الأخبار
الولايات المتحدة تفرض عقوبات على مقررة الأمم المتحدة الخاصة للأراضي الفلسطينية(أكسيوس) يكشف تفاصيل محادثات قطرية أميركية إسرائيلية في البيت الأبيض بشأن غزةجامعة النجاح تبدأ استقبال طلبات الالتحاق لطلبة الثانوية العامة ابتداءً من الخميسالحوثيون: استهدفنا سفينة متجهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي وغرقت بشكل كاملمقررة أممية تطالب ثلاث دول أوروبية بتفسير توفيرها مجالاً جوياً آمناً لنتنياهوالنونو: نبدي مرونة عالية في مفاوضات الدوحة والحديث الآن يدور حول قضيتين أساسيتينالقسام: حاولنا أسر جندي إسرائيلي شرق خانيونسنتنياهو يتحدث عن اتفاق غزة المرتقب وآلية توزيع المساعدات"المالية": ننتظر تحويل عائدات الضرائب خلال هذا الموعد لصرف دفعة من الراتبغزة: 105 شهداء و530 جريحاً وصلوا المستشفيات خلال 24 ساعةجيش الاحتلال: نفذنا عمليات برية بعدة مناطق في جنوب لبنانصناعة الأبطال: أزمة وعي ومأزق مجتمعالحرب المفتوحة أحدث إستراتيجياً إسرائيلية(حماس): المقاومة هي من ستفرض الشروطلبيد: نتنياهو يعرقل التوصل لاتفاق بغزة ولا فائدة من استمرار الحرب
2025/7/10
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الأمير المُغَنىَّ والأميرة غرام بنت السلطان-من الأدب الشعبي الأفغانستاني-إعداد د أميمة منير جادو

تاريخ النشر : 2010-10-30
الأمير المُغَنىَّ
والأميرة غرام بنت السلطان
اعداد د/أميمة منير جادو

كان الفصل شتاء والمطر يتساقط كاللؤلؤ المنثور على زجاج نافذة الحجرة لكن المساءَ دافئٌ بالحب داخل بيتنا .. أنا وأبى وأمي وأخوتي الصغار وجدتي لأبى وجدة أبى( العجوز) التى تكرمش وجهها بفعل الزمن لكنه يشع بالنور والحنان والطيبة ...
مهما مر الزمان أو تباعدت السنوات لا أنسى أبدا هذا الزمن الجميل، زمن الطفولة والبراءة، واللهو العذب، ولذة الاكتشاف وعالم السحر والخيال في حكايات جدتي (رحمها الله).
كل مساء نلتف حول جدتي لتحكي لنا الحكايات، على مقربة منا كان الموقد يدفئ الحجرة، وحكايات جدتي تُدفئ قلوبنا ونفوسنا، وتشعل فينا الخيال، كانت جدتي تحكى لنا وتكرر الحكايات ، وفى كل مرة نطلب منها أن تحكيها لنا مرة أخرى وأخرى ، فلا الجدة كانت ترفض لنا- أبداً- طلباً ...ولا نحن مَلَلنْا أبداً من سماع الحكايات حتى عندما حفظناها عن ظهر قلب ... لم نقاطع أبداً الجدة أثناء الحكي، وكأننا في كل مرة نستمع إليها كأننا نسمعها لأول مرة بذات اللهفة وذات الشغف ، وذات الإنصات ، بل لعلنا كنا نسأل نفس الأسئلة التى سألناها أول مرة ونحن نستمع بشوق بالغ للأحداث .
كانت حكايات جدتي كلها جميلة ، وممتعة ، كأنها زهور في بستان ، وجدتي كل مساء تقطف لنا زهرة من بستان الحكايات، لتهديها إلينا قبل النوم، وكم كنا نؤثر حكايات جدتي على كل ما عداها من هوايات .
ذات مساء قالت لنا جدتي بصوتها الحنون الطيب :
سأحكى لكم الليلة حكاية من أفغانستان، كانت جدتي مثقفة ولا أدري من أين جاءت ثقافتها العالية، أنها تحكي لنا حكايات عربية وأجنبية ، وفي كل مرة تذكر لنا اسم بلد الحكاية ، وكانت جدتي حريصة على أن تذكر لنا اسم البلاد من حكايات الشعوب ، لم نفكر ونحن صغار أن نسأل جدتي : من أين جئت بحكاياتك الجميلة ؟ هل سافرت ؟ هل قرأت ؟ لا ندري كنا شغوفين بالاستماع أكثر إلى الحكاية .
وفى كل مرة تبدأ جدتي الحكاية بعد " وحَّدوا الله "،" وصلوا علي رسول الله " فتقول "كان يا ما كان ..... فى سالف العصر والأوان، كانت هناك فى بلاد بعيدة أميرة جميلة تعيش مع والدها السلطان، كانت الأميرة باهرة الجمال تعيش فى العز والجاه وكان أسمها الأميرة (غرام ).
واشتهرت الأميرة غرام بجمال الوجه والقلب والأخلاق، وارتفع صيتها فى كل مكان، حتى تعدى حدود البلاد ، ولما كانت الأميرة غرام فى سن الزواج فقد تقدم ليخطبها من أبناء الملوك والأمراء من خارج البلاد وكل من له شأن ونفوذ وجاه وسلطان .
لكن والدها رفضهم جميعا، لأنه لم يستطع أحدهم الوفاء بشروطه، وقد شعر بعضهم بالإحباط واليأس فعادوا إلى بلادهم. والبعض الآخر هجروا ديارهم وافترشوا الأرض حول قصر الأميرة غرام ليتمتعوا بالنظر إلى جمالها الفتان عندما تخرج إلى الحديقة مرة كل أسبوع فى يوم الجمعة المباركة .
وكان أحد ملوك العرب هو أحد هؤلاء الخطاب ، لكن السلطان رفضه أيضا وحاول هذا الملك العربي مع السلطان كثيرا حتى يقنعه بالزواج من ابنته الأميرة غرام ، لكن كل محاولاته باءت بالفشل ، ووجد الملك – مصادفة – صورة للأميرة غرام فهام بها كل الهيام وأخذها معه راجعا إلى مملكته ، ووضع الملك صورة الأميرة غرام في صندوق ذهبي ووضع الصندوق في قصر يدعى ( قصر الخاس ).
