الأخبار
الولايات المتحدة تفرض عقوبات على مقررة الأمم المتحدة الخاصة للأراضي الفلسطينية(أكسيوس) يكشف تفاصيل محادثات قطرية أميركية إسرائيلية في البيت الأبيض بشأن غزةجامعة النجاح تبدأ استقبال طلبات الالتحاق لطلبة الثانوية العامة ابتداءً من الخميسالحوثيون: استهدفنا سفينة متجهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي وغرقت بشكل كاملمقررة أممية تطالب ثلاث دول أوروبية بتفسير توفيرها مجالاً جوياً آمناً لنتنياهوالنونو: نبدي مرونة عالية في مفاوضات الدوحة والحديث الآن يدور حول قضيتين أساسيتينالقسام: حاولنا أسر جندي إسرائيلي شرق خانيونسنتنياهو يتحدث عن اتفاق غزة المرتقب وآلية توزيع المساعدات"المالية": ننتظر تحويل عائدات الضرائب خلال هذا الموعد لصرف دفعة من الراتبغزة: 105 شهداء و530 جريحاً وصلوا المستشفيات خلال 24 ساعةجيش الاحتلال: نفذنا عمليات برية بعدة مناطق في جنوب لبنانصناعة الأبطال: أزمة وعي ومأزق مجتمعالحرب المفتوحة أحدث إستراتيجياً إسرائيلية(حماس): المقاومة هي من ستفرض الشروطلبيد: نتنياهو يعرقل التوصل لاتفاق بغزة ولا فائدة من استمرار الحرب
2025/7/10
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

قسوة البرد ونار القهر بقلم:د. نضال الصالح

تاريخ النشر : 2010-07-29
قسوة البرد ونار القهر بقلم:د. نضال الصالح
صعد الحاج محفوظ درجات سلم باص القرية وطرح السلام على الموجودين وهو ينفخ في يديه ويفرك أصابعه ليبث فيها الدفئ. قال موجها الحديث إلى الحاضرين:" والله يا جماعة، الدنيا بردها بقص المسمار وشاعر إنه أصابعي بدها تسقط وعظامي تتفتت." رد عليه مدرس مدرسة القرية:" هذه هي الأربعينية يا حاج محفوظ، برد الأربعينية معروف." رد الحاج محفوظ وهو يمر بين ركاب الباص الجالسين يبحث عن مقعد فارغ:" لا أربعينية ولا خمسينية، بردها اليوم بقص قص وبجمد الدم في العروق، والله يا أستاذ شفايفي تشققت وصارت متل حب التين الخرطماني ." رد أحد الركاب قائلا:" بقولوا أنه باصات المدينة فيها تدفئة مش مثل باصات القرى." ضحك صلاح وهو شاب في مقتبل العمر يدرس في المدينة وقال مستهزئا:" بتقولو تدفئة، وفي الباصات، أنا مش فاهم كيف، يعني بولعوا فيها حطب يا حاج؟". نظر الحاج محفوظ إليه بإستغراب وقال:" بتستهزي فينا يا ملعون؟ ولك، لساتها البيضة ما إنقشرتش عنك وصرت بتتهزأ على الكبار اللي قد أبوك؟" قاطعه مدرس المدرسة قائلا:" بسيطة يا حاج، سامحه، الجهل عدو صاحبه." ثم دار وجهه نحو الشاب وقال:" التدفئة يا إبني من محرك السيارة."
وقف الحاج محفوظ بجانب مقعد يجلس عليه الحاج عبداللة ولقد غطى معطفه معظم مساحة المقعد، وقال:" مرحبا يا حاج، لملم معطفك، تراه حاجز المقعد كله." سحب الحاج عبدالله معطفه المحشو بصوف الخاروف وقال:"أقعد يا حاج، عندك وساع بسع جمل، أقعد يا هلا فيك." رد الحاج محفوظ وهو يجلس إلى جانب الحاج عبدالله قائلا: وهلا فيك إنت الثاني، والله ما في حدا مثلك، الخاروف اللي حاطو على كتافك بخلي جسمك مثل النار." ثم جلس ووضع في حجره كيسا من قماش الكتان فيه بعض المشتريات. سأله الحاج عبدالله:" شو شتريت من المدينة يا حاج؟ فأجابه الحاج محفوظ:"شوية حلقوم و شوية تفاح للأولاد، أولادي وأمهم بحبو التفاح، وإنت شو شتريت؟" رد الحاج عبداللة:" قطعة قماش لبنتي، ناوية تخيط فستان." علق الحاج محفوظ: " إنشاء الله ألف مبروك وعقبال عرسها على إبن الحلال." " من فمك إلى باب السماء،" رد الحاج عبدالله وتابع،" والله يا حاج أنا قلقان على بنتي، خايف تصير عنساء قبل ما يجيها عريس، الأحوال واقفة والشباب بخافوا يتقدموا للزواج، ومنين يا حصرتي بدو الواحد منهم يفتح بيت، لا في شغل ولا الأرض بتعطي. هذول اليهود أخذوا أرضنا وخربوا زرعنا والشباب قاعدة من دون شغل." رد عليه الحاج محفوظ متعاطفا:" ربك بحلها يا حاج وآخرتها بتفرج."
