
1
صَوتُ آذان الفجْر يقرع أسْـماع الصّمت , وهو مازال متّـكئا على فِراشه منكوس الرّأس مُحَملق العينين في رواية "المُحَاكَمة" لكافكا , هذه هي المرة الثالثة التي يقرأ فيها الرواية بُغية رد مغزاها الى تأويل ظاهري محدود تسكن إليه النفس , ويَخشع له العَقل , فهو لم يعد قادر على الاضْطِرابَات التي سبّـبها له هذا النص المحيِّر الذي يشبه الشيطان في لانهائية ترائياته , و انطوائه على مكر السحرة و غواية الفرَاغ , فالمَعَاني والتّفسيرات تَتَكَوْثَر بمَدَى عُمْق النّص وتَشَابُك شَرَايينه الفَلسَفية , وتَتَلبّس بالشّيء حتى تصَير لاشَيْئا , فَكَلمة الشّيء هِي نَفْسُها كَلِمة اللاشَيْء , يَتَخَالفَان في العَالم الذّهني , ويَنْدغِمان قَبل أن يَحْكم عليهُما العَالم العَيني بالمَحْو .
فرواية " المحاكمة " تبْدأ بالقبْضِ عَلَى ( ك ) دون أن يَرتكِب أيّ خطأ , وتنتهي بمَوتِه دُون أن يعرف جَريمَته . كأنّ كافكا يريد أن يكشف لنا عن سرّ الوجود , وفلسَفَة المَصير الإنسَاني , فيكون بذلك قد كتَب مَانِفستو العبث . وقرّر للإنسانية (( لاجدوى)) العَيش .
2
قَامَ صَاحِبنا من فِراشه بَعْد أن طَوى دفّتي الرّواية , يردّد كَلِمات وتَسَاؤلات ( لماذا مَات ؟ ولماذا سٌجن ؟ وما هي جَريمَته يا ترى ؟ وما رمْز السّجن ؟ هل هو وجُودنا ؟ وهل الحَياة هي عبارة عن جَريمة نَسِي الانسَان أنها كذلك ؟ هل الانْسَان يأتي لهذا العَالم مِن أَجْل غَاية وَاحِدة هي ( المَوت ) ؟ أم يأتي لهَذِه الدّنيا من أجْل مَعْرِفَة سرّ جَريمَته التي هي الحيَاة ؟ هل كافكا يُحاكم الله ؟ أم يُحَاكِم الانسَان ؟ أم يحاكم الوجود الذي يتوسّطهما ؟
3
توجّه من فِرَاشِه الى مقبَض باب الغرْفة بعد أن وَضَعَ الرّواية على مَكْتبه , سَاهياً جسَده و مَكَانه , متصنّتا لباطِنه , مُستمعا للجَدَل الذي يَدُور بَينه و بَينه , كل ذلك في قَلق وشجن و وجدان تتخلّله مَخَاوف المَعْرفة ورَهْبَة الوَعْي بالوجود , بعد أن فتَح بَابَ الغرْفة تَذَكّرَ جَسَده و تذَكّر خُروجَه من الغرْفَة .
تَسَاءل مقطّبـا جَبينه و مقرّبا بين حَاجبيه :
ــ لماذا خَرْجْتُ من الغرْفَة ؟
لم يَعْرف السّبَب في خرُوجه ولا السّبَب في قِيامِه من فرَاشِه , بَعْدَها أطُرَق بيده على رَأسِه :
ــ آآه . أذان الفجر , و أيضا لم أصلّي نافلتَي الشّفع والوتر , سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا اله الا انت استغفرك واتوب اليك , ليتني سمعت نصيحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين و ابتعدت عن كتب الرّوايات والادب والفلسفة , صَدَق رحمه الله فهي مَضيعَة للوقت , مفْسَدة لطريقِ الطّلب .
4
قَصَدَ المَيضأة مُبَسْملاً و مُحوقلا . ثم صلّى ركْعَتَي الفَجْر و قَبع في مصلّاه يَلْهَج بذكر الله مسْتشعِرا نِعَمَه سبحانه و تعالى الظاهرة و الباطنة , ومنها نعمة خلق الانسان وامداده بالكدح و المكابدة وخط الطّريق القويم , بعدها رفع رأسه الى السّماء يتنسّم الدّلالات الالهية وهي تمتدّ في أعْمَاق نفسه , وتَسْري كما الضّوء في رحلته الى الارض . وهو يردّد أدعية يرطب لها اللسان .
انتبه من رقْدته الرّوحَانية , والتفتَ الى مَكْتبته يتطلّع في عناوين الكُتب مُنتظرا انفلاق الفجر الصّادق ووقت الصلاة , أمسك بالجزء الثاني من كتاب " مدراج السالكين " وفتحه يقرأ فيه , ويعيّر نفسه :
ـ شتّان بين طمأنينة الرّوح و غليان الباطن بالتّشكّكات ..!
5
وَقعَت عيْنه على مَنْزلة الشّكر , فأعجب بالحدّ الذي رسَمَه الهروي لهذا المَقام الصّوفي المُبارك حَيث يقُول في جزء من هذا التّعريف :
ـ ( الشكر : اسم لمعرفة النعمة لأنها سبيل لمعرفة المنعم , ولهذا المعنى سمّى الله تعالى الاسلام والايمان في القرآن شكرا , ومعاني الشّكر ثلاثة أشياء : مَعْرفَة النّعمَة , ثم قبُول النّعمة , ثم الثّناء بها . )
تَأمّلَ لَحَظات في التّعْريف ثم تَابَع ما يقوله ابْن القيم عن هَذه المَنزلة , وما يسْرده من أقوال الصّوفية وأرباب السّلوك في الشكر . نظر في ساعته و أغلق الكتاب ورده في الخزانة . ثم خرج من البيت ناويـاً صلاة الصبح في المسجد .
6
نَظَر إلى الرّواية على المَكتب , وغرّته نفسه على التّتمة , أمْسك بالرّواية ورَجَع الى فِراشه يَقْرأ حتّى بَدَأ يَغلبه النّعاس و لكنّه صَابر يُصارع جفنه , انغمضت عيناه فنام و غرق في النّوْم , إلى أن اسْتيقَظ فوجد نفسه وحيدا في غرفة بدون باب ولا نوافذ ولكنها مضيئة , مبيّضة الجدران والأرض , فَزَع الفزع الأكبر , وارتجف كَيَانه , يشهق حتّى لا ينقطع نفَسه , مُمْسِكاً جَسَدَهُ راجعاً بهِ يَزحَفُ عَلَى ردْفَيه الى زاوية الغرْفة .
تساءل متباكيا :
ـ أين أنا ؟ غرفة بدون باب ولا نوافذ ؟ وكذلك نُور ؟
[ يتبع ]
ــــــ
* هذه الليلة الاولى في الغرفة . أرجو منكم متابعة حكايات هذه الغرفة .
صَوتُ آذان الفجْر يقرع أسْـماع الصّمت , وهو مازال متّـكئا على فِراشه منكوس الرّأس مُحَملق العينين في رواية "المُحَاكَمة" لكافكا , هذه هي المرة الثالثة التي يقرأ فيها الرواية بُغية رد مغزاها الى تأويل ظاهري محدود تسكن إليه النفس , ويَخشع له العَقل , فهو لم يعد قادر على الاضْطِرابَات التي سبّـبها له هذا النص المحيِّر الذي يشبه الشيطان في لانهائية ترائياته , و انطوائه على مكر السحرة و غواية الفرَاغ , فالمَعَاني والتّفسيرات تَتَكَوْثَر بمَدَى عُمْق النّص وتَشَابُك شَرَايينه الفَلسَفية , وتَتَلبّس بالشّيء حتى تصَير لاشَيْئا , فَكَلمة الشّيء هِي نَفْسُها كَلِمة اللاشَيْء , يَتَخَالفَان في العَالم الذّهني , ويَنْدغِمان قَبل أن يَحْكم عليهُما العَالم العَيني بالمَحْو .
فرواية " المحاكمة " تبْدأ بالقبْضِ عَلَى ( ك ) دون أن يَرتكِب أيّ خطأ , وتنتهي بمَوتِه دُون أن يعرف جَريمَته . كأنّ كافكا يريد أن يكشف لنا عن سرّ الوجود , وفلسَفَة المَصير الإنسَاني , فيكون بذلك قد كتَب مَانِفستو العبث . وقرّر للإنسانية (( لاجدوى)) العَيش .
2
قَامَ صَاحِبنا من فِراشه بَعْد أن طَوى دفّتي الرّواية , يردّد كَلِمات وتَسَاؤلات ( لماذا مَات ؟ ولماذا سٌجن ؟ وما هي جَريمَته يا ترى ؟ وما رمْز السّجن ؟ هل هو وجُودنا ؟ وهل الحَياة هي عبارة عن جَريمة نَسِي الانسَان أنها كذلك ؟ هل الانْسَان يأتي لهذا العَالم مِن أَجْل غَاية وَاحِدة هي ( المَوت ) ؟ أم يأتي لهَذِه الدّنيا من أجْل مَعْرِفَة سرّ جَريمَته التي هي الحيَاة ؟ هل كافكا يُحاكم الله ؟ أم يُحَاكِم الانسَان ؟ أم يحاكم الوجود الذي يتوسّطهما ؟
3
توجّه من فِرَاشِه الى مقبَض باب الغرْفة بعد أن وَضَعَ الرّواية على مَكْتبه , سَاهياً جسَده و مَكَانه , متصنّتا لباطِنه , مُستمعا للجَدَل الذي يَدُور بَينه و بَينه , كل ذلك في قَلق وشجن و وجدان تتخلّله مَخَاوف المَعْرفة ورَهْبَة الوَعْي بالوجود , بعد أن فتَح بَابَ الغرْفة تَذَكّرَ جَسَده و تذَكّر خُروجَه من الغرْفَة .
تَسَاءل مقطّبـا جَبينه و مقرّبا بين حَاجبيه :
ــ لماذا خَرْجْتُ من الغرْفَة ؟
لم يَعْرف السّبَب في خرُوجه ولا السّبَب في قِيامِه من فرَاشِه , بَعْدَها أطُرَق بيده على رَأسِه :
ــ آآه . أذان الفجر , و أيضا لم أصلّي نافلتَي الشّفع والوتر , سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا اله الا انت استغفرك واتوب اليك , ليتني سمعت نصيحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين و ابتعدت عن كتب الرّوايات والادب والفلسفة , صَدَق رحمه الله فهي مَضيعَة للوقت , مفْسَدة لطريقِ الطّلب .
4
قَصَدَ المَيضأة مُبَسْملاً و مُحوقلا . ثم صلّى ركْعَتَي الفَجْر و قَبع في مصلّاه يَلْهَج بذكر الله مسْتشعِرا نِعَمَه سبحانه و تعالى الظاهرة و الباطنة , ومنها نعمة خلق الانسان وامداده بالكدح و المكابدة وخط الطّريق القويم , بعدها رفع رأسه الى السّماء يتنسّم الدّلالات الالهية وهي تمتدّ في أعْمَاق نفسه , وتَسْري كما الضّوء في رحلته الى الارض . وهو يردّد أدعية يرطب لها اللسان .
انتبه من رقْدته الرّوحَانية , والتفتَ الى مَكْتبته يتطلّع في عناوين الكُتب مُنتظرا انفلاق الفجر الصّادق ووقت الصلاة , أمسك بالجزء الثاني من كتاب " مدراج السالكين " وفتحه يقرأ فيه , ويعيّر نفسه :
ـ شتّان بين طمأنينة الرّوح و غليان الباطن بالتّشكّكات ..!
5
وَقعَت عيْنه على مَنْزلة الشّكر , فأعجب بالحدّ الذي رسَمَه الهروي لهذا المَقام الصّوفي المُبارك حَيث يقُول في جزء من هذا التّعريف :
ـ ( الشكر : اسم لمعرفة النعمة لأنها سبيل لمعرفة المنعم , ولهذا المعنى سمّى الله تعالى الاسلام والايمان في القرآن شكرا , ومعاني الشّكر ثلاثة أشياء : مَعْرفَة النّعمَة , ثم قبُول النّعمة , ثم الثّناء بها . )
تَأمّلَ لَحَظات في التّعْريف ثم تَابَع ما يقوله ابْن القيم عن هَذه المَنزلة , وما يسْرده من أقوال الصّوفية وأرباب السّلوك في الشكر . نظر في ساعته و أغلق الكتاب ورده في الخزانة . ثم خرج من البيت ناويـاً صلاة الصبح في المسجد .
6
نَظَر إلى الرّواية على المَكتب , وغرّته نفسه على التّتمة , أمْسك بالرّواية ورَجَع الى فِراشه يَقْرأ حتّى بَدَأ يَغلبه النّعاس و لكنّه صَابر يُصارع جفنه , انغمضت عيناه فنام و غرق في النّوْم , إلى أن اسْتيقَظ فوجد نفسه وحيدا في غرفة بدون باب ولا نوافذ ولكنها مضيئة , مبيّضة الجدران والأرض , فَزَع الفزع الأكبر , وارتجف كَيَانه , يشهق حتّى لا ينقطع نفَسه , مُمْسِكاً جَسَدَهُ راجعاً بهِ يَزحَفُ عَلَى ردْفَيه الى زاوية الغرْفة .
تساءل متباكيا :
ـ أين أنا ؟ غرفة بدون باب ولا نوافذ ؟ وكذلك نُور ؟
[ يتبع ]
ــــــ
* هذه الليلة الاولى في الغرفة . أرجو منكم متابعة حكايات هذه الغرفة .