وكان يذهب كل يوم إلى القصر لينظر إلى الصورة ،وكان المقربون منه شغوفين لمعرفة ما الذى بهذا القصر ؟
لكن لم يجرؤ أحد على سؤاله أبدا هذا السؤال ، ولاحظ ابن الملك والوريث الوحيد للعرش زيارة أبيه المتكررة لقصر الخاس ، فسأله: ماذا يوجد بهذا القصر يا أبى؟ تردد الملك قليلاً ثم قال : لا شئ يا بنى .. لا شئ .
قال الأمير : هل لي أن أزوره ؟
أجاب الملك : لا .. لا يا بنى ، إن قصر الخاس إنما هو خاص بي وحدي وأنا لا أرغب أن يطلع أحد على ما فيه من أوراقي ومذكراتي ومتعلقاتي الشخصية .
رد الأمير بأدب : أنا لن أطلع على أوراقك وأعدك ألا ألمس أي ورقة .
أراد الملك أن يثنيه عما يفكر فيه فقال له : كم هو اليوم جميلا يا بنى ... لماذا لا تمتطى جوادك وتتنزه بدلا من ذلك ؟
رد الأمير : يمكنني أن أمتطى حصاني فى أى يوم أخر ، لكنى أفضل أن أرى قصر الخاس اليوم.
هنا أدرك أن ابنه لن يتراجع عن طلبه بسهولة ، فصاح في وجه الأمير بغضب : " لا يوجد بهذا المبنى ما يخصك لتراه ... اتركني وشأني .. هيا "
كانت هذه هي المرة الأولى التى يرفض فيها الملك طلبا لابنه أو يتحدث معه بهذه القسوة ، فغضب الأمير وهدد والده بأنه سوف يلقي بنفسه في ماء البحر ليموت غرقا إذا لم يسمح له والده برؤية القصر ، كان الملك يعرف أن الأمير لا يجيد السباحة أو فنون العوم، بل انه كان يخشى الماء دائما منذ طفولته .
شعر الملك بالرعب من الفكرة الغريبة التى هدده بها ابنه، وقال فى نفسه : إن ابنى لم يزل صغيرا ولا يدرك قيمة الحياة ولا يعرف الفرق بين الموت والحياة ، ومن الأفضل أن أعطى له مفتاح القصر وأمنعه من هذه الفكرة المجنونة الطائشة .
ورضخ الملك أخيرا لابنه الأمير وأعطاه مفتاح القصر، فأسرع على الفور إلى قصر الخاس بمجرد أن حصل علي المفتاح من أبيه الملك .
فتح الأمير بوابة القصر، فوجد سبعة غرف كل منها تؤدى إلى الأخرى، ذهب الأمير ودخل الغرفة الأولى والثانية والثالثة ، لكنه لم يجد شيئا غريبا يلفت نظره، لم يكن بالغرف سوى الأثاث .
استمر الأمير يفتح الغرفة الرابعة والخامسة حتى وصل للسابعة، فوجد صندوقا ذهبيا ، اقترب ببطئ من الصندوق الذهبي وفتحه بهدوء ....عندما فتح الأمير الصندوق وجد صورة " الأميرة غرام "هذه الأميرة الرائعة الجمال ، الفاتنة فلم يصدق أنه يوجد كل هذا الجمال في فتاة على وجه الأرض ، ظل ينظر للصورة مندهشا وهو مأخوذ بجمالها وقد سحره سحرها الذي يطل من الصورة .... فسأل نفسه فى تعجب : ترى من هذه الجميلة الحسناء ؟ وأين تسكن ؟ وما علاقة والدي بهذه الصورة وصاحبتها ؟ وهل لهذا السبب رفض والدي فى البداية أن آتي لهذا القصر أم لسبب أخر ؟
وهكذا ظلت الأسئلة تنبش وتنبش فى عقل الأمير وتزيد من حيرته وهو لا يعرف إجابة لأي سؤال . فقال فى نفسه لابد أن أسال أبي الملك عنها .. فلا أحد يعرف الجواب غيره .
وأخذ الأمير صورة الأميرة من الصندوق الذهبي وذهب إلى والده فى الحال وسأله عنها باحترام : ترى يا أبي من تكون هذه الفتاة الباهرة الجمال ؟
لكن الملك لم يجب على ابنه وانتزع منه الصورة وقال له بغضب يأمره : إن هذا الأمر لا يخصك ، فلتذهب إلى شأنك ودعك من هذا الأمر .
أدرك الأمير بذكائه أن والده لن يجيبه على أي سؤال أخر ، وأن الجدال معه لن يصل منه إلي نتيجة سوى مضيعة الوقت وغضب والده عليه .
فترك الأمير حجرة والده الملك فى أدب جم دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، وعاد إلى حجرته ساهما حزينا شارد الخاطر وكسيف البال لأنه لم يصل إلى أي معلومة عن صاحبة الصورة التى سحرته بجمالها وقال فى نفسه : إذا كانت هذه هي صورتها فما بالى بها في حقيقتها ؟ إن حقيقتها جمال وخيال .
وظل يفكر فى الأمر فى نفسه طيلة الوقت حتى مرت الأيام والأسابيع والشهور دون أن ينسى أبدا ولا استطاع أن ينشغل بأي شئ أخر ينسيه هذا الأمر .
صار الأمير حزينا ساهما شاحب اللون، ولم يعد ينضم إلى أصدقائه كما كان ، وإذا ما أصر أصدقاؤه على صحبته معهم ، صاحبهم بجسده فقط لكن خياله وروحه كانتا تهيم دائما فى دنيا أخرى وعالم بعيد مع صاحبة هذه الصورة، والأسئلة الحيرى فى نفسه لا يعرف لها جواباً .
لاحظ الملك أن ابنه قد تبدلت أحواله من حال إلى حال وكان الملك َفطِنا، وقد فهم سر ابنه فتعذب لأجله، ولم يشأ أن يشقيه مثله، ولم يستطع حل المشكلة فالأب يحب صاحبة الصورة ، وها هو الابن أيضا منذ رآها وقد هام حبا بها ... واحتار الملك ماذا يفعل ... وأخذته الشفقة على ابنه ذات يوم وناداه بحنان : يا بنى مالي أرى حالك يسوء كل يوم ، وتفقد نضارتك وصحتك .. وكل هذا من أجل شئ مستحيل فإن التي تحبها صعب الوصول إليها .
إن الكثيرين أمثالك يحبونها وتعذبوا من أجلها وتقدم لها من الخطاب من السلاطين والأمراء ما يستعصى على الحصر ، وكلهم تمنوا الفوز بها لكنهم فشلوا جميعا ... لذا أنصحك أن تكف عن التفكير فيها ، و إلا فقدت صحتك وضاع عمرك هباء .
وكان الأمير ينصت تماما إلى حديث والده حتى فرغ منه، لكنه وكأنه لم يسمع شيئا فإذا به يسأل والده الملك : " لماذا لم تخبرني عن اسمها " ؟
تنهد الملك وقال : اسمها الأميرة " غرام ". عاد الأمير يسأل : من هي ؟ وأين تكون ؟ أجاب الملك فى يأس إنها ابنه السلطان فى بلاد بعيدة ما وراء نهر الفردوس الأعظم .. بلاد غير بلادنا ... وناس ليسوا مثلنا ... إننا طيبون يا ولدى ... ولا طاقة لنا بهذا الأمر .. دعك منها، وصمت الملك قليلا وتنهد ثم قال :" تذكر نصيحتي يا بنى .... أنا قلبي مشغول عليك " ولم يقل الأمير شيئا لوالده الملك ، وفى صباح اليوم التالي ذهب الأمير إلى أمه ، وانحنى على يدها فقبلها ثم سألها حاجته إلى بعض المال، وجواد للقيام برحلة لبلاد بعيدة وراء نهر الفردوس الأعظم.
اندهشت الأم وخافت على والدها وحاولت أن تقنعه بعدم القيام بتلك الرحلة ، لكن حديثها كله لم يثنه عن عزمه فيما بات ليلته كلها يفكر فيه .
فأخبرت والده الملك فيما يصر عليه ولدهما ، لكن جهود الملك باءت بالفشل أيضا ولم يستطع أحدهما أن يقنع الأمير بالعدول عن هذه الرحلة الصعبة .وأخيرا رضخا للأمر الواقع .
فأعطى له والده الجواد وكل ما يحتاجه من مال وأربعين عبدا ، فركب الأمير الجواد وصحبه العبيد ، وانطلق الأمير خارج حدود مملكة والده.
صار الأمير وحيدا في رحلته ، وقضى أياما وليال عدة فى الصحراء ، يفترش الأرض سريره كل مساء ، وفى الصباح يكون السرج مقعده .
ومرت عدة أسابيع على هذا الحال ، وأخيرا وصل إلى بلاد الأميرة غرام ما وراء نهر الفردوس الأعظم .
لم يكن الأمير يعرف أحدا بالمدينة ، ظل يطوف بالمدينة دونما هدف حتى قابل امرأة عجوز تسرع إلي منزلها فسألها : هل لك أن تدليني على مكان أقضى فيه الليل ؟ فسألته المرأة : إلي أين أنت ذاهب ؟
فأجاب الأمير : لقد وصلت اليوم هذه المدينة وسوف أستمر هنا لفترة لأمر ما ...
ردت المرأة : هل لي أن أدعوك ضيفا لي ؟
ففرح الأمير بدعوة المرأة العجوز، واصطحبها إلى منزلها، واستشعر فقرها الشديد فقال فى نفسه لابد أن امنحها بعض المال عرفانا بجميلها ، وقد تكون حفنة ذهب كافية .
ووضع الأمير حفنة الذهب في طبق، وقدمه لها عندما كانت تقدم له فنجانا من الشاي . سعدت المرأة كثيرا عندما رأت الذهب وقالت له : أنت لست بحاجة للبحث عن مكان آخر ، ابق معي كما تشاء.
أجاب الأمير : كم أقدر لك هذا المعروف ، إنه فوق رأسي ، لكن مشكلتي ليست فى إقامتي ، وأستطيع أن أحتمل مشاق الإقامة فى أي مكان، ردت العجوز : صارحني يا بنى ... أنا مثل أمك ... افتح لي قلبك ... ما مشكلتك ؟ ولماذا جئت لبلادنا من بلادك البعيدة ... ربما وجدت العون عندي ...
شعر الأمير بالراحة إليها، واطمأن إلي نبرة صوتها الدافئ بالحنان والحب ، وتمثلها أمه، ففتح لها صدره، وأباح لها بسره، وحكى لها قصته ، فأجابته : هون عليك يا بنى ، لست الأول ولا الأخير ، أنت واحد من كثير ممن خطبوا الأميرة ، وأنت شاب وسيم وما عليك إلا التجريب فربما كان حظك أفضل .
تنهد الأمير وقال للعجوز : آه لو أمكنني أن أراها لأسر بمرآها فكم يغلبني هواها وكم أتوق إلى لقياها .
قالت العجوز : لأنك طيب ولست بشرير فسوف أطلعك على سر خطير، لكن عدني ألا تخبر به أحدا ، فوعدها الأمير بأنه سيصون السر مهما بلغ الأمر ...
حينذاك ذهبت العجوز إلى حجرة بعيدة، وعادت في يدها مرآة مسحورة، وقالت له : أنظر فيها...!
فلما نظر الأمير كاد عقله أن يطير من الفرح والسرور فقد رأى في مرآة العجوز المسحورة أميرته الغندورة (غرام) بجمالها الفتان وسحرها الأخاذ وهي تقف فى حجرتها تتزين بالزينة وتتعطر بالعطور وتمشط شعرها الطويل كالليل ، والمنسكب على ظهرها كالحرير ، فلم يتمالك الأمير المغنى نفسه وراح يغنى :
هذه هي حجرة الأميرة
الفاتنة الجميلة .. غرام ..
هاهي تمشط شعرها الحرير
وشعرها يطير
فى الهواء العليل
وأنا قد أصابني الجنون
وأنا لن أنام من فرط الحنين
ولأن المرآة مسحورة قادرة على توصيل صورة الأميرة، فإنها أيضا أوصلت صوت الأمير للأميرة .... فلما سمعت الأميرة غرام غناءه لها، غضبت وراحت تبحث عنه ، فأطلت من نافذة قصرها ، فتدلى شعرها ووصل خصرها، فى منظر بديع، فجن جنون الأمير، و عاد يغنى بكل شعور :
يا أميرة يا ذات الشعر الطويل
والخصر النحيل .... أنا في هواك عليل .
فلما سمعت الأميرة غناء الأمير ثانية ، دون أن تراه غضبت وانزعجت وراحت تمشى هنا وهناك ولا تدرى ماذا تفعل ...
فلما نظرت العجوز في المرآة ورأت حال الأميرة غرام قد تبدل من حال إلى حال ، أخذت منه المرآة المسحورة وأخبرته ألا يزعج الأميرة فربما شكت لوالدها الملك، فأرسل بجنوده فى كل مكان يبحثون عن الشاب المغنى وربما عرفوه وقتلوه فى الحال، وهدموا للعجوز بيتها .
فاعتذر الأمير للعجوز وخاف أن يفقد أمومتها وصداقتها وقال لها بأدب جم : أنا آسف لم أقصد ذلك أبدا ، لقد كنت أغنى لنفسي وما عرفت أنها يمكن أن تسمع غنائي ، وراح بعيدا وجلس في ركن المنزل وحيدا حزينا .
حزنت العجوز لحزنه، وأرادت أن تخفف عنه همه، فذهبت إليه، تربت بحنان عليه وقالت له سأخبرك بشئ مهم، لعله يزيح عنك هذا الغم، فانتبه الأمير إليها ، وراحت العجوز تهمس بالسر : إن الأميرة غرام تمضى إلى حديقة قصرها كل يوم جمعة ، فاذهب إلى الطريق المجاور للحديقة وسوف تراها هناك .
شعر الأمير بسعادة غامرة عندما عرف هذا السر ، وظل يحصى أيام الأسبوع كل يوم : السبت ... الأحد ... الاثنين ......... اليوم هو الخميس وغدا الجمعة .. هانت يا أمير وكاد من فرحه أن يطير.
وراح يمني نفسه برؤية الأميرة غرام، ويحدث نفسه: غدا سوف أراها، وأسعد برؤياها .
ولم ينم الأمير طوال الليل ، واستشعر طوله من كثره ترقبه لانقضائه .. حتى انجلى الليل وتكشف النهار وأشرقت شمس الصباح والنهار قد لاح وزقزقت الطيور ، وزقزق مثلها قلب الأمير مثل عصفور صغير يرتعش من الفرح والخوف والسرور .
اغتسل الأمير ، وتوضأ وصلى ، وعزم وتوكل ، وتطيب بالعطور وارتدى الثوب الجديد، واتجه صوب قصر الأميرة ، فإذا بحشد غفير ينتظرون على الطريق ، فاندهش وسأل عن سر هذا الحشد فقيل له : إنهم الأمراء والعظماء الذين عشقوا الأميرة ، والأميرة بهم لا تبالي ...
وفهم الأمير أنه ليس الوحيد الذي وقع فى حب الأميرة غرام، فأشفق على نفسه من هول المشكلة، والتمس العذر لأصحابه على الطريق ، وبينما هو يفكر ، رأى بعض الخدم والحشم يخرجون من بوابة القصر، يعلنون أن الأميرة سوف تخرج الآن إلى الحديقة ، ويجب على الجميع أن يخفضوا أعينهم ويغضوا البصر ، وما إن سمع الجميع حتى أطاعوا الأمر ولكن الأمير لم يطع ولم يلب ....
مرت دقائق معدودة ، وظهرت الأميرة غرام فى موكبها محاطة بأربعين وصيفة ، اختلس الناس النظر إليها من بين فرجات أصابعهم فوق وجوههم ، لكن الأمير المغنى العربي لم يفعل مثلهم، كان حب الأمير أكبر، و شغفه بها أكثر، فلم يحذر، بل راح يتبعها و لم يصبر.
لم تكن الحديقة بعيدة عن قصر الأميرة فبمجرد وصولها فتح الخدم بوابة القصر و فى دقيقة واحدة دخلت هي ووصيفاتها و أغلقت البوابة فلم يعد فى إمكان الأمير العاشق أن يتبعها أكثر أو أن يدخل.
فأخذ يتلفت يميناً و يساراً لعله يجد شيئاً ينقذه من حيرته، وهو لا يدرى ماذا يفعل أو كيف يتصرف. و بعد معاناة و حيرة، أهداه القدر أخيراً ما لم يتوقعه، فقد وجد فى الحائط الكبير بسور القصر العظيم جزءا مكسوراً، فراح على الفور يتسلقه، و عندما اعتلاه وجد أميرته المبتغاة و نسى غضبها منه سابقاً وراح يغنى لاحقاً:
أميرتي الحسناء الرقيقة
زهرة أنت فى الحديقة
أتمناك زوجة لي وصديقة
فتعالي إلى يا رقيقة ... يا رفيقة .
سمعت الأميرة غرام صوت الغناء الذي سمعته من قبل ، قالت لنفسها : انه هو نفس الصوت ، فالتفتت حولها وكل ما يدور بخلدها أنها سوف تعاقبه على جرأته و جسارته، فكيف يصل إليها فى عقر دارها ؟
فلما وقع بصرها عليه، ورأته مادَّا إليها يديه و كأنه يستنجد بها فى ورطته، و بدا في عينيه الجميلتين حب كبير قد أسرها بسحرهما قالت فى نفسها : تبارك الخلاق و ما خلق لم أر شاباً في حسنه ولم أسمع صوتاً بمثل عذوبته
فاستشعرت ميلاً تجاهه، و تعلقت بكريم خصاله و حمدت له شجاعته وإقدامه و جسارته، ولم يكف الأمير العربي عن غنائه لما رآها تلفتت ناحيته فراح ينشد ثانية:
أسكرتني عيناك و سحرتني
يا أجمل حورية ملكتني
لا تبتعدي أبدا عنى
بل تعالىَّ إلىَّ دوماً
" تعالى إلىَّ دوماً ......
لم تكن الأميرة غرام صغيرة جداً و لا طائشة، بل كانت راجحة العقل و الفكر، عاقلة هادئة متزنة، ولم يثر إعجابها أحد خطابها قط من قبل ولكنها ، لم تستطع أن تقاوم الأمير المغنى الذي سحرها بصوته و أسرها بغنائه ، و كريم خصاله.
لم يكف الحبيبان عن النظر إلى بعضهما ، فتحولت تعبيرات وجهيهما، فَحَلَّ الحب محل الغضب على وجه الأميرة، والأمل محل اليأس على وجه الأمير، و سرعان ما أرسلت له رسالة بأن يتقدم إلى أبيها لخطبتها......
وقفز الأمير من فوق السور قفزة واحدة حتى كاد يقع وينكسر فيها قدمه أو رقبته ، لولا العناية الإلهية التى حفظته ، وأسرع إلى العجوز الحنون ليخبرها بما وصل إليه من نجاح كبير ، فهنأته ونصحته بألا يضيع وقتا وأن يسرع إلى أبيها الملك ليخطبها منه وليخبره بموافقة الأميرة عليه.
عندما أشرق الصباح وأرسلت الشمس الذهبية خيوطها الضوئية على المدينة كلها ، استيقظ الأمير وأفاق على حلم جميل تمنى لو صار حقيقة ......
فقد حلم الأمير بزواجه من الأميرة بعدما عَدَّى سبعة بحور ليصل إليها ... بث الحلم فى نفسه كثير من التفاؤل و الأمل ممتزجاً ببعض مخاوف وحذر.
ركب الأمير جواداً عربياً وأتجه نحو قصر الملك ليخطب الأميرة غرام، ولكن الملك أخبره بأن ملك " كاجار" قد سبقه ليخطب الأميرة لابنه الأمير، وأنه قد طلب منه أربعين جملاً محملين بالذهب والدر والياقوت مهراً لابنته ، و أنه سوف يأتى بعد أربعين يوماً بما طلبه منه
ساد الصمت قليلاً ثم قطعه الملك مخاطباً الأمير العربي: إذا أتيت بهذا المهر فى وقت أسرع فسوف تفوز بالأميرة.
قال الأمير: أعدك بأنني سأبذل قصارى جهدي حتى أعود بأغلى المهور لأغلى أميرات الكون ولو عديت سبع بحور ....
دعا الملك للأمير بالتوفيق، وشد على يده بحرارة لما استشعر شجاعته ومروءته و إقدامه على المخاطر من أجل عيون ابنته الأميرة الوحيدة.
لم يٌضع الأمير وقتاً، فقد كان عليه أن يذهب ليحضر المجوهرات من بلاده البعيدة، فقبل يد العجوز وشكرها وسألها الدعاء له، وامتطى جواده متجهاً إلى وطنه ، لذا فقد كان يسرع يسرع قدر المستطاع، لكن ما إن وصل إلى منتصف الطريق حتى سقط الجواد ميتاً من فرط التعب و شدة الإعياء.
احتار الأمير ماذا يفعل ؟ ورغم حزنه الشديد على موت حصانه الحبيب وشعوره بالذنب تجاهه إلا أنه قرر المسير مشياً على الأقدام تكفيراً عن ذنبه و راح طوال الطريق يستغفر ربه.
ظل الأمير يسير و يسير، يواصل الليل بالنهار حتى تورمت قدماه و لم يستطع المواصلة، هنا إذا بالأقدار ترحمه ، فأدرك أنه من فضل الاستغفار، فقد رأى من بعيد قافلة تكاد أن تدركه ، فحمد الله كثيراً و صبر حتى حطت رحالها بجواره و سأله رئيس القافلة عن حاجته ومقصده، فحكى له حكايته، فأشفق عليه و أخبره أن يصحبه إلى حدود بلاده مع رجاله فإنهم سيذهبون هناك. شكر الأمير حسن صنيع رئيس القافلة ورجالها وركب فوق أحد جمالها وسار معهم.
غير أن الطريق لم يكن مأمون الجانب في الصحراء الواسعة ، فقد هاجمتهم عصابة من قطاع الطرق الملثمين وأغاروا عليهم لسرقتهم ، دافعوا عن أنفسهم ودارت المعركة بين الطرفين وأبدى الأمير شجاعة وبسالة منقطعة النظير وهو يدافع عن القافلة ويضرب اللصوص فقتل بعضهم وأسر بعضهم وعلمهم درسا أبدا لن ينسوه ، حتى استنجدوا بشهامته وطمعوا في كرمه أن يعفى عنهم قائلين : أكرم الله من قدر وعفي ،والله خير العافين.
َفَرقَّ قلب الأمير واستأذن رئيس القافلة فى العفو عن الأسرى، وتركهم لحال سبيلهم فى الصحراء لينتظروا ما يحدث لهم، وعاد الأمير بصحبة من بقى من القافلة للسير نحو بلاده مرة ثانية ....
عندما حطوا رحالهم بعدما قطعوا شوطا من المسير طلبا للراحة قليلاً ... هاجمتهم مجموعة من الذئاب ، فأشعل الأمير النيران وراح يطلق صيحات عالية كالزئير وأمسك بالبندقية وأطلق الرصاصات بمهارة عليها ، فقتل منها من قتل وفرت بعض الذئاب الباقية .
فأُعجِبَ رئيس القافلة بشجاعة الأمير، وقرر أن يهديه هدية عظيمة تتناسب مع ما بذله معه فى رحلته من بسالة، وشجاعة منقطعة النظير .
وقرر أن يهديه عشرين جملاً محملاً بالذهب والمجوهرات الأصيلة بمجرد عودتهما إلي بلادهما .
سمع حاكم المدينة ( والد الأمير ) بوجود ابنه قرب حدود البلاد، فأرسل فَوْجاً لاستقباله استقبالا حارا يليق بهما ، وبمجرد وصول الأمير – الذي كان يصارع الزمن حتى لا تمضى المهلة المتفق عليها – أخبر والده الملك بأنه لن يبقى معهم طويلاً وأبلغه بكل ما حدث له فى رحلته وعما اعتزم عليه ، فأمر له الملك بأربعين جملا مُحَملاً بالذهب والدر والياقوت والمجوهرات الثمينة ، وفي نفس الوقت أوفى رئيس القافلة بوعده معه، فأحضر بنفسه هديته الثمنية التي وعده بها قبلا ، وسُرَّ الأمير سرورا عظيما وقرر العودة لبلاد الأميرة ما وراء الجبال والصحارى ونهر الفردوس الأعظم.