صاح سائق الباص بصوت عال:" نمشي يا ناس واللا ضل في حدا ما أجاش؟ رد الجميع بصوت واحد:" ناقصنا الحاج أبو مصطفى." واضاف الحاج محفوظ:" أنا شوفتو قبل دقيقتين باكل كنافه عند الكنفنجي." لم يتم جملته إلا والحاج أبو مصطفى يظهر في باب الباص وما زال يمصمص لسانه ويلعق أسنانه ليمتص منها مخلفات الكنافة. خرجت أصوات مختلفة تسأله:" كيف كانت الكنافة يا حاج، طيبة؟" فأجاب: " والله يا جماعة طيبة وبتدفي الجسم في ها البرد." ردت أصوات مختلفة من الجالسين موافقة الحاج أبو مصطفى أن الكنافة طيبة وأنها تزيد حرارة الجسم.
أغلق سائق الباص الباب وشغل محرك السيارة الذي بدأ يهتز ويزمجر كأنما هو يحتج على إيقاظه من النوم، ثم قام السائق بتحريك قضيب السرعات الذي أخذ يزعق كزعيق الغراب وتحرك الباص العجوز يشق شوارع المدينة متجها إلى القرية التي تبعد عن المدينة ما يقارب الثلاثين كيلومترا.
ما أن بعد الباص عن المدينة عدة كيلومترات حتى وقف خلف صف طويل من السيارات لم يستطع السائق رؤية بدايته. تعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقال بصوت عال: " يا رب إستر." تسائل الجميع ما الذي حدث، فأجاب السائق:" شو بدو يكون يعني، أكيد حاجز تفتيش إسرائيلي." ثم إتجه إلى ركاب الباص قائلا:" يا جماعة، خليها تمشي على خير. إذا في حدا معه شيئ ممنوع، يتخلص منه، وما حدا منكم يستفز ملعونين الوالدين، هادول يا جماعة مش بشر، خللينا نروح عند أهالينا بخير وسلامة، شو بقولولكم إعملو."
عم الصمت ركاب الباص وذهب كل منهم يجول مع أفكاره. قطع الصمت صوت الحج أبو مصطفى قائلا: " متى بدو ربنا يخلصنا منهم؟" رد أستاذ المدرسة قائلا:" آخرتهم بدهم ينقلعو من بلدنا، إنقلع غيرهم كثير قبلهم." بلهجة ساخرة علق الطالب صلاح قائلا: " والله يا جماعة، هادول ما بنقلعو إلا إذا إحنا قلعناهم، واللي أخذوه بالقوة ما برجع إلا بالقوة." رد مدرس المدرسة قائلا:" ما إحنا عارفين يا فصيح، هو إنت جبت شيء جديد، لكن يا إبني منين إنجيب القوة، لا عندنا صواريخ ولا دبابات ولا طيارات، والجيوش العربية بس للإستعراضات والحكام العرب خونه، منين يا حصرتي نجيب القوة؟ ولكن الفتى لم يقتنع بحديث الأستاذ وأظهر عدم إقتناعه بهمهمة غير مفهومة ثم صمت.
كان الباص يتحرك مثل السلحفاة. كان صف السيارات الذي أمامه يتحرك عدة أمتار ثم يقف وكان السائق يشغل محرك السيارة ويلحق بالصف ثم يقف ويطفئ المحرك توفيرا للوقود. بدأت علامة التعب على الباص القديم وبدا مثل عجوز ينهكه السير ثم يتوقف لكي يأخذ نفسا ويتابع السير لخطوات أخرى. مرت الدقائق بطيئة ومملة ومتعبة، وكان الركاب يرجفون من البرد القارس و يتمتمون ببعض الآيات القرآنية لعلها تحميهم وتيسر حالهم وتبث فيهم الدفئ.
قرب الباص من حاجز التفتيش الإسرائيلي. وقفت دبابتان إسرائيليتان مسلحتان براشاشات منصوبة على برج الدبابة حيث يقف خلف كل منهما جندي إسرائيلي لا يظهر منه إلا رأسه المغطى بالخوذة الحربية. مد الجنود الإسرائيليون على عرض الطريق مشط فولاذي مدبب الرؤوس، كان يفتح ويغلق حسب أوامر الضابط الواقف خلف جنوده يراقب عملية تفتيش السيارات العربية.
