
قصة قصيرة
بقلم / سليم عوض عيشان ( علاونة )
غزة الصمود والمحبة
====================
" قتلوا توأم روحي "
إهداء خاص :
إلى روح الشهيدة / نعمة أبو سعيد / النباهين
إلى أرواح جميع شهداء وشهيدات الوطن الغالي .
--------------------------------------
مقدمة :
أحداث هذا النص ليست من بقايا نصوص " الحرب على غزة " التي كانت .
ولم يسقط النص مني سهواً من مجموعتي القصصية " صور .. باللون الأحمر " التي كتبتها إبان الحرب المجنونة على غزة وما بعدها بقليل .
ولكنها من الواقع اليومي للحرب على غزة التي ما زالت .. فالأحداث هنا لم تجر قبل عامين ... بل حدثت قبل يومين .. وعلى وجه التحديد يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي 13تموز / يوليو 2010م في تمام الساعة التاسعة إلا ربعاً مساءً .. في منطقة ( قرية جحر الديك ) بالقرب من المقبرة شرقي وسط قطاع غزة .. وعلى بعد 400 متر من السياج الحدودي بين قطاع غزة وفلسطين المحتلة .
تنويه :
ليس من فضل .. – أي فضل – للكاتب على النص ، سوى الصياغة الأدبية فحسب .
----------------------------------------
" قتلوا توأم روحي "
هي .. شريكة حياته في المشوار الطويل .. " أم العيال " أنجبت له من الذكور أربعة ، ومن الإناث واحدة .. كانت الأسرة كل حياته وكل حياتها .. كان لا يناديها سوى بـ " توأم روحي " .. ولم تكن تناديه سوى بذلك .. كانوا سعداء رغم شظف العيش وصعوبة الحياة.
لم يكن يعيش في المنزل وأسرته وحدهم فحسب .. بل كان يشاركهم السكنى فيه بقية العائلة.. عائلة الزوج التي كان يربو عدد أفرادها على ثلاثة وعشرين فرداً .
الحر هذا العام كان غريباً بالفعل .. شديد القيظ .. كان – ولا يزال – صيفاً حاراً جداً غير مسبوق على مدار السنوات السابقة .
الكثير من العائلات الموسرة والمتوسطة كانوا يتقون لفحة القيظ الشديد باستعمال " المراوح " و " أجهزة التبريد والتكيف " المختلفة - رغم عدم جدواها في الآونة الأخيرة بسبب انقطاع التيار الكهربائي لساعات وساعات طوال وعلى مدار اليوم - .
ولكن حال الأسرة .. الأسرة البائسة .. لم يكن ليسمح لها باقتناء واحدة من هذه أو تلك الأدوات في ظل ظروف حصار لعين .. وبطالة مستفحلة .
والحال كذلك .. فلم يتبق للأسرة .. للعائلة .. سوى اقتناص الفرصة عند حلول الظلام للجلوس أمام المنزل تحت شجرة ضخمة تظلهم بفروعها الضخمة وكأنها تحميهم وتهبهم السعادة .
ذلك اليوم .. كان يوماً قائظاً .. شديد الحرارة بشكل غير مسبوق .. وفي ذلك المساء كانت تهب نسائم رقيقة منعشة بعض الشيء .. استغل الجميع الفرصة فهرولوا من المنزل إلى الخارج لعلهم ينعمون بشيء من تلك النسائم الرقيقة لبعض الوقت .. كدأبهم المسائي في الفرار من جحيم المنزل المشتعل بالحرارة والرطوبة .. فيفرون إلى حيث بعض الهواء المنعش وبعض النسائم الرقيقة .
الجميع .. بلا استثناء .. كانوا يجلسون أمام المنزل .. الأب .. الأم .. الأبناء .. الجد والجدة وبقية أفراد العائلة .. كانوا يتجاذبون الحديث .. يتسامرون بسعادة وسرور .. حيث اعتادوا الجلوس ساعات الليل الصيفية الطويلة الملتهبة .
تناول الجميع أكواب الشاي مع كسر من الخبز وبعضاً من حبات الزيتون وشيئاً من " الدقة " و " الزعتر " والتي كانت بمثابة وجبة العشاء لعائلة متواضعة الحال .
