باقون ما بقي النخيل
جمال محمد تقي
يطلعون
فصائل ، فصائل
فسائل ، فسائل
وبكل الوسائل
يفككون المستحيلات
يعيدون حل المسائل .
كالنجوم في قلب الظلام
تشيع شعاع الشمس
دونما اخطار ،
يقاومون
الموت القادم من الجار
او من ورارء البحار ،
يقاومون .
،
هذا تاج الشطئان
المعتصم بحبل العراق
والمعصوم من الشطوط
هذا شط العرب
حراسه نخيل ونساء ورجال ،
من القرنة حتى الخليج ،
تغني الارض له
بالعربي
والنخيل فرقة انشادٍ له
بالعربي
وامواج الجزر والمد تتراطن بينها
بالعربي
بالعربي الفصيح
هذه هي طبيعة الحال
في رأس الخليج لا يغنى
الا هذا الموال !
،
القرنة رحم السلالات
القرنة رحم السهل المترسب
غرينا ونفوط ،
في القرنةِ
عُقد قِران دجلة بالفرات
وعَقد آدم قِرانه بحواء
فكان شط العرب وذرية اهل النخيل ،
باقون ابدا
ما بقي الخليج وبحور الخليل .
العراق غرام النخيل . . !
من نسغ الجمار العسلي ، الكامن في الجذع الاسفل ،
تصعد متسامية الى الاعلى شبقات السكر الزهري ،
لذة ، لذة . .
قطرة ، قطرة
،
يتعرق الجمار ، يقطر انفاسه
حتى يفعم بالعرق المدبس ،
المؤجل سكره الى القطاف ،
حيث يصل المصلي ثملا الى حورية جنته
محلقا بهالة الزفاف .
تمر العراق ،
مهر تموز لعشتار ،
لا يينع دون عرق ، وعروق تشربه ،
على غنى كانت ام كفاف ،
عرق يعتصر التعبد سكرا ،
فيصعد به الى السماء السابعة عشقا صوفيا صافيا بين يدي الله .
،
اعطي الارض نخلة ،
تعطيك ظل وطن .
اعطي الارض نخلتان ،
تعطيك وطن بظله !
النخل عائلة حية ، ذكر وانثى واولاد فسائل ، النخل سلم بين الارض والسماء يزينه السعف المهفهف كالجدائل ، النخل وفاء وعطاء وايات من الشمائل ، للنخل قلب واي قلب يصنع من القساوة حب !
النخل يظلل شجرة ادم في ارض السواد ، ولو سارت الامور على سجيتها لاصبح لكل عراقي نخلتين ذكر وانثى ، تصوروا ان يكون عدد نخيل العراق 60 مليون نخلة !
في الاربعينات كان العدد يزيد على ثلاثين مليون نخلة ، وفي السبعينيات اصبح العدد يقترب من الاربعين مليون نخلة ، اما الان فتراجع العدد الى اقل من عشرين مليون ، وكأن النخل ظل الانسان في العراق ، فاذا مات احدهم مات ظله !
احيانا تموت عائلة نخيل باكملها كمدا على موت انسان عراقي !
في الاربعينيات كان العراق ينتج 40% من مجمل الانتاج العالمي للتمور ، اما الان فان التمور المموهة بما فيها الايرانية والامريكية لاتجد حرجا من غزو السوق العراقي الذي ضاق ذرعا بتمره المطعم بزفرة الاشعة والاوبئة المصدرة !
يقول شاعر الفراتين ، واخر عنقود او عثق فحول الشعر العربي العمودي محمد مهدي الجواهري في واحدة من ابرز قصائده "المقصورة " :
سلام على هضبات العراق
وشطيه والجرف والمنحنى
على النخل ذو السعفات الطوال
على سيد الشجر المقتنى
على الرطب الغض اذ يجتلى
باٍيساره يوم اعذاقه
ترف ، وبالعسر عند القنى
وبالسعف والكرب المستجد
ثوبا تهرا وثوبا نضا .
وقال شاعر الحداثة العمودي ، شاعر العراق وراجزه عبد الرزاق عبد الواحد في رثاء الجواهري :
لا الشعر ابكي
لا الابداع لا الادبا
ابكي العراق ،
وابكي أمة العربا
ابكي على كل شمس ، " على كل نخلة " اهدروا دمها
ابكي على وطن ليس الغريب به الا الاصيل ، والصلبا
ابا فرات ابا روحي وقافيتي
وما عرفت لقافيتي سواك ابا .
