقول
"لقد أصبح العراق في الكويت..."
لم أكن أدرك يومها أن تلك القبل التي نشاهدها في القمم العربية وذلك السيل من برقيات التهنئة التي يتبادلها الزعماء العرب بمناسبة الأعياد الوطنية والدينية ليس سوى وجه مخادع...ولم أكن أدرك ما سيأتي فمنذ أسابيع كان العراق عرضة لتهديدات أجنبية بسبب إعدامه للجاسوس البريطاني وأمس انعقد في السعودية اجتماع تفاوضي بين العراق والكويت...
لم أكن أعرف أن القلوب تخفي الكثير...مازلت أحمل في الذهن بقايا الطفولة..
كان الخال يدير الإبرة لاهثا ومتعطشا للأخبار التي تشفي الغليل متوقعا أن تخرج "ناقة صالح" ...وكانت الإذاعات تنقل ردود الفعل العربية والدولية ولكننا لم نفهم الحكاية كما يجب...عم الذهول في الشارع العربي...
في المساء عدت إلى بيتنا...عاد العم من هناك...أخبرته بالأمر...بتنا نعالج مذياعا بسيطا ومتداعيا للصمت في أي لحظة.. شتان بينه وبين مذياع الخال...كان العم يصر على أن العراق لا يمكن أن يظلم...تطورت الأحداث بعد ذلك...أعلن العراق أن جيشه تدخل استجابة لدعوة الشباب الكويتي الذي أطاح بآل الصباح ثم ضم الكويت لاحقا وعدها محافظة تتبعه واجتمع العرب في القاهرة...صرخ فيهم القذافي ومزق الأوراق التي سلموها له ولم يخرج من القاعة بعد مغادرتهم...ظل قابعا يبكي...واستجاب العرب لرغبة أمريكا التي جمعت جيوشها وجيوش حلفائها في الظهران...
قرعت طبول الحرب كثيرا وهدد صدام حسين وتوعد بإحراق الكيان الصهيوني في نصف ساعة و خرج الشارع العربي متظاهرا ضد الحرب معلقا أمله على العراق...مفتخرا بصواريخ العباس والحسين وبالحرس الجمهوري العراقي...
عدنا إلى الدراسة.. تذوقنا طعم المسيرات والصراخ بأعلى أصواتنا في الشوارع...
وانتصف جانفي ...
أيقظني أبي فجرا...لقد بدؤوا القصف...وزعموا في تلك الساعات الأولى أنهم دمروا العراق بسرعة لكن الساعات الموالية كذبتهم وعادت معنويات العرب لترتفع...ثم قصفت تل أبيب بعد أيام بصواريخ العباس والحسين فانتشينا وذعر الصهاينة...
بعد أسابيع انتهت الحرب...وقع ما وقع...لم يتحدث مصدر محايد عما جرى في الساعات الأخيرة من تلك الحرب التي ظلت لغزا...قيل إن جيش صدام حاصرهم في البصرة وأوقعهم في كمين لكن لا أحد أكد هذا ...خرجت القوات العراقية من الكويت و مكثت القوات الأمريكية ومن معها في ضيافة متواصلة في السعودية وبعض الأقطار الأخرى...لم ننتصر إذن...هزمتنا الخيانة...هكذا قلنا ومضينا نتألم لحال العرب واستمر العراق أعواما يواجه الحصار والرقابة والغارات ولجان التفتيش...
ذكريات جارحة...
عدنا إلى الدراسة بعد عطلة ناتجة عن إضراب الأيام الأخيرة في المعهد احتجاجا على الحرب على العراق...لقد كان يوم إخلاء المعهد يوما عظيما...انتشر رجال"البوب" في كل المداخل وجروا خلفنا ...بادلناهم الغاز المسيل للدموع بالحجارة وهربنا إلى قرانا...
يوم العودة طالعنا المدير والقيمون بوجه عبوس وتجمع التلاميذ حول سبورة الإعلانات يقرؤون البلاغ الجديد لإدارة المعهد .
قرر مجلس التربية بالمعهد رفت التلاميذ الآتي ذكرهم:
-مبارك صالح( رفت نهائي)
-عثمان الشرقي (رفت نهائي)
سكينة بشير (ثلاثة أيام)
...قضي الأمر...مبارك صالح مازال في السجن لم يفرجوا عنه... وأنا لن أتردد في تركها لهم...كرهت الدراسة...
نحن الثلاثة قدنا غضب التلاميذ في المعهد...آه يا زمن مبارك صالح..
كنا ثلة من الغرباء...التقينا في المعهد في النصف الأول من الثمانينات
...لم نكن نعرف من الإضرابات غير الهروب عن الدراسة...عشنا ثورة الخبز صغارا.لم نكن نفهم شيئا سوى أن الأسعار ارتفعت...عدنا إلى قرانا...مكثنا هناك حتى جاء اليوم الذي تكلم فيه بورقيبة"...ما ثماش زيادات...نرجعوا كيما كنا"...وخرج الشعب مسرورا...بثت الإذاعة مسيرات فرح"بورقيبة يا حنين...رجع الخبزة بثمانين"
لم يكن مبارك صالح معنا منذ البداية فهو قادم من الجنوب ...التحق بنا ذات عام دراسي ...هو ابن موظف متنقل على حد قوله...تنقله الإدارة شمالا وجنوبا عقابا له ...كان مبارك يعرف أكثر مما نعرف وكان كثيرا ما يقود بعض الأساتذة للخروج عن الدرس وتمزيق الصمت والخوف والحديث عن السياسة...
زرع مبارك فينا بذرة جديدة...ألقى بنا في متاهات السياسة وقادنا إلى مرحلة جديدة...صرنا قسما ثائرا...تسميه الإدارة " قسم المشاغبين" وكلما وقع أمر إلا ولفقوه لقسمنا...
كان مبارك صالح تلميذا نجيبا يحبه الأساتذة وكان كثير النشاط...هو الذي حرك المعهد مرارا بخطاباته ومناشيره واجتماعاته...وكنا نتبعه ونسير خلفه ونشاركه ...وجاء اليوم الأخير الذي لم ألتق بعده به ...
كان يوما غائما وكانت الشمس ترتعد خوفا من هذا الهول...وجوه غاضبة وطلقات نار وشاحنات أمن ومداخن وحجارة وقنابل مسيلة للدموع ودكاكين مغلقة...لم يهرب أحد...خرجنا من المعهد صارخين بكل غضب...سلكنا الطريق نحو الشارع الرئيسي...التحمنا بالجموع الغاضبة القادمة من كل مكان....
نفذ صبرهم...أطلقوا الغاز المسيل وأشهروا أسلحتهم وهم يركضون خلفنا...
قبضوا على مبارك صالح...جروه نحو شاحنتهم وهم يركلونه ويسبونه بكل وحشية...
لم أشاهده منذ ذلك اليوم ولم أسمع عنه خبرا واحدا...
لم يرجع إلى الدراسة ...ربما لم يفرجوا عنه .
أما سكينة بنت العمدة فلقد رفتت ثلاثة أيام...
كل هذا يحفظه التاريخ يا سكينة...
...مازلت أذكرك رفيقة وحبيبة ...مازلت أذكرك رغم ما جرى...
سكينة كانت معنا...كانت تكرههم...لم يكن يعنيها أنها ابنة العمدة بشير رجل السلطة الكبير في قريتنا .كانت ثائرة ولم تكن تتخلف عنا ..وزعت المناشير وهتفت في المسيرات...حرضت التلاميذ والتلميذات وعقدت الاجتماعات السرية في المبيت و كتبت اللافتات القماشية والورقية لذلك أحببتها حبا جما ...صارت تعني لي الكثير .كانت حزبا من أحزابي وكانت حلما...كانت الأحلام سهلة ... بأشهر قليلة من العمل تستطيع الزواج ...وتلك قريتنا...بعيد العشرين يفكرون لك في الزواج..قد لا يكون لك عمل أو مسكن وتستطيع الزواج...كان الحلم كبيرا وكانت الرسائل والمغامرات...
كنا نأمل الزواج في الجامعة وقد سمعنا الطلاب يتزوجون هناك...وانتظرنا الباكالوريا لكنهم رفتوني....
نجحت سكينة ...تخرجت واشتغلت وصرت لا أساوي شيئا.... مجرد سكير مفلس لا شيء لي...
انقطعت العلاقة...العمدة بشير تدخل لوضع حد لها...هو يرفض أن يزوج ابنته الأستاذة لمعارض و"كلب سوق" على حد قوله.. يوما هددني وهددها ولكن الأمل ظل قائما زمنا طويلا.
ما لم يبح به عثمان الشرقي إطلاقا...
سكينة تتكلم
أنا سكينة...لم أكن أنو المساهمة والكلام في هذه الرواية لكن ثمة ما استفزني لأتكلم مثلما لم أتكلم إطلاقا...لي بعض الأوراق التي رقصت أمامي...
لن أتحدث عن الأمس القريب...لن أتحدث عن زمن الدراسة الثانوية...هي لحظات حلوة وأيام جميلة لكنها مرت ونسيت...لا أريد فتح تلك الملفات...أريد لها النسيان...لا أريد أن يذكرها أحد...أنا الآن مدرسة في معهد و بعد أيام قد أصبح مسؤولة...زوجي طبخ الطبخة وأعد العدة والتعيين قريب...
سأتكلم ...سأتحدث عن حادثة علقت بذهني ...قد أكون ندمت بعد أن غادر...يومها كان بإمكاني أن أدفن جرحه وأقنعه...أعرف جيدا أنه يحبني حد الجنون ...
بالأمس بادلته نفس المشاعر والأحلام والأفكار..أحببته بعمق ومازلت كلما ذكرته إلا وخطرت لي تلك السلسلة التي أقمناها مرارا ونحن نتظاهر ونسير في مقدمة مسيرات المعهد...أنا وهو و مبارك صالح..لكن الحياة تغيرت
و الواقع اليومي كان حاسما...
مر كل ذلك وتبدلت المواقف والانتماءات وانتصر خطاب المصلحة والقوة على خطاب القيم والأحلام...لكن عثمان ظهر ذات يوم من أيام ذاك الربيع...
كانت أياما غائمة رغم الربيع...الغيوم في كل مكان والوجوه عابسة والمكان على فوهة بركان...تشعر وأنت تعيش هذه الأيام بنار تستعر في كل القلوب والوجوه...
عدنا إلى الكلية منذ أيام لكننا لم ندرس ولو ساعة...
رقادة ترتدي معطفا حزينا..يدب صخب ثم يدوي صمت مريب......أصوات متشابكة وغبار كثيف وغاز مسيل للدموع وكلية الآداب تفتح ساعات قليلة ثم توصد أبوابها ويكشر حارسها الضخم على أنيابه ويصبح الدخول إليها كالدخول إلى سجن أو ثكنة يفرض الإدلاء بأوراق الهوية وانتظار إشارة الدخول...
يبدأ الصباح موحشا...الأبواب مخيفة...البواب مستنفر...تترجل في الداخل يصلك الهمس أو يمدك زميل بمنشور...
عند الساعة العاشرة تكون قد أجفلت...يصعد طالب ملثم أو يحمل شالا فلسطينيا ...يتحلق حوله الزملاء...يصرخ ملء شدقيه...ينفعل...تقاطعه الهتافات الطلابية الغاضبة...
"أيها الزملاء والرفاق
تتواصل الهجمة الامبريالية التي تقودها الولايات المتحدة على الشعب العراقي مخلفة مئات القتلى ومرتكبة مجازر وحشية ضد العراقيين وضد الأمة وضد الإنسانية وتواصل بغداد العروبة صمودها ومقاومتها الباسلة..."
يحصل أحيانا أن تتقاطع الأصوات وتتداخل الشعارات ويشتبك كلام الفصائل...
"عاش العراق...عاشت الأمة العربية الخالدة"
"لا أمة عربية ولا أي شيء...عاشت الديمقراطية ...وعاش النضال ضد الدكتاتورية وعاشت القوى المناضلة..."
"بالروح بالدم نفديك يا صدام"
"يا صدام يا حبيب دمر دمر تل ابيب"
"عبد الناصر عبد الناصر واللي يعادي هو الخاسر"
"عبد الناصر خلى وصية..."
شعارات تتداخل وتتصارع.. تصنع أهزوجة الغضب...يزداد الحماس وتزدحم الكلية ثم تأتي ساعة النار والدخان ويقتحم أصحاب العصي المكان فنطير كالحمام عندما تداهم أوكاره...يهتف بعضهم"بن علي يا شارون دم الشعب لا يهون" .
نتفرق في ساحات الكلية...تجمعنا الأشجار والأودية والحقول المجاورة...نعود منهكين بعد الغروب...
تلك أيامنا الأخيرة...
كل قلوبنا في بغداد ودروسنا معلقة...
فجأة عم اليأس...وقعت الواقعة التي لم نتخيلها ...سقطت مدينة المنصور وتغوط "المارينز"تحت نخيلها وتبرزوا على سعفها وجدرانها واقتحموا بيوتها وعروا رجالها ونساءها...صارت بغداد فلما "هوليوديا" عنيفا وجرحت القلوب وخيم صمت داكن...واعتكفنا بغرفنا استعدادا للدورة الرئيسية من الامتحانات...
ذات ظهر من تلك الأيام وتحديدا قبل السقوط بيوم أو يومين أفقت مذعورة على صوت مصدح الحي الجامعي:
"سكينة...زيارة"
خرجت مسرعة ومحتارة في آن واحد...من سيأتي في هذا الوقت؟
عدلت من مشيتي وأنا أتجه نحو غرفة الاستقبال...أعلمتني العاملة أن ثمة من ينتظرني أمام الباب.. أطللت من النافذة...تأملت الوجوه ..لمحت وجهه وشاربه المفتول...
أمازال يحن إلى صفحات الطفولة البريئة...ألم ينس...ألم تمح ذاكرته...ألم تفعل فيه السنوات؟ألم تترك صفعة والدي العمدة بشير في نفسه شيئا...هل نسي ذلك اليوم الذي اعترضنا فيه فجأة وصفعه وكاد يقتلني ضربا مبرحا؟ظل أياما يهددني بالطرد ويعلن علينا حربا في البيت...
مرت السنوات وتغير المكان الأشخاص و تبدلت الدنيا...فكيف خطر له اليوم أن يفعلها ويعيد فتح هذا الملف...
أكيد أنك تنتظر لحظة تاريخية.. ولكني مضيت يا رجل... هل ينقصني هذا؟ لو شاهده حبيبي لانقض عليه وعلي...ولو شاهد هو حبيبي لبث الأمر في القرية وصارت حكايتي على كل لسان....
من أين خرجت يا رجل...يا مرحلة عابرة لم يبق منها غير الأطياف؟ حسم الأمر...والدي العمدة السابق يكفر بك كفرا...يعدك شيطانا...والأمن الجامعي قد ينتبه إليك ويلقي عليك القبض...هل أنت قادم لي أم أنك محمل بالمناشير كعادتك؟
آه يا رجل...
انتهى الحماس القديم...وانتهى الحب الطفولي...صار القلب كدولة ديمقراطية لا يمكث فيه الحبيب أكثر من سنة واحدة...وصار الحب هنا مجرد إضاعة وقت...بعد أسابيع قليلة أكون زوجة رجل آخر...زوجة رجل استطاع خوض معركة الحياة وصنع نفسه وسط الصراع...
أعرف جيدا تفكيرك..ستقول إنه انتهازي ومتسلق وهو في النهاية مسؤول حزبي ستعصف به نشرة إخبارية وبلاغ تعلن عنه التلفزة والإذاعة نقلا عن وكالة تونس افريقيا للأنباء"قرر رئيس الدولة تعيين السيد...."
ستقول إنه لن يذكر في هذا البلاغ ولن يقولوا "سيدعى لمهام أخرى مثلما عودوا الشعب سنينا طويلة..."
ولكني أقول لك إنه صار بخير ولا يحتاج إلى منصب...صار يملك الكثير... سيارات وأراض و أرصدة ومع هذا فلن يعزل ...ينتظره غد أفضل...قد تفاجئ به في منصب أهم...هو ينتظر أن يكون عضوا في اللجنة المركزية أو البرلمان أو أي مهمة أخرى وستجثو أنت وأمثالك وأمك أمامه طمعا في إشارة منه...آنذاك قد أكون معك وقد أتوسط لك وقد أساعدك فأنت في النهاية حب أول وزميل دراسة قديم أما الآن فلن تظفر بشيء وستعود خائبا...ستقف طويلا أمام المبيت دون أن تراني وسأطل عليك خلسة من نافذة عالية.
عدت إلى غرفتي...أطللت من النافذة...وقف حتى تعب وغادر منهكا..
...شهادة عبد الستار
درست مع عثمان في معهد سيدي بوزيد ولم تنقطع صلتي به رغم انقطاعه عن الدراسة ولما عينت في القيروان أستاذا للغة العربية وقبل أن أتزوج حبيبة الكافي كنت أكتري منزلا في المنصورة على مقربة من المعاهد...هناك في حي ريم بالمنصورة قريبا من مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان حيث يقطن الكثير من الطلبة والشبان الذين مازالوا يتمتعون بالعزوبية... وكان عثمان يزورني من حين لآخر...قد يجدني في البيت أو يبحث عني في المقاهي حتى يجدني ...هو مفتش جيد وصبور...أعرف أنه شارك مرات في مناظرات انتداب المفتشين لكنه لم يقبل لأن عمدتهم وضع خطا أحمر على إسمه...كان يمكن أن يكون عونا سريا يقتفي أثرنا ويكتب ضدنا التقارير مثل عديد الأصحاب والزملاء الذين خافوا البطالة فبحثوا عن مناظرات الأمن ونجحوا وصاروا يعربدون علينا وانقلبت حياتهم وأفكارهم لكن رب ضارة نافعة...
ظل عثمان رجل شارع وغلبه اليأس...كان يأتيني أحيانا لنحتسي حتى الفجر ونعيش مناخا ثوريا...أسمعه أولاد المناجم والبحث الموسيقي وناظم الغزالي والشيخ إمام وغيرهم ونقضي الليل في الحديث والهراء...في الهزء والمرح والذكريات...
آه يا ليالي عثمان
كم غنى في تلك الغرفة وكم بكى وكم ضحكنا ضحكا بلا حدود و كم أعاد حلمه المنكسر... له حلم ميت و لذيذ ..."
اللعنة...ليس لي هذا الحلم...هذا حلم تلزمه الشهادة العلمية التي حرمنا منها"
كم تمنى عثمان لو كانت له شهادة علمية تمكنه من أن يصبح ضابطا كبيرا في الجيش...حينما يحتسي ويدخل دنيا الهذيان أذكّره بهذا الحلم...
-وماذا ستفعل يومها لو صرت ضابطا كبيرا؟
-أحاصر قصر قرطاج وأصدر بيانا عبر التلفزيون...أعلن الاستيلاء على الحكم...
يرتجل بيانا على الفور:
"أيها الشعب التونسي البطل....."
"نحن عثمان الشرقي........"
نضحك كثيرا... يتخيل نفسه وقد فعلها واستقام له الأمر...
يومها ترجع سكينة صاغرة وتجثو تحت قدميه و يركع علالة ويرسل له الوسطاء كي يتقرب منه.
_وهل ستستجيب له؟
_أبدا... سأسجنه إلى الأبد
_وسكينة؟
_آه.. تلك ستصبح سيدة أولى في البلد...
نضحك.
-لا عيب في ذلك أستاذة أفضل من حلاقة...
-ولكن هل ستطلق يدها ويد والدها العمدة بشير من جديد ؟
_لا أبدا...العمدة بشير سيوضع في الإقامة الجبرية...
يهذي عثمان ويحلم...كم تمنى لو يعثر على واحدة جميلة لكنه لم يظفر بها ولو مرة...وكم توقف ذهنه وتفكيره وهو يحدثني عن حبيبة العمر سكينة ابنة العمدة...مازالت رغم السنوات البعيدة تطفو في ذهنه فيستعيد الحلم ويعود للتفكير في أبواب الوصول إليها وإعادة المجد الذي مازال مرسوما في ذهنه...
في هذا المناخ يحرك عثمان أحاسيسي الإنسانية..يحدثني عن معاناته وعن "سيدي بوزيد" المغلقة في وجهه وعن تفكيره في الانتحار لولا الوالدة العجوز...أحيانا أعطيه ورقة نقدية ضخمة يضمن بها احتساءات موالية في سيدي بوزيد...
كانت الزيارات كثيرة وكنت أتكفل بها وبتكاليفها التي لا تهم الآن فذلك زمن لعين وتلك متاهات العزوبية ولكني سأتحدث عن زيارتين...
كانت الزيارة الأولى أيام حرب الخليج الثانية ....في تلك الليلة جاءني محتسيا بطبعه ويبدو أنه قد احتسى في سيدي بوزيد...جاء من أجل سكينة ولكنه لم يقابلها ولم يجد لها أثرا...كان يلهج :
_ جئت لتحريرها من الغزاة...
هو يعرف جيدا أن العمدة بشير حزم أمره و وافق على خطوبتها من رجل آخر لكنه مازال مصرا على الحلم...يحلم بانقلاب عاطفي ويصر على أنها ستكون من نصيبه في النهاية ولكن بماذا ستنقلب يا عثمان؟ بأي مال وبأي جاه وبأي ذكريات...؟؟
فجأة أعلن خبر جديد في الفضائيات فنسينا سكينة ونسينا الخمر والمرح...
محمد سعيد الصحاف يعقد مؤتمره الصحفي ويتحدث عن ملحمة المطار والمفاجأة العراقية المنتظرة.. بتنا ننتظر ولم نكن نقدر أن فصلا خطيرا بدأ وأن اللعبة انتهت كما قال محمد الدوري بعد أيام...بتنا نحلم وبات عثمان يهدد بالرحيل إلى العراق والتطوع للقتال إلى جانب العراق.
نعم فكر عثمان في هذا محتسيا وصاحيا.. .حين غادرني ظهر الغد كان يتوعد بالرحيل إلى الجبهة...
سمعنا أن صدام شارك في معارك المطار وأن العراقيين باغتوا الأمريكان وحاصروهم وبقينا ننتظر...لا أظن أن عثمان وصل إلى سيدي بوزيد حين أعلن الخبر المدوي.الصحاف مضى في "الايسيزي" ولم يعد..بغداد سقطت في أيديهم..".المارينز" يتوافدون على ساحة فلسطين والعملاء ينزلون من الدبابات الأمريكية التي جاءتهم...
خيم الصمت والحزن.
انتهت اللعبة. هكذا قال محمد الدوري وهو يحمل أدباشه مغادرا مقر الأمم المتحدة...
وانتهى الحلم
حين وصل عثمان سمرقند وجدها قد خلت من جلسائها والرياح قد زغردت في مقاعدها...الشارع يجتر خيبة أخرى...عم الحزن واستسلم الجميع لرائحة الهزيمة...
نافذة
"أطلق لها السيف
لا خوف ولا وجل
أطلق لها السيف وليشهد لها زحل
أطلق لها السيف قد جاش العدو لها
فليس يثنيه إلا العاقل البطل
أسرج لها الخيل ولتطلق أعنتها
كما تشاء ففي أعرافها الأمل
دع الصواعق تدوي في الدجى حمما
حتى يبان الهدى والظلم ينخذل
وأشرق بوجه الدياجي كلما عتمت
مشاعلا حيث يعشى الخائر الخطل
واقدح زنادك وابق النار لاهبة
يخافها الخاسئ المستعبد النذل
أطلق لها السيف جرده وباركه
ما فاز بالحق إلا الحازم الرجل
واعدد لها علما في كل سارية
وادع إلى الله أن الجرح يندمل
لقد جاش العدو لها
فليس يثنيه إلا العاقل البطل"
كلما تذكرت هذه القصيدة التي ألقاها صدام في فجر الغزو تختلط الأشياء في ذهني وتهفو خواطري إلى ذلك الزمن وتلك المرحلة الحاسمة...وزاغ قلب البغدادي ونحن نعرج عليهم ثم نمضي إلى أماكننا نكابد جراحا عربية غائرة ونغوص في زمن من الحلم والوهم في نفس الآن...
مرت سنوات طويلة ووقعت أحداث كثيرة...انكسرنا و غضبنا وثرثرنا كثيرا...انتظرنا النصر العربي...انتظرنا المفاجآت الكبرى...تخيلنا أن الأمر كان مجرد خدعة...
حلمنا كثيرا بأن يدلف الرجل من مكان ما شاهرا مسدسه ومعلنا للنشامى وأبناء الماجدات نصرا لن ينسى ...
ذات يوم ربيعي لعين غادرت البيت بعد الظهر رفقة العم الذي كان في زيارة لنا...تركته بعد خطوات ونزلت إلى المدينة.. بحثت عن البغدادي القديم...لم أجده...كانت المدينة صفراء الوجه...
جاء البغدادي من الغد ...
رددنا الكآبة وتمسكنا بخيوط حلم...لم يكن من السهل تقبل ما جرى...لذنا بالخيال والوهم أياما وشهورا...لا لم تسقط بغداد ولم يختف أحد...صدام رابض هناك وسيقفز عليهم ذات فجر...
حينما اغتالوا عدي وقصي لم نصدق وحين قبضوا على صدام قلنا لأنفسنا إنه شبيه وظل هذا الهامش من الأمل يلاحقنا حتى النهاية ومازال...فليكن نحن بدو سذج ونحتمل كل شيء...
عبد الستار 2
…أما المرة الثانية فكانت بعد ذلك بعام أو عامين....والمناسبة كانت دورة جديدة من ربيع الفنون ..المهرجان القيرواني الكبير الذي هزت دورته الأولى المشهد الثقافي وقادت القيروان من جديد إلى قمة الثقافة والشعر عندما وصلها نزار قباني...وظل هذا الموعد أعواما فرصة للاستماع إلى الكبار...دعوت عثمان بنفسي مشتاقا إلى جلساته الكبيرة...
اتجهنا إلى المركب الثقافي...أمام مقهى الاتحاد قابلنا منصف الوهايبي يتجه غربا وعلى وجهه علامات التأفف...هو في طريق العودة إلى بيته...همس مرافق لنا"أكيد المنصف لن يحضر...فهو غاضب من المشهد..."
-لقد شرعوا في إقصاء المنصف...
-هو معارض وهم منزعجون منه
تذكرت قصائد المنصف الغاضبة ... تذكرت قصيدة الأمة:
رماد ضوئك هذا الليل أم حجب أم ماء حزنك منهل ومنسكب
أطاعك الموت أم حط الأفول على ذراك أم نهشت من لحمك الحقب
ولم يزل لك في الأفاق متسع ولم يزل لك في الآفاق مضطرب
وما طريقك في الآفاق ملتبس ولا طريقك في الآفاق منشعب
وصلنا إلى الساحة..وقفنا أمام المركب الثقافي أسد بن الفرات نتفرج على الجمهور الغفير وعلى الفرق الشعبية التي تستعرض والتي تأتي من كل الجهات...فجأة اكفهر وجه عثمان واختنق صوته وتوتر...أحس عثمان كأنه تلقى طعنة جارحة...تيبس ريقه..صار يلح في أن نغادر...وصار يزمجر...
عرفت بعد ذلك حين سقيته ما يريد من قوارير أنه شاهدها.
سكينة بنت العمدة رفيقة الأمس وحبيبة القلب تنتهي تماما...لقد سقطت ...لم يعد في الأمر صلاح...انتهت اللعبة مرة أخرى ...هكذا كان عثمان يردد وهو يحكي بانفعال...
شاهدها هناك ترفل في زي خليع وقد تزينت...كانت تقهقه مع مجموعة من الطلاب والطالبات الحزبيين...عرفهم من لباسهم وشارات فساتينهن ...كانت مع مجموعة طالبات جيء بهن لتزيين المشهد وهكذا يفعلون في كل مكان...يختارون الحسناوات من الطالبات ليتصدرن المجالس ويقبعن في الصفوف الأولى كاشفات عن مفاتنهن للمسؤولين القادمين لحفل الافتتاح...
آه يا ابنة القرية...
آه يا رفيقة الزمن الجميل...
لم أقل لعثمان أنني أشاهد تلك الفتاة دوما ترفل معهم من مجلس إلى آخر ومن نزل إلى نزل...لم أقل له إنها صارت مومسا معروفة في هذا المكان وأني شاهدتها في أكثر من مكان تتأبط ذراع الزناة الذين يزنون بالبلاد وبالجهة وببنات الشعب وأنها ستكون الليلة جارية لأحدهم في النزل الذي سيقيم به ضيوف المهرجان...
لم أقل له"تفه" على هذه فهي من طلبة الحزب.لم أقل له إن علالة المسؤول الحزبي في سيدي بوزيد يزورها دوما وهي تقضي معه نهايات أسبوع رهيبة في نزل بعيد...لم أقل له.. ولم يعد ينفع القول الآن... كنت أقول بيني وبين نفسي فليبق له طيف في ذهنه مادامت كل الأحلام قد انكسرت...
بدا عثمان الليلة جريحا مدمرا وظل يكتم جرحه ومازال كلما التقيته وهو في أوج احتسائه يتلفظ باسمها رغم أنه يعرف تماما أن الأمر قضي وأن لعبته هو أيضا قد انتهت ...
نافذة سمرقند
لست أدري منذ متى تحديدا تحولت سمرقند في مخيلتي إلى ركح كبير...كل هؤلاء صاروا مجرد شخوص روائية ومسرحية...وصرت أبحث عن وجوه روايتي...أشاكسهم...أحورهم...أبدل من وجوههم وأخفي بعض حكاياتهم ...
يجلس الناس في سمرقند لشرب الشاي والقهوة والدردشة وأجلس لأطلق العنان للخيال...
كانت سمرقند جميلة وموحية لكنها حانقة...
آه من هذا اللعين يهجم علي ككلب...يقترب مني مصافحا ومبتسما ابتسامة عريضة يسألني:
-أين صديقك المسرحي؟وهل كتبت شيئا جديدا...؟
أنا لا أحب الجلوس على الرصيف...عادة ما أفضل الفضاء الداخلي حتى أجد فرصة للقراءة والكتابة وحتى لا تطير الأوراق مع الرياح...ومازلت على عهدي...أفضل الجلوس في الداخل ...
في ذلك اليوم كنت في الداخل...أكدس جرائدي وأوراقي وحذوي عبد اللطيف وكنا نبحث عن المعاني الضائعة في الزحام...كنا نقرأ بعض الصحف وبعض الأوراق وكان جيب معطف عبد اللطيف مكتظا ببعض الكتب التي ترافقه هنا وهناك...هو الزمن اللعين...يكاد عبد اللطيف يكون استثناء في هذا المجال فهو الوحيد تقريبا الذي يدمن الذهاب إلى المقهى ومعه كتاب أدبي...
كنا نقرأ ونثرثر...نتحدث عن ثقافة الجهة والبلد ونهزأ من ثقافة الرداءة التي تطير ببعضهم إلى وهم المجد...فجأة ارتفع صوت القرآن الكريم من الإذاعة الوطنية...
سمرقند ذات ربيع
ينهمك الرجال القابعون في "لعب الدومينو"وتأتي أصواتهم عالية
-العب
-دوبل سيس محاصرة
-لا بد من عملية فدائية تقتلها...
-هل نحن في غزة؟
-لو كنت هناك لفعلتها منذ أعوام
فجأة انتبه الجميع ...قرآن في الإذاعة..
....توقف الإرسال وانطلقت موسيقى حزينة ثم ارتفع صوت قارئ القرآن...انتبه الناس في حيرة فالإذاعة التونسية لم تعودنا على بث القرآن في مثل هذا التوقيت الصباحي في حدود العاشرة....انقطع الحديث وتسمر جلساء المقهى انتظارا للخبر ...تردد السؤال مدويا لدقائق:
- من قضى نحبه من الحكام العرب هذا الصباح؟
-أكيد أن أحدهم تعرض للاغتيال
قال عمار المرناقي وبصوت خافت وهو يهمس لجلسائه:
-إن شاء الله الزين
-اسكت...المقهى يعج بهم...
خيمت حيرة عميقة قطعها المذيع بصوته المألوف:
"هنا تونس إذاعة الجمهورية التونسية
تنعى رئاسة الجمهورية الزعيم الحبيب بورقيبة الرئيس السابق للجمهورية..."
تعالت أصوات هنا وهناك:"الله أكبر...لا إلاه إلا الله"
همس بعضهم:"مات منذ أيام...سمعت هذا الخبر لكنهم ظلوا يتسترون عنه حتى تنقضي قمة المعلومات".
رد آخر:"يخافون حتى من الجثث".
فتح النادل جهاز التلفزة...إنهم يبثون نبذة عن تاريخ الزعيم...صوره وهو يصعد وينزل أمام الناس ويصيح ويضرب الطاولة..وهو يعود في يوم النصر.. وهو يلتحم بالناس..وهو يخطب في مؤتمرات الحزب ..ثم صوره وهو يهرم وقد أحاطت به جوقة من حاشيته الشهيرة.ثم ختم الشريط كالعادة كلما تعلق الأمر بمسيرة بورقيبة وتاريخ البلاد بصور تعبر عن الحيرة وخطاب التراجع عن الزيادات عقب أحداث الخبز"ما ثماش زيادات نرجعو كيما كنا..."...ونبذة عن تونس السابع من نوفمبر.. وكرروا تلك الأسطوانة المعروفة.
لم يتمالك كهل نفسه.لم يخش وشاية جليسيه وهتف"يحيا بورقيبة..."
تمتم عمار المرناقي:
"موت بورقيبة...خسارة كبيرة للبلاد...هو الذي حررها وبناها وشيدها وأعلاها وأعطاها رايتها ووجهها بين الأمم"
انتفض علالة الزيني وكان يجلس على مقربة :
"والسابع من نوفمبر أيضا...لقد أعاد للبلاد وجهها"
قاطعه جليس آخر ينتمي إلى حزب معارض ولا يخشى: "سيب عليك...وهل مازال للبلاد وجه؟ماذا فعل السابع متاعكم..."
رد علالة بصوت متشنج:
"لقد أنقذ البلاد والعباد..."
عقب كهل آخر:
"كفى كذبا.. "قلوبنا طابت".أين هي البلاد؟أين هو الحزب ؟أين عروبة البلاد ؟أين أموال الشعب؟ ..."
صمت عثمان وغلا كالمرجل...أه أكاد أقفز له ..الكلب...
_أسكتوه وإلا̃....
استشاط عمار المرناقي: "آه يا علالة...يا كلب...هل نسيت؟؟أنا مفتش سري متقاعد...كنت أعرف كل شئ في سيدي بوزيد...كنت لا أهدأ وكنت مستعدا للمساس بكل من تسول له نفسه الإساءة للزعيم...أحلت على التقاعد بعد الانقلاب بسنوات قليلة...أعرف كل شيء عنك وعن زينك...اسكت يا كلب...أكيد تذكرني جيدا ... من يمس بورقيبة أتبرز عليه...ماذا أعطاني السابع...خرجت من العمل فقيرا مفلسا ومريضا...لو لم يكن الزعيم لبقيت بطالا مثل أولادي القابعين منذ أعوام في المقاهي ..."
رد علالة:
"ياسي عمار...لا تغلط...السابع من نوفمبر اهتم بالشباب وأعاد له مكانته"
وقف عمار غاضبا:
"اخرس يا كلب...توة يجيك نهار...لتذهب أنت والسابع من نوفمبر إلى الجحيم..."
تذكرت عزت إبراهيم الدوري وهو يهتف في أحد القادة العرب ذات قمة عربية حاشدة وفاشلة كعادة كل القمم العربية التي لم تقرر شيئا مفيدا طوال التاريخ العربي "اخرس يا عميل"...إيه يا زمن...تلذذت هذه الكلمة وسمعت عمار المرناقي يومها مليا ...تناسيت أنه قد يكون مازال على اتصال بهم ومازال يؤدي الخدمات فمن يعرف خبايا هذا الزمن البوليسي الرهيب...
ذاكرة عمار المرناقي
"اخرس يا علالة..."
...رأيته أول مرة في بداية الثمانينات ...كان شابا قادما من الريف من أسرة فقيرة.نحيف الجسم...انقطع عن الدراسة بعدما فشل في الحصول على الباكالوريا مرات عديدة...عينه أهله عضوا في شعبة ترابية مكلفا بالشباب...فقرر أن يلعب ورقته الأخيرة...الحزب...الحزب...الحزب هو الحياة والموت...كثف من الركض هنا وهناك...ذرف دموع التسول حتى يسمحوا له بالذهاب إلى المنستير كل صيف للمشاركة في الاحتفال بذكرى الثالث من أوت ...تلك الذكرى التي كانت موعدا للمديح وإبراز الولاء والتفنن في تحويل الدولة الوطنية إلى دولة شخص...أقول هذا وأنا المتيم ببورقيبة والمخلص له لأن الحقيقة تفرض نفسها فثمة أخطاء حصلت.. فعلتها تلك الجوقة التي أعادت تنظيم صفوفها وبدلت لغتها وتسلطت على الناس وراحت تمدح زمن الزين وتطلق عليه النعوت.
"اخرس يا علالة"
هل تذكر أنك كنت تركض في الأنهج والشوارع و ترفع صورة بورقيبة وتهتف بحياته؟وهل تذكر أنك كنت تضرب النقابيين وتقضي الليالي في الحراسة؟وهل تذكر أنك كنت كلما قابلتني إلا وسردت علي وشايات كثيرة...
كنت تجري هنا وهناك تحلم بالشغل والثراء...ملأت الإدارات بمطلبك المرفق بشهادة العمدة بشير:
"يشهد العمدة بشير أنك دستوري وبورقيبي ومن الشباب المناضل..."
أخيرا عينوك كاتبا لدى العمدة بشير...فاغترفت مما يغترف وشبعت مما شبع.كنت أذكى منه واستغليت أميته وسلبته أشياء كثيرة...عملت على عزله وتآمرت عليه وهو لا يدري...زوجك العمدة بشير ابنته...كان مغفلا...
دعني منك يا علالة أريد أن أتحدث قليلا عن العمدة بشير...قد اشتقت إليه...
ينحدر العمدة بشير من شرق سيدي بوزيد...لا مستوى معرفي له.هو أمي لكنه يملك علاقات كبيرة...يعرفه بورقيبة شخصيا ويناديه كلما زار الجهة...يروج أن علاقته به كانت أيام النضال ضد المستعمر...ولولا المستوى العلمي لكان وزيرا... كان من الرؤوس الكبيرة في سيدي بوزيد وممن بيدهم الحل والربط...توسط للكثيرين في العمل والقضايا العدلية مقابل الخرفان والبيض وأشياء أخرى.. إذا أقام وليمة في بيته ودعا إليها أحد المسؤولين فوراء ذلك صفقة خفية.
ظل يحكم قريته ويتحكم فيها وظل الناس يخافونه ..لكن الأجيال الجديدة تحدته...شباب القرية من التلاميذ والطلبة يشاركون في المظاهرات وينضمون للأحزاب المعارضة...كلف بهم علالة فراح يكتب التقارير ويورط هذا وذاك...
أوراق عن العمدة بشير
عمـــــــران
يقترب عمران من الأربعين...
الرأس غزاه الشيب والعمر يركض ...
تعب من السير في شوارع سيدي بوزيد حاملا برادا وبعض كؤوس وهو يهتف "شاي...شاي...شاي بالنعناع"...يخرج فجرا... يبدأ رحلته من المحطة القديمة للحافلات...يقبل عليه المارة والمسافرون وعشاق الشاي العتيق...يقترب منه حتى المتسولون فيصب لهم الكؤوس و ينهالون عليه بالدعوات الصالحة التي مازال إلى اليوم ينتظر أن تثمر..
كان كلما ادلهم الظلام وحمل أمتعته وسارع إلى جامع الولي الصالح سيدي بوزيد...يسمح له الحسين أن يبيت في إحدى الغرف...يبيت مع من يبيتون هناك من رجال ونساء أتوا من القرى واضطرتهم الظروف للمبيت ...ينامون في اطمئنان في مقام جدهم الولي الصالح سيدي بوزيد...بعضهم جاء إلى المدينة لقضاء شأن عاجل و البعض الآخر استقر هناك وصار وجهه مألوفا في الجامع...صار من الذين يبيتون بصفة قارة في غرفة يشاركه فيها شيخ...آه عم العربي ...
عم العربي هو أيضا من المعذبين في هذه الأرض...شيخ تجاوز السبعين."لا أهل ولا أبناء لي" هكذا يقول غاضبا...صحيح أن زوجته لم تنجب له ولدا ولكن لديه أولاد الأخوال والأعمام والأخوة ويبدو أنهم لا يبالون به...
حين ماتت الزوجة ربح ضاقت به الدنيا...قضى أياما عند هذا وذاك ثم غضب...قصد المدينة ...سكن الجامع...يقضي يومه هناك...يثرثر مع من هب ودب...له غيض شديد على ابن أخيه...يتمنى لو يستطيع الزج به بين القضبان...له معه قضية عدلية تتواصل منذ أعوام...
ابن الأخ يحلم بأن يفتك لعمه قطعة أرض يقول انه استولى عليها أثناء قسمة ميراث الجد ويطالب بإعادة القسمة...يحلم بموت عمه حتى يترك له الأرض لكن العربي يضرب بعصاه..يريد أن ينتقم...لا حاجة له بالأرض ولا قدرة له على خدمتها وهو لم يضع فيها قدما منذ أعوام ولكنه يصر على التحدي...
ينام العربي بصعوبة...لاح عليه الكبر...صار يهذي كثيرا. يقضي ليلته في ذكر الموتى ومناداتهم.. ينادي ربح كثيرا ويتمتم بكلمات تخاطبها..هي بداية النهاية..."
كان عمران يخشى صباحا ليس ككل الصباحات حينما يصبح هذا الشيخ جثة هامدة ويبدأ البحث والتقصي ويهرع رجال الأمن من كل حدب .
...أين هي رعاية الدولة للمسنين؟ أين ما يقال في التلفزة؟...عم العربي ليس وحيدا وأمثاله من الشيوخ كثيرون...ها قد فعلتها الأقدار...ها قد صمت الرجل للمرة الأخيرة وهرع البدو من قريتهم وهم في حالة حزن وغم وأخذوه لدفنه هناك...تذكروه الآن حينما بلغهم الخبر...سمعت الحسين وكيل الجامع ينهر شيخهم بحدة... لم يخجلوا من تناسيهم له...لم يشكروني لأني كنت أعواما أرأف به وأعامله كأب...أصروا على أنه كان بخير....وطالبوا بالتحقيق معي...ولكن التشريح الطبي أنقذني...
بعدها صار البيت خرابا...لم يعد ممكنا البقاء...ذكراه في كل مكان...انضم إلى مجموعة من الشبان يكترون بيتا في حي شعبي...هم عمال قادمون من إحدى القرى مازالوا في أول الشباب يشتغلون صبحا في الحظائر ويمسون صيادين للحسناوات وفي الليل يأكلون صيدهم ويشربون الخمور ويرقصون على نغم المزود...في حين ينزوي هو في إحدى الغرف يحاول النوم ويتذكر حياته...يتمنى مشاركتهم ولائمهم خصوصا وهو يسمع قهقهات الحسناوات ...لكنه بائس ومنهك ...من هذه التي ستقبل برجل مثله...
يقضي ليله حزينا ومهموما...يلعن الفقروالعمدة بشير.يراهما وجهين لعملة واحدة.
الفقر اللعين هو الذي جعله يخرج من المدرسة...وجد الفرصة مناسبة في ذلك الصيف ليستمر في رعي أغنام العمدة بشير مقابل بعض الدنانير والملابس التي يجيئه بها العمدة من حين لآخر...يقال إنه ينتزعها من مساعدات الدولة مثلما ينتزع أشياء كثيرة...
حين كان أصحابه يركضون ويتجهون نحو المدرسة كان يطل من كروم الهندي ويتذوق الحلويات التي أهدتها له إبنة العمدة ويحرس الأغنام الكثيرة...كان يومها يسخر منهم ويفتخر بدنانيره التي يعرف أن والده سيستولي عليها قريبا...
لكن جاء اليوم الذي نهره فيه العمدة وأطرده من المكان وهدده...
أصر عمران على أنه لم يفعل شيئا...
تمسك بموقفه حين ضربه العمدة بالسياط وبصق في وجهه...عثر عليه العمدة منفردا بسكينة تحت الحوش...
توترت العلاقة بالعمدة بشير فانقطع عن تسجيل العائلة في المساعدات والمنح وشطب إسم الوالد من الحظائر...
ظل عمران يبحث عن القوت وكبر في بيت الفقر...
الوالد فقير ولا حول ولا قوة له والأعمام غلاظ لا يرحمون...لا رحمة عندهم ولا التفاتة...كل ما يهمهم هو الصراع مع الوالد حول حدود الأرض القاحلة التي ورثوها عن الجد..بحث عن الشغل هنا وهناك فلم يجد غير الرحيل إلى مدينة سيدي بوزيد والهتاف"شاي...شاي"
عادة ما يقف صديقي البغدادي عند عمران يحتسي منه كؤوس شاي "تحرك الدماغ" وقد صارت تجمعه به صداقة...وهو كثيرا ما يكرر له هذه الحكاية القديمة مع العمدة .
ذات يوم حينما كان يقف حذوه مرت سكينة وألقت عيه ابتسامة ساحرة...
استغرب البغدادي الأمر...وتعجب كيف تبتسم فاتنة لرجل كهذا...
أسر له عمران إنها ابنة العمدة وأقسم بأغلظ إيمانه أنه كان يطأها حين كانت صغيرة.
عقب البغدادي:
-يعني أنك قصفتها؟
ثم تمتم في سره:
-"زين...ما يخالف "إذن هي موطوءة...والعمدة بشير مازال يتبختر في البلد في جبته وتشرئب نحوه الأعناق...آه يا بلدي ...أي شرف لك أيها العمدة بشير وأنت خسيس...ألا تخجل؟...ألا تكف عن الادعاء؟...
الهادي اليوسفي
حدث الحاج عبد السلام يوما وكان في خصام آنذاك مع العمدة:
هل تريدون الحقيقة...؟
وقف العمدة بشير كثيرا وهو يهتف لبورقيبة وهاهو يهتف للسابع من نوفمبر بصوت أعلى...
هو مسجل في السجلات والدفاتر كرجل مناضل ومقاوم من الجيل الأول ولكن ذلك ليس صحيحا...
آه يا بلادي لماذا تعشقين إخفاء الحقيقة...؟؟
هذا أحد الذين خذلوك يا بورقيبة...
الآن بعد هذه السنوات وبعد انسحابي من السياسة التي تركتها لأهلها بإمكاني قول الحقيقة...
من أين اكتسبت هذا المجد وهذه المكانة يا عمدة...كيف أصبحت ناطقا باسم الوطن وأنت ابن رجل عميل ومجرم...كان مجرد "صبايحي"...ادعى في لحظة تاريخية أنه مقاوم...
دم الهادي اليوسفي لن يضيع...مازال عالقا في رقبتك ورقبة والدك...
كان الهادي اليوسفي وطنيا صادقا.. هو أحد أبناء القرية...ليس هذا لقبه الرسمي وهو لا ينحدر من قبيلة أولاد يوسف أو النصايرية المعروفة في سيدي بوزيد ولكن التسمية جاءت نسبة إلى الحركة اليوسفية وإلى الزعيم صالح بن يوسف
.ناضل كثيرا في سبيل الوطن وحارب فرنسا ودافع عن الحزب الدستوري لكنه اتخذ موقفا مغايرا في لحظة الحسم...لم يقتنع بالاستقلال الداخلي واتفق مع الزعيم صالح بن يوسف وقرر أن يلتحق بأبطال الجبال...وصار يتحرك هنا وهناك ويجلب الأنصار...
وشى به والدك...عثرنا عليه مقتولا في بيته...لم تكشف التحقيقات عن شيء...كنا نعرف الحقيقة جيدا...والدك هو الذي فعلها...علمت ذلك بوصفي بورقيبيا حد النخاع وأعرف الكواليس...
حين قتل والدك العميل ثأرا ادعى من ادعى أنه شهيد ومناضل وبطل وصرت أنت ابن شهيد مزيف...صمتنا جميعا عن الحقيقة ولم نرفض تعيينك عمدة...
نحن من أوصلك إلى هنا لكنك انقضضت علينا وحرمتنا من الحياة وتجاهلتنا...ابتززت دولة بورقيبة كثيرا ولما جاء بن علي صرت تلعن الزعيم وتمجد الزين في كل مكان...وامتدت أسطورتك في كل البقاع...وصرت لجاما.
كلما تحدث أحد عن الهادي اليوسفي يتمتم العمدة بشير...لا يريد لهذا الملف الخفي فتحا...يتمتم بكلمات قصيرة وغير مجدية...
ليست حكاية الهادي اليوسفي فقط هي التي تخرس عمدتنا بل هناك حكايات كثيرة لأشخاص قتلوا سرا لأسباب مختلفة يعتقد أنه وراء هذا القتل أو أنه توسط بمقابل للمتهمين كي لا يتعرضوا لسوء...كلما ذكرت هذه الحكايات تمتم العمدة بشير و أبدل موضوع الحديث...
نافذة
الزعيم صالح بن يوسف
طوال سنوات لم نكن نسمع عنه فالتاريخ الذي يدرسونه لنا والبرامج التلفزية التي يبثونها تختصر الوطن في آخرين لكننا عرفناه لوحدنا...سمعنا به وقرأنا عنه وأحببناه ...
صالح بن يوسف
هل كان ممكنا لو لم يحصل ما حصل أن يكون لنا وطن أفضل اليوم؟...كثير من الكبار سألتهم عنك وكانت الإجابات مقتضبة...
عار على هذا البلد أن يدوس على من ناضل من أجله...
كنت مقاوما معهم...كنت واحدا منهم وكابدت الاحتلال .حين رفضت اتفاقيات الحكم الذاتي فصلوك عن الحزب وأعلنت أنت الأمانة العامة وغادرت...