لجأ البعض للخلود إلى النوم .. وخاصة الأطفال . ناموا في نفس الأماكن التي كانوا يسهرون فيها ويتسامرون .. فهم لا يحتملون حرارة المنزل ورطوبة الحجرات الخانقة .
" جابر " أصغر الأطفال سناً .. كان يتنقل بمرح وسعادة بين ذراعي أبيه ...وصدر أمه .. وحضن جده .. فينثر في المكان شيئاً من الحبور والسعادة والسرور .. قبل أن يغط في نوم عميق هادئ .
فجأة .. وبلا مقدمات .. كان المكان يصبح قطعة من جهنم .. ويستحيل إلى كتلة من نار الجحيم التي انصبت من السماء على المكان .
كانت هذه بمثابة رسالة غيظ وحقد أرسلتها دبابة صهيونية من دبابات العدو الرابضة على بعد أمتار قليلة من المكان .
يبدو أن مشهد السعادة والسرور الذي كانت تنعم به الأسرة والعائلة لم يرق لجنود العدو .. فآثروا المشاركة في الاحتفالية .. ولكن بشكل آخر .. بالتنغيص والتكدير .. وإرسال باقة موت في شكل قذيفة صاروخية لإفساد جو المرح والسعادة .
هب الأطفال والصبية النيام من نومهم فزعين على الصوت المدوي المجلجل .. فوجدوا المكان وقد أحيل إلى قطعة من جهنم .. فروا على وجه السرعة إلى داخل المنزل فزعين مضطربين .
أصيبت بعض النسوة بإصابات بالغة في الصدور والأجسام والوجوه .. فآثرن الانسحاب إلى داخل المنزل للبحث عن بعض الحماية.
فر الرجل .. وزوجته إلى داخل المنزل مع الفارين .. يحتمون به علهم يجدون الملاذ الآمن من القصف المجنون المدمر .
أخذ الجميع يتفقدون بعضهم البعض .. شاهد الرجل الدماء تنساب من الوجوه والأجسام للنسوة من أقاربه .. سارع بالاتصال بطواقم الإسعاف والنجدة .. جاءه الصوت من الطرف الآخر :
- لا بأس .. عشر دقائق .. عشر دقائق فقط .. ونكون بطرفكم ..
تفقدت الأم أطفالها وسط الصخب والضجيج والفوضى العارمة والصياح والصراخ والبكاء .. شهقت .. صرخت .. فلقد كان الأطفال ينقصون واحداً .. طفلاً .. هو الصغير الصغير .. " جابر " .. الذي كان نائماً لحظة وقوع القصف .
سارعت الأم بمغادرة المنزل إلى الخارج لإحضار الطفل الذي كان لا يزال يصرخ جزعاً على باب المنزل بعد أن استيقظ من نومه فزعاً على صوت الانفجار المدوي .. الطفل يدور في المكان ولا يدري ماذا عليه أن يفعل سوى البكاء والصراخ .
في تلك اللحظة التي خرجت فيها الأم من المنزل إلى الخارج .. كان الجميع يسمعون صوت مدوٍ لقذيفة جديدة .
عاد الأب للاتصال بطواقم الإسعاف والنجدة من جديد يستحثهم سرعة الحضور لأن الموقف يزداد صعوبة وحرجاً .. خاصة وأن الدقائق العشر قد انقضت ولم تصل سيارات الإسعاف وطواقم النجدة بعد .
جاءه الصوت من الطرف الآخر ..
- نحن في الطريق إليكم .. عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .. عليكم عدم الخروج من المنزل .. الوضع في المنطقة خطير للغاية .
صرخ الأب بجنون وعصبية :
- ولكن .. لدينا إصابات وجرحى .. الإصابات خطيرة جداً .
من الطرف الآخر كان الصوت يأتي :
- لا بأس ... عليك بمراعاة قواعد الحيطة والحذر بعدم السماح بخروج أحد من المنزل إلى الخارج .. عليك بالتعامل مع الجرحى حسب طرق الإسعافات الأولية .. عليك أن تربط الجراح وتحاول إيقاف نزيف الدماء بكل الطرق والوسائل .. نحن في الطريق إليكم .. عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .
إزداد جنون القصف على المكان .. دبت في المكان حالة من الذعر .. اعتقدوا جميعاً بأنها الحرب الجديدة على غزة .. التي تشبه إلى حدٍ كبير ذلك الذي كان أثناء " الحرب على غزة " قبل عامين ..
