شروط العلم وآدابه
سبق وان تعرفنا على حكم العلم في الإسلام وفضله إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هذا الفضل هل هو على سبيل الإطلاق أم أن له شروطا لا يكون إلا بها وما هي الآداب التي يجب أن يتحلى بها العالم والمتعلم . الأسئلة التي سنجيب عنها فيما يلي :
أولا : شروط العلم
للعلم في الإسلام شروطا لا يتم صلاحه ونفعه وثواب صاحبه عنه إلا بها نذكر منها:
أ- إخلاص النية للمولى عز وجل : إن النية التي يجب أن تتحقق في نفس طالب العلم شانه شأن غيره من القربات هي ابتغاء مرضات الله ونفي الجهال عنه لا استجلاب حطام الدنيا والكرامة عند المخلوق( ) قال صلى الله عليه وسلم " الأعمال بالنيات ولكل امرئ مل نوى " ( ) فمتى صحت النية في العلم عظُم ثوابها ومتى فسدت رُدّ على صاحبه ولم يُقبل منه شيء قال صلى الله عليه وسلم :"من طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يريد أن يُقبل بوجوه الناس إليه أدخله الله جهنم "( )
و في إخلاص النية يقول ابن حزم: فوالذي لا اله إلا هو أن من طلب علما من علوم الديانة ليدرك به عرض الدنيا أو ذكرا في الناس لقد كان أحظى به في أخرته و اسلم في عاقبته أن يكون دفافا( )
ويقول كذلك تشنيعا على من طلب العلم للمال:أن اكتساب المال أجدى و اشد توصيلا إلى المرء من التوسع في العلوم لأجل المال و التعب فيه بهذه النية عناء و ظلال و فاعله قد جمع بين عيبين عظيمين أحدهما ترك اخصر الطرق إلى مطلوبه وركوب اوعرها
والوجه الثاني انه استعمل الفضيلة التامة والتي بان بها عن الحشرات والبهائم في اقتناء حجارة لا يدري متى تدعه أو يدعها ( )
اليقينية : لقد سبق وان رأينا هذا الشرط أثناء تعريف العلم حيث يشترط فيه أن يكون جازما يقينيا لا يعتمد على الظن والتقليد قال تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا " ( ) وقال تعالى " وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا " ( )
كما نهى المولى عز وجل عن التصديق دون دليل قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " ( ) والآية وان جاءت في التثبت من خبر الفاسق ليحتاط له فلا يُحكم بقوله ( ) فإن فيها دلالة واضحة على وجوب تحري اليقين في كل شيء والعلم أحق الأمور بذلك
كما حقّر التقليد دون علم ولا تبصر بالأدلة قال تعالى في الذين قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا " أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون"( )
الصلاح والنفعية : فالعلم في الإسلام يجب أن يكون متماشيا مع روح الدين ومع ما رسمه من مبادئ وقيم خلقية تهدف إلى نيل رضا الله تعالى وتدعيم خشيته في القلوب ولذلك حرّم كل علم أدّى إلى ضرر قال تعالى " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق " ( )
كما دعا الإسلام إلى العلم النافع الذي يلحق نفعه الفرد والمجتمع وكل مسالة لا ينبني عليها نفع وعمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي والدليل على ذلك استقراء الشريعة ( ) في القرآن الكريم قال تعالى " سألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس والحج "( ) فوقع لجواب فيما يتعلق به النفع وهو غدراك المواقيت إعراضا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال يبدو في أول الشهر رقيقا كالخيط ثم يمتلأ حتى يصير بدرا ثم يعود إلى حالته الأولى ( ) ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال للسائل " ما ذا أعددت لها "( ) فقد أجابه بما فيه الفائدة
هذه أهم الشروط التي يجب توافرها ليتحقق مسمى العلم الحقيقي الذي قصده الشارع ودعا إلى طلبه ورفع منزلة أصحابه والتي يمكن أن تلخص في القول بأن الإسلام جعل العلم عبادة وقرنه بالنية وحكمه بالقيم الخلقية ونظمه بالشريعة واكد على المسؤولية الدينية من حيث نفع العلم أو ضرره .
ثانيا : آداب العالم والمتعلم :
كما أن للعلم شروطا لا يتحقق صلاحه إلا بها فإن له آدابا على حامليه التحلي بها .
تنزيه العلم عن المطامع الدنيوية : فعلى العالم أن ينزه علمه عن جعله سُلّما يتوصل به إلى جاه أو مال أو سمعة أو تقدم على أقرانه ( ) وقد سبق ذكر أدلة ذلك
أ- استشعار مراقبة الله عز وجل بالسر والعلانية : فالعالم أمين على ما أودع من العلوم ووسائل تحصيلها وعليه أن يؤدي لهذه الأمانة حقها ( ) قال تعالى " لا تخون الله والرسول وتخون أماناتكم وانتم تعلمون " ( ) وقال صلى الله عليه وسلم " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما ابلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به " ( )
ب- الأمانة العلمية : من أخلاقيات العلم الأمانة فهي من لوازم الإيمان و لا إيمان لمن الأمانة له. قال تعالى في وصف المؤمنين (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)( ) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (تناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله وإن الله سائلكم يوم القيامة) ( ).