يفتتح السياب مطلع قصيدته الذائعة انشودة المطر على غابة النخيل الكثيف الذي يغطي مسقط راسه ومسقط راس كل الخليج ، انه يرى بها عيون حبيبته فينشد ويصدح ويقول :
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر !
ثم يتأمل السياب المطر ، ومن يتعامل معه ويحتويه ، وهنا ايضا يجد السياب ان النخيل قد تأبط للارتواء والاسقاء خيرا ، وكانه على موعد مع المطر ، حيث يقول :
اكاد اسمع النخيل يشرب المطر !
يورد الاستاذ عبد الوهاب الدباغ استاذ الجغرافية المساعد بدار المعلمين العالية في بغداد سنة 1956 في اطروحة الماجستير التي سبق وان قدمها الى جامعة برمنكهام سنة 1948 ونال بها درجة الماجستير من الجامعة المذكورة معلومات غاية في الاهمية العلمية والاقتصادية والادبية عن واقع النخيل وزراعته وانواع تموره وخصائصها في العراق ، واهميته المركبة كمادة ووسيلة معمرة للانتاج واثرها في اقتصاد وثقافة اهل العراق ، وسنستعرض هنا ماتناوله في رسالته من جوانب ادبية ولغوية وثقافية ودينية متعلقة بتاريخ وحاضر العلاقة بين النخيل والتمور والانسان في العراق :
ـ النخل والتمر في التاريخ ـ
يعتبر النخل من اشهر الاشجار التي عرفها الانسان منذ اقدم العهود ، وتتفق النصوص القديمة والنصوص المقدسة والاساطير على اظهار النخل في مظهر الشجرة الموهوبة وكمنبع للبركة والخيرات التي لايحصرها اي عد !
هكذا كان النخل طوطما وكانت عبادته دينا واسع الانتشار بين الكلدانيين والاشوريين . ومما يجدر ذكره ان العقائد لاغريقية ترى في النخل إلها من آلهة اليونان ، ثم ان اليونانيين انفسهم قد اطلقوا على النخلة اسم " البحارة الفينيقيين " باعتبار ان الاخيرين هم الذين ساعدوا على اشاعة غرس النخل في الاقاليم المحيطة بحوض البحر المتوسط ، وقد لاحظ اهل اليونان القدماء ايضا لون التمر الاحمر الداكن فاطلقوا عليه اسم " فوينكس" ومعناه اللون الاحمر .
يذكر لنا البحاثة المحقق الاستاذ طه باقر ان الاسم المكون من الاحرف " ت م ر" هو اسم النخل العام في اللغات السامية البدائية ، ولا ادل على ذلك من التطابق الظاهر بين الحبشية التي تطلق على التمر لفظة " تامارت " ، والعربية " تمر " ، والعبرية " تامار" . من الجدير بالذكر ان معظم العناصر السامية كانت تقدس النخل حتى ان بعض اسماء الاعلام من سلالة أور الثالثة تشير اشارة لا غبار عليها الى قدسية النخل عند الاقدمين في العراق .
لقد كان للنخل اهمية استراتيجية بالغة في العراق القديم فالمنحوتات الاشورية التي تصور لنا الجند الاشوريين وهم يقطعون ويقلعون بساتين النخل العائدة الى مدن الاعداء المحاصرة ـ وهم انما يفعلون ذلك للقضاء على مقاومة الاعداء بحرمانهم من اهم مصادر قوتهم .
لم يغب النخل عن مسلة الملك البابلي الشهير بقوانينه ، حيث تضمنت شريعة حمورابي احكاما عديدة بخصوص النخلة وغرسها وتلقيحها ، واهم المواد الواردة في الشريعة المذكورة حول النخل هو ماجاء في المادة التاسعة والخمسين منها حيث تفرض غرامة كبيرة على من يقطع شجرة نخل ، وكتب بالنص مقدارها المحدد بحوالي نصف رطل من الفضة لكل نخلة مقطوعة ، وهذه غرامة جسيمة بالنسبة الى اقتصاد ذلك الزمان .