ازداد عدد الإصابات .. أٍصيب الجد .. وأصيبت الجدة .. وآخرون .. بإصابات مختلفة .. احترق أثاث المنزل .. تهاوت الجدران .. دخل معظم المصابين في حالات من الإغماء والغيبوبة لفرط الجراح وشدة النزف وصخب الإنفجارات المتوالية .
عاود الأب الاتصال بأطقم الإسعاف وفرق الدفاع المدني ..
جاء الصوت من الطرف الآخر :
- عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .. نحن بصدد الحصول على التصريح اللازم بالتنسيق مع العدو لدخول المنطقة ؟؟!! ... المنطقة خطرة جداً ولا يمكننا الوصول إليكم إلا بعد الحصول على إذن التنسيق بالموافقة على دخول المنطقة !! .. عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .
راح الأب يتفقد الجرحى .. المصابين .. الجزعين .. الذين شارفوا على الموت .. يقدم لهم المساعدة بقدر المستطاع .. يحاول أن يهدئ من روعهم بقدر الإمكان .. راح يتفقد زوجته .. أطفاله وسط الزحام والضوضاء والفوضى العارمة .. وجد الأطفال عدا الصغير " جابر " .. ولم يجد الأم .. سأل عنها .. أفادوه بأنها قد خرجت لإحضار الصغير " جابر " الذي كان لا يزال خارج المنزل .
سارع الأب للاتصال بطواقم الإسعاف وفرق الدفاع المدني من جديد .. صرخ هادراً :
- الأمر خطير جداً هنا .. إصابات كثيرة.. دماء .. جرحى .. حالات إغماء .. المنزل يحترق .. البيت يتهاوى على رؤوس الجميع .. زوجتي وطفلي الصغير خارج المنزل ..
جاءه الصوت من الطرف الآخر :
- عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم ... لا تدع أحداً يخرج من المنزل بالمطلق .. الخطر الداهم في كل مكان .. دبابات العدو تضرب كل ما هو يتحرك ..
القذائف تزداد ضراوة .. الإصابات تزداد عدداً .. الدماء تغطي المكان بالكامل .. الصراخ .. النيران المشتعلة من حول الجميع .. البكاء والعويل .. الجدران تتهاوى ... المنزل يحترق .
الأب ما زال يعاود الاتصال بين الفينة والأخرى .. تكرر الاتصال المتوالي لعدة مرات .. الأصوات لا تلبث أن تأتيه من الطرف الآخر للمحادثة :
- عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .. افعل كذا .. لا تفعل كذا ... عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .
يصرخ الأب بجنون وعصبية :
- لا .. لا يمكن أن يحدث هذا .. هذا جنون .. الجميع يموتون هنا ... وطفلي في الخارج لا أعلم عنه شيئاَ .. وزوجتي ما زالت تبحث عنه في الخارج .. لن أنتظر .. لن أنتظر .. سوف أخرج من هذا الجحيم ... من هذا الجنون للبحث عنهما .
خرج من المنزل .. قريباً جداً من باب المنزل .. شاهد زوجته .. شريكة عمره .. " أم العيال " .. " توأم روحه " .. شاهدها .. وقد شطرت إلى نصفين ؟؟!! شطرتها قذيفة حمقاء إلى شطرين .. عندما كانت تحاول العثور على طفلهما الصغير .. لإنقاذه من قذائف الموت .
النصف السفلي للمرأة .. سقط إلى جانب جذع الشجرة الضخمة .. يرويها بدمائها الزكية .. بينما النصف الآخر .. العلوي .. كان يحتضن الشجرة بكلتا اليدين بقوة وإصرار .
ثمة بقايا حياة .. بقايا كلمات .. هتفت بها الأم بسعادة عندما رأت زوجها يقترب منها .. راحت تتمتم هامسة :
- الحمد لله .. الحمد لله انك قد حضرت في الوقت المناسب .. ها هو جابر .. طفلنا الصغير . إنه بخير .. أرجوك .. أبعده عن المكان بسرعة.. لكي تنقذه من الموت ..
الصوت القادم من الجانب الآخر
- عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .. نحن قادمون .. عشر دقائق .. عشر دقـ.........