جاء دور الباص ولكن السائق الخبير بمثل هذه الحواجز ظل جالسا خلف مقود الباص الذي صمت محركه. السائق يعرف خطر تشغيل محرك السيارة بدون إشارة من الجندي الإسرائيلي، فكم من الفلسطينيين قتلوا على يد الجنود الصهاينة لأنهم شغلوا محرك سيارتهم أو حركوها بدون إذن واضح من الجندي الإسرائيلي. ظل السائق يراقب الجنود الإسرائيليين وينتظر. وقف الجنود يتسامرون ويضحكون غير معيرين أي إنتباه للباص الذي ينتظر ولا لركابه. مرت الدقائق بطيئة، ثقيلة ولقد عم الصمت ركاب الباص الذين جلسوا بدورهم ينتظرون الإشارة.
جاءت الإشارة وتحرك الباص إلى أن وصل علامة قف التي نصبت بضع أمتار أمام المشط الحديدي ووقف. أطفأ السائق محرك السيارة وفتح الباب وانتظر. صعد جندي إلى الباص وصاح بصوت عال وبعربية مكسرة:" كلوا بنزل، بتاخذ كله شنطة معك." فهم الركاب، فلم تكن تلك المرة الأولى التي يقفون فيها أمام حاجز تفتيش إسرائيلي، لقد أصبحت الحواجز جزءا من حياتهم اليومية.
نزل الركاب من الباص وفي أيديهم ممتلكاتهم ووقفوا في صف طويل واضعين أغراضهم على الأرض أمام أقدامهم. بدأت عملية التفتيش وكان الجنود الإسرائيليون كعادتهم يستعملون أقدامهم أكثر من إستعمالهم أيديهم وإذا إضطروا لإستعمال أيديهم يستعملوا عصى خشبية لتقوم مقام الأصابع، فالعرب قوم نجسون كما يقول لهم حاخاماتهم وعلى اليهودي أن لا يلمس العربي أو أغراضه إلا في حاجة الضرورة القصوى. بدأت مشتريات الركاب تتنافر من الأكياس التي ديست بالبساطير العسكرية، ووقف الركاب ينظرون إلى مشترياتهم وهداياهم لأبنائهم وبناتهم في القرية تختلط بالتراب وتداس بأقدام الجنود. لم يكن مصير قطعة القماش التي إشتراها الحاج عبدالله لإبنته مختلفا عن مصير باقي أغراض الركاب. فكر الحاج عبدالله والألم يعصر قلبه:" معلش، بنتي بتغسلها وبترجع جديدة. أما الحاج محفوظ فلم يستطع أن يكتم غيظه عندما رأى تفاحاته تختلط بالحلقوم الذي عجن بتراب الأرض فصاح في وجه الجندي: " ليش فعصتهم يا إبن الكلب؟" ولم يتم جملته إلا والهراوة الخشبية تنهال عليه فتسقطه أرضا فوق تفاحاته التي إلتصقت مع الحلقوم بقنبازه الفلسطيني. ظلت الهراوات تنهال على جميع أطراف جسمه تساعدها ركلات البوسطار العسكري وهو يصر على أسنانه ساجدا على الأرض كأنما في سجدة صلاة. سقط عقاله وحطته من على رأسه ووقعا بجانبه فوق بقية التفاحات وبدأ الدم يسيل من رأسه وأنفه وسال على قنبازه الفلسطيني وعلى الأرض واختلط بترابها الذي طالما تمرغ بالدم.
فجأه وقفت الضربات وشعر بأيدي تساعده على الوقوف وتجره جرا إلى الباص ثم تجلسه في مقعده بجانب الحاج عبدالله الذي كان يمسك بقطعة القماش الوسخة ويبكي بصمت.
شغل سائق الباص محرك السيارة الذي زمجر واهتز كأنما هو غاضب على ماشهد وتحرك الباص بعد أن أعطى الجنود الإسرائيلون إشارة السماح وابتعد ببطئ عن الحاجز الإسرائيلي.
خيم الصمت فوق رؤوس الركاب وتاه كل مع أفكاره وتزاحمت الأسئلة في العقول حتى أتعبتها. فجأة شق الصمت صوت الطالب صلاح وقال سائلا الحاج محفوظ:" بعدك بردان يا حاج محفوظ؟" أدار الحاج محفوظ رأسه نحوه وقال بصوت عال:" لا، أنا مش بردان، النار بتلهلب جواي وبتحرقني، نار القهر يا إبني شديدة مثل نار جهنم بتاكل الأخضر واليابس." صمت قليلا ثم صاح:" وينكم من ناري يا ولاد الكلب، وينكم من ناري."

د. نضال الصالح/ فلسطين
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف