
كان قد مضى على اتفاقية وادي عربة للسلام خمس سنوات، ظل فيها الحاج أبو نزيه مترددا في رغبته بزيارة فلسطين والصلاة في المسجد الأقصى، وهو يعلن أنه لا يعرف سببا لتردده هذا ، كأنه الخوف من مواجهة الحقيقة التي ما تزال ماثلة أمامه حينما اضطر مع أهله لهجرة القرية تحت تهديد العصابات الصهيونية، والأمر الأكثر صعوبة هو أن يصل إلى قريته فيجدها أنقاضا وخرابا صفصفا، أو أن يجد المستوطنات الإسرائيلية وقد التهمتها. والأصعب كذلك هو أن يذهب هناك ويعود دون أن يذهب للسلام على مرابع طفولته وشبابه, لقد كان ابن الثمانية عشر ربيعا حينما وقعت النكبة.
- صلينا في المسجد الأقصى وأدعو الله أن يهيىء لكم جميعا زيارة الأقصى ولم شملكم مع أهلكم جميعا. الله قادر على ذلك. لقد التقيت مع الكثير من أقاربنا الذين فارقت بعضهم اطفالا ووجدتهم شيوخا ، وقد رحل بعضهم لكن أغلبهم في مخيم الدهيشة قرب بيت لحم. ابتدأ أبو نزيه الحديث بهذه العبارات وقد توقع السؤال البديهي.
استغربت أن أبا نزيه يقول ذلك دون أن تظهر على ملامحه آيات الانفعال، كأنه يتحدث عن أمر عادي رغم ذلك الألم العميق الطافح من عينيه، والأغرب أنه كان يبتسم حينما طفق يتحدث عن زيارته لقريته التي هجر منها فتى يافعا عام 1948وكأنه يروي رحلة العمرة إلى مكة التي طالما قام بها مرات عديدة.
- وجدت أطلال قريتنا المدمرة واستطعت التعرف على بقايا بيتنا وبيوت الآخرين، عرفت معظمها مع أن القرية كانت كومة من الحجارة.
قال ذلك وهو يخرج زفيرا من أعماقه.
آثرت أن أهز رأسي كي أدفعه للاسترسال بالحديث ، كنت أرغب سماع بوحه كما يعتمل في صدره صافيا دون تدخل.
- كنت فتى يافعا، كنت أحرث الأرض بنفسي ، وكان أبي على وشك تزويجي لولا أن وقعت الحرب وجاءت الجيوش العربية وطلبوا من سكان القرية مغادرتها إلى حين،،،، قالوا لنا أخرجوا اسبوعا واحدا فقط ريثما ندحر خطر هذه العصابات.
قال ذلك وختم بابتسامة عريضة وهو يهز رأسه بسخرية مريرة. ثم ما لبث أن نادى على احد ابنائه طالبا تقديم الشاي أو القهوة قبل أن يعاود سرد مشاهداته هناك.
تناهى إلى خاطري في هذه الأثناء تجربتنا في الحرب الثانية، حرب حزيران عام 67، لم يأت أحد من الجيوش ليخبرنا ما الذي يتوجب عمله، كنا فقط نسمع بعض الإذاعات وكانت تغني أغنيات حماسية كثيرة، وكان المذيع يخبرنا أننا على وشك طرد الإسرائيليين من الأراضي المحتلة عام 1948.
- وصلنا القرية بعد أن مررنا من مستوطنة كفار عصيون بعد أن انطلقنا من مخيم الدهيشة قرب بيت لحم ، من هناك سرنا نحو الغرب حوالي عشرين كيلومترا فوصلنا القرية قبيل الظهر بقليل. واستطعت أن أتعرف على منزلنا، حتى شجرة الصبار وجدتها كما هي، هي التي جعلتني اتيقن بأنه بيتنا. مدماكان من الحجارة كانت ما تزال بادية للعيان وسط أكوام الحجارة والتراب والنباتات الطويلة،،،أما حول القرية فقد بنوا مستوطنات كبيرة وعمارات كثيرة وشوارع، حتى بقايا الجامع الصغير استطعت أن أميزها بسهولة.
ثم يواصل: أثناء وجودنا وتجوالنا في بقايا أزقة القرية وعلى أنقاضها، جاءت مركبة عسكرية وتوقفت بالقرب منا، ونزل منها ثلاثة مستوطنين يحملون سلاحا على أكتافهم وكلبا بوليسيا يسير بجانبهم. تحدث إلينا كبيرهم وأخبرناه أننا جئنا زائرين من الأردن لمشاهدة قريتنا. قلت له، هذا بيتي يا خواجة، هنا ولدت وهنا ترعرعت. وقلت له، هذه شجرة الصبار لذيذة وتعطي ثمرا طيبا منذ كنت طفلا.
- خذ يا خواجة، تفضل لعلك تذوقها، أنا أعرفها مذ كنت طفلا،إنها لذيذة طيبة، لا بد أنك ولدت في أوروبا، ربما أباك ولد هناك.
استفز الخواجة وفهم مغزى ذلك، كأني أقول له أنت ضيف عابر هنا وأنا صاحب الأرض وصاحب الصبارة هذه . لذلك فقد أومأ لكلبه البوليسي فاندفع كنمر غاضب نحوي لكن الخواجة كان يتحكم في الحبل المربوط إلى عنقه وكان يهدف الرد على مقولتي التي استفزته. ولا أنكر انني قفزت خائفا إلى الحجر القريب متحفزا مما اشبع غرور الخواجة.
ضحك أولاد أبو نزيه بخجل وقال واحد منهم، والدي الحاج أصر على هذه الزيارة ونصحناه فلم يسمع لنا، وقال آخر غامزا، يا أستاذ ارجوك أن لا تكتب شيئا في الصحف عن زيارة الحاج كي لا يعتبره البعض مطبعا مع الاحتلال. ثم تساءل بخبث واضح: ما رأيك يا أستاذ ، ألا يعتبر الحاج مطبعا مع الاحتلال في زيارته هذه؟ وكأنه يريدني أن استجيب لندائه الواضح بممارسة الاستفزاز والمناكفة مع الحاج الذي كان يبتسم أكثر من أن يتحدث، لكنه كان قد سمع هذا الكلام من قبل أبنائه ويعرف مناكفاتهم الخفيفة، لذلك لم يكن يحتاج غير الابتسام ردا على ذلك.
قال آخر ، دعه يخبرك عن المفتاح يا أستاذ.
- أي مفتاح هذا يا حاج، ليتك تقص علي كل ما حدث.
- قلت للخواجة أن مفتاح المنزل ما يزال معنا ونحتفظ به للأجيال القادمة، وسيظل شاهدا على حقنا في أرضنا وبيوتنا.
- وماذا قال الخواجة يا حاج؟ صاح أحد أبنائه.
صمت الحاج أبو نزيه وراح يمتص الهواء إلى رئتيه قبل أن يزفر نفسا عميقا حارا وقال بألم:
- الخواجة قال ما قلته أنا لأولادي وما أقوله للجميع. المفتاح بحاجة إلى جيوش جرارة لتستطيع حمله وإعادته. فأين هي؟
إثر ذلك، ساد الصمت بين الجميع وأسرعت في ارتشاف قهوتي، وودعتهم وجملة الخواجة تدور في رأسي كدودة صغيرة تنخر دماغي:
-إعادة المفتاح بحاجة إلى جيوش جرارة، فأين هي؟
جميع الحقوق محفوظة لدنيا الوطن © 2003 - 2010
- صلينا في المسجد الأقصى وأدعو الله أن يهيىء لكم جميعا زيارة الأقصى ولم شملكم مع أهلكم جميعا. الله قادر على ذلك. لقد التقيت مع الكثير من أقاربنا الذين فارقت بعضهم اطفالا ووجدتهم شيوخا ، وقد رحل بعضهم لكن أغلبهم في مخيم الدهيشة قرب بيت لحم. ابتدأ أبو نزيه الحديث بهذه العبارات وقد توقع السؤال البديهي.
استغربت أن أبا نزيه يقول ذلك دون أن تظهر على ملامحه آيات الانفعال، كأنه يتحدث عن أمر عادي رغم ذلك الألم العميق الطافح من عينيه، والأغرب أنه كان يبتسم حينما طفق يتحدث عن زيارته لقريته التي هجر منها فتى يافعا عام 1948وكأنه يروي رحلة العمرة إلى مكة التي طالما قام بها مرات عديدة.
- وجدت أطلال قريتنا المدمرة واستطعت التعرف على بقايا بيتنا وبيوت الآخرين، عرفت معظمها مع أن القرية كانت كومة من الحجارة.
قال ذلك وهو يخرج زفيرا من أعماقه.
آثرت أن أهز رأسي كي أدفعه للاسترسال بالحديث ، كنت أرغب سماع بوحه كما يعتمل في صدره صافيا دون تدخل.
- كنت فتى يافعا، كنت أحرث الأرض بنفسي ، وكان أبي على وشك تزويجي لولا أن وقعت الحرب وجاءت الجيوش العربية وطلبوا من سكان القرية مغادرتها إلى حين،،،، قالوا لنا أخرجوا اسبوعا واحدا فقط ريثما ندحر خطر هذه العصابات.
قال ذلك وختم بابتسامة عريضة وهو يهز رأسه بسخرية مريرة. ثم ما لبث أن نادى على احد ابنائه طالبا تقديم الشاي أو القهوة قبل أن يعاود سرد مشاهداته هناك.
تناهى إلى خاطري في هذه الأثناء تجربتنا في الحرب الثانية، حرب حزيران عام 67، لم يأت أحد من الجيوش ليخبرنا ما الذي يتوجب عمله، كنا فقط نسمع بعض الإذاعات وكانت تغني أغنيات حماسية كثيرة، وكان المذيع يخبرنا أننا على وشك طرد الإسرائيليين من الأراضي المحتلة عام 1948.
- وصلنا القرية بعد أن مررنا من مستوطنة كفار عصيون بعد أن انطلقنا من مخيم الدهيشة قرب بيت لحم ، من هناك سرنا نحو الغرب حوالي عشرين كيلومترا فوصلنا القرية قبيل الظهر بقليل. واستطعت أن أتعرف على منزلنا، حتى شجرة الصبار وجدتها كما هي، هي التي جعلتني اتيقن بأنه بيتنا. مدماكان من الحجارة كانت ما تزال بادية للعيان وسط أكوام الحجارة والتراب والنباتات الطويلة،،،أما حول القرية فقد بنوا مستوطنات كبيرة وعمارات كثيرة وشوارع، حتى بقايا الجامع الصغير استطعت أن أميزها بسهولة.
ثم يواصل: أثناء وجودنا وتجوالنا في بقايا أزقة القرية وعلى أنقاضها، جاءت مركبة عسكرية وتوقفت بالقرب منا، ونزل منها ثلاثة مستوطنين يحملون سلاحا على أكتافهم وكلبا بوليسيا يسير بجانبهم. تحدث إلينا كبيرهم وأخبرناه أننا جئنا زائرين من الأردن لمشاهدة قريتنا. قلت له، هذا بيتي يا خواجة، هنا ولدت وهنا ترعرعت. وقلت له، هذه شجرة الصبار لذيذة وتعطي ثمرا طيبا منذ كنت طفلا.
- خذ يا خواجة، تفضل لعلك تذوقها، أنا أعرفها مذ كنت طفلا،إنها لذيذة طيبة، لا بد أنك ولدت في أوروبا، ربما أباك ولد هناك.
استفز الخواجة وفهم مغزى ذلك، كأني أقول له أنت ضيف عابر هنا وأنا صاحب الأرض وصاحب الصبارة هذه . لذلك فقد أومأ لكلبه البوليسي فاندفع كنمر غاضب نحوي لكن الخواجة كان يتحكم في الحبل المربوط إلى عنقه وكان يهدف الرد على مقولتي التي استفزته. ولا أنكر انني قفزت خائفا إلى الحجر القريب متحفزا مما اشبع غرور الخواجة.
ضحك أولاد أبو نزيه بخجل وقال واحد منهم، والدي الحاج أصر على هذه الزيارة ونصحناه فلم يسمع لنا، وقال آخر غامزا، يا أستاذ ارجوك أن لا تكتب شيئا في الصحف عن زيارة الحاج كي لا يعتبره البعض مطبعا مع الاحتلال. ثم تساءل بخبث واضح: ما رأيك يا أستاذ ، ألا يعتبر الحاج مطبعا مع الاحتلال في زيارته هذه؟ وكأنه يريدني أن استجيب لندائه الواضح بممارسة الاستفزاز والمناكفة مع الحاج الذي كان يبتسم أكثر من أن يتحدث، لكنه كان قد سمع هذا الكلام من قبل أبنائه ويعرف مناكفاتهم الخفيفة، لذلك لم يكن يحتاج غير الابتسام ردا على ذلك.
قال آخر ، دعه يخبرك عن المفتاح يا أستاذ.
- أي مفتاح هذا يا حاج، ليتك تقص علي كل ما حدث.
- قلت للخواجة أن مفتاح المنزل ما يزال معنا ونحتفظ به للأجيال القادمة، وسيظل شاهدا على حقنا في أرضنا وبيوتنا.
- وماذا قال الخواجة يا حاج؟ صاح أحد أبنائه.
صمت الحاج أبو نزيه وراح يمتص الهواء إلى رئتيه قبل أن يزفر نفسا عميقا حارا وقال بألم:
- الخواجة قال ما قلته أنا لأولادي وما أقوله للجميع. المفتاح بحاجة إلى جيوش جرارة لتستطيع حمله وإعادته. فأين هي؟
إثر ذلك، ساد الصمت بين الجميع وأسرعت في ارتشاف قهوتي، وودعتهم وجملة الخواجة تدور في رأسي كدودة صغيرة تنخر دماغي:
-إعادة المفتاح بحاجة إلى جيوش جرارة، فأين هي؟
جميع الحقوق محفوظة لدنيا الوطن © 2003 - 2010