بقلم / سليم عوض عيشان ( علاونة )
غزة الصمود والمحبة
====================
" قتلوا توأم روحي "
إهداء خاص :
إلى روح الشهيدة / نعمة أبو سعيد / النباهين
إلى أرواح جميع شهداء وشهيدات الوطن الغالي .
--------------------------------------
مقدمة :
أحداث هذا النص ليست من بقايا نصوص " الحرب على غزة " التي كانت .
ولم يسقط النص مني سهواً من مجموعتي القصصية " صور .. باللون الأحمر " التي كتبتها إبان الحرب المجنونة على غزة وما بعدها بقليل .
ولكنها من الواقع اليومي للحرب على غزة التي ما زالت .. فالأحداث هنا لم تجر قبل عامين ... بل حدثت قبل يومين .. وعلى وجه التحديد يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي 13تموز / يوليو 2010م في تمام الساعة التاسعة إلا ربعاً مساءً .. في منطقة ( قرية جحر الديك ) بالقرب من المقبرة شرقي وسط قطاع غزة .. وعلى بعد 400 متر من السياج الحدودي بين قطاع غزة وفلسطين المحتلة .
تنويه :
ليس من فضل .. – أي فضل – للكاتب على النص ، سوى الصياغة الأدبية فحسب .
----------------------------------------
" قتلوا توأم روحي "
هي .. شريكة حياته في المشوار الطويل .. " أم العيال " أنجبت له من الذكور أربعة ، ومن الإناث واحدة .. كانت الأسرة كل حياته وكل حياتها .. كان لا يناديها سوى بـ " توأم روحي " .. ولم تكن تناديه سوى بذلك .. كانوا سعداء رغم شظف العيش وصعوبة الحياة.
لم يكن يعيش في المنزل وأسرته وحدهم فحسب .. بل كان يشاركهم السكنى فيه بقية العائلة.. عائلة الزوج التي كان يربو عدد أفرادها على ثلاثة وعشرين فرداً .
الحر هذا العام كان غريباً بالفعل .. شديد القيظ .. كان – ولا يزال – صيفاً حاراً جداً غير مسبوق على مدار السنوات السابقة .
الكثير من العائلات الموسرة والمتوسطة كانوا يتقون لفحة القيظ الشديد باستعمال " المراوح " و " أجهزة التبريد والتكيف " المختلفة - رغم عدم جدواها في الآونة الأخيرة بسبب انقطاع التيار الكهربائي لساعات وساعات طوال وعلى مدار اليوم - .
ولكن حال الأسرة .. الأسرة البائسة .. لم يكن ليسمح لها باقتناء واحدة من هذه أو تلك الأدوات في ظل ظروف حصار لعين .. وبطالة مستفحلة .
والحال كذلك .. فلم يتبق للأسرة .. للعائلة .. سوى اقتناص الفرصة عند حلول الظلام للجلوس أمام المنزل تحت شجرة ضخمة تظلهم بفروعها الضخمة وكأنها تحميهم وتهبهم السعادة .
ذلك اليوم .. كان يوماً قائظاً .. شديد الحرارة بشكل غير مسبوق .. وفي ذلك المساء كانت تهب نسائم رقيقة منعشة بعض الشيء .. استغل الجميع الفرصة فهرولوا من المنزل إلى الخارج لعلهم ينعمون بشيء من تلك النسائم الرقيقة لبعض الوقت .. كدأبهم المسائي في الفرار من جحيم المنزل المشتعل بالحرارة والرطوبة .. فيفرون إلى حيث بعض الهواء المنعش وبعض النسائم الرقيقة .
الجميع .. بلا استثناء .. كانوا يجلسون أمام المنزل .. الأب .. الأم .. الأبناء .. الجد والجدة وبقية أفراد العائلة .. كانوا يتجاذبون الحديث .. يتسامرون بسعادة وسرور .. حيث اعتادوا الجلوس ساعات الليل الصيفية الطويلة الملتهبة .
تناول الجميع أكواب الشاي مع كسر من الخبز وبعضاً من حبات الزيتون وشيئاً من " الدقة " و " الزعتر " والتي كانت بمثابة وجبة العشاء لعائلة متواضعة الحال .
لجأ البعض للخلود إلى النوم .. وخاصة الأطفال . ناموا في نفس الأماكن التي كانوا يسهرون فيها ويتسامرون .. فهم لا يحتملون حرارة المنزل ورطوبة الحجرات الخانقة .
" جابر " أصغر الأطفال سناً .. كان يتنقل بمرح وسعادة بين ذراعي أبيه ...وصدر أمه .. وحضن جده .. فينثر في المكان شيئاً من الحبور والسعادة والسرور .. قبل أن يغط في نوم عميق هادئ .
فجأة .. وبلا مقدمات .. كان المكان يصبح قطعة من جهنم .. ويستحيل إلى كتلة من نار الجحيم التي انصبت من السماء على المكان .
كانت هذه بمثابة رسالة غيظ وحقد أرسلتها دبابة صهيونية من دبابات العدو الرابضة على بعد أمتار قليلة من المكان .
يبدو أن مشهد السعادة والسرور الذي كانت تنعم به الأسرة والعائلة لم يرق لجنود العدو .. فآثروا المشاركة في الاحتفالية .. ولكن بشكل آخر .. بالتنغيص والتكدير .. وإرسال باقة موت في شكل قذيفة صاروخية لإفساد جو المرح والسعادة .
هب الأطفال والصبية النيام من نومهم فزعين على الصوت المدوي المجلجل .. فوجدوا المكان وقد أحيل إلى قطعة من جهنم .. فروا على وجه السرعة إلى داخل المنزل فزعين مضطربين .
أصيبت بعض النسوة بإصابات بالغة في الصدور والأجسام والوجوه .. فآثرن الانسحاب إلى داخل المنزل للبحث عن بعض الحماية.
فر الرجل .. وزوجته إلى داخل المنزل مع الفارين .. يحتمون به علهم يجدون الملاذ الآمن من القصف المجنون المدمر .
أخذ الجميع يتفقدون بعضهم البعض .. شاهد الرجل الدماء تنساب من الوجوه والأجسام للنسوة من أقاربه .. سارع بالاتصال بطواقم الإسعاف والنجدة .. جاءه الصوت من الطرف الآخر :
- لا بأس .. عشر دقائق .. عشر دقائق فقط .. ونكون بطرفكم ..
تفقدت الأم أطفالها وسط الصخب والضجيج والفوضى العارمة والصياح والصراخ والبكاء .. شهقت .. صرخت .. فلقد كان الأطفال ينقصون واحداً .. طفلاً .. هو الصغير الصغير .. " جابر " .. الذي كان نائماً لحظة وقوع القصف .
سارعت الأم بمغادرة المنزل إلى الخارج لإحضار الطفل الذي كان لا يزال يصرخ جزعاً على باب المنزل بعد أن استيقظ من نومه فزعاً على صوت الانفجار المدوي .. الطفل يدور في المكان ولا يدري ماذا عليه أن يفعل سوى البكاء والصراخ .
في تلك اللحظة التي خرجت فيها الأم من المنزل إلى الخارج .. كان الجميع يسمعون صوت مدوٍ لقذيفة جديدة .
عاد الأب للاتصال بطواقم الإسعاف والنجدة من جديد يستحثهم سرعة الحضور لأن الموقف يزداد صعوبة وحرجاً .. خاصة وأن الدقائق العشر قد انقضت ولم تصل سيارات الإسعاف وطواقم النجدة بعد .
جاءه الصوت من الطرف الآخر ..
- نحن في الطريق إليكم .. عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .. عليكم عدم الخروج من المنزل .. الوضع في المنطقة خطير للغاية .
صرخ الأب بجنون وعصبية :
- ولكن .. لدينا إصابات وجرحى .. الإصابات خطيرة جداً .
من الطرف الآخر كان الصوت يأتي :
- لا بأس ... عليك بمراعاة قواعد الحيطة والحذر بعدم السماح بخروج أحد من المنزل إلى الخارج .. عليك بالتعامل مع الجرحى حسب طرق الإسعافات الأولية .. عليك أن تربط الجراح وتحاول إيقاف نزيف الدماء بكل الطرق والوسائل .. نحن في الطريق إليكم .. عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .
إزداد جنون القصف على المكان .. دبت في المكان حالة من الذعر .. اعتقدوا جميعاً بأنها الحرب الجديدة على غزة .. التي تشبه إلى حدٍ كبير ذلك الذي كان أثناء " الحرب على غزة " قبل عامين ..
ازداد عدد الإصابات .. أٍصيب الجد .. وأصيبت الجدة .. وآخرون .. بإصابات مختلفة .. احترق أثاث المنزل .. تهاوت الجدران .. دخل معظم المصابين في حالات من الإغماء والغيبوبة لفرط الجراح وشدة النزف وصخب الإنفجارات المتوالية .
عاود الأب الاتصال بأطقم الإسعاف وفرق الدفاع المدني ..
جاء الصوت من الطرف الآخر :
- عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .. نحن بصدد الحصول على التصريح اللازم بالتنسيق مع العدو لدخول المنطقة ؟؟!! ... المنطقة خطرة جداً ولا يمكننا الوصول إليكم إلا بعد الحصول على إذن التنسيق بالموافقة على دخول المنطقة !! .. عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .
راح الأب يتفقد الجرحى .. المصابين .. الجزعين .. الذين شارفوا على الموت .. يقدم لهم المساعدة بقدر المستطاع .. يحاول أن يهدئ من روعهم بقدر الإمكان .. راح يتفقد زوجته .. أطفاله وسط الزحام والضوضاء والفوضى العارمة .. وجد الأطفال عدا الصغير " جابر " .. ولم يجد الأم .. سأل عنها .. أفادوه بأنها قد خرجت لإحضار الصغير " جابر " الذي كان لا يزال خارج المنزل .
سارع الأب للاتصال بطواقم الإسعاف وفرق الدفاع المدني من جديد .. صرخ هادراً :
- الأمر خطير جداً هنا .. إصابات كثيرة.. دماء .. جرحى .. حالات إغماء .. المنزل يحترق .. البيت يتهاوى على رؤوس الجميع .. زوجتي وطفلي الصغير خارج المنزل ..
جاءه الصوت من الطرف الآخر :
- عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم ... لا تدع أحداً يخرج من المنزل بالمطلق .. الخطر الداهم في كل مكان .. دبابات العدو تضرب كل ما هو يتحرك ..
القذائف تزداد ضراوة .. الإصابات تزداد عدداً .. الدماء تغطي المكان بالكامل .. الصراخ .. النيران المشتعلة من حول الجميع .. البكاء والعويل .. الجدران تتهاوى ... المنزل يحترق .
الأب ما زال يعاود الاتصال بين الفينة والأخرى .. تكرر الاتصال المتوالي لعدة مرات .. الأصوات لا تلبث أن تأتيه من الطرف الآخر للمحادثة :
- عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .. افعل كذا .. لا تفعل كذا ... عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .
يصرخ الأب بجنون وعصبية :
- لا .. لا يمكن أن يحدث هذا .. هذا جنون .. الجميع يموتون هنا ... وطفلي في الخارج لا أعلم عنه شيئاَ .. وزوجتي ما زالت تبحث عنه في الخارج .. لن أنتظر .. لن أنتظر .. سوف أخرج من هذا الجحيم ... من هذا الجنون للبحث عنهما .
خرج من المنزل .. قريباً جداً من باب المنزل .. شاهد زوجته .. شريكة عمره .. " أم العيال " .. " توأم روحه " .. شاهدها .. وقد شطرت إلى نصفين ؟؟!! شطرتها قذيفة حمقاء إلى شطرين .. عندما كانت تحاول العثور على طفلهما الصغير .. لإنقاذه من قذائف الموت .
النصف السفلي للمرأة .. سقط إلى جانب جذع الشجرة الضخمة .. يرويها بدمائها الزكية .. بينما النصف الآخر .. العلوي .. كان يحتضن الشجرة بكلتا اليدين بقوة وإصرار .
ثمة بقايا حياة .. بقايا كلمات .. هتفت بها الأم بسعادة عندما رأت زوجها يقترب منها .. راحت تتمتم هامسة :
- الحمد لله .. الحمد لله انك قد حضرت في الوقت المناسب .. ها هو جابر .. طفلنا الصغير . إنه بخير .. أرجوك .. أبعده عن المكان بسرعة.. لكي تنقذه من الموت ..
الصوت القادم من الجانب الآخر
- عشر دقائق .. عشر دقائق فقط ونكون بطرفكم .. نحن قادمون .. عشر دقائق .. عشر دقـ.........