
شهدت بغداد في الخمسينيات من القرن الماضي شخصيات طريفة خلدتها الذاكرة العراقية بما حملت من قصص ومواقف طريفة ، كان ابطالها يملئون حياة الناس صخبا وضجيجا وبهجة وسعادة ، في زمن كان يسود فيه الهدوء والاستقرار النسبي فكانت هذه الشخصيات الطريفة من نتاج ذلك الزمن الجميل !!
و من ابرز ما يتذكره الناس الان من تلك الشخصيات : توفيق اجنص وخلف امين وقاسم ابو الهبزي واحمد بنية وابراهيم عرب وشيخان العربنجي ( ابو زيج ) وعباس حلاوي وعبود البلام وشفتالو وخليلو وحسن حراسة واخرين كثر .. واخيرا وليس اخرا حسون الامريكي موضوع مقالنا اليوم !
ولعل المواطن البغدادي حسون بن كاظم بن عيسى العبيدي ( 1929-1985 ) ، المولود بمنطقة الصليخ القديمة في بغداد ، والمعروف عند العراقيين على نطاق واسع باسم ( حسون الامريكي ) قد حظي بشهرة نادرة لم يحظ بها الا المشاهير والنجوم والشخصيات الفريدة من نوعها !!
وسمي حسون الامريكي بهذا الاسم من قبل البغداديين لانه كان غربي التصرف والمظهر تماما ، حريصا على ارتداء الملابس الملونة المزركشة الغريبة الصارخة الالوان ( على طريقة الفنان المصري شعبان عبد الرحيم ) !!
وكان يمارس حريته الشخصية دون ان يمس حريات الاخرين ، مستمتعا باسلوبه الغربي في نمط العيش ، متقمصا الشخصية الغربية، متابعا للافلام الغربية التي تعرض في دور السينما في بغداد ، مشتركا بالمجلات الاجنبية ، لايقتني حاجاته الا من الماركات العالمية المعروفة ، ويرد التحية على الناس بلغة انجليزية سليمة كما لو انه امريكي بالفعل !!
وكان يشاهد عصرية كل يوم ممتطيا دراجته الهوائية وهو يرتدي بنطلون شورت جينز ايام ماكان الشورت غير مالوف للرجال ، اما الجينز فكان من النوادر ، ويضع قبعة واقية على راسه ، وتظهر جواربه المقلمة الشبيهة بجوارب لاعبي كرة القدم ايام زمان !
وكان احيانا يتمشى من الاعظمية قاطعا شارع الرشيد حتى منطقة حافظ القاضي ، ويقف مقابل استوديو ارشاك التاريخي للتصوير متكئا على احدى ( دنك ) شارع الرشيد ، يتلقى تعليقات المارة البريئة منها والثقيلة على حد سواء التي يقابلها بابتسامة الواثق من نفسه !
والادهى من ذلك انه كان يصطحب معه كلبه الاليف مربوطا بحبل ملون في مشهد نادر الحدوث في مدينة مثل بغداد قبل اكثر من خمسين عاما من الان ! بل كان عندما يركب الباص يقطع تذكرة خاصة لكلبه المدلل في تصرف غير مسبوق يثير دهشة المحصل ( الجابي ) وتندر الركاب وتعليقاتهم التي لاتنتهي في بلد تعيش فيه الكلاب سائبة حرة طليقة !!
وفي أوائل الستينيات كان يحل ضيفا على تلفزيون بغداد وهو بصحبة دراجته وبزيه المعتاد ، وبعد ان شرح وجهة نظره في ملبسه وازيائه ومظهره الغريب ، دعا الشباب الى التمتع بحريتهم بمسؤولية والتزام دون الاعتداء على حرمات وحريات الاخرين ، منتقدا ظاهرة التحرس بالفتيات و تصرفات الصبية والمراهقين وصارت الصحف تعده من ظرفاء بغداد..
وفي اواخر ايامه ابتعد حسون الامريكي عن الناس وعاش في عزلة بعد ان لم يعد قادرا على تحمل تعليقات الناس التي كان يعدها انتهاكا لحريته الشخصية ، وكان رحمه الله مع كل تقليعاته واطواره الغريبة انسانا مسلما وديعا فرض حضوره على الجميع ، ملتزما بحدوده ومحافظا على اخلاقه العالية ، ولم يسجل عليه احد ادنى تجاوز او تصرف غير مقبول ، جاعلا من شكل ملابسه محط انظار المجتمع الذي ظل رافضا ومستنكرا هذا الامر غير المالوف للمجتمع البغداي .
كان حسون الامريكي ظاهرة اجتماعية - سلمية – متمردة تحدت ظروف الزمان والمكان ، ولكن نزعة التمرد هذه لم تجعل منه شخصا عدوانيا او شريرا ، فقد كان محبوبا من الجميع بشهادة الكثيرين ممن عاصروه ، كما انه لم يكن عاطلا عن العمل فقد كان ممرضا صحيا ، وقد يكون لمهنته تاثير على نظافته واناقته وحرصه على الاهتمام بمظهره الخارجي .
ونحن اذ نستذكر هذه الشخصية الطريفة نتمنى على الباحثين المعنيين بتوثيق التراث البغدادي خصوصا ، والعراقي عموما ، البحث في تاريخ هؤلاء الرجال الظرفاء ، وتوثيق سيرتهم من خلال ربط حكاياتهم ومقالبهم وقصصهم الطريفة والنادرة مع البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة انذاك ، وتخليد هذه الشخصيات قبل ان يطويها النسيان فهم نتاج حضارة و ثقافة مرحلة فاصلة في تاريخ العراق بين عهد ملكي واخر جاء على انقاضه وهو العصر الجمهوري ، فكان هؤلاء الناس ممن عاشوا بين العصرين فكانوا شهودا على الاحداث المهمة والخطيرة التي عصفت بنا وما زالت .. والحبل على الجرار !!
[email protected]
و من ابرز ما يتذكره الناس الان من تلك الشخصيات : توفيق اجنص وخلف امين وقاسم ابو الهبزي واحمد بنية وابراهيم عرب وشيخان العربنجي ( ابو زيج ) وعباس حلاوي وعبود البلام وشفتالو وخليلو وحسن حراسة واخرين كثر .. واخيرا وليس اخرا حسون الامريكي موضوع مقالنا اليوم !
ولعل المواطن البغدادي حسون بن كاظم بن عيسى العبيدي ( 1929-1985 ) ، المولود بمنطقة الصليخ القديمة في بغداد ، والمعروف عند العراقيين على نطاق واسع باسم ( حسون الامريكي ) قد حظي بشهرة نادرة لم يحظ بها الا المشاهير والنجوم والشخصيات الفريدة من نوعها !!
وسمي حسون الامريكي بهذا الاسم من قبل البغداديين لانه كان غربي التصرف والمظهر تماما ، حريصا على ارتداء الملابس الملونة المزركشة الغريبة الصارخة الالوان ( على طريقة الفنان المصري شعبان عبد الرحيم ) !!
وكان يمارس حريته الشخصية دون ان يمس حريات الاخرين ، مستمتعا باسلوبه الغربي في نمط العيش ، متقمصا الشخصية الغربية، متابعا للافلام الغربية التي تعرض في دور السينما في بغداد ، مشتركا بالمجلات الاجنبية ، لايقتني حاجاته الا من الماركات العالمية المعروفة ، ويرد التحية على الناس بلغة انجليزية سليمة كما لو انه امريكي بالفعل !!
وكان يشاهد عصرية كل يوم ممتطيا دراجته الهوائية وهو يرتدي بنطلون شورت جينز ايام ماكان الشورت غير مالوف للرجال ، اما الجينز فكان من النوادر ، ويضع قبعة واقية على راسه ، وتظهر جواربه المقلمة الشبيهة بجوارب لاعبي كرة القدم ايام زمان !
وكان احيانا يتمشى من الاعظمية قاطعا شارع الرشيد حتى منطقة حافظ القاضي ، ويقف مقابل استوديو ارشاك التاريخي للتصوير متكئا على احدى ( دنك ) شارع الرشيد ، يتلقى تعليقات المارة البريئة منها والثقيلة على حد سواء التي يقابلها بابتسامة الواثق من نفسه !
والادهى من ذلك انه كان يصطحب معه كلبه الاليف مربوطا بحبل ملون في مشهد نادر الحدوث في مدينة مثل بغداد قبل اكثر من خمسين عاما من الان ! بل كان عندما يركب الباص يقطع تذكرة خاصة لكلبه المدلل في تصرف غير مسبوق يثير دهشة المحصل ( الجابي ) وتندر الركاب وتعليقاتهم التي لاتنتهي في بلد تعيش فيه الكلاب سائبة حرة طليقة !!
وفي أوائل الستينيات كان يحل ضيفا على تلفزيون بغداد وهو بصحبة دراجته وبزيه المعتاد ، وبعد ان شرح وجهة نظره في ملبسه وازيائه ومظهره الغريب ، دعا الشباب الى التمتع بحريتهم بمسؤولية والتزام دون الاعتداء على حرمات وحريات الاخرين ، منتقدا ظاهرة التحرس بالفتيات و تصرفات الصبية والمراهقين وصارت الصحف تعده من ظرفاء بغداد..
وفي اواخر ايامه ابتعد حسون الامريكي عن الناس وعاش في عزلة بعد ان لم يعد قادرا على تحمل تعليقات الناس التي كان يعدها انتهاكا لحريته الشخصية ، وكان رحمه الله مع كل تقليعاته واطواره الغريبة انسانا مسلما وديعا فرض حضوره على الجميع ، ملتزما بحدوده ومحافظا على اخلاقه العالية ، ولم يسجل عليه احد ادنى تجاوز او تصرف غير مقبول ، جاعلا من شكل ملابسه محط انظار المجتمع الذي ظل رافضا ومستنكرا هذا الامر غير المالوف للمجتمع البغداي .
كان حسون الامريكي ظاهرة اجتماعية - سلمية – متمردة تحدت ظروف الزمان والمكان ، ولكن نزعة التمرد هذه لم تجعل منه شخصا عدوانيا او شريرا ، فقد كان محبوبا من الجميع بشهادة الكثيرين ممن عاصروه ، كما انه لم يكن عاطلا عن العمل فقد كان ممرضا صحيا ، وقد يكون لمهنته تاثير على نظافته واناقته وحرصه على الاهتمام بمظهره الخارجي .
ونحن اذ نستذكر هذه الشخصية الطريفة نتمنى على الباحثين المعنيين بتوثيق التراث البغدادي خصوصا ، والعراقي عموما ، البحث في تاريخ هؤلاء الرجال الظرفاء ، وتوثيق سيرتهم من خلال ربط حكاياتهم ومقالبهم وقصصهم الطريفة والنادرة مع البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة انذاك ، وتخليد هذه الشخصيات قبل ان يطويها النسيان فهم نتاج حضارة و ثقافة مرحلة فاصلة في تاريخ العراق بين عهد ملكي واخر جاء على انقاضه وهو العصر الجمهوري ، فكان هؤلاء الناس ممن عاشوا بين العصرين فكانوا شهودا على الاحداث المهمة والخطيرة التي عصفت بنا وما زالت .. والحبل على الجرار !!
[email protected]