ومن أمانة العلم أن ينسب القول لمن قاله والفعل والفكرة لصاحبها ولا يستفيد من الغير ثم يسند الفضل لنفسه. ( )
وحسبه أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل أي البلدان أحب إلى الله وأي البلدان أبغض إلى الله قال لا أدري حتى أسأل جبريل فأتاه جبريل فأخبره (أن أحب البقاع إلى الله المساجد وأبغض البقاع إلى الله الأسواق) ( )
وسئل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً عن مسألة وقال لا علم لي بها ثم قال
وأبردها على العبد سئلت عما لا أعلم وقلت لا أعلم. ( )
وجاء في الأثر أن مالكاً قدم عليه رجل من مسيرة أربعة أشهر من المغرب ؟؟ يسمع إجابته عن مسألة وقال له الإمام أخبر الذي أرسلت أن لا علم لي بها فقال ومن يعملها قال الذي علمه الله. ( )
والنصوص تدل وكانت واضحة على أن أمانة العلم أثقل وأسمى من أن يضيعها خشية أن يقال سئل فلم يجب فاتهماه بأجمل لون ألف مرة من قول بلا علم.
ج. التواضع وترك الدعوى ولعجب بالنفس: من أفضل آداب العالم تواضعه وترك الإعجاب بعلمه ونبذ حب الرئاسة عنه( ) فالعالم الحق لا يركبه الغرور ولا يشد به العجب لأنه يدرك بيقين أن العلم الذي لديه هو كمثل قطرة من بحر قال تعالى (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ( )
وفي ذم الكبر قال صلى الله عليه وسلم (ثلاث مهلكات وثلاث منجيات فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه) ( )
وقال صلى الله عليه وسلم ( تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار وتواضعوا لمن تتعلمون منه ولمن تعلمونه ولا تكونوا جبابرة العلماء)( )
وقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين يتكبرون على الناس بقراءتهم القرآن بقوله (يظهر الإسلام حتى تختلف الرجال في البحر وحتى تخوض الخيل في سبيل الله ثم يظهر قوم يقرؤون القرآن يقولون من أقرأ منا من أعلم منا من أفقه ثم قال لأصحابه هل في أولئك خير؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال أولئك منكم من هذه الأمة وقود النار( ).
اتهام النفس بالجهل:
وقد جاء في الأثر لا يزال الرجل عالماً ما تعلم فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون ( ).
فالعلم لا يقف عند حد معين فإن العلوم والمعارف عن الكون والحياة متجددة متفجرة لذلك كان من النضوج العلمي أن يشعر العالم مهما اتسعت معارفه أنه مازال مفتقرا إلى المزيد ( ) قال تعالى (وقل رب زدني علماً) ( ) وعن ابن عباس أنه قال: مفهومان لا تنقضي مثلهما طالب علم وطالب دنيا( )
المواضبة والصبر على طلب العلم: أن من واجب المسلم أن يتمادى في طلب العلم ولو بلغ منه ما بلغ وأيا ما كانت ظروفه وأحواله ومن ذلك تحمل شظف العيش والرضا باليسير المتوفر فبه تنال سعة العلم وقد كان من شغف الصحابة بالعلم أن رحلوا من أجل حديث نبوي مئات الأميال عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال بلغني عن رجل حديث جمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيرا ثم شددت رحلي فسرت إليه شهرا حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وقلت للبواب قل له جابر على الباب ... ( ) ولم يتركه حتى سمع منه.
تطهير القلب من الأخلاق الذميمة:كالغش والغل والحسد ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه والإطلاع على دقائقه ومعانيه.
العزة : من أخلاق العلماء العزة وتكون في عدة مواضع كمواجهة الحكام وتكون أيضاً مع المتعالين المتفاخرين ( ) وهي لا تنافي التواضع لان بها عــزة بالعلم والإيمان
وليست عزة بالإثم والعدوان عزة تلتمس من الله ولم تطلب من الناس( )
قال تعالى ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ( )
وقد تمثل عمر بن الخطاب بالعزة حين عوتب بزيه الحقير أمام ولاة الرومان حين ذهب لبيت المقدس بقوله إن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب العزة في غيره( )
كمال المظهر ووقار السلوك: ذلك أنه ادعى لترسيخ قوله في النفوس وحملهم على الاقتداء به خاصة طلاب العلم منهم ومن أجمع ما قيل في هذا الأدب قول الإمام علي رضي الله عنه: (ومن تمام آلة العالم يكونا مهيبا وقوراً بطيء الالتفات قليل الإشارة لا يصخب ولا يلعب ولا يلغوا ( )
نشر العلم ووضعه حيث ينتفع به: ومن أخلاق العلماء الحرص على نشر العلم وتبليغه ونفع الناس به فلا خير في علم يكتم كما لا خير في مال يكنز فإنما جعل العلم لينشر كما جعل المال لينفق ( ) كما يجب أن لا يقصد بعلمه إلا من رأى أنه ينفع به يقول ابن عبد البر: وقالوا الواجب على العالم أن لا يناظر جاهلاً ولا لجوجاً فإنه يجعل المناظرة ذريعته إلى التعلم بغير شكر( )
وقد سبق وأن أشرنا إلى أدلة نشر العلم عند الحديث عن تحريم كتمه ومنها قوله صلى الله عليه وسلم (نظر الله امرؤا سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع( ).
العمل بالعلم: فالعالم عليه أن يكون بعلمه عاملاً وإلا فلا جدوى من علمه.
ثم إن تركه للعمل بما يقول يهون وقع كلامه في النفوس قال عمر بن عبته يوصي مؤدب ولده: ليكن أول صلاحك لولدي إصلاحك لنفسك فإن عيونهم معقودة بعينك قال فالحسن عندهم ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت( )
وفي ذلك يقول الغزالي: يجب أن يكون المعلم عاملاً بعلمه فلا يكذب قوله فعله لأنه العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر ومثل المعلم المرشد من المسترشد في مثل النقش من الطين والظل من العود فكيف ينقش الطين بلا نقش فيه ومتى استوى الظل والعود أعوج( ).
والنصوص في ذلك كثيرة سنعرض بعضها أثناء تناول موضوع اقتضاء العلم العمل
الصالح.
هذه بعض الصفات التي لا يجب أن يخلوا عالم صالح منها.
وكما أن هناك آداب للعالم في نفسه فإن هناك آداب له مع طلبته.
آداب العالم مع طلبته: ونذكر منها:
معرفته المعلم بطبيعة المتعلم: ذلك أن هذه المعرفة تهيئ أسباب التعليم المثمر وفي ذلك يقول ابن جماعة: (ومن الضروري أن يعرف المعلم تلاميذه وينبغي أن يستعمل أسماءهم وأنسابهم وموطنهم وأحوالهم ) ( ).
مراعاة الفروق الفردية: على المعلم أن يراعي مستوى المتعلمين من الناحية العقلية ويخاطبهم على قدر عقولهم حتى لا ينفروا من العلم ولا يتخبطوا فيما لا يفهمون( )
قال صلى الله عليه وسلم : (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم) ( ).
الحلم والرفق: فعلى المعلم أن يكون حليماً في تعامله مع طلابه فيقاسمهم رفيقا بهم لأن ذلك يعظمه منزلته في نفوسهم ويحببهم فيما يقول. قال صلى الله عليه وسلم (ما أنزل الله شيئاً أقل من اليقين ولا قسم بين الناس شيئا أقل من العلم وما أوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم) ( ).
وعن أبي هارون العبدي وشهر بن حوشب قال كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري يقول مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستفتح لكم الأرض ويأتيكم قوم أو قال غلمان حديثه أسنانهم يطلبون العلم ويتفقهون في الدين ويتعلمون منكم فإذا جاءوكم فعلموهم وألطفوا ووسعوا لهم في المجالس وأفهموهم الحديث( ).
عدم الشدة مع المتعلمين: وقد علل ابن خلدون ذلك بأن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم ولا سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين ضيقت على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى لكسل وحمله على الكذب والخبث( ) فالأجدر بالمعلم أن يكون وسطاً بين الشدة والإهمال حتى لا يتعود الطلبة الكسل فيضيعوا العلم ولا يؤخذوا بالقهر فيأنفوا منه وعن عبدا لله بن عمر أنه قال : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم( ) كان يتخولنا بالموعظة بين الأيام مخافة السآمة علينا) أي يطلب الحال التي ينشطون فيها للموعظة فينصحهم ويذكرهم ( ).
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ) ( ).
العدل والموضوعية في معاملة التلاميذ: إن من خصائص المعلم الناجح العدل في معاملة التلاميذ والبعد عن الهوى في الحكم عليهم لأن قدرا كبيرا من الصحة النفسية للطالب وقبوله لما يلقى عيه تتوقف على نوع المعاملة التي يلقاها وفي ذلك يقول ابن جماعة : يجب على المتعلم أن لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودة أو اعتناء مع تساويهم في الصفات من ديانة أو فضيلة فإن ذلك ربما يوحش منه الصدر و القلب( ).
وعليه فيمكن للمعلم أن يظهر بعض التفصيل إذا بين أن سببه اجتهاد خلق أو من خلاف حتى يعمد على تنمية روح التنافس بين تلاميذه.
هذه بعرض آداب العالم في نفسه ومع طلبته وفيما يلي بعض آداب طالب العلم ولما كان العالم لا يخلو أن يكون طالب العلم فهما يشتركان في الكثير من الآداب السابق ذكرها كإخلاص النية وتطهير القلب والصبر على مشاق العلم وشظف العيش لذلك سيقتصر الباحث على آداب الطالب مع المعلم.
ب. آداب الطالب مع المعلم: أن الاحترام والتقدير للعلم ولأهله من الأمور الأولى التي تساعد طالب العلم على التعلم والاكتساب ذلك أن المعلم لا يعطي كل ما عنده إذا لم يجد ما هو آهل له من إجلال تقدير ومن مظاهر هذا الاحترام ما ذكره الزرنوجي ( ).
- أن لا يمشي أمامه.
- لا يجلس مكانه.
- لا يبتدئ الكلام عنده إلا بإذنه.
- لا يكثر الكلام عنده.
- لا يسأل عند ملالته ويراعي الوقت ويستأذن كما يجب عليه أن يعرف له حقه ولا ينسى فضله وأن يعظمه في حضوره وغيبته( ).
لعله أصبح جلياً أن الإسلام حرص على عظمة العلم و العلماء كما لم يفعل أي نظام آخر وأدلته ذلك كثيرة.
قال الشعبي: صلى زيد بن ثابت على جنازة فقربت إليه بغلته ليركب فجاء بن عباس فأخذ بركابه وقال زيد خلي عنه يا بان عم رسول الله فقال ابن عباس هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء الأكابر فقبل زيد بن ثابت يده وقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم( ).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال (إن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال ولا تعنته في الجواب وأن لا تلج عليه إذا أعرض ولا تشر إليه بيدك وأن لا تغمزه بعينيك وأن لا تطلب زلته وأن وزل تأنيت أوبته وقبلت فيئته وأن لا تقول قال فلان خلاف قولك وأن لا تفشي له سرا وأن لا تغتاب عنده أحدا وأن تحفظه شاهدا وغائبا وان تعم القوم بالسلام وأن تخصه بالتحية… إنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها منفعة)( ).
آداب حضور مجلس العلم: كما أن هناك آداب للطالب مع معلمه فإن لحضور مجالس العلم آداب لا بد منها لخصها ابن حزم في قوله إذا حضرت مجلس العلم فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علماً وأجراً لا حضور مستغني بما عندك طالباً عثرة تشنعها أو غريبة تشيعها فإذا حضرتها كما ذكرنا فالتزم ثلاثة آداب لا أربع لها:
- أن تسأل سؤال المتعلم.
- أن تسكت سكوت الجهال فتحصل على أجر النية في المشاهدة.
- أن تراجع مراجعة العالم( ).
مع التنبه إلى التزام الأدب في الصور الثلاثة المذكورة.
وفي خاتمة الحديث عن ما يجب للعالم على تلاميذه لا بد أن نشير أنه لا يعني التعصب لمذهبه بأن يجعل ما يصدر عنه من الرأي وما يروى له من الاجتهاد حجة عليه وعلى العباد( ).
فالمشرع واحد هو المولى عز وجل وكل يؤخذ من قوله ويرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أسباب الاستزادة من العلم ومقوماتها.
من خلال الآداب السابقة ومعرفتنا بطبيعة الحاجة إلى المعرفة وكيفية تنميتها يمكن أن نستخلص بعض الأسباب التي تدفع المرء إلى المزيد من العلوم وما يقابل ذلك من عوامل معيقة.
أسباب (حوافز) الاستزادة من العلم.
الدافعية: ويقصد بها في التربية الحديثة حالة داخلية تعمل على استثارة السلوك وتنشيطه وتوجيهه نحو الهدف( ) وقد توصلت النظريات التربوية أن التعلم لا يتحدث دون دافع و ما كان هذا الدافع ذاتياً كل ما ساعد على التعلم الجيد( ) لذلك فإن أهم أسباب الاستزادة من العلم تنمية مثل هذا النوع من الدوافع في النفس وذلك من خلال أمور منها:
- ترسيخ القيم الإيمانية في النفس وكلما زاد إيمان المرء زادت رغبته في العلم والعكس صحيح قال تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ( )
- التأمل في فضائل العلم ونقائص الجهل وكفى بلذة العلم داعياً وباعثاً على التحصيل قال تعالى ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). ( )
- وجود القدوة الحسنة الصادقة.
- تفرغ الإنسان من الشواغر وتخلية النفس من العلائق الدنيوية( ) وقد جاء عن أحد الأئمة أنه قال لو كلفت شراء بصلة ما فهمت مسألة.
معوقات الاستزادة من العلم
ونذكر منها:
- تكثير العلائق الدنيوية( ).
- غياب حقيقة الإيمان في النفس.
- كثرة الذنوب ( ) وفي ذلك يقول الشافعي
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال إن علم الله نور
ونور الله لا يهدى لعاصي
- المطامع الدنيوية حيث يصبح العلم مجردة أداة للوصول إلى نفع مادي فمتى ما تحققت ضعفت العزائم ووهنت الهمم
- النسيان قال صلى الله عليه وسلم " آفة العلم النسيان " ( ) وعلاج ذلك كثرة التكرار والمداومة على البحث والاطلاع قال صلى الله عليه وسلم إن مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت " ( )
وهكذا يتبين لنا من خلال هذا المبحث ا، الإسلام لم يترك جانبا من جوانب العلم إلا تناوله من حيث الحض على طلبه ومن حيث إكرام العلماء وبيان مكانتهم ثم من حيث نشر للعلم وذلك كله بقصد بناء الإنسان المتعلم المفكر الذي يروم مصلحته ومصلحة مجتمعه وخير الإنسانية جمعاء( ).إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف للعمل أن يحقق ذلك
مالم يترجم إلى واقع عملي .
سبق وان تعرفنا على حكم العلم في الإسلام وفضله إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هذا الفضل هل هو على سبيل الإطلاق أم أن له شروطا لا يكون إلا بها وما هي الآداب التي يجب أن يتحلى بها العالم والمتعلم . الأسئلة التي سنجيب عنها فيما يلي :
أولا : شروط العلم
للعلم في الإسلام شروطا لا يتم صلاحه ونفعه وثواب صاحبه عنه إلا بها نذكر منها:
أ- إخلاص النية للمولى عز وجل : إن النية التي يجب أن تتحقق في نفس طالب العلم شانه شأن غيره من القربات هي ابتغاء مرضات الله ونفي الجهال عنه لا استجلاب حطام الدنيا والكرامة عند المخلوق( ) قال صلى الله عليه وسلم " الأعمال بالنيات ولكل امرئ مل نوى " ( ) فمتى صحت النية في العلم عظُم ثوابها ومتى فسدت رُدّ على صاحبه ولم يُقبل منه شيء قال صلى الله عليه وسلم :"من طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يريد أن يُقبل بوجوه الناس إليه أدخله الله جهنم "( )
و في إخلاص النية يقول ابن حزم: فوالذي لا اله إلا هو أن من طلب علما من علوم الديانة ليدرك به عرض الدنيا أو ذكرا في الناس لقد كان أحظى به في أخرته و اسلم في عاقبته أن يكون دفافا( )
ويقول كذلك تشنيعا على من طلب العلم للمال:أن اكتساب المال أجدى و اشد توصيلا إلى المرء من التوسع في العلوم لأجل المال و التعب فيه بهذه النية عناء و ظلال و فاعله قد جمع بين عيبين عظيمين أحدهما ترك اخصر الطرق إلى مطلوبه وركوب اوعرها
والوجه الثاني انه استعمل الفضيلة التامة والتي بان بها عن الحشرات والبهائم في اقتناء حجارة لا يدري متى تدعه أو يدعها ( )
اليقينية : لقد سبق وان رأينا هذا الشرط أثناء تعريف العلم حيث يشترط فيه أن يكون جازما يقينيا لا يعتمد على الظن والتقليد قال تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا " ( ) وقال تعالى " وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا " ( )
كما نهى المولى عز وجل عن التصديق دون دليل قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " ( ) والآية وان جاءت في التثبت من خبر الفاسق ليحتاط له فلا يُحكم بقوله ( ) فإن فيها دلالة واضحة على وجوب تحري اليقين في كل شيء والعلم أحق الأمور بذلك
كما حقّر التقليد دون علم ولا تبصر بالأدلة قال تعالى في الذين قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا " أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون"( )
الصلاح والنفعية : فالعلم في الإسلام يجب أن يكون متماشيا مع روح الدين ومع ما رسمه من مبادئ وقيم خلقية تهدف إلى نيل رضا الله تعالى وتدعيم خشيته في القلوب ولذلك حرّم كل علم أدّى إلى ضرر قال تعالى " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق " ( )
كما دعا الإسلام إلى العلم النافع الذي يلحق نفعه الفرد والمجتمع وكل مسالة لا ينبني عليها نفع وعمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي والدليل على ذلك استقراء الشريعة ( ) في القرآن الكريم قال تعالى " سألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس والحج "( ) فوقع لجواب فيما يتعلق به النفع وهو غدراك المواقيت إعراضا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال يبدو في أول الشهر رقيقا كالخيط ثم يمتلأ حتى يصير بدرا ثم يعود إلى حالته الأولى ( ) ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال للسائل " ما ذا أعددت لها "( ) فقد أجابه بما فيه الفائدة
هذه أهم الشروط التي يجب توافرها ليتحقق مسمى العلم الحقيقي الذي قصده الشارع ودعا إلى طلبه ورفع منزلة أصحابه والتي يمكن أن تلخص في القول بأن الإسلام جعل العلم عبادة وقرنه بالنية وحكمه بالقيم الخلقية ونظمه بالشريعة واكد على المسؤولية الدينية من حيث نفع العلم أو ضرره .
ثانيا : آداب العالم والمتعلم :
كما أن للعلم شروطا لا يتحقق صلاحه إلا بها فإن له آدابا على حامليه التحلي بها .
تنزيه العلم عن المطامع الدنيوية : فعلى العالم أن ينزه علمه عن جعله سُلّما يتوصل به إلى جاه أو مال أو سمعة أو تقدم على أقرانه ( ) وقد سبق ذكر أدلة ذلك
أ- استشعار مراقبة الله عز وجل بالسر والعلانية : فالعالم أمين على ما أودع من العلوم ووسائل تحصيلها وعليه أن يؤدي لهذه الأمانة حقها ( ) قال تعالى " لا تخون الله والرسول وتخون أماناتكم وانتم تعلمون " ( ) وقال صلى الله عليه وسلم " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما ابلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به " ( )
ب- الأمانة العلمية : من أخلاقيات العلم الأمانة فهي من لوازم الإيمان و لا إيمان لمن الأمانة له. قال تعالى في وصف المؤمنين (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)( ) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (تناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله وإن الله سائلكم يوم القيامة) ( ).
ومن أمانة العلم أن ينسب القول لمن قاله والفعل والفكرة لصاحبها ولا يستفيد من الغير ثم يسند الفضل لنفسه. ( )
وحسبه أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل أي البلدان أحب إلى الله وأي البلدان أبغض إلى الله قال لا أدري حتى أسأل جبريل فأتاه جبريل فأخبره (أن أحب البقاع إلى الله المساجد وأبغض البقاع إلى الله الأسواق) ( )
وسئل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً عن مسألة وقال لا علم لي بها ثم قال
وأبردها على العبد سئلت عما لا أعلم وقلت لا أعلم. ( )
وجاء في الأثر أن مالكاً قدم عليه رجل من مسيرة أربعة أشهر من المغرب ؟؟ يسمع إجابته عن مسألة وقال له الإمام أخبر الذي أرسلت أن لا علم لي بها فقال ومن يعملها قال الذي علمه الله. ( )
والنصوص تدل وكانت واضحة على أن أمانة العلم أثقل وأسمى من أن يضيعها خشية أن يقال سئل فلم يجب فاتهماه بأجمل لون ألف مرة من قول بلا علم.
ج. التواضع وترك الدعوى ولعجب بالنفس: من أفضل آداب العالم تواضعه وترك الإعجاب بعلمه ونبذ حب الرئاسة عنه( ) فالعالم الحق لا يركبه الغرور ولا يشد به العجب لأنه يدرك بيقين أن العلم الذي لديه هو كمثل قطرة من بحر قال تعالى (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ( )
وفي ذم الكبر قال صلى الله عليه وسلم (ثلاث مهلكات وثلاث منجيات فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه) ( )
وقال صلى الله عليه وسلم ( تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار وتواضعوا لمن تتعلمون منه ولمن تعلمونه ولا تكونوا جبابرة العلماء)( )
وقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين يتكبرون على الناس بقراءتهم القرآن بقوله (يظهر الإسلام حتى تختلف الرجال في البحر وحتى تخوض الخيل في سبيل الله ثم يظهر قوم يقرؤون القرآن يقولون من أقرأ منا من أعلم منا من أفقه ثم قال لأصحابه هل في أولئك خير؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال أولئك منكم من هذه الأمة وقود النار( ).
اتهام النفس بالجهل:
وقد جاء في الأثر لا يزال الرجل عالماً ما تعلم فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون ( ).
فالعلم لا يقف عند حد معين فإن العلوم والمعارف عن الكون والحياة متجددة متفجرة لذلك كان من النضوج العلمي أن يشعر العالم مهما اتسعت معارفه أنه مازال مفتقرا إلى المزيد ( ) قال تعالى (وقل رب زدني علماً) ( ) وعن ابن عباس أنه قال: مفهومان لا تنقضي مثلهما طالب علم وطالب دنيا( )
المواضبة والصبر على طلب العلم: أن من واجب المسلم أن يتمادى في طلب العلم ولو بلغ منه ما بلغ وأيا ما كانت ظروفه وأحواله ومن ذلك تحمل شظف العيش والرضا باليسير المتوفر فبه تنال سعة العلم وقد كان من شغف الصحابة بالعلم أن رحلوا من أجل حديث نبوي مئات الأميال عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال بلغني عن رجل حديث جمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيرا ثم شددت رحلي فسرت إليه شهرا حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وقلت للبواب قل له جابر على الباب ... ( ) ولم يتركه حتى سمع منه.
تطهير القلب من الأخلاق الذميمة:كالغش والغل والحسد ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه والإطلاع على دقائقه ومعانيه.
العزة : من أخلاق العلماء العزة وتكون في عدة مواضع كمواجهة الحكام وتكون أيضاً مع المتعالين المتفاخرين ( ) وهي لا تنافي التواضع لان بها عــزة بالعلم والإيمان
وليست عزة بالإثم والعدوان عزة تلتمس من الله ولم تطلب من الناس( )
قال تعالى ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ( )
وقد تمثل عمر بن الخطاب بالعزة حين عوتب بزيه الحقير أمام ولاة الرومان حين ذهب لبيت المقدس بقوله إن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب العزة في غيره( )
كمال المظهر ووقار السلوك: ذلك أنه ادعى لترسيخ قوله في النفوس وحملهم على الاقتداء به خاصة طلاب العلم منهم ومن أجمع ما قيل في هذا الأدب قول الإمام علي رضي الله عنه: (ومن تمام آلة العالم يكونا مهيبا وقوراً بطيء الالتفات قليل الإشارة لا يصخب ولا يلعب ولا يلغوا ( )
نشر العلم ووضعه حيث ينتفع به: ومن أخلاق العلماء الحرص على نشر العلم وتبليغه ونفع الناس به فلا خير في علم يكتم كما لا خير في مال يكنز فإنما جعل العلم لينشر كما جعل المال لينفق ( ) كما يجب أن لا يقصد بعلمه إلا من رأى أنه ينفع به يقول ابن عبد البر: وقالوا الواجب على العالم أن لا يناظر جاهلاً ولا لجوجاً فإنه يجعل المناظرة ذريعته إلى التعلم بغير شكر( )
وقد سبق وأن أشرنا إلى أدلة نشر العلم عند الحديث عن تحريم كتمه ومنها قوله صلى الله عليه وسلم (نظر الله امرؤا سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع( ).
العمل بالعلم: فالعالم عليه أن يكون بعلمه عاملاً وإلا فلا جدوى من علمه.
ثم إن تركه للعمل بما يقول يهون وقع كلامه في النفوس قال عمر بن عبته يوصي مؤدب ولده: ليكن أول صلاحك لولدي إصلاحك لنفسك فإن عيونهم معقودة بعينك قال فالحسن عندهم ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت( )
وفي ذلك يقول الغزالي: يجب أن يكون المعلم عاملاً بعلمه فلا يكذب قوله فعله لأنه العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر ومثل المعلم المرشد من المسترشد في مثل النقش من الطين والظل من العود فكيف ينقش الطين بلا نقش فيه ومتى استوى الظل والعود أعوج( ).
والنصوص في ذلك كثيرة سنعرض بعضها أثناء تناول موضوع اقتضاء العلم العمل
الصالح.
هذه بعض الصفات التي لا يجب أن يخلوا عالم صالح منها.
وكما أن هناك آداب للعالم في نفسه فإن هناك آداب له مع طلبته.
آداب العالم مع طلبته: ونذكر منها:
معرفته المعلم بطبيعة المتعلم: ذلك أن هذه المعرفة تهيئ أسباب التعليم المثمر وفي ذلك يقول ابن جماعة: (ومن الضروري أن يعرف المعلم تلاميذه وينبغي أن يستعمل أسماءهم وأنسابهم وموطنهم وأحوالهم ) ( ).
مراعاة الفروق الفردية: على المعلم أن يراعي مستوى المتعلمين من الناحية العقلية ويخاطبهم على قدر عقولهم حتى لا ينفروا من العلم ولا يتخبطوا فيما لا يفهمون( )
قال صلى الله عليه وسلم : (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم) ( ).
الحلم والرفق: فعلى المعلم أن يكون حليماً في تعامله مع طلابه فيقاسمهم رفيقا بهم لأن ذلك يعظمه منزلته في نفوسهم ويحببهم فيما يقول. قال صلى الله عليه وسلم (ما أنزل الله شيئاً أقل من اليقين ولا قسم بين الناس شيئا أقل من العلم وما أوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم) ( ).
وعن أبي هارون العبدي وشهر بن حوشب قال كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري يقول مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستفتح لكم الأرض ويأتيكم قوم أو قال غلمان حديثه أسنانهم يطلبون العلم ويتفقهون في الدين ويتعلمون منكم فإذا جاءوكم فعلموهم وألطفوا ووسعوا لهم في المجالس وأفهموهم الحديث( ).
عدم الشدة مع المتعلمين: وقد علل ابن خلدون ذلك بأن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم ولا سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين ضيقت على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى لكسل وحمله على الكذب والخبث( ) فالأجدر بالمعلم أن يكون وسطاً بين الشدة والإهمال حتى لا يتعود الطلبة الكسل فيضيعوا العلم ولا يؤخذوا بالقهر فيأنفوا منه وعن عبدا لله بن عمر أنه قال : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم( ) كان يتخولنا بالموعظة بين الأيام مخافة السآمة علينا) أي يطلب الحال التي ينشطون فيها للموعظة فينصحهم ويذكرهم ( ).
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ) ( ).
العدل والموضوعية في معاملة التلاميذ: إن من خصائص المعلم الناجح العدل في معاملة التلاميذ والبعد عن الهوى في الحكم عليهم لأن قدرا كبيرا من الصحة النفسية للطالب وقبوله لما يلقى عيه تتوقف على نوع المعاملة التي يلقاها وفي ذلك يقول ابن جماعة : يجب على المتعلم أن لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودة أو اعتناء مع تساويهم في الصفات من ديانة أو فضيلة فإن ذلك ربما يوحش منه الصدر و القلب( ).
وعليه فيمكن للمعلم أن يظهر بعض التفصيل إذا بين أن سببه اجتهاد خلق أو من خلاف حتى يعمد على تنمية روح التنافس بين تلاميذه.
هذه بعرض آداب العالم في نفسه ومع طلبته وفيما يلي بعض آداب طالب العلم ولما كان العالم لا يخلو أن يكون طالب العلم فهما يشتركان في الكثير من الآداب السابق ذكرها كإخلاص النية وتطهير القلب والصبر على مشاق العلم وشظف العيش لذلك سيقتصر الباحث على آداب الطالب مع المعلم.
ب. آداب الطالب مع المعلم: أن الاحترام والتقدير للعلم ولأهله من الأمور الأولى التي تساعد طالب العلم على التعلم والاكتساب ذلك أن المعلم لا يعطي كل ما عنده إذا لم يجد ما هو آهل له من إجلال تقدير ومن مظاهر هذا الاحترام ما ذكره الزرنوجي ( ).
- أن لا يمشي أمامه.
- لا يجلس مكانه.
- لا يبتدئ الكلام عنده إلا بإذنه.
- لا يكثر الكلام عنده.
- لا يسأل عند ملالته ويراعي الوقت ويستأذن كما يجب عليه أن يعرف له حقه ولا ينسى فضله وأن يعظمه في حضوره وغيبته( ).
لعله أصبح جلياً أن الإسلام حرص على عظمة العلم و العلماء كما لم يفعل أي نظام آخر وأدلته ذلك كثيرة.
قال الشعبي: صلى زيد بن ثابت على جنازة فقربت إليه بغلته ليركب فجاء بن عباس فأخذ بركابه وقال زيد خلي عنه يا بان عم رسول الله فقال ابن عباس هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء الأكابر فقبل زيد بن ثابت يده وقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم( ).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال (إن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال ولا تعنته في الجواب وأن لا تلج عليه إذا أعرض ولا تشر إليه بيدك وأن لا تغمزه بعينيك وأن لا تطلب زلته وأن وزل تأنيت أوبته وقبلت فيئته وأن لا تقول قال فلان خلاف قولك وأن لا تفشي له سرا وأن لا تغتاب عنده أحدا وأن تحفظه شاهدا وغائبا وان تعم القوم بالسلام وأن تخصه بالتحية… إنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها منفعة)( ).
آداب حضور مجلس العلم: كما أن هناك آداب للطالب مع معلمه فإن لحضور مجالس العلم آداب لا بد منها لخصها ابن حزم في قوله إذا حضرت مجلس العلم فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علماً وأجراً لا حضور مستغني بما عندك طالباً عثرة تشنعها أو غريبة تشيعها فإذا حضرتها كما ذكرنا فالتزم ثلاثة آداب لا أربع لها:
- أن تسأل سؤال المتعلم.
- أن تسكت سكوت الجهال فتحصل على أجر النية في المشاهدة.
- أن تراجع مراجعة العالم( ).
مع التنبه إلى التزام الأدب في الصور الثلاثة المذكورة.
وفي خاتمة الحديث عن ما يجب للعالم على تلاميذه لا بد أن نشير أنه لا يعني التعصب لمذهبه بأن يجعل ما يصدر عنه من الرأي وما يروى له من الاجتهاد حجة عليه وعلى العباد( ).
فالمشرع واحد هو المولى عز وجل وكل يؤخذ من قوله ويرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أسباب الاستزادة من العلم ومقوماتها.
من خلال الآداب السابقة ومعرفتنا بطبيعة الحاجة إلى المعرفة وكيفية تنميتها يمكن أن نستخلص بعض الأسباب التي تدفع المرء إلى المزيد من العلوم وما يقابل ذلك من عوامل معيقة.
أسباب (حوافز) الاستزادة من العلم.
الدافعية: ويقصد بها في التربية الحديثة حالة داخلية تعمل على استثارة السلوك وتنشيطه وتوجيهه نحو الهدف( ) وقد توصلت النظريات التربوية أن التعلم لا يتحدث دون دافع و ما كان هذا الدافع ذاتياً كل ما ساعد على التعلم الجيد( ) لذلك فإن أهم أسباب الاستزادة من العلم تنمية مثل هذا النوع من الدوافع في النفس وذلك من خلال أمور منها:
- ترسيخ القيم الإيمانية في النفس وكلما زاد إيمان المرء زادت رغبته في العلم والعكس صحيح قال تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ( )
- التأمل في فضائل العلم ونقائص الجهل وكفى بلذة العلم داعياً وباعثاً على التحصيل قال تعالى ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). ( )
- وجود القدوة الحسنة الصادقة.
- تفرغ الإنسان من الشواغر وتخلية النفس من العلائق الدنيوية( ) وقد جاء عن أحد الأئمة أنه قال لو كلفت شراء بصلة ما فهمت مسألة.
معوقات الاستزادة من العلم
ونذكر منها:
- تكثير العلائق الدنيوية( ).
- غياب حقيقة الإيمان في النفس.
- كثرة الذنوب ( ) وفي ذلك يقول الشافعي
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال إن علم الله نور
ونور الله لا يهدى لعاصي
- المطامع الدنيوية حيث يصبح العلم مجردة أداة للوصول إلى نفع مادي فمتى ما تحققت ضعفت العزائم ووهنت الهمم
- النسيان قال صلى الله عليه وسلم " آفة العلم النسيان " ( ) وعلاج ذلك كثرة التكرار والمداومة على البحث والاطلاع قال صلى الله عليه وسلم إن مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت " ( )
وهكذا يتبين لنا من خلال هذا المبحث ا، الإسلام لم يترك جانبا من جوانب العلم إلا تناوله من حيث الحض على طلبه ومن حيث إكرام العلماء وبيان مكانتهم ثم من حيث نشر للعلم وذلك كله بقصد بناء الإنسان المتعلم المفكر الذي يروم مصلحته ومصلحة مجتمعه وخير الإنسانية جمعاء( ).إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف للعمل أن يحقق ذلك
مالم يترجم إلى واقع عملي .