فى الصباح التالي شد الأمير رحاله مع قافلته المهيبة ، فى هذه المرة كان الطريق أكثر يسرا عما سبق ، وأمر الأمير الخدم أن يسيروا في رحلتهم ليلا ونهارا إنقاذاً للوقت ، وأمرهم بالتناوب فى النوم: بحيث تكون جماعة منهم يقظة أثناء نوم الجماعة الأخرى وهكذا حتى لا يتعبون .
ومرت الأيام فى هذه الرحلة الطويلة الشاقة حتى جاء صباح اليوم الحادي والأربعين والأمير قد فرغ صبره ، وخاف علي أميرته أن تذهب لغيره ..
عندما دخلوا المدينة سأل الأمير أول شخص قابله بها : هل هناك أية أخبار عن الأميرة غرام ابنه الملك ؟
فأجابه : نعم حضر ابن ملك " كاجار " ومعه الأربعون جملاً المحملة بالجواهر ، وقدمها مهرا للملك وسوف يتزوجها في قصره بمملكة كاجار .
حطم هذا الخبر قلب الأمير المُغَنىَّ، وعذبه عذابا لا حدود له، ولم يدر ماذا يفعل بعد كل المشاق التى تحملها لأجل عودته من أجلها، وقال فى نفسه : هذا مستحيل ، لا أصدق أنها سوف تفعل ذلك أبدا ، ولابد أنها أُجبرت علي الزواج منه ، أنها تحبني أنا ، ووعدتني أنا .... وسوف أحارب من أجلها حتى أخر يوم فى عمري .
أمر الأمير العربي الخدم بان يضعوا الستين جملاً المحملين بالذهب والمجوهرات فى القصر وأن يخبروا الملك بأنه أحضرها وزيادة من أجل الأميرة كما وعده ، ولم يشعر برغبة فى مقابلة الملك وأراد أن يختصر الوقت وأن يفكر بسرعة ماذا سيفعل ؟
وعلى الفور قرر الذهاب إلى مملكة كاجار فامتطى جواده وسأل الناس على الطريق وانطلق طوال النهار حتى حل الظلام ، حينذاك كان قد وصل إلي مفترق طرق ولم يعرف فى أي طريق سارت قافلة الأميرة ومعها ابن ملك كاجار ، فنزل من فوق جواده وبقى ساهرا طوال الليل حزينا ، خيل إليه أن القمر المتربع على عرش السماء كان حزينا لأجله أيضا كانت الوحدة والحزن ووحشة الصحراء كافية بأن تذهب عنه النوم تماما أو حتى التفكير فيه .
رفع يده للسماء طالبا الرحمة من الأقدار مناجيا القمر والنجوم، وراح يغنى كعادته وكأنه ينادى على محبوبته وأميرته غرام :
وصلت إلي مفترق الطرقات
وقلبي ينفطر من التنهدات
وأسأل عنك يا أميرتي القمر والنجمات
فأين أنت يا أميرة الأميرات
تعالى إلى وأعيدي لعمري البسمات
ظل الأمير يغنى ، ويتذكر الماضي ويتأمل الحاضر ويتطلع إلى المستقبل ، يتذكر الأحداث الحزينة فيتشاءم ويحزن، ويعود ليتذكر الأحداث السارة فيتفاءل ويفرح ، وأخيراً حَدَّثَ نفسه : دوام الحال من المحال ، ودعا الله أن يدبر له أحواله، وتوكل عليه ونام عندما غلبه الهَمَّ والتفكير وقال لنفسه : لها رب يدبرها ......
أثناء نوم الأمير خرج عليه لص الجبل الذي يسكن هذا المكان ليسطو علي القوافل المارة بهذا الطريق، وتوجه إليه وطعنه في قدميه بسيف ، صرخ الأمير وقام مفزوعا من نومه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم .....
فوجد اللص أمامه يقول : أعطني ما معك من مال ؟
أجابه الأمير : لو كانت معي أموال ما نمت أمامك على هذا الحال !
سأله اللص : إذن ماذا تفعل هنا ؟
حكى الأمير للَّص عن حكايته كاملة، حتى تأثر اللَّصُ وأَذْرَفَ الدموع لأجله، وأشفق عليه وكف عن تهديده ، وقال له : خذني أخاً لك وسوف أساعدك قدر استطاعتي .
تصافح الأخان فى مودة صادقة ، وأخبره الأمير : من الآن وحتى نهاية حياتنا وأنت أخي .
ضمد الأخ الجديد جرح الأمير، وركب الاثنان الجواد وانطلقا معا .
عندما أرسلت الشمس أول أشعتها ، كانا قد تركا هذا المفترق حتى وصلا إلى القافلة ، قال أخو الأمير : يجب عليك أن تبحث أولاً عما إذا كانت تحبك وما زالت تريد الزواج منك ،
غَنَّ ، فإذا كانت لا تزال تتذكر صوتك ستعرف أنك هنا وستخبرك بالأمر .
بدا اقتراح أخي الأمير اقتراحا جيداً ، فأرسل الأمير المغنى رسالة للأميرة وهو يغنى :


يا أميرتي الجميلة
يا ذات الشعور الطويلة
ها أنذا هنا بلا حيلة
ما زلتُ أهواك يا أصيلة
لكن ما باليد حيلة
أخبريني ما الوسيلة ؟
سمعت الأميرة صوت محبوبها الأمير العربي ، تذكرته على الفور ، وكم كانت هى الأخرى بشوق أن تسمعه ، وفهمت الرسالة وراحت تغنى هي الأخرى :
عندما يأتي المساء
يدبرها رب السماء
وأمرت الوصيفات أن يرددن خلفها هذا المقطع الغنائي.
وعندما حل المساء وسكن الكون وستره الظلام ، أرسلت وصيفتها المقربة إليها له ومعها وعاء طعام مدسوس فيه رسالة ،وفتح الأمير الرسالة بشغف بالغ وخوف يمتزج بالأمل وقرأ :
عزيزي وأميري :
" أرجو أن تفهم أن ما حدث كان خارجا عن إرادتي ،اصبر حتى النهاية، وتتبع القافلة فإن هناك بعض الخطط ستأتي في حينها ".
حبيبتك غرام
شعر الأمير بالراحة ، واستبشر خيراً، وأخبر أخاه الذي أكد له أن الأميرة مازالت تحبه، وما زالت على عهدها معه، وأخبر وصيفتها بأنه سيتبع القافلة أينما سارت ، وأينما حلت رحالها .
وفي الصباح الباكر رحلت قافلة كاجار ، فذهب الأمير وأخوه بالتبني خلفها .
كان زوج الأميرة المنتظر هو حاكم إحدى المقاطعات في مملكة كاجار، حيث تقيم زوجته الأولى هناك ، وعندما عاد والده أخبره بأنه لابد من الذهاب إلى مملكة الأميرة غرام خلف الجبال لعقد قرانه الثاني ، وفى الوقت نفسه نُقِلَت الأميرة غرام إلى قصر أعد خصيصا لزواجها تقيم فيه مع وصيفاتها ، أما الأمير المغنى فقد أقام بأحد الجوامع القريبة لقصر الأمير حتى يسهل الاتصال بها .
بينما كان الزوج المنتظر أمير كاجار يُعِدُّ نفسه للزواج ، كانت زوجته الأولى تشتعل غضبا، فقررت الانتقام منه بسبب رغبته فى الزواج من أخرى ، فدبرت مكيدة لقتل الزوجة الثانية غرام وهى الأميرة ( العروس ). قامت زوجته بوضع السم فى بعض التفاحات، وطلبت من زوجها الأمير أن يأخذ التفاحات هدية منها إلى خطيبته الأميرة، لتثبت لها أنها تبارك زواجهما.
رحل أمير " كاجار " ، وفى طريقه إلى مملكة المغول شعر بالجوع الشديد فأكل بعض التفاحات وقال فى نفسه بأنه سوف يستبدلهم بأخريات عند وصوله ، وبعد أن أكل الأمير التفاحات شعر بتعب شديد وألم فظيع يتزايد، حتى سقط مغشيا عليه ثم مات في الحال .
نظر إليه جواده وهو لا حراك فيه، فرجع وحده إلى مملكة كاجار ، عندما رآه الناس، بدأوا يتهامسون وراحت العسكر تتحرى الخبر حتى وجدوا (جثة) الأمير ، فرجعوا وأخبروا الملك والملكة بتلك المأساة ، انتشر خبر وفاة أمير كاجار فى كل الأنحاء حتى وصل الأمير المغنى ومحبوبته الأميرة ولم يفهما ما حدث، لكنهما استيقنا أنها إرادة الأقدار ، حَزِنَا بالطبع لهذه المفاجأة لكنهما فرحا لنجاحهما الخاص .
كان الأمير العربي والأميرة قد جمعا أمتعتهما استعدادا للرحيل، استغرق ذلك مجهودا كبيرا من الأميرة، حتى شعرت بالنعاس وراحت فى نوم عميق .
وفى المساء حيث الجميع نيام ، انتظر الأمير العربي الأميرة غرام حتى تفتح له الباب ، لكنها لم تفتح ، فراح يغنى لها حتى يوقظها :
نست الأميرة موعدنا للرحيل
وراحت تغط فى نومها الطويل
هل لا تريد زواجنا المأمول
استيقظي يا ذات الشعر الحرير
سمعت الأميرة غرام صوت الأمير، فقامت وفتحت له الباب على الفور ، قام الأمير وأخوه بالتبني بمساعدة الأميرة لاعتلاء جوادها، وانطلق ثلاثتهم حتى وصلوا إلي منزل الأمير العربي ، وقضوا الليل هناك .
كان الوقت عذبا وممتعا، حيث اجتمع الثلاثة فى صحبة جميلة ، وصوت ركل الجواد وصهيله يرتفع فيملأ المكان ويتردد صداه .... راح الأمير ( عاشق الغناء ) يغنى ثانية :
وداعا يا أحزانى
وداعا يا حرماني
زماني أهداني
حبيبة العمر
ورحلنا عند الفجر
وقهرنا الأعادي
ظلوا سائرين يتمتعون بمناظر كثيرة جميلة خلابة تمر بهم ، فلقد انعكست سعادتهم على كل الأشياء حولهم فرأوها جميلة تبعث على السرور والانشراح .
ظهر أمامهم قطيع من الجمال كانت ترعى فى الوديان ومعها راعيها وكان ينفخ فى المزمار ويغنى المواويل الجميلة ، أثار هذا المشهد مشاعر الأمير وخيالاته وشعر بأنه يمر بأسعد لحظة فى حياته وراح هو الأخر يغنى لأميرته
أميرتي .. أيتها الأرملة الصغيرة
انظري كل هذا الجمال
وقطيع الجمال
وفروع النهر الكثيرة
وتدفق المياه غزيرة
ومحبتي إليك الوفيرة
سألت الأميرة بغضب : متى تزوجت حتى أصبح أرملة ؟
أجاب الأمير : لا تأخذي على كلامي .. أنها مداعبة .
وصَمَتَ الكون .. صمتت كل الأشياء بعد هذا الحوار القصير، ولم يبق إلا صوت حوافر الجياد علي الأرض ، وإذا براعي غنم يقطع هذا السكون صارخا :
" أمسك ... أمسك ... "
والتفت الثلاثة إلى مصدر الصوت، فوجدوا ذئبا ينقض على أحد النعاج ، وكان للأمير العربي خبرة كبيرة بالصيد ، وبمجرد أن رأى هذا المنظر استعاد خبرته الماضية وصاح : دعنى أمسكها لك ، قام وقفز فوق جواده وانطلق خلف الذئب ، فهرب الذئب بين الجبال والوديان ، وكان الأمير وكلب الراعي خلف الذئب حتى وصل إليه، ارتعب الذئب وفر هاربا تاركا فريسته .
عندئذ كان جواد الأمير قد أنُهِْكَ من مطاردة الذئب، ولم يحتمل فوقع على الأرض ميتا،ً اضطر الأمير إلى أن يسير على قدميه ما قطعه- قبلاً- وهو راكب جواده ليلحق برفاقه، وراح ينعى وفاة حصانه وهو يغنى:
قد يكون علامة لسوء حظي
أن يموت جوادي منى
تعالى يا أميرتي لآخذك إلى دياري...
تعالى يا حصاد أزهاري
ولم يبق غير وقت قليل حتى ينضم إلى رفاقه، فلمح قطيعاً من الجمال يرعى في جانبي الوادي فأراد أن يطلع الأميرة و أخاه بالتبني على هذا المشهد الجميل فمضى يغنى:


من صخرة لصخرة
تتجمع الجمال لتتغذى
كم جميله وهى حرة
كم فى حياتنا من لذَّة
يا أجمل زهور الحديقة
يا أميرتي الرقيقة
و أخيراً انضم إلى رفيقيه، و حزنا حزناً شديداً عندما أخبرهما بموت جواده، فعرض عليه أخوه بالتبني أن يأخذ جواده ويكمل هو الطريق ماشياً على الأقدام لكن الأمير رفض، فأصر أخوه على ذلك إصراراً شديداً، فوافق الأمير بشرط أن يركبا معاً على جواده ، واستأنف الجميع الرحلة ، وسافروا طيلة يوم كامل، و فى المساء أقام الأمير خيمة بمقربة (جبانَّه) وراح فى نوم عميق، قام أخوه بمساعدة الأميرة فى إعداد الطعام للأمير، و لما انتهت الأميرة من إعداد الطعام قامت بالنداء على الأمير بالغناء – هى أيضاً- حتى توقظه:
أشعلت الأميرة النيران
لطهي الطعام
لكن أميرها الهمام
غلبه النوم فنام
هل تسمع صوتي .... يا أميري العربي؟
هيا إلى الطعام ... هيا إلى الطعام
استيقظ الأمير على صوت الأميرة و تناولوا جميعاً الطعام ثم ناموا، بمجرد طلوع الفجر قاموا متجهين إلى مملكة الملك العربي والد الأمير.
تعب الجميع من عناء الرحلة و طول السفر، و فى الظهيرة كانوا قد وصلوا إلى حدود المملكة، لكن اتساع الصحراء من حولهم زادهم شعوراً بالإرهاق و الملل فارتاحوا قليلاً....
رأى الأمير قطيع الغنم على جانبي الوادي، فنادى على الراعي وسأله: لمن تكون هذه الأغنام؟ فأجابه الغنام: لملك العرب، فأخذها منه و قدمها الأمير العربي للأميرة هدية فى أغنية:
ألوف القطيع من الأغنام
إليك يا ملاك أحلامي
روحي و أملاكي
فداكي .... فداكي
انطلق الجميع ثانية حتى وصلوا لقمة الجبل، فلفت نظر الجميع قطيع من الماعز يرعى على الأعشاب، فنادى على الراعي و سأله: لمن تكون هذه الماعز؟ أجابه الرجل: لملك العرب، فقدمها الأمير العربي للأميرة هدية، وانطلق الجميع ثانية حتى وصلوا لمكان خال، فَلَمَح الجميع قطيعاً من الجمال يأكل من بعض الشجيرات الصغيرة، فنادى على الراعي وسأله: لمن تكون هذه الجمال؟ فأجابه الراعي: لملك العرب. فقدمها الأمير العربي للأميرة فى أغنية رقيقة:
من الجمال مائة
و مائة من الرعاة
أقدمهم لأميرتي الحسناء
بإذن الله ....
ألف حمد لله .... فى علاه ... فى علاه
مَرَّ وقت قصير حيث رأى الأمير بعض الجياد ترعى، أدرك الأمير أنه وأبوه الملك سيقدمونها إلى الأميرة هدية، فقال الأمير للأميرة مغنياً:
حدائقي و أرضى ... بلدي و تاجي.
روحي و قلبي كلهم فداك ... فداك .
يا حبيبتي ... يا ملاكى .. يا ملاكى .
بذلك كان الجميع قد وصلوا إلى العاصمة، فرآهم بعض الناس، فأسرع رسول بنشر الخبر فى جميع أنحاء المدينة، فخرج جميع أهلها لاستقبالهم استقبالاً حاراً و أوصلوهم إلى القصر.
عند وصول الأمير إلى القصر، قام بتقديم الأميرة و أخيه بالتبني إلى والديه الملك و الملكة، و حدثهما عن المعروف الذي أسداه له أخوه بالتبني، فقال له الملك: أنت من الآن فصاعداً أبنى أيضاً، و ضمه إلى صدره، و رَبَتَ عليه، و قَبلَّهُ في حنان أبوي خالص.
كان اللص – قديما – قد تاب منذ تعارف إلى الأمير، واستشعر كريم خصاله، واندمج فى أسرته الجديدة و كأنه فرد منها.
بعد أيام قلائل، أقيم احتفال كبير بهيج لزفاف الأمير المغنى على أميرته الحسناء الجميله ، و الأخ بالتبني على أخت الأمير في نفس اليوم .
و استمرت الاحتفالات طيلة أسبوع، و قدمت أشهى الأطعمة، و امتدت الموائد لكل أهل المدينة، و البلاد المجاورة، ارتفعت حناجر النسوة بالزغاريد، ورفعت الأعلام، والرايات و عاش الجميع فى سعادة وهناء، وأنجبوا البنين والبنات، حتى أتاهم هادم اللذات و مفرق الجماعات.
و تلك كانت حكاية من أفغانستان.
أتمنى لو أعجبتكم.
وهكذا ختمت جدتي الحكاية، إنها دائماً تختمها بالتبات والنبات، وخلفه الصبيان والبنات، و نحن سعداء دائماً بهذه الخاتمة التى لا تتغير أبداً، و التى لا نحب أن تتغير أبداً، بل ننتظرها بشوق بالغ و لنسأل جدتي ... عن حكاية جديدة من حكاياتها المشوقة و التى لا تنتهي ( رحم الله جدتي الكريمة ) .
رحلت جدتي – رحمها الله – و بقيت حكاياتها محفورة فى وجداننا نحكيها لأطفالنا، وللأجيال القادمة، ليحكوها هم أيضاً لأطفالهم، وهكذا يظل معين الأدب الشعبي نضاحاً، دائماً، ولا ينضب أبداً.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف