د. محمد ناصر
اتجاهات الصهيونية نحو الفلسطينيين
تنبع اتجاهات الصهيونية نحو الفلسطينيين مباشرة من الجذور الفلسفية و السياسية للبرنامج الصهيوني تجاه أرض فلسطين . ورغم أن النشاط الصهيوني المبكر، فضلا عن النشاط الإسرائيلي المعاصر ، كان مبنيا دائما على كيفية تصور الحركة الصهيونية للفلسطينيين ، فإن هذه الدراسة ستحاول الدخول في تفاصيل برامج ونشاطات محددة . وبالمثل فان العوامل الاقتصادية و السياسية التي تفاعلت مع الحركة الصهيونية تمت مناقشتها عرضا فقط . فهذه الدراسة تستهدف تحليل التطور التاريخي للاتجاهات الصهيونية نحو الفلسطينيين . ولأغراض التحليل ، قسمت الحركة الصهيونية إلى مكوناتها الفلسفية الثلاثة الرئيسية , فأولا, سوف يتم وصف أسلوب التيار الرئيسي الليبرالي الغربي, وثانيا وثالثا , سوف نلخص الاتجاهات الاشتراكية والمتشددة ، وأخيرا ، سوف نستكشف الاتجاهات الإسرائيلية المتضاربة والمختلفة نحو منظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين في الأراضي المحتلة . ونأمل أن يؤدي الكشف عن الأسس التاريخية للاتجاهات الصهيونية إلى توضيح بعض التناقضات والخرافات التي تحيط بالعلا قات الإسرائيلية - الفلسطينية المعاصرة على الأقل .
أولا : مشكلة الأغلبية الفلسطينية ... في فلسطين
تتضح الاتجاهات الصهيونية والمخططات البعيدة المدى نحو فلسطين الفلسطينيين بشكل جلى في قصة رمزية اعتاد الزعيم المتشدد. المعروف فلاديمير جابوتينسكي , أن يرويها :
أنت تدخل ديوانا يحوي ثمانية مقاعد في عربة سكة حديدية حيث مقعدين مشغولان . قد تقلق راحة شاغلي المقعدين , لكنك لا تضرها , وهما في نهاية الأمر سيقبلان القادمين الجدد (1) .
جادل جابوتينسكي أن الفلسطينيين , مثل راكبي ديوان عربة السكة الحديد سوف يقبلون الصهيونيين في فلسطين في نهاية الأمر. وبالطبع فان هذه القصة البادية البساطة الممعنة في التضليل مبنية على عدة مغالطات فاضحة .
فأولا - إذا كان المعني بشاغلي المقعدين فضلا عن المقاعد الثمانية - كما هو واضح أنها تعني - الإشارة إلى الفلسطينيين وأرض فلسطين ء فان سبعة مقاعد من كامل المقاعد الثمانية كان يشغلها أو يملكها بالفعل فلسطينيون . ثانيا - تعتم القصة بعفوية على الحقيقة الأساسية , وهي أن الصهيونيون كانوا ينوون دائما أن يصبحوا الأغلبية ، وأن بقاء الفلسطينيين _ إذا تم احتماله أصلا – سيكون على كره من الصهيونية .
ومنذ بداية الحركة في !لقرن لتاسع عشر و حتى الوقت الحاضر ,.كانت اتجاهات ونشاطات الصهيونية نحو الفلسطينيين ثابتة وتكاد لا تتغير. وسواء تأسست أيديولوجياتهم السياسية والاجتماعية على أسس ليبرالية أو اشتراكية أو متشددة , اتخذ قادة الصهيونية مواقف متماثلة أساسا أو على الأقل متكاملة تجاه الفلسطينيين . وفي العقود السابقة ومنذ إنشاء دولة إسرائيل كانت اتجاهات الصهيونية ونشاطاتها نحو الفلسطينيين مبنية على الحافز الأساسي للحركة . فالصهيونية , كما تم تصورها والإعلان عنها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، لم تكن تهدف إلى إنقاذ اليهود من الإبادة , بقدر ما تهف إلى إنقاذهم من فقد هويتهم . ومن ثم فان دولة الشعب اليهودي كانت - ولا تزال - ضرورية جدا لبقاء الشعب اليهودي . واعتبر اليهود الاستيعاب دائما العدو الأساسي (2). إذ المذابح دعمت فقط مخاوف الصهيونية القائمة من زمن طويل بان المجتمعات اليهودية في جميع أنحاء العالم ، وخاصة في الغرب ، سوف تختفي من خلال عملية استيعاب تدريجية .
وبعد أن انتهى زعماء الصهيونية إلى أن وجود دولة أم وحده , يكون اليهود فيها أغلبية , يمكن أن يضمن بقاء الشعب اليهودي ، كان عليهم أن يعالجوا المشكلة الصعبة وهي أين ينبغي أن تكون هذه الدولة . وبعد جدل طويل , قررت الأغلبية أن فلسطين , أو " أرض دولة إسرائيل " القديمة ، وهي الموقع الوحيد الذي ينبغي أن تنشأ عليه الدولة اليهودية . وفي كلمات الكاتب اليهودي أمنون روبنشتين :
" لم تتم المطالبة بأرض إسرائيل - المهملة وغير الممتلكة جزئيا - بسب قدسيتها الدينية ,
بل لأن هذا كان الوطن الوحيد الذي عرفه اليهود دائما , ومنه طردوا وبذكراه كانوا دائما
يتشبثون " (3) . لقد دفع الصهيونيون دائما بأن " تشتت " اليهود بين الشعوب كان أسوأ كارثة مني بها
الشعب اليهودي , وبالعكس , فان جمع كل اليهود في دولة خاصة بهم يشكل عملية إيجابية و إنقاذا
للحياة (4) .
ولقد ذهب بعض الصهاينة بعيدا إلى حد تبرير القول بأن إنشاء إسرائيل مكن اليهود من تحرير أنفسهم من الآثار السلبية والاستيطانية لتجاربهم الغربية (5) . وبعبارة أخرى , فانه بالنسبة لبعض الصهاينة , يتفق اليهود مع أسلوب الاغتراب الاستيطاني الذي تحدث عنه قانون , وغيره من مفكري العالم الثالث . وبالنسبة لهؤلاء الصهاينة , أصبح اليهود متحررين حقا من الآثار المفسدة المدمرة لحياتهم كأقليات في الغرب ، بعد إنشاء دولتهم الخاصة , حيث المؤسسات من !بداع اليهود . ورغم أن معظم الصهاينة لم يمضوا في تحليل العلاقات المتبادلة بين الحياة اليهودية في الغرب وضرورة الدولة اليهودية إلى هذا الحد , إلا أنه من المؤكد أن الحركة الصهيونية منذ الأيام الأولى لوجودها تؤيد الفكرة القائلة أن دولة إسرائيل , ككيان
يهودي مستقل , تعتبر حيوية لبقاء الشعب اليهودي .
وبالنسبة للصهاينة ، كانت حقائق أن أغلبية شعب فلسطين لم يكونوا يهودا ، وأن أغلبية أرض فلسطين كانت مملوكة للعرب الفلسطينيين من غير اليهود , مجرد حجر عثرة تهدد مسيرتهم المقررة نحو إنشاء دولة إسرائيل . ورغم التناقص الذي لا مناص منه بين أهداف الصهيونية ووجود الفلسطينيين , تم التغاضي عنه علنا , أو عتمه الصهاينة والقوة الاستعمارية ، إلا أن القادة الصهاينة أنفسهم لم يكونوا متحفظين في توضيح نواياهم نحو الفلسطينيين . فقد عمد الشاعر ناتان الترمان إلى تغليف الصراع بالمعاني التالي :
إن صراعنا مع الفلسطينيين ليس على اسم , بل على دولة , انه ليس صراعا على حقوق متساوية ، بل على حقنا في الحياة كأغلبية في مكان واحد من العالم (6).
لقد تذكر زعيم حزب العمل الحالي شيمون بيريز، مؤخرا , مشاعر الترمان في كتابه عن مؤسسي الدولة فقال :
إن مسألة الحقوق الوطنية للفلسطينيين وملكية الأرض , كانت وستظل , ثانوية ، إذا لم تكن هامشية تماما بالنسبة للمطالب الصهيونية بدولة يهودية . وأن القول بأن الادعاءات اليهودية تتخذ أسبقية أدبية , وأن على الفلسطينيين أن يخضعوا مطالبهم لادعاءات اليهود , قد روج له صهاينة بارزين مثل صول بللو , الكاتب الروائي الحاصل على جائزة نوبل , والمؤرخة باربارا توكمان (7). وفكرة " التفضيل " هذه ، أو " المطالب الوطنية السامية " تتردد في كثير من الأدب الصهيوني . إن ضرورة الدولة اليهودية ومطالبها الأدبية السامية كانت هي الأسس التي بنيت عليها التصرفات الصهيونية التالية نحو الفلسطينيين . وهناك سياسات صهيونية محددة نحو الفلسطينيين تعكس الاتجاهات الأساسية الثلاثة داخل الحركة . وحتى أخيرا جدا , سيطرت سياسة الليبراليين , ومعظم الصهاينة الغربيين , خاصة وايزمان وزعماء حزب العمل بن غوريون ومئير وبيريز , على الحركة وعلى الدولة اليهودية . واتخذ التيار الاشتراكي , الذي يقوده بوروشوف ويتحقق من الكيبوتس , اتجاهات مختلفة قليلا تجاه الشعب الفلسطيني وتجاه ملكية الأرض . ومنذ إنشاء دولة إسرائيل المستقلة , فقد التيار الاشتراكي الكثير من نفوذه السابق . وأخيرا ، دائما ما لعب المحافظون الذين يسمون بالمتشددين بزعامة جابوتينسكي وبيغن و شامير , دورا هاما في صياغة السياسات تجاه الفلسطينيين . ومنذ عام 1977 , أصبح المتشددون قوة رئيسية , إن لم تكن أساسية في تصرفات إسرائيل إزاء الفلسطينيين وأرض فلسطين . ولقد أستمر زعماء الصهيونية , كما استمرت مطبوعاتهم , في تحاشى مواجهة الجذور لتاريخية والأيديولوجية للصراع مع الفلسطينيين , عن طريق رفض جميع الزعماء الوطنيين الفلسطينيين واتباعهم , باعتبارهم " إرهابيين " (8) . ورغم أن مئير , مثل معظم الصهاينة , كانت تتحاشى عموما استخدام لفظة " فلسطينيين " , إلا أن اتجاهها نحوهم ظل بدون تغيير منذ قدومها إلى فلسطين عام 1921 وحتى وفاتها عام 1978. أن خصومها الفلسطينيون أو " العصابات " في العشرينات والثلاثينات أصبحوا " إرهابيين " في الستينات والسبعينات وهم بالنسبة للزعيمة الإسرائيلية , ينبغي محاربتهم وإزالتهم . والفلسطينيين عموما لا يوصفون بأنهم كيان منفصل وسط الكيان الأكبر , وهو العالم العربي , وإنما لا يمكن تمييزهم عن المجموع العربي , الذي تم نصوره أيضا كتهديد " إرهابي " لدولة إسرائيل . والأهم , أن تجاهل الكيان الوطني الفلسطيني والرفض المطلق لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها شبكة إرهابية غير شرعية , قد مكن إسرائيل عموما من تحاشي مواجهة القضية الأساسية , وهي حق الفلسطينيين في تقرير المصير . ومن جهة أخرى , من المذهل أن نلاحظ مدى الجهد والجدل الذي بذله الإسرائيليون نحو محو ما يسمى الكيان الفلسطيني الذي لا وجود له , في عرفهم .
ورغم أن كثيرا من الصهاينة فضلوا التقليل من المشكلة المحتملة التي يمثلها وجود أغلبية عربية فلسطينية في فلسطين , تنبأ الكاتب الصهيوني , أحاد هاعام , الذي سافر إلى فلسطين في عام 1891 ، بأنه ستكون هناك متاعب عندما هدد اليهود بأن يفوقوا الأغلبية العربية الفلسطينية عددا (9). وقد وجد هذا الاتجاه تأييدا بين البريطانيين وبعض الأمريكيين المتعاطفين (10) . والواقع أن واحدة من أهم مساهمات وايزمان الكبيرة للحركة الصهيونية كانت قدرته على صياغة سياسات صهيونية تتناسق مع المصالح الاستعمارية البريطانية في المنطقة . الزعماء الإسرائيليون التالين كانوا على نفس الدرجة من السهولة في تقديم مصالحهم الوطنية باعتبارها تتطابق مع مصالح الولايات المتحدة . إعادة توطين الفلسطينيين في الدول العربية حيث
يستطيعون التحدث بنفس اللغة (11) , اقترحها أيضا أبا ايبان وغولدا مئير. لكن حتى إعادة توطين أعداد كبيرة من العرب الفلسطينيين , وربما حتى أغلبيتهم , لا تستطيع أن تمحو الواقع وهو أن الدولة اليهودية ستظل تحوي عددا من الفلسطينيين , وأنها ستكون وسط الشرق الأوسط المسلم وغالبيته عرب . ولهذا واصل الصهاينة التحذير ضد امتصاصهم سواء من جانب الفلسطينيين أو من جانب العالم العربي. البعض حتى حث على التقسيم أو الانسحاب من بعض الأراضي حتى يقللوا من الاحتكاك المباشر مع الفلسطينيين وغيرهم من العرب .
بن غوريون ، مئير، موشي ديان وأبا ايبان ، كثيرا ما حذروا من " مشرقة " أو " تعريب " إسرائيل . وفى هذا المجال تعنى " المشرقة " أن تصبح جزءا من العالم العربي ولا تنطوي على امتصاصهم من جانب المنطقة الجغرافية فقط , بل والامتصاص اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا أيضا. بل إن بن غوريون كان يخشى لا فقط من الامتصاص في العالم العربي إنما أيضا من احتمال تأثر الصهاينة بالاحتكاك مع اليهود الشرقيين الذين تصورهم يحملون الكثير من مميزات باقي العالم العربي (12). ووضح أبا ايبان الموقف الصهيوني أكثر في كتابه " بلادي " . بعض الكتاب , وقد يئسوا من الصلح بين العرب وإسرائيل الصهيونية , استمدوا راحة زائفة من توقع أن تتزايد مشرقة " إسرائيل " حتى تفقد خصائصها التي تفصلها عن باقي الشرق الأوسط وتمتص بلا عائق في المنطقة الشرقية المحيطة بها . ليست هناك فرصة لحدوث هذا . ستظل " إسرائيل " غير عربية في حديثها وتفكيرها و عقليتها , وستظل علاقاتها اليهودية دائما أقوى من أي شي ء آخر (13) . وعقب حرب عام 1967, أجاب موشي ديان بشكل أكثر تحديدا للعلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، عندما سئل عما إذا كانت إسرائيل ستستوعب العدد الكبير من العرب (أي الفلسطينيين ) الواقعين تحت الاحتلال الإسرائيلي , فقال :
نستطيع ذلك اقتصاديا , لكنني أعتقد أن هذا لا يتطابق مع أهدافنا المستقبلية , فقد يحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية أو متعددة الجنسية عربية - يهودية ، ونحن نريد أن تكون لنا دولة يهودية . نستطيع استيعابهم , لكنها لن تكون نفس البلاد... نحن نريد دولة يهودية كما للفرنسيين . دولة فرنسية ( 14) .
ثانيا : حدود الدولة الصهيونية .. الأراضي التي لا بد من اغتصابها
وبالنسبة للصهاينة , فان المصاعب التي يطرحها وجود الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين , وأخطار الاستيعاب المحتملة , كانت دائما وثيقة الصلة بمسألة الحدود . وباختصار , اختلف الصهاينة في السر وفي العلن , على مساحة الأراضي التي ينبغي أن تكون داخل حدود الدولة اليهودية . وكثيرا ما لوحظ أن قضية الأرض و الحدود وهي واحدة من أهم العناصر المفرقة بين الصهاينة الليبراليين والاشتراكيين والمتشددين .
فالجانب الليبرالي , متمثلا مرة أخرى في وايزمان ، لم يكن بالضرورة أقل طموحا من ناحية الأراضي، ولكنه اتجه إلى أن يكون أكثر مرونة فيما يختص بقيود الحدود. ونتيجة لهذا أدلى وايزمان بعدد من مختلف التصريحات العامة فيما يخص الحدود المشروعة للدولة اليهودية . وتكشف رسائله بأنه - مع باقي الحركة - يعتبر جنوب فلسطين والقدس أجزاء ثابتة من الدولة اليهودية (15). ورغم أنهم كانوا يرغبون في التخلي عن الأراضي في سبيل اعتبارات أخرى أو بسبب ضغط الولايات المتحدة , اعتبر بن غوريون وبيريز سيناء أيضا جزءا من الدولية اليهودية (16).
إن أحد أكثر بيانات وايزمان صراحة بخصوص حدود الدولة اليهودية , كان في رسالة كتبها عام 1918 إلى ليوبولد س . أمري , سكرتير لجنة التغييرات الإقليمية البريطانية حينئذ . ولان الرسالة تحوي بيانا كاملا للأهداف الإقليمية الصهيونية , من المفيد أن نوردها كاملة : ”... لا يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية والثقافية الكاملة في فلسطين , إلا إذا كانت الدولة اليهودية تعني فلسطين كاملة تمتد من دان إلى بئر سبع ومن البحر الأبيض إلى سكة حديد الحجاز . وبدون أن يشمل الوطن القومي لليهود سهول القمح الغنية في حوران وتلال الجليل المغطاة بالغابات ، ومراعي مؤاب ، فان حياة قومية يهودية كاملة لن تكون ممكنة , وسوف تعاني من ضغط ثلاثي من الشمال والشرق والجنوب ، الأمر الذي قد يضع حاجزا فعالا في نهاية الأمر لتوسع يهودي ضروري ومرغوب فيه . ولدي أيضا إيمان بأنه في المستقبل , لدى إعطائنا فلسطين كاملة وحرية ثقافية واقتصادية كاملة , فان يهود فلسطين الواقعين على رأس جسر يربط ثلاث قارات , قدر عليهم أن يكونوا عنصر تمدين للدول المحيطة بهم , وربما كانوا أداة الهام جديد للبشرية " (17).
وهكذا فإن دولة وايزمان المقترحة لا تشمل فقط كل فلسطين التاريخية , بل أيضا أجزاء كبيرة من لبنان المعاصر , وسورية , والأردن . وقد كرر أيضا الفكرة الصهيونية بأنهم سيجلبون المدنية - أي الغرب - إلى العالم العربي المحيط بهم . وفي هذه الرسالة يكشف وايزمان أن الأهداف الإقليمية للجناح الليبرالي للحركة الصهيونية ليست بعيدة جدا عن أهداف المتشددين . دولة وايزمان المقترحة تشبه بشكل يلفت النظر تلك الواردة في أغنية المتشددين الشعبية التي تقول :
" لنهر الأردن ضفتان .... واحدة لنا , وكذلك الثانية " (18). أما مواقف كل من الليبراليين والمتشددين من الأرض فهي وثيقة الصلة بأهداف الصهاينة الذين دافعوا عن مدارس الاشتراكية المختلفة . ورغم أنهم اعتنقوا الصهيونية من منظور إيديولوجي مختلف اختلافا جذريا , إلا أن لليبراليين والمتشددين آمال وطنية متشابهة , فكل منهما رفض شرعية الوطنية الفلسطينية .
ورغم أن هناك كثيرون آخرون , إلا أن بير بوروشوف اعتبر بشكل عام . زعيم المنادين بالاشتراكية الصهيونية . فقد عالج جزء كبير من كتاباته التوحيد بين الاشتراكية والصهيونية , وشرح في محاولاته كيف أن على اليهود أن يصلوا إلى حل لنضالهم الوطني (أي ينشئوا الدولة اليهودية ) قبل أن يلجئوا إلى " النضال الطبقي السليم " كما صاغه ماركس (19) . ولقد رأى بوروشوف الصهيونية كحركة للجماهير اليهودية , وتصور أن إنشاء وطن اشتراكي يهودي سوف يعمل من خلال الممارسة على استبعاد الفلسطينيين . ومن المهم أن نؤكد أن تروتسكي , ولكسبورغور وادوادر برنشتين وسائر القادة الاشتراكيين الرئيسيين لم يقبلوا أبدا بوروشوف وغيره من الصهاينة الاشتراكيين , كجزء من الحركة الاشتراكية الدولية . لكن حلم بورشوف
بمجتمع يهودي اشتركي اجتذب أعدادا كبيرة من الشباب المثالي , معظمهم يجهل عموما الحقائق الجيوبوليتيكية والديموغرافية في فلسطين . وعندما أثبت بور وشوف أن حركة وطنية مثل الصهيونية يمكن أن تكون أيضا اشتراكية الأيديولوجية , الأمر الذي أرضى بعض الصهاينة على الأقل , شرع يصف أين ينبغي إنشاء الدولة اليهودية . وفي هذه النقطة كان فظا وذرائعيا , فقد كتب يقول : أرض الهجرة اليهودية التلقائية المركزة ستكون فلسطين . . ونحن لا ندعي أن فلسطين هي الأرض الوحيدة أو الأفضل , وإنما نحن نشير فقط إلى أن فلسطين هي الأرض التي يمكن فيها الحصول على السيادة الإقليمية . فلسطيننا ليست نظرية أو عملية , بل بالأحرى نبوءة (20) .
كان بوروشوف من أكبر المؤيدين لحاجة الصهاينة إلى " خلق حقائق والمزيد من الحقائق - تكون حجر الزاوية للاشتراكية السياسية " (21) . وآمن بوروشوف أنه من السهل على الصهاينة أن يخلقوا حقيقة الوطن القومي لليهود في فلسطين لان الأرض في اعتقاده كانت قليلة السكان . وأهم من ذلك , أنه جادل بأن السكان الفلسطينيين ليست لهم ثقافة طبيعية خاصة بهم ، وليسوا شعبا ، ومن ثم سوف يتبنون " المميزات الاقتصادية والثقافية لليهود القادمين " (22) .
ووصف بور وشوف الوطنية بأنها شعور بالقرابة تضرب جذوره في الماضي المشترك وفى وسائل الإنتاج العامة . ومن الواضح أن كل هذه العوامل تحققت في السكان الفلسطينيين . لكن بروشوف ، وهو يجادل من واقع تفسير محدد في المنطق الماركسي . أصر على أن الوطنية يمكن أن تكون نتاج المجتمع البورجوازي فقط , لا المجتمع الإقطاعي مثل ذلك الموجود عموما في فلسطين (23). ومما يدعو للسخرية أن وايزمان , الذي لا يمكن أن يعد من معتنقي الأيديولوجية الماركسية ، وصل إلى كثير من النتائج نفسها ، ملاحظا أن : الوضع الراهن للأمور سيؤدي بالضرورة إلى خلق فلسطين عربية , إذا كان هناك شعب عربي في فلسطين . والواقع أنه لا ينبغي الوصول إلى هذه النتيجة لان الفلاح متخلف عن : زمانه بما لا يقل عن أربعة قرون (24) .
ومثل الصهاينة الآخرين ، رفض بور وشوف وجود كيان وطني فلسطيني ، ولكنه أنكر أية رغبة في طرد الفلسطينيين من الأرض . وقدر أن فلسطين تستطيع أن تستوعب نحو 9 ملاين فرد , وأن الأرض من كبر المساحة بحيث تضمن زراعة اليهود لها . ورغم ادعاءات بور وشوف بعكس ذلك , فان الحركة الاشتراكية الصهيونية خاصة طلبت أن يكون لليهود البروليتاريا الخاصة بهم من خلال زراعة الأرض بأنفسهم دون الاستعانة بالعمالة العربية . ولان الحركة الصهيونية قد تأسست على رفض الاستيعاب _ سواء في أوروبا أو في أي مكان آخر - فان ذلك قلل من الأساس المنطقي لبور وشوف فيما يختص بالعلاقات بن العرب الفلسطينيين واليهود . ثم أن بور وشوف لم يتوسع في معالجة التناقض الرئيس ألا وهو كيف يستطيع الصهاينة خلق دولة يهودية ديموقراطية على أساس حق تقرير المصير في منطقة تحتوي على عدد كبير مسيطر من السكان غير اليهود .
وفي هذا الصدد , كان الاتجاه المتشدد أكثر فاشية ودوغماتية . فبالتزامهم باعتقاد لا يتزعزع في الوعد الكتابي بأن " الله منح أرض إسرائيل لليهود " ، يطالب المتشددون بفلسطين كلها , ويرفضون بشدة أي محاولات للتقسيم . ومع اعترافهم بوضع الأقلية الذي لليهود في فلسطين ، فانهم ، مثل الليبراليين , عارضوا مبدئيا عمل إحصاء أو تمثيل على أساس عدد السكان . وكان فلاديمير جابوتينسكي, وبعد وفاته مناحيم بغين واسحق شامير , المؤيدين الرئيسيين للسياسات المتشددة تجاه فلسطين والفلسطينيين .
بيانات جابوتينسكي فيما يختص بالفلسطينيين كانت أحيانا متناقضة . فقد أشار إلى أن الصهاينة يريدون " الحصول على الأغلبية , لا طرد الأقلية " (25) . كما ادعى أنه متى تم إنشاء الدولة اليهودية , فان المسيحيين والمسلمين سيكونون راضين . لكن , وقت صدور هذه البيانات كان معظم سكان فلسطين مسلمين ومسيحيين . وكان جابوتيسكي أيضا يعي أنه حتى مع تكثيف الهجرة اليهودية , سيكون من الصعب قيام أغلبية يهودية إذا استمر الفلسطينيون في الزيادة بمعدل مواليدهم الطبيعي. ونتيجة لهذا , عارض إنشاء دولة عربية - يهودية , وأعرب عن عطفه على هجرة السكان الفلسطينيين " التلقائية والمنظمة إلى إحدى الدول العربية " (26) .
واقترح المحسن الأمريكي إدوارد نورمان نقلهم إلى العراق ، وأبدى الكاتب الصهيوني البارز , إسرائيل زانغويل ، الاقتراح المذهل بأن يكون نقل الفلسطينيين على نفسر الخطوط التي أعدها موسوليني وهتلر لنقل السكان الألمان خارج التيرول (27). وكان جابوتينسكي يعي جيدا أن " قيام أغلبية يهودية في فلسطين ينبغي تحقيقه ضد رغبة الأغلبية العربية الحالية في البلاد " (28) . لكنه ، كما وضح في شهادته أمام اللجنة الملكية لفلسطين عام 1973 , اعتبر أن للمطالب اليهودية الأولوية الكاملة على غيرها (29). ومن حيث الممارسة , فان معنى ذلك أن يستخدم المتشددون أية وسيلة ضرورية سواء لزيادة عدد اليهود في فلسطين , أو لخفض وتحيد المعارضة الفلسطينية وعدد العرب الفلسطينيين في البلاد . وبالنسبة لجابوتينسكي والحركة المتشددة ، فان معنى هذا هو إنشاء " جدار حديدي " تستطيع القوات اليهودية المسلحة خلفه أن تحمي عملية خلق أغلبية يهودية وتضمنها . ومتى تم إنشاء الدولة اليهودية , فان على الفلسطينيين العرب إما مغادرة البلاد أو قبول الوضع القائم الجديد تحت السيطرة اليهودية (30) . والواقع أن هذا الموقف أدخل الحركة في دائرة كاملة . اختلف المتشددون والليبراليون , بمرارة أحيانا , على العلاقات مع البريطانيين واستخدام تكتيك معين , لكن اتجاهاتهم نحو الفلسطينيين كانت متكاملة .
وهكذا فانه لا غرابة في أنه منذ إنشاء إسرائيل عام 1948 , لم يختلف حزب العمل , خلفاء التقاليد الليبرالية ، والليكود , حملة لواء التشدد، اختلافا حقيقيا في سياساتهما نحو الفلسطينيين وملكية الأرض . قد يكون هناك بعض التباين في الأسلوب والتكتيك , لكن الموقف تجاه الفلسطينيين كان متماثلا .
وقد مكنت حرب 1948 , وطرد الفلسطينيين من البلاد على نطاق ضخم , الصهاينة من الحصول على الأغلبية اليهودية التي لم يتمكنوا من الحصول عليها قبل ذلك . ومن الناحية العلنية , أنكر حزب العمل مسئوليته عن طرد الفلسطينيين على هذا النطاق الضخم . ولم يكن المتشددون بهذا الإحجام عن الاعتراف بترحيبهم بتهجير الفلسطينيين وأثرها في تسهيل قيام دولة إسرائيل (31) . وكما سبقت الملاحظة , فان رفض زعماء حزب العمل ( بن غوريون ، مئير، رابين ، بيريز ) الاعتراف بوجود كيان وطني عربي فلسطيني,مكنهم من التبرير, وتحاشي أي تفاوض على حقوق الفلسطينيين في تقرير المصير .
هذا بالإضافة إلى مبادرة دولة إسرائيل إلى شن سلسلة من التشريعات لضمان السيطرة وملكية الأراضي الفلسطينية . وتوفر هذه التشريعات التبرير القانوني للاستيلاء الإسرائيلي عليها. لقد موَه الإسرائيليون عموما على قضية ملكية الأرض . والمطبوعات الإسرائيلية التي تناولت الموضوع كثيرا ما رددت الأساطير القديمة عن الأرض الفارغة أو أشارت إلى " القرى العربية المهجورة " (32) .
ورغم عمليات تهجيرهم الضخمة , لا يزال الفلسطينيون يشكلون أكثر من 14 بالمئه من سكان فلسطين !لمحتلة بعد عام 1948 . هؤلاء " العرب الإسرائيليون " , كما سموهم , أخضعوا لنظام صارم من السيطرة يشمل الاحتواء , والتبعية الاقتصادية , والتفتت أو العزلة (33) . لنظم السيطرة هذه ويمكن أن تكون برنامج عمل للتكتيك الإسرائيلي الذي طبق على السكان الفلسطينيين، في الأراضي المحتلة .
ثالثا : القضية الفلسطينية .. التحدي والاستجابة
إن الانتصار في حرب 1967 , واحتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء ومرتفعات الجولان أديا إلى زيادة من أعداد الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل الاحتلال الإسرائيلي زيادة كبيرة . ومن المعروف بشكل عام , أن إسرائيل بدأت تتحرك فقط نحو ضم الضفة الغربية بعد الانتصار السياسي لحزب ليكود عام 1977 . والواقع أن قليلا من زعماء إسرائيل لم يذعنوا أبد للمطالب الصهيونية حول ضفتي نهر الأردن . وقبل الانتصار السياسي لليكود بوقت طويل , كانت المطبوعات الإسرائيلية تشير باستمرار إلى " يهودا والسامرة " وبررت بشكل منتظم الاستيطان الإسرائيلي في تلك الأراضي (34) . وبعد عام 1967 ، فرض الكيان الفلسطيني على الوعي الصهيوني الجماعي . إن ظهور منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرير وطنية فعالة , قد اضطر إسرائيل إلى المواجهة المادية والأيديولوجية لواقع الوطنية الفلسطينية . وقد كانت هذه العملية , كما استمرت , عملية مؤلمة ومعذبة .
وقد استمر كثير من الصهاينة في التشبث بالنظريات القديمة , التي تنطلق من أنه إما أن الفلسطينيين غير موجودين ككيان وطني منفصل , و إما أنهم أدنى منزلة من كل الوجوه . وقد عززت هذه الاتجاهات في المواد التعليمية والثقافية الإسرائيلية . والواقع أن عدة أجيال قد تم تكييفها للأيمان بهذه الأساطير (35). ولقد ترددت الأساطير بالنسبة لكثير من الإسرائيليين والمتعاطفين مع الصهيونية بكثرة بحيث لبست ثوب الحقيقة . وتزايدت صعوبة مواجهة , ناهيك عن إسقاط , الاتجاهات التي تكونت من خلال الأيمان بهذه الأساطير. ومن المهم أن نلاحظ من الناحية التاريخية , أن الصهاينة قد وجدوا في هذا الاتجاه وسيلة مناسبة وفعالة في كسب وإبقاء التأييد الغربي لمواقفهم . ولمقاومة المكاسب الديبلوماسية الكبيرة التي حصلت عليها منظمة التحرير الفلسطينية خلال السبعينات , استمر الصهاينة في الحملات الإعلامية لتشويه سمعة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها مجموعة من >> الإرهابيين دعم وجود>> الفلسطينيين . ولا غرابة إذن في ترحيب سلول بيللو وبارباره توكمان بمؤلف جوان بيترز >>منذ الأزل كاخ غوش أمونيم يهودا والسامرة إسرائيل يهودا والسامرة كل ما يمكن أن يفعله العرب في هذا الصدد هو أن يهرولوا مسرعين هنا وهناك مثل الصراصير المخدرة في أرض إسرائيل غوش أمونيم العرب الإسرائيليينلدى الديمقراطيين , وليس لدى الصهيونيين ظارهة ضارة إسرائيل الكبرىالعملية العضوية إسرائيل أمرا واقعاإسرائيل حقائق جديدة إسرائيل البديل الأردني
اتجاهات الصهيونية نحو الفلسطينيين
تنبع اتجاهات الصهيونية نحو الفلسطينيين مباشرة من الجذور الفلسفية و السياسية للبرنامج الصهيوني تجاه أرض فلسطين . ورغم أن النشاط الصهيوني المبكر، فضلا عن النشاط الإسرائيلي المعاصر ، كان مبنيا دائما على كيفية تصور الحركة الصهيونية للفلسطينيين ، فإن هذه الدراسة ستحاول الدخول في تفاصيل برامج ونشاطات محددة . وبالمثل فان العوامل الاقتصادية و السياسية التي تفاعلت مع الحركة الصهيونية تمت مناقشتها عرضا فقط . فهذه الدراسة تستهدف تحليل التطور التاريخي للاتجاهات الصهيونية نحو الفلسطينيين . ولأغراض التحليل ، قسمت الحركة الصهيونية إلى مكوناتها الفلسفية الثلاثة الرئيسية , فأولا, سوف يتم وصف أسلوب التيار الرئيسي الليبرالي الغربي, وثانيا وثالثا , سوف نلخص الاتجاهات الاشتراكية والمتشددة ، وأخيرا ، سوف نستكشف الاتجاهات الإسرائيلية المتضاربة والمختلفة نحو منظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين في الأراضي المحتلة . ونأمل أن يؤدي الكشف عن الأسس التاريخية للاتجاهات الصهيونية إلى توضيح بعض التناقضات والخرافات التي تحيط بالعلا قات الإسرائيلية - الفلسطينية المعاصرة على الأقل .
أولا : مشكلة الأغلبية الفلسطينية ... في فلسطين
تتضح الاتجاهات الصهيونية والمخططات البعيدة المدى نحو فلسطين الفلسطينيين بشكل جلى في قصة رمزية اعتاد الزعيم المتشدد. المعروف فلاديمير جابوتينسكي , أن يرويها :
أنت تدخل ديوانا يحوي ثمانية مقاعد في عربة سكة حديدية حيث مقعدين مشغولان . قد تقلق راحة شاغلي المقعدين , لكنك لا تضرها , وهما في نهاية الأمر سيقبلان القادمين الجدد (1) .
جادل جابوتينسكي أن الفلسطينيين , مثل راكبي ديوان عربة السكة الحديد سوف يقبلون الصهيونيين في فلسطين في نهاية الأمر. وبالطبع فان هذه القصة البادية البساطة الممعنة في التضليل مبنية على عدة مغالطات فاضحة .
فأولا - إذا كان المعني بشاغلي المقعدين فضلا عن المقاعد الثمانية - كما هو واضح أنها تعني - الإشارة إلى الفلسطينيين وأرض فلسطين ء فان سبعة مقاعد من كامل المقاعد الثمانية كان يشغلها أو يملكها بالفعل فلسطينيون . ثانيا - تعتم القصة بعفوية على الحقيقة الأساسية , وهي أن الصهيونيون كانوا ينوون دائما أن يصبحوا الأغلبية ، وأن بقاء الفلسطينيين _ إذا تم احتماله أصلا – سيكون على كره من الصهيونية .
ومنذ بداية الحركة في !لقرن لتاسع عشر و حتى الوقت الحاضر ,.كانت اتجاهات ونشاطات الصهيونية نحو الفلسطينيين ثابتة وتكاد لا تتغير. وسواء تأسست أيديولوجياتهم السياسية والاجتماعية على أسس ليبرالية أو اشتراكية أو متشددة , اتخذ قادة الصهيونية مواقف متماثلة أساسا أو على الأقل متكاملة تجاه الفلسطينيين . وفي العقود السابقة ومنذ إنشاء دولة إسرائيل كانت اتجاهات الصهيونية ونشاطاتها نحو الفلسطينيين مبنية على الحافز الأساسي للحركة . فالصهيونية , كما تم تصورها والإعلان عنها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، لم تكن تهدف إلى إنقاذ اليهود من الإبادة , بقدر ما تهف إلى إنقاذهم من فقد هويتهم . ومن ثم فان دولة الشعب اليهودي كانت - ولا تزال - ضرورية جدا لبقاء الشعب اليهودي . واعتبر اليهود الاستيعاب دائما العدو الأساسي (2). إذ المذابح دعمت فقط مخاوف الصهيونية القائمة من زمن طويل بان المجتمعات اليهودية في جميع أنحاء العالم ، وخاصة في الغرب ، سوف تختفي من خلال عملية استيعاب تدريجية .
وبعد أن انتهى زعماء الصهيونية إلى أن وجود دولة أم وحده , يكون اليهود فيها أغلبية , يمكن أن يضمن بقاء الشعب اليهودي ، كان عليهم أن يعالجوا المشكلة الصعبة وهي أين ينبغي أن تكون هذه الدولة . وبعد جدل طويل , قررت الأغلبية أن فلسطين , أو " أرض دولة إسرائيل " القديمة ، وهي الموقع الوحيد الذي ينبغي أن تنشأ عليه الدولة اليهودية . وفي كلمات الكاتب اليهودي أمنون روبنشتين :
" لم تتم المطالبة بأرض إسرائيل - المهملة وغير الممتلكة جزئيا - بسب قدسيتها الدينية ,
بل لأن هذا كان الوطن الوحيد الذي عرفه اليهود دائما , ومنه طردوا وبذكراه كانوا دائما
يتشبثون " (3) . لقد دفع الصهيونيون دائما بأن " تشتت " اليهود بين الشعوب كان أسوأ كارثة مني بها
الشعب اليهودي , وبالعكس , فان جمع كل اليهود في دولة خاصة بهم يشكل عملية إيجابية و إنقاذا
للحياة (4) .
ولقد ذهب بعض الصهاينة بعيدا إلى حد تبرير القول بأن إنشاء إسرائيل مكن اليهود من تحرير أنفسهم من الآثار السلبية والاستيطانية لتجاربهم الغربية (5) . وبعبارة أخرى , فانه بالنسبة لبعض الصهاينة , يتفق اليهود مع أسلوب الاغتراب الاستيطاني الذي تحدث عنه قانون , وغيره من مفكري العالم الثالث . وبالنسبة لهؤلاء الصهاينة , أصبح اليهود متحررين حقا من الآثار المفسدة المدمرة لحياتهم كأقليات في الغرب ، بعد إنشاء دولتهم الخاصة , حيث المؤسسات من !بداع اليهود . ورغم أن معظم الصهاينة لم يمضوا في تحليل العلاقات المتبادلة بين الحياة اليهودية في الغرب وضرورة الدولة اليهودية إلى هذا الحد , إلا أنه من المؤكد أن الحركة الصهيونية منذ الأيام الأولى لوجودها تؤيد الفكرة القائلة أن دولة إسرائيل , ككيان
يهودي مستقل , تعتبر حيوية لبقاء الشعب اليهودي .
وبالنسبة للصهاينة ، كانت حقائق أن أغلبية شعب فلسطين لم يكونوا يهودا ، وأن أغلبية أرض فلسطين كانت مملوكة للعرب الفلسطينيين من غير اليهود , مجرد حجر عثرة تهدد مسيرتهم المقررة نحو إنشاء دولة إسرائيل . ورغم التناقص الذي لا مناص منه بين أهداف الصهيونية ووجود الفلسطينيين , تم التغاضي عنه علنا , أو عتمه الصهاينة والقوة الاستعمارية ، إلا أن القادة الصهاينة أنفسهم لم يكونوا متحفظين في توضيح نواياهم نحو الفلسطينيين . فقد عمد الشاعر ناتان الترمان إلى تغليف الصراع بالمعاني التالي :
إن صراعنا مع الفلسطينيين ليس على اسم , بل على دولة , انه ليس صراعا على حقوق متساوية ، بل على حقنا في الحياة كأغلبية في مكان واحد من العالم (6).
لقد تذكر زعيم حزب العمل الحالي شيمون بيريز، مؤخرا , مشاعر الترمان في كتابه عن مؤسسي الدولة فقال :
إن مسألة الحقوق الوطنية للفلسطينيين وملكية الأرض , كانت وستظل , ثانوية ، إذا لم تكن هامشية تماما بالنسبة للمطالب الصهيونية بدولة يهودية . وأن القول بأن الادعاءات اليهودية تتخذ أسبقية أدبية , وأن على الفلسطينيين أن يخضعوا مطالبهم لادعاءات اليهود , قد روج له صهاينة بارزين مثل صول بللو , الكاتب الروائي الحاصل على جائزة نوبل , والمؤرخة باربارا توكمان (7). وفكرة " التفضيل " هذه ، أو " المطالب الوطنية السامية " تتردد في كثير من الأدب الصهيوني . إن ضرورة الدولة اليهودية ومطالبها الأدبية السامية كانت هي الأسس التي بنيت عليها التصرفات الصهيونية التالية نحو الفلسطينيين . وهناك سياسات صهيونية محددة نحو الفلسطينيين تعكس الاتجاهات الأساسية الثلاثة داخل الحركة . وحتى أخيرا جدا , سيطرت سياسة الليبراليين , ومعظم الصهاينة الغربيين , خاصة وايزمان وزعماء حزب العمل بن غوريون ومئير وبيريز , على الحركة وعلى الدولة اليهودية . واتخذ التيار الاشتراكي , الذي يقوده بوروشوف ويتحقق من الكيبوتس , اتجاهات مختلفة قليلا تجاه الشعب الفلسطيني وتجاه ملكية الأرض . ومنذ إنشاء دولة إسرائيل المستقلة , فقد التيار الاشتراكي الكثير من نفوذه السابق . وأخيرا ، دائما ما لعب المحافظون الذين يسمون بالمتشددين بزعامة جابوتينسكي وبيغن و شامير , دورا هاما في صياغة السياسات تجاه الفلسطينيين . ومنذ عام 1977 , أصبح المتشددون قوة رئيسية , إن لم تكن أساسية في تصرفات إسرائيل إزاء الفلسطينيين وأرض فلسطين . ولقد أستمر زعماء الصهيونية , كما استمرت مطبوعاتهم , في تحاشى مواجهة الجذور لتاريخية والأيديولوجية للصراع مع الفلسطينيين , عن طريق رفض جميع الزعماء الوطنيين الفلسطينيين واتباعهم , باعتبارهم " إرهابيين " (8) . ورغم أن مئير , مثل معظم الصهاينة , كانت تتحاشى عموما استخدام لفظة " فلسطينيين " , إلا أن اتجاهها نحوهم ظل بدون تغيير منذ قدومها إلى فلسطين عام 1921 وحتى وفاتها عام 1978. أن خصومها الفلسطينيون أو " العصابات " في العشرينات والثلاثينات أصبحوا " إرهابيين " في الستينات والسبعينات وهم بالنسبة للزعيمة الإسرائيلية , ينبغي محاربتهم وإزالتهم . والفلسطينيين عموما لا يوصفون بأنهم كيان منفصل وسط الكيان الأكبر , وهو العالم العربي , وإنما لا يمكن تمييزهم عن المجموع العربي , الذي تم نصوره أيضا كتهديد " إرهابي " لدولة إسرائيل . والأهم , أن تجاهل الكيان الوطني الفلسطيني والرفض المطلق لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها شبكة إرهابية غير شرعية , قد مكن إسرائيل عموما من تحاشي مواجهة القضية الأساسية , وهي حق الفلسطينيين في تقرير المصير . ومن جهة أخرى , من المذهل أن نلاحظ مدى الجهد والجدل الذي بذله الإسرائيليون نحو محو ما يسمى الكيان الفلسطيني الذي لا وجود له , في عرفهم .
ورغم أن كثيرا من الصهاينة فضلوا التقليل من المشكلة المحتملة التي يمثلها وجود أغلبية عربية فلسطينية في فلسطين , تنبأ الكاتب الصهيوني , أحاد هاعام , الذي سافر إلى فلسطين في عام 1891 ، بأنه ستكون هناك متاعب عندما هدد اليهود بأن يفوقوا الأغلبية العربية الفلسطينية عددا (9). وقد وجد هذا الاتجاه تأييدا بين البريطانيين وبعض الأمريكيين المتعاطفين (10) . والواقع أن واحدة من أهم مساهمات وايزمان الكبيرة للحركة الصهيونية كانت قدرته على صياغة سياسات صهيونية تتناسق مع المصالح الاستعمارية البريطانية في المنطقة . الزعماء الإسرائيليون التالين كانوا على نفس الدرجة من السهولة في تقديم مصالحهم الوطنية باعتبارها تتطابق مع مصالح الولايات المتحدة . إعادة توطين الفلسطينيين في الدول العربية حيث
يستطيعون التحدث بنفس اللغة (11) , اقترحها أيضا أبا ايبان وغولدا مئير. لكن حتى إعادة توطين أعداد كبيرة من العرب الفلسطينيين , وربما حتى أغلبيتهم , لا تستطيع أن تمحو الواقع وهو أن الدولة اليهودية ستظل تحوي عددا من الفلسطينيين , وأنها ستكون وسط الشرق الأوسط المسلم وغالبيته عرب . ولهذا واصل الصهاينة التحذير ضد امتصاصهم سواء من جانب الفلسطينيين أو من جانب العالم العربي. البعض حتى حث على التقسيم أو الانسحاب من بعض الأراضي حتى يقللوا من الاحتكاك المباشر مع الفلسطينيين وغيرهم من العرب .
بن غوريون ، مئير، موشي ديان وأبا ايبان ، كثيرا ما حذروا من " مشرقة " أو " تعريب " إسرائيل . وفى هذا المجال تعنى " المشرقة " أن تصبح جزءا من العالم العربي ولا تنطوي على امتصاصهم من جانب المنطقة الجغرافية فقط , بل والامتصاص اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا أيضا. بل إن بن غوريون كان يخشى لا فقط من الامتصاص في العالم العربي إنما أيضا من احتمال تأثر الصهاينة بالاحتكاك مع اليهود الشرقيين الذين تصورهم يحملون الكثير من مميزات باقي العالم العربي (12). ووضح أبا ايبان الموقف الصهيوني أكثر في كتابه " بلادي " . بعض الكتاب , وقد يئسوا من الصلح بين العرب وإسرائيل الصهيونية , استمدوا راحة زائفة من توقع أن تتزايد مشرقة " إسرائيل " حتى تفقد خصائصها التي تفصلها عن باقي الشرق الأوسط وتمتص بلا عائق في المنطقة الشرقية المحيطة بها . ليست هناك فرصة لحدوث هذا . ستظل " إسرائيل " غير عربية في حديثها وتفكيرها و عقليتها , وستظل علاقاتها اليهودية دائما أقوى من أي شي ء آخر (13) . وعقب حرب عام 1967, أجاب موشي ديان بشكل أكثر تحديدا للعلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، عندما سئل عما إذا كانت إسرائيل ستستوعب العدد الكبير من العرب (أي الفلسطينيين ) الواقعين تحت الاحتلال الإسرائيلي , فقال :
نستطيع ذلك اقتصاديا , لكنني أعتقد أن هذا لا يتطابق مع أهدافنا المستقبلية , فقد يحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية أو متعددة الجنسية عربية - يهودية ، ونحن نريد أن تكون لنا دولة يهودية . نستطيع استيعابهم , لكنها لن تكون نفس البلاد... نحن نريد دولة يهودية كما للفرنسيين . دولة فرنسية ( 14) .
ثانيا : حدود الدولة الصهيونية .. الأراضي التي لا بد من اغتصابها
وبالنسبة للصهاينة , فان المصاعب التي يطرحها وجود الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين , وأخطار الاستيعاب المحتملة , كانت دائما وثيقة الصلة بمسألة الحدود . وباختصار , اختلف الصهاينة في السر وفي العلن , على مساحة الأراضي التي ينبغي أن تكون داخل حدود الدولة اليهودية . وكثيرا ما لوحظ أن قضية الأرض و الحدود وهي واحدة من أهم العناصر المفرقة بين الصهاينة الليبراليين والاشتراكيين والمتشددين .
فالجانب الليبرالي , متمثلا مرة أخرى في وايزمان ، لم يكن بالضرورة أقل طموحا من ناحية الأراضي، ولكنه اتجه إلى أن يكون أكثر مرونة فيما يختص بقيود الحدود. ونتيجة لهذا أدلى وايزمان بعدد من مختلف التصريحات العامة فيما يخص الحدود المشروعة للدولة اليهودية . وتكشف رسائله بأنه - مع باقي الحركة - يعتبر جنوب فلسطين والقدس أجزاء ثابتة من الدولة اليهودية (15). ورغم أنهم كانوا يرغبون في التخلي عن الأراضي في سبيل اعتبارات أخرى أو بسبب ضغط الولايات المتحدة , اعتبر بن غوريون وبيريز سيناء أيضا جزءا من الدولية اليهودية (16).
إن أحد أكثر بيانات وايزمان صراحة بخصوص حدود الدولة اليهودية , كان في رسالة كتبها عام 1918 إلى ليوبولد س . أمري , سكرتير لجنة التغييرات الإقليمية البريطانية حينئذ . ولان الرسالة تحوي بيانا كاملا للأهداف الإقليمية الصهيونية , من المفيد أن نوردها كاملة : ”... لا يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية والثقافية الكاملة في فلسطين , إلا إذا كانت الدولة اليهودية تعني فلسطين كاملة تمتد من دان إلى بئر سبع ومن البحر الأبيض إلى سكة حديد الحجاز . وبدون أن يشمل الوطن القومي لليهود سهول القمح الغنية في حوران وتلال الجليل المغطاة بالغابات ، ومراعي مؤاب ، فان حياة قومية يهودية كاملة لن تكون ممكنة , وسوف تعاني من ضغط ثلاثي من الشمال والشرق والجنوب ، الأمر الذي قد يضع حاجزا فعالا في نهاية الأمر لتوسع يهودي ضروري ومرغوب فيه . ولدي أيضا إيمان بأنه في المستقبل , لدى إعطائنا فلسطين كاملة وحرية ثقافية واقتصادية كاملة , فان يهود فلسطين الواقعين على رأس جسر يربط ثلاث قارات , قدر عليهم أن يكونوا عنصر تمدين للدول المحيطة بهم , وربما كانوا أداة الهام جديد للبشرية " (17).
وهكذا فإن دولة وايزمان المقترحة لا تشمل فقط كل فلسطين التاريخية , بل أيضا أجزاء كبيرة من لبنان المعاصر , وسورية , والأردن . وقد كرر أيضا الفكرة الصهيونية بأنهم سيجلبون المدنية - أي الغرب - إلى العالم العربي المحيط بهم . وفي هذه الرسالة يكشف وايزمان أن الأهداف الإقليمية للجناح الليبرالي للحركة الصهيونية ليست بعيدة جدا عن أهداف المتشددين . دولة وايزمان المقترحة تشبه بشكل يلفت النظر تلك الواردة في أغنية المتشددين الشعبية التي تقول :
" لنهر الأردن ضفتان .... واحدة لنا , وكذلك الثانية " (18). أما مواقف كل من الليبراليين والمتشددين من الأرض فهي وثيقة الصلة بأهداف الصهاينة الذين دافعوا عن مدارس الاشتراكية المختلفة . ورغم أنهم اعتنقوا الصهيونية من منظور إيديولوجي مختلف اختلافا جذريا , إلا أن لليبراليين والمتشددين آمال وطنية متشابهة , فكل منهما رفض شرعية الوطنية الفلسطينية .
ورغم أن هناك كثيرون آخرون , إلا أن بير بوروشوف اعتبر بشكل عام . زعيم المنادين بالاشتراكية الصهيونية . فقد عالج جزء كبير من كتاباته التوحيد بين الاشتراكية والصهيونية , وشرح في محاولاته كيف أن على اليهود أن يصلوا إلى حل لنضالهم الوطني (أي ينشئوا الدولة اليهودية ) قبل أن يلجئوا إلى " النضال الطبقي السليم " كما صاغه ماركس (19) . ولقد رأى بوروشوف الصهيونية كحركة للجماهير اليهودية , وتصور أن إنشاء وطن اشتراكي يهودي سوف يعمل من خلال الممارسة على استبعاد الفلسطينيين . ومن المهم أن نؤكد أن تروتسكي , ولكسبورغور وادوادر برنشتين وسائر القادة الاشتراكيين الرئيسيين لم يقبلوا أبدا بوروشوف وغيره من الصهاينة الاشتراكيين , كجزء من الحركة الاشتراكية الدولية . لكن حلم بورشوف
بمجتمع يهودي اشتركي اجتذب أعدادا كبيرة من الشباب المثالي , معظمهم يجهل عموما الحقائق الجيوبوليتيكية والديموغرافية في فلسطين . وعندما أثبت بور وشوف أن حركة وطنية مثل الصهيونية يمكن أن تكون أيضا اشتراكية الأيديولوجية , الأمر الذي أرضى بعض الصهاينة على الأقل , شرع يصف أين ينبغي إنشاء الدولة اليهودية . وفي هذه النقطة كان فظا وذرائعيا , فقد كتب يقول : أرض الهجرة اليهودية التلقائية المركزة ستكون فلسطين . . ونحن لا ندعي أن فلسطين هي الأرض الوحيدة أو الأفضل , وإنما نحن نشير فقط إلى أن فلسطين هي الأرض التي يمكن فيها الحصول على السيادة الإقليمية . فلسطيننا ليست نظرية أو عملية , بل بالأحرى نبوءة (20) .
كان بوروشوف من أكبر المؤيدين لحاجة الصهاينة إلى " خلق حقائق والمزيد من الحقائق - تكون حجر الزاوية للاشتراكية السياسية " (21) . وآمن بوروشوف أنه من السهل على الصهاينة أن يخلقوا حقيقة الوطن القومي لليهود في فلسطين لان الأرض في اعتقاده كانت قليلة السكان . وأهم من ذلك , أنه جادل بأن السكان الفلسطينيين ليست لهم ثقافة طبيعية خاصة بهم ، وليسوا شعبا ، ومن ثم سوف يتبنون " المميزات الاقتصادية والثقافية لليهود القادمين " (22) .
ووصف بور وشوف الوطنية بأنها شعور بالقرابة تضرب جذوره في الماضي المشترك وفى وسائل الإنتاج العامة . ومن الواضح أن كل هذه العوامل تحققت في السكان الفلسطينيين . لكن بروشوف ، وهو يجادل من واقع تفسير محدد في المنطق الماركسي . أصر على أن الوطنية يمكن أن تكون نتاج المجتمع البورجوازي فقط , لا المجتمع الإقطاعي مثل ذلك الموجود عموما في فلسطين (23). ومما يدعو للسخرية أن وايزمان , الذي لا يمكن أن يعد من معتنقي الأيديولوجية الماركسية ، وصل إلى كثير من النتائج نفسها ، ملاحظا أن : الوضع الراهن للأمور سيؤدي بالضرورة إلى خلق فلسطين عربية , إذا كان هناك شعب عربي في فلسطين . والواقع أنه لا ينبغي الوصول إلى هذه النتيجة لان الفلاح متخلف عن : زمانه بما لا يقل عن أربعة قرون (24) .
ومثل الصهاينة الآخرين ، رفض بور وشوف وجود كيان وطني فلسطيني ، ولكنه أنكر أية رغبة في طرد الفلسطينيين من الأرض . وقدر أن فلسطين تستطيع أن تستوعب نحو 9 ملاين فرد , وأن الأرض من كبر المساحة بحيث تضمن زراعة اليهود لها . ورغم ادعاءات بور وشوف بعكس ذلك , فان الحركة الاشتراكية الصهيونية خاصة طلبت أن يكون لليهود البروليتاريا الخاصة بهم من خلال زراعة الأرض بأنفسهم دون الاستعانة بالعمالة العربية . ولان الحركة الصهيونية قد تأسست على رفض الاستيعاب _ سواء في أوروبا أو في أي مكان آخر - فان ذلك قلل من الأساس المنطقي لبور وشوف فيما يختص بالعلاقات بن العرب الفلسطينيين واليهود . ثم أن بور وشوف لم يتوسع في معالجة التناقض الرئيس ألا وهو كيف يستطيع الصهاينة خلق دولة يهودية ديموقراطية على أساس حق تقرير المصير في منطقة تحتوي على عدد كبير مسيطر من السكان غير اليهود .
وفي هذا الصدد , كان الاتجاه المتشدد أكثر فاشية ودوغماتية . فبالتزامهم باعتقاد لا يتزعزع في الوعد الكتابي بأن " الله منح أرض إسرائيل لليهود " ، يطالب المتشددون بفلسطين كلها , ويرفضون بشدة أي محاولات للتقسيم . ومع اعترافهم بوضع الأقلية الذي لليهود في فلسطين ، فانهم ، مثل الليبراليين , عارضوا مبدئيا عمل إحصاء أو تمثيل على أساس عدد السكان . وكان فلاديمير جابوتينسكي, وبعد وفاته مناحيم بغين واسحق شامير , المؤيدين الرئيسيين للسياسات المتشددة تجاه فلسطين والفلسطينيين .