ان هناك ما مجموعه سبعة مواد متتالية تخص النخيل قد تضمنتها شريعة حمورابي ، ومن الامثلة الاخرى على محتوياتها ماتضمنه نص المادة 64 حيث ورد فيها ما معناه : اذا اعطى رجل بستانا الى فلاح للتلقيح والعناية فعلى الفلاح ان يسلم ثلثي حاصل البستان الى صاحبه طوال مدة عمله في البستان وياخذ لنفسه الثلث . اما المادة 65 فانها تقول : اذا اهمل الفلاح ولم يلقح البستان وتسبب في تقليل المحصول فعليه ان يدفع الفرق بالقياس مع محصول البساتين المجاورة .
ـ النخل والتمر في الاديان السماوية ـ
ان الوسط الذي انبثقت منه الاديان السماوية الموحدة الثلاثة هو نفس الوسط الملائم لنمو النخل وانتاج التمر ، فاليهودية والمسيحية والاسلام اديان بشر بها سكان شبه الجزيرة العربية وهلالها الخصيب ، ومنها انتشرت الى انحاء العالم الاخرى .
وقد عني الكثير ممن اعتنقوا احد هذه الاديان بالنخل والتمر وذكر اهميتها الاقتصادية والغذائية، وليس
ذلك حسب بل ان كثيرا من النصوص الدينية التي احتوتها الكتب المقدسة لهذه الاديان قد تناولت النخل والتمر وذكر ميزاتها وفوائدها .
النخل والتمر في الديانة اليهودية :
تعني لفظة " تمارا" العبرية النخل والتمر معا ، ومن طريف ما يروى عن اليهود انهم لاحظوا اعتدال جذع النخلة وقوامها المديد السامق ، وخيرها الكثير الوافر، فاطلقوا اسمها ـ تامارـ على بناتهم رمزا لجمالهن وتيمنا بخصوبتهن الاكيدة " في المال والبنين " ، وقد ورد في الكتاب المقدس ان كنة نبيهم يهودا بن يعقوب دعيت باسم تامار، وكذلك كان اسم ابنة الملك داود ـ تامارـ .
مما يؤيد ذلك ايضا ماورد في كتاب " نشيد الانشاد " حيث يشبه الحبيب حبيبته الهيفاء بنخلة فارعة الجذع ذات عثاكيل ، وعلى كل حال ، لقد اجزل انبياء اليهود وعلماؤهم على النخيل ونتاجه والحث على غرسه وامتدحوا التمر كثيرا ، ولا ادل على ذلك مما جاء في التوراة : ان " دابورا " حكيمة بني اسرائيل في عهد القضاة كانت تجلس للقضاء تحت جذع نخلة عرفت باسمها ، وفي التوراة ايضا يعتبر التمر او عصارته ـ الدبس ـ من الاثمار السبعة الممتازة ، كذلك ورد ايضا ان جدران الهيكل الذي بناه نبيهم سليمان لعبادة الله كانت مكسوة بخشب الارز ومنقوش عليها صور تمثل النخيل ، اما التلمود وهو الكتاب الثاني في الاهمية عندهم بعد التوراة ، فقد تضمن تفاصيل عجيبة عن التمر والدبس تعكس الاهمية الاستثنائية للنخيل وتمره في جذور اعرافهم واصولهم ، ومما جاء فيه : ان بعض علماء التلمود يوصون الناس باتباع طرق متعددة لاستثمار مهور زوجاتهم ، ومنها 1 ـ شراء الاراضي الزراعية 2 ـ شراء بيوت السكن 3 ـ شراء بساتين النخيل 4 ـ شراء مزارع الكروم !
ـ النخل والتمر في الديانة المسيحية ـ
يقال للنبي عيسى "ع" ذو النخلة لانه ولد تحت ظلها !
وقد ورد في الانجيل : ان انصار المسيح فرشوا سعف النخيل في طريقه عندما دخل القدس لاول مرة ، وقد ورد ايضا ان سعف النخيل كان علامة من علامات النصر حيث يحمل امام المنتصرين في مواكبهم ،
وما زالت تعتبر بعض الكنائس المسيحية النخلة شجرة الحياة ، وحتى الان نجد هناك مغارس خاصة للنخيل في منطقة بورديكيرا بالقرب من روما ، لاجل تهيأة السعوف المطلوبة لاقامة الشعائر والطقوس الدينية ، وخاصة ليوم " احد النخل" من كل عام في الفاتيكان مقر الكنيسة البابوية !
ـ النخل والتمر في الديانة الاسلامية ـ
هناك مادة غزيرة مما يمكن ان نطلق عليها " ادب النخل والتمر " في القرآن الكريم والاحاديث النبوية الشريفة ، ففي القرآن الكريم ذكر مسهب للنخل ووصف بالغ لتمره وطلعه وعرجونه ، ومن يتصفحه سورة سورة يجد الشيء الكثير من ذلك ، ففي سورة مريم " وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا ، فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم إنسيا " ، وجاء في سورة النخل " ومن ثمرات النخل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ، ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون " ، وفي سورة يسن " وجعلنا فيها جنات من نخيل واعناب ليأكلوا من ثمره " ، وفي سورة الانعام " . . . ومن النخل من طلعها قنوان " ، وفي سورة الرحمن " والارض وضعها للانام فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام " ، وفي سورة الرعد " في الارض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان " ، وفي سورة قاف " وانزلنا من السماء ماء مباركا فانبتنا به جنات وحب الحصيد ، والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد ، واحيينا به بلدة ميتا " .
اما في الاحاديث النبوية الشريفة فقد ورد ذكر النخل والتمر بشكل متواتر بما يعزز من اهمية النخلة وتمرها في عرف وتقاليد المسلمين ، ومنها الحديث القائل : اطعموا نسائكم في نفاسهن التمر يخرج الولد حليما فانه كان طعام مريم حين ولدت ولو علم الله طعاما خيرا من التمر لاطعمها اياه .
وقد ورد عن عائشة رض ، قالت : قال رسول الله ص " بيت ليس فيه تمر جياع اهله " ، وورد في المأثور : " من افطر صائما بشق من التمر فله الجنة " ، وورد في الحديث : " ان قامت الساعة وفي يد احدكم فسيلة ، فان استطاع ان لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها " ، وهذا الحديث يدلل على مبلغ حث الرسول المسلمين على الاكثار من غرس النخيل والاهتمام بها .
ونقل عن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه قوله " أكرموا عمتكم النخلة ـ اي بسقيها وتنقية اصولها ، فانها خلقت من فضلة طينة آدم ، وهي بهذا الاعتبار عمة الادمي من نسبه ، وليس من شجرة اكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران " .
يذكر ان هناك 455 صنفا من اصناف التمور في العراق ، وسنذكر هنا الاصناف التجارية وغير التجارية منها فقط حيث لا يسع المجال لذكرها جميعا .
الاصناف التجارية ، اي الاصناف المنتجة بكميات كبيرة : الزهدي ـ الساير ـ الخضراوي ـ الحلاوي ـ الديري ـ البريم ـ الجبجاب .
الاصناف غير التجارية : الاشرسي ـ المكتوم ـ الشكري ـ طه افندي ـ عبدلي ـ البرحي ـ المكاوي ـ الحويزي ـ الكنطارـ الاشكر ـ الحساوي ـ الهلالي ـ ووو .
ياترى هل يجد العراقي اليوم هذا التعدد والتفرد في تمور بلاده ، ام انها انقرضت كما ينقرض الزمن الجميل فيها ؟
شط العرب شط النخيل ! :
تتكاثف غابات النخيل السامقة على ضفاف الشاطئين العربيين العراقيين ، وكانت البصرة تحتضن بذراعيها كل صرة النخيل المرصوص على قمة راس الخليج العربي من عبدان الى الحويزة الى القرنة والعمارة وكل ضفاف دجلة والفرات الجنوبية وهذا قبل ان يقتطع الفرس اجزاء غالية من صرة النخيل المدهشة بفرادة تمورها ، امتزاج الماء الحلو مع الماء المالح في منطقة شط العرب والمسبب بتداخل مياه الخليج بمصب لقاء دجلة بالفرات قد اعطى لنخيل البصرة طقسه الاروائي الخاص ناهيك عن رطوبة المكان وشدة حرارته ، ويبدو ان الفرس ودهاقنتهم المتربصين شرا بالعراق لا يفرقون بين اغتصاب الارض الغنية بالنخيل او النفط فكلاهما من مولدات الطاقة الحيوية !
تزداد على البصرة الاحقاد من الاقارب احيانا ومن الاجانب كل الاحيان ، فعروس الخليج وتاجه واعرق المأهول فيه ، هي أم وحاضرة العرب ، وحصنهم منذ ذي قار والجمل وثورة الزبير ، حتى ايام قاعدة الشعيبة ومعارك الفاو الى اليوم يوم التكالب الايراني الامريكي البريطاني لحرقها طائفيا وتهريب ما فيها من نفوط وتمور !
جمال محمد تقي
يطلعون
فصائل ، فصائل
فسائل ، فسائل
وبكل الوسائل
يفككون المستحيلات
يعيدون حل المسائل .
كالنجوم في قلب الظلام
تشيع شعاع الشمس
دونما اخطار ،
يقاومون
الموت القادم من الجار
او من ورارء البحار ،
يقاومون .
،
هذا تاج الشطئان
المعتصم بحبل العراق
والمعصوم من الشطوط
هذا شط العرب
حراسه نخيل ونساء ورجال ،
من القرنة حتى الخليج ،
تغني الارض له
بالعربي
والنخيل فرقة انشادٍ له
بالعربي
وامواج الجزر والمد تتراطن بينها
بالعربي
بالعربي الفصيح
هذه هي طبيعة الحال
في رأس الخليج لا يغنى
الا هذا الموال !
،
القرنة رحم السلالات
القرنة رحم السهل المترسب
غرينا ونفوط ،
في القرنةِ
عُقد قِران دجلة بالفرات
وعَقد آدم قِرانه بحواء
فكان شط العرب وذرية اهل النخيل ،
باقون ابدا
ما بقي الخليج وبحور الخليل .
العراق غرام النخيل . . !
من نسغ الجمار العسلي ، الكامن في الجذع الاسفل ،
تصعد متسامية الى الاعلى شبقات السكر الزهري ،
لذة ، لذة . .
قطرة ، قطرة
،
يتعرق الجمار ، يقطر انفاسه
حتى يفعم بالعرق المدبس ،
المؤجل سكره الى القطاف ،
حيث يصل المصلي ثملا الى حورية جنته
محلقا بهالة الزفاف .
تمر العراق ،
مهر تموز لعشتار ،
لا يينع دون عرق ، وعروق تشربه ،
على غنى كانت ام كفاف ،
عرق يعتصر التعبد سكرا ،
فيصعد به الى السماء السابعة عشقا صوفيا صافيا بين يدي الله .
،
اعطي الارض نخلة ،
تعطيك ظل وطن .
اعطي الارض نخلتان ،
تعطيك وطن بظله !
النخل عائلة حية ، ذكر وانثى واولاد فسائل ، النخل سلم بين الارض والسماء يزينه السعف المهفهف كالجدائل ، النخل وفاء وعطاء وايات من الشمائل ، للنخل قلب واي قلب يصنع من القساوة حب !
النخل يظلل شجرة ادم في ارض السواد ، ولو سارت الامور على سجيتها لاصبح لكل عراقي نخلتين ذكر وانثى ، تصوروا ان يكون عدد نخيل العراق 60 مليون نخلة !
في الاربعينات كان العدد يزيد على ثلاثين مليون نخلة ، وفي السبعينيات اصبح العدد يقترب من الاربعين مليون نخلة ، اما الان فتراجع العدد الى اقل من عشرين مليون ، وكأن النخل ظل الانسان في العراق ، فاذا مات احدهم مات ظله !
احيانا تموت عائلة نخيل باكملها كمدا على موت انسان عراقي !
في الاربعينيات كان العراق ينتج 40% من مجمل الانتاج العالمي للتمور ، اما الان فان التمور المموهة بما فيها الايرانية والامريكية لاتجد حرجا من غزو السوق العراقي الذي ضاق ذرعا بتمره المطعم بزفرة الاشعة والاوبئة المصدرة !
يقول شاعر الفراتين ، واخر عنقود او عثق فحول الشعر العربي العمودي محمد مهدي الجواهري في واحدة من ابرز قصائده "المقصورة " :
سلام على هضبات العراق
وشطيه والجرف والمنحنى
على النخل ذو السعفات الطوال
على سيد الشجر المقتنى
على الرطب الغض اذ يجتلى
باٍيساره يوم اعذاقه
ترف ، وبالعسر عند القنى
وبالسعف والكرب المستجد
ثوبا تهرا وثوبا نضا .
وقال شاعر الحداثة العمودي ، شاعر العراق وراجزه عبد الرزاق عبد الواحد في رثاء الجواهري :
لا الشعر ابكي
لا الابداع لا الادبا
ابكي العراق ،
وابكي أمة العربا
ابكي على كل شمس ، " على كل نخلة " اهدروا دمها
ابكي على وطن ليس الغريب به الا الاصيل ، والصلبا
ابا فرات ابا روحي وقافيتي
وما عرفت لقافيتي سواك ابا .
يفتتح السياب مطلع قصيدته الذائعة انشودة المطر على غابة النخيل الكثيف الذي يغطي مسقط راسه ومسقط راس كل الخليج ، انه يرى بها عيون حبيبته فينشد ويصدح ويقول :
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر !
ثم يتأمل السياب المطر ، ومن يتعامل معه ويحتويه ، وهنا ايضا يجد السياب ان النخيل قد تأبط للارتواء والاسقاء خيرا ، وكانه على موعد مع المطر ، حيث يقول :
اكاد اسمع النخيل يشرب المطر !
يورد الاستاذ عبد الوهاب الدباغ استاذ الجغرافية المساعد بدار المعلمين العالية في بغداد سنة 1956 في اطروحة الماجستير التي سبق وان قدمها الى جامعة برمنكهام سنة 1948 ونال بها درجة الماجستير من الجامعة المذكورة معلومات غاية في الاهمية العلمية والاقتصادية والادبية عن واقع النخيل وزراعته وانواع تموره وخصائصها في العراق ، واهميته المركبة كمادة ووسيلة معمرة للانتاج واثرها في اقتصاد وثقافة اهل العراق ، وسنستعرض هنا ماتناوله في رسالته من جوانب ادبية ولغوية وثقافية ودينية متعلقة بتاريخ وحاضر العلاقة بين النخيل والتمور والانسان في العراق :
ـ النخل والتمر في التاريخ ـ
يعتبر النخل من اشهر الاشجار التي عرفها الانسان منذ اقدم العهود ، وتتفق النصوص القديمة والنصوص المقدسة والاساطير على اظهار النخل في مظهر الشجرة الموهوبة وكمنبع للبركة والخيرات التي لايحصرها اي عد !
هكذا كان النخل طوطما وكانت عبادته دينا واسع الانتشار بين الكلدانيين والاشوريين . ومما يجدر ذكره ان العقائد لاغريقية ترى في النخل إلها من آلهة اليونان ، ثم ان اليونانيين انفسهم قد اطلقوا على النخلة اسم " البحارة الفينيقيين " باعتبار ان الاخيرين هم الذين ساعدوا على اشاعة غرس النخل في الاقاليم المحيطة بحوض البحر المتوسط ، وقد لاحظ اهل اليونان القدماء ايضا لون التمر الاحمر الداكن فاطلقوا عليه اسم " فوينكس" ومعناه اللون الاحمر .
يذكر لنا البحاثة المحقق الاستاذ طه باقر ان الاسم المكون من الاحرف " ت م ر" هو اسم النخل العام في اللغات السامية البدائية ، ولا ادل على ذلك من التطابق الظاهر بين الحبشية التي تطلق على التمر لفظة " تامارت " ، والعربية " تمر " ، والعبرية " تامار" . من الجدير بالذكر ان معظم العناصر السامية كانت تقدس النخل حتى ان بعض اسماء الاعلام من سلالة أور الثالثة تشير اشارة لا غبار عليها الى قدسية النخل عند الاقدمين في العراق .
لقد كان للنخل اهمية استراتيجية بالغة في العراق القديم فالمنحوتات الاشورية التي تصور لنا الجند الاشوريين وهم يقطعون ويقلعون بساتين النخل العائدة الى مدن الاعداء المحاصرة ـ وهم انما يفعلون ذلك للقضاء على مقاومة الاعداء بحرمانهم من اهم مصادر قوتهم .
لم يغب النخل عن مسلة الملك البابلي الشهير بقوانينه ، حيث تضمنت شريعة حمورابي احكاما عديدة بخصوص النخلة وغرسها وتلقيحها ، واهم المواد الواردة في الشريعة المذكورة حول النخل هو ماجاء في المادة التاسعة والخمسين منها حيث تفرض غرامة كبيرة على من يقطع شجرة نخل ، وكتب بالنص مقدارها المحدد بحوالي نصف رطل من الفضة لكل نخلة مقطوعة ، وهذه غرامة جسيمة بالنسبة الى اقتصاد ذلك الزمان .
ان هناك ما مجموعه سبعة مواد متتالية تخص النخيل قد تضمنتها شريعة حمورابي ، ومن الامثلة الاخرى على محتوياتها ماتضمنه نص المادة 64 حيث ورد فيها ما معناه : اذا اعطى رجل بستانا الى فلاح للتلقيح والعناية فعلى الفلاح ان يسلم ثلثي حاصل البستان الى صاحبه طوال مدة عمله في البستان وياخذ لنفسه الثلث . اما المادة 65 فانها تقول : اذا اهمل الفلاح ولم يلقح البستان وتسبب في تقليل المحصول فعليه ان يدفع الفرق بالقياس مع محصول البساتين المجاورة .
ـ النخل والتمر في الاديان السماوية ـ
ان الوسط الذي انبثقت منه الاديان السماوية الموحدة الثلاثة هو نفس الوسط الملائم لنمو النخل وانتاج التمر ، فاليهودية والمسيحية والاسلام اديان بشر بها سكان شبه الجزيرة العربية وهلالها الخصيب ، ومنها انتشرت الى انحاء العالم الاخرى .
وقد عني الكثير ممن اعتنقوا احد هذه الاديان بالنخل والتمر وذكر اهميتها الاقتصادية والغذائية، وليس
ذلك حسب بل ان كثيرا من النصوص الدينية التي احتوتها الكتب المقدسة لهذه الاديان قد تناولت النخل والتمر وذكر ميزاتها وفوائدها .
النخل والتمر في الديانة اليهودية :
تعني لفظة " تمارا" العبرية النخل والتمر معا ، ومن طريف ما يروى عن اليهود انهم لاحظوا اعتدال جذع النخلة وقوامها المديد السامق ، وخيرها الكثير الوافر، فاطلقوا اسمها ـ تامارـ على بناتهم رمزا لجمالهن وتيمنا بخصوبتهن الاكيدة " في المال والبنين " ، وقد ورد في الكتاب المقدس ان كنة نبيهم يهودا بن يعقوب دعيت باسم تامار، وكذلك كان اسم ابنة الملك داود ـ تامارـ .
مما يؤيد ذلك ايضا ماورد في كتاب " نشيد الانشاد " حيث يشبه الحبيب حبيبته الهيفاء بنخلة فارعة الجذع ذات عثاكيل ، وعلى كل حال ، لقد اجزل انبياء اليهود وعلماؤهم على النخيل ونتاجه والحث على غرسه وامتدحوا التمر كثيرا ، ولا ادل على ذلك مما جاء في التوراة : ان " دابورا " حكيمة بني اسرائيل في عهد القضاة كانت تجلس للقضاء تحت جذع نخلة عرفت باسمها ، وفي التوراة ايضا يعتبر التمر او عصارته ـ الدبس ـ من الاثمار السبعة الممتازة ، كذلك ورد ايضا ان جدران الهيكل الذي بناه نبيهم سليمان لعبادة الله كانت مكسوة بخشب الارز ومنقوش عليها صور تمثل النخيل ، اما التلمود وهو الكتاب الثاني في الاهمية عندهم بعد التوراة ، فقد تضمن تفاصيل عجيبة عن التمر والدبس تعكس الاهمية الاستثنائية للنخيل وتمره في جذور اعرافهم واصولهم ، ومما جاء فيه : ان بعض علماء التلمود يوصون الناس باتباع طرق متعددة لاستثمار مهور زوجاتهم ، ومنها 1 ـ شراء الاراضي الزراعية 2 ـ شراء بيوت السكن 3 ـ شراء بساتين النخيل 4 ـ شراء مزارع الكروم !
ـ النخل والتمر في الديانة المسيحية ـ
يقال للنبي عيسى "ع" ذو النخلة لانه ولد تحت ظلها !
وقد ورد في الانجيل : ان انصار المسيح فرشوا سعف النخيل في طريقه عندما دخل القدس لاول مرة ، وقد ورد ايضا ان سعف النخيل كان علامة من علامات النصر حيث يحمل امام المنتصرين في مواكبهم ،
وما زالت تعتبر بعض الكنائس المسيحية النخلة شجرة الحياة ، وحتى الان نجد هناك مغارس خاصة للنخيل في منطقة بورديكيرا بالقرب من روما ، لاجل تهيأة السعوف المطلوبة لاقامة الشعائر والطقوس الدينية ، وخاصة ليوم " احد النخل" من كل عام في الفاتيكان مقر الكنيسة البابوية !
ـ النخل والتمر في الديانة الاسلامية ـ
هناك مادة غزيرة مما يمكن ان نطلق عليها " ادب النخل والتمر " في القرآن الكريم والاحاديث النبوية الشريفة ، ففي القرآن الكريم ذكر مسهب للنخل ووصف بالغ لتمره وطلعه وعرجونه ، ومن يتصفحه سورة سورة يجد الشيء الكثير من ذلك ، ففي سورة مريم " وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا ، فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم إنسيا " ، وجاء في سورة النخل " ومن ثمرات النخل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ، ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون " ، وفي سورة يسن " وجعلنا فيها جنات من نخيل واعناب ليأكلوا من ثمره " ، وفي سورة الانعام " . . . ومن النخل من طلعها قنوان " ، وفي سورة الرحمن " والارض وضعها للانام فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام " ، وفي سورة الرعد " في الارض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان " ، وفي سورة قاف " وانزلنا من السماء ماء مباركا فانبتنا به جنات وحب الحصيد ، والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد ، واحيينا به بلدة ميتا " .
اما في الاحاديث النبوية الشريفة فقد ورد ذكر النخل والتمر بشكل متواتر بما يعزز من اهمية النخلة وتمرها في عرف وتقاليد المسلمين ، ومنها الحديث القائل : اطعموا نسائكم في نفاسهن التمر يخرج الولد حليما فانه كان طعام مريم حين ولدت ولو علم الله طعاما خيرا من التمر لاطعمها اياه .
وقد ورد عن عائشة رض ، قالت : قال رسول الله ص " بيت ليس فيه تمر جياع اهله " ، وورد في المأثور : " من افطر صائما بشق من التمر فله الجنة " ، وورد في الحديث : " ان قامت الساعة وفي يد احدكم فسيلة ، فان استطاع ان لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها " ، وهذا الحديث يدلل على مبلغ حث الرسول المسلمين على الاكثار من غرس النخيل والاهتمام بها .
ونقل عن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه قوله " أكرموا عمتكم النخلة ـ اي بسقيها وتنقية اصولها ، فانها خلقت من فضلة طينة آدم ، وهي بهذا الاعتبار عمة الادمي من نسبه ، وليس من شجرة اكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران " .
يذكر ان هناك 455 صنفا من اصناف التمور في العراق ، وسنذكر هنا الاصناف التجارية وغير التجارية منها فقط حيث لا يسع المجال لذكرها جميعا .
الاصناف التجارية ، اي الاصناف المنتجة بكميات كبيرة : الزهدي ـ الساير ـ الخضراوي ـ الحلاوي ـ الديري ـ البريم ـ الجبجاب .
الاصناف غير التجارية : الاشرسي ـ المكتوم ـ الشكري ـ طه افندي ـ عبدلي ـ البرحي ـ المكاوي ـ الحويزي ـ الكنطارـ الاشكر ـ الحساوي ـ الهلالي ـ ووو .
ياترى هل يجد العراقي اليوم هذا التعدد والتفرد في تمور بلاده ، ام انها انقرضت كما ينقرض الزمن الجميل فيها ؟
شط العرب شط النخيل ! :
تتكاثف غابات النخيل السامقة على ضفاف الشاطئين العربيين العراقيين ، وكانت البصرة تحتضن بذراعيها كل صرة النخيل المرصوص على قمة راس الخليج العربي من عبدان الى الحويزة الى القرنة والعمارة وكل ضفاف دجلة والفرات الجنوبية وهذا قبل ان يقتطع الفرس اجزاء غالية من صرة النخيل المدهشة بفرادة تمورها ، امتزاج الماء الحلو مع الماء المالح في منطقة شط العرب والمسبب بتداخل مياه الخليج بمصب لقاء دجلة بالفرات قد اعطى لنخيل البصرة طقسه الاروائي الخاص ناهيك عن رطوبة المكان وشدة حرارته ، ويبدو ان الفرس ودهاقنتهم المتربصين شرا بالعراق لا يفرقون بين اغتصاب الارض الغنية بالنخيل او النفط فكلاهما من مولدات الطاقة الحيوية !
تزداد على البصرة الاحقاد من الاقارب احيانا ومن الاجانب كل الاحيان ، فعروس الخليج وتاجه واعرق المأهول فيه ، هي أم وحاضرة العرب ، وحصنهم منذ ذي قار والجمل وثورة الزبير ، حتى ايام قاعدة الشعيبة ومعارك الفاو الى اليوم يوم التكالب الايراني الامريكي البريطاني لحرقها طائفيا وتهريب ما فيها من نفوط وتمور !