قرأت في كتاب أن بن حليم أطردك من ليبيا وقرأت أنك وجدت دعما من جمال عبد الناصر...قيل إن بورقيبة وافق على مفاوضتك...قيل إنه استقبلك عند عودتك وأطل معك من نافذة وحييتما الشعب الذي فرح اعتقادا منه بالمصالحة لكن فرحته لم تدم طويلا فكلمتاكما يومها تناقضتا...كل تمسك برأيه...
وقيل إنكما التقيتما بعد الاستقلال في سويسرا...ولكن الجليد لم يذب.
كنت معهم يا صالح لكنهم في لحظة ما غدروا بك وقتلوك في فرنكفورت ذات خديعة وجعلوك تهمة يلاحقون بها الكثيرين...كم من شخص شردوه أو قتلوه لأنه يوسفي التفكير..كعادته دوما يحمل هذا الوطن سيفا يسلطه على كل من لا يريد حكامه...مرة يتابع النظام أعداءه باسم صالح بن يوسف ومرة لزهر الشرايطي ومرة معمر القذافي ومرة أحمد بن صالح ومرة راشد الغنوشي إلى غير ذلك...
طريق الاحتقان...
علالة والفستان الجديد
مرت أسابيع قليلة...ظهر علالة من جديد..أقام في المدينة...صار يهتف بحياة بن علي ويركض مع الحزبيين الجدد...ارتدى فستانا جديدا أو لنقل قلب فستانه وصار ينتقد زمن بورقيبة...لم يكن وحده فالفساتين المقلوبة موضة تلك الأيام...بورقيبيون ومعارضون وأبرياء سذج سارعوا بالانضمام إلى الموجة الجديدة طمعا وخوفا فالرجل الجديد رجل أمن ولا يرحم...قيل انه كان يجري بعصاه الأمنية على الطلاب المتظاهرين حينما كان مديرا للأمن...
قلبت الفساتين في فترة وجيزة...
ذهبت توجيهات الرئيس و"قافلة تسير" وتبدل قراء الأخبار واختفت صور بورقيبة وذابت القصائد التي كتبت عنه...سكت الشعراء الذين تغنوا ببورقيبة كثيرا وتغير كلام العمدة بشير...
صاح ياسر عرفات مرارا "زين العرب".وذبح القذافي الخرفان استقبالا لبن علي في طرابلس وانتصب الليبيون في الشوارع استقبالا له...
كان بورقيبة يحظى في سيدي بوزيد بنصيب من الحب...ثمة ما يجعل الناس يحترمونه على الرغم من أخطائه...وكان يعرف الكثير من الناس فيها.ورغم غضب النخب المثقفة منه فكان ثمة من يحبه ولكن السنوات الأخيرة من حكمه كانت مظلمة...
حين ذهب بورقيبة ذهب معه جيل كامل من السياسيين والحزبيين ممن احترموا أنفسهم لكن البعض عادوا في ثوب جديد وواصلوا اللعبة...
نسي بورقيبة واختفى من البلاد ومن تاريخها فالحكام الجدد محوا كل الماضي وراحوا ينسجون زمنا من الوهم.
واحد فقط لم يكن يدري...عبدالله المهبول ظل في خياله كما هو منذ سنوات...يخطب في المقاهي والمظاهرات والساحات محاولا تقليد بورقيبة"الأمة...الأمة التونسية وحركة التحرير...ااااااه...أنا حاربت فرنسا...حاربت الاستعمار...آه"" وأحيانا يقلده في سنوات المرض"تو...تونس...تونس يلزم تبقى حرة..."
اختفى أياما وافتقده الناس ثم عاد كئيبا.ربما اعتقلوه فهم منزعجون منه..سأله الناس فلم يجب...يتثاءب ثم يبكي ويمد يده إلى الصورة الجديدة التي غزت الدكاكين والمقاهي"بورقيبة...بح...بورقيبة بح..."
ثم وقف وتأمل الصورة ثم صفعها"أنا أحب بورقيبة...يحيا بورقيبة...يحيا بورقيبة"..وخرج يجري كعادته...
نافذة
مجرد ذاكرة طفولة
في تلك الطفولة العويصة عندما كان الشيوخ يرفلون في جببهم وهم يتجهون إلى اجتماع أو مؤتمر في مدرسة القرية كنا نرى بورقيبة عظيما...كنا نحب أن نمرح بتلك الجملة"يحيا بورقيبا"كما نسمعها في التلفزة ونحن حفاة عراة وفقراء...ربما ولدت هذه الجملة معنا دون أن يبصرها أحد...
كنا نرددها خصوصا حينما نبصر طائرة في السماء...لست أدري إن كان فيها علم فعلا...كنا نقول إنها طائرة بورقيبة ...
كنا جيلا بريئا وعلمونا أن بورقيبة بطل ومجاهد...ولم نكن نعرف من الأمر شيئا...حتى بدأت الأوجاع تتهاطل...الأهالي عائدون من كل المدن ...الكلاب لا تهدأ...التلفزة تبث صورا لوجوه مخيفة وتدعو كل من يعثر على أحدهم أن يتصل بأقرب مركز أمني والطائرات الحربية تحلق...
القذافي أراد احتلال تونس...الحرب ضد ليبيا قادمة...
هنا قفصة صوت الحركة الشعبية لتحرير تونس...
الليبيون في قفصة وهم يبثون عبر الإذاعة من قفصة...والقذافي يهدر...يتكلم بغضب ...
الإذاعة التونسية ترد"اسمعوا ماذا يقول معمر القذافي" و" من لم يستح فليفعل ما يشاء" وترد ليبيا بأن "الجراد يأكل الأخضر واليابس"و"أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"
توالت علينا في تلك الأعوام أخبار عديدة...القذافي أطرد العمال التونسيين...تونس تحترق بسبب زيادات مزالي...عاشور في السجن...محاولات تفجير نزل في الساحل...
في تلك الطفولة البائسة كنا ننصت إلى أشرطة الفكاهة ببراءة الأطفال...نور الدين بن عياد ولمين النهدي ومنجي العوني في أشرطة كثيرة ضاعت الآن...القلق... الخبزة... الميزان ...بنديري...
وكان يعجبنا غناء بن عياد"الخبزة مرة الخبزة مرة وما نجري كان على الخبزة.." وكنا نردد جماعيا"وجاني جلول الشاف...قالي أشنوه ها القراف...قتلو أسال المكان..."
كان زمنا جميلا على ما فيه...كنت أسمع الكبار يسبون علالة والعمدة بشير...كانوا يتحدثون عن المحسوبية وعن ليالي الحراسة وعن الوشايات والتقارير ويوصون بعضهم بالحذر...علالة جمع معه ميليشيا وهو يحرس القرية في الليل وتجيئه سيارات الحرس...
مرت الأيام.. سمعنا عن إقالة مزالي ذات يوم صيفي حار وجاء رشيد صفر لكنه رحل وعينوا الزين...جمع بين الداخلية والوزارة الأولى...
فجأة دارت الأرض
تردد الخبر في حذر وخوف...
-انقلاب
-أصمت لا ترفع صوتك...قل تحول وكفى...
بورقيبة انتهى...سقطت دموع وحزنت قلوب ...لم نصدق أن الأمر حصل بسهولة..كنا في المعهد حين راج الخبر همسا...في الطريق كانت الدكاكين صامتة وكان الناس صامتين وحائرين...
.لكن الآلة الجديدة كانت سريعة...سيطر الزين على الوضع وبدأ أنصاره يكثرون...
... بعد هذه الأعوام وبعد أن ماتت الطفولة لا بد أن نقول إن بورقيبة كان زعيما ورجل سياسة حقيقي وإن مارس على شعبه سياسة الأب الغليظ...وإن الزين مارس معه سياسة صلبة وحاول طمسه...وإن بورقيبة له أحباب رغم كل شيء...خاف الزين حتى من جثته ومنع بث جنازته إلى العالم ما عدا لقطات صغيرة سمعنا فيها غضب أبناء المنستير وترددت شعاراتهم"ياحجامة و ين فلوس اليتامى"
لقد ثأر أبناء المنستير للزعيم وصفعوا الزين صفعة تحتاج إلى التوثيق...لكن علالة يصر يومها على أن السابع هو الذي صنع البلاد...
علمنا بعد أيام أن تقريرا وصل الفرقة المختصة حول تلك الجلسة في مقهى سمرقند ...وبدا بورقيبة وكأنه نهض من القبر أو عاد إلى قصره في سقانص أو قرطاج...خرج من طور النسيان...الناس يتحدثون والجرائد تكتب...مازال الناس يحبونه ...كان يزور سيدي بوزيد باستمرار...الناس يعرفونه جيدا...
-ولكنه تركها مدينة ضعيفة
-أعيان البلاد هم السبب.. سألهم ذات زيارة ماذا يريدون فاكتفوا بطلب تحويلها إلى ولاية أطلق عليها اسم "سيدي بوزيد" بعدما كان اسمها قمودة وكانت تتبع قفصة ...أضاف إليها المعتمديات المجاورة...قيل إنه جمع المعتمديات الفقيرة وتركها...
سيدي بوزيد...الغضب الاول...
رقصوا في شوارعها...تجاهلوها وهاجموها...ظلوا يعودون إليها كلما اشتهوا تصفيقا ولحم خرفان وأصوات انتخابية مزيفة...لكنها مدينة غضوب ...لا أحد يعرف متى تغضب ويتحول أهلها من الصمت إلى الكلام...اخترقت سيدي بوزيد السبات ذات ربيع...تحدت الرجل الذي يقدم نفسه "صانع التغيير" وانتصر في انتخابات أفريل الفارط بنسبة عالية...نزلت أمطار طوفانية اجتاحت المنازل وعزلت الناس في القرى وقتلت الماشية...وغرقت مدينة سيدي بوزيد...خرج الناس إلى الشوارع في مركز الولاية ومعتمديات أخرى منها المكناسي واحتجوا وعبروا عن غضبهم وواجههم الزين بالبوب والاعتقالات وسقط ضحايا...
لم تفعل الحكومة شيئا أمام الفيضانات التي اجتاحت الجهة ...مناطق معزولة وبيوت تغرق في الماء والدولة لا تبالي...غضب الشارع...وجاءت الصور والبرامج التلفزية تزعم لفتة الرئيس وتحاول امتصاص الغضب وخصصت التلفزة ليلة للتضامن نشطها نجيب الخطاب وقدمت فيها تبرعات من المواطنين وعزل الوالي وجاءت المساعدات...لكن الجراح كانت كبيرة...شعر الناس بالإهمال والتناسي فمنذ فيضانات نهاية الستينات وهم يطالبون بحماية المدينة من الفيضانات لكن الدولة تتجاهلهم...حتى الحماية المدنية التي قدمت شهداء من أعوانها كانت تجهيزاتها ضعيفة...
اعتدى المتظاهرون في تلك الأحداث على علالة الزيني مثلما اعتدوا على آخرين...ضربوه وصفعوه بعدما ضبطوه يحمل قائمة في أشخاص متهمين بالمشاركة في المظاهرات...كما علموا أنه استولى على نصيب من الإعانات التي تهاطلت على الجهة..
...سجلت سيدي بوزيد غضبها في التاريخ ولكنه كان غضبا عابرا...فالبلاد تتغير ببطء...والمهرولون يسرعون لتأييد الزين ومباركته...
انتشرت اللحى الطويلة وازدادت أعداد المصلين وتكلم الإسلاميون كثيرا...حاربهم البعض وكثر الحديث عن السياسة.صرنا نعتقد أنه يمكننا قول كل شيء...
فجأة سرى برد مخيف واصطكت القلوب من الخوف وكثر الهمس:
- صمتا...دعنا من السياسة...
-السياسة لأهلها
-الخبز والحائط يا أخي...
-عاش حزب الديك.
كشر الزين عن أنيابه...زج بالكثيرين في السجون...اختطفوهم من الشوارع ومن المدارس والمعاهد ومن غرف النوم...أخذوهم عراة حفاة وفعلوا فيهم ما لا يفعل من تعذيب وإهانة.
عم الخوف...شعب كامل يرتعد كلما شاهد سيارة شرطة...
تجند علالة مع من تجندوا وسهروا الليالي في البرد وجابوا الطرقات والمقاهي بحثا عن رائحة المعارضين...
ينهض باكرا.. يمر على لجنة التنسيق...يبتسم لبعض المسؤولين ثم يمضي...هو عين لا تنام...أجرته تأتي كل شهر وهو لا مهام له غير هذا العمل.
كل الشعب معارض و"اخوانجي"وخميني"
من لا يدفع انخراطه الحزبي ولا يتبرع للتجمع معارض واخوانجي
من لم يعلق صورة الزين في دكانه..
من ينصت إلى الإذاعات الأجنبية..
من يصلي أو يطيل لحيته أياما..
من تغطي رأسها..
كل هؤلاء يصنفونهم "خوانجية" يركضون خلفهم ويراقبونهم ويسجنونهم..
كم دمرت يا علالة أنت وأصحابك فرحة أمهات وأولاد صغار...كنت تردد"الواجب الواجب" وتسجن الكثيرين بلا شفقة...
عبدالله المسرحي
تدحرج نحو دار الثقافة...خطر له أن يلتحق بالأمسية الشعرية التي تنتظم وخطر له أن يكون معهم...أراد أن يقرأ الشعر فالشعر والمسرح شقيقان و المسرحي العتيق مثله له أن يكون شاعرا...وهو يكتب شعرا ويعتقد أنه قادر على قول ما يعجز عنه هؤلاء...ترك الشعر واتجه نحو المسرح منذ زمن...ضاعت كراسات الشعر الذي كتبه زمن التلمذة وضاعت قصائد زمن الحلم...
سارع الخطى...الساعة تأخرت...لعله يدرك الردهات الأخيرة من مجلسهم...يريد أن يهجو الشعراء ويعبر عما يخالجه...هو لا يعترف بهؤلاء الشعراء...أكيد أنه سيجد الوجوه القديمة الشاحبة التي لا يعترف بها...سيهتف فيهم:
لا تسألني عن ثقافة كنا لها خدما
لا تسألني عن دار كنت بها أحتلم
قد جافاني ركحها و القلم
حين عرفت الحب كهلا
وسافرت فيه حتى الندم..."
كتبت هذه القصيدة منذ أيام...تمنيت أن أقرأها على نادية...لكنها تمضي مسرعة...لم تخضع ولم تلتفت وكلما وقعت في المصيدة أشاحت بوجهها...
كتبت لها خاطرة...
لك ذلك يا نادية...أنت فاتنة وأنا رجل فقير...ألغتني المدينة وألغيتها...لا أنا في قوائم المنتدبين ولا المتقاعدين ولا المبدعين ولا الناخبين...منذ أعوام وأنا أتخبط على الركح وأصرخ...أحيا للمسرح...لكن أي دور لمسرحي في مدينة بعيدة وأي مكانة لمبدع هنا...كم أنت قيد أيتها المدينة...لو كنت في مدينة أخرى لكنت تهرعين للحصول على إمضائي الفني ولكنت تطيرين من الفرح لابتسامتي...أذرع المدينة ومعي ملف مسرحية...أنساه أحيانا في المقهى أو في الحانة...أعشق سمرقند...يقفز دعدع البوليس السري أمامي...يقهقه بصوت عال...يلثمني كالمشتاق...يكرر"عبدالله يا عبدالله يا أستاذنا العظيم..."
أتأفف :
_أي أستاذية...جاوزنا الأربعين ونحن ننتظر...الكاباس دمرتنا...
يرد مبتسما:
_أنت مبدع وإبداعك أقوى من الإجازة.
_الإبداع الجاد لا يوفر ثمن الخبز...كم مبدع في هذه البلاد يعيش الفقر...الإبداع مصدر ثروة للمنافقين والمداحين فقط...
ينظر إلى الظرف الذي أحمله
-أكيد مسرحية جديدة...
أكاد أصرخ في وجهه...يلحظ حيرتي وتوتري فيسألني:
-أين صديقك الكاتب؟
أماطله لأني أعرف أنه سيحرر بعدها تقريره اليومي...صديقي الكاتب يزعجه أيضا هذا الرجل ويتبعه بدقة...كلانا في الهوى سوى...أحلامنا محطمة ومجلسنا إذ ينعقد مزعج لهم...
أقبع هناك على ضفاف سمرقند...حينما تمر نادية أتبعها وأتأهب لمفاتحتها...هي فتاة ريفية على ما يبدو وهي حديثة الظهور بالمدينة...تمكنت من مصافحتها يوما لكن كلامي لم يرق لها فأشاحت عني ومضت...
جاءني رئيس جمعية المسرح بعد يوم واحد والشرر يتطاير منه وهددني بالفصل...وأعلمني أن الأمن طلب منه إبلاغي هذا التحذير ..تلك الوقفة بلغتهم...والفتاة مراقبة من قبل الأمن السياسي لأن والدها ينتمي إلى حركة النهضة وأسر لي أن عمها عثمان الشرقي الشيوعي المعروف وهو مراقب أيضا...آه يا بلدي ما هذا اللجام؟هل صرنا مراقبين حتى في المراحيض؟وهل صار الحب يحتاج إلى تأشيرة قانونية من وزارة الداخلية؟...أنا أحبها ...وسيزداد حبي لها بعدما سمعت...أكيد أن لها بذرات صالحة مادامت من عائلة ذاقت الويل السياسي...ما اغباه رئيس جمعية المسرح؟أيظنني تجمعيا مثله؟...ممتاز أيها الفقير أن لا يتفطن هؤلاء أنك معارض وانك تنتظر سقوطهم وانهيارهم...
صحيح أن عمها عثمان لا يروق لي و لا يعتد به ولكن لا بأس سيكون مفتاحا مهما...سأكون في حاجة إلى احتساءة كبرى معه حتى يمهد لي الأمور...
لم أعبأ بما قيل لي...
هي صارت تعرفني جيدا...صارت تلقي علي السلام من حين لأخر وصار وقوعها وشيكا لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن...جاءت أخبار سوداء...انضاف للقلب جرح آخر لا يندمل ...صارت موظفة عند علالة اللعين...
تعثر عبدالله في مدارج دار الثقافة...الأمسية انتهت ومدير الدار يعلمه أن لجنة التوجيه المسرحي قادمة في الأسبوع القادم...تمتم مغادرا...عرف المدير أنه كان هناك في الحانة...
ارتطم بالجدران...توغل في الرحبة... سار يمينا وشمالا...تبرز تحت جدارها...مشى خلفه صبية...حاولوا العبث به...توعدهم وهتفوا خلفه هازئين...هم يعرفونه...شاهدوه مرارا على الخشبة وشاهدوه مرارا وهو يتساقط محتسيا هنا وهناك...لم ينو أن يفعلها نهار اليوم لكنه
أحد الأصحاب...اقتاده إلى هناك ... إلى الحانة القريبة من حي الخضراء...شرب ...شرب...ثم خرج متعثرا...الرياح تصفر في شوارع سيدي بوزيد ومقاعد سمرقند الخارجية خاوية... هذه المدينة تنام باكرا فلا يمكث في ليلها إلا السكارى والمعتوهون ومن ضاقت بهم سبل الحياة وضاقت بهم الأنهج الفقيرة...ثمة جلساء يتكومون في الداخل يلعبون ...وصوت أم كلثوم يلهث من حاكي المقهى"الحب كلو حبيتو فيك..."
قاطع الأغنية:
"وزماني كله أناعشته ليك"
واصل خطواته المتعثرة...خطر له أن يذهب إلى نادية في دارها..فما سمعه عنها وما صار يدرك أنه حقيقة لم يجعله ينساها...يشعر أن فصلا ما مازال معها...رجع إلى الوراء...تعثر في الظلام وتاه بين الأنهج...توغلت الكحول واستبدت به...لم يعد يدرك شيئا...ضاع الشمال والجنوب والشرق والغرب...ضاعت الوجهة وضاع القلب...
أوراق متناثرة من جيب عبد الله
لمن سنقول الشعر الآن...
انهارت الجيوش وانهار الزمان
لمن هذا الشعر
ونحن اكتوينا
وهجرتنا الحسان...
ونادية علالة لها
وركح الرقص لها..................
تاه القلب حتى بلغ الصحراء
والتقى غزالا
جرى خلفه جريا قد طال
ها أنا هنا
ضللت طريق الحسناء
والتي أحببت
ما زال رسمها........
إلى السيد وزير الثقافة والمحافظة على التراث
تحية طيبة
.....إني الممضي أسفله مسرحي وشاعر ومجاز منذ سنوات عديدة تقدم بي العمر وساءت ظروفي...أنشط في دور الثقافة ولم أعثر على عمل وإني أهيب بسيادتكم التدخل لفائدتي وإلحاقي بإحدى المؤسسات الثقافية ولكم مني جزيل الشكر.
والســــــــــــــــــــــــــلام.
سمرقند فجرا
...ضوء الصبح يتقدم...المدينة فارغة ورائحة القهوة تفوح في الفضاء...جسد ملقى قرب الشجرتين... هو واحد من كثيرين يتسولون في النهار ويقضون لياليهم في الحدائق والبنايات المهجورة...
سمرقند الصباح فاتنة...كأنها قباب.. بخور يضوع...مسافرون يبكرون...شرطي في زيه يدخل ليأخذ مجموعة كؤوس قهوة...يحملها في جوتابل...يزمجر"ملة خدمة كلبة"...السيارة مكتظة...الوجوه داخلها شرسة ومدججة...أكيد ثمة أمر ما...هم ذاهبون إلى مكان ما...أكيد تعزيز...ربما ثمة إضراب أو زيارة لمسؤول...
صباح آخر.. يستنشق عبدالله رائحة سمرقند...
يفتح عينه فإذا به هناك...في مركز الأمن...لا يعرف كيف جاء ولا كيف أخذوه وقبضوا عليه...الذاكرة بيضاء...
استغرب أمره...خشي أن يكون ارتكب شيئا ثقيلا لكنهم أطلقوا سراحه...قضوا معه ليلة ساخرة وهو لا يعرف...سلموه رزمة أوراقه فعرف أنهم فتشوه ..
خطى خطوات سريعة.. مقهى سمرقند على الأبواب...لا بأس.. يبدأ اليوم في سمرقند حتى تدب الحركة من جديد...سينتظر مرور أحد أعوان الأمن ليستفسره عن واقعة البارحة.
آه يا نادية ...حينما رأيتك في الأيام الأولى فكرت فيك وفي مرحلة جديدة من الحياة...قررت أن أعيش لك وللمسرح وأترك الضياع لكن لم تمض أيام حتى غرقت وازددت ضياعا...كنت خيبة لا تحتمل...صرت عارا...عار أني أحببتك يوما...لقد هزمنا المنصب والحزب مرة أخرى...هل هي مصادفة أن أفشل في الحصول على عمل لأن رجال الحزب غير راضين عني وأفشل في المسرح مرارا لأن مسرحياتي لا تروق لهم رغم ابتساماتهم العريضة وأفشل في الحب لأن ساقيك قد وطأتا ذلك المكان ولأنك صرت دمية من دمى علالة.؟؟
علالة الزيني
...جمع في صيغة مفرد
حدث ذات جويلية
في أواخر جويلية وأول أوت من كل عام يرتعد المسؤولون الجهويون والمحليون ارتعادا... يطوف بهم هاجس الرحيل والعزل والشماتة......ففي هذه الفترة تجرى التعديلات والتعيينات السياسية...وتروج الإشاعات عنها مسبقا...
غلت سيدي بوزيد بالأسماء وبذل البعض جهدا كي يعين...يقال إن الوالي بإمكانه حسم هذه الأحلام...لم يكن اسمك مطروحا على الإطلاق فأنت لا تساوي شيئا ولا قدرة لك على استقطاب الناس...عرفناك تصفق بحدة في الصفوف الخلفية وذئبا شرسا تنقض على الفريسة لتشي بها وتلقي بها في غياهب التتبعات السرية ...لكننا فوجئنا...
ذات يوم من ذاك الصيف الحار فوجئ الناس انك عينت وصدر إسمك في قائمة المسؤولين الجدد...أنت يا علالة ؟؟ماذا فعلت كي تصبح صاحب مكتب ومن وجوه الصفوف الأولى التي تنتظر الوزراء أمام مقر الولاية ويصبح لك شأن...لمسات خفية و وساطات كبيرة ورحلات متكررة إلى دار الحزب في العاصمة وأسرار أخرى...كنت ذئبا واستطعت الوصول إلى هذا المنصب.
ذبحت الخرفان في قريتك وأقمت وليمة كبرى ...دعوت لها "عرفك" السابق العمدة بشير ...اختليت به أنت وبعض خاصتك...تقرر أمر سكينة نهائيا...لم يعارض العمدة بشير بل عدّ ذلك فخرا...
وعدت الناس بالمساعدات والمشاريع وانتصبت في مكتب فخم...تدور في كرسي هزاز وتدق الجرس فتأتيك السكرتيرة نادية تغازلها وتتهكم عليها وهي صاغرة. فأنت الحزب والحزب هو الدولة والحياة والتمرد عليك يعني لها الطرد من العمل في زمن لا يرحم...
آه يا علالة...مرت سنوات منذ اعتليت المكان...كرهك الناس ولكنهم يتعاملون معك...كل صيف حينما يحل موسم التعيينات تكثر التقارير والرسائل الموجهة ضدك إلى الرئيس حتى يعزلك ويريح الناس منك لكنه أصم ...يقول البعض إن الرسائل لا تصل ويقول البعض الآخر إن لك صلة ما بليلى وإنك من زبانيتها...
ذئب أنت يا رجل...خطاب للشيوخ والمواطنين البسطاء الحالمين بالمساعدات والمشاريع...تماطلهم وتسخر منهم وتستبد بهم وخطاب سري لخاصتك...ألاعيب ومرح ومشاريع خفية وجهاز سري من الوشاة يرصدون لك كل شيء...تصلك أخبار المعارضين والرافضين من كل القرى فتنهال عليهم بلا رحمة ولا شفقة...تزج بهم وتدفع لمحاصرتهم...
تعلم كل شيء ولكنك لا تعلم أن سكان سيدي بوزيد يعرفونك جيدا وأن الأجهزة التي تتعامل معها تستعد أيضا للانقضاض عليك يوما...الكل ينتظر سقوطك المدوي...ولكن في كل مرة تصدر التعييينات لا نجد اسمك...
يحلم علالة منذ مدة بمنصب أكبر...حلم بعضوية مجلس النواب والمجلس البلدي واللجنة المركزية للحزب لكنه لم يحصل على شيئ من ذلك فانضم إلى التجمعيين المحتجين على القائمات التي تم اختيارها في الانتخابات الأخيرة...
أخفت وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة أن التجمع في سيدي بوزيد صار مجرد هيكل ضعيف تنخره الانشقاقات والصراعات...كثيرا ما تخاصم التجمعيون وتصارعوا...اختلفوا حول القوائم واعتصموا وانسحب الكثيرون منهم غضبا أو طردا ...كان البورقيبيون في طليعة المتحسرين على الحزب وكانوا يتحدثون عن نهايته ولم يبق فيه إلا بعض المتمعشين أما البقية فمجرد خائفين أو طامعين...
سارع علالة بالتوقيع على مناشدة الزين لانتخابات 2014 فهي فرصته الأخيرة ليضمن المنصب الذي يتمناه خصوصا وهو يسمع أن الزين إذا ربح فسيغير الوجوه القديمة ويصعد وجوها جديدة وهو يعتبر نفسه من الوجوه الجديرة بمناصب كبرى... يحلم بفرصة جديدة وفوز أكبر... ويسعى إلى أن تعين زوجته أيضا فهي أستاذة وقادرة على خدمة الجهة وهم يرغبون في تعيين النساء في المناصب.
سنوات وهو قابع هناك يحرك دمى مطيعة تلهث خلفه وتتراص في الصفوف خدمة له لكنه في النهاية دمية بيد أسياده...أنت يا علالة الدمية الكبيرة التي علت سيدي بوزيد وأهلها ...أنت من بعت الجهة...أنت من هربت المشاريع وأفسدت البرامج...
دمى علالة
لعلالة دمى لا تحصى ولا تعد يحركها مثلما يريد ولكنه في النهاية مجرد دمية بيد أخرين...
هو يتحكم في هؤلاء لكنه يرتعد أمام أسياده ويصبح دمية كبرى أو كرة يتقاذفونها...
*شتربة الهمامي
يسكن شتربة ريفا من أرياف سيدي بوزيد المنهكة...يرأس الشعبة منذ مطلع التسعينات ...أمي لم يكمل دراسته الابتدائية لكن "لسانه يغزل الحرير"...يجيد الكلام..."بلعوط كبير" لا تستطيع هزم لسانه... كان على وشك السقوط لكن علالة شد أزره و دعمه فاستمر سنوات طويلة...
استطاع أن يحافظ على موقعه في رئاسة شعبة قريته منذ أعوام...هزم المثقفين والمتعلمين وتربع على الكرسي الوثير...نافسه أساتذة و موظفون ممن تمنوا الظفر بموقع حزبي يصنع لهم مجدا ويمنحهم امتيازات في العمل لكنه هزمهم...أحيانا لأن أعضاء اللجنة في يده وأحيانا لأن هؤلاء لا يقنعون الناخبين البسطاء الذين يعدهم شتربة بالعمل والمساعدات والقروض فيقعون له ولا يؤثر فيهم خطاب...
علاقة شتربة بعلالة كبيرة فهو الضامن لبقائه في مهامه وحتى في المرات التي يشعر فيها أن الشعب سينسفه يكون معه ويتدبر له حيل الفوز...
اجتماعاتهما يومية...يتطرقان فيها إلى شؤون حزبية ويخططان للمرح والربح.
حينما يغلق الباب يبدأ الكلام...تخطيط لبرنامج سهرة خمرية في الريف...يذبح شتربة من خرفانه ويكدس قوارير وعلب الخمر ...القوارير الحمراء له بلا منازع والعلب لعلالة ...تدور كؤوس الشراب الأحمر وينزع شتربة جبته ويغني...يتمايل علالة ثملا..."السيد الرئيس موش موجود...أرجع غدوة...أنا علالة العظيم ..."يهذي علالة بأسراره ويجذب هاتفه يهاتف عشيقته البعيدة ...يعدها بالحوالة البريدية التي تصلها والليالي التي سيقضيها في العاصمة في نزل فخم...يوصيها بان تجيئه معها بفتيات أخريات حسب المرافقين...يتشهى شتربة أن يذهب معه...هو أيضا يريد أن تكون له صاحبة من هناك...على استعداد ليبيع الخرفان من أجلها ويذهب...على استعداد لكل شيء...هو كره مباركة زوجته...ويريد نصيبه من الحداثة...
ينهمك عبد الواحد في الشرب وفي جمع بقايا ما توفر من لحم وخمر وأشياء أخرى...غريب هذا الرجل.. يبدو أنه ملقح ضد السكر...يشرب ويشرب وكأن لا شيء...
حين انتصفت العشرية الأولى من القرن صار شتربة من كبار الأثرياء...سيارة "ايسيزي" للشحن وأخرى للنقل الريفي وزريبة كبيرة مليئة بالأغنام وإصطبل يعج بالأبقار...
*ضو الصحفي
يتردد ضو كثيرا على مدينة سيدي بوزيد...يدعى بمناسبة أو بدونها...يستقبله علالة مرارا...يفرض حضوره على أغلب الندوات والملتقيات والمهرجانات...يفرضه فرضا على كل المندوبين والمديرين...
يتقن ضو درسه جيدا ففي كل مرة لا بد أن يقحم علالة في المقال وهذا أمر سهل...يكفيه أن يضع إسمه أو صورته...هذا ما يفرحه كثيرا...مجرد وجود إسمه في مقال يهزه من الفرح...ينسخ المقال ويرسل نسخا إلى السيد الوالي ومسؤولين آخرين ويصبح المقال إبداعا كبيرا...تلصقه نادية في ملف ضخم مخصص للمقالات المدحية...يحدث أن يكتب ضو المقال دون اسم أو بتوقيع مخالف أو باسم زميل له في جريدته أو جريدة أخرى...
يتحدث ضو عن نجاحات ولاية سيدي بوزيد وما فعله فيها التحول وعن ولائها للزين و الجنة الكبيرة هنا وهناك والاجتماعات المهمة والكلمات الرنانة لعلالة...منذ وصوله يحظى بعناية خاصة...يكلف به عبد الواحد...يأخذه إلى نزل بسبيطلة كي يسكره ويوفر له كل شيء...يملأ جيبه بالأوراق النقدية ويرجع إلى العاصمة...تصدر مقالات ترسم جنة خيالية...تصبح سيدي بوزيد بخير عميم...
يسير بعض المراسلين على خطى ضو...يلهث بعضهم من أجل التقرب من علالة وغيره من المسؤولين...أمكن لهم ذلك ومضوا يرسمون الوهم لكن امتيازاتهم لم تصل إلى ما وصل له ضو...
*الهادي البوزيدي
معلم حزبي...يغيب عن المدرسة ...يزعم أنه في اجتماع...يلتحق بعلالة...يرتب أوراقه...يبلغه أخبار النقابة والمعارضة...يخطط معه...
يحلم الهادي البوزيدي أن يعين في منصب معتمد...يجيئه دوما بالمطالب قصد تزكيته ودعمه...يعده علالة من عام إلى آخر...يزعم له أنه أجرى اتصالات شخصية والأمر وشيك...حين تصدر القائمة يزعم له أن أحدا من أهله قد تعرض له ومنعه...يصدق الحكاية...يشرع في البحث عن الأهل المضادين له يجد قوائم كثيرة...يقرر الرد بتصعيد التقارير الشفوية ضدهم...
*حليم
رئيس فرقة الرقص العصري...مهامه الرقص والترقيص...يأتمر بأوامر علالة...يقبع في سمرقند لمراقبة المعارضين ومده بمختلف الأخبار...يكلفه أحيانا بضرب البعض وإزعاجهم...يستعرض عضلاته المفتولة هنا وهناك...بينه وبين عبد الواحد عداء شديد...يغار منه...هو أيضا يفاجئ سيده بالحسناوات ويرتب بعض الحفلات الماجنة...مقابل هذا يتدبر له علالة الحفلات الخاصة والعامة ويقتسم معه المبالغ المالية...
هو فنان رديء لكنهم يفرضونه على الجميع...
*زهرة (الشاعرة)
يقولون عنها شاعرة كبيرة...يجيئون بها في لقاءاتهم السياسية...تقرأ مدحا للسابع والزين وتعرج ببعض الجمل على علالة...
يهتفون "الشاعرة"...
يرسلونها إلى الملتقيات ..يعرفون بها الضيوف... يروجون لها...يمتدحونها...
يعدها المسؤولون شاعرة ويغضون النظر عن الشعراء الحقيقيين...
كلف علالة بأن يكتب عنها بعض المقالات فملأ الصحف أياما بالحديث عنها...
فازدادت اقتناعا بأنها شاعرة وكان المثقفون يسخرون منها ومن هذه الأقلام التي تمتدحها...
صارت جسدا خاويا...صاروا ينادونها للجلسات المضيقة التي تعقد في مكتب علالة...يتحدثون أمامها أحاديث فاحشة ويلقون عليها النكت البذيئة ويعطونها أحيانا بعض السجائر...
تردد سرا أنها عشيقة سرية لعبد الواحد وأن علالة يخطط بعمق لتزويجها منه...عبد الواحد يعرف أنها خدعة...ويعرف أن علالة خائف منها...خائف من أعصابها...صارت عصبية بعد تلك الواقعة.واقعة الإجهاض...وصارت لا تتورع عن الكلام ببذاءة في الشارع وفي القاعة...يخاف علالة أن تنفجر في وجهه يوما بعدما فعل بها...هي وافقت على عبد الواحد لكنه يماطل ...علالة يلح عليه في كل جلسة خاصة وفي كل سفرة...انتقل إلى الوعود المغرية...سيتدبر له بيتا من إحدى الشركات...لن يدفع مليما واحدا في العرس...سيوفر له كل شيء...
في خريف 2010اتفق معه نهائيا...يتحقق الأمر بعد احتفالات السابع من نوفمبر...ربما في بداية ربيع 2011حينما تنزل الميزانيات الجديدة...
عبد الواحد يفكر في لعبة على اللعبة....يتزوج ويطلق...وعلالة بلغته الفكرة...لم يمانع....المهم أن يخرج من الورطة...
*عبد الواحد
الرجل الخطير لعلالة...رجل المهمات الخاصة السرية والعلنية...
هو سائقه الشخصي ومن يقوم بنقل أفراد أسرته وضيوفه...
عبد الواحد
كهل مفتول العضلات عال الصوت يرافقك في كل مكان يقود سيارتك ويتفاوض باسمك وينفذ أعمالك الخفية والظاهرة...
عبد الواحد هو رجل الأسرار...هو الذي يختلس لك الأموال ويعقد صفقاتك ويجيئك بالخمور وينظم جلساتك وهو الذي يتكلم باسمك ويقود الإدارة في غيابك... يظهر لدى الناس كمسؤول كبير وصاحب قرار وعلاقات والكثير منهم يقصدونه ولا يقصدونك لأنهم يعرفون أنك لا ترد له طلبا وهو أكثر منك وضوحا يطلب ما يريد دون لف أو دوران...
حين جاعت نادية وأمها أشاروا عليها برجال الحزب وقالت لها صديقتها إن الحل عبد الواحد...جرت خلفه كثيرا لاحقته أمام الولاية حيث اعتاد الوقوف كل صباح مع جمع من المحتشدين ليهتف كلما حل وزير
عبد الواحد هو العراب وصاحب الصفقات السرية الكبرى...
وهو جالب جرار الخمر وصياد الحسناوات
وهو الصوت الهاتف بحياة بن علي في كل الاجتماعات
وهو الرجل الذي ينزل للمقاهي ليروج لعلالة ويقود حملاته الانتخابية...
هو الذي يقولها إذا سئل عن عمله"مكلف بمهمة في المراسم الرسمية"
هذه المهمة المزعومة اقتات منها طويلا...فهو يتنقل في القرى قبيل الزيارات الوزارية ويضبط التراتيب ويبتز البدو من رجال الشعب ويأخذ منهم المال والأغنام لبيعها بدعوى حاجات خاصة للمراسم وبدعوى أمور سرية لا يمكن شرحها...
*علالة ...الدمية الكبرى
يخلص علالة للولاة جميعا ويحافظ على طقوس يؤديها لكل واحد منهم...يظهر لهم الولاء والطاعة...يتمسح على أعتابهم...يوافيهم بالتقارير...يكرر في مجالسه الرسمية مدحهم والحديث عن تعليماتهم...كل وال يعين هو عنده نعمة منزلة من القصر للولاية وهو هدية صاحب القصر المعروف بعطفه على الجهةو.....و......
يتمسح على أعتاب الواحد منهم ويتقرب منه حتى يأسره ويجعله في جرابه وقلما أفلت واحد منهم منه...
حين عين حمدان الغول على رأس الولاية هرع له ...صحبه وفد من السيارات إلى مقر أقامته بولايته التي كان على رأسها وعبر له عن الولاء والطاعة...
دخل حمدان الولاية مرفوقا بهؤلاء...
لم تستمر أيام البداية طويلا فسرعان ما أصبحوا من خاصته والمقربين منه وصار علالة يتسلل له...
راج في سمرقند ومقاهي سيدي بوزيد أن بين علالة والوالي صفقات سرية كثيرة...خرج الأمر من الصفقات السياسية إلى أمور أخرى...
علالة يتصرف في المشاريع...يحول الوجهة ويساوم المقاولين والباعثين والمهندسين وغيرهم...لا يحصل الواحد منهم على أمر إلا إذا قبل بالقسمة ...يجب أن يخصص الملايين لعلالة وهو الكفيل بتحقيق فوزه بالصفقة...يحمل نصيبا إلى الوالي حمدان ويقضى الأمر...
لم يغادر حمدان منصبه في سيدي بوزيد إلا بعد أن ملأ جيوبه وصار من الأثرياء...وكان علالة دمية في يده يحركه متى يشاء...يحقق له ما يريد ...
كثيرا ما وصفه الناس بأنه كلب حمدان وعينه وأذنه...
مراسلة إذاعية
"...انعقد اليوم بمقر ولاية سيدي بوزيد اجتماع هام أشرف عليه السيد والي سيدي بوزيد وذلك استعدادا للمحطات الانتخابية القادمة وأكد السيد الوالي على أهمية هذا الموعد وعلى حرص الجهة على تجديد الولاء لصانع التحول وللحزب المؤتمن على تغيير السابع من نوفمبر ....."
كواليس يعلمها المراسل
دعا علالة صحفيه المعروف فحل منذ الليلة الفارطة وحضر الاجتماع وحظى بلقاء خاص مع الوالي...نصحه بالكتابة عن إنجازات السيد الوالي وعمله الدؤوب لخدمة السابع من نوفمبر وألح عليه في الكتابة عن الاجتماع والقائمة التي تم اختيارها لتكون مرشحة التجمع في الانتخابات و أوصاه بأن يشير إلى فرحة التجمعيين بهذه القائمة التي تضم نخبة خيرة....
كواليس لا يعلمها المراسل
انتهى الاجتماع...صفق الحاضرون طويلا...تسلل الحسني وآخرون إلى مكتب الوالي...عبروا عن سخطهم وعدم رضاهم وغضب القواعد من الاختيار...لم يرضخ لهم الوالي فخرجوا غاضبين...دارت هواتفهم فهم من هم في هذه الجهة...اجتمعوا سرا في أحد المقاهي...هم من كبار الحزب ومعارفهم كثيرة ومستحيل أن يحدث أمر كهذا دون علمهم ورضاهم...تقرر "الملعوب"...أرسلت البرقية...وقبعوا ينتظرون...
ثرثرة في سيدي بوزيد
لم يكن توقيت الخبر معتادا ولم يكن الموسم موسم تعيينات...احتار الناس في الأمر ...لم يعرفوا سر هذا العزل...كثرت الإشاعات...أشاع التجمعيون أن الرئيس غيره لأجل سيدي بوزيد وأنه تفطن لممارسات حمدان وتلاعبه بالمشاريع...خرج علالة على الناس ..خطب في حضرة الوالي الجديد أنه جاء منقذا من سنوات الماضي وتحدث في مجالسه عن تجاوزات الوالي السابق...صار يقول إنه سارق وكذاب وإنه لم يخدم الحزب بل سعى لتدميره وحمله مسؤولية الكثير مما جرى...
حدث أحد التجمعيين في مجلس خاص بأحد المقاهي ولم يكن معه سوى وجهين من رموز الحزب ممن يعلمون بأمر البرقية...وممن لهم عيون في كل مكان ويزعمون دوما أن أخبار القصر السرية تصلهم عن صاحب له في الأمن عن مستشار رئاسي قال:
وصلت البرقية القصر بعيد الغروب...قرأها الرئيس مرة أولى متمتما ثم راح يصرخ ويرغي ويزبد...طلب حمدان متوعدا عبر الهاتف...لم يترك له فرصة للاستفسار...خاطبه بكلمات نابية بذيئة.
رن جرس الهاتف ...التفت حمدان ...ارتعد...
-السيد الرئيس ....أهلا...
قاطعه بنبرة حادة:
-السيد الرئيس...عل اشكون تعدي فيها...راني نلعبك ونلعب الحشرات اللي كيفك...
-العفو سيدي...العفو....
ارتفع صوت الرئيس:
-طلعت كلب...توة تشوف اش نعملك
ارتعد حمدان وأحس أنها النهاية والرئيس يزمجر"توة تروّح...انت ماعادش تابعني...امشي لأصحابك..."
اكتفي حمدان بعبارات:
"أمرك سيد الرئيس...حاضر..."
-لا سيد رئيس لا عمار بالزور...قتلك روّح...تفه
وضع السماعة ثم طلب وزير الداخلية..."اشنوة هال....(كلمة بذيئة) اللي مخليه في سيدي بوزيد...علاش ما قتليش عليه...
رد الوزير:
-يعزل فورا سيد الرئيس...موش نا اللي جبتو...جابوه الجماعة...
راح الرئيس يهتف:
-اشكون الجماعة؟...اشكون الجماعة؟
ثم ألقى السماعة وظل يرغي ويزبد...
-سيد الرئيس...
ضاع الجواب في الفضاء...أغلق الهاتف...خاف الوزير أيضا...عجل بإصدار قرار العزل...
برقية إلى فخامة رئيس الجمهورية
سري وخاص
حول تجاوزات والي سيدي بوزيد و تخاذله في الاستعداد للانتخابات
أستفيد أن المعارض حمودة وهو أستاذ يدرس بإحدى معاهد الولاية وله نشاط مكثف في الوسط النقابي وعضو في حزب معارض وممثل في البرلمان أصبح من خاصة السيد الوالي حمدان وقد شوهد وهو يرسي سيارته ليلا أمام مقر إقامته ويدخل وقد غادر في ساعة متأخرة من الليل ولا يعرف سر هذا الاجتماع.وعلمنا من مصادر موثوقة أن الاجتماع سياسي ويتعلق بالانتخابات القادمة.
قف انتهىىىىىىىىىىىىىىىى............
موجز نشرة إخبارية ليلية متأخرة
هنا تونس...إذاعة الجمهورية التونسية ومنها نقدم لكم موجزا للأخبار
................................
*منظمات وأحزاب تونسية تؤكد دعمها للمسار الديمقراطي في تونس العهد الجديد وتدين حرص بعض الأطراف التي تغار من مكاسب البلاد على الاستقواء بالأجنبي للتشكيك في انجازات البلاد
*شخصيات عربية ودولية تشيد بالتجربة الديمقراطية في تونس..............
*رئيس الدولة يجتمع بوزير الداخلية ويقرر تعيين وال جديد على سيدي بوزيد......................................
.......................
*في الشرق الأوسط الإدارة الأمريكية تؤكد وقوفها إلى جانب مسار السلام والرئيس الفلسطيني محمود عباس يتهم أطرافا بعرقلة المفاوضات....
*العشيقة
هذه التي يهاتفها كلما احتسى فيسيل لعاب شتربة ويتمنى لو كان مثله ولو كان له أن يقيم علاقات مع الحسناوات...ليست سوى امرأة مطلقة جاوزت الأربعين تقطن لوحدها في العاصمة و تملك منصبا حزبيا...وهي أيضا من سادة علالة...تهاتفه من العاصمة فيلهث ويركض...طلباتها أوامر...يستجيب لها على الفور...يعرف أن بيدها الحل والربط وهاتف منها يعزله ويدمره...في خدمتها دون نقاش...تعرف أسراره وخباياه وتجبره على طاعتها...
تتعامل معه في ميدان خاص جدا...تعتبره خادما مطيعا لها...
حينما ينزل إلى العاصمة وتكون حاضرة يصبح مجرد خادم ذليل لها يتمسح على أعتابها وهي تعامله بغلظة وحدة فهي شرسة وشراستها تخيفه...هي مقربة من سيدة البلد كما يقال ...
*المفتش دعدع
هو أيضا يحرك علالة كدمية...علالة يخشاه....ويخشى تقاريره...يعرف أنها تصيب المرمى بدقة ...فصار عنده مجرد مخبر...يهاتفه أو يصل مكتبه يطالبه بالمعلومات عن مختلف الأشخاص حتى عن الوالي نفسه أو كاتب عام لجنة التنسيق وغيرهم...
يقدم المعلومات وإذا تعذرت عليه يبحث عنها لدى أصحابه ومخبريه...
استغل هذه العلاقة فراح يكيد لهذا وذاك...يزود دعدع بأخبار حقيقية ومغلوطة عن كل من يراه معارضا أو منافسا وكل من يرى فيه خطرا عليه...
نال عثمان الشرقي نصيبا كبيرا من هذه التقارير...كمن له المفتش مرارا في الحانة أو في المحطة أوفي المقهى...لا يعلم عثمان أنه في الطريق إليهم وأن علالة أوصى به شرا وهم ينوون اعتقاله في أول فرصة مناسبة...
منذ انتخابات أكتوبر2009 وهم ينتظرون الفرصة المناسبة...عثمان لم يصوت للزين ولم يصوت للتجمع وحث الناس على التصويت للمعارضة...وسمع يومها في الدكان يتمنى سقوط الزين وفشله ...واشتبك مع رئيس مكتب الاقتراع...
يرغب علالة في الانتقام منه لهذا السبب ولأسباب أخرى .....
*العمدة بشير
هو أيضا رغم تقدم سنه وتقاعده مازال يعتبر علالة صنيعته وكاتبه الخاص...ومازال واثقا من أن علالة لا يفوته قيد أنملة خصوصا وقد صاهره...
يزوره في مكتبه بلحيته البيضاء...يبلغه ما يريد من أراء ومواقف وهو ينفذ...
يعتبر العمدة بشير أنه يقدم له المشورة ويوجهه كما يريد...عندما يزمجر العمدة بشير ويضرب بعصاه الأرض يتسمر علالة ويذوب صوته ويستجيب لما يأمره به...
لكن مع تقدم العمر وتدهور صحة العمدة بشير صار يراوغه ويكتفي بإيهامه بالمشورة لكن الناس يعرفون جيدا أن العمدة بشير باب ممكن ولوجه للتأثير على علالة فيما يريدون من مطالب شخصية مثل بطاقات العلاج والمنح المدرسية وغير ذلك....
...هل كان المعارض حمودة عميلا للوالي؟
كشف سر البرقية بعد زمن...باح أحدهم ذات جلسة بحكاية سقوط الوالي حمدان...ردد البعض أنها مجرد مكيدة وتلقف البعض الآخر الخبر وراح يشنع بالأستاذ حمودة وحزبه وجلسائه...وجاء مؤتمر النقابة الأساسية للتعليم التي كان كاتبا عاما لها....
كلمة الصندوق
انفض المجلس رويدا رويْدا...وقف الأصحاب واحدا واحدا وتسللوا إلى بيوتهم على الأرجح... فليس كل من يغادر المقهى متجها بالضرورة إلى بيته...هو يعرف جيدا أن فيهم من سيعرج على مجلس الخمر وفيهم من سيعرج خلسة على إمْرأة سرية وفيهم من يتجه إلى البحث عمن يقرضه بعض الأموال أو يعيره بعض السجائر...ولا يستغرب أن يكون فيهم من سيذهب لرواية ما سمع في هذا المجلس الكبير الذي ينعقد كل عشية ويستمر حتى ساعة متأخرة ويتردد عليه النقابيون والمثقفون والمتقاعدون ...
مكث وحيدا...ظل واجما في مكانه يلوك بعض السجائر ويلمس شاربيه بين الحين والأخر ويلوذ بصمت رهيب...لقد داهمه الصمت عشية اليوم...لم يكن ثرثارا كعادته...ظل الجلساء يثرثرون ويتكلمون ويشتبكون بين الحين والآخر يرددون أحلامهم ومشاغلهم اليومية...أما هو فلزم الصمت المطلق...
لم يسكت طيلة عشرين عاما...ظل يثرثر في هذا المقهى ويتكلم كثور هائج...حينا يغرق في الورق وحينا في النقابة والسياسة ... ينتقد مديري المعاهد ويصب عليهم جام غضبه...يعد الزملاء بالإضراب تلو الإضراب وبالمكسب تلو المكسب...لا أحد يقدر على مناقشته....لكنه اليوم تبدل ...لا ورق ... لا أحاديث ... لا وعود نقابية ...كان منعزلا وكئيبا ويكتفي بالإيماء اللاشعوري...
تقدمت الساعات وهو واجم في مكانه ... جمع النادل المقاعد وقام بتنظيف المقهى ومحاسبة مشغله صاحب المقهى ولكنه لم ينهض ولم يتحرك...
طاف حذوه...حاول إشعاره أن الوقت قد حان لإغلاق المقهى...خجل من مطالبته بالانصراف. تردد مرات عديدة ثم اقترب منه
عجبا...
هو ينام...
هو يطلق الشخير المفزع ويلوي عنقه فوق الطاولة وينام ...تطارده الكوابيس...يرى ما لم يره في حياته...
رأى الحياة تدور وتدور...
ورأى نفسه يسقط في يد ملثمين ملتحين ورجال أمن غلاظ...ورأى محفظته تطير نحو السماء بركلة من أحدهم ...
ورأى الكلاب تحلق في السماء وتضحك عاليا ثم تخرج من أفواهها قذائف مدوية ...
لما أحس بيد النادل فتح عينيه ...
تذكر أنه لم يعد إلى البيت منذ يومين و صعبت عليه الخطى ... وتذكر أنه دفع كل ما في جيبه و أنه مرهق و لا قوة له...
منذ يومين وهو يلهث... يخطب و يزأر في المؤتمرين و يعرض عليهم مواقفهم و هم يردون على كلامه بموجات من التصفيق والهتاف...
لكن الصندوق قال كلمة أخرى :
تحول التصفيق إلى تصفير و الهتاف إلى سخرية والكلام إلى صمت و خسر اللعبة ...لم يصوتوا له وضاع منصبه النقابي الذي رافقه عشرين عاما...
تألم كثيرا...بعد هذه السنوات صاروا ينعتونه بصوت السلطة...
لكن هل فعلها الأستاذ حمودة ؟هل ظل طوال أعوام يخون ؟
سؤال محير حقا ...
...حلم
ظل حمودة أعواما يحلم بمقعد في البرلمان...شارك مرات عديدة في الانتخابات التشريعية لكنه لم يظفر بشيء...
في كل موسم انتخابي يرشح نفسه ويركض هنا وهناك لكنه يسقط...يعتقد دوما أن التزييف هو السبب ويزعم في جلساته أنه أقصي وأن ثمة من تآمر عليه...
تمر الكبوات ويعود للساحة من بوابة منصبه النقابي...تنزعج منه السلطة ويلاحقه البوليس السياسي في كل مكان لكنه لم يرضخ وظل رقما صعبا في جهته...
علم الوالي حمدان بحكايته وطموحه فقرر مساومته...أرسل له الوسطاء وبدأ يغدق عليه العطايا...ظل هذا الأمر سرا لم يتفطن له أحد فالرجل واصل نشاطه النقابي والحزبي ولكنه أصبح يميل إلى التهدئة والتقليل من الإضرابات وصار يطرح لغة التفاوض...
وضعه حمدان في جيبه وفرح به...وعده بأن يكون نائبا في الدورة القادمة...
انضم إلى الجوقة.. بات يحلم بالمقعد الوثير في البرلمان وبالسيارة الفخمة التي سيقتنيها...وصار متشددا في الدفاع عن بن علي وعن السابع من نوفمبر
حمودة ولعبة الدمى
بعد هزيمته في انتخابات النقابة تغير ..أصبح لديه شعور قوي بأن عليه أن يهتم بنفسه وأولاده...أيقن أن هذا الزمن غادر...ساءه أن يسمع نعوتا كثيرة من أناس دفع الكثير لأجلهم...ازدادت مرارته...تلقفه علالة...صار يخصص له وقتا ويوجه له الدعوات للاجتماعات وتوسط لأحد أولاده كي يلتحق بوظيفة عمومية واستطاع أن يضمه لقائمة دماه التي يحركها هنا وهناك..تردد في نوفمبر 2010 أن الأستاذ حمودة ألقى محاضرة في لجنة التنسيق لتمجيد النظام وأشيع في الكواليس أنه سيعيّن في بداية السنة في منصب هام
عثمان الشرقي
يشعر عثمان بحزن عميق...يشعر أنه صار مكبلا أكثر من اللزوم...يتذكر الماضي ..الناصر...وردة...البنت نادية والأستاذة سكينة.يحترق في داخله وفي صمت...عندما يجلس ليلا أمام الحوش يطبخ الشاي ويلتهم السجائر يكاد ينفجر...يتأمل البستان الكبير الذي صارت تخرج منه شاحنات الخضر ويترقرق فيه الماء وحوله حقول الفقر..ويتأمل بيته...دار الحاج الشرقي التي كانت منارة وصارت خرابا...
يبكي كلما ذكر الناصر ...يتذكر الماضي والأحلام ونادية الصغيرة التي كانت تتشبث به وتناديه بحرارة"عمي...عمي" وصارت الآن لا تنتبه لوجوده ولا تلقي عليه مجرد سلام بسيط...يتذكر سكينة التي كانت تملأ قلبه ...يتذكر كل ذلك فيزداد نقمة وغضبا...
ماض جميل...دمروه...دمرنا إبن القرية...
اختطف مني سكينة...زوجها له العمدة بشير بعدما أصبح مسؤولا في الحزب...الكلب...استطاع أن يحقق هدفه...كان كاتبا لدى والدها .
هل كنت في وهم؟
هل كنت حبيبها خارج البيت أما في الداخل فيحضر هو..؟؟
لم أسمع سابقا أن له هذه النية ...كانت له خطيبة أخرى...تخلى عنها بسرعة...قيل إنه وطأها وإنه تخلص من جنينها عند طبيب...اشتكته محرزية وطالبت بحقها لكنه مسؤول...لم يحضر جلسة واحدة ولم يخسر شيئا...تدخل له الحزب وجرت هي هنا وهناك دون إجابة...هي الآن عانس تعيش مع والدها الشيخ المسن بعد أن ماتت أمها...تعيش الفقر والمأساة أما هو ففي برج عاجي..قيل إنه تدخل لحرمان والدها من بطاقة علاج ومن منحة...
فجأة حط هذا الغبي على سكينة...
العار يا عمدة...
ابنتك الأستاذة تتزوج انتهازيا...
اللعنة يا عمدة
ليلة زواج علالة من سكينة احتسى عثمان الشرقي وجاء...أعلن الحرب...أخذه أعوان الحرس ...قضى الليلة عندهم ...لم يكشف لأحد عن سر الغضب ...كل الناس سجلوا ذلك على الخمر...لكنه الحب القديم ...
في هذا الصيف تذكر عثمان سكينة مرارا وكلما تذكرها تشنج وحزن...
دوت زغاريد في بيت العمدة...هب البدو محتفلين...سكينة تخرجت.
لم تمض أيام حتى زحفت السيارات والحشود ...تفرج يا عثمان...هذه حبيبتك ورفيقتك تزف في موكب شبيه باستعراض السابع من نوفمبر...هزمك علالة وقادها من يديها ومضى بها...واصلت رحلتها الناجحة...جاء الخريف...غنت فيروز"ورقو الأصفر...شهر أيلول ذكرني فيك..."
أرست السيارة الفخمة أمام المعهد...شاهد عون رقمها المنجمي فأشار بذلك على الفور لمدير المعهد...هب المدير مسرعا وقد تهللت أسارير وجهه وبدت عليه ابتسامة عريضة...لم يبذل مجهودا ليعرف صاحب السيارة والأستاذة الجديدة التي تنزل منها ...لقد هاتفه سي علالة بالأمس وأعلمه بأن زوجته عينت في معهده ولم يتردد...هي فرصته ليكون في مأمن من الإدارة ومن النقابة...سيجازيه الرجل على خدماته بالتأكيد...أعد لها أحسن جدول وسيغض النظر عن كل ما قد ترتكبه مثل الغياب ...المهم أن يكون سي علالة في صفه...
.استقبلها كما لم يستقبل زميل في هذه العودة وقادها إلى قاعة الأساتذة...أشار على الأستاذة فيروز أن تنتبه لها وتساعدها فهي زميلة جديدة.
استقبلتها ورحبت بها وجلست تتعرف إليها.فهمت أنها عروس في أسابيعها الأولى وأنها متخرجة حديثا ...ساورتها شكوك في كون الزميلة الجديدة قادمة من عالم الآخرين...فلا أحد يصدق أن الأمور تتم بهذه السرعة...تخرج في جوان وزواج في أوت وشغل في سبتمبر...
لم يعد هذا هينا...تذكرت فيروز إخوتها الثلاثة القابعين في البيت منذ أعوام ودون حل...وتذكرت مئات الشبان الذين يجرون الكاباس منذ أعوام...حاولت أن تعرف السر...تمنت لو تكون هذه الزميلة الجديدة في المستوى المأمول وتكشف لها عن السر أو تمدها بيد العون حتى تستطيع تشغيل أحد إخوتها...لم تصدق إجابتها بأن"الحظ والصدفة وراء كل ما جرى"واقتنعت أن الإجابة الصحيحة يلزمها وقت وعلاقات وقررت أن تنتظر الوقت...
تردد هنا وهناك في القرية وفي المدينة أن سكينة قد تم انتدابها...ذهل الجميع...استاء الشباب الحائر وشك وازداد إحباطا...هذه الحادثة تؤكد أن الكاباس فرضت فقط على المساكين...
سكينة بنت العمدة بشير تشتغل وتصبح أستاذة في ظرف أسابيع...
أكيد فعلها علالة ومن يمنعه وهو رجل قوي؟؟
نعم فعلها...
سكينة لم تجر الكاباس أصلا...ومع ذلك هاهي تضرب بكعب عال على المصطبة وتتمشى كأميرة بين الصفوف...
علالة...
لم يخفق هذه المرة...نفذ وعده واستطاع أن يحقق المستحيل...كان شرطها الوحيد مقابل قبولها الزواج منه أن يمكنها من التدريس...صار عثمان يشاهدها من حين لآخر تمر راكبة سيارة حكومية تتجه نحو المعهد وكلما شاهدها إلا وازداد غيظه ...
ازداد كرها لعلالة...
آه يا علالة ...كل شيء يذكرني بجرائمك... تحرمني من سكينة وتتزوجها ثم تخونها مرات عديدة في اليوم...
ذاكرة نادية
كانت لي طفولة لكنها سرقت فجأة...لم أكن أدرك تلك اللحظة الفارقة في حياتي.
كانت القرية باسمة...الأغنام تثغو والكلاب تنبح والأسرة كبيرة...
أبي الناصر يرفل في جبته ويترنم بقراءة القرآن ...يؤم القرية ويقصده الناس لمشاورته في أمورهم...
عمي عثمان صاحب الحلوى والمرح...
فجأة حصل ما لم أدركه...لم يصبح أبي معنا...ذاب...اختفى...
طال الغياب ...لم يرجع...
عمي عثمان تبدل...صار يشتبك مع أمي...تمزقت ثيابنا وقل أكلنا..صرت خجولة من أسمالي أمام تلاميذ الإعدادية....انتقلت إلى المقاعد الأخيرة...تراجعت النتائج...رسبت...
ذات 15سبتمبر حاولت الانتحار...وردة قررت ولا أحد يستطيع إثناءها عن قرارها...منعتني من مواصلة الدراسة...
دافعت عني جدتي...
ثار عمي عثمان...
جاء الحاج عبد السلام غاضبا لكن وردة حسمت الأمر...
قبعت حذوها وقد صرت أفهم...
أمورنا تحت الصفر...
الأهل ينكروننا...يتجنبون حتى الحديث معنا...
بدأت وردة تفكر في أمور خطيرة...أبي الناصر لن يعود وحتى إذا عاد فمصيره بائس...حصل ما لم يكن في الحسبان...العمدة بشير أوهمها أن المساعدات ستتدفق عليها بمجرد طلاقها وامرأة عجوز أكملت إقناعها"أنت صغيرة شابة فلا تخسري عمرك مثلي...بعد الطلاق سيطلبون يدك وتتزوجين أما البنت فكبرت وستتزوج...لا تدمري نفسك..."
في يوم مشحون بالدموع والحزن كان الطلاق وجاءنا عمي عثمان مخمورا في الليل وتشاجر مع وردة...هددها ولعنها...
عمي يزمجر وجدتي تولول أما وردة فكانت تجمع أدباشنا...
"غدا سأتركها لكم...غدا سأرحل"
جاء الصباح...حلت الشاحنة...ملأنا الأدباش البالية وطرنا نحو سيدي بوزيد...
وردة رتبت كل شيء...اكترت مسبقا بيتا في حي شعبي...
وهكذا بين عشية وضحاها وجدنا أنفسنا في المدينة...
******
هذه هي مدينة سيدي بوزيد...قطنا مسكنا قديما في حي شعبي...وبدأت أتأهب لمعركة الحياة...طرقت أمي أبواب المسؤولين الجهويين فلم يستقبلها أكثرهم ومن استقبلها منهم ما طلها أو صدها...مرات عديدة أخرجها الحاجب بعنف تحت صراخ المسؤول:
"راجلك خوانجي...تحب تقصلي راسي...أخرج ...أخرج..."
لم تحدث أحدا منهم بحكاية الناصر المسجون هناك إلى المجهول...هذا الزوج الذي تركته وتركت قريته للأبد...ولكن الخبر سبقها...الوشاة لا يتركون سرا...
استسلمت وردة... شوهدت أياما حذو ضريح الولي الصالح سيدي بوزيد تتسول ثم سلمت الأمر إلى ابنتها... خرجت نادية لتخوض المعركة بنفسها ...قادتها جارتها الشابة إلى هناك...إنها معركة وسلاحها واحد يا نادية...مسألة حياة أو موت...كسري كل القيود وحلقي عاليا...هنا لا أخوال ولا أعمام ولا أهل قبيلة يزمجرون ويهدرون...لا تعطي اعتبارا لأحد واهجمي على الحياة بهذا الجسد الذي تحسدين عليه...ازحفي على بقايا الخجل والأقفال والأحزمة وانطلقي في الأفق...هؤلاء الذين يتحكمون في الجهة لا يقدر أكثرهم على الصمود أمام نظرة حسناء...إنهم يلهثون خلف النساء...افعلي ما أوصيك به وستصبحين مثلي...ستضربين في الأرض بحقيبتك الصغيرة ويهللون لك...
أخذتني إلى عبد الواحد ذات صباح...وبدأت رحلة جديدة...
لم يمل عبد الواحد الوعود...يقول لي إن ملفي أمام هذا المسؤول أو ذاك...يماطلني وأنا أندفع نحوه بحثا عن شغل...لا حل لي...مكتب التشغيل لا يقدم الخدمة إلا بالواسطة...
اجتاحني عبد الواحد.. صرت أسيرة له في انتظار شغل يحررني...صرت ألهث خلفه هنا وهناك وأرافقه أينما ذهب وأينما طلب...صرت أختلي به...أنزع له الحذاء وأغسل قدميه وأصب له كؤوس الخمر وأنام معه وأمي وردة تعلم ذلك
وأهل القرية يعلمون...
وعمي عثمان يعلم...
يرمقني بنظرات قاتلة ولا يكلمني كلما اعترضني...وأحيانا يطلق خلفي صوته ..."يا مومس...يا كلبة الكلاب...تفه...تفه"
كلما اعترضني إلا وأشحت عنه بوجهي وسارعت بالهروب...أعرف أنه يتوعدني ...هو يحدث الناس بأنه سيذبحنا جميعا... أنا ووردة وعبد الواحد وعلالة...يقول إنه سينحرنا بسكين واحد...وكلما سكر يوم السبت إلا وبحث عنا...
أهل الحي يعلمون وعمي عثمان يعلم والأستاذ عبد الله مازال يغرق في حلمه...يبدو أنه لم يستسلم بعد...كثيرا ما يعترضني...صار شبحا آخر فهو مثل عمي عثمان...نسخة شبيهة به...قلت له منذ الأيام الأولى التي اعترضني فيها وكنت مازلت أبحث عن شغل" لا يمكن أن أحبك"...الآن قد أكون اقتنعت به ولكني لا أستطيع أن أبلغه الحقيقة المرة التي ربما لا يعلمها.
أحيانا يعترضني وسط المدينة فأعرج على أول زقاق..
ألمحه من بعيد يطيل قامته ويطل كي يراني وأحيانا يلتحق بي.. يغرقني في قصائده...يتغزل بي...أضحك وأسخر من نفسي لا منه...قد يحسبني ساخرة منه ولكن الحقيقة غير هذا...
لقد سرق مني القمر والشرف...لم يعد لي حق في الظفر بعاشق مثلك يفتخر بقيم الحب التي تركناها بعيدا...كنت جريئا..وصلت إلى أمي وردة في تلك الأيام الأولى قبل أن أغرق...اعترضتها حذو الجامع...ارتميت أمامها وتمسكت بتلابيبها...عرضت أمرك...لم تعدك بشيء لكنك كررت صنيعك مرارا...مرات كثيرة اعترضتها واستوقفتها حذو جامع سيدي بوزيد ورحت تتقرب منها وتشتري لها كؤوس الشاي التي يبيعها بائع متجول...كانت تقول لي لن تجدي أفضل منه ولكننا كنا نخاف فضيحة الجوع ونخشى عثمان الذي ظل كابوسا مرعبا ...
أستاذ عبدالله
تمنيت أن أستطيع يوما أن أقول لك :
"تمنيت بحرارة لو عثرت عليك قبل رحيلنا إلى المدينة وقبل أن أتعرف على هؤلاء أما الآن فلقد حسم الأمر...لم أعد أصلح لأكون حبيبة أو زوجة لرجل شرقي..."
عبد الواحد الذي يصفقون له في قريتنا الصغيرة ويتصورونه شخصية كبرى ويطالبونه بالتوسط منهم صار يعدني بالزواج ...وردة تتمسك بالوقت...تنتظر فرصة لتستشير الحاج عبد السلام لكن الحرب استعرت...اعترضها ذات سبت ونهرها...رفض مصافحتها وصرخ في وجهها...هو أيضا وصلته الأخبار وصار يعلم...
عبد الواحد يعدني بالزواج ...هو ينتظر الفرصة...له أمل في أن يعين في منصب قريبا...علالة وعده بأن يتدخل له....هو ينتظر وأنا كذلك...
وردة
لم تسمع وردة كلام أي منا...تعنتت وربطت الدجاج والكلاب وباعت الأغنام وأخذت ابنتها نادية و طارت إلى مدينة سيدي بوزيد...
وردة يا وردة تعقلي واصبري...إنك تكملين خراب بيتك وتدمرين شرف العائلة...
لم تهدأ وردة ولم تسمع نصيحة أي منا...داست على خالي عبد السلام ونهرت الوالدة محبوبة وطارت...
يومها ولولت الوالدة كثيرا وتخبطت في ذلك الصباح اللعين وانفعلت أكثر من ذلك اليوم الجريح...يوم رددت القرية همسا...البارحة اعتقلوا الإمام...اعتقلوا الناصر الشرقي...
خبر صاعق تحملناه في قلوبنا ولم نرد الفعل...لزمنا الصمت خوفا...
كان أخي الناصر يقضي يومه بين الحقل والمسجد.هجر الأسواق والناس..ينهمك في العمل الفلاحي وفي قراءة القرآن وإمامة أهل القرية و معالجتهم ببعض الآيات القرآنية...هم يقصدونه كثيرا ويثقون في يده...
تلك حياته ..عمل وفلاحة وصلاة وعبادة...
كان رجلا طيبا وقد ورث إمامة القرية عن والدنا ...لم نعرف له زيغا عن الواقع أو الحق...ولم نلحظ شيئا غريبا...
أفقت في ليلة من ليالي الشتاء على وقع أزيز وصراخ .
...شاهدت السيارة من بعيد وهي تغادر مسرعة...طبعا هي سيارة شرطة لكن ماذا تفعل؟
أسرعت إلى بيت أخي...لم أتدثر بشيء...كانت وردة تصرخ" أخذوه أخذوه!!"
لم أفهم شيئا...أخي الناصر لا جرم له ..هل أخطأوني. ربما أخطأوا فأنا السكير الذي يلعنهم صباحا مساء...طالت الحيرة.. حكت وردة أنهم اقتحموا البيت عنوة وبضربة واحدة... لم يستأذنوا ...اختطفوه اختطافا...كان أحدهم يشهر سلاحا..عجبا!لسلاح في وجه أخي الناصر المسالم...
في الصباح قال الناس إن فرقة أمنية اقتحمت القرية واستعانت بالعمدة واتجهت بعد منتصف الليل إلى بيت الشيخ الناصر...قيل أخذوه في لباس النوم وصفعوه...وقيل إن العمدة بشير جاء معهم...
أشاع العمدة ورجاله أنه لن يعود ولن يرى الشمس مجددا
-ماذا فعل؟
-اخوانجي...نهضة...أصمت...
اقتيد الناصر الشرقي...لم يجرؤ أحد على السؤال عنه...صار الناس يلعنونه وينتقدونه خوفا...الكل تنصل منه.
منع العمدة كل المساعدات والمنح الاجتماعية التي كانت الدولة تمنحها له ولأقاربه وشمل الأمر حتى منحة الشيخوخة والعلف الحيواني...أحيل الناصر على المحكمة...حكم عليه مدى الحياة...اتهموه بالانتماء إلى حزب غير مرخص له وتنظيم اجتماعات ضد الدولة والتآمر على الأمن...
لم أكن أعلم أن أخي انتمى إلى حركة النهضة...ولم أكن أعلم أنه يمارس السياسة ولم أشاهده يوما يحمل بندقية لكنهم زعموا وقالوا إنهم عثروا في بيته على بعض الأسلحة وكثير من المناشير...
ما هذه المأساة؟
صرنا جميعا رهن المراقبة وصار لزاما علي أن أسكر وأسكر حتى لا يتسرب إلي شك....
دارت وردة هنا وهناك... طلبت الطلاق ...وجدته سهلا... مازلت أبحث إلى اليوم عمن سهل لها هذا الإجراء...
آه وردة يا وردة
أنت أيضا هبت عليك رياح المدينة وصرت ترين الخلاص في الرحيل...سخر الأهل من هذا الرحيل وغضب كبار العائلة...هدد عثمان بالانتقام ...كثيرا ما سكر في سيدي بوزيد وذهب إليها في مسكنها وزأر في وجهها وهدد بضربها...
وردة زوجة شقيقي الذي يسجنه النظام ظلما تنزع عنا كل الشرف...ماذا ينقصنا كي تكتمل المأساة أين أنت يا خال؟ أتقبل بهذا العار...؟؟؟
أكل هذا شماتة في الشيخ الناصر؟
ماذا فعل الناصر ؟هل قتل ؟هل سرق؟ انتبهوا يا ناس....
-"خوك اخوانجي"
-اذهبوا إلى الجحيم...
أسرعت إلى الأهل..أخبرتهم...حرضتهم...لكنهم صمتوا واكتفوا بالتمتمات....كنت أتدحرج كأني ذاهب إلى اجتماع عاصف في الجامعة العربية وكانوا كالقادة العرب...لا يعرفون إلا الإدانة...
آه يا أخي الناصر لقد طعنوك للمرة الثالثة...
...المرة الأولى لما أبلغوا عنك...لعبة سافلة قاموا بها...رئيس الشعبة والعمدة وعلالة...أبلغوا عنك أمن الدولة.. قالوا إنك تجتمع بالمصلين سرا وتلقي خطابات معادية لسيدهم...لفقوا لك تهما كثيرة...الاحتفاظ بجمعية غير مرخص لها والدعوة لحمل السلاح والتطرف....قالوا إنك على صلة بأفراد مسلحين....قبروك حيا...ردموك هناك....والمرة الثانية حينما وافقوها على الطلاق منك والمرة الأخيرة حينما زينوا لها الرحيل إلى المدينة...
عثمان كان شيوعيا...كان يحب حمة الهمامي ويؤمن بالماركسية أيام كان العمل السياسي متاحا ولكنه الآن رمى المنديل مع من رماه واستسلم.صارت السياسة مجرد همس يهمس به أمام أصحابه المقربين أو يصدح به كلما سكر وتخمر...عندئذ يلعن الشعبة والعمدة والحزب والعائلة...
العائلة التي كان صوت الناصر يعلو فيها مرتلا القرآن ومعلما الصبية صارت خرابا ومذلة...فضحتها وردة...عثمان صار يعرف كل ما يجري...كل أخبار ذلك البيت في الحي الشعبي وصلته.
وردة الجاهلة.. لا تقرأ حرفا واحدا ولا تحفظ آية...كنا نظن أنها لا تستطيع الذهاب إلى السوق إلا بمرافق فهي معرضة للضياع والاختطاف والاغتصاب.. مازالت إسما على مسمى لم تذو بعد ومازال لجمالها شأن...لم تكن تعرف شيئا ولكنه الزمن...هي الآن تلعب مع الكبار...
كل سبت تصل أخبارها الجديدة...ترسل سلامها الحار إلى الأهالي وتذرف دموع الشوق..تقول للبدو إنها بخير وتغرق في مدح سي عبد الواحد وسي علالة وتعدد فضائلهما...
عبد الواحد دفعة واحدة...إنك في المستنقع يا"للة"
من عبد الواحد هذا؟ من يكون؟مجرد شخص رخيص لا قيمة له...هو كلب لأسياده ويوم يذهبون سيذهب مسعورا...قد شاهدتك ذات سبت...كنت في سمرقند...رأيتك حذو المكتبة أنت وابنتك وعبد الواحد...آه أي عار هذا...أفعلتها يا عبد الواحد ودست على شرفنا وكرامتنا...لأنك في الحزب ...لأنك ...لن تدوم لك هذه الدنيا...سيحل اليوم الذي تكون فيه مثلنا أو أحقر منا...قل هذا لسيدك علالة...يا لهذا الزمن اللعين...لو كانت الدنيا دنيا لن أقبل بكما في إسطبل...
انتبه عبد الواحد أن نادية جميلة ...وصار يلاقيها من حين لآخر في مشارب المدينة وفي كل مرة يمطرها بالوعود ويشبعها بالمشروبات والمرطبات وبطاقات الهاتف الجوال ولا ينسى أن يمدها بين الحين والآخر ببعض الأوراق النقدية...ويبلغ وردة ذلك فتحمد الله وتزيد في مديحه .
وصارت نادية تخرج صباحا لتجده في انتظارها بسيارته الحكومية ويعود بها لاحقا...أطمأنت له وكثر مديح وردة و بدأ المحظور يحصل...بدأ الأمر بقبل ومداعبات...قاومت نادية في البداية ولكنها صارت تطيع في المرات القادمة..
القهر...
منذ عين وهو يظهر بوجهين.. وجه للناس ووجه لخاصته...وقد تردد الحديث عن قرب عزله مرارا...لكنه لم يسقط...
عباس يجوب سيدي بوزيد...لم ينجده أحد...أنت أطردته من العمل.كان كاتبا لسلفك لكنك أطردته...أنت كغيرك تريد السكرتيرة الجميلة.تريد الحسناء...
توافدت عليك الدعوات...هذه تدخل وهذه تخرج...كل واحدة موعودة بعمل وكل واحدة تنهال عليها وعودك أياما حتى تكتشفك ...كم واحدة ظلت تركض خلفك ولكنك ظللت تتصيدها...كم واحدة رضخت لك وكم واحدة صفعتك ولكنك لا تخجل...تحول مكتبك إلى ماخور...تفه أيها اللعين...
في النهاية حسم الأمر رجلك السري عبد الواحد...أنهى الجدل وأوقف الطموحات...جاءك بنادية...وانتصبت المسكينة في مكتبك تبحث عن لقمة العيش.
******
في جويلية 2010 أعدوا له ملفا وأرسلوه الى تونس...توقعوا له الوبال...صار الكل يكرهه ويتمنى سقوطه ويراه ضرسا فاسدا في سيدي بوزيد...
...حتى رجال الأمن صاروا يتابعونه ويكمنون له ...الأعين تترصده وهو يعلم بعض ذلك ويعلم أن أخباره تسربت...لكنه ليس بخائف...له من يدافع عنه في دار الحزب وفي وزارة الداخلية وفي القصر...
تقرير سري
شوهد علالة الزيني يطرق باب إحدى العائلات في ساعة متأخرة من الليل وقد خرجت له سيدة ودفعته وطرحته أرضا ودعت له شبان الحي الذين سخروا منه ورموا سيارته بالحجارة...واستفيد أنه كان مخمورا وقد تفوه تجاهها بكلام بذيء وتبين أن المسمى علالة قد أخطأ الباب إذ كان متوجها إلى بيت سيدة سيئة السمعة تسكن وحيدة مع ابنتها التي تشتغل سكرتيرة عنده ...واستفيد أن المدعو حول هذا البيت إلى بيت دعارة وأنه ضبط في حالات مشبوهة وأن عبد الواحد شريك له في هذا الوكر...
مشى أصحاب المعاطف الطويلة ليلا ونهارا في الحي وتابعوا السيارة الفخمة وكتبوا ما كتبوا.. وعلالة مازال يستفيق صباحا يؤدي الولاء لأسياده ويوهم الناس بقرارات الدولة ويمجد الزين ويهتف في الاجتماعات الموسعة والمضيقة ويجول القرى ويغنم لحوم الخرفان وكؤوس اللبن والعسل ويحلم بالترقية...
رفع الملف إلى السلطات وكتبت العرائض والرسائل من مواطنين اعتقدوا أن الزين لن يقبل بمفسد كهذا ولكنه ظل في موقعه.
عبد الواحد هو الخيط الرابط والرأس المدبر فهو الذي يجيئه بالنساء والخمور ويتسلم الرشاوي...
يشاع أنه من قاد نادية ذات ليلة إلى نزل في سوسة...وصف لها الزيارة بالحاسمة فهي التي ستصبح موظفة من الغد...في النزل سقيت نادية "الويسكي "وغنت ورقصت ونال منها عبد الواحد وعلالة الزيني وسلموها لفافة أموال كادت وردة أن تزغرد لما شاهدتها .ومن الغد كانت نادية على مكتبها الفخم...سكرتيرة السيد علالة الزيني...وكانت ترى ضيوفه من الكبار والصغار يرمقونها بأعين شهوانية وهو يتعمد ملاطفتها وملامستها وصار المكتب وكرا...
لم يهدأ عبد الواحد...وصل إلى وردة...صار يرابط في البيت في غياب ابنتها...وشيئا فشيئا سقطت الأقنعة.أصبحت السهرات تتم في البيت...وتورط الجميع ..الأم والبنت وعلالة وعبد الواحد ...وجلبت حسناوات أخريات وتهيأ البيت وتضخم أثاثه و ارتاده بعض ضيوف علالة وأصحابه.
***
سمع الحاج عبد السلام أن فلاحين من الرقاب تحركوا احتجاجا على التلاعب بأراضيهم واعتصموا أمام مقر ولاية سيدي بوزيد فقرر أن يتحرك من جديد...
ذهب إلى إدارة الفلاحة وإدارة الملكية ليبحث عن الرسم البياني فلم يجد أثرا لاسمه...
رفع قضية أخرى...لكنه لم يصل إلى نتيجة...
كلما تذكر أرضه ازداد حنقا...كتب الرسائل والشكاوي ...راسل الوزير والرئيس لكن لا أحد أنصفه أو حتى أجابه...
دلست الوثائق...علالة اشترى الأرض و وردة وقعت له وساعدته ...زحف على أرضه واقتطع منها نصيبا...
لهث الحاج عبد السلام هنا وهناك دون جدوى...رفضت كل دعاويه وأسكتوه...الأرض صارت مشروعا كبيرا ...وعلالة صار يتصرف في الملايين...لا أحد يعرف من أين جاءته الأموال فمشاريعه في قرى كثيرة وأملاكه في المدينة كثرت... لكن الإشاعات القوية تقول إنه شريك لشخصية قوية...العائلة الحاكمة وصلت إلى هنا...تسربت هذه الحكاية فهم موجودون قريبا وفي أماكن مختلفة...صار لهم عديد الشركاء...
كتم الحاج غيظه وسلم أمره إلى الله....علالة صار ثريا وشريكا لهم...
مغازة في المدينة وعمارة شاهقة...أموال الشعب والحزب في جيبه...
التقارير السرية كثيرة...مقاهي سيدي بوزيد تتحدث عن شبكته الناهبة وعروقه الممتدة...يبيع الوظائف...يسلب الناس ويملأ جيوبه وأرقام حساباته ..
لم تجد الأسرة من يذود عنها...لا عن شرفها ولا عن مالها...وحده عثمان يفكر في الانتقام ... يزدرد الكؤوس...يسدد الأموال ثم يخرج...يكاد يتعثر...الرياح تصفر في سيدي بوزيد ومقاعد سمرقند تفرغ...الجلساء يتكومون في الداخل للعب...يسارع إلى غرفة الاستراحة.. يتعثر.. يشاكسه أحدهم...يمضي متمايلا...قد يسقط أحيانا في الرحبة وقد تدور الأفكار في ذهنه فيقرر تصفيتهم جميعا...يفكر في جريمة كبرى تعيد الأمل والشرف...هذه البلاد موجعة والحياة عسيرة...مرارا يخطر له أن يفعلها ..جريمة كبرى بحجم الزمن...يذبحهم جميعا دفعة واحدة...علالة وعبد الواحذ ونادية ووردة....هو يؤمن بأن الشرف الرفيع تطهره الدماء...لا يخاف السجن...السجن الذي ابتلع شقيقه الناصر بلا سبب...السجن الذي ابتلع رجلا هادئا ولفق له تهما كثيرة لا يخيفه...
الناصر يقبع منذ أعوام هناك...يقال إنهم عذبوه وإنه مريض ورجال الشرطة والعمدة يتبعوننا إلى الآن بدعوى أن أخانا" اخوانجي"
القسم الثاني
شتاء النار...
سيدي بوزيد 17ديسمبر 2010
"يا شهيد
يا شهيد الخبزة رجعت
يا شهيد الخبزة ثور
طا لعة من قبرك وردة
تنادي الشعب يجيك يزور
والدغباجي و بن غذاهم
كي خرجوا يتمشوا بين الوديان
قالوا هذا دم الفاضل ساح وغطى كل مكان
...................................................
من أغنية لزهر الضاوي"يا شهيد" (زمن انتفاضة الخبز)
كان هذيانا...نعم كان هذيانا...
كنا نحلم دوما...في أشد لحظات اليأس كنا نحلم...وكان الحلم صعبا...حلمنا في كل مكان وهربنا إلى الخيال...ضحكنا وابتهجنا ونحن نعلم أننا سنعود إلى البيوت لنجد نشرة رديئة:
*رئيس الدولة يشرف على اجتماع لمجلس الوزراء ويتخذ قرارات هامة لدفع نسق التنمية والتشغيل
*إشادة دولية بالرئيس بن علي ومقالات صحفية تتحدث عن المعجزة التونسية...
*حرم رئيس الدولة تدلي بتصريح...
...ولكننا كنا نحلم ونتوغل في الحلم وننتظر صباحا ما...
...نتخيل جميل عازر ونقلده وهو يقرأ أخبارا عاجلة في قناة الجزيرة...
"قالت وكالة فرانس براس في نبأ عاجل أن انقلابا أطاح بالرئيس التونسي زين العابدبن بن علي الذي فر إلى وجهة غيرمعلومة
ونضيف:
ولكن وكالة الأنباء التونسية لم تؤكد الخبر بعد ..."
من كثرة التعتيم الإعلامي في البلاد اعتقدنا أنهم لن يؤكدوا يومها نبأ سقوط الزين أو موته وأنهم سيظلون في سياسة التكذيب والنفي التي يعتمدونها حتى لو اختفى...
يواصل جميل عازر:
* فور ورود الخبر اندلعت مسيرات فرح في مختلف ولايات الجمهورية وقالت فرنس براس أن الآلاف خرجوا في قفصة وصفاقس والقيروان وجهات أخرى...
* من جهته رحب العقيد الليبي معمر القذافي بهذا الانقلاب ودعا التونسيين إلى الوحدة الفورية واعتمادالكتاب الأخضر والتحول إلى نظام اللجان الثورية.
وننتقل في مرحنا إلى نشرة أخبار إذاعة الشرق الأوسط التي تقرأها تلك المرأة
"عبرت الخارجية المصرية عن متابعة مصر لما جرى في تونس وأبرزت انشغال مصر الشديد بأمن وسيادة الشقيقة تونس وحرصها على الشرعية..."
هكذا كنا نهذي كي نستريح قليلا ....لكن هذا الحلم لم يحدث مثلما تخيلناه فالعقيد أطل علينا غاضبا بعد الواقعة...وزمجر في وجوهنا..."ليش...ليش تونس رديتوها فحمة...لا حول ولا قوة إلا بالله...اش دارلكم زين العابدين...لا حول ولا قوة إلا بالله..." قبل أن يعود بعد أيام ليتراجع عن هذا الخطاب.
نافذة
بائع الخضر
محمد بوعزيزي شاب يدفع عربة الخضر كعادته كل يوم...يبيع الخضر والغلال...في مدينة لا شغل فيها...يكدح مثل العشرات بحثا عن لقمة عيشه...يعيش عزلة الفقر...جاءه أعوان البلدية كعادتهم...يمنعون نصب العربات ويفرضون المعاليم ...اشتبك معهم...افتكوا له ميزانه...
...تسرب إلى الناس أن إمرأة ضربته...
ثار...جرى هنا وهناك...حاول الاتصال بالمسؤولين...صده أعوانهم وحجابهم...غلى الدم في عروقه...
انتفض اليتيم...لم يكن أحد يعرف أن تلك المقولة الشهيرة"اليتامى زعماء العالم" ستظهر مرة أخرى وفي هذه المدينة...
طار إسمه وخبره إلى كل مكان...
دخل التاريخ التونسي والعربي الحديث قصد أو لم يقصد...لا أظنه كان سياسيا أو مباليا بالسياسة ولكنه هز عرش الساسة...
ولد هناك في حي النور الغربي بمدينة سيدي بوزيد...هذا الحي الشعبي الذي سكنته أعواما مع عائلتي...
هو حي أكثر سكانه من السواد الأعظم...فيه فقراء كثر ومواطنون بسطاء وموظفون من أصحاب الرتب البسيطة...ولكنه كان حيا لا يهدأ...
كان هذا الحي منذ سنوات مرتعا للبوليس السياسي...الصدفة وحدها جمعت الكثير من الأشخاص المراقبين الذين يتبعهم رجال الأمن ليلا نهارا بهذا الحي وربما لم تكن لهم علاقات ببعضهم ولكنهم كانوا يزعجون النظام..
في هذا الحي كان البوليس السياسي يراقب الكثير من الأساتذة والمعلمين والموظفين والوجوه التي شكلت مشهد الاختلاف في سيدي بوزيد لسنوات طويلة...أكاد أسمي البعض لكن القائمة طويلة...وقد يغضب البعض لنسيانه وقد يغضب البعض الأخر لذكر بعض الأسماء...فنحن في زمان صار فيه الكل يدعي ويقدر على الحكم وإزالة تاريخ البعض بكلمة أو صرخة..
في تلك الأيام كان صديق يسخر وله الحق فاليأس شديد والحكاية لم تخطر على بال أحد:"هؤلاء يلهثون وكأنهم سينقلبون على النظام وسيستولون على الحكم!".
أعود إلى محمد البوعزيزي فهو من مواليد هذا الحي بتاريخ 29مارس 1984 وهو مسجل على أوراقه الرسمية تحت اسم طارق ...مات والده الطيب وهو طفل في سنواته الأولى وتركه في عائلة فقيرة...لم يكمل دراسته وانقطع من الثانوية لكن العالم صدق أياما أنه من حملة الشهائد العليا ...منحه الشعب شهادة علمية كبيرة...
علا لة الزيني
...كغيره من أنصاره قصد علالة الجامع المقابل للولاية ليصلي صلاة الجمعة...هو أيضا يصلي وهو الذي لهث ضد المصلين والمتحجبات وتمنى شنقهم...يصلي ليرصد بقايا المصلين وليبحث في طرق صلواتهم ... صاروا يميزون بين المصلي العادي والسياسي ببعض الإشارات...
كان علالة يستعد لوليمة بعد الصلاة...ترك عبد الواحد كعادته يرتب الأمور...وظل طوال الصلاة يفكر في الليلة القادمة عند وردة...أسر له عبد الواحد صباح اليوم أن ثمة ضيفة جديدة ستكون حاضرة...فتاة حسناء قادمة من مكان ما أوقع بها...هي تحمل شهادة جامعية وستجري" الكاباس" غدا وتبحث عن وسيط...أرشدوها إلى عبد الواحد...لم يمانع .زعم لها إنه يستطيع وأن سي علالة سيحل الموضوع..".لسي علالة علاقات كبيرة هناك وهاتف منه يساوي برقية تعيين في مكان جميل وممتع..."
يروج فعلا أن علالة يبيع الوظائف...وهو ممن يرتبطون بالشبكة الكبرى..هو من المقربين من العائلة ...يقبض الملايين يا صاحبي...
فرحت البنت...لكن الثمن...
أسر لها عبد الواحد أنها لن تدفع مليما واحدا وأقنعها بعد أيام أن ليلة مع علالة تكفي لتحقق حلمها...جاءت إلى سيدي بوزيد يوم الجمعة.. زعمت لأسرتها أنها ذاهبة لتقضي الليلة عند زميلة لها للمراجعة والراحة وتجنب مفاجآت الصباح فقد تنزل الأمطار أو يتأخر النقل وهي التي تقطن بعيدا......في هذه اللحظات استوت عندها الأشياء فالمهم أن تحصل على شغل وتلتحق بالتدريس...
ضرب الموعد للمساء...
علالة محتاج لفسحة هامة فالجو خانق والوالي الجديد الذي عين أخر الصائفة في سيدي بوزيد لا يبالي به ولا يعطيه اهتماما ولم يعثر بعد على باب يدخل منه إلى صحبته وصداقته كي يطمئن...
فشل في الوصول إليه لكنه يفكر في خطة...لقد أخضع من هم أكثر منه حزما وصلابة وجعلهم رهن بنانه وأعطاهم الأموال وجاءهم بالنساء وأدخلهم في العالم الخفي الذي قاد منه هو وأصحابه سيدي بوزيد أعواما...لم يفلت منه ومن أصحابه غير نفر قليل من المسؤولين لكنه هزمهم في النهاية وحاربهم في الخفاء حتى عزلوا ودمروا أو نقلوا إلى أماكن أخرى...
كان الأمام يخطب وكان علالة يسرح بخياله في الليلة وفي الوالي الجديد الذي يجب أن يستولي عليه ويكبله...لم يستفق علالة من حيرته إلا حين بدأ الإمام يمدح الرئيس ويدعو له بالخير وطول العمر والصلاح والتوفيق وخير السبيل ...بدا وكأن وخزة كهربائية صعقته ورفع يديه..."امين...أمين"
تعلم أنه لا بد أن يبرز تفاعله مع هذا الدعاء حتى ينقل الآخرون ذلك في تقاريرهم ولا يلاحظون أنه غير متفاعل مع هذه الفقرة التي غزت جوامع تونس...قد يفعلها أي واحد منهم و تنقلب عليه الأمور لذلك يحرص منذ أعوام على هذا...
يجمعه الموعد مع عبد الواحد ووردة عند التاسعة أما قبل ذلك فسيمر على مكتبه ويأخذ السيارة الإدارية ويلتحق بأصحابه في مقهى بعيد مثلما اعتاد.
يدمن علالة هذه الأيام على مجالسة بعض الوجوه هناك...
لا أحد يعتقد أن هذا الاجتماع اليومي بريء ...حتى الحزبيون أنفسهم من الصف المعادي لعلالة يشكون في هذه الجلسات لذلك عقد أحدهم صفقة مع النادل كي ينقل ما يدور في هذا المجلس ....
دار النادل هنا وهناك...استرق السمع...تظاهر مرارا بتفقد الجماعة تبجيلا لهم واقترب منهم لكنه لم يظفر بشيء...
..العربي القواد أو هكذا يسمى في سيدي بوزيد...إطار مهم في إدارة ما...يطمح إلى ترقية..الترقية تمر عبر علالة مقابل بعض الخدمات السرية...يمده بوثائق خاصة...يساعده في تدليس بعض الوثائق التي يحتاجها لصفقاته وصفقات أصحابه...وهو يواظب على الحضور وكلما اختلى به إلا وعرض حلمه في الترقية...أما الزيتوني فله شأن آخر...كان ينتمي لحزب معارض ويخشى أن يعاقب أو تتعرض له الدولة...منذ مدة تاب عن السياسة المعارضة واقتنع أن لا فائدة ترجى من المعارضة...انخرط في التجمع وبدأ يحلم بتسلق الرتب ...يحلم أن يعين كمعتمد في الدورة القادمة وقد نصب نفسه عضدا مقربا من علالة...يساعده ويرافقه في الاجتماعات القريبة والبعيدة ويعد المحاضرات عن النظام ويحضر منتديات التكوين السياسي...أما العيد فهو حزبي قديم من زمن بورقيبة تجمعه بعلالة أمور كثيرة...يخططان لإزاحة كل من يعاديهما في لجنة التنسيق...يصر
أحيانا انه دستوري لا تجمعي ويبوح بكثير من النقد للنظام لكنه يقول ذلك لعلالة فقط...حتى الأستاذ حمودة يحضر هذا اللقاء من حين لآخر...
بين الجماعة أمور كثيرة ومخططات سياسية يخشاها حتى أصحابهم
كان ينتظر نهاية الصلاة كي يمضي إلى هذا الموعد فله حديث كثير هذا اليوم...وكان يبحث عن مساحات لإضاعة الوقت حتى يأتي موعد الليلة...أما عبد الواحد فهو منذ الصباح ينفرد بهذه البنت ...يخطط ويكذب ويحلم ...
خرج علالة من الجامع فشاهد جموعا من الناس يحتشدون أمام الولاية ويهتفون ضد النظام...توقع أن يكون الأمر تجمعا عاديا فنقابيو الجهة اعتادوا منذ مدة على الاحتجاجات...وهو كثيرا ما نصح بالقصاص منهم...
اعترضه رجل أمن سري فسارع بالقول:
-أكيد مشاكل النقابيين...لا بد من ضربهم...هم يشوشون ويهرجون...ماذا يريدون ؟؟
...أسر له البوليس أن الأمر مختلف...
-بائع خضر أحرق نفسه أمام الولاية.
كانت الأصوات الغاضبة ترتفع ...وكانت الحشود تتدفق ...سارع إلى لجنة التنسيق...راح يهاتف المسؤولين المحليين والجهويين والمركزيين.يعلم بعضهم ويستشير البعض الآخر ويحرض الآخرين على الالتحاق والتصدي للمحتجين ...باتت البلاد تغلو غليانا شديدا...البطالة مرة...الحاكم أهملنا...لم نجن شيئا من الدولة...
نافذة
مقاهي مكتظة
أهالي يسارعون إلى السوق الأسبوعية التي تبدأ مساء كل جمعة...
مصلون يسارعون إلى الجامع تحت أنظار البوليس السياسي وحبل يشتد ويشتد...
في دار الثقافة أبي بكر القمودي كان لنا موعد مع الشاعر الجنوبي الرائع جمال الصليعي ...
في زمن الحصار كنا نلتجئ نحن المثقفون الذين لا سند لنا يحمينا إلى دعوة مبدعين نعتبرهم رموزا لم ترضخ ...لا يهمنا انتماءهم ولكن يهمنا اختلافهم مع السائد وتلويحهم بغضب خفي ضد الواقع وضد النظام البالي...
كثيرون كنا ندعوهم شماتة في مثقفي النظام ورغبة في استنشاق هواء سليم...كنا نضخ المشهد بهؤلاء الذين ظلوا رفقاء وأصدقاء للثقافة الراغبة في التحرر...كان هؤلاء ضيوف الأحزاب والنقابات وطلاب الاتحاد مرارا...
اليوم ضربنا موعدا مع جمال الصليعي
آه يا جمال...
كم أنت بعيد في المسافة ...
سمعت بك ذات يوم...كان أولاد بلدتك دوز يبشروننا في بداية التسعينات بأن لهم شاعرا ليس ككل الشعراء...شاعرا عموديا عروبيا يملك موهبة مداواة الجراح وكانوا ينسخون قصائدك ويجيئوننا بها مع عبابيد التمر...
وجاء اليوم الذي رأيناك....جئتنا إلى الكلية...عج بنا المدرج وأخذتنا إلى تخوم بعيدة...قرأت لنا قصائد كثيرة هزتنا...قرأت حتى الأسوار...
منذ ذلك اليوم أدمناك وكلما وجدنا فرصة إلا وطرحنا دعوتك...وكلما جئت إلا ذهل الحاضرون ممن ظنوا أن الشعر العربي قد اغتيل ووجدوا أنفسهم أمام مقاتل كبير...صوت كبير كأنه المتنبي ينزل ويهتز...يحرك يديه تعبيرا ويبث لنا الكثير من الكلام الذي نظل نردده أياما...
17ديسمبر كان موعدنا معك...قلت لك في نهاية اللقاء إننا لا نشبع من شعرك وتمنيت حضورك مجددا وقلت إنك ستعود دوما...
لحظت غياب الكثير ممن انتظروا الموعد بشغف...تسرب الخبر فجأة أنهم هناك أمام الولاية...اقتربت منك وهمست لك انه لا بد أن نكمل الأمسية بعد قليل حتى نلتحق بالشعب...
صدفة جميلة أنك كنت هنا يومها وشهدت البداية التي كنا ننتظرها منذ زمن لكن فاجأنا وقتها...
راج الخبر...
شاب أحرق نفسه أمام الولاية والناس يتجمعون...
ورد الخبر في الجزيرة المغاربية عند الساعة العاشرة ليلا..."أقدم شاب يدعى محمد البوعزيزي على إحراق نفسه أمام مقر محافظة سيدي بوزيد".
...انتبه العالم إلى هذا الحدث وتركزت العيون...رائحة ما تنبعث...في صباح السبت تجمع الناس من كل صوب وانتظمت مسيرة سلمية جابهها النظام بالعنف وتحولت المدينة إلى ثكنة وتصاعدت الأحداث
جاء النظام بأعداد هائلة من الأمنيين دخلوا في مواجهات مع المواطنين وتحولت مدينة سيدي بوزيد إلى مسرح لمقاومة شعبية شبابية استبسل فيها الشباب وجابه أعوان بن علي وأوقع بالكثيرين منهم وهزمهم...وقد توفى في هذه الأحداث شاب ثاني هو حسين الفالح وقد اختلفت الروايات حول وفاته فشق اعتبر العملية انتحارا والشق الثاني اعتبر أن حسين كان يطارده الأمن فصعد إلى عمود كهربائي أمام مقر اتحاد الشغل فأصابه الكهرباء وثمة من يقول أن الضربة الكهربائية كانت بفعل فاعل موال للأمن.... تعددت في هذه الفترة محاولات الانتحار في مختلف جهات سيدي بوزيد.
...
صباح السبت
يوم سوق أسبوعية...ناس من كل القرى...نساء ورجال وصبية متسولون اعتادوا النزول في سيدي بوزيد كل سبت...يأتون من قرى ومدن مجاورة...قيل إنهم يأتون في سيارات وأن ثمة من يشغلهم ويكلفهم بهذه المهمة...لا تفاجأ يوم السبت إذا تمسك بتلابيبك صبي أو فتاة وطلب منك المساعدة فالفقر اشتد ومعه كثر المتحيلون...لقد اشتد التحيل والتسول هذه الأيام
هاتفني صديقي البغدادي وأنا أمام التلاميذ في القرية...أعلمني أنها أجفلت وأن الجماهير غاضبة غضبا لم تشهده منذ أيام... وأن مسيرة كبرى تطوف المدينة الآن...
الثكنة
اختلط الناس في سيدي بوزيد. مواطنون قادمون إلى السوق وتلاميذ يغادرون معاهدهم بمناسبة عطلة الشتاء...ساروا واحتجوا وتصادموا مع رجال الأمن...وصارت سيدي بوزيد ثكنة مغلقة.
تسوق عثمان الشرقي هذا اليوم...جلس في سمرقند...لم يكمل قهوته..قفز يجري وانضم إلى المسيرة...صرخ بأعلى صوته منددا بالنظام"التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" ..
الحراس المدججون بالسلاح في كل مكان يرمقون الشعب والشباب الغاضب يتظاهر ليلا مساء ويواجه ببطولة واقتدار...تصبح المدينة دخانا ...آثار الحرائق في كل مكان...في أرضية الطرقات والمحلات ..وأخبار المواجهات والاعتقالات تملأ المقاهي وصفحات "الفايسبوك"...
صارت سيدي بوزيد على لسان كل القنوات وكل الأحزاب وظلت جرائد البلد تمدح الزين وتصغر من قيمة الحادثة...تجند فريق من المراسلين والصحفيين وراحوا يمحون الخطى...
"الزين يحب سيدي بوزيد...الزين هو الذي طور سيدي بوزيد ...المشاريع التنموية قادمة...هذا شغب...."
أغرقت الإذاعة والتلفزة في البيانات التقليدية وكررت الطريقة الإخبارية الرديئة التي حفظناها عن ظهر قلب..."جد صباح اليوم...."أو أعلن مصدر رسمي....."
...تلك البيانات التي تتحدث عن الاستقواء بالأجنبي والعمالة وعن الفئة المعزولة التي تغار من إنجازات تونس وتحاول ضرب استقرارها الذي ينظر إليه العالم كنموذج..." يا لهذه الإسطوانة المخادعة التي سمعناها أعواما..."
عقد علالة الاجتماعات السرية بأعضاده ودماه...حثهم على اليقظة المستمرة للدفاع عن مكاسب البلاد وأرسل برقيات الولاء والتأييد...
"نحن معك...سيدي بوزيد معك...الشعب معك..."كذبة رددها علالة الزيني منذ أعوام ولكن الحقيقة ظلت خفية...
انضمت جل المعتمديات إلى الثورة من باب نجدة أهالي سيدي بوزيد وقد لقيت هذه الدعوة تجاوبا كبيرا فشهدت بنعون وبوزيان والمكناسي والرقاب تحركات مختلفة وخاضت مواجهات عنيفة مع قوى الأمن...
صمت النظام أياما ثم نشرت وسائل إعلامه أخبارا مغلوطة عن الواقعة وكان الجميع يضحك منها لأن العالم عرف الحقيقة من وسائل الإعلام الأخرى.
أرسل بن علي وزيره للتنمية وأعلن جملة من القرارات تلقفها العملاء والمأجورون وراحوا ينشرونها ويبيضون بها وجه النظام.وتولت أعداد من الصحفيين الكتابة عن سيدي بوزيد وشد أزر النظام لكن الأحداث لم تهدأ وتصاعدت ....
حل "ضو الكذاب" بمدينة سيدي بوزيد وراح يقتفي آثار الغضب ويمحوها بجرة قلم...يحاور علالة والأستاذ حمودة و غيرهم من الدمى...يدعون جميعا أن ما حدث مجرد شغب وأن ولاية سيدي بوزيد وفية للنظام...
سيدي بوزيد...سنوات المرارة
1
لم يكن من السهل على الكثير من شيوخ سيدي بوزيد تقبل إطاحة بن علي ببورقيبة فانسحبوا من المشهد وعبروا في جلساتهم الخاصة عن تبرمهم منه وتشاؤمهم من سياسته في الوقت الذي كانت آلته الدعائية تنتشر في البلاد وتحكم السيطرة عليها وتوهم بعهد جديد ظلت وسائل إعلامه متمسكة بجدته طوال سنواته وتوهم بعهد الشباب والديمقراطية وإنقاذ البلاد والعباد...وقد صنع النظام صورة كبيرة تبدو فيها سيدي بوزيد قلعة له يكسب منها الأصوات الانتخابية بسهولة ويفرض عليها تقديم مبالغ مالية هامة في يوم التضامن كما تعج شوارعها بالناس في الاستعراضات السنوية وغيرها من المناسبات .
ولكن بعيدا عن هذه الصورة كان الناس يتذمرون ويكتمون الغضب وقد وصل هذا الشعور في السنوات الأخيرة إلى بعض الدستوريين أنفسهم إذ حصلت انشقاقات وانقسامات عقب الانتخابات البلدية والتشريعية لم يذكرها الإعلام ولم يتطرق إليها حيث اعتبر البعض أن بعض التعيينات إهانة أخلاقية للجهة كما اعتبروها تعيينات مسقطة من الرئيس وظهرت بوادر التمرد عليها والدليل على هذا الاعتصام الذي قام به بعض التجمعيين عقب الانتخابات البلدية والذي طوق بصعوبة.ويسود شعور لدى الناس أن بن علي يكره الجهة كرها خاصا وقد تكرست هذه الرؤية بعد إطاحته بالوزير الوحيد الذي مثل الجهة في حكومات بن علي المتعاقبة ذلك أنه لم يختر أبناء الجهة في مناصب هامة ما عدا بعض الولاة الذين عزلهم بسرعة...
ومن مظاهر تجاهله للجهة أنه لم يخصها في سنواته الأخيرة بمجلس خاص مثل غيرها من الجهات وظل الناس ينتظرون لفتة منه ولكنه لم يفعل وحتى في أحداث الثورة فلقد كانت قراراته في إطار مشاريع لكافة الولايات الداخلية محاولة منه لنزع فتيل الغضب.
2
زار بن علي سيدي بوزيد مرتين متباعدتين وقد شعر الناس بالخيبة عقب كل زيارة فلا هو مكث معهم أو خطب فيهم خطابا شعبيا مثلما عودهم بورقيبة ولا هو أثلج صدورهم بقرارات مهمة.
جاء مسرعا ومنزعجا وترجل مسافات قليلة وعقد جلسة في الولاية ثم انتقل إلى وليمة خاصة حضرتها الخاصة وطار مخلفا قرارات هزيلة ومدائح كثيرة أطلقتها الأبواق المداحة...هذه الأصوات تحدثت عن الزيارة الخالدة والتاريخ الذي لن ينسى ومدحت الإنجازات المنتظرة لكن بن علي لم يفعل غير ذر الرماد على العيون وأعلن قرارات من نوع إيصال الماء الصالح للشراب و النور الكهربائي وإحداث مناطق سقوية وهي قرارات يستغرب أن تحتاج إلى قرار رئاسي ...أليس من السخرية أن يصل الماء الصالح للشراب إلى جهة ما بقرار من رئيس؟
أما القرارات الكبرى والتي شكلت مصدر مديح فلم تتحقق حتى بعد هروبه فمصنع الحليب اختفى ونقل إلى جهة أخرى رغم تكوين إدارة له واكتفى سكان سيدي بوزيد المغلوب على أمرهم بالحزن الصامت...وأما المركب الشبابي فظل بناية جاهزة تمارس فيها أنشطة موجهة ولم يشعر شباب الجهة ومثقفوها بأهميته حيث ظل أسيرا وفرضت عليه توجيهات مختلفة وقد عجز مديره الأول الذي أقيل بعد مكيدة عن فرض أنشطة ذات بال بسبب الرقابة والقيود.
وأما الجامعة التي تم إحداثها فتبين أنها مجرد معهد تكنولوجي ولم تشرع إلى اليوم في العمل في حين مازال المعهد التكنولوجي الذي أعلن عن تأسيسه مرتين ولم يفهم أحد سر الإعلان الثاني يستحوذ على مقر قديم وهو مقر المعهد الفلاحي...
الغريب في الزيارتين ما سبقهما من عسكرة وإجراءات أمنية رهيبة حيث حشد بن علي قوات ضخمة اجتاحت سيدي بوزيد وانتشرت في شوارعها وأحيائها السكانية وأرهبت الناس وضايقتهم.
وأود هنا الإشارة إلى طرفتين فقد قام التجمعيون بالاحتفاء بذكرى الزيارة الثانية بعد سنة وانتظمت لذلك جلسة في مقر الولاية.أما الطرفة الثانية فكانت ما راج عن لافتة ترحيبية كتب فيها "السجن المدني بسيدي بوزيد يرحب ببن علي"
3
زار بن علي سيدي بوزيد مرتين وثارت عليه مرتين
كانت المرة الأولى في نهاية التسعينات عقب الفيضانات التي اجتاحت الجهة حيث ثار الناس على الإهمال وعدم تدخل الدولة لإنقاذهم وقد خلفت الأحداث بعض القتلى من جراء الفيضانات و اعتقال العديد من المواطنين.
أما المرة الثانية فلقد كانت في نهاية 2010 وتحديدا منذ عشية 17 ديسمبر حين اندلعت الثورة المعروفة التي اهتم بها العالم وصارت من أشهر الثورات المعاصرة
4
تصاعد الغضب في السنوات الأخيرة وقد غذته السياسة العامة في البلاد وبات السكان يشعرون بالمصير المجهول إذ تفاقمت القبضة الأمنية وكثر الانحراف وانعدم أمن المواطن وكثرت الأنباء عن سلوك العائلة الحاكمة واشتدت البطالة وارتفعت الأسعار وعجزت المسكنات عن إطفاء الألم...وقد جدت في الأشهر الأخيرة من زمن بن علي جملة من الأحداث التي عبرت عن هذا التوتر والاحتقان وزادت فيه من أهمها وطنيا عودة خطاب المناشدة وشروع الجوقة الرسمية في مناشدة الرئيس لفترة جديدة مقابل بروز إشاعات قوية عن نوايا التوريث التي خططت لها المجموعة الحاكمة كما برزت جهويا جملة من الأحداث ومنها
-استفحال الإجرام من عمليات سرقة وقتل بشع واختطاف وهو ما أفقد الناس الأمن والأمان خصوصا وقد عجزت الدولة عن وضع حد لهذه الأحداث.
-غضب فلاحي الرقاب واعتصامهم أمام مقر الولاية احتجاجا على ما تعرضوا له من مظالم.
-تصدع التجمع الدستوري حيث نتجت عن مؤتمرات هياكله خلافات عديدة جراء عدم شفافية مؤتمراته وفشل قيادته حتى في تكريس الديمقراطية داخل هياكله.
-تزايد البطالة والفقر وفقدان مصداقية المناظرات والانتدابات الوطنية.
-تعدد محاولات الانتحار في المواقع الهامة وقد شهدت سيدي بوزيد عدة محاولات للصعود إلى عمود كهربائي جد آخرها قبل حادثة البوعزيزي بأيام لكن الإعلام تجاهل هذه الوقائع وأوردها مشوهة...
صباح الخير سيدي بوزيد
بيروت أنت هذا الصباح وقهوتك بيروتية..
.كم أنت عظيمة أيتها المدينة المنسية...
شكرا لك لأنك خلعت مواد التجميل
ونزعت الكمائم
و تحديت الألغام...
سيدي بوزيد...
طار الحمام...وزحف الجنود...
طار الحمام ولعلع البارود...
مازال يرسل المزيد
مازال يريد دمنا...مازال يريد غضبنا...
مازال يريد هممنا...
بوزيد صبحا...قال الفتى لنا موعد غضب
و تجمعت السحب...
"سيدي بوزيد" المنسية
تخرج من كتاب النسيان فجأة...تنفجر لتحرق أحاديث الجرائد والتلفزات المتواطئة وتطلع كشمس ربيعية حالمة...
لقد نسوها كثيرا وتجاهلوها...لم يحفل النظام بها وقدمها بصورة ساخر ة...
اختصروها في الخرفان والرعي وهمشوا رجالها وبنوا داخلها كوابيسا كثيرة...
اعتصرت وقررت أن تدخل التاريخ من الباب الكبير و أن تتحول إلى ساحة حرية وكرامة...طارت صورها وأخبارها إلى العالم وتردد إسمها في كل وسائل الإعلام وتوافد عليها المراسلون والصحفيون وصدرت القنوات والصحف الكبرى أخبارها بصورها وأنبائها القادمة خلسة عن أعين نظام قمعي يحاصر الكلمات ويكتم الأنفاس...
الآن يحق لكل أبناء الجهة أن يرفعوا رؤوسهم عاليا...وداعا لسيدي بوزيد الأمس التي ينساها السلطان ويبتزها...
الآن يا ابن هذه الربوع التي كتبت صفحة جديدة في تاريخ البلاد وفتحت زمنا عربيا جديدا لك أن ترفع رأسك عاليا فأنت في سيدي بوزيد وأنت من سيدي بوزيد...
بوزيد تنحت البطولة...بوزيد تتحدى ...بوزيد تمزق صوركم من كل طريق ودرب...
صباح الخير يا مدينة الغضب هاهم ينشرون الحراس في كل مكان و يتهمونك بالشغب.
مطر الشعانبي
جاءت الأخبار معلنة عن تصاعد الغضب في معتمدية منزل بوزيان...
كعادتها هذه المعتمدية عصية عليك أيها النظام...هاهي تعري لك صدور شبابها وهاهم يتقدمون نحوك بكل حزم كما قال رأسك...جابهتهم بالرصاص الحي وقلت في بيانك إنهم مشاغبون وإنهم حاولوا التخريب والهجوم على مركز الأمن...
ارتكب النظام مجزرة في منزل بوزيان ...أطلق رصاصه الحي ...سقطت الرصاصة الأولى على صدر نجل مقاوم كبير ممن جاؤوا بالاستقلال ...هب الشهيد محمد العماري لمعالجته فأصابه رصاص آخر وأرداه قتيلا على عين المكان قتلا بالرصاص الغادر وظل الشهيد شوقي يصارع الموت أياما حتى التحق بالرفيق الأعلى وأصيب آخرون .
خطب بن علي خطابه الأول وتوعد الغاضبين ثم أدى زيارة إلى المستشفى الذي نام فيه البوعزيزي واستقبل أولياء الشهداء والضحايا ومرر التلفزيون ذلك وانتزع من بعضهم كلاما مدحيا وثناء وزغاريدا ...
تعددت مناورات النظام وراح يجري هنا وهناك ويتخذ الإجراءات لفائدة الجهات الصغيرة لكنه فشل في السيطرة على الوضع رغم بعض الهدوء.
مات البوعزيزي وشيعه الناس إلى قريته بالآلاف ونظموا له جنازة ضخمة وعاد الغضب واشتد....
تحركت مدينة الرقاب ولوت عصا الطاعة ليا...
منذ أشهر غضب فلاحو الرقاب...واعتصموا...
وما أن أجفلت في سيدي بوزيد حتى تحركت الرقاب من جديد..
.تحركت الرقاب في الأيام الأولى ومكثت غاضبة حتى حانت ساعة الحقيقة...لقد خرجت عن النظام خروجا عظيما...اعتصمت الرقاب وغضبت فاهتز عرش النظام...أغلقت الرقاب دكاكينها أياما وثارت والعالم يشاهد الشهداء والجرحى والجنائز.
لن ينسى دور الرقاب فلقد هزمت النظام وسجلت بطولة لن تنسى...جدت مواجهة في السعيدة ثم تكرر ذلك في مدينة الرقاب وسقط الشهداء الأحرار واعتصم سكان الرقاب وأعلنوا العصيان المدني أياما واستعصوا على النظام الوحشي...
حدثني صديق قال إنه لما اشتدت الأحداث قال "لن نمطر إلا إذا أمطر الشعانبي..."
وفعلا أمطر جبل الشعانبي رصاصا ونارا و شهداء ...خرجت القصرين على بكرة أبيها وواجهت النظام فسقط عشرات الشهداء في تالة والقصرين وجهات أخرى .لم يعد من حل مع هؤلاء إلا الرحيل وغضب الشارع في كامل البلاد وخرجت جلمة خروجا كبيرا لعنت فيه عصابة السراق ولفظتهم وتحركت المدن الكبرى ومنها صفاقس وشنت إضرابا عاما تزلزل معه النظام وارتج...خطب الزين للمرة الثالثة مذعورا ومنهارا "فهمتكم...غلطوني...سيحاسبون...ألمي وحزني كبيران..."
لم تنفع خطابات الزين المرتبكة والمهددة.
...خطاب ارتخى فيه وانهار...تكلم بصوت أجش...اعترف بالخطأ والإحباط...أعلن وقف الرصاص وعدم الترشح للرئاسة وإطلاق الحريات...أعلن الفهم ... أعادها مرارا بصوت مرتبك"...فهمتكم...فهمتكم...غلطوني "لكن المداحين لم يستسلموا وباتوا
يتظاهرون فرحا ويرقصون على واحدة ونصف أمام مقر الولاية وأصبحت الصحف مادحة مهللة لخطاب البارحة وأطلق سراح التلفزيون.
...خرج علالة وعبد الواحد والأستاذ حمودة وشاعرتهم زهرة و الصحفي ضو و غيرهم يركضون ويهتفون ويعبرون عن الفرح ويتبادلون التهاني والمشروبات لإيهام الناس بالانفراج...
فجأة لاحت تلفزة جديدة...
بلا مقدمات...
في هذه الليلة ثار عثمان الشرقي...شاهد مبارك صالح لأول مرة منذ سنوات على إحدى الفضائيات...فرك عينه وتثبت في الكتابة والصوت...هو فعلا مبارك صالح رفيق الشباب...كان يتكلم من الخارج...كان ينتفض ضد بن علي...وكان يدين العنف الذي تعرضت له تالة والقصرين والرقاب ومناطق أخرى ويدعو إلى رحيل بن علي ويطالب بإطلاق سراح حمة الهمامي فورا...هو على العهد إذن...أكيد واصل العمل من بعيد وسيعود يوما.
"كان لا بد من غروبك ليلا"
"ما أحلى القعدة عل المية
وما أحلى الربيع
ما أحلى الثورة التونسية تضم الجميع
ياأمي ياإخوتي لا تحزنوا
نور الله في قلبي مازال حي
...راجع راجع
لبلادي عبر الجبال
وين يتلاقو أندادي في الساحة رجال"
من نشيد الثورة التونسية
14جانفي2011
أخبار الصباح تتصاعد...الحشود تكثر...نظام منهار...حزبيون يرتعدون من المحاسبة التي أعلنت البارحة...الهدوء لم يرجع...الداخلية محاصرة بالشعب الغاضب الذي التاع منك طويلا......تواصلت المسيرات واحتشد الناس غاضبين أمام الداخلية وتكررت المواجهات..كان النظام عنيفا ووحشيا لكن الغروب حمل مفاجأة ثقيلة...أعلن التلفزيون بالخط العريض قرب بث خبر هام جدا.
جاء محمد الغنوشي مرتعدا...أعلن أن منصب الرئيس صار شاغرا الآن...انفجرنا فرحا...
هرب بن علي...
سقط السابع...
الآن تخرج منها ملعونا...اه" أخرج منها يا ملعون" وهذا عنوان رواية لصدام حسين ينطبق عليك اليوم ...أخرج يا ملعون ...وتضور في السماء..ليلة كاملة وأنت تبحث عمن يأويك ...رفضتك دول كثيرة ...أين أصحابك يا رجل؟ أين أولئك الذين كان إعلامك يزعم أنهم اعتمدوا مبادراتك وأفكارك...أين من أعطوك الأوسمة والجوائز والشهادات العلمية تزلفا؟"
تخرج منها ملعونا...يلعنك شعب بأكمله حتى الذين كانوا يمدحونك ويجاملونك كشفوا أنهم كانوا يتقون شرك...
تونس الآن تسهر مسرورة وأنت في السماء تبحث عن مأوى...
و المحامي عبد الناصر العويني وحيد في شارع بورقيبة بالعاصمة يعبر عن فرحتنا العارمة و عن كبتنا السياسي الطويل و يصرخ عاليا:
"تحررنا...تحررنا...بن علي هرب..."
كم تمنينا منذ زمن أن نخرج جميعا في هذا اليوم ونركض ركضا ونعبر عن فرحنا ونمزق صورك ونتبرز عليها ولكن الظروف حرمتنا...رجالك حرمونا من مسيرات مليونية للتعبير عن الفرح العارم هناك وفي تلك اللحظة...جاءت أخبار العصابات والسيارات وعم الخوف والهلع وجرى الناس في الليل مدججين بالعصي والسكاكين لمحاصرة هؤلاء الذين قيل إنهم من رجالك...
صرخ عثمان عاليا...احتسى ..خطر له أن سكينة التي علم أنها تقيم منذ أيام عند والدها العمدة بشير قد تمردت هذه العشية وعادت إلى طفولتها البهيجة ومزقت عهود علالة وطلقته ...هو مستعد ليتزوجها لو حصل ذلك...
عاد إلى القر ية... مر بالدكان كعادته...وجد بعض أتباع العمدة ورئيس الشعبة يتلهون بلعب النرد كأن لا شيء يحصل وحولهم بعض الوجوه الساخرة منهم...تتبادل الغمز واللمز شماتة في سقوط سيدهم...وجد وجوها كانت تهادن العمدة وتشي له حتى يحقق مصالحها...هدر فيهم دون خشية ...التفت إلى الحوش القديم الذي ظل ظلاما طوال أعوام ولا يشتعل نوره إلا إذا عاد...شاهد نورا...استغرب...هل هم السراق...؟هل جاء البعض لينهب؟
...جرى ...قفز من الفرح....مرت سنوات يا أخي...سنوات طويلة...سنوات مريرة
...بكى في حضنه بكاء شديدا واستعاد سنوات الشباب وسنوات المشاكل والخلافات...بكى عثمان كما لم يبك قط...
...وصل الناصر الشرقي فجأة إلى القرية الصغيرة... أطلقوا سراحه ...لم يجد شيئا...الديار مقفلة و الوالدة محبوبة تقبع في الظلام والجامع القديم مغلق ...تسلل إليه الأهل وقفزوا له...احتضنوه وقبلوه طويلا..لم تعرفه الوالدة فبصرها ضعف ولكنها استعادت صوته وزغردت فرحا وراحت تحدثه عن السنوات الفارطة وعما جرى...لم تترك شيئا إلا وحدثته عنه...حدثته حتى عن وردة وما تسمعه عنها من أخبار ترد كل سوق...ذبح له الحاج عبد السلام شاة واحتفل به القوم...حتى عثمان...
آه يا عثمان...
لم تكن علاقة عثمان بالشيخ الناصر جيدة ...كانت بينهما خلافات شديدة لكنه الوحيد الذي ظل يذكره في السنوات الأخيرة ويدافع عنه وحاول زيارته لكنهم لم يسمحوا له...
عثمان شيوعي لكنه الليلة يحتفل بالناصر ويعتز به...بدا مبتهجا كأنه ولد من جديد وبكى طويلا وارتمى في حضن أخيه الناصر...
لم يكن الناصر يتوقع يوما أن يعود إلى هذا المكان...كان مسرورا ...لم يزعجه غياب وردة لقد نسيها منذ علم في السجن بطلاقها له...سأل عن نادية فتمتم الجماعة خوفا عليه من الصدمة...
تمشى الناصر أمام بيته وتسامر مع الأهل:
_"إن الباطل كان زهوقا"...
_جماعة الزين فعلوا بنا ما لم يفعله عاقل...مشطوا ديارنا وعذبونا...
_إن الباطل إلى زوال...
_حتى الجامع أوصدوه.
حان وقت الصلاة ...تململ الرجال...قرروا فتح الجامع...خلخلوا أبوابه فالمفاتيح استولى عليها رئيس الشعبة والعمدة بشير منذ زمن...كان ذلك أياما بعد اعتقال الناصر...جاءوا بالحسني السكير وعينوه أماما.
-الله أكبر
الحسني دفعة واحدة...الحسني الذي لا يصحو من سكر... يسكر من مال العمدة مقابل الوشايات والخدمات الأخرى التي يقدمها له...
-نعم جاؤوا به لكن الناس هجروا المسجد...
في ليلة من الليالي سلمهم المفاتيح ومضى...
-عيب عيب
فتح الجامع...قام أحد الشبان ورفع صوت الأذان...و دفع الناس بالناصر الشرقي ليؤمهم...
أبلغ بعض الوشاة العمدة بالخبر فلزم الصمت ...لم يرد الفعل...
رن الهاتف في جيب الحاج عبد السلام فانفرجت أساريره:
-أرضك سترجع...لقد فروا...لقد مر ملثمون بها وأفسدوا ما فيها من معدات...غدا سترجع زياتينك الشامخة التي حرمت منها أعواما...غدا سيكون بمقدورك أن تقف أمام القضاة والصحافة وتتحدث بكل صراحة عن المظلمة التي تعرضت لها...
15جانفي2011
فجرا اتجهت وردة نحو محطة سيارات الأجرة...رصفت حقيبتها ومضت...لا أحد يعرف أين ستذهب...لم يعد ممكنا أن تمكث هنا...حياتها في سيدي بوزيد صارت خطرا وما عليها إلا أن تبحث عن مكان آمن...ارتأته عند قريبة لها في ريف من أرياف القيروان...
اهتزت منذ علمت أن الناصر الشرقي أصبح في سيدي بوزيد يقتفي خطى عثمان...قد يفعلها ويأخذه إليها...لحظة لم تنتظرها إطلاقا...
تعبت وردة من السير...الحقيبة ثقيلة...توقفت تلتقط أنفاسها وتتذكر الزمن...
....هي الدنيا لا تهدأ على حال...انقضى الأمس...مزقت صور ليلى وزوجها واختفى الحزبيون...لم تكن تعتقد يوما أن الناصر الشرقي سيخرج...هي في ورطة...تعرف أنه لن يفعل شيئا في النهاية لكنه عثمان يبحث عن فرصة انتقام...لن يرفض ذلك خالهم اللعين عبد السلام ولا أمهم العجوز محبوبة...
كلهم سيقفون أمام الناصر وينقلون له ما جرى و يتحسرون على الشرف والكرامة...
ألم يكونوا سببا في كل ما جرى؟
حين سجن الناصر وعلمنا أن حكمه طويل لم يتكلم أحد...عثمان كان يسكر في سيدي بوزيد ويعود ليلا ليشاكسني وليفعل ما يروق له...
نعم...لقد حاول....حاول...
الحاج عبد السلام لم يتحرك ولم يحتج...أبلغته الشكوى مرارا فلم يحرك ساكنا...
*****
نادية خرجت منذ الصباح
تهتف مع الجموع الغفيرة التي خرجت ابتهاجا بالنصر...كان الأستاذ حمودة يمشي في الصفوف الأولى ...يسير جنبا إلى جنب مع رفاق وأصدقاء الأمس ممن تركهم يوما...هتف الجميع
"يسقط جلاد الشعب...يسقط حزب الدستور..."
رفعت نادية لافتة كتب عليها"العمال يطالبون بحقوقهم".أخذت الكلمة...تكلمت عن الاستغلال..عن الاستعباد...عن الرق...عن استغلال الشباب في العمل من طرف العصابة...طالبت بمحاكمة رموز الفساد...طالبت بمحاكمة علالة الزيني وعبد الواحد وغيرهما من الذئاب...
تمشى الأستاذ عبد الله المسرحي منتشيا في الصفوف...يشعر ببهجة شديدة ...نسي أتعاب سنوات البطالة ومعاناة الإبداع ...لم ينتبه إلى نادية في الصفوف...
* عبد الواحد مفقود...زوجته تحدثت عن اختفائه...لم تعثر له على أثر...خرج منذ ليلة المسيرات الكاذبة ولم يعد...هي خائفة عليه لكنها تعرف أنه يستحق كل عقاب...
* علالة
حزين في مكتبه ...الأرض تدور به...انكب على إزالة صور الزين وأوراق التجمع من مكتبه...شعر بالحزن فنادية سكرتيرته لم تأت...ولم ترفع سماعة هاتفها...بل تفطن إلى أنها أخذت بعض الوثائق الخطيرة معها بالأمس...أصر على مهاتفتها...لكنها لا تجيب...هاتف عبد الواحد أيضا مغلق...لقد كلفه بمهام سرية لكنه لم يعلمه بما فعل...ربما قبضوا عليه...
الشارع غاضب.. المسيرات كثيرة والحزب سيصبح رمادا...لا تجمع بعد اليوم...
اشتد الهتاف...
موجة الغضب هادرة......هذا هو اليوم الذي انتظرناه طويلا.
...كنا في الأسابيع الفارطة نحسبه بعيدا لكن المفاجأة حصلت...
تقدم عثمان الشرقي المسيرة هاتفا "تونس حرة حرة والتجمع على برة " و"أوفياء أوفياء لدماء الشهداء" سار إلى جنبه الناصر الشرقي وناديةوالحاج عبد السلام. واخرون...حتى عمران لم يتخلف..ترك الشاي والبراد وجاء يهتف ملء شدقيه....
سمع علالة أصواتا تقترب...فهم أنهم جاؤوه...دخلت المسيرة المقر...اتجهوا جميعا إلى مكتبه" علالة ديقاج...ديقاج..."
تسلل من الباب الخلفي للإدارة...تفطنوا إليه وهو يحاول الخروج بسيارته...حاصروه...افتكوا له السيارة الإدارية اقتربت منه نادية وصرخت في وجهه" يا مجرم " ...هم عثمان بضربه...منعه الناصر...حلت سيارة عسكرية....تقدم إليه جنديان وأخذاه وسط الهتافات...
"يحيا الجيش ...يحيا الجيش..."
رياض خليف
*حاصل على الأستاذية في اللغة العربية من كلية الآداب بالقيروان ويشتغل بالتدريس في التعليم الابتدائي وهو من مواليد22أفريل 1975بالحنية سيدي بوزيد.
*خاض تجارب صحفية مختلفة وكتب في صحف تونسية وعربية.
أصدر:
*في القصة القصيرة
-هنا لندن ...ذات مساء
-صالح البغدادي
*في النقد
-سعيد مهران...نبوءة الرواية
-مدخل إلى شعر عامر بوترعة....
علالة الزيني
أو المطلوب عدد 1 في سيدي بوزيد
رواية
الإهداء :
إلى الشهداء البررة والمناضلين الأحرار وكل من بذل حرفا أو صرخة أو قطرة دم في سبيل تونس...
وإلى أصدقاء جمعتني بهم الأتعاب والأوجاع وأحاسيس الظلم والقهر
وإلى أصدقاء ظل قلمي لاجئا في الصفحات التي يشرفون عليها زمن الحصار....
و إلى زوجتي شريفة وهي تتحملني مهووسا بالورق والحبر حد الفوضى...
ظلت شخوص هذه الرواية تنام في ذهني أعواما... تضيع حينا وتهرب أحيانا أخرى.. .واليوم مات منها من مات ونسي من نسي ولم يعد لهم من مبرر للاختفاء...حان وقت خروجهم ليقابلهم القارئ...
جمعت الذاكرة المزدحمة بهم...جاء هؤلاء الشخوص الذين ستجدونهم في الرواية أما الآخرون ففيهم من رفض وفيهم من لم يعد لحضوره معنى وفيهم من يعد بأن يكون في الصفوف الأولى لعمل لاحق...
غيوم
ربيع2011
"هيلا ...هيلا يا مطر أغسلي أوراق الشجر
الحلم مثل الورد يكبر والهلال يصبح قمر....
طلي من فوق الجبل دقي على أبواب الأمل
في غيمة النصر اللي هل الخضراء تظفر في الشعر
قطرة قطرة على الدروب غني لعطش القلوب...."
"ضميني بليلي ريقي. وغطي بالخافق رفيقي
مهما عثرني طريقي المسيرة تستمر... المسيرة تستمر"
مقاطع من الأغنية الشهيرة لفرقة البحث الموسيقي المناضلة
ورقت الصحيفة ثم القيت بها على الطاولة وزفرت:
-لم يبتسم الوطن بعد... -كثيرا ما أشك أننا أمام لعبة غريبة وعجيبة...
كم أشعر في هذه الأيام بحاجتنا إلى الوطن وحاجته إلينا...آه يا وطن لماذا لم تجد في هذه اللحظات الحاسمة رجلا تحبه ويحبك بعمق ويحبه الناس؟...لماذا نضيع؟...ألم تنجبن يا نساء البلد من ينهي حيرتنا..؟؟؟
قطع عثمان تفكيري وأسئلتي:
- بورقيبة خرج من قبره مرة أخرى...
- لو كان حيا لأخذه البعض إلى قصر قرطاج...
ابتسم عثمان وأضاف:
-خالي الحاج عبد السلام يبكي كلما شاهد صورته أو سمع صوته...لقد اكترى سيارة وذهب إلى المنستير ليحضر الاحتفال بذكراه...
-…تذكرت ...يا عثمان... أين الشيخ الناصر؟
- الشيخ مبتهج إلى حد بعيد...رفع قضية لاسترداد حقه...
- وهل حضر محاضرة راشد الغنوشي في دار الثقافة؟
-...بل وحضر محاضرة حمة الهمامي...
-ما يعجبني أننا صرنا نتكلم بصوت عال وهم قد اندحروا...
فجأة لمحت صديقي البغدادي القديم -كما وصفته ذات نص سردي نشر في سنوات الجمر- قادما...انضم إلى جلستنا ......كان متوترا ومستنفرا ويهمس بكلمات قليلة بلهجة عراقية:
"ماكو"جديد...ماكو حلول ...ماكو قرارات مهمة … ليس ثمة إلا الهزء..."
مرارة شديدة...قطار الأحلام مازال بعيدا والفوضى تقتحم المكان...اختلط الحابل بالنابل...وكثر الأبطال والرجال...
اقترب منا نادل وعلى وجهه اصفرار شديد:
-صباح اليوم جاء علالة إلى المقهى...
- علالة نفسه...عجبا!
-...علالة كما تعرفونه...لم يمسسه سوء...
زفر البغدادي ثم تمتم:
-وماذا سمعتم؟؟...علالة وغيره...كلهم يرفلون أحرارا...وقد يعودون قريبا من أبواب جديدة.
...انتابنا قلق شديد وتأففنا...بحثنا في الأفق مليا عن هذا الوطن الذي خلنا أننا عثرنا عليه...بحثنا عنك يا وطني حد البكاء والكوابيس...
مازلنا نقبع جميعا في حالة انتظار...
تونس عروسنا زوجناها للحرية ولدماء الشهداء…
كثيرا ما يخيل لي أننا في نهاية عرس بدوي تقليدي في هذه الربوع حيث تشرئب الأعناق بعد صمت الموسيقى انتظارا لشيء ما لم نكن ندركه عندما كنا صغارا ...كم هي شبيهة تلك الساعات أو الأيام التي يقضيها الأهل في الانتظار بهذه الشهور ...رقصنا في الحفل...جاء المهرجون لإفساد العرس...أثاروا فينا الفزع...جرينا خلفهم بالهراوات والعصي...أدخلنا عروسنا بيت الزوجية الجديد ومكثنا ننتظر زغاريد طويلة و رقصة جديدة.
طال الانتظار ولم تخرج عروسنا بعد...مكثنا نتجادل ونتناقش بفوضى...هل نجيئها برجل دين بلحيته الطويلة فيعالجها بالقرآن والدين ويفك عقدتها أم بطبيب يعالجها بالعلم و الحداثة ؟أم نترك الأمر لمن هب ودب من هؤلاء المتصارعين على المقاعد؟
لم نتفق بعد...
لم تستطع أصواتنا أن ترتفع كما يجب...
نجول في حيرتنا...
نريد أن تخرج العروس وتبتسم لنا...
...شربنا أكثر من قهوة وقرأنا أكثر من جريدة وطفنا بأكثر من حكاية.
...فجأة شاهدنا الأعناق تشرئب والقامات تسارع وسمعنا الحناجر تهتف...ثمة اعتصام ودخان كثيف أمام مركز الولاية... راج أن الوالي غادر موقعه...سارعنا والتحقنا بالجموع الغفيرة...
القسم الأول
...دار لقمان
"سرح عيونك عبر الأحمر القاني
واسأل أذي تونس أم دار لقمان؟"
الشاعر الدكتور منصف الوهايبي
ذات" سمرقند"...
...اقترب مني عثمان طالبا مني تمكينه من الجريدة البيضاء التي تصدر أسبوعيا واعتدنا أن نقتنيها من المكتبة المجاورة للمقهى وكنا كثيرا ما نعمد لإخفائها لأن المكان مراقب لكننا في بعض الأوقات ننسى العيون المتوثبة والآذان المركزة على كل كلمة وكل حركة ونشرع في التهامها بلا خوف .
لم أكن أعرفه ...خطر لي أن يكون عونا سريا أو "سرطي"كما يشير إلى ذلك الأهل بخوف كلما لمحوا أحد هؤلاء ...هذا زمن ملغّم ورجال السلطة في كل مكان...يحدث أن يقترب منك عون أو متسول أو طالب ولاعة سجائر أو أي شخص ويحدث أن يجالسك أحدهم وينبش قلبك بكلمات فتنفجر وتبوح بالغضب لتكتشف في النهاية أنه أحدهم...
تسلم الجريدة وغاص فيها...راح يقرأ ويتأفف...بلاد تمضي نحو الجحيم...بلاد قاسية....نحن هنا لا نسمع شيئا...التلفزة تغرق في أخبار المديح أما أنباء الاعتقالات وإضرابات الجوع وتقارير منظمات حقوق الإنسان فلا تبلغنا قط...يخفونها حتى إذا كشفتها القنوات العالمية و تحدثت عنها قناة الجزيرة يسارعون بالنفي بتلك الطريقة البالية..."أعلن مصدر رسمي أنه لا أساس لما روجته بعض الأطراف وفي مقدمتها قناة الجزيرة...."ثم يردفون ذلك ببيان صادرعن الحزب الحاكم أو أحزاب أخرى يشيد بالإنجازات ويدين هذه الممارسات التضليلية التي تستهدف تونس وقيادتها..."... ونصحو صباحا على صوت قارئ الأخبار وهو يجتر نصوص البارحة التي كتبوها له وأجبروه على قراءتها...نشعر بمرارته وكابته من أجل الخبز اليومي...نعرف أنه أول من يدرك اللعبة ولكنه مكره... يحتج ويدين الاستقواء بالأجنبي والمؤامرة التي تتعرض لها البلاد حتى لا يقضون عليه...
انتهت الجلسة...لم أكن مرتاحا له فهو غريب عني وما أكثر الغرباء الذين يقتحمون مجلسك أحيانا لسبب أو لآخر...
لم يذهب بلا رجعة فقد عاد في أيام أخرى وجالسته وصرت أحتفي به كلّما جاء ...فنختلي داخل المقهى ونتبادل الحديث والهمس...
لا يرتدي عثمان كسوة وربطة عنق ولا يدخن السجائر الفخمة ولا يشرب "الكابوسان" ولا يأمل شيئا... لا زواج ولا عمل قار.يكتفي ببعض الأيام في حظائر البناء ليوفر مصروفه اليومي...يرتدي ملابس عادية...عادة ما يحب ملابس عمال المناجم...يدخن السجائر الرديئة بشراهة ويشرب القهوة السوداء...أدمنت الجلوس معه صاحيا قادما من قريته كل يوم أو محتسيا خارجا من إحدى حانات المدينة وجمعتنا طاولات اليأس والانهيار...كلما تحدثنا عن البلاد إلا ووصلنا إلى الأفق المسدود.
عثمان معدم...تائه...كلما احتسى مزق الصمت و وزمجر وبكى ..يذكر أخاه الناصر الشرقي ودياره التي صارت خرابا ويذكر خاله الحاج عبد السلام وسكينة بنت العمدة بشير....
يعيش في ريف من أرياف شرق سيدي بوزيد مع والدته محبوبة في بقايا حوش قديم... تقضي الوالدة العجوز أعوامها الأخيرة في ألم...استفحلت أمراضها وعجز الأطباء عن تقديم حلول لها حتى سئمت الذهاب إليهم...مستوصف القرية لا يقدم للمريض شيئا. فهو مغلق في أكثر الأيام وتجهيزاته قليلة وقديمة والمستشفى الجهوي بسيدي بوزيد معاناة لا تحتمل...كل سيدي بوزيد تتحدث عنه بألم...فيه يهان الفرد ويستفحل ألمه...هناك ترى الجميع يتأففون...مرضى ومرافقون وممرضون وأطباء.. وتسمع الشجار بين هذا وذاك ...
تقبع العجوز وحيدة في البيت تصارع أمراضها المزمنة..وماذا تفعل والحال كما هو عليه؟؟أرملة بلا سند...الزوج توفي منذ أعوام والإبن الوحيد الذي مازال يقطن معها بلا عمل...يعمل أياما قليلة في حظائر البناء وينفق مداخيله في جلساته وملذاته.
شقيقها الحاج عبد السلام تسرب إليه الفقر وفسد مزاجه .. يهتم بها حينا وينساها أحيانا أخرى أما العمدة فيرفض أن يسلمها شيئا...لا منحة عائلية ولا بطاقة علاج ولا مساعدة...كلما ذهبت إليه إلا وانتتر وصرخ في وجهها"أولادك....أولادك ضدي وضد السيد الرئيس..."
آه أيها العمدة كم نعاني منك ومن أسيادك...كم أود أن أصرخ فيك صرخة صدام حسين وهو يصرخ في القاضي قائلا" لولا الأمريكان أسيادك ما كان لك أن تحاكم سيدك..."كم أود أن أكرر هذه الصرخة في وجهك يوما"لولا الزمن اللعين لكنت الآن مجرد راع في إحدى القرى...لولا هذا الزمن الغادر ما اعتليت أنت وأصحابك هذه الكراسي الوثيرة لتحكمنا وتوزع لنا الفتات وقد تحرمنا منه..."
لم تكن محبوبة على كل حال الوحيدة التي حرمها العمدة بشير من المساعدة فهذا الرجل حرم الأرامل والثكالى واليتامى والمعاقين والفقراء بل حرم حتى الحيوانات العجفاء التي يملكها بعض الناس من مساعدات العلف في هذه السنوات الجافة التي تمر بالبلاد والتي يتضور منها الفلاح ويشتكي...تفاجئه الحكومة من حين لآخر بمجلس وزاري تفتتح به قناة التلفزة أخبارها البائسة... يسرد قراء الأخبار الكثير من القرارات المعلنة لدعم صغار الفلاحين...يكاد البيان يزعم أن من قرارات المجلس نزول المطر... كيف لا وقد ظلوا أعواما يشيدون بالرئيس كلما تحسن الوضع الفلاحي ونزلت الأمطار.. تنهال برقيات الشكر والامتنان من اتحاد الفلاحة وغيره...يكتب المتزلفون من الغد عن اهتمام الرئيس بالفلاحة وقراراته الرائدة والنموذجية ولكن لا شيء من هذه القرارات يظهر للمواطن فهي تذوب في جلسات العمد وزيارات المرشدين وما يفرض من إجراءات طويلة ومعقدة حتى ينساها الناس...
يترك عثمان الوالدة لوحدها...قد يزورها الخال أو بعض أفراد أسرته ...لا يكاد يغيب عن مدينة سيدي بوزيد...يذهب ليشرب عادة ...يشرب ويشرب.. وأحيانا يبدأ منذ الساعات الأولى للصباح بحثا عن لحظات ضياع ونسيان وهروبا من اليومي اللعين.
يعود إلى قريته قبيل الغروب يمر بالدكان...يشتبك مع الوشاة.. يسب العمدة وكاتبه ورئيس الشعبة والزين وأمريكا...يتحدث عن صدام حسين وحسن نصرالله وإسماعيل هنية...يتخفى الناس خوفا منه ..كلامه قد يسبب الخطر...الكل يتجنبه ويخشى حديثه... هو معارض و شقيقه معارض والاقتراب منه قد يكون مأساة بالنسبة لبدو فقراء كهؤلاء يطمعون في "كردونة"وفي تسجيل بالحظيرة أو منحة دراسية ويخشون على أولادهم أن يتم رفضهم إذا نجحوا في مناظرة وسئل عنهم العمدة ورجاله ...شباب كثير دمره هذا التحقيق الأمني ...يكفي أن يتململ العمدة أو يزم شفتيه حتى ينتهي حلم النجاح في المناظرة فما بالك إذا بدأ في سرد الملاحظات أو أنكر معرفته بهذا الشاب...حتى الحديث عن الزعماء العرب صار مخيفا...صار مخيفا أن يجاهر الفرد في تونس بمناصرة صدام أو الاعتزاز بإنجازات حزب الله في لبنان وسحقه للصهاينة ...صار من المخيف المجاهرة ببطولة حركة حماس وصمودها على أرض فلسطين .. .لم تكن هذه الأسماء تذكر...الكل يتجنب عصا النظام الذي يرفض كل ماله صلة بالإسلام والمقاومة فما بالك بحركة حماس وزعمائها الذين لا يمكن للفرد إلا أن يحييهم ولو كان شيوعيا...أن تمتدح الشهيد الحقيقي مؤسس حماس الشيخ ياسين الشيخ المقعد الذي ناضل طويلا ضد الصهيونية حتى فجرته إسرائيل يوما في جريمة بشعة فأنت إسلامي التوجه وهذا قد ينسبك من حيث لا تدري إلى حركة النهضة ويجرك إلى ما لا يحمد عقباه...
...وحده عثمان يعطر هذه القرية الصامتة التي لا تعرف غير ما تتحدث به القناة الرسمية ويحدث الناس بحماس شديد وبلا خوف عن هذه المعارك العربية...وحده عثمان يسخر من أخبار التلفزة حين تتحدث عن الموقف التونسي المشكور والمتميز من القضية الفلسطينية ومن كلمات الشكر التي يطلقها البعض من المفكرين المأجورين الذين يتم استقدامهم من أقطار عربية لشكر النظام ومدحه والإشادة بعروبته وشكر المنظمات العربية والدولية له ولدوره الريادي في خدمة القضايا العربية والإنسانية والبيئية والمعلوماتية والنسائية.
لكن أهل القرية يعتبرون ذلك تحاملا وهراء بل يسخرون منه أحيانا...كيف لا وهم لا يجادلون ولا وقت لهم ولا قوة لمجابهة الدولة التي لا ترحم...
عقولهم محشوة بنشرة الثامنة ومسلسلات محلية ومستوردة تعج بحكايات الحب والعنف وبرامج للمسابقات والحكايات الاجتماعية وبمزاعم العمدة ورجاله ممن يبشرونهم دوما بالخير العميم القادم عما قريب ووعود المسؤولين لهم وزياراتهم المنتظرة للقرية... عثمان يعلن دوما أنه لا يخشى أحدا وأن العمدة ووشاته لا يعنون له شيئا...
يقف عثمان ساخرا...يزمجر ثم يمضي متعثرا إلى البيت...يجد الوالدة محبوبة في انتظاره وقد يجد نفسه بلا عشاء فحالتها لا تسمح لها دوما بالطبخ...
مسكينة ... قلبها ممزق.. نسيت الناصر مرغمة...كلما شاهدت الزين في التلفزة إلا ولعنته ودعت عليه بالموت والعذاب ..عثمان مازال يشغلها.. تفكر في غده...تبحث له عن زوجة وعن حل لمشاكل حياته لكنه يسخر من نصائحها ويلازم الصمت...شقيقها الحاج عبد السلام أسر لها مرارا أنه على استعداد لتزويجه ابنته الصغرى التي طالت عنوستها ولن يطلب منه شيئا بل سيساعده...تعجبها الفكرة وتتمناها.. لكن عثمان حجر صلب...موقفه صامت وكأنه لا يسمع...كأنه لا يفكر في الغد...ربما مازالت نفسه تخدعه بأنه مازال قادرا على الزواج من فاتنة أو من موظفة.
حدثت عثمان مرارا في الأمر...لدي إحساس بأنه في خطر...فالخالة محبوبة مريضة والموت قريب منها ومنا لكنه يؤكد لي أنه فقد لذة الحياة وأن صدمات السنوات جعلت قلبه يتحجر...يقولها بصراحة مطلقة "لقد خربونا ولم يتركوا لنا مجالا للحياة "
وعندما يكون مخمورا يقول "انأ أبحث عن زوجة قوية جدا.....أريد أن أصاهر شهما كصدام أما هؤلاء مثل خالي عبد السلام والعمدة بشير وغيرهم فلن تنجب بناتهم أشبالا..."
نافذة
أعود من حيث انطلقت إلى سمرقند...الذكريات العالقة في الذهن وأوجاع القلب مازالت تقتحم الرواية فجأة...أود أن أترك عثمان قليلا...يحضر أمامي الآن صديقي الرمزي...صديق تلك الأزمنة...أعود إلى البغدادي القديم...أدعوه أن يهتف متغنيا "بغداد يا قلعة الأسود..."...
بحثت كثيرا عن هذه الأغنية في أكشاك ومحلات البلاد التي ملئت بأغاني المزود والحسناوات والراي الشرقي والغربي فلم أعثر عليها ولم أعثر على أي أغنية وطنية...لقد منعوا كل شيء وسرنا نعثر بصعوبة على بعض الأشرطة...
آه "بغداد يا قلعة الأسود"....
شكرا لك أيها الر احل صالح جغام...مازلت أذكر حلقتك الأخيرة التي بثثتها في حرب أم المعارك التي يسمونها عاصفة الصحراء ثم غادرت المصدح والبلاد والوطن العربي والحياة فجأة...تلك الحلقة التاريخية التي سجلتها في طفولتي وضاعت...شكرا لك يا صالح يا صوت العروبة .
أطلق صوتك الرائع يا صديقي البغدادي القديم وردد أغاني الفنان الكبير سعدون جابر
"اللي مضيع ذهب في سوق الذهب
يمكن سنة ويلقاه
واللي مضيع حبيب يمكن سنة وينساه
بس اللي مضيع وطن
وين الوطن يلقاه...
وين الوطن يلقاه...."
نحن الآن أضعنا الوطن...
...أو ربما سرقوه منا وأخذوه بعيدا مثلما سرقوا أشياء كثيرة...سرقوا هذا الوطن...نزعوا ملابسه...جردوه منا ومن أحلامنا...ضربوه...خدشوه...دفنوا فيه أجسادا بريئة قتلت تحت التعذيب...دفنوا التاريخ والأمجاد ...دفنونا أحياء...لم يعد لنا متسع للحلم...أحياء كنا وقلوبنا تخفق وتحلم بالحياة والكرامة والحب والعزة لكنهم اغتالوا فينا كل شيء وتركونا في الهوامش البعيدة...
عثمان الشرقي
ذكريات بالية
لست سوى بدوي تعيس ينزل من شاحنة نقل ريفي قديمة...يذرع شوارع سيدي بوزيد ويقبع في كل مقاهيها .لا مقهى محدد له...كل المقاهي وعمالها يعرفونه... يجالس من هب ودب ويخوض مع الخائضين في كل الأحاديث...
يقال عني كل شيء...سكير...متسول...وقد يظن البعض أني عون أمن سري.....يحدث كل ذلك في هذه المدينة وهذه الأزمنة...
آه أين أنت أيها الزمن الجميل؟
...أين أنت يا زمن السياسة...أين أنت يا أحلام الصبى حين كنا نتصور أنه بإمكاننا هزم النظام البورجوازي؟ انغلق الإعلام وغابت المناشير وغاب الرفاق...أين أنت يا مبارك صالح؟
كلما مررت بمكان المحطة القديمة للنقل البري التي نقلوها منذ أعوام إلى مكان جديد إلا واستعدت زمن الطفولة وسنواتي الأولى في مدينة سيدي بوزيد...
قد يكون البعض نسي هذه المحطة وأجواءها الصاخبة...كانت حالة من الخراب ومزيجا من المسرعين والبدو والمسافرين والمتسولين...
هنا ترددت مرارا لاقتناء قصاصات الرهان الرياضي من عبد العزيز لكن الزمن تبدل.انتقلت المحطة وانتقل عبد العزيز إلى مكان آخر وعزفت عن اللعبة وتخليت عن حلم الثروة...
كثيرون مازالوا يحلمون بالملايين ويحتشدون أمام نقاط البيع...يقتطعون القصاصات و ينتظرون أحد النصر...كان الفوز حلم طفولة كالأحلام الأخرى لكنه زال...لا أحلم الآن إلا بجلسة خمرية حاشدة تعيد الروح وتزلزل الكيان...
ذهبت الأحلام وذهبت الطفولة وسنوات الشباب...
عند المحطة القديمة أتذكر شقيقي الناصر الذي كان يرافقني قبيل العودة إلى السوق ليعد لي لوازمي وأوراقي ويأخذني إلى عبد الجبار بللعج المصور القديم بالمدينة...الصور الشمسية يطلبونها بكثافة في بداية السنة الدراسية...هذه للمبيت وتلك للقسم الخارجي وربما للأمن... لكنه شيئا فشيئا صار يرفض الذهاب معي و لا يبالي بي كثيرا وربما لم أعد أعنيه فعلاقتنا بدأ يخيم عليها التوتر...صرنا نتخاصم دوما..
.كان غاضبا مني وكنت أصطدم معه...لم يكن يروق له ما صرت مقتنعا به من أفكار جديدة...كانت تصله أخبار عن أنشطتي السياسية ونزواتي الأخرى ولم يكن يريد هذا...وصار يرفض الذهاب معي إلى المعهد بعد كل رفت فكنت ألتجئ إلى الخال عبد السلام...
الناصر شقيقي الأكبر...وهو إمام القرية...لا يقبل الجدل الكثير...يطاردني دوما .ازدادت علاقتي به توترا بعد انقطاعي عن الدراسة وانضمامي إلى عالم الخمر.صارت معركتنا يومية:
-...دعك من الخمر...دعك من الشراب
وكنت أقول له بكل حدة:
-الشراب ليس بالمحرم ..
-القرآن نهى عنه...
-لا نص في القرآن يوضح ذلك...يوجد فقط نهي عن الاقتراب من الصلاة عند حالة السكر...
ينفجر الناصر ويغضب:
-هذا فسق وكفر...
فأجيبه بوضوح:
ولكني لا أؤمن .أنا عقلاني ..أنت وأمثالك تستغلكم السلطة لتبرير مواقفها "الدين أفيون الشعوب"
وتنتهي المجادلة عند الوالدة محبوبة ويكشر الناصر عن أنيابه أياما ويقاطعني ويظل متربصا بي... علاقتنا متوترة...نكاد نقتتل...نتقاطع شهورا...ونعود أياما...
مرات عديدة كان خالي عبد السلام يأخذني إلى المعهد ليتسلم لي بطاقة دخول خفية عن أخي الناصر وبإلحاح من الوالدة التي كانت تنتظر أن أنجح يوما وأعين في وظيفة ترفع لها رأسها وتبدل حياتها التعيسة...كانت تحلم بأن تراني صاحب أموال ينسيها الخصاصة و زوجة تدللها وتسعدها وتملأ وحدتها فأخي الناصر فقير و زوجته لا تتحملها ولا تهتم بها إطلاقا ....
خالي عبد السلام
..يفتخر بأنه حارب فرنسا وشارك في معارك الجلاء وهو شديد الإخلاص لبورقيبة...لم يحصل كغيره على منحة مناضل وربما لم يسجل في قائمة المناضلين كغيره ... تصرف البعض في هذه السجلات ...سجلوا من أرادوا وأهملوا كثيرين.
...يقول كثيرون إن العديد من الأسماء التي سجلت في القوائم وصارت تصول وتجول في الجهة وتحكم كانت مجرد" صبايحية" وعملاء لفرنسا...وأن الكثيرين أهملوا مثلما أهملت هذه الجهة وأهمل تاريخها...فمن هذه الأرض انطلقت ثورة علي بن غذاهم ومن هذه الأرض انطلقت المعركة ضد الاستعمار وعلى هذه الأرض سالت دماء الشهداء ...هنا قاتل الثوار الاحتلال في الجبال والأرياف...
لم يكن خالي عبد السلام حاقدا لأجل هذا الظلم بل كان في طليعة الصفوف المساندة للمجاهد الأكبر كما كان يسمى طويلا في تونس وغرس فينا جميعا بذرة حب بورقيبة...
وكان يلهث في كل المناسبات لتمجيده ومساندته ولا يترك موعدا سياسيا في القرية أو في سيدي بوزيد إلا وكان في طليعة الحاضرين والمتكلمين والمصفقين...لكن الخال تغير يوما.
...كانت سنوات بورقيبة تقترب من النهاية وتبلغ مرحلتها الحرجة...يومها تزينت مدينة سيدي بوزيد في لمح البصر ...ردمت حفر الطرقات واختفى اصفرار الجدران المهملة والمتداعية للسقوط ومحيت الكتابات البذيئة التي خطت عليها وأصبحت المدينة كعروس عاشقة جاءها موعد الزفاف. رشوا شوارعها بالمياه وعلقوا فيها سلوسا كثيرة ثم أنبتوا فيها أشجارا عالية لا أحد يعرف من أين جاؤوا بها وكيف أنبتوها...في كل خطوة ترى المزيد من الشرائط الملونة والأعلام الصغيرة والكبيرة ولافتات الترحيب و في كل جدار يقابلك بورقيبة ووزيره و تعترضك حشود من الناس تهب من كل مكان...
فجأة تأهب الناس واستنفروا...ضربت الدفوف ودوت الأنغام ورقصت الخيول والبنادق وضاعت الأهضام في الأرجاء وتعالت الهتافات"يحيا بورقيبا...يحيا بورقيبا..."
وصل الوزير في هذه اللحظات. صافح موكب المسؤولين ثم راح يتمشى في اتجاه دار الحزب ودوى صوت مراسل إذاعي على أمواج إحدى الإذاعات"إنها زيارة خالدة لن تنساها سيدي بوزيد..هذه الولاية الفتية والمناضلة التي جددت وفاءها للمجاهد الأكبر واعترافها الدائم بالجميل لباني تونس وصانع عزتها...وقد خرجت مدينة سيدي بوزيد منذ الساعات الأولى للصباح شيبا وشبابا لاستقبال مبعوث فخامة الرئيس سيادة الوزير الأول محمد مزالي الذي أدى زيارة عمل إلى الولاية وسنوافيكم بالتفاصيل في مراسلة قادمة..."
هرع خالي الحاج عبد السلام منذ الصباح...وفي جيبه عريضة من سكان القرية...مطالب مزمنة وقديمة منذ فجر الاستقلال . كتبها الأهالي عشرات المرات وفي كل المناسبات ...سلموها لكل الوزراء الذين زاروا الجهة منذ زمن بن صالح لكن لا مطلب تحقق...
تقدم الصفوف المزدحمة وبدأ يدفع الناس بمنكبيه وهمه أن يصل إلى الوزير الأول...
يمر الوزير ومن حين لآخر يصافح الناس ويبتسم لهم فهو الموعود بالخلافة والكل يتوقع أن يكون رئيسا بعد بورقيبة...صمم الحاج على أن يستوقفه مهما كانت الطرق...تقلصت المسافة...وبدأ يهتف "بورقيبة .. بورقيبة" ...تقلصت المسافة ...لن يتركه يمر...سيقفز إليه ويحضنه ويبلغه تحيات الشعب ثم يبلغه الرسالة وربما يحدثه في أمرها... لن يتراجع لأنه يعرف أن في القرية من سخر منه وهو يجمع توقيعاتهم على العريضة و يقوم بمساع لدى المسؤولين...خطوات قليلة ويكون أمامه ...هو الآن أمامه فعلا...إنها اللحظة الحاسمة فعلا...إنها اللحظة الحاسمة ..هؤلاء يحولون دونه و يحيطون به...مسؤولون وحزبيون مقربون تأنقوا وجاؤوا كعادتهم...وهم يجندون أنفسهم للهتاف بحناجر عالية ويدفعون الناس ويفتكون الرسائل..
مد يده إلى الوزير...لمست أصابعه أطراف يديه...هم بمد الرسالة والكلام...في لمح البصر دفعه أحدهم ومر الوزير ...تأفف وزمجر
"أنا مناضل ومقاوم ...لن أصمت...آه يا جدي سيدي بوزيد...انتقم منهم .. ازأر في وجوههم.. لقد أطردوا أحفادك وسحبوا أسماءهم من كل القوائم...فلا نحن من المناضلين ولا من المقاومين ولا من المسؤولين...لقد قفز آخرون وصاروا يقودون المكان و يدفعوننا بمناكبهم دون رأفة...
لن أصمت...
مشى الحاج تائها وسط مدينة سيدي بوزيد...حاربت المستعمر وركضت بين المدن والقرى وتعرضت للبطش وفي النهاية يحصل لي هذا...كان بورقيبة يهمس في أذني ويختلي بي في زياراته أما اليوم فيدفعني هؤلاء الغرباء...آه يا سي الحبيب...ارفع عصاك والكزهم بها...كم أود أن تعزل كثيرين ممن صاروا يمثلونك هنا....هل فيهم من يستطيع منافستي في حبك والولاء لك؟؟لا أحد..."
يعلق خالي في بيته صورة لبورقيبة بالزي الطرابلسي زمن هروبه إلى ليبيا أيام النضال...و يجمع في صندوقه الخشبي عشرات الانخراطات والقصاصات والدعوات ووصول التبرعات التي تبين تاريخه الحزبي العتيق...
مر بجامع سيدي بوزيد .سلم على الحسين
فهم الحسين توتره و سأله:
- ماذا قال الوزير؟
رد بغضب:
-لم أسمعه...سيدي بوزيد باعوها والبلاد كلها للبيع...أنا يا سي الحسين يدفعني هؤلاء؟؟
تمتم الحسين:
-لا حول ولاقوه إلا بالله
عاد خالي حزينا...يراوده إحساس بأن البلاد سرقت وأن زمن بورقيبة قد ولى وأنه ترك مكانه لآخرين...
هجر السياسة والسياسيين وعزف عن الشعبة والحزب والانتخابات كأنه لم يكن من رجال الصفوف الأولى...
حين ألقى بن علي بيانه وأعلن تسلمه مهام رئاسة الجمهورية بكى الحاج عبد السلام...تذكر بورقيبة ومجده قبل أن يمرض ويحيط به بعضهم...لم يصدق حكاية استفحال المرض والعجز التام فهو شاهده البارحة يخطب والناس تصفق...لم يأكل شيئا يومها وتملكه الغضب.لم يفرح بالرجل الجديد .انتظر غضبا يوقف الحكاية لكن ذلك لم يحصل...وظل طوال السنوات يتذكر بورقيبة ويتحدث عن سياسته...
تبدلت المفاهيم ...كانت عائلتنا توصف بالمناضلة والدستورية بفضل خالي عبد السلام ولكن باختفائه من الحلبة انتهى كل شيء ولم تمض سنوات قليلة حتى صفعت العائلة كاملة ودمرت...
نافذة
... مذكرات صيف
ذات قيلولة حارة توجهت إلى بيت الأخوال كعادتي في أغلب قيلولات وأمسيات ذلك الزمن...وجدت الخال متكوما على مذياعه الكبير صاحب" الأنتان" المربع الذي اقتناه من طرابلس حيث كان يعمل منذ أعوام...
في ذلك الزمن يتحدث الجميع عن مذياع الخال فهو مذياع عملاق يسهل من خلاله الحصول على محطات الإذاعات الخارجية العتيقة ذات الصوت الخاص والأخبار الكثيرة... الخال يفاخر بهذا المذياع فهو الوحيد الذي يقدر بسهولة على العثور على إذاعة لندن وإذاعة مونتي كارلو وصوت العرب من القاهرة وغيرها من الإذاعات...
بادرني الخال بالقول
"لقد أصبح العراق في الكويت..."
لم أكن أدرك يومها أن تلك القبل التي نشاهدها في القمم العربية وذلك السيل من برقيات التهنئة التي يتبادلها الزعماء العرب بمناسبة الأعياد الوطنية والدينية ليس سوى وجه مخادع...ولم أكن أدرك ما سيأتي فمنذ أسابيع كان العراق عرضة لتهديدات أجنبية بسبب إعدامه للجاسوس البريطاني وأمس انعقد في السعودية اجتماع تفاوضي بين العراق والكويت...
لم أكن أعرف أن القلوب تخفي الكثير...مازلت أحمل في الذهن بقايا الطفولة..
كان الخال يدير الإبرة لاهثا ومتعطشا للأخبار التي تشفي الغليل متوقعا أن تخرج "ناقة صالح" ...وكانت الإذاعات تنقل ردود الفعل العربية والدولية ولكننا لم نفهم الحكاية كما يجب...عم الذهول في الشارع العربي...
في المساء عدت إلى بيتنا...عاد العم من هناك...أخبرته بالأمر...بتنا نعالج مذياعا بسيطا ومتداعيا للصمت في أي لحظة.. شتان بينه وبين مذياع الخال...كان العم يصر على أن العراق لا يمكن أن يظلم...تطورت الأحداث بعد ذلك...أعلن العراق أن جيشه تدخل استجابة لدعوة الشباب الكويتي الذي أطاح بآل الصباح ثم ضم الكويت لاحقا وعدها محافظة تتبعه واجتمع العرب في القاهرة...صرخ فيهم القذافي ومزق الأوراق التي سلموها له ولم يخرج من القاعة بعد مغادرتهم...ظل قابعا يبكي...واستجاب العرب لرغبة أمريكا التي جمعت جيوشها وجيوش حلفائها في الظهران...
قرعت طبول الحرب كثيرا وهدد صدام حسين وتوعد بإحراق الكيان الصهيوني في نصف ساعة و خرج الشارع العربي متظاهرا ضد الحرب معلقا أمله على العراق...مفتخرا بصواريخ العباس والحسين وبالحرس الجمهوري العراقي...
عدنا إلى الدراسة.. تذوقنا طعم المسيرات والصراخ بأعلى أصواتنا في الشوارع...
وانتصف جانفي ...
أيقظني أبي فجرا...لقد بدؤوا القصف...وزعموا في تلك الساعات الأولى أنهم دمروا العراق بسرعة لكن الساعات الموالية كذبتهم وعادت معنويات العرب لترتفع...ثم قصفت تل أبيب بعد أيام بصواريخ العباس والحسين فانتشينا وذعر الصهاينة...
بعد أسابيع انتهت الحرب...وقع ما وقع...لم يتحدث مصدر محايد عما جرى في الساعات الأخيرة من تلك الحرب التي ظلت لغزا...قيل إن جيش صدام حاصرهم في البصرة وأوقعهم في كمين لكن لا أحد أكد هذا ...خرجت القوات العراقية من الكويت و مكثت القوات الأمريكية ومن معها في ضيافة متواصلة في السعودية وبعض الأقطار الأخرى...لم ننتصر إذن...هزمتنا الخيانة...هكذا قلنا ومضينا نتألم لحال العرب واستمر العراق أعواما يواجه الحصار والرقابة والغارات ولجان التفتيش...
ذكريات جارحة...
عدنا إلى الدراسة بعد عطلة ناتجة عن إضراب الأيام الأخيرة في المعهد احتجاجا على الحرب على العراق...لقد كان يوم إخلاء المعهد يوما عظيما...انتشر رجال"البوب" في كل المداخل وجروا خلفنا ...بادلناهم الغاز المسيل للدموع بالحجارة وهربنا إلى قرانا...
يوم العودة طالعنا المدير والقيمون بوجه عبوس وتجمع التلاميذ حول سبورة الإعلانات يقرؤون البلاغ الجديد لإدارة المعهد .
قرر مجلس التربية بالمعهد رفت التلاميذ الآتي ذكرهم:
-مبارك صالح( رفت نهائي)
-عثمان الشرقي (رفت نهائي)
سكينة بشير (ثلاثة أيام)
...قضي الأمر...مبارك صالح مازال في السجن لم يفرجوا عنه... وأنا لن أتردد في تركها لهم...كرهت الدراسة...
نحن الثلاثة قدنا غضب التلاميذ في المعهد...آه يا زمن مبارك صالح..
كنا ثلة من الغرباء...التقينا في المعهد في النصف الأول من الثمانينات
...لم نكن نعرف من الإضرابات غير الهروب عن الدراسة...عشنا ثورة الخبز صغارا.لم نكن نفهم شيئا سوى أن الأسعار ارتفعت...عدنا إلى قرانا...مكثنا هناك حتى جاء اليوم الذي تكلم فيه بورقيبة"...ما ثماش زيادات...نرجعوا كيما كنا"...وخرج الشعب مسرورا...بثت الإذاعة مسيرات فرح"بورقيبة يا حنين...رجع الخبزة بثمانين"
لم يكن مبارك صالح معنا منذ البداية فهو قادم من الجنوب ...التحق بنا ذات عام دراسي ...هو ابن موظف متنقل على حد قوله...تنقله الإدارة شمالا وجنوبا عقابا له ...كان مبارك يعرف أكثر مما نعرف وكان كثيرا ما يقود بعض الأساتذة للخروج عن الدرس وتمزيق الصمت والخوف والحديث عن السياسة...
زرع مبارك فينا بذرة جديدة...ألقى بنا في متاهات السياسة وقادنا إلى مرحلة جديدة...صرنا قسما ثائرا...تسميه الإدارة " قسم المشاغبين" وكلما وقع أمر إلا ولفقوه لقسمنا...
كان مبارك صالح تلميذا نجيبا يحبه الأساتذة وكان كثير النشاط...هو الذي حرك المعهد مرارا بخطاباته ومناشيره واجتماعاته...وكنا نتبعه ونسير خلفه ونشاركه ...وجاء اليوم الأخير الذي لم ألتق بعده به ...
كان يوما غائما وكانت الشمس ترتعد خوفا من هذا الهول...وجوه غاضبة وطلقات نار وشاحنات أمن ومداخن وحجارة وقنابل مسيلة للدموع ودكاكين مغلقة...لم يهرب أحد...خرجنا من المعهد صارخين بكل غضب...سلكنا الطريق نحو الشارع الرئيسي...التحمنا بالجموع الغاضبة القادمة من كل مكان....
نفذ صبرهم...أطلقوا الغاز المسيل وأشهروا أسلحتهم وهم يركضون خلفنا...
قبضوا على مبارك صالح...جروه نحو شاحنتهم وهم يركلونه ويسبونه بكل وحشية...
لم أشاهده منذ ذلك اليوم ولم أسمع عنه خبرا واحدا...
لم يرجع إلى الدراسة ...ربما لم يفرجوا عنه .
أما سكينة بنت العمدة فلقد رفتت ثلاثة أيام...
كل هذا يحفظه التاريخ يا سكينة...
...مازلت أذكرك رفيقة وحبيبة ...مازلت أذكرك رغم ما جرى...
سكينة كانت معنا...كانت تكرههم...لم يكن يعنيها أنها ابنة العمدة بشير رجل السلطة الكبير في قريتنا .كانت ثائرة ولم تكن تتخلف عنا ..وزعت المناشير وهتفت في المسيرات...حرضت التلاميذ والتلميذات وعقدت الاجتماعات السرية في المبيت و كتبت اللافتات القماشية والورقية لذلك أحببتها حبا جما ...صارت تعني لي الكثير .كانت حزبا من أحزابي وكانت حلما...كانت الأحلام سهلة ... بأشهر قليلة من العمل تستطيع الزواج ...وتلك قريتنا...بعيد العشرين يفكرون لك في الزواج..قد لا يكون لك عمل أو مسكن وتستطيع الزواج...كان الحلم كبيرا وكانت الرسائل والمغامرات...
كنا نأمل الزواج في الجامعة وقد سمعنا الطلاب يتزوجون هناك...وانتظرنا الباكالوريا لكنهم رفتوني....
نجحت سكينة ...تخرجت واشتغلت وصرت لا أساوي شيئا.... مجرد سكير مفلس لا شيء لي...
انقطعت العلاقة...العمدة بشير تدخل لوضع حد لها...هو يرفض أن يزوج ابنته الأستاذة لمعارض و"كلب سوق" على حد قوله.. يوما هددني وهددها ولكن الأمل ظل قائما زمنا طويلا.
ما لم يبح به عثمان الشرقي إطلاقا...
سكينة تتكلم
أنا سكينة...لم أكن أنو المساهمة والكلام في هذه الرواية لكن ثمة ما استفزني لأتكلم مثلما لم أتكلم إطلاقا...لي بعض الأوراق التي رقصت أمامي...
لن أتحدث عن الأمس القريب...لن أتحدث عن زمن الدراسة الثانوية...هي لحظات حلوة وأيام جميلة لكنها مرت ونسيت...لا أريد فتح تلك الملفات...أريد لها النسيان...لا أريد أن يذكرها أحد...أنا الآن مدرسة في معهد و بعد أيام قد أصبح مسؤولة...زوجي طبخ الطبخة وأعد العدة والتعيين قريب...
سأتكلم ...سأتحدث عن حادثة علقت بذهني ...قد أكون ندمت بعد أن غادر...يومها كان بإمكاني أن أدفن جرحه وأقنعه...أعرف جيدا أنه يحبني حد الجنون ...
بالأمس بادلته نفس المشاعر والأحلام والأفكار..أحببته بعمق ومازلت كلما ذكرته إلا وخطرت لي تلك السلسلة التي أقمناها مرارا ونحن نتظاهر ونسير في مقدمة مسيرات المعهد...أنا وهو و مبارك صالح..لكن الحياة تغيرت
و الواقع اليومي كان حاسما...
مر كل ذلك وتبدلت المواقف والانتماءات وانتصر خطاب المصلحة والقوة على خطاب القيم والأحلام...لكن عثمان ظهر ذات يوم من أيام ذاك الربيع...
كانت أياما غائمة رغم الربيع...الغيوم في كل مكان والوجوه عابسة والمكان على فوهة بركان...تشعر وأنت تعيش هذه الأيام بنار تستعر في كل القلوب والوجوه...
عدنا إلى الكلية منذ أيام لكننا لم ندرس ولو ساعة...
رقادة ترتدي معطفا حزينا..يدب صخب ثم يدوي صمت مريب......أصوات متشابكة وغبار كثيف وغاز مسيل للدموع وكلية الآداب تفتح ساعات قليلة ثم توصد أبوابها ويكشر حارسها الضخم على أنيابه ويصبح الدخول إليها كالدخول إلى سجن أو ثكنة يفرض الإدلاء بأوراق الهوية وانتظار إشارة الدخول...
يبدأ الصباح موحشا...الأبواب مخيفة...البواب مستنفر...تترجل في الداخل يصلك الهمس أو يمدك زميل بمنشور...
عند الساعة العاشرة تكون قد أجفلت...يصعد طالب ملثم أو يحمل شالا فلسطينيا ...يتحلق حوله الزملاء...يصرخ ملء شدقيه...ينفعل...تقاطعه الهتافات الطلابية الغاضبة...
"أيها الزملاء والرفاق
تتواصل الهجمة الامبريالية التي تقودها الولايات المتحدة على الشعب العراقي مخلفة مئات القتلى ومرتكبة مجازر وحشية ضد العراقيين وضد الأمة وضد الإنسانية وتواصل بغداد العروبة صمودها ومقاومتها الباسلة..."
يحصل أحيانا أن تتقاطع الأصوات وتتداخل الشعارات ويشتبك كلام الفصائل...
"عاش العراق...عاشت الأمة العربية الخالدة"
"لا أمة عربية ولا أي شيء...عاشت الديمقراطية ...وعاش النضال ضد الدكتاتورية وعاشت القوى المناضلة..."
"بالروح بالدم نفديك يا صدام"
"يا صدام يا حبيب دمر دمر تل ابيب"
"عبد الناصر عبد الناصر واللي يعادي هو الخاسر"
"عبد الناصر خلى وصية..."
شعارات تتداخل وتتصارع.. تصنع أهزوجة الغضب...يزداد الحماس وتزدحم الكلية ثم تأتي ساعة النار والدخان ويقتحم أصحاب العصي المكان فنطير كالحمام عندما تداهم أوكاره...يهتف بعضهم"بن علي يا شارون دم الشعب لا يهون" .
نتفرق في ساحات الكلية...تجمعنا الأشجار والأودية والحقول المجاورة...نعود منهكين بعد الغروب...
تلك أيامنا الأخيرة...
كل قلوبنا في بغداد ودروسنا معلقة...
فجأة عم اليأس...وقعت الواقعة التي لم نتخيلها ...سقطت مدينة المنصور وتغوط "المارينز"تحت نخيلها وتبرزوا على سعفها وجدرانها واقتحموا بيوتها وعروا رجالها ونساءها...صارت بغداد فلما "هوليوديا" عنيفا وجرحت القلوب وخيم صمت داكن...واعتكفنا بغرفنا استعدادا للدورة الرئيسية من الامتحانات...
ذات ظهر من تلك الأيام وتحديدا قبل السقوط بيوم أو يومين أفقت مذعورة على صوت مصدح الحي الجامعي:
"سكينة...زيارة"
خرجت مسرعة ومحتارة في آن واحد...من سيأتي في هذا الوقت؟
عدلت من مشيتي وأنا أتجه نحو غرفة الاستقبال...أعلمتني العاملة أن ثمة من ينتظرني أمام الباب.. أطللت من النافذة...تأملت الوجوه ..لمحت وجهه وشاربه المفتول...
أمازال يحن إلى صفحات الطفولة البريئة...ألم ينس...ألم تمح ذاكرته...ألم تفعل فيه السنوات؟ألم تترك صفعة والدي العمدة بشير في نفسه شيئا...هل نسي ذلك اليوم الذي اعترضنا فيه فجأة وصفعه وكاد يقتلني ضربا مبرحا؟ظل أياما يهددني بالطرد ويعلن علينا حربا في البيت...
مرت السنوات وتغير المكان الأشخاص و تبدلت الدنيا...فكيف خطر له اليوم أن يفعلها ويعيد فتح هذا الملف...
أكيد أنك تنتظر لحظة تاريخية.. ولكني مضيت يا رجل... هل ينقصني هذا؟ لو شاهده حبيبي لانقض عليه وعلي...ولو شاهد هو حبيبي لبث الأمر في القرية وصارت حكايتي على كل لسان....
من أين خرجت يا رجل...يا مرحلة عابرة لم يبق منها غير الأطياف؟ حسم الأمر...والدي العمدة السابق يكفر بك كفرا...يعدك شيطانا...والأمن الجامعي قد ينتبه إليك ويلقي عليك القبض...هل أنت قادم لي أم أنك محمل بالمناشير كعادتك؟
آه يا رجل...
انتهى الحماس القديم...وانتهى الحب الطفولي...صار القلب كدولة ديمقراطية لا يمكث فيه الحبيب أكثر من سنة واحدة...وصار الحب هنا مجرد إضاعة وقت...بعد أسابيع قليلة أكون زوجة رجل آخر...زوجة رجل استطاع خوض معركة الحياة وصنع نفسه وسط الصراع...
أعرف جيدا تفكيرك..ستقول إنه انتهازي ومتسلق وهو في النهاية مسؤول حزبي ستعصف به نشرة إخبارية وبلاغ تعلن عنه التلفزة والإذاعة نقلا عن وكالة تونس افريقيا للأنباء"قرر رئيس الدولة تعيين السيد...."
ستقول إنه لن يذكر في هذا البلاغ ولن يقولوا "سيدعى لمهام أخرى مثلما عودوا الشعب سنينا طويلة..."
ولكني أقول لك إنه صار بخير ولا يحتاج إلى منصب...صار يملك الكثير... سيارات وأراض و أرصدة ومع هذا فلن يعزل ...ينتظره غد أفضل...قد تفاجئ به في منصب أهم...هو ينتظر أن يكون عضوا في اللجنة المركزية أو البرلمان أو أي مهمة أخرى وستجثو أنت وأمثالك وأمك أمامه طمعا في إشارة منه...آنذاك قد أكون معك وقد أتوسط لك وقد أساعدك فأنت في النهاية حب أول وزميل دراسة قديم أما الآن فلن تظفر بشيء وستعود خائبا...ستقف طويلا أمام المبيت دون أن تراني وسأطل عليك خلسة من نافذة عالية.
عدت إلى غرفتي...أطللت من النافذة...وقف حتى تعب وغادر منهكا..
...شهادة عبد الستار
درست مع عثمان في معهد سيدي بوزيد ولم تنقطع صلتي به رغم انقطاعه عن الدراسة ولما عينت في القيروان أستاذا للغة العربية وقبل أن أتزوج حبيبة الكافي كنت أكتري منزلا في المنصورة على مقربة من المعاهد...هناك في حي ريم بالمنصورة قريبا من مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان حيث يقطن الكثير من الطلبة والشبان الذين مازالوا يتمتعون بالعزوبية... وكان عثمان يزورني من حين لآخر...قد يجدني في البيت أو يبحث عني في المقاهي حتى يجدني ...هو مفتش جيد وصبور...أعرف أنه شارك مرات في مناظرات انتداب المفتشين لكنه لم يقبل لأن عمدتهم وضع خطا أحمر على إسمه...كان يمكن أن يكون عونا سريا يقتفي أثرنا ويكتب ضدنا التقارير مثل عديد الأصحاب والزملاء الذين خافوا البطالة فبحثوا عن مناظرات الأمن ونجحوا وصاروا يعربدون علينا وانقلبت حياتهم وأفكارهم لكن رب ضارة نافعة...
ظل عثمان رجل شارع وغلبه اليأس...كان يأتيني أحيانا لنحتسي حتى الفجر ونعيش مناخا ثوريا...أسمعه أولاد المناجم والبحث الموسيقي وناظم الغزالي والشيخ إمام وغيرهم ونقضي الليل في الحديث والهراء...في الهزء والمرح والذكريات...
آه يا ليالي عثمان
كم غنى في تلك الغرفة وكم بكى وكم ضحكنا ضحكا بلا حدود و كم أعاد حلمه المنكسر... له حلم ميت و لذيذ ..."
اللعنة...ليس لي هذا الحلم...هذا حلم تلزمه الشهادة العلمية التي حرمنا منها"
كم تمنى عثمان لو كانت له شهادة علمية تمكنه من أن يصبح ضابطا كبيرا في الجيش...حينما يحتسي ويدخل دنيا الهذيان أذكّره بهذا الحلم...
-وماذا ستفعل يومها لو صرت ضابطا كبيرا؟
-أحاصر قصر قرطاج وأصدر بيانا عبر التلفزيون...أعلن الاستيلاء على الحكم...
يرتجل بيانا على الفور:
"أيها الشعب التونسي البطل....."
"نحن عثمان الشرقي........"
نضحك كثيرا... يتخيل نفسه وقد فعلها واستقام له الأمر...
يومها ترجع سكينة صاغرة وتجثو تحت قدميه و يركع علالة ويرسل له الوسطاء كي يتقرب منه.
_وهل ستستجيب له؟
_أبدا... سأسجنه إلى الأبد
_وسكينة؟
_آه.. تلك ستصبح سيدة أولى في البلد...
نضحك.
-لا عيب في ذلك أستاذة أفضل من حلاقة...
-ولكن هل ستطلق يدها ويد والدها العمدة بشير من جديد ؟
_لا أبدا...العمدة بشير سيوضع في الإقامة الجبرية...
يهذي عثمان ويحلم...كم تمنى لو يعثر على واحدة جميلة لكنه لم يظفر بها ولو مرة...وكم توقف ذهنه وتفكيره وهو يحدثني عن حبيبة العمر سكينة ابنة العمدة...مازالت رغم السنوات البعيدة تطفو في ذهنه فيستعيد الحلم ويعود للتفكير في أبواب الوصول إليها وإعادة المجد الذي مازال مرسوما في ذهنه...
في هذا المناخ يحرك عثمان أحاسيسي الإنسانية..يحدثني عن معاناته وعن "سيدي بوزيد" المغلقة في وجهه وعن تفكيره في الانتحار لولا الوالدة العجوز...أحيانا أعطيه ورقة نقدية ضخمة يضمن بها احتساءات موالية في سيدي بوزيد...
كانت الزيارات كثيرة وكنت أتكفل بها وبتكاليفها التي لا تهم الآن فذلك زمن لعين وتلك متاهات العزوبية ولكني سأتحدث عن زيارتين...
كانت الزيارة الأولى أيام حرب الخليج الثانية ....في تلك الليلة جاءني محتسيا بطبعه ويبدو أنه قد احتسى في سيدي بوزيد...جاء من أجل سكينة ولكنه لم يقابلها ولم يجد لها أثرا...كان يلهج :
_ جئت لتحريرها من الغزاة...
هو يعرف جيدا أن العمدة بشير حزم أمره و وافق على خطوبتها من رجل آخر لكنه مازال مصرا على الحلم...يحلم بانقلاب عاطفي ويصر على أنها ستكون من نصيبه في النهاية ولكن بماذا ستنقلب يا عثمان؟ بأي مال وبأي جاه وبأي ذكريات...؟؟
فجأة أعلن خبر جديد في الفضائيات فنسينا سكينة ونسينا الخمر والمرح...
محمد سعيد الصحاف يعقد مؤتمره الصحفي ويتحدث عن ملحمة المطار والمفاجأة العراقية المنتظرة.. بتنا ننتظر ولم نكن نقدر أن فصلا خطيرا بدأ وأن اللعبة انتهت كما قال محمد الدوري بعد أيام...بتنا نحلم وبات عثمان يهدد بالرحيل إلى العراق والتطوع للقتال إلى جانب العراق.
نعم فكر عثمان في هذا محتسيا وصاحيا.. .حين غادرني ظهر الغد كان يتوعد بالرحيل إلى الجبهة...
سمعنا أن صدام شارك في معارك المطار وأن العراقيين باغتوا الأمريكان وحاصروهم وبقينا ننتظر...لا أظن أن عثمان وصل إلى سيدي بوزيد حين أعلن الخبر المدوي.الصحاف مضى في "الايسيزي" ولم يعد..بغداد سقطت في أيديهم..".المارينز" يتوافدون على ساحة فلسطين والعملاء ينزلون من الدبابات الأمريكية التي جاءتهم...
خيم الصمت والحزن.
انتهت اللعبة. هكذا قال محمد الدوري وهو يحمل أدباشه مغادرا مقر الأمم المتحدة...
وانتهى الحلم
حين وصل عثمان سمرقند وجدها قد خلت من جلسائها والرياح قد زغردت في مقاعدها...الشارع يجتر خيبة أخرى...عم الحزن واستسلم الجميع لرائحة الهزيمة...
نافذة
"أطلق لها السيف
لا خوف ولا وجل
أطلق لها السيف وليشهد لها زحل
أطلق لها السيف قد جاش العدو لها
فليس يثنيه إلا العاقل البطل
أسرج لها الخيل ولتطلق أعنتها
كما تشاء ففي أعرافها الأمل
دع الصواعق تدوي في الدجى حمما
حتى يبان الهدى والظلم ينخذل
وأشرق بوجه الدياجي كلما عتمت
مشاعلا حيث يعشى الخائر الخطل
واقدح زنادك وابق النار لاهبة
يخافها الخاسئ المستعبد النذل
أطلق لها السيف جرده وباركه
ما فاز بالحق إلا الحازم الرجل
واعدد لها علما في كل سارية
وادع إلى الله أن الجرح يندمل
لقد جاش العدو لها
فليس يثنيه إلا العاقل البطل"
كلما تذكرت هذه القصيدة التي ألقاها صدام في فجر الغزو تختلط الأشياء في ذهني وتهفو خواطري إلى ذلك الزمن وتلك المرحلة الحاسمة...وزاغ قلب البغدادي ونحن نعرج عليهم ثم نمضي إلى أماكننا نكابد جراحا عربية غائرة ونغوص في زمن من الحلم والوهم في نفس الآن...
مرت سنوات طويلة ووقعت أحداث كثيرة...انكسرنا و غضبنا وثرثرنا كثيرا...انتظرنا النصر العربي...انتظرنا المفاجآت الكبرى...تخيلنا أن الأمر كان مجرد خدعة...
حلمنا كثيرا بأن يدلف الرجل من مكان ما شاهرا مسدسه ومعلنا للنشامى وأبناء الماجدات نصرا لن ينسى ...
ذات يوم ربيعي لعين غادرت البيت بعد الظهر رفقة العم الذي كان في زيارة لنا...تركته بعد خطوات ونزلت إلى المدينة.. بحثت عن البغدادي القديم...لم أجده...كانت المدينة صفراء الوجه...
جاء البغدادي من الغد ...
رددنا الكآبة وتمسكنا بخيوط حلم...لم يكن من السهل تقبل ما جرى...لذنا بالخيال والوهم أياما وشهورا...لا لم تسقط بغداد ولم يختف أحد...صدام رابض هناك وسيقفز عليهم ذات فجر...
حينما اغتالوا عدي وقصي لم نصدق وحين قبضوا على صدام قلنا لأنفسنا إنه شبيه وظل هذا الهامش من الأمل يلاحقنا حتى النهاية ومازال...فليكن نحن بدو سذج ونحتمل كل شيء...
عبد الستار 2
…أما المرة الثانية فكانت بعد ذلك بعام أو عامين....والمناسبة كانت دورة جديدة من ربيع الفنون ..المهرجان القيرواني الكبير الذي هزت دورته الأولى المشهد الثقافي وقادت القيروان من جديد إلى قمة الثقافة والشعر عندما وصلها نزار قباني...وظل هذا الموعد أعواما فرصة للاستماع إلى الكبار...دعوت عثمان بنفسي مشتاقا إلى جلساته الكبيرة...
اتجهنا إلى المركب الثقافي...أمام مقهى الاتحاد قابلنا منصف الوهايبي يتجه غربا وعلى وجهه علامات التأفف...هو في طريق العودة إلى بيته...همس مرافق لنا"أكيد المنصف لن يحضر...فهو غاضب من المشهد..."
-لقد شرعوا في إقصاء المنصف...
-هو معارض وهم منزعجون منه
تذكرت قصائد المنصف الغاضبة ... تذكرت قصيدة الأمة:
رماد ضوئك هذا الليل أم حجب أم ماء حزنك منهل ومنسكب
أطاعك الموت أم حط الأفول على ذراك أم نهشت من لحمك الحقب
ولم يزل لك في الأفاق متسع ولم يزل لك في الآفاق مضطرب
وما طريقك في الآفاق ملتبس ولا طريقك في الآفاق منشعب
وصلنا إلى الساحة..وقفنا أمام المركب الثقافي أسد بن الفرات نتفرج على الجمهور الغفير وعلى الفرق الشعبية التي تستعرض والتي تأتي من كل الجهات...فجأة اكفهر وجه عثمان واختنق صوته وتوتر...أحس عثمان كأنه تلقى طعنة جارحة...تيبس ريقه..صار يلح في أن نغادر...وصار يزمجر...
عرفت بعد ذلك حين سقيته ما يريد من قوارير أنه شاهدها.
سكينة بنت العمدة رفيقة الأمس وحبيبة القلب تنتهي تماما...لقد سقطت ...لم يعد في الأمر صلاح...انتهت اللعبة مرة أخرى ...هكذا كان عثمان يردد وهو يحكي بانفعال...
شاهدها هناك ترفل في زي خليع وقد تزينت...كانت تقهقه مع مجموعة من الطلاب والطالبات الحزبيين...عرفهم من لباسهم وشارات فساتينهن ...كانت مع مجموعة طالبات جيء بهن لتزيين المشهد وهكذا يفعلون في كل مكان...يختارون الحسناوات من الطالبات ليتصدرن المجالس ويقبعن في الصفوف الأولى كاشفات عن مفاتنهن للمسؤولين القادمين لحفل الافتتاح...
آه يا ابنة القرية...
آه يا رفيقة الزمن الجميل...
لم أقل لعثمان أنني أشاهد تلك الفتاة دوما ترفل معهم من مجلس إلى آخر ومن نزل إلى نزل...لم أقل له إنها صارت مومسا معروفة في هذا المكان وأني شاهدتها في أكثر من مكان تتأبط ذراع الزناة الذين يزنون بالبلاد وبالجهة وببنات الشعب وأنها ستكون الليلة جارية لأحدهم في النزل الذي سيقيم به ضيوف المهرجان...
لم أقل له"تفه" على هذه فهي من طلبة الحزب.لم أقل له إن علالة المسؤول الحزبي في سيدي بوزيد يزورها دوما وهي تقضي معه نهايات أسبوع رهيبة في نزل بعيد...لم أقل له.. ولم يعد ينفع القول الآن... كنت أقول بيني وبين نفسي فليبق له طيف في ذهنه مادامت كل الأحلام قد انكسرت...
بدا عثمان الليلة جريحا مدمرا وظل يكتم جرحه ومازال كلما التقيته وهو في أوج احتسائه يتلفظ باسمها رغم أنه يعرف تماما أن الأمر قضي وأن لعبته هو أيضا قد انتهت ...
نافذة سمرقند
لست أدري منذ متى تحديدا تحولت سمرقند في مخيلتي إلى ركح كبير...كل هؤلاء صاروا مجرد شخوص روائية ومسرحية...وصرت أبحث عن وجوه روايتي...أشاكسهم...أحورهم...أبدل من وجوههم وأخفي بعض حكاياتهم ...
يجلس الناس في سمرقند لشرب الشاي والقهوة والدردشة وأجلس لأطلق العنان للخيال...
كانت سمرقند جميلة وموحية لكنها حانقة...
آه من هذا اللعين يهجم علي ككلب...يقترب مني مصافحا ومبتسما ابتسامة عريضة يسألني:
-أين صديقك المسرحي؟وهل كتبت شيئا جديدا...؟
أنا لا أحب الجلوس على الرصيف...عادة ما أفضل الفضاء الداخلي حتى أجد فرصة للقراءة والكتابة وحتى لا تطير الأوراق مع الرياح...ومازلت على عهدي...أفضل الجلوس في الداخل ...
في ذلك اليوم كنت في الداخل...أكدس جرائدي وأوراقي وحذوي عبد اللطيف وكنا نبحث عن المعاني الضائعة في الزحام...كنا نقرأ بعض الصحف وبعض الأوراق وكان جيب معطف عبد اللطيف مكتظا ببعض الكتب التي ترافقه هنا وهناك...هو الزمن اللعين...يكاد عبد اللطيف يكون استثناء في هذا المجال فهو الوحيد تقريبا الذي يدمن الذهاب إلى المقهى ومعه كتاب أدبي...
كنا نقرأ ونثرثر...نتحدث عن ثقافة الجهة والبلد ونهزأ من ثقافة الرداءة التي تطير ببعضهم إلى وهم المجد...فجأة ارتفع صوت القرآن الكريم من الإذاعة الوطنية...
سمرقند ذات ربيع
ينهمك الرجال القابعون في "لعب الدومينو"وتأتي أصواتهم عالية
-العب
-دوبل سيس محاصرة
-لا بد من عملية فدائية تقتلها...
-هل نحن في غزة؟
-لو كنت هناك لفعلتها منذ أعوام
فجأة انتبه الجميع ...قرآن في الإذاعة..
....توقف الإرسال وانطلقت موسيقى حزينة ثم ارتفع صوت قارئ القرآن...انتبه الناس في حيرة فالإذاعة التونسية لم تعودنا على بث القرآن في مثل هذا التوقيت الصباحي في حدود العاشرة....انقطع الحديث وتسمر جلساء المقهى انتظارا للخبر ...تردد السؤال مدويا لدقائق:
- من قضى نحبه من الحكام العرب هذا الصباح؟
-أكيد أن أحدهم تعرض للاغتيال
قال عمار المرناقي وبصوت خافت وهو يهمس لجلسائه:
-إن شاء الله الزين
-اسكت...المقهى يعج بهم...
خيمت حيرة عميقة قطعها المذيع بصوته المألوف:
"هنا تونس إذاعة الجمهورية التونسية
تنعى رئاسة الجمهورية الزعيم الحبيب بورقيبة الرئيس السابق للجمهورية..."
تعالت أصوات هنا وهناك:"الله أكبر...لا إلاه إلا الله"
همس بعضهم:"مات منذ أيام...سمعت هذا الخبر لكنهم ظلوا يتسترون عنه حتى تنقضي قمة المعلومات".
رد آخر:"يخافون حتى من الجثث".
فتح النادل جهاز التلفزة...إنهم يبثون نبذة عن تاريخ الزعيم...صوره وهو يصعد وينزل أمام الناس ويصيح ويضرب الطاولة..وهو يعود في يوم النصر.. وهو يلتحم بالناس..وهو يخطب في مؤتمرات الحزب ..ثم صوره وهو يهرم وقد أحاطت به جوقة من حاشيته الشهيرة.ثم ختم الشريط كالعادة كلما تعلق الأمر بمسيرة بورقيبة وتاريخ البلاد بصور تعبر عن الحيرة وخطاب التراجع عن الزيادات عقب أحداث الخبز"ما ثماش زيادات نرجعو كيما كنا..."...ونبذة عن تونس السابع من نوفمبر.. وكرروا تلك الأسطوانة المعروفة.
لم يتمالك كهل نفسه.لم يخش وشاية جليسيه وهتف"يحيا بورقيبة..."
تمتم عمار المرناقي:
"موت بورقيبة...خسارة كبيرة للبلاد...هو الذي حررها وبناها وشيدها وأعلاها وأعطاها رايتها ووجهها بين الأمم"
انتفض علالة الزيني وكان يجلس على مقربة :
"والسابع من نوفمبر أيضا...لقد أعاد للبلاد وجهها"
قاطعه جليس آخر ينتمي إلى حزب معارض ولا يخشى: "سيب عليك...وهل مازال للبلاد وجه؟ماذا فعل السابع متاعكم..."
رد علالة بصوت متشنج:
"لقد أنقذ البلاد والعباد..."
عقب كهل آخر:
"كفى كذبا.. "قلوبنا طابت".أين هي البلاد؟أين هو الحزب ؟أين عروبة البلاد ؟أين أموال الشعب؟ ..."
صمت عثمان وغلا كالمرجل...أه أكاد أقفز له ..الكلب...
_أسكتوه وإلا̃....
استشاط عمار المرناقي: "آه يا علالة...يا كلب...هل نسيت؟؟أنا مفتش سري متقاعد...كنت أعرف كل شئ في سيدي بوزيد...كنت لا أهدأ وكنت مستعدا للمساس بكل من تسول له نفسه الإساءة للزعيم...أحلت على التقاعد بعد الانقلاب بسنوات قليلة...أعرف كل شيء عنك وعن زينك...اسكت يا كلب...أكيد تذكرني جيدا ... من يمس بورقيبة أتبرز عليه...ماذا أعطاني السابع...خرجت من العمل فقيرا مفلسا ومريضا...لو لم يكن الزعيم لبقيت بطالا مثل أولادي القابعين منذ أعوام في المقاهي ..."
رد علالة:
"ياسي عمار...لا تغلط...السابع من نوفمبر اهتم بالشباب وأعاد له مكانته"
وقف عمار غاضبا:
"اخرس يا كلب...توة يجيك نهار...لتذهب أنت والسابع من نوفمبر إلى الجحيم..."
تذكرت عزت إبراهيم الدوري وهو يهتف في أحد القادة العرب ذات قمة عربية حاشدة وفاشلة كعادة كل القمم العربية التي لم تقرر شيئا مفيدا طوال التاريخ العربي "اخرس يا عميل"...إيه يا زمن...تلذذت هذه الكلمة وسمعت عمار المرناقي يومها مليا ...تناسيت أنه قد يكون مازال على اتصال بهم ومازال يؤدي الخدمات فمن يعرف خبايا هذا الزمن البوليسي الرهيب...
ذاكرة عمار المرناقي
"اخرس يا علالة..."
...رأيته أول مرة في بداية الثمانينات ...كان شابا قادما من الريف من أسرة فقيرة.نحيف الجسم...انقطع عن الدراسة بعدما فشل في الحصول على الباكالوريا مرات عديدة...عينه أهله عضوا في شعبة ترابية مكلفا بالشباب...فقرر أن يلعب ورقته الأخيرة...الحزب...الحزب...الحزب هو الحياة والموت...كثف من الركض هنا وهناك...ذرف دموع التسول حتى يسمحوا له بالذهاب إلى المنستير كل صيف للمشاركة في الاحتفال بذكرى الثالث من أوت ...تلك الذكرى التي كانت موعدا للمديح وإبراز الولاء والتفنن في تحويل الدولة الوطنية إلى دولة شخص...أقول هذا وأنا المتيم ببورقيبة والمخلص له لأن الحقيقة تفرض نفسها فثمة أخطاء حصلت.. فعلتها تلك الجوقة التي أعادت تنظيم صفوفها وبدلت لغتها وتسلطت على الناس وراحت تمدح زمن الزين وتطلق عليه النعوت.
"اخرس يا علالة"
هل تذكر أنك كنت تركض في الأنهج والشوارع و ترفع صورة بورقيبة وتهتف بحياته؟وهل تذكر أنك كنت تضرب النقابيين وتقضي الليالي في الحراسة؟وهل تذكر أنك كنت كلما قابلتني إلا وسردت علي وشايات كثيرة...
كنت تجري هنا وهناك تحلم بالشغل والثراء...ملأت الإدارات بمطلبك المرفق بشهادة العمدة بشير:
"يشهد العمدة بشير أنك دستوري وبورقيبي ومن الشباب المناضل..."
أخيرا عينوك كاتبا لدى العمدة بشير...فاغترفت مما يغترف وشبعت مما شبع.كنت أذكى منه واستغليت أميته وسلبته أشياء كثيرة...عملت على عزله وتآمرت عليه وهو لا يدري...زوجك العمدة بشير ابنته...كان مغفلا...
دعني منك يا علالة أريد أن أتحدث قليلا عن العمدة بشير...قد اشتقت إليه...
ينحدر العمدة بشير من شرق سيدي بوزيد...لا مستوى معرفي له.هو أمي لكنه يملك علاقات كبيرة...يعرفه بورقيبة شخصيا ويناديه كلما زار الجهة...يروج أن علاقته به كانت أيام النضال ضد المستعمر...ولولا المستوى العلمي لكان وزيرا... كان من الرؤوس الكبيرة في سيدي بوزيد وممن بيدهم الحل والربط...توسط للكثيرين في العمل والقضايا العدلية مقابل الخرفان والبيض وأشياء أخرى.. إذا أقام وليمة في بيته ودعا إليها أحد المسؤولين فوراء ذلك صفقة خفية.
ظل يحكم قريته ويتحكم فيها وظل الناس يخافونه ..لكن الأجيال الجديدة تحدته...شباب القرية من التلاميذ والطلبة يشاركون في المظاهرات وينضمون للأحزاب المعارضة...كلف بهم علالة فراح يكتب التقارير ويورط هذا وذاك...
أوراق عن العمدة بشير
عمـــــــران
يقترب عمران من الأربعين...
الرأس غزاه الشيب والعمر يركض ...
تعب من السير في شوارع سيدي بوزيد حاملا برادا وبعض كؤوس وهو يهتف "شاي...شاي...شاي بالنعناع"...يخرج فجرا... يبدأ رحلته من المحطة القديمة للحافلات...يقبل عليه المارة والمسافرون وعشاق الشاي العتيق...يقترب منه حتى المتسولون فيصب لهم الكؤوس و ينهالون عليه بالدعوات الصالحة التي مازال إلى اليوم ينتظر أن تثمر..
كان كلما ادلهم الظلام وحمل أمتعته وسارع إلى جامع الولي الصالح سيدي بوزيد...يسمح له الحسين أن يبيت في إحدى الغرف...يبيت مع من يبيتون هناك من رجال ونساء أتوا من القرى واضطرتهم الظروف للمبيت ...ينامون في اطمئنان في مقام جدهم الولي الصالح سيدي بوزيد...بعضهم جاء إلى المدينة لقضاء شأن عاجل و البعض الآخر استقر هناك وصار وجهه مألوفا في الجامع...صار من الذين يبيتون بصفة قارة في غرفة يشاركه فيها شيخ...آه عم العربي ...
عم العربي هو أيضا من المعذبين في هذه الأرض...شيخ تجاوز السبعين."لا أهل ولا أبناء لي" هكذا يقول غاضبا...صحيح أن زوجته لم تنجب له ولدا ولكن لديه أولاد الأخوال والأعمام والأخوة ويبدو أنهم لا يبالون به...
حين ماتت الزوجة ربح ضاقت به الدنيا...قضى أياما عند هذا وذاك ثم غضب...قصد المدينة ...سكن الجامع...يقضي يومه هناك...يثرثر مع من هب ودب...له غيض شديد على ابن أخيه...يتمنى لو يستطيع الزج به بين القضبان...له معه قضية عدلية تتواصل منذ أعوام...
ابن الأخ يحلم بأن يفتك لعمه قطعة أرض يقول انه استولى عليها أثناء قسمة ميراث الجد ويطالب بإعادة القسمة...يحلم بموت عمه حتى يترك له الأرض لكن العربي يضرب بعصاه..يريد أن ينتقم...لا حاجة له بالأرض ولا قدرة له على خدمتها وهو لم يضع فيها قدما منذ أعوام ولكنه يصر على التحدي...
ينام العربي بصعوبة...لاح عليه الكبر...صار يهذي كثيرا. يقضي ليلته في ذكر الموتى ومناداتهم.. ينادي ربح كثيرا ويتمتم بكلمات تخاطبها..هي بداية النهاية..."
كان عمران يخشى صباحا ليس ككل الصباحات حينما يصبح هذا الشيخ جثة هامدة ويبدأ البحث والتقصي ويهرع رجال الأمن من كل حدب .
...أين هي رعاية الدولة للمسنين؟ أين ما يقال في التلفزة؟...عم العربي ليس وحيدا وأمثاله من الشيوخ كثيرون...ها قد فعلتها الأقدار...ها قد صمت الرجل للمرة الأخيرة وهرع البدو من قريتهم وهم في حالة حزن وغم وأخذوه لدفنه هناك...تذكروه الآن حينما بلغهم الخبر...سمعت الحسين وكيل الجامع ينهر شيخهم بحدة... لم يخجلوا من تناسيهم له...لم يشكروني لأني كنت أعواما أرأف به وأعامله كأب...أصروا على أنه كان بخير....وطالبوا بالتحقيق معي...ولكن التشريح الطبي أنقذني...
بعدها صار البيت خرابا...لم يعد ممكنا البقاء...ذكراه في كل مكان...انضم إلى مجموعة من الشبان يكترون بيتا في حي شعبي...هم عمال قادمون من إحدى القرى مازالوا في أول الشباب يشتغلون صبحا في الحظائر ويمسون صيادين للحسناوات وفي الليل يأكلون صيدهم ويشربون الخمور ويرقصون على نغم المزود...في حين ينزوي هو في إحدى الغرف يحاول النوم ويتذكر حياته...يتمنى مشاركتهم ولائمهم خصوصا وهو يسمع قهقهات الحسناوات ...لكنه بائس ومنهك ...من هذه التي ستقبل برجل مثله...
يقضي ليله حزينا ومهموما...يلعن الفقروالعمدة بشير.يراهما وجهين لعملة واحدة.
الفقر اللعين هو الذي جعله يخرج من المدرسة...وجد الفرصة مناسبة في ذلك الصيف ليستمر في رعي أغنام العمدة بشير مقابل بعض الدنانير والملابس التي يجيئه بها العمدة من حين لآخر...يقال إنه ينتزعها من مساعدات الدولة مثلما ينتزع أشياء كثيرة...
حين كان أصحابه يركضون ويتجهون نحو المدرسة كان يطل من كروم الهندي ويتذوق الحلويات التي أهدتها له إبنة العمدة ويحرس الأغنام الكثيرة...كان يومها يسخر منهم ويفتخر بدنانيره التي يعرف أن والده سيستولي عليها قريبا...
لكن جاء اليوم الذي نهره فيه العمدة وأطرده من المكان وهدده...
أصر عمران على أنه لم يفعل شيئا...
تمسك بموقفه حين ضربه العمدة بالسياط وبصق في وجهه...عثر عليه العمدة منفردا بسكينة تحت الحوش...
توترت العلاقة بالعمدة بشير فانقطع عن تسجيل العائلة في المساعدات والمنح وشطب إسم الوالد من الحظائر...
ظل عمران يبحث عن القوت وكبر في بيت الفقر...
الوالد فقير ولا حول ولا قوة له والأعمام غلاظ لا يرحمون...لا رحمة عندهم ولا التفاتة...كل ما يهمهم هو الصراع مع الوالد حول حدود الأرض القاحلة التي ورثوها عن الجد..بحث عن الشغل هنا وهناك فلم يجد غير الرحيل إلى مدينة سيدي بوزيد والهتاف"شاي...شاي"
عادة ما يقف صديقي البغدادي عند عمران يحتسي منه كؤوس شاي "تحرك الدماغ" وقد صارت تجمعه به صداقة...وهو كثيرا ما يكرر له هذه الحكاية القديمة مع العمدة .
ذات يوم حينما كان يقف حذوه مرت سكينة وألقت عيه ابتسامة ساحرة...
استغرب البغدادي الأمر...وتعجب كيف تبتسم فاتنة لرجل كهذا...
أسر له عمران إنها ابنة العمدة وأقسم بأغلظ إيمانه أنه كان يطأها حين كانت صغيرة.
عقب البغدادي:
-يعني أنك قصفتها؟
ثم تمتم في سره:
-"زين...ما يخالف "إذن هي موطوءة...والعمدة بشير مازال يتبختر في البلد في جبته وتشرئب نحوه الأعناق...آه يا بلدي ...أي شرف لك أيها العمدة بشير وأنت خسيس...ألا تخجل؟...ألا تكف عن الادعاء؟...
الهادي اليوسفي
حدث الحاج عبد السلام يوما وكان في خصام آنذاك مع العمدة:
هل تريدون الحقيقة...؟
وقف العمدة بشير كثيرا وهو يهتف لبورقيبة وهاهو يهتف للسابع من نوفمبر بصوت أعلى...
هو مسجل في السجلات والدفاتر كرجل مناضل ومقاوم من الجيل الأول ولكن ذلك ليس صحيحا...
آه يا بلادي لماذا تعشقين إخفاء الحقيقة...؟؟
هذا أحد الذين خذلوك يا بورقيبة...
الآن بعد هذه السنوات وبعد انسحابي من السياسة التي تركتها لأهلها بإمكاني قول الحقيقة...
من أين اكتسبت هذا المجد وهذه المكانة يا عمدة...كيف أصبحت ناطقا باسم الوطن وأنت ابن رجل عميل ومجرم...كان مجرد "صبايحي"...ادعى في لحظة تاريخية أنه مقاوم...
دم الهادي اليوسفي لن يضيع...مازال عالقا في رقبتك ورقبة والدك...
كان الهادي اليوسفي وطنيا صادقا.. هو أحد أبناء القرية...ليس هذا لقبه الرسمي وهو لا ينحدر من قبيلة أولاد يوسف أو النصايرية المعروفة في سيدي بوزيد ولكن التسمية جاءت نسبة إلى الحركة اليوسفية وإلى الزعيم صالح بن يوسف
.ناضل كثيرا في سبيل الوطن وحارب فرنسا ودافع عن الحزب الدستوري لكنه اتخذ موقفا مغايرا في لحظة الحسم...لم يقتنع بالاستقلال الداخلي واتفق مع الزعيم صالح بن يوسف وقرر أن يلتحق بأبطال الجبال...وصار يتحرك هنا وهناك ويجلب الأنصار...
وشى به والدك...عثرنا عليه مقتولا في بيته...لم تكشف التحقيقات عن شيء...كنا نعرف الحقيقة جيدا...والدك هو الذي فعلها...علمت ذلك بوصفي بورقيبيا حد النخاع وأعرف الكواليس...
حين قتل والدك العميل ثأرا ادعى من ادعى أنه شهيد ومناضل وبطل وصرت أنت ابن شهيد مزيف...صمتنا جميعا عن الحقيقة ولم نرفض تعيينك عمدة...
نحن من أوصلك إلى هنا لكنك انقضضت علينا وحرمتنا من الحياة وتجاهلتنا...ابتززت دولة بورقيبة كثيرا ولما جاء بن علي صرت تلعن الزعيم وتمجد الزين في كل مكان...وامتدت أسطورتك في كل البقاع...وصرت لجاما.
كلما تحدث أحد عن الهادي اليوسفي يتمتم العمدة بشير...لا يريد لهذا الملف الخفي فتحا...يتمتم بكلمات قصيرة وغير مجدية...
ليست حكاية الهادي اليوسفي فقط هي التي تخرس عمدتنا بل هناك حكايات كثيرة لأشخاص قتلوا سرا لأسباب مختلفة يعتقد أنه وراء هذا القتل أو أنه توسط بمقابل للمتهمين كي لا يتعرضوا لسوء...كلما ذكرت هذه الحكايات تمتم العمدة بشير و أبدل موضوع الحديث...
نافذة
الزعيم صالح بن يوسف
طوال سنوات لم نكن نسمع عنه فالتاريخ الذي يدرسونه لنا والبرامج التلفزية التي يبثونها تختصر الوطن في آخرين لكننا عرفناه لوحدنا...سمعنا به وقرأنا عنه وأحببناه ...
صالح بن يوسف
هل كان ممكنا لو لم يحصل ما حصل أن يكون لنا وطن أفضل اليوم؟...كثير من الكبار سألتهم عنك وكانت الإجابات مقتضبة...
عار على هذا البلد أن يدوس على من ناضل من أجله...
كنت مقاوما معهم...كنت واحدا منهم وكابدت الاحتلال .حين رفضت اتفاقيات الحكم الذاتي فصلوك عن الحزب وأعلنت أنت الأمانة العامة وغادرت...
قرأت في كتاب أن بن حليم أطردك من ليبيا وقرأت أنك وجدت دعما من جمال عبد الناصر...قيل إن بورقيبة وافق على مفاوضتك...قيل إنه استقبلك عند عودتك وأطل معك من نافذة وحييتما الشعب الذي فرح اعتقادا منه بالمصالحة لكن فرحته لم تدم طويلا فكلمتاكما يومها تناقضتا...كل تمسك برأيه...
وقيل إنكما التقيتما بعد الاستقلال في سويسرا...ولكن الجليد لم يذب.
كنت معهم يا صالح لكنهم في لحظة ما غدروا بك وقتلوك في فرنكفورت ذات خديعة وجعلوك تهمة يلاحقون بها الكثيرين...كم من شخص شردوه أو قتلوه لأنه يوسفي التفكير..كعادته دوما يحمل هذا الوطن سيفا يسلطه على كل من لا يريد حكامه...مرة يتابع النظام أعداءه باسم صالح بن يوسف ومرة لزهر الشرايطي ومرة معمر القذافي ومرة أحمد بن صالح ومرة راشد الغنوشي إلى غير ذلك...
طريق الاحتقان...
علالة والفستان الجديد
مرت أسابيع قليلة...ظهر علالة من جديد..أقام في المدينة...صار يهتف بحياة بن علي ويركض مع الحزبيين الجدد...ارتدى فستانا جديدا أو لنقل قلب فستانه وصار ينتقد زمن بورقيبة...لم يكن وحده فالفساتين المقلوبة موضة تلك الأيام...بورقيبيون ومعارضون وأبرياء سذج سارعوا بالانضمام إلى الموجة الجديدة طمعا وخوفا فالرجل الجديد رجل أمن ولا يرحم...قيل انه كان يجري بعصاه الأمنية على الطلاب المتظاهرين حينما كان مديرا للأمن...
قلبت الفساتين في فترة وجيزة...
ذهبت توجيهات الرئيس و"قافلة تسير" وتبدل قراء الأخبار واختفت صور بورقيبة وذابت القصائد التي كتبت عنه...سكت الشعراء الذين تغنوا ببورقيبة كثيرا وتغير كلام العمدة بشير...
صاح ياسر عرفات مرارا "زين العرب".وذبح القذافي الخرفان استقبالا لبن علي في طرابلس وانتصب الليبيون في الشوارع استقبالا له...
كان بورقيبة يحظى في سيدي بوزيد بنصيب من الحب...ثمة ما يجعل الناس يحترمونه على الرغم من أخطائه...وكان يعرف الكثير من الناس فيها.ورغم غضب النخب المثقفة منه فكان ثمة من يحبه ولكن السنوات الأخيرة من حكمه كانت مظلمة...
حين ذهب بورقيبة ذهب معه جيل كامل من السياسيين والحزبيين ممن احترموا أنفسهم لكن البعض عادوا في ثوب جديد وواصلوا اللعبة...
نسي بورقيبة واختفى من البلاد ومن تاريخها فالحكام الجدد محوا كل الماضي وراحوا ينسجون زمنا من الوهم.
واحد فقط لم يكن يدري...عبدالله المهبول ظل في خياله كما هو منذ سنوات...يخطب في المقاهي والمظاهرات والساحات محاولا تقليد بورقيبة"الأمة...الأمة التونسية وحركة التحرير...ااااااه...أنا حاربت فرنسا...حاربت الاستعمار...آه"" وأحيانا يقلده في سنوات المرض"تو...تونس...تونس يلزم تبقى حرة..."
اختفى أياما وافتقده الناس ثم عاد كئيبا.ربما اعتقلوه فهم منزعجون منه..سأله الناس فلم يجب...يتثاءب ثم يبكي ويمد يده إلى الصورة الجديدة التي غزت الدكاكين والمقاهي"بورقيبة...بح...بورقيبة بح..."
ثم وقف وتأمل الصورة ثم صفعها"أنا أحب بورقيبة...يحيا بورقيبة...يحيا بورقيبة"..وخرج يجري كعادته...
نافذة
مجرد ذاكرة طفولة
في تلك الطفولة العويصة عندما كان الشيوخ يرفلون في جببهم وهم يتجهون إلى اجتماع أو مؤتمر في مدرسة القرية كنا نرى بورقيبة عظيما...كنا نحب أن نمرح بتلك الجملة"يحيا بورقيبا"كما نسمعها في التلفزة ونحن حفاة عراة وفقراء...ربما ولدت هذه الجملة معنا دون أن يبصرها أحد...
كنا نرددها خصوصا حينما نبصر طائرة في السماء...لست أدري إن كان فيها علم فعلا...كنا نقول إنها طائرة بورقيبة ...
كنا جيلا بريئا وعلمونا أن بورقيبة بطل ومجاهد...ولم نكن نعرف من الأمر شيئا...حتى بدأت الأوجاع تتهاطل...الأهالي عائدون من كل المدن ...الكلاب لا تهدأ...التلفزة تبث صورا لوجوه مخيفة وتدعو كل من يعثر على أحدهم أن يتصل بأقرب مركز أمني والطائرات الحربية تحلق...
القذافي أراد احتلال تونس...الحرب ضد ليبيا قادمة...
هنا قفصة صوت الحركة الشعبية لتحرير تونس...
الليبيون في قفصة وهم يبثون عبر الإذاعة من قفصة...والقذافي يهدر...يتكلم بغضب ...
الإذاعة التونسية ترد"اسمعوا ماذا يقول معمر القذافي" و" من لم يستح فليفعل ما يشاء" وترد ليبيا بأن "الجراد يأكل الأخضر واليابس"و"أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"
توالت علينا في تلك الأعوام أخبار عديدة...القذافي أطرد العمال التونسيين...تونس تحترق بسبب زيادات مزالي...عاشور في السجن...محاولات تفجير نزل في الساحل...
في تلك الطفولة البائسة كنا ننصت إلى أشرطة الفكاهة ببراءة الأطفال...نور الدين بن عياد ولمين النهدي ومنجي العوني في أشرطة كثيرة ضاعت الآن...القلق... الخبزة... الميزان ...بنديري...
وكان يعجبنا غناء بن عياد"الخبزة مرة الخبزة مرة وما نجري كان على الخبزة.." وكنا نردد جماعيا"وجاني جلول الشاف...قالي أشنوه ها القراف...قتلو أسال المكان..."
كان زمنا جميلا على ما فيه...كنت أسمع الكبار يسبون علالة والعمدة بشير...كانوا يتحدثون عن المحسوبية وعن ليالي الحراسة وعن الوشايات والتقارير ويوصون بعضهم بالحذر...علالة جمع معه ميليشيا وهو يحرس القرية في الليل وتجيئه سيارات الحرس...
مرت الأيام.. سمعنا عن إقالة مزالي ذات يوم صيفي حار وجاء رشيد صفر لكنه رحل وعينوا الزين...جمع بين الداخلية والوزارة الأولى...
فجأة دارت الأرض
تردد الخبر في حذر وخوف...
-انقلاب
-أصمت لا ترفع صوتك...قل تحول وكفى...
بورقيبة انتهى...سقطت دموع وحزنت قلوب ...لم نصدق أن الأمر حصل بسهولة..كنا في المعهد حين راج الخبر همسا...في الطريق كانت الدكاكين صامتة وكان الناس صامتين وحائرين...
.لكن الآلة الجديدة كانت سريعة...سيطر الزين على الوضع وبدأ أنصاره يكثرون...
... بعد هذه الأعوام وبعد أن ماتت الطفولة لا بد أن نقول إن بورقيبة كان زعيما ورجل سياسة حقيقي وإن مارس على شعبه سياسة الأب الغليظ...وإن الزين مارس معه سياسة صلبة وحاول طمسه...وإن بورقيبة له أحباب رغم كل شيء...خاف الزين حتى من جثته ومنع بث جنازته إلى العالم ما عدا لقطات صغيرة سمعنا فيها غضب أبناء المنستير وترددت شعاراتهم"ياحجامة و ين فلوس اليتامى"
لقد ثأر أبناء المنستير للزعيم وصفعوا الزين صفعة تحتاج إلى التوثيق...لكن علالة يصر يومها على أن السابع هو الذي صنع البلاد...
علمنا بعد أيام أن تقريرا وصل الفرقة المختصة حول تلك الجلسة في مقهى سمرقند ...وبدا بورقيبة وكأنه نهض من القبر أو عاد إلى قصره في سقانص أو قرطاج...خرج من طور النسيان...الناس يتحدثون والجرائد تكتب...مازال الناس يحبونه ...كان يزور سيدي بوزيد باستمرار...الناس يعرفونه جيدا...
-ولكنه تركها مدينة ضعيفة
-أعيان البلاد هم السبب.. سألهم ذات زيارة ماذا يريدون فاكتفوا بطلب تحويلها إلى ولاية أطلق عليها اسم "سيدي بوزيد" بعدما كان اسمها قمودة وكانت تتبع قفصة ...أضاف إليها المعتمديات المجاورة...قيل إنه جمع المعتمديات الفقيرة وتركها...
سيدي بوزيد...الغضب الاول...
رقصوا في شوارعها...تجاهلوها وهاجموها...ظلوا يعودون إليها كلما اشتهوا تصفيقا ولحم خرفان وأصوات انتخابية مزيفة...لكنها مدينة غضوب ...لا أحد يعرف متى تغضب ويتحول أهلها من الصمت إلى الكلام...اخترقت سيدي بوزيد السبات ذات ربيع...تحدت الرجل الذي يقدم نفسه "صانع التغيير" وانتصر في انتخابات أفريل الفارط بنسبة عالية...نزلت أمطار طوفانية اجتاحت المنازل وعزلت الناس في القرى وقتلت الماشية...وغرقت مدينة سيدي بوزيد...خرج الناس إلى الشوارع في مركز الولاية ومعتمديات أخرى منها المكناسي واحتجوا وعبروا عن غضبهم وواجههم الزين بالبوب والاعتقالات وسقط ضحايا...
لم تفعل الحكومة شيئا أمام الفيضانات التي اجتاحت الجهة ...مناطق معزولة وبيوت تغرق في الماء والدولة لا تبالي...غضب الشارع...وجاءت الصور والبرامج التلفزية تزعم لفتة الرئيس وتحاول امتصاص الغضب وخصصت التلفزة ليلة للتضامن نشطها نجيب الخطاب وقدمت فيها تبرعات من المواطنين وعزل الوالي وجاءت المساعدات...لكن الجراح كانت كبيرة...شعر الناس بالإهمال والتناسي فمنذ فيضانات نهاية الستينات وهم يطالبون بحماية المدينة من الفيضانات لكن الدولة تتجاهلهم...حتى الحماية المدنية التي قدمت شهداء من أعوانها كانت تجهيزاتها ضعيفة...
اعتدى المتظاهرون في تلك الأحداث على علالة الزيني مثلما اعتدوا على آخرين...ضربوه وصفعوه بعدما ضبطوه يحمل قائمة في أشخاص متهمين بالمشاركة في المظاهرات...كما علموا أنه استولى على نصيب من الإعانات التي تهاطلت على الجهة..
...سجلت سيدي بوزيد غضبها في التاريخ ولكنه كان غضبا عابرا...فالبلاد تتغير ببطء...والمهرولون يسرعون لتأييد الزين ومباركته...
انتشرت اللحى الطويلة وازدادت أعداد المصلين وتكلم الإسلاميون كثيرا...حاربهم البعض وكثر الحديث عن السياسة.صرنا نعتقد أنه يمكننا قول كل شيء...
فجأة سرى برد مخيف واصطكت القلوب من الخوف وكثر الهمس:
- صمتا...دعنا من السياسة...
-السياسة لأهلها
-الخبز والحائط يا أخي...
-عاش حزب الديك.
كشر الزين عن أنيابه...زج بالكثيرين في السجون...اختطفوهم من الشوارع ومن المدارس والمعاهد ومن غرف النوم...أخذوهم عراة حفاة وفعلوا فيهم ما لا يفعل من تعذيب وإهانة.
عم الخوف...شعب كامل يرتعد كلما شاهد سيارة شرطة...
تجند علالة مع من تجندوا وسهروا الليالي في البرد وجابوا الطرقات والمقاهي بحثا عن رائحة المعارضين...
ينهض باكرا.. يمر على لجنة التنسيق...يبتسم لبعض المسؤولين ثم يمضي...هو عين لا تنام...أجرته تأتي كل شهر وهو لا مهام له غير هذا العمل.
كل الشعب معارض و"اخوانجي"وخميني"
من لا يدفع انخراطه الحزبي ولا يتبرع للتجمع معارض واخوانجي
من لم يعلق صورة الزين في دكانه..
من ينصت إلى الإذاعات الأجنبية..
من يصلي أو يطيل لحيته أياما..
من تغطي رأسها..
كل هؤلاء يصنفونهم "خوانجية" يركضون خلفهم ويراقبونهم ويسجنونهم..
كم دمرت يا علالة أنت وأصحابك فرحة أمهات وأولاد صغار...كنت تردد"الواجب الواجب" وتسجن الكثيرين بلا شفقة...
عبدالله المسرحي
تدحرج نحو دار الثقافة...خطر له أن يلتحق بالأمسية الشعرية التي تنتظم وخطر له أن يكون معهم...أراد أن يقرأ الشعر فالشعر والمسرح شقيقان و المسرحي العتيق مثله له أن يكون شاعرا...وهو يكتب شعرا ويعتقد أنه قادر على قول ما يعجز عنه هؤلاء...ترك الشعر واتجه نحو المسرح منذ زمن...ضاعت كراسات الشعر الذي كتبه زمن التلمذة وضاعت قصائد زمن الحلم...
سارع الخطى...الساعة تأخرت...لعله يدرك الردهات الأخيرة من مجلسهم...يريد أن يهجو الشعراء ويعبر عما يخالجه...هو لا يعترف بهؤلاء الشعراء...أكيد أنه سيجد الوجوه القديمة الشاحبة التي لا يعترف بها...سيهتف فيهم:
لا تسألني عن ثقافة كنا لها خدما
لا تسألني عن دار كنت بها أحتلم
قد جافاني ركحها و القلم
حين عرفت الحب كهلا
وسافرت فيه حتى الندم..."
كتبت هذه القصيدة منذ أيام...تمنيت أن أقرأها على نادية...لكنها تمضي مسرعة...لم تخضع ولم تلتفت وكلما وقعت في المصيدة أشاحت بوجهها...
كتبت لها خاطرة...
لك ذلك يا نادية...أنت فاتنة وأنا رجل فقير...ألغتني المدينة وألغيتها...لا أنا في قوائم المنتدبين ولا المتقاعدين ولا المبدعين ولا الناخبين...منذ أعوام وأنا أتخبط على الركح وأصرخ...أحيا للمسرح...لكن أي دور لمسرحي في مدينة بعيدة وأي مكانة لمبدع هنا...كم أنت قيد أيتها المدينة...لو كنت في مدينة أخرى لكنت تهرعين للحصول على إمضائي الفني ولكنت تطيرين من الفرح لابتسامتي...أذرع المدينة ومعي ملف مسرحية...أنساه أحيانا في المقهى أو في الحانة...أعشق سمرقند...يقفز دعدع البوليس السري أمامي...يقهقه بصوت عال...يلثمني كالمشتاق...يكرر"عبدالله يا عبدالله يا أستاذنا العظيم..."
أتأفف :
_أي أستاذية...جاوزنا الأربعين ونحن ننتظر...الكاباس دمرتنا...
يرد مبتسما:
_أنت مبدع وإبداعك أقوى من الإجازة.
_الإبداع الجاد لا يوفر ثمن الخبز...كم مبدع في هذه البلاد يعيش الفقر...الإبداع مصدر ثروة للمنافقين والمداحين فقط...
ينظر إلى الظرف الذي أحمله
-أكيد مسرحية جديدة...
أكاد أصرخ في وجهه...يلحظ حيرتي وتوتري فيسألني:
-أين صديقك الكاتب؟
أماطله لأني أعرف أنه سيحرر بعدها تقريره اليومي...صديقي الكاتب يزعجه أيضا هذا الرجل ويتبعه بدقة...كلانا في الهوى سوى...أحلامنا محطمة ومجلسنا إذ ينعقد مزعج لهم...
أقبع هناك على ضفاف سمرقند...حينما تمر نادية أتبعها وأتأهب لمفاتحتها...هي فتاة ريفية على ما يبدو وهي حديثة الظهور بالمدينة...تمكنت من مصافحتها يوما لكن كلامي لم يرق لها فأشاحت عني ومضت...
جاءني رئيس جمعية المسرح بعد يوم واحد والشرر يتطاير منه وهددني بالفصل...وأعلمني أن الأمن طلب منه إبلاغي هذا التحذير ..تلك الوقفة بلغتهم...والفتاة مراقبة من قبل الأمن السياسي لأن والدها ينتمي إلى حركة النهضة وأسر لي أن عمها عثمان الشرقي الشيوعي المعروف وهو مراقب أيضا...آه يا بلدي ما هذا اللجام؟هل صرنا مراقبين حتى في المراحيض؟وهل صار الحب يحتاج إلى تأشيرة قانونية من وزارة الداخلية؟...أنا أحبها ...وسيزداد حبي لها بعدما سمعت...أكيد أن لها بذرات صالحة مادامت من عائلة ذاقت الويل السياسي...ما اغباه رئيس جمعية المسرح؟أيظنني تجمعيا مثله؟...ممتاز أيها الفقير أن لا يتفطن هؤلاء أنك معارض وانك تنتظر سقوطهم وانهيارهم...
صحيح أن عمها عثمان لا يروق لي و لا يعتد به ولكن لا بأس سيكون مفتاحا مهما...سأكون في حاجة إلى احتساءة كبرى معه حتى يمهد لي الأمور...
لم أعبأ بما قيل لي...
هي صارت تعرفني جيدا...صارت تلقي علي السلام من حين لأخر وصار وقوعها وشيكا لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن...جاءت أخبار سوداء...انضاف للقلب جرح آخر لا يندمل ...صارت موظفة عند علالة اللعين...
تعثر عبدالله في مدارج دار الثقافة...الأمسية انتهت ومدير الدار يعلمه أن لجنة التوجيه المسرحي قادمة في الأسبوع القادم...تمتم مغادرا...عرف المدير أنه كان هناك في الحانة...
ارتطم بالجدران...توغل في الرحبة... سار يمينا وشمالا...تبرز تحت جدارها...مشى خلفه صبية...حاولوا العبث به...توعدهم وهتفوا خلفه هازئين...هم يعرفونه...شاهدوه مرارا على الخشبة وشاهدوه مرارا وهو يتساقط محتسيا هنا وهناك...لم ينو أن يفعلها نهار اليوم لكنه
أحد الأصحاب...اقتاده إلى هناك ... إلى الحانة القريبة من حي الخضراء...شرب ...شرب...ثم خرج متعثرا...الرياح تصفر في شوارع سيدي بوزيد ومقاعد سمرقند الخارجية خاوية... هذه المدينة تنام باكرا فلا يمكث في ليلها إلا السكارى والمعتوهون ومن ضاقت بهم سبل الحياة وضاقت بهم الأنهج الفقيرة...ثمة جلساء يتكومون في الداخل يلعبون ...وصوت أم كلثوم يلهث من حاكي المقهى"الحب كلو حبيتو فيك..."
قاطع الأغنية:
"وزماني كله أناعشته ليك"
واصل خطواته المتعثرة...خطر له أن يذهب إلى نادية في دارها..فما سمعه عنها وما صار يدرك أنه حقيقة لم يجعله ينساها...يشعر أن فصلا ما مازال معها...رجع إلى الوراء...تعثر في الظلام وتاه بين الأنهج...توغلت الكحول واستبدت به...لم يعد يدرك شيئا...ضاع الشمال والجنوب والشرق والغرب...ضاعت الوجهة وضاع القلب...
أوراق متناثرة من جيب عبد الله
لمن سنقول الشعر الآن...
انهارت الجيوش وانهار الزمان
لمن هذا الشعر
ونحن اكتوينا
وهجرتنا الحسان...
ونادية علالة لها
وركح الرقص لها..................
تاه القلب حتى بلغ الصحراء
والتقى غزالا
جرى خلفه جريا قد طال
ها أنا هنا
ضللت طريق الحسناء
والتي أحببت
ما زال رسمها........
إلى السيد وزير الثقافة والمحافظة على التراث
تحية طيبة
.....إني الممضي أسفله مسرحي وشاعر ومجاز منذ سنوات عديدة تقدم بي العمر وساءت ظروفي...أنشط في دور الثقافة ولم أعثر على عمل وإني أهيب بسيادتكم التدخل لفائدتي وإلحاقي بإحدى المؤسسات الثقافية ولكم مني جزيل الشكر.
والســــــــــــــــــــــــــلام.
سمرقند فجرا
...ضوء الصبح يتقدم...المدينة فارغة ورائحة القهوة تفوح في الفضاء...جسد ملقى قرب الشجرتين... هو واحد من كثيرين يتسولون في النهار ويقضون لياليهم في الحدائق والبنايات المهجورة...
سمرقند الصباح فاتنة...كأنها قباب.. بخور يضوع...مسافرون يبكرون...شرطي في زيه يدخل ليأخذ مجموعة كؤوس قهوة...يحملها في جوتابل...يزمجر"ملة خدمة كلبة"...السيارة مكتظة...الوجوه داخلها شرسة ومدججة...أكيد ثمة أمر ما...هم ذاهبون إلى مكان ما...أكيد تعزيز...ربما ثمة إضراب أو زيارة لمسؤول...
صباح آخر.. يستنشق عبدالله رائحة سمرقند...
يفتح عينه فإذا به هناك...في مركز الأمن...لا يعرف كيف جاء ولا كيف أخذوه وقبضوا عليه...الذاكرة بيضاء...
استغرب أمره...خشي أن يكون ارتكب شيئا ثقيلا لكنهم أطلقوا سراحه...قضوا معه ليلة ساخرة وهو لا يعرف...سلموه رزمة أوراقه فعرف أنهم فتشوه ..
خطى خطوات سريعة.. مقهى سمرقند على الأبواب...لا بأس.. يبدأ اليوم في سمرقند حتى تدب الحركة من جديد...سينتظر مرور أحد أعوان الأمن ليستفسره عن واقعة البارحة.
آه يا نادية ...حينما رأيتك في الأيام الأولى فكرت فيك وفي مرحلة جديدة من الحياة...قررت أن أعيش لك وللمسرح وأترك الضياع لكن لم تمض أيام حتى غرقت وازددت ضياعا...كنت خيبة لا تحتمل...صرت عارا...عار أني أحببتك يوما...لقد هزمنا المنصب والحزب مرة أخرى...هل هي مصادفة أن أفشل في الحصول على عمل لأن رجال الحزب غير راضين عني وأفشل في المسرح مرارا لأن مسرحياتي لا تروق لهم رغم ابتساماتهم العريضة وأفشل في الحب لأن ساقيك قد وطأتا ذلك المكان ولأنك صرت دمية من دمى علالة.؟؟
علالة الزيني
...جمع في صيغة مفرد
حدث ذات جويلية
في أواخر جويلية وأول أوت من كل عام يرتعد المسؤولون الجهويون والمحليون ارتعادا... يطوف بهم هاجس الرحيل والعزل والشماتة......ففي هذه الفترة تجرى التعديلات والتعيينات السياسية...وتروج الإشاعات عنها مسبقا...
غلت سيدي بوزيد بالأسماء وبذل البعض جهدا كي يعين...يقال إن الوالي بإمكانه حسم هذه الأحلام...لم يكن اسمك مطروحا على الإطلاق فأنت لا تساوي شيئا ولا قدرة لك على استقطاب الناس...عرفناك تصفق بحدة في الصفوف الخلفية وذئبا شرسا تنقض على الفريسة لتشي بها وتلقي بها في غياهب التتبعات السرية ...لكننا فوجئنا...
ذات يوم من ذاك الصيف الحار فوجئ الناس انك عينت وصدر إسمك في قائمة المسؤولين الجدد...أنت يا علالة ؟؟ماذا فعلت كي تصبح صاحب مكتب ومن وجوه الصفوف الأولى التي تنتظر الوزراء أمام مقر الولاية ويصبح لك شأن...لمسات خفية و وساطات كبيرة ورحلات متكررة إلى دار الحزب في العاصمة وأسرار أخرى...كنت ذئبا واستطعت الوصول إلى هذا المنصب.
ذبحت الخرفان في قريتك وأقمت وليمة كبرى ...دعوت لها "عرفك" السابق العمدة بشير ...اختليت به أنت وبعض خاصتك...تقرر أمر سكينة نهائيا...لم يعارض العمدة بشير بل عدّ ذلك فخرا...
وعدت الناس بالمساعدات والمشاريع وانتصبت في مكتب فخم...تدور في كرسي هزاز وتدق الجرس فتأتيك السكرتيرة نادية تغازلها وتتهكم عليها وهي صاغرة. فأنت الحزب والحزب هو الدولة والحياة والتمرد عليك يعني لها الطرد من العمل في زمن لا يرحم...
آه يا علالة...مرت سنوات منذ اعتليت المكان...كرهك الناس ولكنهم يتعاملون معك...كل صيف حينما يحل موسم التعيينات تكثر التقارير والرسائل الموجهة ضدك إلى الرئيس حتى يعزلك ويريح الناس منك لكنه أصم ...يقول البعض إن الرسائل لا تصل ويقول البعض الآخر إن لك صلة ما بليلى وإنك من زبانيتها...
ذئب أنت يا رجل...خطاب للشيوخ والمواطنين البسطاء الحالمين بالمساعدات والمشاريع...تماطلهم وتسخر منهم وتستبد بهم وخطاب سري لخاصتك...ألاعيب ومرح ومشاريع خفية وجهاز سري من الوشاة يرصدون لك كل شيء...تصلك أخبار المعارضين والرافضين من كل القرى فتنهال عليهم بلا رحمة ولا شفقة...تزج بهم وتدفع لمحاصرتهم...
تعلم كل شيء ولكنك لا تعلم أن سكان سيدي بوزيد يعرفونك جيدا وأن الأجهزة التي تتعامل معها تستعد أيضا للانقضاض عليك يوما...الكل ينتظر سقوطك المدوي...ولكن في كل مرة تصدر التعييينات لا نجد اسمك...
يحلم علالة منذ مدة بمنصب أكبر...حلم بعضوية مجلس النواب والمجلس البلدي واللجنة المركزية للحزب لكنه لم يحصل على شيئ من ذلك فانضم إلى التجمعيين المحتجين على القائمات التي تم اختيارها في الانتخابات الأخيرة...
أخفت وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة أن التجمع في سيدي بوزيد صار مجرد هيكل ضعيف تنخره الانشقاقات والصراعات...كثيرا ما تخاصم التجمعيون وتصارعوا...اختلفوا حول القوائم واعتصموا وانسحب الكثيرون منهم غضبا أو طردا ...كان البورقيبيون في طليعة المتحسرين على الحزب وكانوا يتحدثون عن نهايته ولم يبق فيه إلا بعض المتمعشين أما البقية فمجرد خائفين أو طامعين...
سارع علالة بالتوقيع على مناشدة الزين لانتخابات 2014 فهي فرصته الأخيرة ليضمن المنصب الذي يتمناه خصوصا وهو يسمع أن الزين إذا ربح فسيغير الوجوه القديمة ويصعد وجوها جديدة وهو يعتبر نفسه من الوجوه الجديرة بمناصب كبرى... يحلم بفرصة جديدة وفوز أكبر... ويسعى إلى أن تعين زوجته أيضا فهي أستاذة وقادرة على خدمة الجهة وهم يرغبون في تعيين النساء في المناصب.
سنوات وهو قابع هناك يحرك دمى مطيعة تلهث خلفه وتتراص في الصفوف خدمة له لكنه في النهاية دمية بيد أسياده...أنت يا علالة الدمية الكبيرة التي علت سيدي بوزيد وأهلها ...أنت من بعت الجهة...أنت من هربت المشاريع وأفسدت البرامج...
دمى علالة
لعلالة دمى لا تحصى ولا تعد يحركها مثلما يريد ولكنه في النهاية مجرد دمية بيد أخرين...
هو يتحكم في هؤلاء لكنه يرتعد أمام أسياده ويصبح دمية كبرى أو كرة يتقاذفونها...
*شتربة الهمامي
يسكن شتربة ريفا من أرياف سيدي بوزيد المنهكة...يرأس الشعبة منذ مطلع التسعينات ...أمي لم يكمل دراسته الابتدائية لكن "لسانه يغزل الحرير"...يجيد الكلام..."بلعوط كبير" لا تستطيع هزم لسانه... كان على وشك السقوط لكن علالة شد أزره و دعمه فاستمر سنوات طويلة...
استطاع أن يحافظ على موقعه في رئاسة شعبة قريته منذ أعوام...هزم المثقفين والمتعلمين وتربع على الكرسي الوثير...نافسه أساتذة و موظفون ممن تمنوا الظفر بموقع حزبي يصنع لهم مجدا ويمنحهم امتيازات في العمل لكنه هزمهم...أحيانا لأن أعضاء اللجنة في يده وأحيانا لأن هؤلاء لا يقنعون الناخبين البسطاء الذين يعدهم شتربة بالعمل والمساعدات والقروض فيقعون له ولا يؤثر فيهم خطاب...
علاقة شتربة بعلالة كبيرة فهو الضامن لبقائه في مهامه وحتى في المرات التي يشعر فيها أن الشعب سينسفه يكون معه ويتدبر له حيل الفوز...
اجتماعاتهما يومية...يتطرقان فيها إلى شؤون حزبية ويخططان للمرح والربح.
حينما يغلق الباب يبدأ الكلام...تخطيط لبرنامج سهرة خمرية في الريف...يذبح شتربة من خرفانه ويكدس قوارير وعلب الخمر ...القوارير الحمراء له بلا منازع والعلب لعلالة ...تدور كؤوس الشراب الأحمر وينزع شتربة جبته ويغني...يتمايل علالة ثملا..."السيد الرئيس موش موجود...أرجع غدوة...أنا علالة العظيم ..."يهذي علالة بأسراره ويجذب هاتفه يهاتف عشيقته البعيدة ...يعدها بالحوالة البريدية التي تصلها والليالي التي سيقضيها في العاصمة في نزل فخم...يوصيها بان تجيئه معها بفتيات أخريات حسب المرافقين...يتشهى شتربة أن يذهب معه...هو أيضا يريد أن تكون له صاحبة من هناك...على استعداد ليبيع الخرفان من أجلها ويذهب...على استعداد لكل شيء...هو كره مباركة زوجته...ويريد نصيبه من الحداثة...
ينهمك عبد الواحد في الشرب وفي جمع بقايا ما توفر من لحم وخمر وأشياء أخرى...غريب هذا الرجل.. يبدو أنه ملقح ضد السكر...يشرب ويشرب وكأن لا شيء...
حين انتصفت العشرية الأولى من القرن صار شتربة من كبار الأثرياء...سيارة "ايسيزي" للشحن وأخرى للنقل الريفي وزريبة كبيرة مليئة بالأغنام وإصطبل يعج بالأبقار...
*ضو الصحفي
يتردد ضو كثيرا على مدينة سيدي بوزيد...يدعى بمناسبة أو بدونها...يستقبله علالة مرارا...يفرض حضوره على أغلب الندوات والملتقيات والمهرجانات...يفرضه فرضا على كل المندوبين والمديرين...
يتقن ضو درسه جيدا ففي كل مرة لا بد أن يقحم علالة في المقال وهذا أمر سهل...يكفيه أن يضع إسمه أو صورته...هذا ما يفرحه كثيرا...مجرد وجود إسمه في مقال يهزه من الفرح...ينسخ المقال ويرسل نسخا إلى السيد الوالي ومسؤولين آخرين ويصبح المقال إبداعا كبيرا...تلصقه نادية في ملف ضخم مخصص للمقالات المدحية...يحدث أن يكتب ضو المقال دون اسم أو بتوقيع مخالف أو باسم زميل له في جريدته أو جريدة أخرى...
يتحدث ضو عن نجاحات ولاية سيدي بوزيد وما فعله فيها التحول وعن ولائها للزين و الجنة الكبيرة هنا وهناك والاجتماعات المهمة والكلمات الرنانة لعلالة...منذ وصوله يحظى بعناية خاصة...يكلف به عبد الواحد...يأخذه إلى نزل بسبيطلة كي يسكره ويوفر له كل شيء...يملأ جيبه بالأوراق النقدية ويرجع إلى العاصمة...تصدر مقالات ترسم جنة خيالية...تصبح سيدي بوزيد بخير عميم...
يسير بعض المراسلين على خطى ضو...يلهث بعضهم من أجل التقرب من علالة وغيره من المسؤولين...أمكن لهم ذلك ومضوا يرسمون الوهم لكن امتيازاتهم لم تصل إلى ما وصل له ضو...
*الهادي البوزيدي
معلم حزبي...يغيب عن المدرسة ...يزعم أنه في اجتماع...يلتحق بعلالة...يرتب أوراقه...يبلغه أخبار النقابة والمعارضة...يخطط معه...
يحلم الهادي البوزيدي أن يعين في منصب معتمد...يجيئه دوما بالمطالب قصد تزكيته ودعمه...يعده علالة من عام إلى آخر...يزعم له أنه أجرى اتصالات شخصية والأمر وشيك...حين تصدر القائمة يزعم له أن أحدا من أهله قد تعرض له ومنعه...يصدق الحكاية...يشرع في البحث عن الأهل المضادين له يجد قوائم كثيرة...يقرر الرد بتصعيد التقارير الشفوية ضدهم...
*حليم
رئيس فرقة الرقص العصري...مهامه الرقص والترقيص...يأتمر بأوامر علالة...يقبع في سمرقند لمراقبة المعارضين ومده بمختلف الأخبار...يكلفه أحيانا بضرب البعض وإزعاجهم...يستعرض عضلاته المفتولة هنا وهناك...بينه وبين عبد الواحد عداء شديد...يغار منه...هو أيضا يفاجئ سيده بالحسناوات ويرتب بعض الحفلات الماجنة...مقابل هذا يتدبر له علالة الحفلات الخاصة والعامة ويقتسم معه المبالغ المالية...
هو فنان رديء لكنهم يفرضونه على الجميع...
*زهرة (الشاعرة)
يقولون عنها شاعرة كبيرة...يجيئون بها في لقاءاتهم السياسية...تقرأ مدحا للسابع والزين وتعرج ببعض الجمل على علالة...
يهتفون "الشاعرة"...
يرسلونها إلى الملتقيات ..يعرفون بها الضيوف... يروجون لها...يمتدحونها...
يعدها المسؤولون شاعرة ويغضون النظر عن الشعراء الحقيقيين...
كلف علالة بأن يكتب عنها بعض المقالات فملأ الصحف أياما بالحديث عنها...
فازدادت اقتناعا بأنها شاعرة وكان المثقفون يسخرون منها ومن هذه الأقلام التي تمتدحها...
صارت جسدا خاويا...صاروا ينادونها للجلسات المضيقة التي تعقد في مكتب علالة...يتحدثون أمامها أحاديث فاحشة ويلقون عليها النكت البذيئة ويعطونها أحيانا بعض السجائر...
تردد سرا أنها عشيقة سرية لعبد الواحد وأن علالة يخطط بعمق لتزويجها منه...عبد الواحد يعرف أنها خدعة...ويعرف أن علالة خائف منها...خائف من أعصابها...صارت عصبية بعد تلك الواقعة.واقعة الإجهاض...وصارت لا تتورع عن الكلام ببذاءة في الشارع وفي القاعة...يخاف علالة أن تنفجر في وجهه يوما بعدما فعل بها...هي وافقت على عبد الواحد لكنه يماطل ...علالة يلح عليه في كل جلسة خاصة وفي كل سفرة...انتقل إلى الوعود المغرية...سيتدبر له بيتا من إحدى الشركات...لن يدفع مليما واحدا في العرس...سيوفر له كل شيء...
في خريف 2010اتفق معه نهائيا...يتحقق الأمر بعد احتفالات السابع من نوفمبر...ربما في بداية ربيع 2011حينما تنزل الميزانيات الجديدة...
عبد الواحد يفكر في لعبة على اللعبة....يتزوج ويطلق...وعلالة بلغته الفكرة...لم يمانع....المهم أن يخرج من الورطة...
*عبد الواحد
الرجل الخطير لعلالة...رجل المهمات الخاصة السرية والعلنية...
هو سائقه الشخصي ومن يقوم بنقل أفراد أسرته وضيوفه...
عبد الواحد
كهل مفتول العضلات عال الصوت يرافقك في كل مكان يقود سيارتك ويتفاوض باسمك وينفذ أعمالك الخفية والظاهرة...
عبد الواحد هو رجل الأسرار...هو الذي يختلس لك الأموال ويعقد صفقاتك ويجيئك بالخمور وينظم جلساتك وهو الذي يتكلم باسمك ويقود الإدارة في غيابك... يظهر لدى الناس كمسؤول كبير وصاحب قرار وعلاقات والكثير منهم يقصدونه ولا يقصدونك لأنهم يعرفون أنك لا ترد له طلبا وهو أكثر منك وضوحا يطلب ما يريد دون لف أو دوران...
حين جاعت نادية وأمها أشاروا عليها برجال الحزب وقالت لها صديقتها إن الحل عبد الواحد...جرت خلفه كثيرا لاحقته أمام الولاية حيث اعتاد الوقوف كل صباح مع جمع من المحتشدين ليهتف كلما حل وزير
عبد الواحد هو العراب وصاحب الصفقات السرية الكبرى...
وهو جالب جرار الخمر وصياد الحسناوات
وهو الصوت الهاتف بحياة بن علي في كل الاجتماعات
وهو الرجل الذي ينزل للمقاهي ليروج لعلالة ويقود حملاته الانتخابية...
هو الذي يقولها إذا سئل عن عمله"مكلف بمهمة في المراسم الرسمية"
هذه المهمة المزعومة اقتات منها طويلا...فهو يتنقل في القرى قبيل الزيارات الوزارية ويضبط التراتيب ويبتز البدو من رجال الشعب ويأخذ منهم المال والأغنام لبيعها بدعوى حاجات خاصة للمراسم وبدعوى أمور سرية لا يمكن شرحها...
*علالة ...الدمية الكبرى
يخلص علالة للولاة جميعا ويحافظ على طقوس يؤديها لكل واحد منهم...يظهر لهم الولاء والطاعة...يتمسح على أعتابهم...يوافيهم بالتقارير...يكرر في مجالسه الرسمية مدحهم والحديث عن تعليماتهم...كل وال يعين هو عنده نعمة منزلة من القصر للولاية وهو هدية صاحب القصر المعروف بعطفه على الجهةو.....و......
يتمسح على أعتاب الواحد منهم ويتقرب منه حتى يأسره ويجعله في جرابه وقلما أفلت واحد منهم منه...
حين عين حمدان الغول على رأس الولاية هرع له ...صحبه وفد من السيارات إلى مقر أقامته بولايته التي كان على رأسها وعبر له عن الولاء والطاعة...
دخل حمدان الولاية مرفوقا بهؤلاء...
لم تستمر أيام البداية طويلا فسرعان ما أصبحوا من خاصته والمقربين منه وصار علالة يتسلل له...
راج في سمرقند ومقاهي سيدي بوزيد أن بين علالة والوالي صفقات سرية كثيرة...خرج الأمر من الصفقات السياسية إلى أمور أخرى...
علالة يتصرف في المشاريع...يحول الوجهة ويساوم المقاولين والباعثين والمهندسين وغيرهم...لا يحصل الواحد منهم على أمر إلا إذا قبل بالقسمة ...يجب أن يخصص الملايين لعلالة وهو الكفيل بتحقيق فوزه بالصفقة...يحمل نصيبا إلى الوالي حمدان ويقضى الأمر...
لم يغادر حمدان منصبه في سيدي بوزيد إلا بعد أن ملأ جيوبه وصار من الأثرياء...وكان علالة دمية في يده يحركه متى يشاء...يحقق له ما يريد ...
كثيرا ما وصفه الناس بأنه كلب حمدان وعينه وأذنه...
مراسلة إذاعية
"...انعقد اليوم بمقر ولاية سيدي بوزيد اجتماع هام أشرف عليه السيد والي سيدي بوزيد وذلك استعدادا للمحطات الانتخابية القادمة وأكد السيد الوالي على أهمية هذا الموعد وعلى حرص الجهة على تجديد الولاء لصانع التحول وللحزب المؤتمن على تغيير السابع من نوفمبر ....."
كواليس يعلمها المراسل
دعا علالة صحفيه المعروف فحل منذ الليلة الفارطة وحضر الاجتماع وحظى بلقاء خاص مع الوالي...نصحه بالكتابة عن إنجازات السيد الوالي وعمله الدؤوب لخدمة السابع من نوفمبر وألح عليه في الكتابة عن الاجتماع والقائمة التي تم اختيارها لتكون مرشحة التجمع في الانتخابات و أوصاه بأن يشير إلى فرحة التجمعيين بهذه القائمة التي تضم نخبة خيرة....
كواليس لا يعلمها المراسل
انتهى الاجتماع...صفق الحاضرون طويلا...تسلل الحسني وآخرون إلى مكتب الوالي...عبروا عن سخطهم وعدم رضاهم وغضب القواعد من الاختيار...لم يرضخ لهم الوالي فخرجوا غاضبين...دارت هواتفهم فهم من هم في هذه الجهة...اجتمعوا سرا في أحد المقاهي...هم من كبار الحزب ومعارفهم كثيرة ومستحيل أن يحدث أمر كهذا دون علمهم ورضاهم...تقرر "الملعوب"...أرسلت البرقية...وقبعوا ينتظرون...
ثرثرة في سيدي بوزيد
لم يكن توقيت الخبر معتادا ولم يكن الموسم موسم تعيينات...احتار الناس في الأمر ...لم يعرفوا سر هذا العزل...كثرت الإشاعات...أشاع التجمعيون أن الرئيس غيره لأجل سيدي بوزيد وأنه تفطن لممارسات حمدان وتلاعبه بالمشاريع...خرج علالة على الناس ..خطب في حضرة الوالي الجديد أنه جاء منقذا من سنوات الماضي وتحدث في مجالسه عن تجاوزات الوالي السابق...صار يقول إنه سارق وكذاب وإنه لم يخدم الحزب بل سعى لتدميره وحمله مسؤولية الكثير مما جرى...
حدث أحد التجمعيين في مجلس خاص بأحد المقاهي ولم يكن معه سوى وجهين من رموز الحزب ممن يعلمون بأمر البرقية...وممن لهم عيون في كل مكان ويزعمون دوما أن أخبار القصر السرية تصلهم عن صاحب له في الأمن عن مستشار رئاسي قال:
وصلت البرقية القصر بعيد الغروب...قرأها الرئيس مرة أولى متمتما ثم راح يصرخ ويرغي ويزبد...طلب حمدان متوعدا عبر الهاتف...لم يترك له فرصة للاستفسار...خاطبه بكلمات نابية بذيئة.
رن جرس الهاتف ...التفت حمدان ...ارتعد...
-السيد الرئيس ....أهلا...
قاطعه بنبرة حادة:
-السيد الرئيس...عل اشكون تعدي فيها...راني نلعبك ونلعب الحشرات اللي كيفك...
-العفو سيدي...العفو....
ارتفع صوت الرئيس:
-طلعت كلب...توة تشوف اش نعملك
ارتعد حمدان وأحس أنها النهاية والرئيس يزمجر"توة تروّح...انت ماعادش تابعني...امشي لأصحابك..."
اكتفي حمدان بعبارات:
"أمرك سيد الرئيس...حاضر..."
-لا سيد رئيس لا عمار بالزور...قتلك روّح...تفه
وضع السماعة ثم طلب وزير الداخلية..."اشنوة هال....(كلمة بذيئة) اللي مخليه في سيدي بوزيد...علاش ما قتليش عليه...
رد الوزير:
-يعزل فورا سيد الرئيس...موش نا اللي جبتو...جابوه الجماعة...
راح الرئيس يهتف:
-اشكون الجماعة؟...اشكون الجماعة؟
ثم ألقى السماعة وظل يرغي ويزبد...
-سيد الرئيس...
ضاع الجواب في الفضاء...أغلق الهاتف...خاف الوزير أيضا...عجل بإصدار قرار العزل...
برقية إلى فخامة رئيس الجمهورية
سري وخاص
حول تجاوزات والي سيدي بوزيد و تخاذله في الاستعداد للانتخابات
أستفيد أن المعارض حمودة وهو أستاذ يدرس بإحدى معاهد الولاية وله نشاط مكثف في الوسط النقابي وعضو في حزب معارض وممثل في البرلمان أصبح من خاصة السيد الوالي حمدان وقد شوهد وهو يرسي سيارته ليلا أمام مقر إقامته ويدخل وقد غادر في ساعة متأخرة من الليل ولا يعرف سر هذا الاجتماع.وعلمنا من مصادر موثوقة أن الاجتماع سياسي ويتعلق بالانتخابات القادمة.
قف انتهىىىىىىىىىىىىىىىى............
موجز نشرة إخبارية ليلية متأخرة
هنا تونس...إذاعة الجمهورية التونسية ومنها نقدم لكم موجزا للأخبار
................................
*منظمات وأحزاب تونسية تؤكد دعمها للمسار الديمقراطي في تونس العهد الجديد وتدين حرص بعض الأطراف التي تغار من مكاسب البلاد على الاستقواء بالأجنبي للتشكيك في انجازات البلاد
*شخصيات عربية ودولية تشيد بالتجربة الديمقراطية في تونس..............
*رئيس الدولة يجتمع بوزير الداخلية ويقرر تعيين وال جديد على سيدي بوزيد......................................
.......................
*في الشرق الأوسط الإدارة الأمريكية تؤكد وقوفها إلى جانب مسار السلام والرئيس الفلسطيني محمود عباس يتهم أطرافا بعرقلة المفاوضات....
*العشيقة
هذه التي يهاتفها كلما احتسى فيسيل لعاب شتربة ويتمنى لو كان مثله ولو كان له أن يقيم علاقات مع الحسناوات...ليست سوى امرأة مطلقة جاوزت الأربعين تقطن لوحدها في العاصمة و تملك منصبا حزبيا...وهي أيضا من سادة علالة...تهاتفه من العاصمة فيلهث ويركض...طلباتها أوامر...يستجيب لها على الفور...يعرف أن بيدها الحل والربط وهاتف منها يعزله ويدمره...في خدمتها دون نقاش...تعرف أسراره وخباياه وتجبره على طاعتها...
تتعامل معه في ميدان خاص جدا...تعتبره خادما مطيعا لها...
حينما ينزل إلى العاصمة وتكون حاضرة يصبح مجرد خادم ذليل لها يتمسح على أعتابها وهي تعامله بغلظة وحدة فهي شرسة وشراستها تخيفه...هي مقربة من سيدة البلد كما يقال ...
*المفتش دعدع
هو أيضا يحرك علالة كدمية...علالة يخشاه....ويخشى تقاريره...يعرف أنها تصيب المرمى بدقة ...فصار عنده مجرد مخبر...يهاتفه أو يصل مكتبه يطالبه بالمعلومات عن مختلف الأشخاص حتى عن الوالي نفسه أو كاتب عام لجنة التنسيق وغيرهم...
يقدم المعلومات وإذا تعذرت عليه يبحث عنها لدى أصحابه ومخبريه...
استغل هذه العلاقة فراح يكيد لهذا وذاك...يزود دعدع بأخبار حقيقية ومغلوطة عن كل من يراه معارضا أو منافسا وكل من يرى فيه خطرا عليه...
نال عثمان الشرقي نصيبا كبيرا من هذه التقارير...كمن له المفتش مرارا في الحانة أو في المحطة أوفي المقهى...لا يعلم عثمان أنه في الطريق إليهم وأن علالة أوصى به شرا وهم ينوون اعتقاله في أول فرصة مناسبة...
منذ انتخابات أكتوبر2009 وهم ينتظرون الفرصة المناسبة...عثمان لم يصوت للزين ولم يصوت للتجمع وحث الناس على التصويت للمعارضة...وسمع يومها في الدكان يتمنى سقوط الزين وفشله ...واشتبك مع رئيس مكتب الاقتراع...
يرغب علالة في الانتقام منه لهذا السبب ولأسباب أخرى .....
*العمدة بشير
هو أيضا رغم تقدم سنه وتقاعده مازال يعتبر علالة صنيعته وكاتبه الخاص...ومازال واثقا من أن علالة لا يفوته قيد أنملة خصوصا وقد صاهره...
يزوره في مكتبه بلحيته البيضاء...يبلغه ما يريد من أراء ومواقف وهو ينفذ...
يعتبر العمدة بشير أنه يقدم له المشورة ويوجهه كما يريد...عندما يزمجر العمدة بشير ويضرب بعصاه الأرض يتسمر علالة ويذوب صوته ويستجيب لما يأمره به...
لكن مع تقدم العمر وتدهور صحة العمدة بشير صار يراوغه ويكتفي بإيهامه بالمشورة لكن الناس يعرفون جيدا أن العمدة بشير باب ممكن ولوجه للتأثير على علالة فيما يريدون من مطالب شخصية مثل بطاقات العلاج والمنح المدرسية وغير ذلك....
...هل كان المعارض حمودة عميلا للوالي؟
كشف سر البرقية بعد زمن...باح أحدهم ذات جلسة بحكاية سقوط الوالي حمدان...ردد البعض أنها مجرد مكيدة وتلقف البعض الآخر الخبر وراح يشنع بالأستاذ حمودة وحزبه وجلسائه...وجاء مؤتمر النقابة الأساسية للتعليم التي كان كاتبا عاما لها....
كلمة الصندوق
انفض المجلس رويدا رويْدا...وقف الأصحاب واحدا واحدا وتسللوا إلى بيوتهم على الأرجح... فليس كل من يغادر المقهى متجها بالضرورة إلى بيته...هو يعرف جيدا أن فيهم من سيعرج على مجلس الخمر وفيهم من سيعرج خلسة على إمْرأة سرية وفيهم من يتجه إلى البحث عمن يقرضه بعض الأموال أو يعيره بعض السجائر...ولا يستغرب أن يكون فيهم من سيذهب لرواية ما سمع في هذا المجلس الكبير الذي ينعقد كل عشية ويستمر حتى ساعة متأخرة ويتردد عليه النقابيون والمثقفون والمتقاعدون ...
مكث وحيدا...ظل واجما في مكانه يلوك بعض السجائر ويلمس شاربيه بين الحين والأخر ويلوذ بصمت رهيب...لقد داهمه الصمت عشية اليوم...لم يكن ثرثارا كعادته...ظل الجلساء يثرثرون ويتكلمون ويشتبكون بين الحين والآخر يرددون أحلامهم ومشاغلهم اليومية...أما هو فلزم الصمت المطلق...
لم يسكت طيلة عشرين عاما...ظل يثرثر في هذا المقهى ويتكلم كثور هائج...حينا يغرق في الورق وحينا في النقابة والسياسة ... ينتقد مديري المعاهد ويصب عليهم جام غضبه...يعد الزملاء بالإضراب تلو الإضراب وبالمكسب تلو المكسب...لا أحد يقدر على مناقشته....لكنه اليوم تبدل ...لا ورق ... لا أحاديث ... لا وعود نقابية ...كان منعزلا وكئيبا ويكتفي بالإيماء اللاشعوري...
تقدمت الساعات وهو واجم في مكانه ... جمع النادل المقاعد وقام بتنظيف المقهى ومحاسبة مشغله صاحب المقهى ولكنه لم ينهض ولم يتحرك...
طاف حذوه...حاول إشعاره أن الوقت قد حان لإغلاق المقهى...خجل من مطالبته بالانصراف. تردد مرات عديدة ثم اقترب منه
عجبا...
هو ينام...
هو يطلق الشخير المفزع ويلوي عنقه فوق الطاولة وينام ...تطارده الكوابيس...يرى ما لم يره في حياته...
رأى الحياة تدور وتدور...
ورأى نفسه يسقط في يد ملثمين ملتحين ورجال أمن غلاظ...ورأى محفظته تطير نحو السماء بركلة من أحدهم ...
ورأى الكلاب تحلق في السماء وتضحك عاليا ثم تخرج من أفواهها قذائف مدوية ...
لما أحس بيد النادل فتح عينيه ...
تذكر أنه لم يعد إلى البيت منذ يومين و صعبت عليه الخطى ... وتذكر أنه دفع كل ما في جيبه و أنه مرهق و لا قوة له...
منذ يومين وهو يلهث... يخطب و يزأر في المؤتمرين و يعرض عليهم مواقفهم و هم يردون على كلامه بموجات من التصفيق والهتاف...
لكن الصندوق قال كلمة أخرى :
تحول التصفيق إلى تصفير و الهتاف إلى سخرية والكلام إلى صمت و خسر اللعبة ...لم يصوتوا له وضاع منصبه النقابي الذي رافقه عشرين عاما...
تألم كثيرا...بعد هذه السنوات صاروا ينعتونه بصوت السلطة...
لكن هل فعلها الأستاذ حمودة ؟هل ظل طوال أعوام يخون ؟
سؤال محير حقا ...
...حلم
ظل حمودة أعواما يحلم بمقعد في البرلمان...شارك مرات عديدة في الانتخابات التشريعية لكنه لم يظفر بشيء...
في كل موسم انتخابي يرشح نفسه ويركض هنا وهناك لكنه يسقط...يعتقد دوما أن التزييف هو السبب ويزعم في جلساته أنه أقصي وأن ثمة من تآمر عليه...
تمر الكبوات ويعود للساحة من بوابة منصبه النقابي...تنزعج منه السلطة ويلاحقه البوليس السياسي في كل مكان لكنه لم يرضخ وظل رقما صعبا في جهته...
علم الوالي حمدان بحكايته وطموحه فقرر مساومته...أرسل له الوسطاء وبدأ يغدق عليه العطايا...ظل هذا الأمر سرا لم يتفطن له أحد فالرجل واصل نشاطه النقابي والحزبي ولكنه أصبح يميل إلى التهدئة والتقليل من الإضرابات وصار يطرح لغة التفاوض...
وضعه حمدان في جيبه وفرح به...وعده بأن يكون نائبا في الدورة القادمة...
انضم إلى الجوقة.. بات يحلم بالمقعد الوثير في البرلمان وبالسيارة الفخمة التي سيقتنيها...وصار متشددا في الدفاع عن بن علي وعن السابع من نوفمبر
حمودة ولعبة الدمى
بعد هزيمته في انتخابات النقابة تغير ..أصبح لديه شعور قوي بأن عليه أن يهتم بنفسه وأولاده...أيقن أن هذا الزمن غادر...ساءه أن يسمع نعوتا كثيرة من أناس دفع الكثير لأجلهم...ازدادت مرارته...تلقفه علالة...صار يخصص له وقتا ويوجه له الدعوات للاجتماعات وتوسط لأحد أولاده كي يلتحق بوظيفة عمومية واستطاع أن يضمه لقائمة دماه التي يحركها هنا وهناك..تردد في نوفمبر 2010 أن الأستاذ حمودة ألقى محاضرة في لجنة التنسيق لتمجيد النظام وأشيع في الكواليس أنه سيعيّن في بداية السنة في منصب هام
عثمان الشرقي
يشعر عثمان بحزن عميق...يشعر أنه صار مكبلا أكثر من اللزوم...يتذكر الماضي ..الناصر...وردة...البنت نادية والأستاذة سكينة.يحترق في داخله وفي صمت...عندما يجلس ليلا أمام الحوش يطبخ الشاي ويلتهم السجائر يكاد ينفجر...يتأمل البستان الكبير الذي صارت تخرج منه شاحنات الخضر ويترقرق فيه الماء وحوله حقول الفقر..ويتأمل بيته...دار الحاج الشرقي التي كانت منارة وصارت خرابا...
يبكي كلما ذكر الناصر ...يتذكر الماضي والأحلام ونادية الصغيرة التي كانت تتشبث به وتناديه بحرارة"عمي...عمي" وصارت الآن لا تنتبه لوجوده ولا تلقي عليه مجرد سلام بسيط...يتذكر سكينة التي كانت تملأ قلبه ...يتذكر كل ذلك فيزداد نقمة وغضبا...
ماض جميل...دمروه...دمرنا إبن القرية...
اختطف مني سكينة...زوجها له العمدة بشير بعدما أصبح مسؤولا في الحزب...الكلب...استطاع أن يحقق هدفه...كان كاتبا لدى والدها .
هل كنت في وهم؟
هل كنت حبيبها خارج البيت أما في الداخل فيحضر هو..؟؟
لم أسمع سابقا أن له هذه النية ...كانت له خطيبة أخرى...تخلى عنها بسرعة...قيل إنه وطأها وإنه تخلص من جنينها عند طبيب...اشتكته محرزية وطالبت بحقها لكنه مسؤول...لم يحضر جلسة واحدة ولم يخسر شيئا...تدخل له الحزب وجرت هي هنا وهناك دون إجابة...هي الآن عانس تعيش مع والدها الشيخ المسن بعد أن ماتت أمها...تعيش الفقر والمأساة أما هو ففي برج عاجي..قيل إنه تدخل لحرمان والدها من بطاقة علاج ومن منحة...
فجأة حط هذا الغبي على سكينة...
العار يا عمدة...
ابنتك الأستاذة تتزوج انتهازيا...
اللعنة يا عمدة
ليلة زواج علالة من سكينة احتسى عثمان الشرقي وجاء...أعلن الحرب...أخذه أعوان الحرس ...قضى الليلة عندهم ...لم يكشف لأحد عن سر الغضب ...كل الناس سجلوا ذلك على الخمر...لكنه الحب القديم ...
في هذا الصيف تذكر عثمان سكينة مرارا وكلما تذكرها تشنج وحزن...
دوت زغاريد في بيت العمدة...هب البدو محتفلين...سكينة تخرجت.
لم تمض أيام حتى زحفت السيارات والحشود ...تفرج يا عثمان...هذه حبيبتك ورفيقتك تزف في موكب شبيه باستعراض السابع من نوفمبر...هزمك علالة وقادها من يديها ومضى بها...واصلت رحلتها الناجحة...جاء الخريف...غنت فيروز"ورقو الأصفر...شهر أيلول ذكرني فيك..."
أرست السيارة الفخمة أمام المعهد...شاهد عون رقمها المنجمي فأشار بذلك على الفور لمدير المعهد...هب المدير مسرعا وقد تهللت أسارير وجهه وبدت عليه ابتسامة عريضة...لم يبذل مجهودا ليعرف صاحب السيارة والأستاذة الجديدة التي تنزل منها ...لقد هاتفه سي علالة بالأمس وأعلمه بأن زوجته عينت في معهده ولم يتردد...هي فرصته ليكون في مأمن من الإدارة ومن النقابة...سيجازيه الرجل على خدماته بالتأكيد...أعد لها أحسن جدول وسيغض النظر عن كل ما قد ترتكبه مثل الغياب ...المهم أن يكون سي علالة في صفه...
.استقبلها كما لم يستقبل زميل في هذه العودة وقادها إلى قاعة الأساتذة...أشار على الأستاذة فيروز أن تنتبه لها وتساعدها فهي زميلة جديدة.
استقبلتها ورحبت بها وجلست تتعرف إليها.فهمت أنها عروس في أسابيعها الأولى وأنها متخرجة حديثا ...ساورتها شكوك في كون الزميلة الجديدة قادمة من عالم الآخرين...فلا أحد يصدق أن الأمور تتم بهذه السرعة...تخرج في جوان وزواج في أوت وشغل في سبتمبر...
لم يعد هذا هينا...تذكرت فيروز إخوتها الثلاثة القابعين في البيت منذ أعوام ودون حل...وتذكرت مئات الشبان الذين يجرون الكاباس منذ أعوام...حاولت أن تعرف السر...تمنت لو تكون هذه الزميلة الجديدة في المستوى المأمول وتكشف لها عن السر أو تمدها بيد العون حتى تستطيع تشغيل أحد إخوتها...لم تصدق إجابتها بأن"الحظ والصدفة وراء كل ما جرى"واقتنعت أن الإجابة الصحيحة يلزمها وقت وعلاقات وقررت أن تنتظر الوقت...
تردد هنا وهناك في القرية وفي المدينة أن سكينة قد تم انتدابها...ذهل الجميع...استاء الشباب الحائر وشك وازداد إحباطا...هذه الحادثة تؤكد أن الكاباس فرضت فقط على المساكين...
سكينة بنت العمدة بشير تشتغل وتصبح أستاذة في ظرف أسابيع...
أكيد فعلها علالة ومن يمنعه وهو رجل قوي؟؟
نعم فعلها...
سكينة لم تجر الكاباس أصلا...ومع ذلك هاهي تضرب بكعب عال على المصطبة وتتمشى كأميرة بين الصفوف...
علالة...
لم يخفق هذه المرة...نفذ وعده واستطاع أن يحقق المستحيل...كان شرطها الوحيد مقابل قبولها الزواج منه أن يمكنها من التدريس...صار عثمان يشاهدها من حين لآخر تمر راكبة سيارة حكومية تتجه نحو المعهد وكلما شاهدها إلا وازداد غيظه ...
ازداد كرها لعلالة...
آه يا علالة ...كل شيء يذكرني بجرائمك... تحرمني من سكينة وتتزوجها ثم تخونها مرات عديدة في اليوم...
ذاكرة نادية
كانت لي طفولة لكنها سرقت فجأة...لم أكن أدرك تلك اللحظة الفارقة في حياتي.
كانت القرية باسمة...الأغنام تثغو والكلاب تنبح والأسرة كبيرة...
أبي الناصر يرفل في جبته ويترنم بقراءة القرآن ...يؤم القرية ويقصده الناس لمشاورته في أمورهم...
عمي عثمان صاحب الحلوى والمرح...
فجأة حصل ما لم أدركه...لم يصبح أبي معنا...ذاب...اختفى...
طال الغياب ...لم يرجع...
عمي عثمان تبدل...صار يشتبك مع أمي...تمزقت ثيابنا وقل أكلنا..صرت خجولة من أسمالي أمام تلاميذ الإعدادية....انتقلت إلى المقاعد الأخيرة...تراجعت النتائج...رسبت...
ذات 15سبتمبر حاولت الانتحار...وردة قررت ولا أحد يستطيع إثناءها عن قرارها...منعتني من مواصلة الدراسة...
دافعت عني جدتي...
ثار عمي عثمان...
جاء الحاج عبد السلام غاضبا لكن وردة حسمت الأمر...
قبعت حذوها وقد صرت أفهم...
أمورنا تحت الصفر...
الأهل ينكروننا...يتجنبون حتى الحديث معنا...
بدأت وردة تفكر في أمور خطيرة...أبي الناصر لن يعود وحتى إذا عاد فمصيره بائس...حصل ما لم يكن في الحسبان...العمدة بشير أوهمها أن المساعدات ستتدفق عليها بمجرد طلاقها وامرأة عجوز أكملت إقناعها"أنت صغيرة شابة فلا تخسري عمرك مثلي...بعد الطلاق سيطلبون يدك وتتزوجين أما البنت فكبرت وستتزوج...لا تدمري نفسك..."
في يوم مشحون بالدموع والحزن كان الطلاق وجاءنا عمي عثمان مخمورا في الليل وتشاجر مع وردة...هددها ولعنها...
عمي يزمجر وجدتي تولول أما وردة فكانت تجمع أدباشنا...
"غدا سأتركها لكم...غدا سأرحل"
جاء الصباح...حلت الشاحنة...ملأنا الأدباش البالية وطرنا نحو سيدي بوزيد...
وردة رتبت كل شيء...اكترت مسبقا بيتا في حي شعبي...
وهكذا بين عشية وضحاها وجدنا أنفسنا في المدينة...
******
هذه هي مدينة سيدي بوزيد...قطنا مسكنا قديما في حي شعبي...وبدأت أتأهب لمعركة الحياة...طرقت أمي أبواب المسؤولين الجهويين فلم يستقبلها أكثرهم ومن استقبلها منهم ما طلها أو صدها...مرات عديدة أخرجها الحاجب بعنف تحت صراخ المسؤول:
"راجلك خوانجي...تحب تقصلي راسي...أخرج ...أخرج..."
لم تحدث أحدا منهم بحكاية الناصر المسجون هناك إلى المجهول...هذا الزوج الذي تركته وتركت قريته للأبد...ولكن الخبر سبقها...الوشاة لا يتركون سرا...
استسلمت وردة... شوهدت أياما حذو ضريح الولي الصالح سيدي بوزيد تتسول ثم سلمت الأمر إلى ابنتها... خرجت نادية لتخوض المعركة بنفسها ...قادتها جارتها الشابة إلى هناك...إنها معركة وسلاحها واحد يا نادية...مسألة حياة أو موت...كسري كل القيود وحلقي عاليا...هنا لا أخوال ولا أعمام ولا أهل قبيلة يزمجرون ويهدرون...لا تعطي اعتبارا لأحد واهجمي على الحياة بهذا الجسد الذي تحسدين عليه...ازحفي على بقايا الخجل والأقفال والأحزمة وانطلقي في الأفق...هؤلاء الذين يتحكمون في الجهة لا يقدر أكثرهم على الصمود أمام نظرة حسناء...إنهم يلهثون خلف النساء...افعلي ما أوصيك به وستصبحين مثلي...ستضربين في الأرض بحقيبتك الصغيرة ويهللون لك...
أخذتني إلى عبد الواحد ذات صباح...وبدأت رحلة جديدة...
لم يمل عبد الواحد الوعود...يقول لي إن ملفي أمام هذا المسؤول أو ذاك...يماطلني وأنا أندفع نحوه بحثا عن شغل...لا حل لي...مكتب التشغيل لا يقدم الخدمة إلا بالواسطة...
اجتاحني عبد الواحد.. صرت أسيرة له في انتظار شغل يحررني...صرت ألهث خلفه هنا وهناك وأرافقه أينما ذهب وأينما طلب...صرت أختلي به...أنزع له الحذاء وأغسل قدميه وأصب له كؤوس الخمر وأنام معه وأمي وردة تعلم ذلك
وأهل القرية يعلمون...
وعمي عثمان يعلم...
يرمقني بنظرات قاتلة ولا يكلمني كلما اعترضني...وأحيانا يطلق خلفي صوته ..."يا مومس...يا كلبة الكلاب...تفه...تفه"
كلما اعترضني إلا وأشحت عنه بوجهي وسارعت بالهروب...أعرف أنه يتوعدني ...هو يحدث الناس بأنه سيذبحنا جميعا... أنا ووردة وعبد الواحد وعلالة...يقول إنه سينحرنا بسكين واحد...وكلما سكر يوم السبت إلا وبحث عنا...
أهل الحي يعلمون وعمي عثمان يعلم والأستاذ عبد الله مازال يغرق في حلمه...يبدو أنه لم يستسلم بعد...كثيرا ما يعترضني...صار شبحا آخر فهو مثل عمي عثمان...نسخة شبيهة به...قلت له منذ الأيام الأولى التي اعترضني فيها وكنت مازلت أبحث عن شغل" لا يمكن أن أحبك"...الآن قد أكون اقتنعت به ولكني لا أستطيع أن أبلغه الحقيقة المرة التي ربما لا يعلمها.
أحيانا يعترضني وسط المدينة فأعرج على أول زقاق..
ألمحه من بعيد يطيل قامته ويطل كي يراني وأحيانا يلتحق بي.. يغرقني في قصائده...يتغزل بي...أضحك وأسخر من نفسي لا منه...قد يحسبني ساخرة منه ولكن الحقيقة غير هذا...
لقد سرق مني القمر والشرف...لم يعد لي حق في الظفر بعاشق مثلك يفتخر بقيم الحب التي تركناها بعيدا...كنت جريئا..وصلت إلى أمي وردة في تلك الأيام الأولى قبل أن أغرق...اعترضتها حذو الجامع...ارتميت أمامها وتمسكت بتلابيبها...عرضت أمرك...لم تعدك بشيء لكنك كررت صنيعك مرارا...مرات كثيرة اعترضتها واستوقفتها حذو جامع سيدي بوزيد ورحت تتقرب منها وتشتري لها كؤوس الشاي التي يبيعها بائع متجول...كانت تقول لي لن تجدي أفضل منه ولكننا كنا نخاف فضيحة الجوع ونخشى عثمان الذي ظل كابوسا مرعبا ...
أستاذ عبدالله
تمنيت أن أستطيع يوما أن أقول لك :
"تمنيت بحرارة لو عثرت عليك قبل رحيلنا إلى المدينة وقبل أن أتعرف على هؤلاء أما الآن فلقد حسم الأمر...لم أعد أصلح لأكون حبيبة أو زوجة لرجل شرقي..."
عبد الواحد الذي يصفقون له في قريتنا الصغيرة ويتصورونه شخصية كبرى ويطالبونه بالتوسط منهم صار يعدني بالزواج ...وردة تتمسك بالوقت...تنتظر فرصة لتستشير الحاج عبد السلام لكن الحرب استعرت...اعترضها ذات سبت ونهرها...رفض مصافحتها وصرخ في وجهها...هو أيضا وصلته الأخبار وصار يعلم...
عبد الواحد يعدني بالزواج ...هو ينتظر الفرصة...له أمل في أن يعين في منصب قريبا...علالة وعده بأن يتدخل له....هو ينتظر وأنا كذلك...
وردة
لم تسمع وردة كلام أي منا...تعنتت وربطت الدجاج والكلاب وباعت الأغنام وأخذت ابنتها نادية و طارت إلى مدينة سيدي بوزيد...
وردة يا وردة تعقلي واصبري...إنك تكملين خراب بيتك وتدمرين شرف العائلة...
لم تهدأ وردة ولم تسمع نصيحة أي منا...داست على خالي عبد السلام ونهرت الوالدة محبوبة وطارت...
يومها ولولت الوالدة كثيرا وتخبطت في ذلك الصباح اللعين وانفعلت أكثر من ذلك اليوم الجريح...يوم رددت القرية همسا...البارحة اعتقلوا الإمام...اعتقلوا الناصر الشرقي...
خبر صاعق تحملناه في قلوبنا ولم نرد الفعل...لزمنا الصمت خوفا...
كان أخي الناصر يقضي يومه بين الحقل والمسجد.هجر الأسواق والناس..ينهمك في العمل الفلاحي وفي قراءة القرآن وإمامة أهل القرية و معالجتهم ببعض الآيات القرآنية...هم يقصدونه كثيرا ويثقون في يده...
تلك حياته ..عمل وفلاحة وصلاة وعبادة...
كان رجلا طيبا وقد ورث إمامة القرية عن والدنا ...لم نعرف له زيغا عن الواقع أو الحق...ولم نلحظ شيئا غريبا...
أفقت في ليلة من ليالي الشتاء على وقع أزيز وصراخ .
...شاهدت السيارة من بعيد وهي تغادر مسرعة...طبعا هي سيارة شرطة لكن ماذا تفعل؟
أسرعت إلى بيت أخي...لم أتدثر بشيء...كانت وردة تصرخ" أخذوه أخذوه!!"
لم أفهم شيئا...أخي الناصر لا جرم له ..هل أخطأوني. ربما أخطأوا فأنا السكير الذي يلعنهم صباحا مساء...طالت الحيرة.. حكت وردة أنهم اقتحموا البيت عنوة وبضربة واحدة... لم يستأذنوا ...اختطفوه اختطافا...كان أحدهم يشهر سلاحا..عجبا!لسلاح في وجه أخي الناصر المسالم...
في الصباح قال الناس إن فرقة أمنية اقتحمت القرية واستعانت بالعمدة واتجهت بعد منتصف الليل إلى بيت الشيخ الناصر...قيل أخذوه في لباس النوم وصفعوه...وقيل إن العمدة بشير جاء معهم...
أشاع العمدة ورجاله أنه لن يعود ولن يرى الشمس مجددا
-ماذا فعل؟
-اخوانجي...نهضة...أصمت...
اقتيد الناصر الشرقي...لم يجرؤ أحد على السؤال عنه...صار الناس يلعنونه وينتقدونه خوفا...الكل تنصل منه.
منع العمدة كل المساعدات والمنح الاجتماعية التي كانت الدولة تمنحها له ولأقاربه وشمل الأمر حتى منحة الشيخوخة والعلف الحيواني...أحيل الناصر على المحكمة...حكم عليه مدى الحياة...اتهموه بالانتماء إلى حزب غير مرخص له وتنظيم اجتماعات ضد الدولة والتآمر على الأمن...
لم أكن أعلم أن أخي انتمى إلى حركة النهضة...ولم أكن أعلم أنه يمارس السياسة ولم أشاهده يوما يحمل بندقية لكنهم زعموا وقالوا إنهم عثروا في بيته على بعض الأسلحة وكثير من المناشير...
ما هذه المأساة؟
صرنا جميعا رهن المراقبة وصار لزاما علي أن أسكر وأسكر حتى لا يتسرب إلي شك....
دارت وردة هنا وهناك... طلبت الطلاق ...وجدته سهلا... مازلت أبحث إلى اليوم عمن سهل لها هذا الإجراء...
آه وردة يا وردة
أنت أيضا هبت عليك رياح المدينة وصرت ترين الخلاص في الرحيل...سخر الأهل من هذا الرحيل وغضب كبار العائلة...هدد عثمان بالانتقام ...كثيرا ما سكر في سيدي بوزيد وذهب إليها في مسكنها وزأر في وجهها وهدد بضربها...
وردة زوجة شقيقي الذي يسجنه النظام ظلما تنزع عنا كل الشرف...ماذا ينقصنا كي تكتمل المأساة أين أنت يا خال؟ أتقبل بهذا العار...؟؟؟
أكل هذا شماتة في الشيخ الناصر؟
ماذا فعل الناصر ؟هل قتل ؟هل سرق؟ انتبهوا يا ناس....
-"خوك اخوانجي"
-اذهبوا إلى الجحيم...
أسرعت إلى الأهل..أخبرتهم...حرضتهم...لكنهم صمتوا واكتفوا بالتمتمات....كنت أتدحرج كأني ذاهب إلى اجتماع عاصف في الجامعة العربية وكانوا كالقادة العرب...لا يعرفون إلا الإدانة...
آه يا أخي الناصر لقد طعنوك للمرة الثالثة...
...المرة الأولى لما أبلغوا عنك...لعبة سافلة قاموا بها...رئيس الشعبة والعمدة وعلالة...أبلغوا عنك أمن الدولة.. قالوا إنك تجتمع بالمصلين سرا وتلقي خطابات معادية لسيدهم...لفقوا لك تهما كثيرة...الاحتفاظ بجمعية غير مرخص لها والدعوة لحمل السلاح والتطرف....قالوا إنك على صلة بأفراد مسلحين....قبروك حيا...ردموك هناك....والمرة الثانية حينما وافقوها على الطلاق منك والمرة الأخيرة حينما زينوا لها الرحيل إلى المدينة...
عثمان كان شيوعيا...كان يحب حمة الهمامي ويؤمن بالماركسية أيام كان العمل السياسي متاحا ولكنه الآن رمى المنديل مع من رماه واستسلم.صارت السياسة مجرد همس يهمس به أمام أصحابه المقربين أو يصدح به كلما سكر وتخمر...عندئذ يلعن الشعبة والعمدة والحزب والعائلة...
العائلة التي كان صوت الناصر يعلو فيها مرتلا القرآن ومعلما الصبية صارت خرابا ومذلة...فضحتها وردة...عثمان صار يعرف كل ما يجري...كل أخبار ذلك البيت في الحي الشعبي وصلته.
وردة الجاهلة.. لا تقرأ حرفا واحدا ولا تحفظ آية...كنا نظن أنها لا تستطيع الذهاب إلى السوق إلا بمرافق فهي معرضة للضياع والاختطاف والاغتصاب.. مازالت إسما على مسمى لم تذو بعد ومازال لجمالها شأن...لم تكن تعرف شيئا ولكنه الزمن...هي الآن تلعب مع الكبار...
كل سبت تصل أخبارها الجديدة...ترسل سلامها الحار إلى الأهالي وتذرف دموع الشوق..تقول للبدو إنها بخير وتغرق في مدح سي عبد الواحد وسي علالة وتعدد فضائلهما...
عبد الواحد دفعة واحدة...إنك في المستنقع يا"للة"
من عبد الواحد هذا؟ من يكون؟مجرد شخص رخيص لا قيمة له...هو كلب لأسياده ويوم يذهبون سيذهب مسعورا...قد شاهدتك ذات سبت...كنت في سمرقند...رأيتك حذو المكتبة أنت وابنتك وعبد الواحد...آه أي عار هذا...أفعلتها يا عبد الواحد ودست على شرفنا وكرامتنا...لأنك في الحزب ...لأنك ...لن تدوم لك هذه الدنيا...سيحل اليوم الذي تكون فيه مثلنا أو أحقر منا...قل هذا لسيدك علالة...يا لهذا الزمن اللعين...لو كانت الدنيا دنيا لن أقبل بكما في إسطبل...
انتبه عبد الواحد أن نادية جميلة ...وصار يلاقيها من حين لآخر في مشارب المدينة وفي كل مرة يمطرها بالوعود ويشبعها بالمشروبات والمرطبات وبطاقات الهاتف الجوال ولا ينسى أن يمدها بين الحين والآخر ببعض الأوراق النقدية...ويبلغ وردة ذلك فتحمد الله وتزيد في مديحه .
وصارت نادية تخرج صباحا لتجده في انتظارها بسيارته الحكومية ويعود بها لاحقا...أطمأنت له وكثر مديح وردة و بدأ المحظور يحصل...بدأ الأمر بقبل ومداعبات...قاومت نادية في البداية ولكنها صارت تطيع في المرات القادمة..
القهر...
منذ عين وهو يظهر بوجهين.. وجه للناس ووجه لخاصته...وقد تردد الحديث عن قرب عزله مرارا...لكنه لم يسقط...
عباس يجوب سيدي بوزيد...لم ينجده أحد...أنت أطردته من العمل.كان كاتبا لسلفك لكنك أطردته...أنت كغيرك تريد السكرتيرة الجميلة.تريد الحسناء...
توافدت عليك الدعوات...هذه تدخل وهذه تخرج...كل واحدة موعودة بعمل وكل واحدة تنهال عليها وعودك أياما حتى تكتشفك ...كم واحدة ظلت تركض خلفك ولكنك ظللت تتصيدها...كم واحدة رضخت لك وكم واحدة صفعتك ولكنك لا تخجل...تحول مكتبك إلى ماخور...تفه أيها اللعين...
في النهاية حسم الأمر رجلك السري عبد الواحد...أنهى الجدل وأوقف الطموحات...جاءك بنادية...وانتصبت المسكينة في مكتبك تبحث عن لقمة العيش.
******
في جويلية 2010 أعدوا له ملفا وأرسلوه الى تونس...توقعوا له الوبال...صار الكل يكرهه ويتمنى سقوطه ويراه ضرسا فاسدا في سيدي بوزيد...
...حتى رجال الأمن صاروا يتابعونه ويكمنون له ...الأعين تترصده وهو يعلم بعض ذلك ويعلم أن أخباره تسربت...لكنه ليس بخائف...له من يدافع عنه في دار الحزب وفي وزارة الداخلية وفي القصر...
تقرير سري
شوهد علالة الزيني يطرق باب إحدى العائلات في ساعة متأخرة من الليل وقد خرجت له سيدة ودفعته وطرحته أرضا ودعت له شبان الحي الذين سخروا منه ورموا سيارته بالحجارة...واستفيد أنه كان مخمورا وقد تفوه تجاهها بكلام بذيء وتبين أن المسمى علالة قد أخطأ الباب إذ كان متوجها إلى بيت سيدة سيئة السمعة تسكن وحيدة مع ابنتها التي تشتغل سكرتيرة عنده ...واستفيد أن المدعو حول هذا البيت إلى بيت دعارة وأنه ضبط في حالات مشبوهة وأن عبد الواحد شريك له في هذا الوكر...
مشى أصحاب المعاطف الطويلة ليلا ونهارا في الحي وتابعوا السيارة الفخمة وكتبوا ما كتبوا.. وعلالة مازال يستفيق صباحا يؤدي الولاء لأسياده ويوهم الناس بقرارات الدولة ويمجد الزين ويهتف في الاجتماعات الموسعة والمضيقة ويجول القرى ويغنم لحوم الخرفان وكؤوس اللبن والعسل ويحلم بالترقية...
رفع الملف إلى السلطات وكتبت العرائض والرسائل من مواطنين اعتقدوا أن الزين لن يقبل بمفسد كهذا ولكنه ظل في موقعه.
عبد الواحد هو الخيط الرابط والرأس المدبر فهو الذي يجيئه بالنساء والخمور ويتسلم الرشاوي...
يشاع أنه من قاد نادية ذات ليلة إلى نزل في سوسة...وصف لها الزيارة بالحاسمة فهي التي ستصبح موظفة من الغد...في النزل سقيت نادية "الويسكي "وغنت ورقصت ونال منها عبد الواحد وعلالة الزيني وسلموها لفافة أموال كادت وردة أن تزغرد لما شاهدتها .ومن الغد كانت نادية على مكتبها الفخم...سكرتيرة السيد علالة الزيني...وكانت ترى ضيوفه من الكبار والصغار يرمقونها بأعين شهوانية وهو يتعمد ملاطفتها وملامستها وصار المكتب وكرا...
لم يهدأ عبد الواحد...وصل إلى وردة...صار يرابط في البيت في غياب ابنتها...وشيئا فشيئا سقطت الأقنعة.أصبحت السهرات تتم في البيت...وتورط الجميع ..الأم والبنت وعلالة وعبد الواحد ...وجلبت حسناوات أخريات وتهيأ البيت وتضخم أثاثه و ارتاده بعض ضيوف علالة وأصحابه.
***
سمع الحاج عبد السلام أن فلاحين من الرقاب تحركوا احتجاجا على التلاعب بأراضيهم واعتصموا أمام مقر ولاية سيدي بوزيد فقرر أن يتحرك من جديد...
ذهب إلى إدارة الفلاحة وإدارة الملكية ليبحث عن الرسم البياني فلم يجد أثرا لاسمه...
رفع قضية أخرى...لكنه لم يصل إلى نتيجة...
كلما تذكر أرضه ازداد حنقا...كتب الرسائل والشكاوي ...راسل الوزير والرئيس لكن لا أحد أنصفه أو حتى أجابه...
دلست الوثائق...علالة اشترى الأرض و وردة وقعت له وساعدته ...زحف على أرضه واقتطع منها نصيبا...
لهث الحاج عبد السلام هنا وهناك دون جدوى...رفضت كل دعاويه وأسكتوه...الأرض صارت مشروعا كبيرا ...وعلالة صار يتصرف في الملايين...لا أحد يعرف من أين جاءته الأموال فمشاريعه في قرى كثيرة وأملاكه في المدينة كثرت... لكن الإشاعات القوية تقول إنه شريك لشخصية قوية...العائلة الحاكمة وصلت إلى هنا...تسربت هذه الحكاية فهم موجودون قريبا وفي أماكن مختلفة...صار لهم عديد الشركاء...
كتم الحاج غيظه وسلم أمره إلى الله....علالة صار ثريا وشريكا لهم...
مغازة في المدينة وعمارة شاهقة...أموال الشعب والحزب في جيبه...
التقارير السرية كثيرة...مقاهي سيدي بوزيد تتحدث عن شبكته الناهبة وعروقه الممتدة...يبيع الوظائف...يسلب الناس ويملأ جيوبه وأرقام حساباته ..
لم تجد الأسرة من يذود عنها...لا عن شرفها ولا عن مالها...وحده عثمان يفكر في الانتقام ... يزدرد الكؤوس...يسدد الأموال ثم يخرج...يكاد يتعثر...الرياح تصفر في سيدي بوزيد ومقاعد سمرقند تفرغ...الجلساء يتكومون في الداخل للعب...يسارع إلى غرفة الاستراحة.. يتعثر.. يشاكسه أحدهم...يمضي متمايلا...قد يسقط أحيانا في الرحبة وقد تدور الأفكار في ذهنه فيقرر تصفيتهم جميعا...يفكر في جريمة كبرى تعيد الأمل والشرف...هذه البلاد موجعة والحياة عسيرة...مرارا يخطر له أن يفعلها ..جريمة كبرى بحجم الزمن...يذبحهم جميعا دفعة واحدة...علالة وعبد الواحذ ونادية ووردة....هو يؤمن بأن الشرف الرفيع تطهره الدماء...لا يخاف السجن...السجن الذي ابتلع شقيقه الناصر بلا سبب...السجن الذي ابتلع رجلا هادئا ولفق له تهما كثيرة لا يخيفه...
الناصر يقبع منذ أعوام هناك...يقال إنهم عذبوه وإنه مريض ورجال الشرطة والعمدة يتبعوننا إلى الآن بدعوى أن أخانا" اخوانجي"
القسم الثاني
شتاء النار...
سيدي بوزيد 17ديسمبر 2010
"يا شهيد
يا شهيد الخبزة رجعت
يا شهيد الخبزة ثور
طا لعة من قبرك وردة
تنادي الشعب يجيك يزور
والدغباجي و بن غذاهم
كي خرجوا يتمشوا بين الوديان
قالوا هذا دم الفاضل ساح وغطى كل مكان
...................................................
من أغنية لزهر الضاوي"يا شهيد" (زمن انتفاضة الخبز)
كان هذيانا...نعم كان هذيانا...
كنا نحلم دوما...في أشد لحظات اليأس كنا نحلم...وكان الحلم صعبا...حلمنا في كل مكان وهربنا إلى الخيال...ضحكنا وابتهجنا ونحن نعلم أننا سنعود إلى البيوت لنجد نشرة رديئة:
*رئيس الدولة يشرف على اجتماع لمجلس الوزراء ويتخذ قرارات هامة لدفع نسق التنمية والتشغيل
*إشادة دولية بالرئيس بن علي ومقالات صحفية تتحدث عن المعجزة التونسية...
*حرم رئيس الدولة تدلي بتصريح...
...ولكننا كنا نحلم ونتوغل في الحلم وننتظر صباحا ما...
...نتخيل جميل عازر ونقلده وهو يقرأ أخبارا عاجلة في قناة الجزيرة...
"قالت وكالة فرانس براس في نبأ عاجل أن انقلابا أطاح بالرئيس التونسي زين العابدبن بن علي الذي فر إلى وجهة غيرمعلومة
ونضيف:
ولكن وكالة الأنباء التونسية لم تؤكد الخبر بعد ..."
من كثرة التعتيم الإعلامي في البلاد اعتقدنا أنهم لن يؤكدوا يومها نبأ سقوط الزين أو موته وأنهم سيظلون في سياسة التكذيب والنفي التي يعتمدونها حتى لو اختفى...
يواصل جميل عازر:
* فور ورود الخبر اندلعت مسيرات فرح في مختلف ولايات الجمهورية وقالت فرنس براس أن الآلاف خرجوا في قفصة وصفاقس والقيروان وجهات أخرى...
* من جهته رحب العقيد الليبي معمر القذافي بهذا الانقلاب ودعا التونسيين إلى الوحدة الفورية واعتمادالكتاب الأخضر والتحول إلى نظام اللجان الثورية.
وننتقل في مرحنا إلى نشرة أخبار إذاعة الشرق الأوسط التي تقرأها تلك المرأة
"عبرت الخارجية المصرية عن متابعة مصر لما جرى في تونس وأبرزت انشغال مصر الشديد بأمن وسيادة الشقيقة تونس وحرصها على الشرعية..."
هكذا كنا نهذي كي نستريح قليلا ....لكن هذا الحلم لم يحدث مثلما تخيلناه فالعقيد أطل علينا غاضبا بعد الواقعة...وزمجر في وجوهنا..."ليش...ليش تونس رديتوها فحمة...لا حول ولا قوة إلا بالله...اش دارلكم زين العابدين...لا حول ولا قوة إلا بالله..." قبل أن يعود بعد أيام ليتراجع عن هذا الخطاب.
نافذة
بائع الخضر
محمد بوعزيزي شاب يدفع عربة الخضر كعادته كل يوم...يبيع الخضر والغلال...في مدينة لا شغل فيها...يكدح مثل العشرات بحثا عن لقمة عيشه...يعيش عزلة الفقر...جاءه أعوان البلدية كعادتهم...يمنعون نصب العربات ويفرضون المعاليم ...اشتبك معهم...افتكوا له ميزانه...
...تسرب إلى الناس أن إمرأة ضربته...
ثار...جرى هنا وهناك...حاول الاتصال بالمسؤولين...صده أعوانهم وحجابهم...غلى الدم في عروقه...
انتفض اليتيم...لم يكن أحد يعرف أن تلك المقولة الشهيرة"اليتامى زعماء العالم" ستظهر مرة أخرى وفي هذه المدينة...
طار إسمه وخبره إلى كل مكان...
دخل التاريخ التونسي والعربي الحديث قصد أو لم يقصد...لا أظنه كان سياسيا أو مباليا بالسياسة ولكنه هز عرش الساسة...
ولد هناك في حي النور الغربي بمدينة سيدي بوزيد...هذا الحي الشعبي الذي سكنته أعواما مع عائلتي...
هو حي أكثر سكانه من السواد الأعظم...فيه فقراء كثر ومواطنون بسطاء وموظفون من أصحاب الرتب البسيطة...ولكنه كان حيا لا يهدأ...
كان هذا الحي منذ سنوات مرتعا للبوليس السياسي...الصدفة وحدها جمعت الكثير من الأشخاص المراقبين الذين يتبعهم رجال الأمن ليلا نهارا بهذا الحي وربما لم تكن لهم علاقات ببعضهم ولكنهم كانوا يزعجون النظام..
في هذا الحي كان البوليس السياسي يراقب الكثير من الأساتذة والمعلمين والموظفين والوجوه التي شكلت مشهد الاختلاف في سيدي بوزيد لسنوات طويلة...أكاد أسمي البعض لكن القائمة طويلة...وقد يغضب البعض لنسيانه وقد يغضب البعض الأخر لذكر بعض الأسماء...فنحن في زمان صار فيه الكل يدعي ويقدر على الحكم وإزالة تاريخ البعض بكلمة أو صرخة..
في تلك الأيام كان صديق يسخر وله الحق فاليأس شديد والحكاية لم تخطر على بال أحد:"هؤلاء يلهثون وكأنهم سينقلبون على النظام وسيستولون على الحكم!".
أعود إلى محمد البوعزيزي فهو من مواليد هذا الحي بتاريخ 29مارس 1984 وهو مسجل على أوراقه الرسمية تحت اسم طارق ...مات والده الطيب وهو طفل في سنواته الأولى وتركه في عائلة فقيرة...لم يكمل دراسته وانقطع من الثانوية لكن العالم صدق أياما أنه من حملة الشهائد العليا ...منحه الشعب شهادة علمية كبيرة...
علا لة الزيني
...كغيره من أنصاره قصد علالة الجامع المقابل للولاية ليصلي صلاة الجمعة...هو أيضا يصلي وهو الذي لهث ضد المصلين والمتحجبات وتمنى شنقهم...يصلي ليرصد بقايا المصلين وليبحث في طرق صلواتهم ... صاروا يميزون بين المصلي العادي والسياسي ببعض الإشارات...
كان علالة يستعد لوليمة بعد الصلاة...ترك عبد الواحد كعادته يرتب الأمور...وظل طوال الصلاة يفكر في الليلة القادمة عند وردة...أسر له عبد الواحد صباح اليوم أن ثمة ضيفة جديدة ستكون حاضرة...فتاة حسناء قادمة من مكان ما أوقع بها...هي تحمل شهادة جامعية وستجري" الكاباس" غدا وتبحث عن وسيط...أرشدوها إلى عبد الواحد...لم يمانع .زعم لها إنه يستطيع وأن سي علالة سيحل الموضوع..".لسي علالة علاقات كبيرة هناك وهاتف منه يساوي برقية تعيين في مكان جميل وممتع..."
يروج فعلا أن علالة يبيع الوظائف...وهو ممن يرتبطون بالشبكة الكبرى..هو من المقربين من العائلة ...يقبض الملايين يا صاحبي...
فرحت البنت...لكن الثمن...
أسر لها عبد الواحد أنها لن تدفع مليما واحدا وأقنعها بعد أيام أن ليلة مع علالة تكفي لتحقق حلمها...جاءت إلى سيدي بوزيد يوم الجمعة.. زعمت لأسرتها أنها ذاهبة لتقضي الليلة عند زميلة لها للمراجعة والراحة وتجنب مفاجآت الصباح فقد تنزل الأمطار أو يتأخر النقل وهي التي تقطن بعيدا......في هذه اللحظات استوت عندها الأشياء فالمهم أن تحصل على شغل وتلتحق بالتدريس...
ضرب الموعد للمساء...
علالة محتاج لفسحة هامة فالجو خانق والوالي الجديد الذي عين أخر الصائفة في سيدي بوزيد لا يبالي به ولا يعطيه اهتماما ولم يعثر بعد على باب يدخل منه إلى صحبته وصداقته كي يطمئن...
فشل في الوصول إليه لكنه يفكر في خطة...لقد أخضع من هم أكثر منه حزما وصلابة وجعلهم رهن بنانه وأعطاهم الأموال وجاءهم بالنساء وأدخلهم في العالم الخفي الذي قاد منه هو وأصحابه سيدي بوزيد أعواما...لم يفلت منه ومن أصحابه غير نفر قليل من المسؤولين لكنه هزمهم في النهاية وحاربهم في الخفاء حتى عزلوا ودمروا أو نقلوا إلى أماكن أخرى...
كان الأمام يخطب وكان علالة يسرح بخياله في الليلة وفي الوالي الجديد الذي يجب أن يستولي عليه ويكبله...لم يستفق علالة من حيرته إلا حين بدأ الإمام يمدح الرئيس ويدعو له بالخير وطول العمر والصلاح والتوفيق وخير السبيل ...بدا وكأن وخزة كهربائية صعقته ورفع يديه..."امين...أمين"
تعلم أنه لا بد أن يبرز تفاعله مع هذا الدعاء حتى ينقل الآخرون ذلك في تقاريرهم ولا يلاحظون أنه غير متفاعل مع هذه الفقرة التي غزت جوامع تونس...قد يفعلها أي واحد منهم و تنقلب عليه الأمور لذلك يحرص منذ أعوام على هذا...
يجمعه الموعد مع عبد الواحد ووردة عند التاسعة أما قبل ذلك فسيمر على مكتبه ويأخذ السيارة الإدارية ويلتحق بأصحابه في مقهى بعيد مثلما اعتاد.
يدمن علالة هذه الأيام على مجالسة بعض الوجوه هناك...
لا أحد يعتقد أن هذا الاجتماع اليومي بريء ...حتى الحزبيون أنفسهم من الصف المعادي لعلالة يشكون في هذه الجلسات لذلك عقد أحدهم صفقة مع النادل كي ينقل ما يدور في هذا المجلس ....
دار النادل هنا وهناك...استرق السمع...تظاهر مرارا بتفقد الجماعة تبجيلا لهم واقترب منهم لكنه لم يظفر بشيء...
..العربي القواد أو هكذا يسمى في سيدي بوزيد...إطار مهم في إدارة ما...يطمح إلى ترقية..الترقية تمر عبر علالة مقابل بعض الخدمات السرية...يمده بوثائق خاصة...يساعده في تدليس بعض الوثائق التي يحتاجها لصفقاته وصفقات أصحابه...وهو يواظب على الحضور وكلما اختلى به إلا وعرض حلمه في الترقية...أما الزيتوني فله شأن آخر...كان ينتمي لحزب معارض ويخشى أن يعاقب أو تتعرض له الدولة...منذ مدة تاب عن السياسة المعارضة واقتنع أن لا فائدة ترجى من المعارضة...انخرط في التجمع وبدأ يحلم بتسلق الرتب ...يحلم أن يعين كمعتمد في الدورة القادمة وقد نصب نفسه عضدا مقربا من علالة...يساعده ويرافقه في الاجتماعات القريبة والبعيدة ويعد المحاضرات عن النظام ويحضر منتديات التكوين السياسي...أما العيد فهو حزبي قديم من زمن بورقيبة تجمعه بعلالة أمور كثيرة...يخططان لإزاحة كل من يعاديهما في لجنة التنسيق...يصر
أحيانا انه دستوري لا تجمعي ويبوح بكثير من النقد للنظام لكنه يقول ذلك لعلالة فقط...حتى الأستاذ حمودة يحضر هذا اللقاء من حين لآخر...
بين الجماعة أمور كثيرة ومخططات سياسية يخشاها حتى أصحابهم
كان ينتظر نهاية الصلاة كي يمضي إلى هذا الموعد فله حديث كثير هذا اليوم...وكان يبحث عن مساحات لإضاعة الوقت حتى يأتي موعد الليلة...أما عبد الواحد فهو منذ الصباح ينفرد بهذه البنت ...يخطط ويكذب ويحلم ...
خرج علالة من الجامع فشاهد جموعا من الناس يحتشدون أمام الولاية ويهتفون ضد النظام...توقع أن يكون الأمر تجمعا عاديا فنقابيو الجهة اعتادوا منذ مدة على الاحتجاجات...وهو كثيرا ما نصح بالقصاص منهم...
اعترضه رجل أمن سري فسارع بالقول:
-أكيد مشاكل النقابيين...لا بد من ضربهم...هم يشوشون ويهرجون...ماذا يريدون ؟؟
...أسر له البوليس أن الأمر مختلف...
-بائع خضر أحرق نفسه أمام الولاية.
كانت الأصوات الغاضبة ترتفع ...وكانت الحشود تتدفق ...سارع إلى لجنة التنسيق...راح يهاتف المسؤولين المحليين والجهويين والمركزيين.يعلم بعضهم ويستشير البعض الآخر ويحرض الآخرين على الالتحاق والتصدي للمحتجين ...باتت البلاد تغلو غليانا شديدا...البطالة مرة...الحاكم أهملنا...لم نجن شيئا من الدولة...
نافذة
مقاهي مكتظة
أهالي يسارعون إلى السوق الأسبوعية التي تبدأ مساء كل جمعة...
مصلون يسارعون إلى الجامع تحت أنظار البوليس السياسي وحبل يشتد ويشتد...
في دار الثقافة أبي بكر القمودي كان لنا موعد مع الشاعر الجنوبي الرائع جمال الصليعي ...
في زمن الحصار كنا نلتجئ نحن المثقفون الذين لا سند لنا يحمينا إلى دعوة مبدعين نعتبرهم رموزا لم ترضخ ...لا يهمنا انتماءهم ولكن يهمنا اختلافهم مع السائد وتلويحهم بغضب خفي ضد الواقع وضد النظام البالي...
كثيرون كنا ندعوهم شماتة في مثقفي النظام ورغبة في استنشاق هواء سليم...كنا نضخ المشهد بهؤلاء الذين ظلوا رفقاء وأصدقاء للثقافة الراغبة في التحرر...كان هؤلاء ضيوف الأحزاب والنقابات وطلاب الاتحاد مرارا...
اليوم ضربنا موعدا مع جمال الصليعي
آه يا جمال...
كم أنت بعيد في المسافة ...
سمعت بك ذات يوم...كان أولاد بلدتك دوز يبشروننا في بداية التسعينات بأن لهم شاعرا ليس ككل الشعراء...شاعرا عموديا عروبيا يملك موهبة مداواة الجراح وكانوا ينسخون قصائدك ويجيئوننا بها مع عبابيد التمر...
وجاء اليوم الذي رأيناك....جئتنا إلى الكلية...عج بنا المدرج وأخذتنا إلى تخوم بعيدة...قرأت لنا قصائد كثيرة هزتنا...قرأت حتى الأسوار...
منذ ذلك اليوم أدمناك وكلما وجدنا فرصة إلا وطرحنا دعوتك...وكلما جئت إلا ذهل الحاضرون ممن ظنوا أن الشعر العربي قد اغتيل ووجدوا أنفسهم أمام مقاتل كبير...صوت كبير كأنه المتنبي ينزل ويهتز...يحرك يديه تعبيرا ويبث لنا الكثير من الكلام الذي نظل نردده أياما...
17ديسمبر كان موعدنا معك...قلت لك في نهاية اللقاء إننا لا نشبع من شعرك وتمنيت حضورك مجددا وقلت إنك ستعود دوما...
لحظت غياب الكثير ممن انتظروا الموعد بشغف...تسرب الخبر فجأة أنهم هناك أمام الولاية...اقتربت منك وهمست لك انه لا بد أن نكمل الأمسية بعد قليل حتى نلتحق بالشعب...
صدفة جميلة أنك كنت هنا يومها وشهدت البداية التي كنا ننتظرها منذ زمن لكن فاجأنا وقتها...
راج الخبر...
شاب أحرق نفسه أمام الولاية والناس يتجمعون...
ورد الخبر في الجزيرة المغاربية عند الساعة العاشرة ليلا..."أقدم شاب يدعى محمد البوعزيزي على إحراق نفسه أمام مقر محافظة سيدي بوزيد".
...انتبه العالم إلى هذا الحدث وتركزت العيون...رائحة ما تنبعث...في صباح السبت تجمع الناس من كل صوب وانتظمت مسيرة سلمية جابهها النظام بالعنف وتحولت المدينة إلى ثكنة وتصاعدت الأحداث
جاء النظام بأعداد هائلة من الأمنيين دخلوا في مواجهات مع المواطنين وتحولت مدينة سيدي بوزيد إلى مسرح لمقاومة شعبية شبابية استبسل فيها الشباب وجابه أعوان بن علي وأوقع بالكثيرين منهم وهزمهم...وقد توفى في هذه الأحداث شاب ثاني هو حسين الفالح وقد اختلفت الروايات حول وفاته فشق اعتبر العملية انتحارا والشق الثاني اعتبر أن حسين كان يطارده الأمن فصعد إلى عمود كهربائي أمام مقر اتحاد الشغل فأصابه الكهرباء وثمة من يقول أن الضربة الكهربائية كانت بفعل فاعل موال للأمن.... تعددت في هذه الفترة محاولات الانتحار في مختلف جهات سيدي بوزيد.
...
صباح السبت
يوم سوق أسبوعية...ناس من كل القرى...نساء ورجال وصبية متسولون اعتادوا النزول في سيدي بوزيد كل سبت...يأتون من قرى ومدن مجاورة...قيل إنهم يأتون في سيارات وأن ثمة من يشغلهم ويكلفهم بهذه المهمة...لا تفاجأ يوم السبت إذا تمسك بتلابيبك صبي أو فتاة وطلب منك المساعدة فالفقر اشتد ومعه كثر المتحيلون...لقد اشتد التحيل والتسول هذه الأيام
هاتفني صديقي البغدادي وأنا أمام التلاميذ في القرية...أعلمني أنها أجفلت وأن الجماهير غاضبة غضبا لم تشهده منذ أيام... وأن مسيرة كبرى تطوف المدينة الآن...
الثكنة
اختلط الناس في سيدي بوزيد. مواطنون قادمون إلى السوق وتلاميذ يغادرون معاهدهم بمناسبة عطلة الشتاء...ساروا واحتجوا وتصادموا مع رجال الأمن...وصارت سيدي بوزيد ثكنة مغلقة.
تسوق عثمان الشرقي هذا اليوم...جلس في سمرقند...لم يكمل قهوته..قفز يجري وانضم إلى المسيرة...صرخ بأعلى صوته منددا بالنظام"التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" ..
الحراس المدججون بالسلاح في كل مكان يرمقون الشعب والشباب الغاضب يتظاهر ليلا مساء ويواجه ببطولة واقتدار...تصبح المدينة دخانا ...آثار الحرائق في كل مكان...في أرضية الطرقات والمحلات ..وأخبار المواجهات والاعتقالات تملأ المقاهي وصفحات "الفايسبوك"...
صارت سيدي بوزيد على لسان كل القنوات وكل الأحزاب وظلت جرائد البلد تمدح الزين وتصغر من قيمة الحادثة...تجند فريق من المراسلين والصحفيين وراحوا يمحون الخطى...
"الزين يحب سيدي بوزيد...الزين هو الذي طور سيدي بوزيد ...المشاريع التنموية قادمة...هذا شغب...."
أغرقت الإذاعة والتلفزة في البيانات التقليدية وكررت الطريقة الإخبارية الرديئة التي حفظناها عن ظهر قلب..."جد صباح اليوم...."أو أعلن مصدر رسمي....."
...تلك البيانات التي تتحدث عن الاستقواء بالأجنبي والعمالة وعن الفئة المعزولة التي تغار من إنجازات تونس وتحاول ضرب استقرارها الذي ينظر إليه العالم كنموذج..." يا لهذه الإسطوانة المخادعة التي سمعناها أعواما..."
عقد علالة الاجتماعات السرية بأعضاده ودماه...حثهم على اليقظة المستمرة للدفاع عن مكاسب البلاد وأرسل برقيات الولاء والتأييد...
"نحن معك...سيدي بوزيد معك...الشعب معك..."كذبة رددها علالة الزيني منذ أعوام ولكن الحقيقة ظلت خفية...
انضمت جل المعتمديات إلى الثورة من باب نجدة أهالي سيدي بوزيد وقد لقيت هذه الدعوة تجاوبا كبيرا فشهدت بنعون وبوزيان والمكناسي والرقاب تحركات مختلفة وخاضت مواجهات عنيفة مع قوى الأمن...
صمت النظام أياما ثم نشرت وسائل إعلامه أخبارا مغلوطة عن الواقعة وكان الجميع يضحك منها لأن العالم عرف الحقيقة من وسائل الإعلام الأخرى.
أرسل بن علي وزيره للتنمية وأعلن جملة من القرارات تلقفها العملاء والمأجورون وراحوا ينشرونها ويبيضون بها وجه النظام.وتولت أعداد من الصحفيين الكتابة عن سيدي بوزيد وشد أزر النظام لكن الأحداث لم تهدأ وتصاعدت ....
حل "ضو الكذاب" بمدينة سيدي بوزيد وراح يقتفي آثار الغضب ويمحوها بجرة قلم...يحاور علالة والأستاذ حمودة و غيرهم من الدمى...يدعون جميعا أن ما حدث مجرد شغب وأن ولاية سيدي بوزيد وفية للنظام...
سيدي بوزيد...سنوات المرارة
1
لم يكن من السهل على الكثير من شيوخ سيدي بوزيد تقبل إطاحة بن علي ببورقيبة فانسحبوا من المشهد وعبروا في جلساتهم الخاصة عن تبرمهم منه وتشاؤمهم من سياسته في الوقت الذي كانت آلته الدعائية تنتشر في البلاد وتحكم السيطرة عليها وتوهم بعهد جديد ظلت وسائل إعلامه متمسكة بجدته طوال سنواته وتوهم بعهد الشباب والديمقراطية وإنقاذ البلاد والعباد...وقد صنع النظام صورة كبيرة تبدو فيها سيدي بوزيد قلعة له يكسب منها الأصوات الانتخابية بسهولة ويفرض عليها تقديم مبالغ مالية هامة في يوم التضامن كما تعج شوارعها بالناس في الاستعراضات السنوية وغيرها من المناسبات .
ولكن بعيدا عن هذه الصورة كان الناس يتذمرون ويكتمون الغضب وقد وصل هذا الشعور في السنوات الأخيرة إلى بعض الدستوريين أنفسهم إذ حصلت انشقاقات وانقسامات عقب الانتخابات البلدية والتشريعية لم يذكرها الإعلام ولم يتطرق إليها حيث اعتبر البعض أن بعض التعيينات إهانة أخلاقية للجهة كما اعتبروها تعيينات مسقطة من الرئيس وظهرت بوادر التمرد عليها والدليل على هذا الاعتصام الذي قام به بعض التجمعيين عقب الانتخابات البلدية والذي طوق بصعوبة.ويسود شعور لدى الناس أن بن علي يكره الجهة كرها خاصا وقد تكرست هذه الرؤية بعد إطاحته بالوزير الوحيد الذي مثل الجهة في حكومات بن علي المتعاقبة ذلك أنه لم يختر أبناء الجهة في مناصب هامة ما عدا بعض الولاة الذين عزلهم بسرعة...
ومن مظاهر تجاهله للجهة أنه لم يخصها في سنواته الأخيرة بمجلس خاص مثل غيرها من الجهات وظل الناس ينتظرون لفتة منه ولكنه لم يفعل وحتى في أحداث الثورة فلقد كانت قراراته في إطار مشاريع لكافة الولايات الداخلية محاولة منه لنزع فتيل الغضب.
2
زار بن علي سيدي بوزيد مرتين متباعدتين وقد شعر الناس بالخيبة عقب كل زيارة فلا هو مكث معهم أو خطب فيهم خطابا شعبيا مثلما عودهم بورقيبة ولا هو أثلج صدورهم بقرارات مهمة.
جاء مسرعا ومنزعجا وترجل مسافات قليلة وعقد جلسة في الولاية ثم انتقل إلى وليمة خاصة حضرتها الخاصة وطار مخلفا قرارات هزيلة ومدائح كثيرة أطلقتها الأبواق المداحة...هذه الأصوات تحدثت عن الزيارة الخالدة والتاريخ الذي لن ينسى ومدحت الإنجازات المنتظرة لكن بن علي لم يفعل غير ذر الرماد على العيون وأعلن قرارات من نوع إيصال الماء الصالح للشراب و النور الكهربائي وإحداث مناطق سقوية وهي قرارات يستغرب أن تحتاج إلى قرار رئاسي ...أليس من السخرية أن يصل الماء الصالح للشراب إلى جهة ما بقرار من رئيس؟
أما القرارات الكبرى والتي شكلت مصدر مديح فلم تتحقق حتى بعد هروبه فمصنع الحليب اختفى ونقل إلى جهة أخرى رغم تكوين إدارة له واكتفى سكان سيدي بوزيد المغلوب على أمرهم بالحزن الصامت...وأما المركب الشبابي فظل بناية جاهزة تمارس فيها أنشطة موجهة ولم يشعر شباب الجهة ومثقفوها بأهميته حيث ظل أسيرا وفرضت عليه توجيهات مختلفة وقد عجز مديره الأول الذي أقيل بعد مكيدة عن فرض أنشطة ذات بال بسبب الرقابة والقيود.
وأما الجامعة التي تم إحداثها فتبين أنها مجرد معهد تكنولوجي ولم تشرع إلى اليوم في العمل في حين مازال المعهد التكنولوجي الذي أعلن عن تأسيسه مرتين ولم يفهم أحد سر الإعلان الثاني يستحوذ على مقر قديم وهو مقر المعهد الفلاحي...
الغريب في الزيارتين ما سبقهما من عسكرة وإجراءات أمنية رهيبة حيث حشد بن علي قوات ضخمة اجتاحت سيدي بوزيد وانتشرت في شوارعها وأحيائها السكانية وأرهبت الناس وضايقتهم.
وأود هنا الإشارة إلى طرفتين فقد قام التجمعيون بالاحتفاء بذكرى الزيارة الثانية بعد سنة وانتظمت لذلك جلسة في مقر الولاية.أما الطرفة الثانية فكانت ما راج عن لافتة ترحيبية كتب فيها "السجن المدني بسيدي بوزيد يرحب ببن علي"
3
زار بن علي سيدي بوزيد مرتين وثارت عليه مرتين
كانت المرة الأولى في نهاية التسعينات عقب الفيضانات التي اجتاحت الجهة حيث ثار الناس على الإهمال وعدم تدخل الدولة لإنقاذهم وقد خلفت الأحداث بعض القتلى من جراء الفيضانات و اعتقال العديد من المواطنين.
أما المرة الثانية فلقد كانت في نهاية 2010 وتحديدا منذ عشية 17 ديسمبر حين اندلعت الثورة المعروفة التي اهتم بها العالم وصارت من أشهر الثورات المعاصرة
4
تصاعد الغضب في السنوات الأخيرة وقد غذته السياسة العامة في البلاد وبات السكان يشعرون بالمصير المجهول إذ تفاقمت القبضة الأمنية وكثر الانحراف وانعدم أمن المواطن وكثرت الأنباء عن سلوك العائلة الحاكمة واشتدت البطالة وارتفعت الأسعار وعجزت المسكنات عن إطفاء الألم...وقد جدت في الأشهر الأخيرة من زمن بن علي جملة من الأحداث التي عبرت عن هذا التوتر والاحتقان وزادت فيه من أهمها وطنيا عودة خطاب المناشدة وشروع الجوقة الرسمية في مناشدة الرئيس لفترة جديدة مقابل بروز إشاعات قوية عن نوايا التوريث التي خططت لها المجموعة الحاكمة كما برزت جهويا جملة من الأحداث ومنها
-استفحال الإجرام من عمليات سرقة وقتل بشع واختطاف وهو ما أفقد الناس الأمن والأمان خصوصا وقد عجزت الدولة عن وضع حد لهذه الأحداث.
-غضب فلاحي الرقاب واعتصامهم أمام مقر الولاية احتجاجا على ما تعرضوا له من مظالم.
-تصدع التجمع الدستوري حيث نتجت عن مؤتمرات هياكله خلافات عديدة جراء عدم شفافية مؤتمراته وفشل قيادته حتى في تكريس الديمقراطية داخل هياكله.
-تزايد البطالة والفقر وفقدان مصداقية المناظرات والانتدابات الوطنية.
-تعدد محاولات الانتحار في المواقع الهامة وقد شهدت سيدي بوزيد عدة محاولات للصعود إلى عمود كهربائي جد آخرها قبل حادثة البوعزيزي بأيام لكن الإعلام تجاهل هذه الوقائع وأوردها مشوهة...
صباح الخير سيدي بوزيد
بيروت أنت هذا الصباح وقهوتك بيروتية..
.كم أنت عظيمة أيتها المدينة المنسية...
شكرا لك لأنك خلعت مواد التجميل
ونزعت الكمائم
و تحديت الألغام...
سيدي بوزيد...
طار الحمام...وزحف الجنود...
طار الحمام ولعلع البارود...
مازال يرسل المزيد
مازال يريد دمنا...مازال يريد غضبنا...
مازال يريد هممنا...
بوزيد صبحا...قال الفتى لنا موعد غضب
و تجمعت السحب...
"سيدي بوزيد" المنسية
تخرج من كتاب النسيان فجأة...تنفجر لتحرق أحاديث الجرائد والتلفزات المتواطئة وتطلع كشمس ربيعية حالمة...
لقد نسوها كثيرا وتجاهلوها...لم يحفل النظام بها وقدمها بصورة ساخر ة...
اختصروها في الخرفان والرعي وهمشوا رجالها وبنوا داخلها كوابيسا كثيرة...
اعتصرت وقررت أن تدخل التاريخ من الباب الكبير و أن تتحول إلى ساحة حرية وكرامة...طارت صورها وأخبارها إلى العالم وتردد إسمها في كل وسائل الإعلام وتوافد عليها المراسلون والصحفيون وصدرت القنوات والصحف الكبرى أخبارها بصورها وأنبائها القادمة خلسة عن أعين نظام قمعي يحاصر الكلمات ويكتم الأنفاس...
الآن يحق لكل أبناء الجهة أن يرفعوا رؤوسهم عاليا...وداعا لسيدي بوزيد الأمس التي ينساها السلطان ويبتزها...
الآن يا ابن هذه الربوع التي كتبت صفحة جديدة في تاريخ البلاد وفتحت زمنا عربيا جديدا لك أن ترفع رأسك عاليا فأنت في سيدي بوزيد وأنت من سيدي بوزيد...
بوزيد تنحت البطولة...بوزيد تتحدى ...بوزيد تمزق صوركم من كل طريق ودرب...
صباح الخير يا مدينة الغضب هاهم ينشرون الحراس في كل مكان و يتهمونك بالشغب.
مطر الشعانبي
جاءت الأخبار معلنة عن تصاعد الغضب في معتمدية منزل بوزيان...
كعادتها هذه المعتمدية عصية عليك أيها النظام...هاهي تعري لك صدور شبابها وهاهم يتقدمون نحوك بكل حزم كما قال رأسك...جابهتهم بالرصاص الحي وقلت في بيانك إنهم مشاغبون وإنهم حاولوا التخريب والهجوم على مركز الأمن...
ارتكب النظام مجزرة في منزل بوزيان ...أطلق رصاصه الحي ...سقطت الرصاصة الأولى على صدر نجل مقاوم كبير ممن جاؤوا بالاستقلال ...هب الشهيد محمد العماري لمعالجته فأصابه رصاص آخر وأرداه قتيلا على عين المكان قتلا بالرصاص الغادر وظل الشهيد شوقي يصارع الموت أياما حتى التحق بالرفيق الأعلى وأصيب آخرون .
خطب بن علي خطابه الأول وتوعد الغاضبين ثم أدى زيارة إلى المستشفى الذي نام فيه البوعزيزي واستقبل أولياء الشهداء والضحايا ومرر التلفزيون ذلك وانتزع من بعضهم كلاما مدحيا وثناء وزغاريدا ...
تعددت مناورات النظام وراح يجري هنا وهناك ويتخذ الإجراءات لفائدة الجهات الصغيرة لكنه فشل في السيطرة على الوضع رغم بعض الهدوء.
مات البوعزيزي وشيعه الناس إلى قريته بالآلاف ونظموا له جنازة ضخمة وعاد الغضب واشتد....
تحركت مدينة الرقاب ولوت عصا الطاعة ليا...
منذ أشهر غضب فلاحو الرقاب...واعتصموا...
وما أن أجفلت في سيدي بوزيد حتى تحركت الرقاب من جديد..
.تحركت الرقاب في الأيام الأولى ومكثت غاضبة حتى حانت ساعة الحقيقة...لقد خرجت عن النظام خروجا عظيما...اعتصمت الرقاب وغضبت فاهتز عرش النظام...أغلقت الرقاب دكاكينها أياما وثارت والعالم يشاهد الشهداء والجرحى والجنائز.
لن ينسى دور الرقاب فلقد هزمت النظام وسجلت بطولة لن تنسى...جدت مواجهة في السعيدة ثم تكرر ذلك في مدينة الرقاب وسقط الشهداء الأحرار واعتصم سكان الرقاب وأعلنوا العصيان المدني أياما واستعصوا على النظام الوحشي...
حدثني صديق قال إنه لما اشتدت الأحداث قال "لن نمطر إلا إذا أمطر الشعانبي..."
وفعلا أمطر جبل الشعانبي رصاصا ونارا و شهداء ...خرجت القصرين على بكرة أبيها وواجهت النظام فسقط عشرات الشهداء في تالة والقصرين وجهات أخرى .لم يعد من حل مع هؤلاء إلا الرحيل وغضب الشارع في كامل البلاد وخرجت جلمة خروجا كبيرا لعنت فيه عصابة السراق ولفظتهم وتحركت المدن الكبرى ومنها صفاقس وشنت إضرابا عاما تزلزل معه النظام وارتج...خطب الزين للمرة الثالثة مذعورا ومنهارا "فهمتكم...غلطوني...سيحاسبون...ألمي وحزني كبيران..."
لم تنفع خطابات الزين المرتبكة والمهددة.
...خطاب ارتخى فيه وانهار...تكلم بصوت أجش...اعترف بالخطأ والإحباط...أعلن وقف الرصاص وعدم الترشح للرئاسة وإطلاق الحريات...أعلن الفهم ... أعادها مرارا بصوت مرتبك"...فهمتكم...فهمتكم...غلطوني "لكن المداحين لم يستسلموا وباتوا
يتظاهرون فرحا ويرقصون على واحدة ونصف أمام مقر الولاية وأصبحت الصحف مادحة مهللة لخطاب البارحة وأطلق سراح التلفزيون.
...خرج علالة وعبد الواحد والأستاذ حمودة وشاعرتهم زهرة و الصحفي ضو و غيرهم يركضون ويهتفون ويعبرون عن الفرح ويتبادلون التهاني والمشروبات لإيهام الناس بالانفراج...
فجأة لاحت تلفزة جديدة...
بلا مقدمات...
في هذه الليلة ثار عثمان الشرقي...شاهد مبارك صالح لأول مرة منذ سنوات على إحدى الفضائيات...فرك عينه وتثبت في الكتابة والصوت...هو فعلا مبارك صالح رفيق الشباب...كان يتكلم من الخارج...كان ينتفض ضد بن علي...وكان يدين العنف الذي تعرضت له تالة والقصرين والرقاب ومناطق أخرى ويدعو إلى رحيل بن علي ويطالب بإطلاق سراح حمة الهمامي فورا...هو على العهد إذن...أكيد واصل العمل من بعيد وسيعود يوما.
"كان لا بد من غروبك ليلا"
"ما أحلى القعدة عل المية
وما أحلى الربيع
ما أحلى الثورة التونسية تضم الجميع
ياأمي ياإخوتي لا تحزنوا
نور الله في قلبي مازال حي
...راجع راجع
لبلادي عبر الجبال
وين يتلاقو أندادي في الساحة رجال"
من نشيد الثورة التونسية
14جانفي2011
أخبار الصباح تتصاعد...الحشود تكثر...نظام منهار...حزبيون يرتعدون من المحاسبة التي أعلنت البارحة...الهدوء لم يرجع...الداخلية محاصرة بالشعب الغاضب الذي التاع منك طويلا......تواصلت المسيرات واحتشد الناس غاضبين أمام الداخلية وتكررت المواجهات..كان النظام عنيفا ووحشيا لكن الغروب حمل مفاجأة ثقيلة...أعلن التلفزيون بالخط العريض قرب بث خبر هام جدا.
جاء محمد الغنوشي مرتعدا...أعلن أن منصب الرئيس صار شاغرا الآن...انفجرنا فرحا...
هرب بن علي...
سقط السابع...
الآن تخرج منها ملعونا...اه" أخرج منها يا ملعون" وهذا عنوان رواية لصدام حسين ينطبق عليك اليوم ...أخرج يا ملعون ...وتضور في السماء..ليلة كاملة وأنت تبحث عمن يأويك ...رفضتك دول كثيرة ...أين أصحابك يا رجل؟ أين أولئك الذين كان إعلامك يزعم أنهم اعتمدوا مبادراتك وأفكارك...أين من أعطوك الأوسمة والجوائز والشهادات العلمية تزلفا؟"
تخرج منها ملعونا...يلعنك شعب بأكمله حتى الذين كانوا يمدحونك ويجاملونك كشفوا أنهم كانوا يتقون شرك...
تونس الآن تسهر مسرورة وأنت في السماء تبحث عن مأوى...
و المحامي عبد الناصر العويني وحيد في شارع بورقيبة بالعاصمة يعبر عن فرحتنا العارمة و عن كبتنا السياسي الطويل و يصرخ عاليا:
"تحررنا...تحررنا...بن علي هرب..."
كم تمنينا منذ زمن أن نخرج جميعا في هذا اليوم ونركض ركضا ونعبر عن فرحنا ونمزق صورك ونتبرز عليها ولكن الظروف حرمتنا...رجالك حرمونا من مسيرات مليونية للتعبير عن الفرح العارم هناك وفي تلك اللحظة...جاءت أخبار العصابات والسيارات وعم الخوف والهلع وجرى الناس في الليل مدججين بالعصي والسكاكين لمحاصرة هؤلاء الذين قيل إنهم من رجالك...
صرخ عثمان عاليا...احتسى ..خطر له أن سكينة التي علم أنها تقيم منذ أيام عند والدها العمدة بشير قد تمردت هذه العشية وعادت إلى طفولتها البهيجة ومزقت عهود علالة وطلقته ...هو مستعد ليتزوجها لو حصل ذلك...
عاد إلى القر ية... مر بالدكان كعادته...وجد بعض أتباع العمدة ورئيس الشعبة يتلهون بلعب النرد كأن لا شيء يحصل وحولهم بعض الوجوه الساخرة منهم...تتبادل الغمز واللمز شماتة في سقوط سيدهم...وجد وجوها كانت تهادن العمدة وتشي له حتى يحقق مصالحها...هدر فيهم دون خشية ...التفت إلى الحوش القديم الذي ظل ظلاما طوال أعوام ولا يشتعل نوره إلا إذا عاد...شاهد نورا...استغرب...هل هم السراق...؟هل جاء البعض لينهب؟
...جرى ...قفز من الفرح....مرت سنوات يا أخي...سنوات طويلة...سنوات مريرة
...بكى في حضنه بكاء شديدا واستعاد سنوات الشباب وسنوات المشاكل والخلافات...بكى عثمان كما لم يبك قط...
...وصل الناصر الشرقي فجأة إلى القرية الصغيرة... أطلقوا سراحه ...لم يجد شيئا...الديار مقفلة و الوالدة محبوبة تقبع في الظلام والجامع القديم مغلق ...تسلل إليه الأهل وقفزوا له...احتضنوه وقبلوه طويلا..لم تعرفه الوالدة فبصرها ضعف ولكنها استعادت صوته وزغردت فرحا وراحت تحدثه عن السنوات الفارطة وعما جرى...لم تترك شيئا إلا وحدثته عنه...حدثته حتى عن وردة وما تسمعه عنها من أخبار ترد كل سوق...ذبح له الحاج عبد السلام شاة واحتفل به القوم...حتى عثمان...
آه يا عثمان...
لم تكن علاقة عثمان بالشيخ الناصر جيدة ...كانت بينهما خلافات شديدة لكنه الوحيد الذي ظل يذكره في السنوات الأخيرة ويدافع عنه وحاول زيارته لكنهم لم يسمحوا له...
عثمان شيوعي لكنه الليلة يحتفل بالناصر ويعتز به...بدا مبتهجا كأنه ولد من جديد وبكى طويلا وارتمى في حضن أخيه الناصر...
لم يكن الناصر يتوقع يوما أن يعود إلى هذا المكان...كان مسرورا ...لم يزعجه غياب وردة لقد نسيها منذ علم في السجن بطلاقها له...سأل عن نادية فتمتم الجماعة خوفا عليه من الصدمة...
تمشى الناصر أمام بيته وتسامر مع الأهل:
_"إن الباطل كان زهوقا"...
_جماعة الزين فعلوا بنا ما لم يفعله عاقل...مشطوا ديارنا وعذبونا...
_إن الباطل إلى زوال...
_حتى الجامع أوصدوه.
حان وقت الصلاة ...تململ الرجال...قرروا فتح الجامع...خلخلوا أبوابه فالمفاتيح استولى عليها رئيس الشعبة والعمدة بشير منذ زمن...كان ذلك أياما بعد اعتقال الناصر...جاءوا بالحسني السكير وعينوه أماما.
-الله أكبر
الحسني دفعة واحدة...الحسني الذي لا يصحو من سكر... يسكر من مال العمدة مقابل الوشايات والخدمات الأخرى التي يقدمها له...
-نعم جاؤوا به لكن الناس هجروا المسجد...
في ليلة من الليالي سلمهم المفاتيح ومضى...
-عيب عيب
فتح الجامع...قام أحد الشبان ورفع صوت الأذان...و دفع الناس بالناصر الشرقي ليؤمهم...
أبلغ بعض الوشاة العمدة بالخبر فلزم الصمت ...لم يرد الفعل...
رن الهاتف في جيب الحاج عبد السلام فانفرجت أساريره:
-أرضك سترجع...لقد فروا...لقد مر ملثمون بها وأفسدوا ما فيها من معدات...غدا سترجع زياتينك الشامخة التي حرمت منها أعواما...غدا سيكون بمقدورك أن تقف أمام القضاة والصحافة وتتحدث بكل صراحة عن المظلمة التي تعرضت لها...
15جانفي2011
فجرا اتجهت وردة نحو محطة سيارات الأجرة...رصفت حقيبتها ومضت...لا أحد يعرف أين ستذهب...لم يعد ممكنا أن تمكث هنا...حياتها في سيدي بوزيد صارت خطرا وما عليها إلا أن تبحث عن مكان آمن...ارتأته عند قريبة لها في ريف من أرياف القيروان...
اهتزت منذ علمت أن الناصر الشرقي أصبح في سيدي بوزيد يقتفي خطى عثمان...قد يفعلها ويأخذه إليها...لحظة لم تنتظرها إطلاقا...
تعبت وردة من السير...الحقيبة ثقيلة...توقفت تلتقط أنفاسها وتتذكر الزمن...
....هي الدنيا لا تهدأ على حال...انقضى الأمس...مزقت صور ليلى وزوجها واختفى الحزبيون...لم تكن تعتقد يوما أن الناصر الشرقي سيخرج...هي في ورطة...تعرف أنه لن يفعل شيئا في النهاية لكنه عثمان يبحث عن فرصة انتقام...لن يرفض ذلك خالهم اللعين عبد السلام ولا أمهم العجوز محبوبة...
كلهم سيقفون أمام الناصر وينقلون له ما جرى و يتحسرون على الشرف والكرامة...
ألم يكونوا سببا في كل ما جرى؟
حين سجن الناصر وعلمنا أن حكمه طويل لم يتكلم أحد...عثمان كان يسكر في سيدي بوزيد ويعود ليلا ليشاكسني وليفعل ما يروق له...
نعم...لقد حاول....حاول...
الحاج عبد السلام لم يتحرك ولم يحتج...أبلغته الشكوى مرارا فلم يحرك ساكنا...
*****
نادية خرجت منذ الصباح
تهتف مع الجموع الغفيرة التي خرجت ابتهاجا بالنصر...كان الأستاذ حمودة يمشي في الصفوف الأولى ...يسير جنبا إلى جنب مع رفاق وأصدقاء الأمس ممن تركهم يوما...هتف الجميع
"يسقط جلاد الشعب...يسقط حزب الدستور..."
رفعت نادية لافتة كتب عليها"العمال يطالبون بحقوقهم".أخذت الكلمة...تكلمت عن الاستغلال..عن الاستعباد...عن الرق...عن استغلال الشباب في العمل من طرف العصابة...طالبت بمحاكمة رموز الفساد...طالبت بمحاكمة علالة الزيني وعبد الواحد وغيرهما من الذئاب...
تمشى الأستاذ عبد الله المسرحي منتشيا في الصفوف...يشعر ببهجة شديدة ...نسي أتعاب سنوات البطالة ومعاناة الإبداع ...لم ينتبه إلى نادية في الصفوف...
* عبد الواحد مفقود...زوجته تحدثت عن اختفائه...لم تعثر له على أثر...خرج منذ ليلة المسيرات الكاذبة ولم يعد...هي خائفة عليه لكنها تعرف أنه يستحق كل عقاب...
* علالة
حزين في مكتبه ...الأرض تدور به...انكب على إزالة صور الزين وأوراق التجمع من مكتبه...شعر بالحزن فنادية سكرتيرته لم تأت...ولم ترفع سماعة هاتفها...بل تفطن إلى أنها أخذت بعض الوثائق الخطيرة معها بالأمس...أصر على مهاتفتها...لكنها لا تجيب...هاتف عبد الواحد أيضا مغلق...لقد كلفه بمهام سرية لكنه لم يعلمه بما فعل...ربما قبضوا عليه...
الشارع غاضب.. المسيرات كثيرة والحزب سيصبح رمادا...لا تجمع بعد اليوم...
اشتد الهتاف...
موجة الغضب هادرة......هذا هو اليوم الذي انتظرناه طويلا.
...كنا في الأسابيع الفارطة نحسبه بعيدا لكن المفاجأة حصلت...
تقدم عثمان الشرقي المسيرة هاتفا "تونس حرة حرة والتجمع على برة " و"أوفياء أوفياء لدماء الشهداء" سار إلى جنبه الناصر الشرقي وناديةوالحاج عبد السلام. واخرون...حتى عمران لم يتخلف..ترك الشاي والبراد وجاء يهتف ملء شدقيه....
سمع علالة أصواتا تقترب...فهم أنهم جاؤوه...دخلت المسيرة المقر...اتجهوا جميعا إلى مكتبه" علالة ديقاج...ديقاج..."
تسلل من الباب الخلفي للإدارة...تفطنوا إليه وهو يحاول الخروج بسيارته...حاصروه...افتكوا له السيارة الإدارية اقتربت منه نادية وصرخت في وجهه" يا مجرم " ...هم عثمان بضربه...منعه الناصر...حلت سيارة عسكرية....تقدم إليه جنديان وأخذاه وسط الهتافات...
"يحيا الجيش ...يحيا الجيش..."
رياض خليف
*حاصل على الأستاذية في اللغة العربية من كلية الآداب بالقيروان ويشتغل بالتدريس في التعليم الابتدائي وهو من مواليد22أفريل 1975بالحنية سيدي بوزيد.
*خاض تجارب صحفية مختلفة وكتب في صحف تونسية وعربية.
أصدر:
*في القصة القصيرة
-هنا لندن ...ذات مساء
-صالح البغدادي
*في النقد
-سعيد مهران...نبوءة الرواية
-مدخل إلى شعر عامر بوترعة....