بيانات جابوتينسكي فيما يختص بالفلسطينيين كانت أحيانا متناقضة . فقد أشار إلى أن الصهاينة يريدون " الحصول على الأغلبية , لا طرد الأقلية " (25) . كما ادعى أنه متى تم إنشاء الدولة اليهودية , فان المسيحيين والمسلمين سيكونون راضين . لكن , وقت صدور هذه البيانات كان معظم سكان فلسطين مسلمين ومسيحيين . وكان جابوتيسكي أيضا يعي أنه حتى مع تكثيف الهجرة اليهودية , سيكون من الصعب قيام أغلبية يهودية إذا استمر الفلسطينيون في الزيادة بمعدل مواليدهم الطبيعي. ونتيجة لهذا , عارض إنشاء دولة عربية - يهودية , وأعرب عن عطفه على هجرة السكان الفلسطينيين " التلقائية والمنظمة إلى إحدى الدول العربية " (26) .
واقترح المحسن الأمريكي إدوارد نورمان نقلهم إلى العراق ، وأبدى الكاتب الصهيوني البارز , إسرائيل زانغويل ، الاقتراح المذهل بأن يكون نقل الفلسطينيين على نفسر الخطوط التي أعدها موسوليني وهتلر لنقل السكان الألمان خارج التيرول (27). وكان جابوتينسكي يعي جيدا أن " قيام أغلبية يهودية في فلسطين ينبغي تحقيقه ضد رغبة الأغلبية العربية الحالية في البلاد " (28) . لكنه ، كما وضح في شهادته أمام اللجنة الملكية لفلسطين عام 1973 , اعتبر أن للمطالب اليهودية الأولوية الكاملة على غيرها (29). ومن حيث الممارسة , فان معنى ذلك أن يستخدم المتشددون أية وسيلة ضرورية سواء لزيادة عدد اليهود في فلسطين , أو لخفض وتحيد المعارضة الفلسطينية وعدد العرب الفلسطينيين في البلاد . وبالنسبة لجابوتينسكي والحركة المتشددة ، فان معنى هذا هو إنشاء " جدار حديدي " تستطيع القوات اليهودية المسلحة خلفه أن تحمي عملية خلق أغلبية يهودية وتضمنها . ومتى تم إنشاء الدولة اليهودية , فان على الفلسطينيين العرب إما مغادرة البلاد أو قبول الوضع القائم الجديد تحت السيطرة اليهودية (30) . والواقع أن هذا الموقف أدخل الحركة في دائرة كاملة . اختلف المتشددون والليبراليون , بمرارة أحيانا , على العلاقات مع البريطانيين واستخدام تكتيك معين , لكن اتجاهاتهم نحو الفلسطينيين كانت متكاملة .
وهكذا فانه لا غرابة في أنه منذ إنشاء إسرائيل عام 1948 , لم يختلف حزب العمل , خلفاء التقاليد الليبرالية ، والليكود , حملة لواء التشدد، اختلافا حقيقيا في سياساتهما نحو الفلسطينيين وملكية الأرض . قد يكون هناك بعض التباين في الأسلوب والتكتيك , لكن الموقف تجاه الفلسطينيين كان متماثلا .
وقد مكنت حرب 1948 , وطرد الفلسطينيين من البلاد على نطاق ضخم , الصهاينة من الحصول على الأغلبية اليهودية التي لم يتمكنوا من الحصول عليها قبل ذلك . ومن الناحية العلنية , أنكر حزب العمل مسئوليته عن طرد الفلسطينيين على هذا النطاق الضخم . ولم يكن المتشددون بهذا الإحجام عن الاعتراف بترحيبهم بتهجير الفلسطينيين وأثرها في تسهيل قيام دولة إسرائيل (31) . وكما سبقت الملاحظة , فان رفض زعماء حزب العمل ( بن غوريون ، مئير، رابين ، بيريز ) الاعتراف بوجود كيان وطني عربي فلسطيني,مكنهم من التبرير, وتحاشي أي تفاوض على حقوق الفلسطينيين في تقرير المصير .
هذا بالإضافة إلى مبادرة دولة إسرائيل إلى شن سلسلة من التشريعات لضمان السيطرة وملكية الأراضي الفلسطينية . وتوفر هذه التشريعات التبرير القانوني للاستيلاء الإسرائيلي عليها. لقد موَه الإسرائيليون عموما على قضية ملكية الأرض . والمطبوعات الإسرائيلية التي تناولت الموضوع كثيرا ما رددت الأساطير القديمة عن الأرض الفارغة أو أشارت إلى " القرى العربية المهجورة " (32) .
ورغم عمليات تهجيرهم الضخمة , لا يزال الفلسطينيون يشكلون أكثر من 14 بالمئه من سكان فلسطين !لمحتلة بعد عام 1948 . هؤلاء " العرب الإسرائيليون " , كما سموهم , أخضعوا لنظام صارم من السيطرة يشمل الاحتواء , والتبعية الاقتصادية , والتفتت أو العزلة (33) . لنظم السيطرة هذه ويمكن أن تكون برنامج عمل للتكتيك الإسرائيلي الذي طبق على السكان الفلسطينيين، في الأراضي المحتلة .
ثالثا : القضية الفلسطينية .. التحدي والاستجابة
إن الانتصار في حرب 1967 , واحتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء ومرتفعات الجولان أديا إلى زيادة من أعداد الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل الاحتلال الإسرائيلي زيادة كبيرة . ومن المعروف بشكل عام , أن إسرائيل بدأت تتحرك فقط نحو ضم الضفة الغربية بعد الانتصار السياسي لحزب ليكود عام 1977 . والواقع أن قليلا من زعماء إسرائيل لم يذعنوا أبد للمطالب الصهيونية حول ضفتي نهر الأردن . وقبل الانتصار السياسي لليكود بوقت طويل , كانت المطبوعات الإسرائيلية تشير باستمرار إلى " يهودا والسامرة " وبررت بشكل منتظم الاستيطان الإسرائيلي في تلك الأراضي (34) . وبعد عام 1967 ، فرض الكيان الفلسطيني على الوعي الصهيوني الجماعي . إن ظهور منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرير وطنية فعالة , قد اضطر إسرائيل إلى المواجهة المادية والأيديولوجية لواقع الوطنية الفلسطينية . وقد كانت هذه العملية , كما استمرت , عملية مؤلمة ومعذبة .
وقد استمر كثير من الصهاينة في التشبث بالنظريات القديمة , التي تنطلق من أنه إما أن الفلسطينيين غير موجودين ككيان وطني منفصل , و إما أنهم أدنى منزلة من كل الوجوه . وقد عززت هذه الاتجاهات في المواد التعليمية والثقافية الإسرائيلية . والواقع أن عدة أجيال قد تم تكييفها للأيمان بهذه الأساطير (35). ولقد ترددت الأساطير بالنسبة لكثير من الإسرائيليين والمتعاطفين مع الصهيونية بكثرة بحيث لبست ثوب الحقيقة . وتزايدت صعوبة مواجهة , ناهيك عن إسقاط , الاتجاهات التي تكونت من خلال الأيمان بهذه الأساطير. ومن المهم أن نلاحظ من الناحية التاريخية , أن الصهاينة قد وجدوا في هذا الاتجاه وسيلة مناسبة وفعالة في كسب وإبقاء التأييد الغربي لمواقفهم . ولمقاومة المكاسب الديبلوماسية الكبيرة التي حصلت عليها منظمة التحرير الفلسطينية خلال السبعينات , استمر الصهاينة في الحملات الإعلامية لتشويه سمعة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها مجموعة من >> الإرهابيين دعم وجود>> الفلسطينيين . ولا غرابة إذن في ترحيب سلول بيللو وبارباره توكمان بمؤلف جوان بيترز >>منذ الأزل كاخ غوش أمونيم يهودا والسامرة إسرائيل يهودا والسامرة كل ما يمكن أن يفعله العرب في هذا الصدد هو أن يهرولوا مسرعين هنا وهناك مثل الصراصير المخدرة في أرض إسرائيل غوش أمونيم العرب الإسرائيليينلدى الديمقراطيين , وليس لدى الصهيونيين ظارهة ضارة إسرائيل الكبرىالعملية العضوية إسرائيل أمرا واقعاإسرائيل حقائق جديدة إسرائيل البديل الأردني